تاريخ دمشق لابن القلانسي

سنة ثمان وتسعين وأربعمائة
فيها عرض لظهير الدين أتابك مرض اشتد به ولازمه وخاف منه على نفسه وأشفق على أهله وولده وأصحابه ورعيته إن تم عليه أمر وتواصلت مكاتبات فخر الملك بن عمار ورسله من طرابلس بالاستصراخ والاستنجاد على الافرنج النازلين عليها والبعث على تعجيل إعانته بمن يصل إليه من العساكر لكشف غمته وتفريج كربته وقد كان الأمير سكمان بن ارتق والأمير جكرمش صاحب الموصل قد اتفقا على الجهاد في المشركين ونصرة المسلمين فنتج لظهير الدين فكرة وراية فيما نزل به من المرض

(1/236)


المخوف أن يرسل الأمير سكمان بن ارتق يستدعي وصوله إلى دمشق في عسكره ليوصي إليه ويعتمد في حماية دمشق عليه. ونفذت إليه أيضاً مكاتبة ابن عمار بتحريضه على المسارعة إلى ذلك والقصد لنصرته وبذل له مالاً جزيلاً على معونته ونصرته فحين واقف على مضمون المكاتبات أجاب إلى المقترح عليه وسارع إليه وثنى عنانه إلى دمشق مغذاً في سيره مواصلاً لجدة نجده وتشميره وقطع الفرات إلى ما حض عليه والمغارات. فلما وصل إلى القريتين واتصل خبره إلى أتابك لامه أصحابه وخواصه على ما فرط في تدبيره وعنفوا رأيه فيما استدعاه وخوفوه عاقبة ما أتاه وقالوا له: إذا وصلت الأمير سكمان بن ارتق دمشق وأخرجتها من يدك كيف يكون حالك وأحوالنا أو ليس قد عرفت نوبة اتسز لما استدعى السلطان تاج الدولة بن البارسلان وسلم إليه دمشق كيف بادر باهلاكه ولم يمهله ولا أهله. فعند ذلك أفاق لغلطته وتنبه لغفلته وندم ندامة الكسعي وزاده هذا الأمر مرض الفؤاد مع مرض الجسم. وبينما هو وأصحابه من التفكر فيما يعتمد من أمره وتدبير به حاله عند وصوله والخبر ورد من القريتين بأن الأمير سكمان ساعة وصوله في عسكره إلى القريتين ونزوله لحقه مرض شديد وقضى منه محتوم نحبه وصار إلى رحمة ربه وحمله أصحابه في الحال ورحلوا عائدين به فسر أتابك بهذه الحال سروراً زائداً كان معه بدء سعادته وعود برئه إلى جسمه وعافيته فسبحان مدبر الخلق بحكمته

(1/237)


ومسبب الأسباب بقدرته وقصدوا ناحية الجزيرة وذلك في أول صفر من السنة وفي هذه السنة وردت الأخبار بهلاك صنجيل مقدم الافرنج النازلين على ثغر طرابلس في رابع جمادى الأولى بعد أن كان الأمر استقر بينه وبين فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس من المهادنة على أن يكون ظاهر طرابلس لصنجيل بحيث لا يقطع الميرة عنها ولا يمنع المسافرين منها. وفي أول السنة ورد الخبر بوصول السلطان محمد تبر ابن ملك شاه إلى الموصل ونزوله عليها وخروج الأمير جكرمش صاحبها إليه باذلاً له الطاعة وشروط الخدمة ورحل عنها. وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق بوفاة السلطان بركيارق ابن السلطان ملك شاه رحمه الله بنهاوند بعد أن تقررت الحال بينه وبين أخيه بحيث تكون مملكة خراسان بأسرها للسلطان أبي الحرث سنجر وأصفهان وأعمالها وبغداد وما والاها برسم السلطان بركيارق والسلطنة له وأرمينية وأذربيجان وديار بكر والموصل والجزيرة والشام وما يليها للسلطان محمد تبر. وتوجهت عساكر السلطان بركيارق بعد وفاته إلى بغداد ومقدمها الأمير اياز ومعه الأمير صدقة بن مزيد بن دبيس وتوجه السلطان محمد إلى بغداد أيضاً. فلما عرف الأمير اياز خبره خاف منه على نفسه فهرب منه ومعه ولد السلطان بركيارق ودخل السلطان محمد بغداد ووصل إليه الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد الأسدي واستقر أمره معه. وعرف اياز إن حاله لا تستقر إلا بالعود إلى طاعة السلطان محمد والدخول في جملته والكون في خدمته فراسله والتمس الأمان منه والتوثقة باستحلافه على الوفاء بما عاهده عليه فأجابه إلى ما رامه منه ووصل إليه في العسكر مع ولد السلطان

(1/238)


بركيارق وكان طفلاً صغيراً فانضاف في جملته مع عسكره. فلما كان بعد أيام غدر باياز ونكث عهده وأخلف وعده وقبض عليه وهو آمن مطمئن بما توثق به من إيمانه وقتله وجعل سبب هذا الفعل أموراً أسرها في نفسه وأوردها واحتج بأمور أضمرها وعددها ليعذر في فعله وما هو بمعذور في فعله ولا بمشكور
وفي أول شعبان توجه ظهير الدين أتابك إلى بعلبك في العسكر ونزل عليها متنكراً على كمشتكين الخادم التاجي واليها لأسباب انتهت إليه عنه فأنكرها منه. فلما نزل عليه وضايقه وعرف ما في نفسه أنفذ إليه ببذل الطاعة والخدمة والانكار لما افترى به عليه والتنصل مما نسب إليه والحلف على البراءة مما اختلق من المحال عليه فصفح له عن ذلك ورضي عنه وقرر أمره وأوعز بكف الأذية عن ناحيته. ورحل عنها متوجهاً إلى ناحية حمص وقصد رفنية ونزل عليها ووفد عليه خلق كثير من جبل بهرا فهجموا رفنية على حين غفلة من أهلها وعرة من مستحفظها وقتلوا من بها وبأعمالها والحصن المحدث عليها من الافرنج وأحرق ما أمكن احراقه في الحصن وغيره وهدم الحصن وملكت أبراج رفنية وقتل من كان فيها وعاد العسكر إلى حمص وفي رجب خرج الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب وجمع خلقاً كثيراً وعزم على قصد طرابلس لمعونة فخر الملك ابن عمار على الافرنج النازلين عليه وكان الأرمن الذين في حصن ارتاح قد سلموا إليه الحصن لما شملهم من جور الافرنج وتزايد ظلمهم فلما عرف طنكرى ذلك خرج من انطاكية لقصد ارتاح واستعادتها وجمع من في أعماله من الافرنج ونزل عليها

(1/239)


وتوجه نحو فخر الملك في عسكره لابعاده عنها وقد جمع وحشد من أمكنه من عمل حلب والأحداث الحلبيين لقصد الجهاد. فلما تقاربا نشبت الحرب بين الفريقين فثبت راجل المسلمين وانهزمت الخيل ووقع القتل في الرجالة ولم يسلم منهم الا من كتب الله سلامته ووصل الفل إلى حلب وأحصي المفقود من الخيل والرجل فكان تقدير ثلاثة ألف نفس. وحين عرف ذلك من كان في ارتاح من المسلمين هربوا بأسرهم منها وقصد الافرنج بلد حلب فأجفل أهله منه ونهب من نهب وسبي من سبي وذلك في الثالث من شعبان واضطربت أحوال من بالشام بعد الأمن والسكون وفي هذه السنة خرج من مصر عسكر كثيف يزيد على عشرة آلاف فارس وراجل مع الأمير شرف المعالي ولد الأفضل وكوتب ظهير الدين أتابك بالاستدعاء للمعونة والاعتضاد إلى جهاد الكفرة الأضداد فلم يتمكن من الاجابة إلى المراد لأسباب عاقته عن المعونة والاسعاد وتوجه في العسكر إلى بصرى فنزل عليها عازماً. على مضايقتها وفيها الملك ارتاش بن تاج الدولة وايتكين الحلبي لأنهما كانا عند الافرنج على ما شرح من أمرهما أولاً. ثم استدرك الرأي واستصوب المسير إلى العسكر المصري للاعتضاد على الجهاد فسار إليه ووصل إلى ظاهر عسقلان ونزل قريباً منه وعرف الافرنج الخبر فتجمعوا وقصدوا عسقلان والتقى الفريقان في رابع عشر ذي الحجة من السنة فيما بين يافا وعسقلان فاستظهر الافرنج على المسلمين وقتلوا والي عسقلان وأسروا بعض المقدمين وانهزم عسكر مصر إلى عسقلان وعسكر دمشق إلى بصرى وقيل إن الذين قتلوا من المسلمين

(1/240)


بإزاء الذين قتلوا من المشركين كانوا متقاربين ولما عاد ظهير الدين والعسكر إلى بصرى وجد الملك ارتاش وايتكين الحلبي لما يئسا من نصرة الافرنج لهما قد قصدا ناحية الرحبة وأقاما بها مدةً وتفرقا وراسل المقيمان ببصرى نوشتكين وفلوا كذا من ظهير الدين يطلبان منه الأمان والمهلة لهما بالتسليم مدة اقتراحهما فأجاب إلى ما التمساه منه ورحل عنهما ولما بلغ الأجل منتهاه والوعد مداه سلما بصرى إليه وخرجا منها ووفى لهما بما وعدهما من الأمان والاقطاع وزاد على ذلك وأقاما عليه مدة أيامه

سنة تسع وتسعين وأربعمائة
فيها خرج الافرنج إلى سواد طبرية وشرعوا في عمارة حصن علعال فيما بين السواد والبثنية وكان من الحصون الموصوفة بالمنعة والحصانة فلما عرف ظهير الدين أتابك هذا العزم منهم لشفق من اتمام الأمر فيه فيصعب تدارك الأمر وتلافيه فنهض في العسكر وقصدهم وهو على غفلة مما دهمهم فأوقع بهم وقتلهم بأسرهم وملك الحصن بما فيه من آلاتهم وكراعهم وأثاثهم وعاد إلى دمشق برؤوسهم وأسرائهم وغنائمهم وهي على غاية الكثرة في يوم الأحد النصف من شهر ربيع الآخر. وفي هذا الشهر ظهر في السماء من الغرب كوكب له ذوابة كقوس قزح أخذه من المغرب إلى وسط السماء وقد كان رؤي قريباً من الشمس نهاراً قبل ظهوره في الليل وأقام عدة ليال وغاب

(1/241)


وفي السادس والعشرين من جمادى الأولى ورد الخبر بقتل خلف بن ملاعب صاحب أفامية قتله قوم من الباطنية نفذهم إليه المعروف بأبي طاهر الصائغ العجمي من حلب وهو الذي قام للباطنية مقام الحكيم المنجم الباطني بعد هلاكه بموافقة رجل من دعاتهم يعرف بأبي الفتح السرميني كان مقيماً بأفامية وقد قرر ذلك مع أهلها فنقبوا نقباً في السور حتى تمكنوا من الوصول إليه فلما قربوا منه وأحس بهم لقيهم فوثب إليه بعضهم فطعنه في جوفه فرمى بنفسه في القلة يريد بعض دور أهله ده كذا فطعنه آخر طعنةً ثانيةً فعاش ساعة ومات وصاح الصائح على القلة ونادوا بشعار الملك رضوان فجاء أولاده وصاحبه من السور وملكوا عليهم الموضع وقتلوا من قتلوا وسلم ولده مصبح بن خلف بن ملاعب وتوجه إلى شيزر وأقام هناك مدة فاطلق منها. ووصل طنكري إلى أفامية عقيب هذه الكائنة طامعاً فيها ومعه أخ كان لأبي الفتح الداعي السرميني كانوا مأسوراً في يده فقرر له شيئاً دفعه إليه فرحل عنه وفي هذه السنة وصل قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش في عسكر كثير وقصد الرها ونزل قريباً منها فأنفذ أصحاب جكرمش المقيمون بحران يستدعونه لتسليمها إليه فوصل إليهم وتسلمها منهم واستبشر الناس بوصوله إلى الجهاد وأقام أياماً ومرض مرضاً أوجب له العود إلى ملطية وأقام أصحابه بحران.

(1/242)


وورد الخبر بأن مصبح بن ملاعب الذي أفلت من نوبة أفامية التجأ إلى طنكري صاحب انطاكية وحرضه على العود إلى أفامية وأطمعه في أخذها لقلة القوت بها فنهض إليها ونزل عليها وضايقها إلى أن تسلمها بالأمان في الثالث عشر من المحرم سنة 500 فلما حصل أبو الفتح السرميني الباطني في يده قتله بالعقوبة وحمل أبا طاهر الصائغ معه وأصحابه أسرى ولم يف لهم بما بذل من الأمان وكان القوت قد نفذ من أفامية ولم تزل الأسرى في يده إلى أن فدوا نفوسهم بمال بذلوه لهم فأطلقهم ووصلوا إلى حلب وفي هذه السنة نهض ظهير الدين أتابك في العسكر إلى بصرى لمشاهدتها عند تسليمها من أيدي المقيمين بها عند انقضاء الأجل المضروب لها وكان قد خلع على كافة الأمراء والمقدمين وأماثل العسكر الخلع المكملة من الثياب والخيول والمراكب بحيث تضاعف الثناء عليه والاعتراف بأياديه وشاع الخبر بذاك وتضاعفت رغبة الأجناد في خدمته والميل إلى طاعته والحصول في جملته فلما حصل على بصرى اقطع نوشكتين وفلوا اقطاعاً يكفيهما ورجالهما أجابهما إلى ذلك ووفى لهما بما قرره معهما حسب ما تقدم به الشرح

سنة خمسمائة
فيها تزايد فساد الافرنج في أعمال السواد وحوران وجبل عوف وانتهت الأخبار بذلك وشكوا أهلها إلى ظهير الدين أتابك فجمع العسكر ومن انضاف إليه من التركمان ونهض بهم وخيم في السواد. وكان الأمير عز الملك الوالي بصور قد نهض منها في عسكره إلى حصن تبين من عمل الافرنج فهجم ربضة

(1/243)


وقتل من كان فيه ونهب وغنم واتصل الخبر ببغدوين ملك الافرنج فنهض إليه من طبرية ونهض أتابك إلى حصن بالقرب من طبرية فيه جماعة من فرسان الافرنجية فقاتله وملكه وقتل من كان فيه وانكفأ إلى المدان وعاد الافرنج إليه. فلما قربوا منه اندفع العسكر إلى ناحية زرا وتلاقت طلائع الفريقين وعزموا على المصاف والالتقاء وقد قويت نفوس المسلمين فلما كان من غد ذلك اليوم ركب العسكر وقد تأهب للقاء على تلك النية وزحفوا إلى موضع مخيمهم فصادفوهم وقد رحلوا عائدين إلى طبرية ثم منها إلى عكا فعاد ظهير الدين عند ذلك في العسكر إلى دمشق
وكانت الأخبار متناصرةً في هذه السنة باهتمام السلطان غياث الدنيا والدين محمد ابن ملك شاه بمحاصرة قلعة الباطنية المعروفة بشاه ذر المجاورة لأصفهان والجد في افتتاحها وحسم أسباب الفساد المتوجه على البلاد من المقيمين بها وتوجه عنها في عساكره الدثرة المتناهية في القوة والكثرة ولم يزل منازلها ومضايقها إلى أن منحه الله تعالى افتتاحها والاظهار على من فيها وملكها بالسيف قهراً وقتل من كان فيها من الباطنية قسراً وهدمها وأزاح العالم من الشر المتصل منها والبلاء المبثوث من أهلها. وأنشأ كتاب الفتح يوصف الحال فيها إلى سائر أعمال الملكة ليقرأ على المنابر ويستنزل في معرفة كل باد وحاضر أمير الكتاب أبو نصر بن عمر الأصفهاني كاتب السلطان وبلاغته في الكتابة معروفة مذكورة وقضاء حقه في إنشائه موصوفة

(1/244)


مشهورة وذكرت مضمونه في هذا الموضع ليعلم من يقف عليه شرح حال هذه القلعة وما من الله به على أهل تلك البلاد من الراحة من شر أهلها وأذية المقيمين بها ونسختها بعد العنوان والطغراء: بسم الله الرحمن الرحيم وهو الوزير الأجل مجد الدين شرف الاسلام ظهير الدولة زعيم الملة بهاء الأمة فخر الوزراء أبو المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب رضى أمير المؤمنين. أما بعد أطال الله بقاء الوزير وألقابه وأدام تأييده وتمهيده وأحسن من عوائده مزيده فإن الله تعالى يقول وقوله الحق: " يا أَيُّها الذين آمنوا مَنْ يرتدُّ منكم عن دينهِ فسَوْفَ يأْتي اللهُ بِقوْمٍ يُحبُهمْ ويُحبُّونهُ أَذِلَّةٍ على المؤمنينَ أعزَّةٍ على الكافرينَ يُجاهدُونَ في سبيل اللهِ وَلا يَخافونَ لومة لائمٍ ذلكَ فضلُ اللهِ يُؤتيهِ مَنْ يشاءُ واللهُ واسعٌ عليمٌ ". ولقد أتانا الله وله الحمد من هذا الفضل ما صرنا به أطول الملوك في الاسلام باعاً وأعزهم في الذب عن حريمه أشياعاً وأتباعاً وأشدهم عند الحفيظة له بأساً وأطهرهم من درن الشبهة فيه لباساً وأقصدهم في اقتفار الحق المبين أنحاءً وأثقلهم على أعداء الله وأعداء الدين المنير وطاءةً وانحاءً فلا تتجه عزائمنا لمهم في ذلك الا حققنا الفيصل وطبقنا المفصل وفرينا الفري واقتدحنا من الزناد الوري وأعدنا الحق جدعاً وأنف الباطل مجدعاً نعمةً من الله تعالى اختصنا بها من دون سائر الأنام وأجلنا من التفرد بمزاياها في الذروة والسنام فالحمد لله على ذلك حمداً يوازي قدر نعمه ويمتري المزيد

(1/245)


من مواد كرمه ثم الحمد لله على ما يسرنا له من اعزاز الدين ورفع عماده وقمع أضداده واستئصال شأفة الباطنية المناهضين لعنادة الذين استركوا العقول الفاسدة فاستغووها بأباطيلهم واستهووها بأضاليلهم واتخذوا دين الله هزوءًا ولعباً بما لفقوه من زخارف أقاويلهم سيما ما سنى الله من فتح الفتوح وهيأ أسبابه من النصر الممنوح بأخذ قلعة شاه ذر التي شمخ بها الجبل وبذخ وكان الباطل باض فيها وفرخ وكانت قذىً في عيون الممالك وسيما إلى التورط بالمسلمين في المهاوي والمهالك ومرصداً عليهم بالشرارة والنكارة حيثما ينحونه من المسالك. وفيها ابن عطاش الذي طار عقله في مدرج الضلال وطاش وكان يرى الناس نهج الهدى مضلةً ويتخذ السفر المشحون بالأكاذيب مجلةً ويستبيح دماء المسلمين هدراً ويستحل أموالهم غرراً فكم من دماء سفكت وحرم انتهكت وأموال استهلكت وترات تجرعتها النفوس فما أستدركت ولو لم يكن منهم إلا ما كان عند حدثان أمرهم بأصفهان من اقتناص الناس غيلةً واستدراجهم خديعةً وقتلهم إياهم بأنواع العقوبات قتلةً شنيعةً ثم فتكهم عوداً على بدء بأعيان الحشم وخيار العلماء واراقتهم ما لا يعد ولا يحصى من محرمات الدماء إلى غير ذلك من هنات يمتعض الاسلام لها أي امتعاض وما الله عن المسلم أن يتميز لها براض لكان حقاً علينا أن نناضل عن حمي الدين ونركب الصعب والذلول في مجاهدتها ولو إلى الصين. وهذه القلعة كانت من أمهات القلاع التي انقطع إليها رؤوس الباطنية كل الانقطاع فكان تبث الحبائل منها في سائر الجهات والأقطار وترجع إليها نتائج الفساد رجوع الطير إلى الأوكار وهي في العزة والمنعة مثل مناط الشمس التي تنال منها حاسة البصر دون حاسة اللمس ترد الطرف كليلاً وتعد

(1/246)


العدد الدثر في محاصرتها كليلاً. وكأنها وهي أعلى شاهق نزلت على الجبل من حالق فهي بهذه الصفة مقابلة لبلدة أصفهان التي هي مقر الملك
ودار الثواء وأولى البلاد بتطهيرها من اهتياج الفتن واختلاف الأهواء ونحن نقيم بها طول هذه المدة المديدة وندبر أمرها إلى ما يصونه الرأي من الحيلة والمكيدة وأمامنا من المستخدمين وأصحاب الدواوين نفر تصغي إليهم أفئدتهم فيما كانوا عليه من مخالفة الدين يتوصلون بمكرهم إلى نقض ما يبرم وتأخير ما تقدم ويوهمون إنها من النصائح التي تقبل وتلزم حتى تطاول دون ذلك الأمد وبان من القوم المعتقد واتضح لنا من صائب التدبير ما يعتمد وكنا في خلال هذه الأحوال لم نخل هذه القلعة من طائفة تهزهم حمية الدين من الجند ينتهون من التضييق عليها إلى كل غاية من الجد فيتوفرون على محاصرتهم ومصابرتهم ويتشمترون لمزاولتهم ومصاولتهم ويقعدون لهم بكل مرصد ويسدون كل متنزل ومصعد حتى انقطعت عنهم المواد وخانتهم المير والأزواد واضطروا إلى أن نزل بعضهم على حكم الأمان بعد الاستئمار والاستئذان فأمرنا بتخلية سربهم وايمان سربهم وسلم الشطر من القلعة لخلوه من الفئة النازلة واعتصم ابن عطاش بقلة اخرى تسمى دالان مع نخب أصحابه من المقاتلة وهذه القلة هي أمنع المواضع من القلعة وأحصنها وأوعرها مسلكاً وأحزنها فقد نقل إليها ما كان بقي لهم من الميرة وسائر ما يستظهر به من السلاح والذخيرة على أن يلبثوا بها أياماً معدودةً فينزلوا ويبذل لهم الأمان مثل ما بذل للأولين فيتحولوا كل ذلك بوساطة من قدمنا ذكرهم من المستخدمين في الدواوين وفي باطن الأمر خلاف ما يتوهم من الاعلان وذلك إنهم قدروا أن ما سلم من القلعة يترك على عمارته ومكانته وما امتنع به من القلة لا يقدر عليه لمنعته وحصانته فهم يتوصلون بتمكنهم من ذلك الحيل إلى سرقة ما سلموه آنفاً ببعض الحيل هذا وقد كفوا مؤن

(1/247)


من نزل من الأكلة وعندهم الكفاف لمن بقي من العملة. ففطنا لما عمدوا وعليه اعتمدوا وأمرنا في الحال بالقلعة المسلمة فنسفت نسفاً وخسفت بها خسفاً وصير سفلها علواً كما كان علوها خلواً ثم انتقمنا من المستخدمين الغادرين بالملك والدين حتى ساقهم الحين المتاح إلى حين فلم يفلت منهم صاحب ولا مصحوب إن الشقاء على الأشقين مصبوب. ووافق ذلك حلول الموعد لنزول باقي القوم من دالان فأبوا إلا المطل والليان. فلما مضت أيام على ذلك أظهروا التمرد والعصيان فصاروا كما قال الله تعالى " وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فتنتهُ فَلَنْ تَملكَ لهُ مِنَ اللهِ شيئاً أُولائكَ الذينَ لَمْ يُردِ اللهُ أَنْ يُطهَرَ قلوبهم لَهمْ في الدُّنيا جِزْيٌ ولهم في الآخرةِ عذَابٌ عظيمٌ " فعند ذلك استخرنا بالله تعالى تجريد العزائم لهذا الجهاد الذي هو عندنا من أنفس العزائم ولا نخاف فيه لومة لائم وأهبنا بمن حضرنا من العساكر المنصورة إلى الأحداق بالقلعة المذكورة يوم الثلاثاء ثاني ذي الحجة فنزلوا لفنائها محتشدين ولصدق اللقاء متشمرين متجردين وجرت مناوشة عشية هذا اليوم أثخنت عدةً من أولئك القوم وبات المسلمون ليلتهم تلك على أضم والملحدون لحماً على وضم. فلما تنفس الصبح وعردت الديوك الصدح وطوى الليل رداءه ورفع الفجر لواءه نصرا لله الحق وادال الدين وساء صباح المنذرين وعدت جيوش النصر يداً واحدةً وكلمةً على التظافر والتظاهر مساعدة تسطوا بالفئة المتحصنة بالقلعة سطوة الليث الهصور وكأنهم طاروا بأجنحو الصقور على صم الصخور فلم يلبثوا قبل ذرور الشمس بقرنها وأخذها الناصح من لونها إن أخذوا القلعة عنوةً وقهراً وأجروا من دماء الباطنية الملحدة نهراً فلم يئل منهم وائل

(1/248)


ولا أخطأهم من السيوف البواتر وائل وأمرنا في الحال بهدمها والتعفية على ردمها فلم يبق بها نافخ ضرمه ولا أثر من نسمه ولا مدر على أكمه وأسر ابن عطاش رأس الجالوت وولي الطاغوت الذي كان ممن قال الله تعالى فيه: " وَجعَلْناهمْ أَئمَّةً يَدْعونَ إلى النَّارِ " فجعلناه وولده المقرون به مثلةً للنظار وعبرةً لأولي الأبصار فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين هذا الفتح المبين والعزة التي تتلى لأنها من الدهر الحين والنعمة التي تمت وعمت وأحنت بالنقمة على أعداء الله ورسوله وطمت وما ذاك إلا من بركات عقائدنا الناصعة في موالاة الدولة العباسية ظاهر الله مجدها وما يلتزمه في فرضها من فضل المناصحة والمشايعة فيها نحن نسطو بالأعادي ونكفي من اعتراض النوائب كل العوادي ونسوس الدهماء من الحواضر
والبوادي. وهذه البشرى التي يهنأ بها الاسلام وترفع بها من الاشادة بذكرها في الخافقين الأعلام أمرنا بنشرها في الأقصى والأدنى لا سيما الدارة العزيزة ظاهر الله مجدها فإنها أولى من يبشر بمثلها ويهنأ وأنهينا بالأمير عز الدولة إلى إيصال هذه البشارة إلى الديوان العزيز النبوي أعلى الله جده فندب من قبله من يقوم بهذه الخدمة ويعلمه ما نحن نصدره من الاعتراف بقدر هذه النعمة وهذا الأمير كان من المندوبين أولاً وأخراً لمحاصرة هذه القلعة فأبلى فيها بلاءً حسناً جميلاً وأغنى غنائم نجد له فيه عديلاً ولذلك ما اختصصناه بهذه المزية واثرناه بابلاغ هذه البشرى الهنية والمعول تام على الاهتمام الوزيري في القائها إلى المقار المعظمة النبوية ليعلم من صدق نهضتها بالخدمات وعندنا المسعاة في إعزاز الدين من أوجب المهمات ما يزلفنا من شريف المراضي ويفرض لنا من المحامد والمآثر التامة على الأبد أكرم الأحاظي وأن يتقدم في حق المبشر ما هو على الدولة ثبتها الله متعين حتى يعود ولما يستحسن من موقع هذه البشارة عليه أثر بين والوزير أولى من اغتنم هذه المكرمة فاعتنقها وتمكن من عصمة الرأي السديد فاعتقلها واستحمد إلينا بما يتكلفه من جميل مساعيه ويتكفله بالاهتزاز والاهتمام فيه من سائر ما يلاحظه من الأمور ويراعيه إن شاء الله تعالى وكتب بالأمر العالي شفاهاً في ذي القعدة سنة 500بوادي. وهذه البشرى التي يهنأ بها الاسلام وترفع بها من الاشادة بذكرها في الخافقين الأعلام أمرنا بنشرها في الأقصى والأدنى لا سيما الدارة العزيزة ظاهر الله مجدها فإنها أولى من يبشر بمثلها ويهنأ وأنهينا بالأمير عز الدولة إلى إيصال هذه البشارة إلى الديوان العزيز النبوي أعلى الله جده فندب من قبله من يقوم بهذه الخدمة ويعلمه ما نحن نصدره من الاعتراف بقدر هذه النعمة وهذا الأمير كان من المندوبين أولاً وأخراً لمحاصرة هذه القلعة فأبلى فيها بلاءً حسناً جميلاً وأغنى غنائم نجد له فيه عديلاً ولذلك ما اختصصناه بهذه المزية واثرناه بابلاغ هذه البشرى الهنية والمعول تام على الاهتمام الوزيري في القائها إلى المقار المعظمة النبوية ليعلم من صدق نهضتها بالخدمات وعندنا المسعاة في إعزاز الدين من أوجب المهمات ما يزلفنا من شريف المراضي ويفرض لنا من المحامد والمآثر التامة على الأبد أكرم

(1/249)


الأحاظي وأن يتقدم في حق المبشر ما هو على الدولة ثبتها الله متعين حتى يعود ولما يستحسن من موقع هذه البشارة عليه أثر بين والوزير أولى من اغتنم هذه المكرمة فاعتنقها وتمكن من عصمة الرأي السديد فاعتقلها واستحمد إلينا بما يتكلفه من جميل مساعيه ويتكفله بالاهتزاز والاهتمام فيه من سائر ما يلاحظه من الأمور ويراعيه إن شاء الله تعالى وكتب بالأمر العالي شفاهاً في ذي القعدة سنة 500
وفي هذه السنة تتابعت المكاتبات إلى السلطان غياث الدنيا والدين محمد ابن ملك شاه من ظهير الدين أتابك وفخر الملك بن عمار صاحب طرابلس بعظيم ما ارتكبه الافرنج من الفساد في البلاد وتملك المعاقل والحصون بالشام والساحل والفتك في المسلمين ومضايقة ثغر طرابلس والاستغاثة إليه والاستصراخ والحض على تدارك الناس بالمعونة. فندب السلطان لما عرف هذه الحال الأمير جاولي سقاوه وأميراً من مقدمي عسكره كبيراً في عسكر كثيف من الأتراك وكتب إلى بغداد وإلى الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد والي جكرمش صاحب الموصل بتقويته بالمال والرجال على الجهاد والمبالغة في اسعاده وانجاده واقطعه الرحبة وما على الفرات فثقل أمره على المكانين فدافعه ابن مزيد وسار نحو الموصل يلتمس من جكرمش ما وقع به عليه فتوقف عنه فنزل على قلعة السن ونهبها واجتمع إليه خلق كثير وخرج جكرمش إلى لقائه فظفر به جاولي سقاوه واستباح عسكره وانهزم ولده إلى الموصل فضبطها وتوجه وراءه وقتل جكرمش أباه وأنفذ رأسه إلى الموصل. فلما عرف ولده ذاك كاتب قلج أرسلان بن قتلمش يستنجده من ملطية ويبذل له تسليم البلاد والأعمال

(1/250)


التي في يده إليه وكان جكرمش قد جمع مالاً عظيماً من الجزيرة والموصل وكان جميل الصورة في الرعية عادلاً في ولايته مشهوراً بالانصاف في أعمال ايالته. فلما عرف قلج أرسلان بن سليمان ما كتب به إليه ولد جكرمش من الموصل فسار إليه ودخل قلج أرسلان إلى نصيبين لأنه كان في بعض عسكره وباقيه في بلاد الروم لانجاد ملك القسطنطينية على الافرنج. ولما تقارب عسكر قلج من عسكر جاولي سقاوه والتقت طلائع الفريقين ظفر قوم من أصحاب قلج بقوم من أصحاب جاولي فقتلوا بعضاً وأسروا بعضاً. فرحل جاولي يطلب عسكر قلج وقد عرف أنه قد أنفذ يستدعي بقية عسكره من بلاد الروم وأنه في قل وطلب ناحية الخابور وتوجه منها إلى الرحبة ونزل عليها وضايقها وراسل محمداً واليها من قبل الملك شمس الملوك دقاق صاحب دمشق وعنده الملك ارتاش بن تاج الدولة الهارب من دمشق بعد وفاة الملك دقاق أخيه مقيماً بالتسليم إليه فلم يحفل بمراسلته وآيسه من طلبته فأقام عليها مضايقاً لها مدة ووصل إليه الأمير نجم الدين ايل غازي بن أرتق في جماعة وافرة من عسكره التركمان واستنجد عليها بالملك فخر الملوك رضوان فوصل إليه في عسكره بعد أن هادن طنكري صاحب أنطاكية. فلما فصل عن حلب وعرف جوسلين صاحب تل باشر بعده عن حلب واصل الغارات على أعمالها من جميع جهاتها. ولم يزل جاولي مقيماً على الرحبة منذ أول رجب وإلى الثاني والعشرين من شهر رمضان وزاد الفرات زيادته المعروفة فركب أصحاب جاولي الزواريق وصعدوا طالبين سور البلد بمواطأة من بعض أهل

(1/251)


البلد فلم يتهيأ لهم أمر مع من واطأهم بل هجموا السور وملكوا البلد ونهبوه وصادروا جماعة من أهله واستخرجوا ذخائرهم بالعقوبة ثم أمر جاولي برفع النهب وأمن الناس وردهم إلى منازلهم وتسلم القلعة بعد خمسة أيام في الثامن والعشرين من شهر رمضان. وأقر اقطاع محمد واليها عليه واستحلفه وقبض عليه بعد أيام لأمر بلغه عنه فأنكره منه واعتقله في القلعة وحصل الملك أرتاش في جملة سقاوه ولم يتمكن من التصرف في نفسه. وكان محمد هذا الوالي قد أرسل قلج أرسلان بن سليمان أولاً بالاستصراخ به وطلب المعونة على دفع جاولي عن البلد فتوجه نحو الرحبة في عسكره وبلغه خبر فتحها فعاد ونزل على الشمسانية ولم يكن في نيته لقاء جاولي. ورحل جاولي ونزل ماكسين وعزم على التوجه إلى ناحية الموصل ومعه فخر الملوك رضوان فاتفق أنهم قصدوا عسكر قلج فالتقى الفريقان في يوم الخميس التاسع من شوال وكان الزمان صيفاً واشتدت وقدة الحر وحميت الرمضاء فهلك أكثر خيل الفريقين وحمل عسكر قلج أرسلان على عسكر جاولي وقصد جاولي قلج أرسلان في الجملة وضربه بالسيف عدة ضربات فلم تؤثر فيه وانهزم عسكر قلج أرسلان وفصل عنه صاحب آمد وقت الحرب مع صاحب ميافارقين وانهزم الباقون ووقع السيف في أصحاب قلج أرسلان وسقط قلج مع الهزيمة في الخابور فهلك في الماء ولم يظهر وبعد أيام وجد هالكاً

(1/252)


وعاد جاولي إلى الموصل وعاد عنه الملك فخر الملوك رضوان إلى حلب خوفاً منه وأخذ جاولي نجم الدين ايل غازي بن ارتق وطالبه بالمال الذي أنفقه في التركمان فصالحه على جملة يدفعها إليه وأخذ رهانه عليها إلى أن يؤديها وأقام له بها فيما بعد

(1/253)


وقد كان قلج أرسلان أنفذ بعض مقدمي أصحابه إلى بلاد الروم في خلق كثير من التركمان لانجاد ملك القسطنطينية على بيمند ومن معه من الافرنج الواصلين إلى الشام فانصرفوا إلى ملك الروم وما حشده من عساكر الروم فلما اجتمع للفريقين ما اجتمع رتبوا المصاف والتقوا فاستظهر الروم على الافرنج وكسروهم كسرةً شنيعةً أتت على أكثرهم بالقتل والأسر وتفرق السالم الباقي منهم عائدين إلى بلادهم وفصل أصحاب قلج أرسلان الأتراك إلى أماكنهم بعد أن أكرمهم وخلع عليهم وأحسن إليهم ولما عاد جاولي سقاوه إلى الرحبة ونزل على الموصل راسل أهلها والجند بها فلم يمكنهم المدافعة له عنها ولا المراماة دونها فسلموها إليه بعد أخذ الأمان منه على من حوته وكان ولد قلج قد دخلها فقبض عليه وسيره إلى السلطان محمد ولم يزل مقيماً عنده إلى أن هرب من المعسكر في أوائل سنة 503 وعاد إلى مملكة أبيه ببلاد الروم ويقال انه لما وصل إليها عمل على ابن عمه وقتله واستقام له أمر المملكة بعده وفي هذه السنة وصل إلى دمشق الأمير الأصفهبد التركماني من ناحية عمله فأكرمه ظهير الدين وأحسن تلقيه وأقطعه وادي موسى ومآب والشراة والجبال والبلقاء وتوجه إليها في عسكره وكان الافرنج قد نهضوا إلى هذه الأعمال وقتلوا فيها وسبوا ونهبوا ما قدروا عليه منها فلما وصل إليها وجد أهلها على غاية من الخوف وسوء الحال عما جرى عليهم من الافرنج فأقام بها. ونهض الافرنج إليه لما عرفوا خبره من ناحية البرية ونزلوا بإزاء المكان الذي هو نازل به وأهملوه إلى أن وجدوا الفرصة فيه فكبسوه على غرة فانهزم في أكثر عسكره وهلك باقيه واستولوا على سواده ووصل إلى عين الكتيبة من ناحية حوران والعسكر الدمشقي نازل عليها فتلقاه ظهير الدين متوجعاً له بما جرى عليه ومسلياً عما ذهب منه وعوضه وطلق له ما صلحت به حاله

(1/254)


سنة إحدى وخمسمائة
فيها جمع ملك الافرنج بغدوين حزبه المفلول وعسكره المخذول وقصد ثغر صور ونزل بإزائه وشرع في عمارة حصن بظاهرها على تل المعشوقة وأقام شهراً وصانعه واليه على سبعة آلاف دينار فقبضها منه ورحل عنه. وفيها وردت الأخبار بوصول عسكر السلطان غياث الدنيا والدين محمد إلى بغداد في آخر شهر ربيع الآخر منها وأعلن الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد العصيان عليه خوفاً لما بلغه من افساد شحنة بغداد وعمدها حاله معه ولم يزل السلطان مقيماً ببغداد إلى العشرين من رجب فاجتمع إليه تقدير ثلاثين ألف فارس واجتمع مع صدقة تقدير عشرين ألفاً في الحلة وبينهما أنهار وسواحل في الحلة فأثر السلطان مراسلته في تقرير أمره والصفح وإيقاع مهادنة وموادعة تستقيم معهما الأحوال ويصلح بها الأعمال فأبى ذلك كافة الأمراء والمقدمين وامتنعوا من الأهمال لأمره ونهضوا إليه. فلما عرف الحال قطع الأنهار ووصل في جمعه حتى صار بإزائهم وحمل بعض الفريقين على بعض ونشبت الحرب بينهم وكان منزل صدقة بن مزيد كثير الوحل عسر المجال فترجل الأتراك عن خيلهم وحثوا عليهم وأطلقوا السهام وشهروا الصفاح وشرعوا الرماح وفعل مثل ذلك أصحاب صدقة والتقى الجيشان ونظر صدقة إلى أصحابه والسهام قد شكت خيولهم وقد أشرفوا على الهلاك وظن الأتراك إنهم قد انهزموا فركبوا أكتافهم رشقاً بالسهام وضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح فقتلوا منهم

(1/255)


خلقاً كثيراً وقتل الأمير صدقة بن مزيد في الجملة ووجوه رجاله ولم يفلت منهم إلا اليسير ممن حماه الأجل واستطار قلبه الخوف والوجل. وكان السلطان قد اعتمد في تدبير الجيش وترتيب الحرب على الأمير مودود المستشهد بيد الباطنية في جامع دمشق ووصل السلطان غد يوم الوقعة ونزل الحلة. ولم يكن للعرب بعد صدقة مثله في البيت والتقدم واحسان السيرة فيهم والانصاف لهم والانعام عليهم وكرم النفس وجزيل العطاء وحسن الوفاء والصفح عن الجرائر والتجاوز عن الجرائم والكبائر والتعفف عن أموال الرعية واحسان النية للعسكرية غير إنه كان مع هذه الخلال الجميلة والمآثر الحميدة مطرحاً لفرائض الشريعة متغافلاً عن ارتكاب المحارم الشنيعة مستحسناً لسب الصحابة رضي الله عنهم فكان ما نزل به عليه عاقبة هذه الأفعال الذميمة وما ربك بغافل عما تعملون وتوجه السلطان بعد تقرير أمر الحلة عائداً إلى أصفهان في أوائل شهر من السنة وقد قرر مع الأمير مودود والعسكر قصد الموصل ومنازلتها والتضييق عليها والتملك لها فرحل مودود والعسكر ونزل على الموصل وكان جاولي صاحبها قد أخرج أكثر أهلها منها وأساء أصحابه السيرة فيها وارتكبوا كل محرم منها ومضى إلى الرحبة واستناب فيها من وثق به من أصحابه في حفظها وأقام العسكر السلطاني عليها مدةً وعمد سبعة نفر من أهلها على المواطأة عليها وفتحوا باباً من أبوابها وسلموها إلى مودود ودخلها وقتل مقتلةً كبيرةً من أصحاب جاولي وأمن من كان في القلعة وحملهم وما كان معهم إلى السلطان

(1/256)


وفي شعبان من هذه السنة اشتد الأمر بفخر الملك بن عمار بطرابلس من حصار الافرنج وتطاول أيامه وتمادي الترقب لوصول الانجاد وتمادي تأخر الاسعاد فأنفذ إلى دمشق يستدعي وصول الأمير ارتق بن عبد الرزاق أحد أمراء دمشق إليه ليتحدث معه بما في نفسه فأجابه إلى ذلك واستأذن ظهير الدين في ذلك فأذن له وتوجه نحوه وقد كان فخر الملك خرج من طرابلس في البر في تقدير خمسمائة فارس وراجل ومعه هدايا وتحف أعدها للسلطان عند مضيه إليه إلى بغداد فلما وصل ارتق إليه واجتمع معه تقررت الحال بينهما على وصوله إلى دمشق في صحبته فوصل إليها وأنزل في مرج باب الحديد بظاهرها وبالغ ظهير الدين في اكرامه وتناهى في احترامه وحمل إليه أمراء العسكرية ومقدموه من الخيل والبغال والجمال وغير ذلك ما أمكنهم حمله واتحافه به. وكان فخر الملك المذكور قد استناب عنه في حفظها أبا المناقب ابن عمه ووجوه أصحابه وغلمانه وأطلق لهم واجب ستة أشهر واستحلفهم وتوثق منهم. فأظهر عمه الخلاف له والعصيان عليه ونادى بشعار الأفضل بن أمير الجيوش بمصر فلما عرف فخر الملك ما بدا منه كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه وحمل إلى حصن الخوابي ففعل ذلك وتوجه فخر الملك إلى بغداد ومعه تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك. وقد كان أتابك عرف إن جماعةً ممن يحسده في باب السلطان ويقع فيه بالسعاية ويقصده بالأذية وإفساد الحال عند السلطان فأصحب ولده المذكور من الهدايا والتحف من الخيول والثياب وغير ذلك مما يحسن انفاذ مثله واستوزر له أبا النجم هبة الله بن محمد بن بديع الذي كان مستوفياً للسلطان الشهيد تاج الدولة وجعله مدبراً لأمره وسفيراً بينه وبين من أنفذ إليه وتوجه في الثامن من شهر رمضان سنة 501

(1/257)


فلما وصلا إلى بغداد لقي فخر الملك من السلطان من الاكرام والاحترام ما زاد على أمله وتقدم إلى جماعة من أكابر الأمراء بالمسير معه لمعونته وانجاده على طرد محاصري بلده والايقاع بهم والابعاد لهم وقرر مع العسكر المجرد معه الالمام بالموصل وانتزاعها من يدي جاولي سقاوه ثم المصير بعد ذلك إلى طرابلس فجرى ما تقدم به الشرح من ذلك وطال مقام فخر الملك طولاً ضجر معه وعاد إلى دمشق في نصف المحرم سنة 502 فأما تاج الملوك بن ظهير الدين فجرى أمره فيما نفذ لأجله على غاية مراده ونهاية محابه وصادف من السلطان في حق أبيه وحقه ما سره وعاد منكفئاً إلى دمشق بعد ما شرف به من الخلع السنية الأمامية السلطانية ووصل إلى دمشق آخر ذي الحجة من السنة. وأقام فخر الملك بن عمار في دمشق بعد وصوله إليها أياماً وتوجه منها مع خيل من عسكر دمشق جردت معه إلى خيله فدخلها وأطاعه أهلها. وأنفذ أهل طرابلس إلى الأفضل بمصر يلتمسون منه انفاذ وال يصل إليهم في البحر ومعه الغلة والميرة في المراكب لتسلم إليه البلد فوصل إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب والياً من قبل الأفضل ومعه الغلة فلما وصل إليها وحصل فيها قبض على جماعة أهل فخر الملك بن عمار وأصحابه وذخائره وألاته وأثاثه وحمل الجميع إلى مصر في البحر وفي هذه السنة أسرى ظهير الدين أتابك في عسكره إلى طبرية وفرق عسكره فرقتين نفذ إحداهما إلى أرض فلسطين والأخرى غاربها على طبرية فخرج إليه صاحبها في رجاله المعروف بجرفاس وهو من مقدمي الافرنج المشهورين بالفروسية والشجاعة والبسالة وشدة المراس يجري مجرى الملك بغدوين في التقدم على الافرنج فالتقاه وأحاطت خيل الأتراك

(1/258)


به وبأصحابه فقتل أكثرهم وأسر هو وجماعة معه وحملوا إلى دمشق فأنفذ بعضهم هدية إلى السلطان وقتل جرفاس ومن كان معه في الأسر من أصحابه بعد أن بذلوا في إطلاقهم جملةً من المال فلم يقبلها. وفيها تقدم السلطان غياث الدنيا والدين محمد عند وصوله إلى بغداد برفع المكوس وإبطال رسمها عن التجار والمسافرين في جميع بلاده وحظر تناول اليسير منها فلما عاد إلى أصفهان منها طمع في التجار وأخذ منهم المكس على سبيل الخلاف لما أمر فلما عاد إلى بغداد وانتهى الأمر إليه أنكر ما جرى في مخالفة أمره ووكد الأمر في إبطال ذلك وحذر من المخالفة له في سائر البلاد
وفيها وردت الأخبار من بغداد بوقوع النار في الجانب الشرقي منها فأحرقت ما يزيد على خمسمائة دار وافتقر أهلها. وفيها تناصرت أخبار الباطنية بقلعة آلموت والحصون المجاورة لها في إيغالهم في الفساد وإفاظة النفوس بالعدوان والإلحاد فأنهض السلطان وزيره أحمد بن نظام الملك خواجه بزرك ومعه جاولي سقاوه في عسكر كثيف فأظفره الله بهم ونصره عليهم وقتل منهم مقتلةً عظيمةً وخرب منازلهم وقلاعهم

(1/259)


وفي هذه السنة نهض بغدوين في عسكره المخذول من الافرنج نحو ثغر صيدا فنزل عليه في البحر والبر ونصب البرج الخشب عليه ووصل الاصطول المصري للدفع عنه والحماية له فظهروا على مراكب الجنوية وعسكر البر واتصل بهم نهوض العسكر الدمشقي لحماية صيدا والذب عنها فرحلوا عنها عائدين إلى أماكنهم

سنة اثنتين وخمسمائة
فيها أنفذ صاحب عرقة إلى ظهير الدين أتابك رسوله يلتمس منه المعونة على دفع الافرنج عنها وإنفاذ من يتسلمها فندب بعض ثقاته فتسلمها وأقام والياً بها منتظراً وصول العسكر إليها والوفاء بما وعد به من الخلع عليه والاحسان إليه فحدث في الوقت من الثلوج والأمطار ما عاق المسير إليها وقل القوت بها وانقطعت الميرة عنها فبادر الافرنج بالنزول عليها وتوجه ظهير الدين عند ذاك إليها فصادفهم قد أحاطوا بها ولم يتمكن من دفعهم عنها. وعاد إلى حصن الأكمة ونزل عليه وقاتله فلما

(1/260)


عرف الافرنج ذلك نهضوا إليه في تقدير ثلاثمائة فارس لانجاد من بالأكمة فوصلوا إليهم ليلاً فقويت نفوسهم واقتضى رأي أتابك الرحيل عنها بحكم من صار فيها منهم فرحل كالمنهزم وطمع فيه وتتبع العسكر فغنم من الخيل والكراع غنيمة كبيرة وتفرق العسكر في الشجر والجبال ووصلوا إلى حمص على أقبح صفة وأشنع صورة من غير لقاء ولا محاربة وعاد الافرنج إلى عرقة وعدم القوت فيها فملكوها بالأمان وفيها استوزر ظهير الدين أبا نجم هبة الله بن محمد بن بديع الأصفهاني الذي كان مستوفياً للسلطان تاج الدولة وكان قد وزر بعده لولده الملك رضوان بحلب وبقي في الوزارة مدة في أوائل سنة 502 وأفسد قلب ظهير الدين أتابك عليه مع ما كان في قلبه في الأيام التاجية فأمر بالقبض عليه واعتقاله في القلعة وحمل كل ما كان في داره وقبض أملاكه وأقام أياماً في الاعتقال ثم أمر بخنقه فخنق ورمي في جب بالقلعة ثم أخرج ودفن في المقابر وفي شعبان من هذه السنة وصل ريمند بن صنجيل الذي كان نازلاً على طرابلس من بلاد الافرنج في جملة ستين مركباً في البحر مشحونةً بالافرنج والجنويين فنزل على طرابلس ووقع بينه وبين السرداني ابن أخت صنجيل مشاجرة ووصل طنكري صاحب انطاكية إليه لمعونته للسرداني ووصل الملك بغدوين صاحب بيت المقدس في عسكره فأصلح بينهم. وعاد السرداني إلى عرقة ووجد بعض الافرنج في زرعها فأراد ضربه فضربه الافرنجي فقتله ولما بلغ الخبر ريمند بن صنجيل وجه من تسلم عرقة من أصحابه.

(1/261)


ونزل الافرنج بجموعهم وحشدهم على طرابلس وشرعوا في قتالها ومضايقة أهلها منذ أول شعبان إلى الأحاديث عشر من ذي الحجة من السنة وأسندوا أبرجهم إلى السور فلما شاهد الجند والمقاتلة أهل البلد سقط في أيديهم وأيقنوا بالهلاك وذلت نفوسهم لاشتمال اليأس من تأخر وصول الاصطول المصري في البحر والميرة والنجدة وقد كانت غلة الاصطول أزيحت وسير الريح ترده لما يريد الله تعالى من نفاذ الأمر المقضي فشد الافرنج القتال عليها وهجموها من الأبراج فملكوها بالسيف في يوم الاثني لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة ونهبوا ما فيها وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر دار علمها وما كان منها في خزائن أربابها ما لا يحد عدده ولا يحصر فيذكر. وسلم الوالي بها وجماعة من جنده كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها فلما ملكت أطلقوا ووصلوا إلى دمشق بعد أيام من فتحها وعوقب أهلها واستصفيت أموالها واستثيرت ذخائرهم من مكامنها ونزل بهم أشد البلاء ومؤلم العذاب
وتقرر بين الافرنج والجنويين على أن يكون للجنويين الثلاث من البلد وما نهب منه والثلاثان لريمند بن صنجيل وأفردوا للملك بغدوين من الوسط ما رضي به. وكان طنكري لما لم ينل ما أراد من نصرة السرداني قد عاد ونزل بانياس وافتتحها وأمن أهلها في شوال من السنة ونزل على ثغر جبيل وفيه فخر الملك ابن عمار والقوت فيه نزر قليل فلهم يزل مضايقاً له ولأهله إلى يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي الحجة فراسلهم وبذل لهم الأمان فأجابوه إلى ذلك فتسلمه بالأمان وخرج منه فخر الملك ابن عمار سالماً وقد وعده بإحسان النظر والاقطاع.

(1/262)


ووصل عقيب ذلك الاصطول المصري ولم يكن خرج للمصريين فيما تقدم مثله كثرة رجال ومراكب وعدد وغلال لحماية طرابلس وتقويتها بالغلة الكثيرة والرجال والمال لمدة سنة مع تقوية ما في المملكة المصرية من ثغور الساحل وأهله ووصل إلى صور في يوم الثامن من فتح طرابلس وقد فات الأمر فيها للقضاء النازل بأهلها. وأقام بالساحل مدة وفرقت الغلة في جهاتها وتمسك به أهل صور وصيدا وبيروت وشكوا أحوالهم وضعفها عن محاربة الافرنج ولم يمكن الاصطول المقام فأقلع عائداً عند استقامة الريح إلى مصر وفي شوال من هذه السنة وردت الأخبار بتملك الأمير سكمان القطبي مدينة ميافارقين بالأمان بعد الحصر لها والمضايقة لأهلها عدة شهور بعد أن عدم القوت بها واشتد الجوع بأهلها. وفيها وصل بيمند صاحب أنطاكية من بلاد الافرنج عائداً إلى مملكته في خلق كثير ونزل بالقرب من قسطنطينة وخرج ملكها إليه ومعه خلق كثير من التركمان المجاورين له فاقتتلوا أياماً وطلب الروم تفسخهم بكل نوع إلى أن تفرقوا وتبددوا في البلاد وأصلح بيمند أمره مع الملك ودخل عليه ووطىء بساطه ومن معه وكفى الله وله الحمد أمرهم وصرف عن الاسلام شرهم وفي هذه السنة توفي الأمير ابق بن عبد الرزاق أحد مقدمي أمراء دمشق بمرض طال به وكثر المه بسببه إلى أن قضى نحبه ليلة عيد النحر من سنة 502 وفيها ترددت رسل الملك بغدوين إلى ظهير الدين في التماس المهادنة والموادعة فاستقر الأمر بينهما على أن يكون السواد وجبل عوف أثلاثاً

(1/263)


للأتراك الثلاث وللافرنج والفلاحين الثلاثان فانعقد الأمر على هذه القضية وكتب الشرط على هذه المبنية. وكان فخر الملك بن عمار لما ملك الافرنج جبيل خرج منها وتوجه إلى شيزر فأكرمه صاحبها سلطان ابن علي بن المقلد بن منقذ الكتاني واحترمه وجماعته وعرض عليه المقام عنده فلم يفعل وتوجه إلى دمشق عائداً إلى ظهير الدين أتابك فأكرمه وأنزله في دار وأقطعه الزبداني وأعمالها في المحرم سنة 503