تاريخ دمشق لابن القلانسي
سنة ثلاث وتسعين
وأربعمائة
في صفر منها ورد الخبر بوصول السلطان بركيارق إلى بغداد بعد أن جرى
بينه وبين أخيه السلطان محمد تبر خلف وحرب واستظهر فيها عليه وغلبه على
مدينة أصفهان وحصل بها. وتوجه الملك شمس الملوك دقاق بن تاج الدولة من
دمشق في عسكره إلى ديار بكر لتسلمها من المستولي عليها ووصل إلى الرحبة
في البرية ووصل إلى ديار بكر وتسلم ميافارقين ورتب فيها من يحفظها ويذب
عنها. وفي رجب منها خرج بيمند ملك الافرنج صاحب أنطاكية إلى حصن أفامية
ونزل عليه وأقام أياماً وأتلف زرعه ووصل الخبر بوصول الدنشمند
(1/223)
إلى ملطية في عسكره من الأتراك في خلق عظيم
ومن عسكر قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش فعاد بيمند عند معرفة ذاك إلى
أنطاكية وجمع وحشد وقصد عسكر المسلمين فنصر الله تعالى المسلمين عليه
وقتلوا من حزبه خلقاً كثيراً وحصل في قبضة الأسر مع نفر من أصحابه
ونفذت الرسل إلى نوابه بأنطاكية يلتمسون تسليمها في العشر الثاني من
شهر صفر سنة 493. وفيها وردت الأخبار بأن الآبار غارت في عدة جهات من
أعمال الشمال والمنابع في أكثر المعاقل وقلت وتقلصت الأسعار فيها.
سنة أربع وتسعين وأربعمائة
فيها جمع الأمير سكمان بن أرتق خلقاً كثيراً من التركمان وزحف بهم إلى
افرنج الرها وسروج في شهر ربيع الأول وتسلم سروج واجتمع إليه خلق كثير
وحشد الافرنج أيضاً والتقى الفريقان وقد كان المسلمون مشرفين على النصر
عليهم والقهر لهم فاتفق هروب جماعة من التركمان فضعفت نفسه وانهزم ووصل
الافرنج إلى سروج فتسلموها وقتلوا أهلها وسبوهم إلا من أفلت منهم
هزيماً. وفي هذه السنة توفي القاضي الفقيه الامام أبو إسحق ابرهيم بن
محمد بن عقيل بن زيد الشهرزوري الواعظ رحمه الله يوم الاثنين السابع من
المحرم منها. وفي هذه السنة وصل كندفري صاحب بيت المقدس إلى ثغر عكا
وأغار عليه فأصابه سهم فقتله وكان قد عمر يافا وسلمها إلى طنكري فلما
قتل كندفري سار أخوه بغدوين القمص صاحب الرها إلى بيت المقدس في
خمسمائة
(1/224)
فارس وراجل فجمع شمس الملوك دقاق عند معرفة
خبر عبوره ونهض إليه معه الأمير جناح الدولة صاحب حمص فلقوه بالقرب من
ثغر بيروت فسارع نحوه جناح الدولة في عسكره فظفر به وقتل بعض أصحابه.
وفيها افتتح الافرنج حيفا على ساحل البحر بالسيف وارسوف بالأمان
وأخرجوا أهلها منها. وفي آخر رجب منها فتحوا قيسارية بالسيف وقتلوا
أهلها ونهبوا ما فيها وأعانهم الجنويون عليها
وفيها ورد الخبر بقرب السلطان بركيارق من بغداد في عسكره طالباً للقاء
أخيه محمد فأسر وقتل وأخذ وزيره وجماعة من مقدميه وأمر بقتلهم وتوجه من
وقته إلى ناحية أصفهان فنزل عليها عند وصوله إليها وتقرر أمرها بحيث
ملكها وحصل فيها وهي دار السلطنة واستقام له الأمر بها. وفيها تقدم
الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين ببغداد بالقبض على عميد الدولة
محمد بن محمد بن جهير وزيره وعلى نوابه وأسبابه ومصادرتهم وقتلهم
لأشياء نقمها عليه ومنكرات عزيت إليه.
(1/225)
وفي شعبان منها أرسل القاضي ابن صليحة
المتغلب على ثغر جبلة إلى الأمير ظهير الدين أتابك يلتمس منه انفاذ من
يراه من ثقاته ليسلم إليه ثغر جبلة ويصل إلى دمشق بماله وحاله ويسيره
إلى بغداد تحت الحوطة والأمان والحماية وجميل الرعاية فأجابه إلى ما
اقترحه ووعده بتحقيق أمله وندب لولاية الثغر المذكور ولده الأمير تاج
الملوك بوري وكان الملك شمس الملوك دقاق غائباً عن دمشق في ديار بكر
فعاد منها ودخل إلى دمشق في أول شوال من السنة وتقررت الحال على ما
التمس ابن صليحة وتوجه تاج الملوك في أصحابه إلى جبلة فتسلها وانفصل
ابن صليحة عنها ووصل إلى دمشق بأصحابه وأسبابه وكراعه ودوابه وكل ما
تحويه يده من مال وأثاث وحال فأكرم مثواه وأحسن لقياه وأقام ما أقام
بدمشق وسير إلى بغداد مع فرقة وافرة من الأجناد بجميع ما يملكه وحصل
بها واتفق له من وشى بماله وعظم سعة حاله إلى السلطان ببغداد فنهب
واشتمل على ما كان يملك. وأما تاج الملوك فإنه لما ملك ثغر جبلة وتمكن
هو وأصحابه فيها أساءوا إلى أهله وقبحوا السيرة فيهم وجروا على غير
العادة المرضية من العدل والانصاف فشكوا حالهم فيما نزل بهم إلى القاضي
فخر الملك أبي علي عمار بن محمد بن عمار المتغلب على ثغر طرابلس لقربها
منهم فوعدهم المعونة على مرادهم واسعادهم بالانفاذ لهم وانهض إليهم
عدةً وافرةً من عسكره فدخلت الثغر واجتمعت مع أهله على الأتراك فقهروهم
وأخرجوهم منه وملكوه وقبضوا تاج الملوك وحملوه إلى طرابلس فأكرمه فخر
الملك وأحسن إليه وسيره إلى دمشق وكتب إلى والده أتابك يعرفه صورة
الحال ويعتذر إليه مما جرى. وفيها قبض الملك شمس الملوك دقاق على أمين
الدولة أبي محمد بن الصوفي رئيس دمشق وصالحه على جملة من المال يحملها
إلى خزانته وأطلقه من الاعتقال وأقره على رئاسته
(1/226)
وفي هذه السنة خرج من مصر عسكر كثيف مع
الأمير سعد الدولة المعروف بالقوامسي ووصل إلى عسقلان لجهاد الافرنج في
أول شهر رمضان وأقام بحيث هو إلى ذي الحجة منها ورحل عن عسقلان ونهض
إليه من الافرنج ألف فارس وعشرة آلاف راجل والتقى الفريقان فكسرت ميمنة
المسلمين وميسرتهم وتبعوهم وبقي سعد الدولة المقدم في نفر يسير من
عسكره في القلب فحمل الافرنج عليه وطلب الثبات فعاجله القضاء وكبا به
جواده وسقط عنه إلى الأرض فاستشهد مكانه رحمه الله ومضى شهيداً
مأجوراً. وعاد المسلمون على الافرنج وتذامروا عليهم وبذلوا النفوس في
الكرة إليهم فهزموهم إلى يافا وقتلوا منهم وأسروا وغنموا وكانت العقبى
الحسنة لهم ولم يفقد إلا نفر يسير منهم. وفيها انكفا الأمير كربوقا
صاحب الموصل والجزيرة عن السلطان بركيارق لمشاهدة أحوال ولايته
واستعادة المخالفين إلى طاعته فلما وصل إلى مراغة عرض له مرض الموت
واشتد به وتوفي هناك وسار إلى ربه. وفي هذه السنة وصل السلطان بركيارق
بن ملك شاه إلى بغداد منهزماً من أخيه السلطان محمد في أخرها
سنة خمس وتسعين وأربعمائة
وفي هذه السنة وردت الأخبار بما أهل خراسان والعراق والشام عليه من
الخلاف المستمر والشحناء والحروب والفساد وخوف بعضهم من بعض لاشتغال
الولاة عنهم وعن النظر في أحوالهم بالخلف والمحاربة.
(1/227)
وفيها وصل قمص الرها مقدم الافرنج في عسكره
المخذول إلى ثغر بيروت فنزل عليه طامعاً في افتتاحه وحاربه وضايقه وطال
مقامه عليه ولم يتهيأ فيه مراد فرحل عنه. ووردت مكاتبات فخر الملك بن
عمار صاحب طرابلس يلتمس فيها المعونة على دفع ابن صنجيل النازل في
عسكره من الافرنج على طرابلس ويستصرخ بالعسكر الدمشقي ويستغيث بهم
فأجيب إلى ما التمس ونهض العسكر نحوه وقد استدعى الأمير جناح الدولة
صاحب حمص فوصل أيضاً في عسكره فاجتمعوا في عدد دثر وقصدوا ناحية
انطرطوس ونهد الافرنج إليهم في جميع وحشدهم وتقارب الجيشان والتقيا
هناك فانفل عسكر المسلمين من عسكر المشركين وقتل منهم الخلق الكثير
وقفل من سلم إلى دمشق وحمص بعد فقه من فقد منهم ووصلوا في الثاني
والعشرين من جمادى الآخرة وفيها وردت الأخبار من ناحية مصر بوفاة
المستعلي بالله أمير المؤمنين ابن المستنصر بالله صاحب مصر في صفر منها
وعمره سبع وعشرون سنة ومولده سنة 468 وكانت مدة أيامه سبع سنين وشهرين
ونقش خاتمه الامام المستعلي بالله أمير المؤمنين وكان حسن الطريقة جميل
السيرة في كافة الأجناد والعسكرية وسائر الرعية لازماً قصره كعادة أبيه
المستنصر بالله منكفئاً بالأفضل سيف الاسلام ابن أمير الجيوش فيما
يريده بأصالة رأيه وصواب تقديره وامضائه وقام في الأمر بعده ولده أبو
علي المنصور بن المستعلي بالله أبي القاسم أحمد وأخذ له البيعة على
الأجناد والأمراء وكافة الرعايا والخدم والأولياء الأفضل السيد أبو
القاسم شاهنشاه
(1/228)
ابن أمير الجيوش وأجلسه في منصب أبيه عقيب
وفاته ولقب بالآمر بأحكام الله واستقام له الأمر بحسن تدبير الأفضل
وانتظمت به الأحوال على غاية المباغي والآمال وفي هذه السنة خرجت
العساكر المصرية من مصر لانجاد ولاة الساحل في الثغور الباقية في
أيديهم منها على منازليهم من أحزاب الافرنج ووصلت إلى عسقلان في رجب
ولما عرف بغدوين قمص بيت المقدس وصولهم نهض نحوهم في جمعه من الافرنج
في تقدير سبعمائة فارس وراجل اختارهم فهجم بهم على العسكر المصري فنصره
الله على حزبه المفلول وقتلوا أكثر خيله ورجالته وانهزم إلى الرملة في
ثلاثة نفر وتبعوه وأحاطوا به فتنكر وخرج على غفلة منهم وقصد يافا وأفلت
منهم فكان قد اختفى في أجمة قصب حين تبع وأحرقت تلك الأجمة ولحقت النار
بعض جسده ونجا منها وحصل بيافا فأوقع السيف في أصحابه وقتل وأسر من ظفر
به في الرملة من رجاله وأبطاله وحملوا إلى مصر في آخر رجب من السنة.
وفي هذا الوقت وصلت مراكب الافرنج في البحر تقدير أربعين مركباً ووردت
الأخبار بأن البحر هاج بها واختلفت أرياحه عليها فعطب أكثرها ولم يسلم
منها إلا القليل وكانت مشحنةً بالرجال والمال
سنة ست وتسعين وأربعمائة
فيها برز الملك شمس الملوك دقاق وظهير الدين أتابك من دمشق في العسكر
وقصد الرحبة ونزل عليها وضايق من بها وقطع أسباب الميرة عنها وأضر
بالمضايقة إلى أن اضطر المقيم بها إلى طلب الأمان له ولأهل البلد
فأومنوا وسلمت إليه بعد القتال الشديد والحرب المتصلة في جمادى الآخرة
منها ورتب أمرها وندب من رآه من الثقات لحفظها وقرر أحوال من بها ورحل
عنها في يوم الجمعة الثاني والعشرين منها منكفئاً إلى دمشق
(1/229)
وفيها ورد الخبر من حمص بأن صاحبها الأمير
جناح الدولة حسين أتابك نزل من القلعة إلى الجامع لصلاة الجمعة وحوله
خواص أصحابه بالسلاح التام فلما حصل بموضع مصلاه على رسمه وثب عليه
ثلاثة نفر عجم من الباطنية ومعهم شيخ يدعون له ويسمعونه في زي الزهاد
فوعدهم فضربوه بسكاكينهم وقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه وكان في
الجامع عشرة نفر من متصوفة العجم وغيرهم فاتهموا وقتلوا صبراً مظلومين
في الوقت عن آخرهم. وانزعج أهل حمص لهذا الحديث وأجفلوا في الحال وهربت
أكثر سكانها من الأتراك إلى دمشق واضطربت الأحوال بها وراسلوا الملك
شمس الملوك بدمشق يلتمسون انفاذ من يتسلم حمص ويعتمد عليه في حمايتها
والذب عنها قبل انتهاء الخبر إلى الافرنج وامتداد أطماعهم فيها فسار
الملك شمس الملوك وظهير الدين أتابك في العسكر من دمشق ووصل إلى حمص
وتسلمها وحصل في قلعتها ووافق ذلك وصول الافرنج إليها ونزولهم على
الرستن لمضايقتها ومنازلتها فحين عرفوا ذلك احجموا عن القرب إليها
والدنو منها ورحلوا عنها وقد كان المعروف بالحكيم المنجم الباطني صاحب
الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب أول من أظهر مذهب الباطنية في حلب
والشام وهو الذي ندب الثلاثة النفر لقتل جناح الدولة بحمص وورد الخبر
بهلاكه بعد الحادثة بأربعة عشر يوماً.
(1/230)
ولما رتب شمس الملوك أمر حمص وقرر أحوالها
وانكفأ عائداً إلى دمشق في أول شهر رمضان خرجت العساكر المصرية من مصر
إلى البر والاصطول في البحر مع شرف ولد الأفضل شاهنشاه وكتب في استدعاء
المعونة على الجهاد وبنصرة العباد والبلاد بانفاذ العسكر الدمشقي فأجيب
إلى ذلك وعاقت عن مسيره أسباب حدثت وصوادف صدفت ووصل أصطول البحر ونزل
على يافا آخر شوال وأقام أياماً وتفرق الاصطول والعساكر إلى الساحل
وكانت الأسعار بها قد ارتفعت والأقوات قد قلت فصلحت بما وصل مع الاصطول
من الغلة ورخص الأسعار إلا أن غارات الافرنج متصلة عليها وفي ذي القعدة
من السنة تواترت الأخبار بخروج قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش من بلاد
الروم طالباً أنطاكية ووصوله إلى قريب من مرعش وجرى بينه وبين الأمير
الدانشمند صاحب ملطية خلف ومنازعة أوجبت عوده عليه وإيقاعه به وفل
عسكره والفتك برجاله ولما انكفأ بعد ذلك قيل أنه وصل إلى الشام وأرسل
رسوله إلى حلب يلتمس الاذن للسفار بالوصول إلى عسكره بالمير والازواد
وما يحتاج إليه سائر العسكرية والاجناد فسر الناس بذلك وتباشروا به
سنة سبع وتسعين وأربعمائة
في رجب منها وردت الأخبار بوصول الافرنج في البحر من بلادهم إلى ظاهر
اللاذقية مشحونة بالتجار والأجناد والحجاج وغير ذلك وأن صنجيل المنازل
لطرابلس استنجد بهم على طرابلس في مضايقتها والمعونة على ملكتها وأنهم
وصلوا إليه فاجتمعوا معه على منازلتها ومضايقتها فقاتلوها أياماً
ورحلوا عنها. ونزلوا على ثغر جبيل فقاتلوه وضايقوه وملكوه بالأمان فلما
حصل في ملكتهم غدروا بأهله ولم يفوا بما بذلوه من الأمان وصادروهم
واستنفدوا أحوالهم وأموالهم بالعقوبات وأنواع العذاب.
(1/231)
وورد الخبر باجتماع الأميرين سكمان بن أرتق
وجكرمش صاحب الموصل في عسكرهما وتعاهدا وتعاقدا على المجاهدة في أعداء
الله الافرنج وبذل الطاعة والاستطاعة في حربهم ونزلا في أوائل شعبان من
السنة برأس العين. ونهض بيمند وطنكري في عكسريهما من ناحية أنطاكية إلى
الرها لانجاد صاحبها على الأميرين المذكورين فلما قربا من عسكر
المسلمين النازلين على الرها تأهب كل من الفريقين للقاء صاحبه فالتقوا
في تاسع شعبان فنصر الله المسلمين عليهم وعزموهم وقتلوا منهم مقتلة
كثيرة وكانت عدتهم تزيد على عشرة آلاف فارس وراجل سوى السواد والاتباع
وانهزم بيمند وطنكري في نفر يسير وكان نصراً حسناً للمسلمين لم يتهيأ
مثله وبه ضعفت نفوس الافرنج وقلت عدتهم وفلت شوكتهم وشكتهم وقويت نفوس
المسلمين وأرهنت وأرهفت عزائمهم في نصرة الدين ومجاهدة الملحدين وتباشر
الناس بالنصر عليهم وأيقنوا بالنكاية فيهم والادالة منهم
وفي هذا الشهر ورد الخبر بنزول بغدوين ملك الافرنج صاحب بيت المقدس في
عسكره على ثغر عكا ومعه الجنويون والمراكب في البحر والبر وهم الذين
كانوا ملكوا ثغر جميل في نيف وتسعين مركباً فحصروه من جهاته وضايقوه من
جوانبه ولازموه بالقتال إلى أن عجز واليه ورجاله عن حربهم وضعف أهله عن
المقاتلة لهم وملكوه بالسيف قهراً. وكان الوالي به الأمير زهر الدولة
بنا الجيوشي قد خرج منه لعجزه عن حمايته وضعفه عن المراماة دونه وأنفذ
يلتمس منهم الأمان له ولأهل الثغر ليأسه من وصول نجدة أو معونة فلما
ملك الثغر تم على حاله منهزماً إلى دمشق فدخلها وأكرمه ظهير الدين
أتابك وأحسن تلقيه وكان وصوله إلى دمشق في يوم
(1/232)
الخميس لثلاث بقين من شعبان وتقدم شمس
الملوك دقاق وظهير الدين أتابك في حقه بما طيب نفسه وأكد أنسه وأقام
بدمشق إلى أن تسهلت له السبيل في العود إلى مصر فتوجه إليها عائداً
ووصل إليها سالماً وأوضح عذره فيما تم عليه من الغلبة فقبل عذره بعد
الانكار عليه والغيظ من فعله وفي هذه السنة عرض للملك شمس الملوك دقاق
بن السلطان تاج الدولة صاحب دمشق مرض تطاول به ووقع معه تخليط الغذاء
أوجب انتقاله إلى علة الدق فلم يزل به وهو كل يوم في ضعف ونقص فلما
أشفى ووقع اليأس من برءه وانقطع الرجاء من عافيته تقدمت إليه والدته
الخاتون صفوة الملك بأن يوصي بما في نفسه ولم يترك أمر الدولة وولده
سدىً فعند ذلك نص على الأمير ظهير الدين أتابك في الولاية بدمشق من
بعده والحضانة لولده الصغير تتش بن دقاق بن تاج الدولة إلى حين يكبر
واحسان تربيته وألقى إليه ما كان في نفسه وتوفي إلى رحمة الله في اليوم
الثاني عشر من شهر رمضان من السنة
وقد كان ظهير الدين أتابك قبل هذه الحال في عقابيل مرض أشفى منه
وتداركه من الله تعالى العافية وابل من مرضه وشرع في احسان السيرة في
العسكرية والرعية وأحسن إلى الأمراء والمقدمين من الدولة
(1/233)
وأطلق يده من الخزانة في الخلع والتشريفات
والصلات والهبات وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وأقام الهيبة على
المفسدين المسيئين وبالغ في الاحسان إلى المطيعين والمحسنين وتألف
القلوب بالعطاء واستمال الجانح بالتردد والحباء واستقامت له الأمور
واجمع على طاعته الجمهور. وقد كان الملك شمس الملوك قد حمل على الرئيس
أبي محمد بن الصوفي رئيس دمشق إلى أن قبض عليه في سنة 496 وبقي معتقلاً
إلى أن قررت عليه مصالحة نهض فيها وقام بها وبعد ذلك عرض له مرض قضى
فيه محتوم نحبه وصار منه إلى ربه وقام بعده في منصبه ولده أبو المجالي
سيف وأخوه أبو الذواد المفرج وكتب لهما المنشور في الاشتراك في الرئاسة
وأحضرهما ظهير الدين أتابك عقيب وفاة شمس الملوك وطيب نفسيهما ووكد
الوصية عليهما في استعمال النهضة في سياسة الرعايا وإنهاء أحوالهما
فيما يستمر عليها من صلاح وفساد ليقابل المحسن إليها بالاحسان والجاني
عليها بالتأديب والهوان فامتثلا أوامره وعملا بأحكامه. فكان الملك شمس
الملوك رحمه الله قبل وفاته قد سير أخاه الملك ارتاش ابن السلطان تاج
الدولة إلى حصن بعلبك ليكون به معتقلاً عند واليه فخر الدولة خادم أبيه
كمشتكين التاجي فرأى ظهير الدين أتابك في حكم ما يلزمه لأولاد تاج
الدولة ان أرسل الخادم المذكور في اطلاقه واحضاره إلى دمشق فوصل إليها
وتلقاه وأكرمه وبجله وخدمه وأقامه في منصب أخيه شمس الملوك وتقدم إلى
الأمراء والمقدمين والأجناد بالطاعة لأمره والمناصحة في خدمته وأجلسه
في دست المملكة في يوم السبت لخمس بقين من ذي الحجة سنة 497 فاستقامت
بذلك الأمور وسكنت إليه نفوس الجمهور.
(1/234)
واتفق للأمر المقضي الذي لا يدافع والمحتوم
الذي لا يمانع من سعى في افساد هذا التدبير ونقض هذا التقرير فأوحش
الملك محيي الدين ارتاش من ظهير الدين أتابك ومن الخاتون صفوة الملك
والدة شمس الملوك وأوقعت أمه في نفسه الخوف منهما وأوهمته انهما ربما
عملا عليه فقتلاه والأمر بالضد مما نقله الواشي إليه وألقاه فخاف منهما
وحسن له الخروج من دمشق ومملكتها والعود إلى بعلبك لتجتمع إليه الرجال
والعسكرية فخرج منها سراً في صفر سنة 498 وخرج ايتكين الحلبي صاحب بصرى
إليها هارباً لتقرير كان بينهما في هذا الفساد فعاثا في ناحية حوران
وراسلا بغدوين ملك الافرنج بالاستنجاد به وتوجها نحوه وأقاما عنده مدةً
بين الافرنج يحرضانه على المسير إلى دمشق ويبعثانه على الافساد في
أعمالها فلم يحصلا منه على حاصل ولا ظفرا بطائل فحين يئسا من المعونة
وخاب أملهما في الاجابة توجها إلى ناحية الرحبة في البرية. واستقام
الأمر بعدهما لظهير الدين أتابك وتفرد بالأمر واستبد بالرأي وحسنت
أحوال دمشق وأعمالها بإيالته وعمرت بجميل سياسته. وقضى الله تعالى
بوفاة تتش ولد الملك شمس الملوك دقاق المقدم ذكره في هذه الأيام. واتفق
إن الأسعار رخصت والغلات ظهرت وانبسطت الرعية في
(1/235)
عمارة الأملاك في باطن دمشق وظاهرها لاحسان سيرته واجمال معاملته وبث
العدل فيهم وكف أسباب الظلم عنهم وفي هذه السنة ورد الخبر من ناحية
طرابلس بظهور فخر الملك ابن عمار صاحبها في عسكره وأهل البلد وقصدهم
الحصن الذي بناه صنجيل عليهم وإنهم هجموا عليه على غرة ممن فيه فقتل من
به ونهب ما فيه وأحرق وأخرب وأخذ منه السلاح والمال والديباج والفضة
الشيء الكثير وعاد إلى طرابلس سالماً غانماً في التاسع عشر من ذي
الحجة. وقيل إن بيمند صاحب انطاكية ركب في البحر ومضى إلى الافرنج
يستصرخها ويستنجد بهم على المسلمين في الشام وأقام مدة وعاد عنهم
منكفئاً إلى انطاكية |