تاريخ دمشق لابن القلانسي

سنة ثمان وسبعين وأربعمائة
في هذه السنة كان مصاف الحرب بين الملك سليمان بن قتلمش وبين الأمير شرف الدولة مسلم بن قريش في اليوم الرابع والعشرين من صفر على نهر سفين في موقع يقال له قرزاحل فكسر عسكر شرف الدولة وقتل ورحل سليمان بعد ذلك في جمعه ونزل على حلب محاصراً لها ومضايقاً عليها في مستهل شهر ربيع الأول وأقام منازلاً لها مدة ولم يتهيأ له ما أراده فيها فرحل عنها في الخامس من شهر ربيع الآخر منكفئاً إلى بلاده.

(1/192)


وفيها شرع في عمارة قلعة الشريف بحلب وترميم ما كان هدم منها واعادتها إلى ما كانت عليه في حال عمارتها. وفيها وردت الأخبار من ناحية المغرب بأن الافرنج استولوا على بلاد الأندلس وتملكوها وفتكوا بأهلها وإن صاحب طليطلة استصرخ بالملثمين واستنجد بهم على الافرنج فأجابوه إلى الإنجاد ونهضوا للإغاثة والاسعاد وطلب الجهاد ووصلوا إليه في خلق عظيم وجيش كثيف وصافوا الافرنج وهم في الاعداد الدثرة والعدد الغاية في الكثرة فكسروا عسكر الافرنج كسرةً عظيمةً أجلت عن قتل الأكثر منهم ولم يفلت إلا من سبق جواده وأخر في أجله بحيث أحصي القتلى فكانوا عشرين الفاً فجمعت رؤوسهم وبني بها أربع منابر للتأذين في غاية الارتفاع وأذن المسلمون فيها وعاد عسكر الملثمين إلى بلادهم سالمين ظافرين مسرورين مأجورين وامتنعوا من استخلاص ما كان ملكه الافرنج من بلاد الأندلس وبقي في أيديهم على حاله

(1/193)


سنة تسع وسبعين وأربعمائة
فيها تقدم السلطان العادل ملك شاه أبو الفتح بن السلطان البارسلان رحمه الله بابطال أخذ المكوس من سائر التجار عن جميع البضائع في العراق وخراسان وحظر تناول شيء منها في بلد من البلاد الجارية في مملكته فكثر الدعاء له من كافة الناس في سائر الأعمال وتضاعف الثناء عليه من الخاص والعام. وفيها وردت الأخبار من ناحية المغرب بوصول الانبرت ابن ملك الافرنج في عسكره إلى مدينة المهدية ونزوله عليها ومضايقته لها إلى أن ملكها بالسيف قهراً وقتل رجالها وسبى كافة من كان بها من أهلها. وفيها جمع الملك سليمان بن قتلمش وحشد وقصد بلد حلب ونزل عليها محاصراً لها ومضايقاً عليها وطامعاً في تملكها فوردت عليه أخبار السلطان تاج الدولة تتش بن البارسلان باحتشاده وتأهبه لقصدها واستعداده فرحل عنها والتقى عسكره وعسكر تاج الدولة في موضع يعرف بعين سلم في يوم الأربعاء الثامن عشر من صفر فكسر عسكر تاج الدولة عسكر سليمان فقتل في الهزيمة وملك تاج الدولة عسكره وسواده ونزل

(1/194)


على حلب وضيق عليها إلى أن تسلمها في شهر ربيع الأول سلمها إليه المعروف بابن اليرعوني الحلبي. وفيها وصل السلطان العادل ملك شاه أبو الفتح إلى الشام وانهزم تاج الدولة من حلب وملكها السلطان العادل ودخلها في شهر رمضان وخرج منها وقصد انطاكية وملكها وخيم على ساحل البحر أياماً وعاد إلى حلب وعيد بها عيد الفطر ورحل عنها وقصد الرها ونزل عليها وضايقها وملكها

(1/195)


سنة ثمانين وأربعمائة
في هذه السنة تقررت ولاية حلب للأمير قسيم الدولة اق سنقر من قبل السلطان ملك شاه أبي الفتح ووصل إليها وأحسن السيرة فيها وبسط العدل في أهليها وحمى السابلة للمترددين فيها وأقام الهيبة وانصف الرعية وتتبع المفسدين فأبادهم وقصد أهل الشر فأبعدهم وحصل له بذلك من الصيت وحسن الذكر وتضاعف الثناء والشكر ما إخباره مذكور واجاره فيه منشور فعمرت السابلة للمترددين من السفار وزاد ارتفاع بالبلد بالواردين بالبضائع من جميع الجهات والأقطار

سنة إحدى وثمانين وأربعمائة
في هذه السنة توجه السلطان العادل ملك شاه أبو الفتح إلى سمرقند طمعاً في ملكتها بعد فراغ قلبه من الشام وبلاد الروم والجزيرة والرها وديار بكر وديار بني عقيل. وفيها خرج الأمير قسيم الدولة اق سنقر من حلب لتوديع تابوت زوجته خاتون داية السلطان ملك شاه وقيل انها كانت جالسةً معه في داره بحلب وفي يده سكين فأومى بها إليها على سبيل المداعبة والمزاح فوقعت في مقتلها للقضاء المكتوب عليها غير متعمد فماتت وحزن عليها حزناً شديداً وتأسف لفقدها على هذه الحال وحملها إلى الشرق لتدفن في مقابر لها هناك في مستهل جمادى الآخرة.

(1/196)


وفي يوم الثلاثاء مستهل رجب نزل قسيم الدولة على شيزر وحصرها ونهب ربضها وضايقها إلى أن تقرر أمرها والموادعة بينه وبين صاحبها ورحل عنها عائداً إلى حلب

سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة
في هذه السنة وردت الأخبار من ناحية الشرق بافتتاح السلطان ملك شاه مدينة سمرقند وأسر ملكها وكانت أخته مع السلطان ملك شاه وله منها ثلاثة أولاد فجعل الولاية بها لأحدهم وهو الملك أحمد وأمر بالخطبة له على المنابر وذكر إن الملك أحمد المذكور توفي في سنة 484 والابنة منهم زوجها للامام الخليفة المقتدي بأمر الله. وفيها خرج عسكر مصر منها مع مقدميه وقصد الساحل وفتح ثغري صور وصيدا وكان في صور أولاد القاضي عين الدولة ابن أبي عقيل بعد موته ولم يكن قوة لهم تدفع ولا هيبة تمنع فسلموها وكذلك صيدا وقرروا أمرهما ثم رحل العسكر عنهما ونزل على ثغري جبيل وعكا فافتتحهما. وفيها عمرت منارة الجامع بحلب. وفيها نهض قسيم الدولة صاحب حلب في أثر الحرامية قطاع الطريق ومخيفي السبيل فأوقع بهم واستأصل شأفتهم قتلاً وأسراً فأمنت السابلة واطمأنت السافرة وكتب إلى سائر الأطراف والأعمال بتتبع المفسدين وحماية المسافرين وبالغ في ذلك مبالغةً حسن ذكره بها وعظمت هيبته بسببها وشاع له الصيت باعتمادها

(1/197)


واحترز كل من كان في ضيعة أو معقل من أن يتم على أحد من المجتازين به أمر يؤخذ به ويهلك بسببه