تاريخ دمشق لابن القلانسي
سنة ثلاث وخمسمائة
لما فرغ الافرنج من طرابلس بعد افتتاحها وتدبير أعمالها وتقرير أحوالها
نهضوا إلى وفنية وعرف ظهير الدين ذاك من قصدهم فنهض في العسكر نحوها
لحمايتها وخيم بازائهم بحمص فلم يتمكن الافرنج من منازلتها ومضايقتها
وترددت بينه وبينهم مراسلات ومخاطبات أفضت إلى أن أجاب كل واحد من
الفريقين إلى تقرير الموادعة على الأعمال والمسالمة واستقر الأمر في
ذلك على أن يكون للافرنج الثلاث من استغلال البقاع ويسلم إليهم حصن
المنيطرة وحصن ابن عكار ويكفوا عن العيث والفساد في الأعمال والأطراف
وأن يكون حصن مصياث وحصن الطوفان وحصن الأكراد داخلاً في شرط الموادعة
ويحمل أهلها عنها
(1/264)
مالاً معيناً في كل سنة إلى الافرنج
فأقاموا على ذلك مدةً يسيرةً فلم يلبثوا على ما تقرر وعادوا إلى رسمهم
في الفساد والعناد وفيها توفي الشريف القاضي المكين فخر الملك أبو
الفضل اسمعيل بن ابرهيم بن العباس الحسيني ليلة الخميس الخامس والعشرين
من صفر منها بدمشق رحمه الله
وفي جمادى الأولى من هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق بوصول
السلطان ركن الدنيا والدين محمد بن ملك شاه إلى بغداد وانفاذ كتبه إلى
سائر البلاد معلماً فيها بما هو عليه من قوة العزم على قصد الجهاد
والأمر لظهير الدين أتابك بالمقام بحيث هو إلى حين ترد العساكر إلى
الشام وينضاف إليها ويدبر أمرها لأنه كان تابع كتبه بالاستصراخ
والاستنجاد على الكفرة الأضداد فعرضت عوائق عن ذاك عاقت وموانع عن
المراد صدت وطالت مدة الانتظار وتزايد طمع الكفار بتأخر العساكر
السلطانية فحملت ظهير الدين أتابك الحمية الاسلامية والعزيمة التركية
على التأهب للمسير بنفسه إلى بغداد لخدمة الدار العزيزة النبوية
المستظهرية والمواقف السلطانية الغياثية والمثول بها والشكوى لما نزل
بالمسلمين في الأعمال إليها من تملك البلاد وقتل الرجال وسبي النساء
والأطفال وحديثهم بينهم بالطمع في الامتداد إلى تملك الأعمال الجزرية
والعراقية. وتأهب للمسير واستصحب معه فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس
وخواص أصحابه وما أمكنه من الخيول العربية السبق وطرف مصر من أجناس
اللباس وما يصلح لتلك الجهات من التحف والهدايا من كل فن له قيمة وافرة
وتوجه في البرية على طريق السماوة فاستناب في دمشق ولده تاج الملوك
بوري ووصاه بما يجب عمله من استعمال اليقظة في الذب والحماية واحسان
السيرة في الرعية والمغالطة للافرنج والثبات على الموادعة المستقرة
معهم إلى حين العود.
(1/265)
فلما سار وحصل في الوادي المعروف بوادي
المياه من البرية وافى الخبر بما شاع من المرجفين ببغداد من الحديث
بتقليد السلطان بلاد الشام لامراء عين عليهم ووقعت الاشارة في ذلك
إليهم فأحدث هذا الخبر وحشةً أوجبت عوده من طريقه واعتمد على فخر الملك
بن عمار ومن عول عليه من ثقاته في الاتمام إلى بغداد بما صحبه من التحف
والهدايا والمناب عنه في انهاء ما دعاه إلى العود من طريقه. فوص فخر
الملك إلى بغداد بما صحبه فصادف من الابتهاج بمقدمه والتأسف على عود
أتابك ولم يصل ويشاهد ما زاد على الأمل وظهور بطلان تلك الأراجيف
بالمحال الذي لا حقيقة له وتواصلت الأجوبة عن ذلك بما سر النفوس وشرح
الصدور والاعتذار من إشاعة المحال وأكاذيب الأخبار. وقد كان ظهير الدين
أتابك في عوده من وادي المياه قد اتصل به أن كمشتكين الخادم التاجي
الوالي ببعلبك قد أرسل الافرنج بالتماس المصافاة منهم وبعثهم على شن
الغارات على الأطراف وأنه قد سير أخاه بايتكين الخادم التاجي إلى
السلطان للتوصل بالمحال إلى افساد الحال فحين سمع ظهير الدين هذا الخبر
ونفوذه ندب جماعةً من العسكر وقرر معهم المصير إلى المسالك والطرقات
التي لا بد من عبوره فيها لمسلكه وحمله إليه فلم يقف لبايتكين المذكور
على خبر. وسار ظهير الدين في العسكر من طريقه وكتب إلى ولده تاج الملوك
يأمره بالخروج في العسكر إلى بعلبك والنزول عليها فسارع إلى امتثال
أمره وسار إليها ونزل عليها على غفلة من أهلها غرة ممن بها ثم أرسل
الخادم المذكور يلتمس منه الدخول في الطاعة وتسليم الموضع إليه ويحذره
من الاستمرار على المخالفة والعصيان ويخوفه الاقامة على ما يفضي إلى
سفك الدماء وبالغ في الأعذار له والانذار فلم يجب إلى المراد والايثار
وأصر على الخلف والانكار. ووافى عقيب ذلك ظهير الدين في العسكر ومن
جمعه من الرجالة وزحف إلى بعلبك مقابلاً لها
(1/266)
ونصب عليها المنجيق وشرع في عمل آلة الحرب
والنقوب لقصد الأماكن المستضعفة منها لانتهاز الفرصة فيها وترامى إليه
من أحداث أهلها وأجنادها جماعة أحسن إليهم وخلع عليهم وزحف إلى سورها
وقاتل من عليه فقتل جماعةً منهم فحين شاهدوا الجد في القتال والصبر على
النزال جنحوا إلى الدخول في الطاعة والتمس الخادم الاقالة وبذل تسليم
البلد والحصن على شرط اشترطه واقطاع عينه وطلب بعض المقدمين للحديث معه
والتوفق لنفسه فنفذ إليه الأمير بلتاش لمحله من الدولة فتقررت الحال
على ما اقترحه وسلم البلد والحصن الذي هو غاية في المنعة والحصانة ومن
العجائب والقلاع المشهورة وخرج إليه وجرى على عادته الجميلة في الصفح
عمن أساء إليه وأظهر العصيان عليه وعوضه عن بعلبك حصن صرخد وهو مشهور
بالحصانة والمنعة أيضاً وعاد إليه ما كان قبض عنه من ملك واقطاع وعاد
إلى دمشق. وسلم ظهير الدين أتابك بعلبك إلى
ولده تاج الملوك بوري فرتب فيها من ثقات أصحابه من اعتمد عليه في حفظها
وقرر أحوالها وكانت مدة المقام في منازلتها خمسة وثلاثين يوماً وتسلمت
في اليوم الثاني والعشرين من شهر رمضان سنة 503 وأمر ظهير الدين بإزالة
حوادث الظلم عن أهل بعلبك وتسويغ بعض خراج أهلها وأعاد عليهم املاكاً
كانت قد اغتصبت في قديم الزمان وكثر له الدعاء وتواصل عليه الثناء وعاد
منكفياً إلى دمشق. وورد عليه الخبر بعود السلطان من بغداد إلى أصفهان
في شوال من السنةه تاج الملوك بوري فرتب فيها من ثقات أصحابه من اعتمد
عليه في حفظها وقرر أحوالها وكانت مدة المقام في منازلتها خمسة وثلاثين
يوماً وتسلمت في اليوم الثاني والعشرين من شهر رمضان سنة 503 وأمر ظهير
الدين بإزالة حوادث الظلم عن أهل بعلبك وتسويغ بعض خراج أهلها وأعاد
عليهم املاكاً كانت قد اغتصبت في قديم الزمان وكثر له الدعاء وتواصل
(1/267)
عليه الثناء وعاد منكفياً إلى دمشق. وورد
عليه الخبر بعود السلطان من بغداد إلى أصفهان في شوال من السنة وورد
الخبر بوفاة الأمير ابرهيم ينال صاحب آمد وكان قبيح السيرة فيها
مذكوراً بالظلم في أهلها وكان جماعة من أهلها قد خلوا عنها لأجله
المستمر عليهم واساءته إليهم فسرت النفوس بفقده وأمل من بعده الصلاح
وقام مقامه ولده فكان أصلح منه سريرةً وأحسن طريقةً وفي هذه السنة خرج
طنكري من أنطاكية في حشده ولفيفه المخذول إلى الثغور الشامية فملك
طرسوس وما والاها وأخرج صاحب ملك الروم منها وعاد إلى أنطاكية ثم خرج
إلى شيزر وقرر عليها عشرة آلاف دينار مقاطعةً تحمل إليه بعد أن عاث في
عملها ونزل على حصن الأكراد فتسلمه من أهله وتوجه إلى عرقة وكان الملك
بغدوين وابن صنجيل قد نزلا على ثغر بيروت براً وبحراً فعاد طنكري إلى
أنطاكية وسار جوسلين صاحب تل باشر إلى ثغر بيروت لمعاونة النازلين عليه
من الافرنج ويستنجد بهم على عسكر الأمير مودود النازلين على الرها.
وشرع الافرنج في عمل البرج ونصبه على سور بيروت فحين نجز وزحفوا به كسر
بحجارة المناجيق وأفسد فشرعوا في عمل غيره وعمل ابن صنجيل برجاً آخر
ووصل في الوقت من اصطول مصر في البحر تسعة عشر مركباً حربية فظهروا على
مراكب الافرنج وملكوا بعضها ودخلوا بالميرة إلى بيروت فقويت بها نفوس
من فيها من الرعية. وأنفذ الملك بغدوين إلى السويدية يستنجد بمن فيها
من الجنوية في مراكبهم فوصل منها إلى بيروت أربعون مركباً مشحنةً
بالمقاتلة فزحف الافرنج في البر والبحر إليها بأسرهم في يوم الجمعة
الحادي والعشرين من شوال ونصبوا
(1/268)
على السور برجين اشتدوا في القتال فقتل
مقدم الاصطول المصري وخلق كثير من المسلمين ولم ير الافرنج من ما تقدم
وتأخر أشد من حرب هذا. وانخذل الناس في البلد وأيقنوا بالهلاك فهجم
الافرنج على البلد آخر نهار هذا اليوم فملكوه بالسيف قهراً وغلبةً وهرب
الوالي الذي كان فيه في جماعة من أصحابه وحمل إلى الافرنج فقتل ومن كان
معه وغنموا ما كان استصحبه من المال ونهب البلد وسبي من كان فيه وأسر
واستصفين أموالهم وذخائرهم. ووصل عقيب ذلك من مصر ثلاثمائة فارس نجدةً
لبيروت فحين حصلوا بالاردن خرجت عليهم فرقة من الافرنج يسيرة العدد
فانهزموا منهم إلى الجبال فهلك منهم جماعة. فلما تقرر أمر بيروت رحل
الملك بغدوين في الافرنج ونزل على ثغر صيدا وراسل أهله يلتمس منهم
تسليمه فاستمهلوه مدة عينوها فأجابهم إلى المهلة بعد أن قرر عليهم ستة
آلاف دينار تحمل إليه مقاطعةً وكانت قبل ذلك ألفي دينار ورحل عنها إلى
بيت المقدس للحج وفي هذه السنة وردت الأخبار بظهور الكرج على بلاد كنجة
وما قاربها وأكثروا العيث والفساد في نواحيها وانتهى الخبر بذلك إلى
السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن ملك شاه فانهض اليوم عسكراً وافر
العدد فأوقع بهم وشردهم وعن الفساد والعيث أبعدهم بالفتك فيهم وطردهم
ودوخ بلادهم وأخرب أعمالهم فأمن أهل بلاد كنجة من شرهم وقامت الهيبة
باهلاكهم وعاد العسكر السلطاني ظافراً غانماً
(1/269)
وفي هذه السنة وردت الأخبار بظهور قوم كافر
نزل على من صادفوه في الأعمال ووصلوا إلى جيحون فأفسدوا تلك الأعمال
وأعاثوا فيها واتصل الخبر بالسلطان المعظم أبي الحرث سنجر بن ملك شاه
سلطان خراسان فانهض إليهم أميراً كبيراً من مقدمي عساكر خراسان في عدد
دثر من الأتراك فظفر بهم وكسرهم وقتل منهم خلقاً كثيراً عائدين خاسرين
مفلولين وفي ثامن من ذي القعدة من السنة ظهر في السماء كوكب من الشرق
له ذؤابة ممتدة إلى القبلة وأقام إلى آخر ذي الحجة ثم غاب. وفيها كاتب
السلطان غياث الدنيا والدين الأمير سكمان القطبي صاحب أرمينية
وميافارقين وشرف الدين مودود صاحب الموصل يأمرهما بالمسير في العساكر
إلى جهاد الافرنج وحماية بلاد الموصل فجمعا واحتشدا ونهضا ونزلا بجزيرة
بني نمير إلى أن تكامل وصول ولاة الأطراف إليهما وخلق كثير من المتطوعة
ووصل إليهما أيضاً الأمير نجم الدين ايل غازي بن ارتق في خلق كثير من
التركمان واجتمع المسلمون في عدد لا يقوم بلقائه جميع الافرنج. واتفقت
الآراء على افتتاح الجهاد بقصد الرها ومضايقتها إلى أن يسهل الله
افتتاحها بحكم حصانتها ومنعتها. فرحلوا بأسرهم ونزلوا عليها في العشر
الثاني من شوال وأحاطوا بها من جهاتها كالنطاق ومنعوا الداخل والخارج
بالمسير إليها وكان القوت بها قليلاً فأشرف من بها على الهلاك وغلا بها
السعر وطالت مدة الحصر لها والتضييق عليها. وحين عرف الافرنج صورة هذه
الحال شرعوا في الجمع والاحتشاد والتأهب للذب عنها والاستعداد واتفقت
الكلمة بينهم على
(1/270)
هذه الحال واجتمع طنكري صاحب انطاكية وابن
صنجيل صاحب طرابلس والملك بغدوين مقدمو ولاة الأعمال. من الافرنج
وتعاهدوا وتعاقدوا على الثبات في الحرب والمصابرة واللباث، فلما استقرت
الأحوال بينهم على البينة رحلوا بأسرهم إلى ناحية الرها. واتصلت
الأخبار بظهير الدين أتابك وعرف صورة الحال فيما تقرر بينهم فسار من
دمشق في العسكر وخيم على سلمية وعرف إن الافرنج قد قصدوا في طريقهم
رفنية وفيها الأمير شمس الخواص واليها وإنهم لما نزلوا عليها ظهر إليهم
في خيله وقتل منهم جماعة ووصل إلى المخيم بسلمية واجتمع إليه خلق كثير
من الشام ووصل الخبر بحصول الافرنج على الفرات عازمين على قطعه قصد
الرها فرحل أتابك في الحال وتوجه إلى ناحية الرقة وقلعة جعبر وقطع
الفرات وتلوم هناك إلى أن عرف خبر الافرنج وإنهم قد أحجموا عن العبور
لتفرق سرايا العساكر الاسلامية وطلائعهم في سائر الجهات والمسالك إلى
الفرات ولما عرف المسلمون قرب الافرنج منهم اتفقت الآراء فيما بينهم
على الافراج لهم ليتمكنوا من لقائهم في الفضاء من شرقي الفرات ورحلوا
عن الرها في آخر ذي الحجة منها ونزلوا أرض حران على سبيل الخديعة
والمكر وكانت حران قد حصلت للأمير مودود وسلمها إلى نجم الدين ايل غازي
بن ارتق. وتوفق المسلمون عن لقاء الافرنج إلى أن يقربوا منهم ويصل
إليهم عسكر دمشق وفطن الافرنج لهذا التدبير والاتفاق عليه فخافوا
واستشعروا الهلاك والخذلان وأجفلوا ناكصين على الأعقاب إلى شاطئ الفرات
وبلغ المسلمين خبرهم فنهضوا في أثرهم وأدركهم سرعات الخيل وقد قطع
الفرات بعضهم من مقدميهم فغنم المسلمون سوادهم وأثقالهم وأتوا على
العدد الدثر من أتباعهم قتلاً وأسراً وتغريقاً في الفرات وامتلأت
الأيدي من الغنائم
(1/271)
والأسلاب والسبي والدواب. ولم يتمكن
المسلمون من قطع الفرات للحاق بهم بحكم اشتغالهم بأمر الرها والعود
إليها وكانوا قد أخرجوا منها كل ضعيف الحال ورتبوا جماعةً من الأرمن
لحفظها وحملوا إليها ما صحب العسكر الواصل من الأقوات تقويةً لها وخرج
بغدوين الرويس صاحبها عنها وتوجه صحبة الافرنج المنهزمين. وأقام عسكر
الاسلام على الفرات أياماً نازلاً بإزائهم ورحل طالباً للعود إلى
منازلة الرها وعرف ظهير الدين أتابك خبر عودهم على تلك الصفة فعاد
منكفياً إلى عمله لحمايته منهم بعد أن نفد شطراً وافراً من معسكره إلى
النازلين على الرها لمعونتهم ووصل إلى دمشق وأقام من كان أنهضه من
عسكره إلى الرها إلى أن خلت البلاد منها وأذن لهم في العود إلى أماكنهم
بعد اكرامهم والاحسان إليهم
وترددت بين أتابك ظهير الدين وبين الأمير شرف الدين مودود مراسلات أفضت
إلى استحكام المودة بينهما واتفاق الكلمة وتأكيد أسباب الألفة فطال
مقام عسكر الاسلام على الرها لامتناعها وحصانتها وقل تواصل الميرة إلى
المخيم وعدم وجودها فدعتهم الحاجة إلى العود عنها فتفرقوا بعد أن رتبوا
من يقيم على حران لحصر الرها. وحدث لنجم الدين ايل غازي ابن ارتق
استيحاش من سكمان القطبي لأمر تجدد بينهما فأجفل من حران إلى ماردين
فقبض سكمان على ابن أخيه بلك وحمله معه إلى بلده مقيداً. وبعد تفرق
العساكر اسلامية عن الرها عاد إليها بغدوين الرويس صاحبها وحصل بها
والغارات متواصلة على أطرافها. وقد كان الملك فخر الملوك رضوان صاحب
حلب لما عرف هزيمة الافرنج خرج إلى أعمال حلب
(1/272)
واستعاد ما كان غلب الافرنج عليه منها وغار
على عمل انطاكية وغنم منه غنيمةً وافرة ولما عرف خبر عودهم عاد إلى
حلب. ووصل الافرنج عقيب ذلك فأفسدوا في عمل حلب وقتلوا وأسروا خلقاً
كثيراً وعاد طنكري ونزل على الأثارب وملكها بعد طول حصرها والمضايقة
لها وذلك في جمادى الآخرة من السنة وأمن أهلها وخرج منها من أراد
الخروج وأقام من أثر المقام واستقرت الموادع بعد ذلك بين الملك فخر
الملوك رضوان وبين طنكري على أن يحمل إليه الملك من مال حلب في كل سنة
عشرين ألف دينار مقاطعةً وعشرة أرؤس خيلاً وفكاك الأسرى واستقرت على
هذه القضية وفيها وصل الملك بغدوين صاحب بيت المقدس إلى ناحية بعلبك
وعزم على العيث والافساد في ناحية البقاع وترددت المراسلة بينه وبين
ظهير الدين أتابك في هذا المعنى إلى أن تقررت الموادعة بينهما على أن
يكون الثلاث من استغلالات البقاع للافرنج والثلاثان للمسلمين والفلاحين
وكتب بيهما المواصفة بهذا الشرح في صفر من السنة ورحل عائداً إلى عمله
وقد فاز بما حصل في يده وأيدي عسكره من غنائم بعلبك والبقاع ووردت
الأخبار فيها بوصول بعض ملوك الافرنج في البحر ومعه نيف وستون مركباً
مشحونة بالرجال لقصد الحج والغزو في بلاد الاسلام فقصد بيت المقدس
وتوجه إليه بغدوين واجتمع معه وتقرر بينهما قصد البلاد الاسلامية. فلما
عادا من بيت المقدس نزلا على ثغر صيدا في ثالث شهر ربيع الآخر سنة 504
وضايقوه براً وبحراً. وكان الاسطول المصري مقيماً على ثغر صور ولم
يتمكن من انجاد صيدا فعملوا البرج وزحفوا به إليها وهو ملبس بحطب الكرم
والبسط وجلود البقر الطرية ليمنع من الحجارة والنفط وكانوا إذا أحكموه
على هذه الصورة نقلوه على بكر تركب تحته
(1/273)
في عدة أيام متفرقة فإذا كان يوم الحرب
وقرب من السور زحفوا به وفيه الماء والخل لطفي النار وآلة الحرب فلما
عاين من بصيدا هذا الأمر ضعفت نفوسهم وأشفقوا من مثل نوبة بيروت فأخرج
إليها قاضيها وجماعة من شيوخها وطلبوا من بعدوين الأمان فأجابهم إلى
ذلك وأمنهم العسكرية معهم على النفوس والأموال واطلاق من أرد الخروج
منها إلى دمشق واستحلفوه على ذلك وتوثقوا منه وخرج الوالي والزمام
وجميع الأجناد والعسكرية وخلق كثير من أهل البلد وتوجهوا إلى دمشق لعشر
بقين من جمادى ... سنة 504 وكانت مدة الحصار سبعةً وأربعين يوماً. ورتب
بغدوين الأحوال بها والحافظين لها وعاد إلى بيت المقدس ثم عاد بعد مدة
يسيرة إلى صيدا فقرر على من أقام بها نيفاً وعشرين ألف دينار فأفقرهم
واستغرق أحوالهم وصادر من علم أن له بقية منهم
سنة أربع وخمسمائة
في هذه السنة وردت الأخبار بأن جماعة من التجار المسافرين خرجت من تنيس
ودمياط ومصر ببضائع وأموال جمة كانوا قد ضجروا وملوا طول المقام وتعذر
مسير الاصطول في البحر وحملوا نفوسهم على الخطر وأقلعوا في البحر
فصادفتهم مراكب الافرنج فأخذتهم وحصل في أيديهم من الامتعة والمال ما
يزيد على مائة ألف دينار وأسروهم وعاقبوهم واشتروا أنفسهم بما بقي لهم
من الذخائر في دمشق وغيرها
(1/274)
وأما بغدوين فإنه لما عاد من صيدا قصد
عسقلان وغار عليها وكان واليها المعروف بشمس الخلافة يراسل بغدوين
فاستقرت الحال بينهما على مال يحمله إليه ويرحل عنه ويكف الأذية عن
عسقلان وكان شمس الخلافة أرغب في التجارة من المحاربة ومال إلى
الموادعة والمسالمة وإيمان السابلة وقرر على أهل صور سبعة آلاف دينار
تحمل إليه في مدة سنة وثلاثة شهور وانتهى الخبر بذلك إلى الافضل صاحب
مصر في شوال فأنكر هذه الحال وأسرها في نفسه ولم يبدها لأحد من خاصته
وجهز عسكراً كثيفاً إلى عسقلان مع وال يكون مكان شمس الخلافة. فلما قرب
من عسقلان وعرف شمس الخلافة ذاك أظهر الخلاف على الأفضل وجاهر بالعصيان
عليه وأخرج من كان عنده من العسكرية لخوفه من تدبيرهم عليه من الأفضل
لما يعلمه من الأمور التي أنكرها عليه ونقمها منه ومراسلته لبغدوين
يلتمس منه المصافاة والمعونة بالرجال والغلال وإن دهمه أمر وحزبه خطب
سلم إليه عسقلان فطلب منه العوض عنها. فلما عرف الأفضل ذلك أشفق من
تمام هذا الأمر فكاتبه بما يطيب نفسه وغالطه وأقطعه عسقلان وأقر اقطاعه
بمصر عليه وأزال الاعتراض لشيء من ماله في ديار مصر من خيل وتجارة
وأثاث وخاف شمس الخلافة من أهل البلد فاستدعى جماعةً من الأرمن فأثبتهم
في عسقلان ولم يزل على هذه الحال إلى آخر سنة 504 فأنكر أمره أهل البلد
ووثب عليه قوم من كتامة وهو راكب فجرحوه وانهزم إلى داره فتعبوه
وأجهزوا عليه ونهبوا داره وماله وتخطفوا بعض دور الشهود والعامة وانتهى
الخبر إلى صاحب السيارة فبادر إلى البلد فأطاع أمره من به وأنفذوا رأسه
إلى الأفضل إلى مصر وأنهوا جلية حاله فحسن موضع ذلك منه وموقعه وأحسن
إلى الواردين بهذه البشرى ثم تقدم بمطالبة القوم القاتلين بما نهبوه من
داره واستولوا عليه من ماله ومال أهل البلد
(1/275)
واعتقالهم وقبض جماعة من أهل البلد وحملهم
إلى مصر ولما وصلوا اعتقلوا فيها وفي هذه السنة هبت بمصر وأعمالها ريح
سوداء وطلع سحاب أسود أخذ بالأنفاس وأظلمت منه الدنيا حتى لم يبصر أحد
يده والريح تسقي الرمل في مقل الناس ووجوهم حتى يئسوا من الحياة
وأيقنوا بالبوار بهول ما عاينوه والخوف مما نزل بهم ولما تجل ذلك
السواد عاد إلى الصفرة والريح بحالها ثم انجلت الصفرة وظهرت الناس
الكواكب وظن أهل تلك الأعمال بأن القيامة قد قامت وخرج الناس من
منازلهم وأسواقهم إلى الصحراء وركدت الريح وأقلع السحاب وعاد الناس إلى
منازلهم سالمين من الأذى وكانت مدة هذه الشدة منذ صلوة العصر إلى صلاة
المغرب وفيها وصل السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن ملك شاه من همذان
إلى بغداد في جمادى الأولى منها ووردت الكتب والرسل إليه من الشام
بانهاء الحال وما جرى من الافرنج بعد عودهم عن الفرات ونوبة صيدا
والأثارب وأعمال حلب. ولما كان أول جمعة من شعبان حضر رجل من الأشراف
الهاشميين من أهل حلب وجماعة من الصوفية والتجار والفقهاء إلى جامع
السلطان ببغداد فاستغاثوا وأنزلوا الخطيب عن المنبر وكسروه وصاحوا
وبكوا لما لحق الاسلام من الافرنج وقتل الرجال وسبي النساء والأطفال
ومنعوا الناس من الصلاة والخدم والمقدمون يعدونهم عن السلطان بما
يسكنهم من انفاذ العساكر والانتصار للاسلام من الافرنج والكفار وعادوا
في الجمعة الثانية المصير إلى جامع الخليفة وفعلوا مثل ذلك من كثرة
البكاء والضجيج والاستغاثة والنحيب.
(1/276)
ووصلت عقيب ذلك الخاتون السيدة أخت السلطان
زوجة الخليفة إلى بغداد من أصفهان ومعها من التجمل والجواهر والأموال
والآلات وأصناف المراكب والدواب والأثاث وأنواع الملابس الفاخرة والخدم
والغلمان والجوار والحواشي ما لا يدركه حزر فيحصر ولا عد فيذكر واتفقت
هذه الاستغاثة فتكدر ما كان صافياً من الحال والسرور بمقدمها. وأنكر
الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين ما جرى وعزم على طلب من كان
الأصل والسبب ليوقع به المكروه فمنعه السلطان من ذلك وعذر الناس فيما
فعلوه وأوعز إلى الأمراء والمقدمين بالعود إلى أعمالهم والتأهب للمسير
إلى جهاد أعداء الله الكفار
وفي جمادى الآخرة منها وصل رسول متملك الروم بهدايا وتحف ومراسلات
مضمونها البعث على قصد الافرنج والايقاع بهم والاجتماع على طردهم من
هذه الأعمال وترك التراخي في أمرهم واستعمال الجد والاجتهاد في الفتك
بهم قبل اعضال خطبهم واستفحال شرهم ويقول أنه قد منعهم من العبور إلى
بلاد المسلمين وحاربهم فإن طمعوا فيها بحيث تتواصل عساكرهم وامدادهم
إلى البلاد الاسلامية احتاج إلى مداراتهم واطلاق عبورهم ومساعدتهم على
مقاصدهم واغراضهم للضرورات القائدة إلى ذلك ويبالغ في الحث والتحريض
على الاجتماع على حربهم وقلعهم من هذه الديار بالاتفاق عليهم
وفي هذه السنة نقض الملك بغدوين صاحب بيت المقدس الهدنة المستقر بين
أتابك وبينه وكتب إلى ابن صنجيل صاحب طرابلس يلتمس منه الوصول إليه في
عسكره ليجتمع معه في طبرية وجمع وحشد ورحل إلى ناحية بيت المقدس لتقرير
أمر كان في نفسه فحدث له في طريقه مرض أقام به أياماً ثم ابل منه
وأفاق، وقصده في حشده ناحية البثنية من حوران، وقد اطرح كل
(1/277)
من في الشام، ولم يبق في عينه منهم أمر
يحفل به من جهتهم. فنهض ظهير الدين أتابك عند معرفته قصده في عسكره
ونزل في المنزل المعروف برأس الماء ثم رحل عنه إلى اللجاة ونهض الافرنج
في أثره إلى الضمين ففرق أتابك العسكر عليهم من عدة جهات وبث في
المعابر والمسالك خيلاً يمنع من حمل المية إليهم وضايقهم مضايقةً
ألجأتهم إلى الدخول في حكم المسالمة والموادعة وترددت المراسلات في ذلك
إلى أن استقرت الحال بينهما على أن يكون لبغدوين النصف من ارتفاع جبل
عرف والسواد والجبانية مضافاً إلى ما في يده ومن هذه الأعمال التي
يليها في أيدي العرب من آل جراح وكوتب بينهما هذا الشرط ورحل كل منهما
منكفئاً إلى عمله في آخر ذي الحجة منها. وقد كان الأمر تقزر مع السلطان
غياث الدنيا والدين على انهاض العساكر عقيب تلك الاستغاثة المقدم شرحها
ببغداد والتقدم إلى الأمراء بالتأهب للمسير إلى الجهاد فتأهبوا لذلك
وكان أول من نهض منهم إلى أعمال الافرنج الأمير الاسفهسلار شرف الدين
مودود صاحب الموصل في عسكره إلى سنجتان فافتتح تل مراده وعدة حصون هناك
بالسيف والأمان
(1/278)
ووصل إليه الأمير أحمديل في عسكر كثيف
الجمع وكذلك تلاه الأمير قطب الدين سكمان القطبي من بلاد أرمينية وديار
بكر فاجتمعوا في أرض حران وكتب إليهم سلطان بن علي بن منقذ صاحب شيزر
يعلمهم نزول طنكري صاحب أنطاكية أرض شيزر وشروعه في بناء تل ابن معشر
في مقابلة شيزر وحمل الغلال إليه ويستصرخهم ويبعثهم على الوصول إلى
جهته. فحين عرفوا ذاك رحلوا إلى الشام وقطعوا الفرات في النصف من
المحرم سنة 505 ونزلوا على تل باشر في التاسع عشر من المحرم وأقاموا
عليه منتظرين وصول الأمير برسق بن برسق صاحب همذان وكان قد أمر من
السلطان بالتقدم عليهم فوصل إليهم في بعض عسكره وبه مرض من علة النقرس
وسكمان القطبي أيضاً مريض والآراء بينما مختلفة وقاتل المطوعة والسوقة
هذا الحصن ونقبوه فأنفذ جوسلين صاحب تل باشر إلى الأمير أحمديل الكردي
يلاطفه بمال وهدية ويبذل له الكون معه والميل إليه وكان أكثر العسكر مع
أحمديل وسأله الرحيل عن الحصن وينزل إليه فأجابه إلى ذلك على كراهية من
باقي الأمراء واشتد مرض سكمان القطبي وعزم أحمديل على العود طمعاً منه
في أن السلطان يقطعه بلاد سكمان وكان قد عقد بينهما وصلة وصهر فعادوا
عن تل باشر إلى حلب ونزلوا عليها وعاثوا في أعمالها وفعلوا أقبح من فعل
الافرنج في الفساد وتوقعوا خروج الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب إليهم
أو خدمه ينفذها لهم فلم يلتفت إلى أحد منهم وأغلق أبواب حلب وأخذ رهاين
أهلها إلى القلعة ورتب الجند وأحداث الباطنية والطائعين لحفظ الأسوار
ومنع الحلبيين من الصعود إلى السور وأطلق الحرامية في أخذ من يظفرون به
من أطراف العسكر.
(1/279)
وقد كان ظهير الدين أتابك عند اجتماع هؤلاء
الأمراء وعبورهم الفرات قد كاتبوه بالوصول إليهم ورد التدبير فيما
يعتمدون عليه إليه ووصل إليه كتاب السلطان بمثل هذه الحال فاقتضت
الصورة وصائب الرأي أن ينهض في العسكر نحوهم للاعتضاد على الجهاد
وتقوية النفوس على حماية هذه البلاد من أهل الشرك والالحاد وجمع من
أمكنه من رجال حمص وحماة ورفنية وسائر المعاقل الشامية وسار إليهم
ووصلهم على ظاهر حلب فتلقوه بالاكرام والمزيد في الاحترام وقويت بوصوله
النفوس واشتدت الظهور وسروا بحصوله عندهم سروراً أظهر منهم وشاع عنهم
فل ير منهم عزيمةً صادقة في جهاد ولا حماية بلاد
وأما سكمان القطبي فإنا لمرض اشتد به وأشفي منه ففصل عنهم وعاد إلى
بلده وورد الخبر بوفاته في طريقه قبل وصوله الفرات. وأما
(1/280)
برسق بن برسق فإنه كان يحمل في المحفة ولا
يتمكن من فعل ولا قول. أما أحمديل
(1/281)
فإن عزمه قوي على العود بسبب بلاد سكمان
وطمعه في اقتطاعها من السلطان فاستجرهم ظهير الدين أتابك إلى الشام
فرحلوا في آخر صفر ونزلوا معرة النعمان فأقاموا على ذلك المنهاج الأول
وامتار العسكر من عملها ما كفاهم وقصروا عن حملة من العلوفات والأقوات
وظهر لظهير الدين من سوء نية المقدمين فيه ما أوحشه منهم ونفر قلبه من
المقام بينهم وذكر له أن الملك فخر الملوك رضوان راسل بعض الأمراء في
العمل عليه والايقاع به فاتفق مع الأمير شرف الدين مودود وتأكدت
المصافاة والمعاهدة بينهما وحمل إلى بقية الأمراء ما كان صحبه من
الهدايا لهم والتحف والحصن العربية السبق والاعلاق المصرية وقوبل ذلك
منه بالاستكثار له والاستطراف والشكر والاعتراف ووفى له مودود بما بذله
وثبت على المودة وجعل أتابك يحرضهم على قصد طرابلس ويعدهم حمل ما
يحتاجون إليه من المير من دمشق وعملها وإن أدركهم الشتاء أنزلهم في
بلاده فلم يفعلوا وتفرقوا أيدي سبا وعاد برسق بن برسق وأحمديل وتبعوا
عسكر سكمان القطبي وتخلف منهم الأمير مودود مع أتابك فرحلا عن المعرة
ونزلا على العاصي
(1/282)
ولما عرف الافرنج رحيل العساكر وتفرقهم
اجتمعوا ونزلوا أفامية بأسرهم بغدوين وطنكري وابن صنجيل بعد التباين
والمنافرة والخلف وصاروا يداً واحدة وكلمةً متفقةً على الاسلام وأهله
وساروا لقصدهم فخرج سلطان بن منقذ من شيزر بنفسه وجماعته واجتمع مع
أتابك ومودود وحرضهما على الجهاد وهون عليهما أمر الافرنج فرحلوا
وقطعوا العاصي ونزلوا في قبلي شيزر وصار سوق العسكر في سوق شيزر ونزل
عسكر مودود حول شيزر وبالغ ابن منقذ وجماعته في الخدمة والمواصلة
بالميرة واصعد أتابك ومودود وخواصهما إلى حصن شيزر وباشر خدمتها بنفسه
وأسرته ونزل الافرنج شمالي تل ابن معشر ودبر أمر العسكر أحسن تدبير
وثبت الخيل من جميع جهاتهم تطرق حولهم وتجول عليهم وتمنع من الوصول
إليهم وضيقوا عليها وجلوهم عن الماء وذادوهم عن العاصي لكثرة الرماة
على شطوطه وجوانبه من قبليه فما يدنوا منه من الافرنج شخص إلا وقد قتل
وطمع الأتراك فيهم وسهل أمرهم عليهم وكانت خيل المسلمين مثل خيل
الافرنج إلا أن راجلهم أكثر وزحف الأتراك إليهم فنزلوا للحرب عن تل
كانوا عليه فهجمت الأتراك عليهم من غربيهم ونهبوا جانباً من عسكرهم
وملكوا عدة من خيامهم وأثقالهم وجالوا حولهم فعادوا إلى مكانهم الذي
كانوا به ورجعوا منه وذلك في شهر ربيع الأول. واشتد خوف الافرنج من
الأتراك وأقاموا ثلاثة أيام لا يظهر أحد منهم ولا يصل إليهم شخص وعاد
المسلمون لصلاة الجمعة في جامع شيزر فرحل الافرنج إلى أفامية ولم
ينزلوا فيها بل تعدوها وتبعهم المسلمون عند معرفة رحيلهم وتخطفوا
أطرافهم ومن ظفروا به سائراً على أثارهم وعادوا إلى شيزر ورحلوا إلى
حماة واستبشر الناس بعود الافرنج على هذه الحال
(1/283)
سنة خمس وخمسمائة
واستحكمت المودة بين ظهير الدين أتابك وبين الأمير مودود. وفي هذه
السنة جمع بغدوين الملك من أمكنه جمعه من الافرنج وقصد ثغر صور فبادر
عز الملك واليه وأهل البلد بمراسلة ظهير الدين أتابك بدمشق يستصرخون به
ويستنجدونه ويبذلون تسليم البلد إليه ويسئلونه المبادرة والتعجيل
بانفاذ عدة وافرة من الأتراك تصل إليهم سرعةً لمعونتهم وتقويتهم وإن
تأخرت المعونة عنهم قادتهم الضرورة إلى تسليمه إلى الافرنج ليأسهم من
نصرة الأفضل صاحب مصر فبادر أتابك بانفاذ جماعة وافرة من الأتراك
بالعدد الكاملة تزيد على المائتين فرساناً رماة أبطالاً فوصلت إليهم
وأتت أهل صور رجالة كثيرة من صور وجبل عاملة رغبوا في ذلك مع رجالة من
دمشق وصلوا إليهم وحصلوا عندهم وشرع أتابك في إنفاذه عدة أخرى. فحين
عرف بغدوين ما تقرر بين أتابك وأهل صور بادر النزول عليها فيمن جمعه
وحشده في اليوم الخامس وعشرين من جمادى الأولى سنة 505 وتقدم بقطع
الشجر والنخل وبنى بيوت الاقامة عليها وزحف إليها فقاتلها عدة دفعات
ويعود خاسراً لم ينل منها غرضاً وقيل أن أهل صور رشقوا في بضع أيام
مقاتلتها في يوم واحد بعشرين ألف سهم
وخرج ظهير الدين من دمشق حين عرف نزولهم على صور وخيم ببانياس وبث
سراياه ورجالة الحرامية في أعمال الافرنج وأطلق لهم النهب والقتل
والسلب والأخراب والحرق طلباً لازعاجهم وترحيلهم عنها فتدخل العدة
الثانية إلى صور فلم يتمكن من الدخول. ونهض ظهير الدين إلى الحبيس الذي
(1/284)
في السواد وهو حصن منيع لا يرام فشد القتال
عليه وملكه بالسيف قهراً وقتل من كان فيه قسراً وشرع الافرنج في عمل
برجي خشب للزحف بهما إلى سور صور وزحف ظهير الدين إليهم عدة دفعات
ليشغله بحيث يخرج عسكر صور فيحرق البرجين وعرف الافرنج قصده في ذلك
وخندقوا عليهم من جميع الجهات ورتبوا على الخندق الرجال بالسلاح لحفظه
وحفظ الأبراج ولم يحفلوا بما يفعل وما يجري على أعمالهم من الغارات
عليها والفتك بمن فيها. وهجم الشتاء فلم يضر بالافرنج لأنهم كانوا
نزولاً في أرض رملة صلبة والأتراك بالضد من ذلك قد كابدوا من مقامهم
شدةً عظيمة ومشقةً مؤلمة إلا إنهم لا يخلون من غارة وفائدة وقطع ميرة
عن الافرنج ومادة وأخذ ما يحمل إليهم وقطع الأتراك الجسر الذي كان يعبر
عليه إلى صيدا ليقطع المادة أيضاً عنها فعدلوا عند ذلك إلى استدعاء
الميرة في البحر من جميع الجهات ففطن ظهير الدين لذلك ونهض في فريق من
العسكر إلى ناحية صيدا وغار على ظاهرها فقتل جماعة من البحرية وأحرق
تقدير عشرين مركباً على الشط وهو مع ذلك لا يهمل إصدار الكتب إلى أهل
صور بتقوية قلوبهم وتحريضهم على استعمال المصابرة للافرنج والجد في
قتالهم
وتم عمل البرجين وكباشهما التي تكون فيهما في تقدير خمسة وسبعين يوماً
وشرع في تقديمهما والزحف بهما في عاشر شعبان وقربا من سور البلد واشتد
القتال عليهما وكان طول البرج الصغير منهما نيفاً وأربعين ذراعاً
والكبير يزيد على الخمسين ذراعاً. ولما كان أول شهر رمضان خرج أهل صور
من الأبراج بالنفط والحطب والقطران وآلة الحرق فلم يتمكنوا من الوصول
إلى شيء منهما فألقوا النار قريباً من البرج الصغير بحيث لم يتمكن
الافرنج من دفعها فهبت ريح وألقت النار على البرج الصغير فاحترق بعد
المحاربة الشديدة عليه والمكافحة
(1/285)
العظيمة عنه ونهب منه زرديات كثيرة وطوارق
وغير ذلك واتصلت النار بالبرج الكبير. واتصل الخبر بالمسلمين بأن
الافرنج قد هجروا حربة البلد للاشتغال بحريق البرج وانثنوا عن المقاتلة
على الأبراج وشد الافرنج عليهم وكشفوهم عن البرج واطفأوا ما علق به من
النار ورتبوا عدة وافرة من أبطالهم لحفظ البرج والمنجنيقات من جميع
الجهات وواظبوا الزحف إليها إلى آخر شهر رمضان وقربوا البرج إلى بعض
أبراج البلد وطموا الثلاثة الخنادق التي أمامه وعمد أهل البلد إلى
تعليق حائط البرج الذي بإزاء برج الافرنج وأطلقوا النار فيه فاحترق
التعليق وسقط وجه الحائط في وجه البرج فمنع من تقديمه إلى السور والزحف
به وصار الموضع الذي قصدوه قصيراً وأبراج البلد تحكم عليه وبطل تقديمه
من ذلك الوجه وكشف الافرنج الردم وجروه إلى برج آخر من أبراج البلد
ودفعوه إليه وقربوه من سور البلد وصدموا بالكباش التي فيه السور
فزعزعوه ووقع منه شيء من الحجارة وأشرف أهل البلد على الهلاك. فعمد رجل
من مقدمي البحرية عارف بالصنعة من أهل طرابلس له فهم ومعرفة بأحوال
الحرب إلى عمل كلاليب حديد لمسك الكبش إذا نطح به السور من رأسه ومن
جانبه بحبال يجذبها الرجال حتى يكاد البرج الخشب يميل من شدة جذبهم بها
فتارةً تكسره الافرنج خوفاً من البرج وتارةً يميل أو يفسد وتارةً ينكسر
بصخرتين تلقيان عليه من البلد مشدودة احداهما إلى الاخرى فعملوا عدة
(1/286)
من الكباش وهي تكسر على هذه الصفة واحداً
بعد واحد وكان طول كل واحد منها ستين ذراعاً معلقاً في البرج الخشب
بحبال في رأس كل واحد من الكباش حديد يزيد وزنه على عشرين رطلاً. فلما
طال تجديد الكباش وقربوا البرج من السور عمد هذا الرجل البحري المقدم
ذكره إلى خشبة طويلة جافية قوية أقامها في برج البلد الذي بإزاء برج
الافرنج وفي رأسها خشبة على شكل الصليب طولها أربعون ذراعاً تدور على
بكر بلولب كيف ما أراد متوليها على مثال ما يكون في الصواري البحرية
وفي طرف الخشبة التي تدور سهم حديد وفي طرفها الآخر حبال مدارة بها على
ما يريد متوليها وكان يرفع فيها جرار الكدر والنجاسة ليشغلهم بطرح ذلك
عليهم في البرج عن الكباش. وضاق الأمر بالناس وشغلهم ذلك عن أمورهم
وأشغالهم وعمد البحري المذكور إلى سلال العنب والقفاف فيجعل فيها الزيت
والقير والسراقة والقلفونية وقشر القصب ويطلق فيها النار فإذا علقت
بذلك وقع ذلك في الآلة المذكورة حتى يوازي برج الافرنج فتقع النار في
أعلى البرج فيبادروا باطفائها بالخل والماء فيبادر برفع اخرى ومع هذا
يرمي أيضاً بالزيت المغلي في قدور صغار على البرج فيعظم الوقيد. فلما
كثرت النار وحمل بعضها بعضاً وقويت قهرت الرجلين المتولين لرأس البرج
وقتل أحدهما وانهزم الآخر ونزل منه فتمكنت النار من رأسه ونزلت إلى
الطبقة الثانية من رأسه ثم إلى الوسطى وعملت في الخشب وقهرت من كان
حوله في الطبقات وعجزوا عن اطفائها وهرب كل من فيه وحوله من الافرنج
وخرج أهل صور إليه فنهبوا ما فيه وغنموا من السلاح والآلات والعدد ما
لا يحده وصف
فعند ذلك وقع يأس الافرنج منه وشرعوا في الرحيل عنه وأحرقوا البيوت
التي كانوا قد عمروها في المنزل لسكناهم وأحرقوا كثيراً من المراكب
(1/287)
التي كانت لهم على الساحل لأنهم كانوا
أخذوا صواريها وأرجلها وآلاتها للأبراج وكانت عدتهم تقدير مائتي مركب
كباراً وصغاراً منها تقدير ثلاثين مركباً حربية وحملوا في بعضها ما خف
من أثقالهم ورحلوا في العاشر من شوال من السنة وكانت مدة إقامتهم على
محاصرة صور أربعة أشهر ونصف شهر وقصدوا عكا وتفرقوا إلى أعمالهم. وخرج
أهل صور وغنموا ما ظفروا به منهم وعادت الأتراك المندوبون لاسعادهم إلى
دمشق وقد فقد منهم في الحرب نحو عشرين رجلاً وكان لهم فيها الجراية
والواجب في كل شهر. ولم يتم على برج من أبراج الافرنج في القديم
والحديث مثل ما تم على هذا البرج من إحراقه من رأسه إلى أسفله والذي
أعان على هذا هو تساوي البرجين في الارتفاع ولو طال أحدهما على الآخر
لهلك أقصرهما. وكان عدد المفقودين من أهل صور أربعمائة نفس ومن الافرنج
في الحرب أيضاً على ما حكى الحاكي العارف تقدير ألفي نفس. ولم يف أهل
صور بما كانوا بذلوه لظهير الدين أتابك من تسليم البلد إليه ولم يظهر
لهم في ذلك قولاً وقال: إنما فعلت ما فعلت لله تعالى وللمسلمين لا
لرغبة في مال ولا مملكة. فكثر الدعاء له والشكر بحسن فعله ووعدهم أنه
متى دهمهم خطب مثل هذا سارع إليه وبالغ في المعونة عليه وعاد إلى دمشق
بعد مكابدة المشقة في مقابلة الافرنج إلى أن فرج الله عن أهل صور. وشرع
أهل صور في ترميم ما شعثه الافرنج من سورها وأعادوا الخنادق إلى حالها
ورسمها بعد طمتها وحصنوا البلد وتفرق من كان فيه من الرجالة وفي الثاني
من شعبان ورد الخبر بهلاك بدران بن صنجيل صاحب
(1/288)
طرابلس بعلة لحقته وأقام ابنه في الأمر من
بعده وهو طفل صغير كفله أصحابه ودبروا أمره مع طنكري صاحب أنطاكية
وجعلوه من خيله وأقطعه انطرطوس وصافيثا ومرقية وحصن الأكراد وفي هذه
السنة حدث بمصر الوباء المفرط بحيث هلك به خلق كثير يقال تقدير ستين
ألف نفس. وفيها ورد الخبر من ناحية العراق بوصول السلطان غياث الدنيا
والدين محمد بن البي كذا إلى بغداد في جمادى الأولى منها وأقام بها مدة
ثقل فيها على أهلها وارتفع معها السعر إلى أن رحل عنها فصلحت الحال
ورخص السعر. وفيها وردت الأخبار بوصول الأمير شرف الدين مودود صاحب
الموصل في عسكره ونزوله على الرها ورعيه لزرعها في ذي القعدة منها
وأقام عليها إلى المحرم سنة 506 ورحل عنها إلى سروج ورعى زرعها وهو في
غفلة غير متحفظ من عدو يطرق ومسلم يرهق ولم يشعر إلا وجوسلين صاحب تل
باشر في خيله من الافرنج ودواب العسكر منتشرة في المرعى هجم عليها من
ناحية سروج على حين غفلة من مودود وأصحابه فقتلوا منهم جماعة فاستاقوا
أكثر كراعهم وقتل بعض المقدمين واستيقظ من كان من المسلمين غافلاً
وتأهبوا للقائه فعاد إلى حصن سروج
(1/289)
وفي هذه السنة انتقل تاج الملوك بوري بن
أتابك إلى دار الملك شمس الملوك دقاق في قلعة دمشق في المحرم منها.
وفيها ورد الخبر بوفاة قراجه الوالي بحمص بعلة طالت به وكان فيها هلاكه
وقد كان مؤثراً للظلم مشاركاً للحرامية وقطاع الطريق وأقيم في مكانه
ولده خيرخان بن قراجه تابعاً في الظلم لأفعاله ناسجاً في العدوان
والجور على منواله
سنة ست وخمسمائة
فيها اشتد خوف أهل صور من عند الافرنج إلى منازلتهم فأجمعوا أمرهم مع
عز الملك أنوشتكين الأفضلي الوالي بها على تسليمها إلى ظهير الدين
أتابك بحكم ما سبق من نصرته لهم في تلك النوبة ومعاضدته إياهم في تلك
الشدة وندبوا رسولاً وثقوا به وسكنوا إليه في الحديث مع ظهير الدين
أتابك في هذا الباب ووصل إلى بانياس وواليها الأمير سيف الدولة مسعود
فتحدث معه وسار الأمير مسعود مع الرسول إلى دمشق لتقرير الحال بمحضر
منه فصادف ظهير الدين أتابك قد توجه إلى ناحية حماة لتقرير الحال فيما
بينه وبين فخر الملوك رضوان صاحب حلب فأشفق الأمير مسعود أن يتأخر
الأمر إلى حين عود ظهير الدين من حماة فيبادر بغدوين بالنزول على صور
ويفوت الغرض المطلوب فيها فقرر مع ولده تاج الملوك بوري النائب عنه في
دمشق المصير معه إلى بانياس وانتهاز الفرصة في تسليم صور إليه فأجاب
إلى ذلك وتوجه معه إلى بانياس وتم مسعود إلى صور ومعه من يعتمد عليه من
العسكر ولم ينتظر وصول أتابك ووصل إليها وحصل بها. وانتهت الحال في ذلك
إلى أتابك فانهض فرقةً وافرة من الأتراك إلى صور تقويةً لها فوصلت
إليها وحصلت بها واستقر أمر الأتراك فيها وحمل إليها من دمشق ما أنفق
فيهم وطيب نفوس أهل البلد وأجروا
(1/290)
على الرسم في إقامة الدعوة والسكة على ما
كانت عليه لصاحب مصر ولم يغير لهم رسم وكتب ظهير الدين أتابك إلى
الأفضل بمصر يعلمه: أن بغدوين قد جمع وحشد للنزول على صور وأن أهلها
استنجدوا بي عليه والتمسوا مني دفعه عنهم فبادرت بانهاض من أثق بشهامته
لحمايتها والمراماة دونها إليه وحصلوا فيها ومتى وصل إليها من مصر من
يتولى أمرها ويذب عنها ويحميها بادرت بتسليمها إليه وخروج نوابي منها
وأنا أرجو أن لا يهمل أمرها وانفاذ الاسطول بالغلة إليها والتقوية لها.
وحين عرف بغدوين هذا الخبر رحل في الحال من بيت المقدس إلى عكا فوجد
الأمر قد فات وحصل بها الأتراك فأقام بعكا ووصل إليه من العرب
الزريقيين من بلد عسقلان رجل يعلمه أن القافلة الدمشقية قد رحلت من
بصرى إلى ديار مصر وفيها المال العظيم وأنا دليلك إليها وتطلق لي من
أسر من أهلي فنهض بغدوين من وقته عن عكا في طلب القافلة واتفق أن بعض
بني هوبر تخطف بعضها وخلصت منهم ووصلت إلى حلة بني ربيعة فمسكوها
أياماً وأطلقوها بعد ذلك وخرجت من نقب عازب وبينه وبين بيت المقدس
مسافة يومين للفارس فلما حصلت بالوادي أشرفت الافرنج عليها فهرب من كان
بها فالذي صعد منها الجبل سلم وأخذ ماله وأخذت العرب أكثر الناس فاشتمل
الافرنج على ما فيها من الأمتعة والبضائع وتتبعت العرب من أفلت منهم
فأخذوه وحصل لبغدوين منها ما يزيد على خمسين ألف دينار وثلاثمائة أسير
وعاد إلى عكا ولم يبق بلد من البلاد إلا وقد أصيب بعض تجاره في هذه
القافلة.
(1/291)
وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن
موسى البلاساغوني التركي في يوم الجمعة الثالث عشر من جمادى الآخرة
بدمشق رحمه الله وهو معزول عن قضائها ولازم منزله
وفي هذه السنة وصل ابن الملك تكش ابن السلطان البارسلان أخي السلطان
العادل ملك شاه إلى حمص هارباً من ابن عمه السلطان غياث الدنيا والدين
محمد ولم يمكنه المقام بحمص ولا حماة فتوجه إلى حلب وكان ولد فخر
الملوك رضوان صاحب حلب في الدركاه السلطانية فأشفق من المقام بحلب
فتوجه إلى طنكري صاحب أنطاكية فاستجاره فأجاره وأكرمه وأحسن إليه
واجتمع إليه جماعة من الأتراك الذين مع طنكري فأقام عنده. وخرج طنكري
من أنطاكية في أول جمادى الآخرة إلى ناحية كربيل مقدم الأرمن وكان قد
هلك طمعاً في تملك بلاده فعرض له مرض في طريقه أوجب عوده إلى أنطاكية
فاشتد به المرض فهلك في يوم الأربعاء الثامن من جمادى الآخرة وقام في
الأمر بعده ابن أخيه سرجال فتسلم أنطاكية وأعمالها واستقام له الأمر
فيها بعد أن جرى بين الافرنج خلف بسببه إلى أن أصلح بينهم القسوس وطلب
من الملك رضوان مقاطعة حلب المستقرة
(1/292)
فأجابه إلى ذلك ومبلغها عشرون ألف دينار
والخيل وطلب مقاطعة شيزر فأجاب صاحبها إليها وهي عشرة آلاف دينار.
وتواترت غارات بغدوين على عمل البثنية من أعمال دمشق وانقطعت الطريق
وقلت الأقوات بها وغلا السعر فيها وتتابعت كتب ظهير الدين أتابك إلى
الأمير شرف الدين مودود صاحب الموصل بشرح هذه الأحوال في هذه الأعمال
وبعثه على الوصول إليه للاعتضاد على دفع المردة الاضداد والفوز بفضيلة
الجهاد وكان مودود قد شنع عليه عند السلطان غياث الدنيا والدين بشناعات
من الحال لفقها الحسدة الأعداء أوجبت استيحاشه منه وبعده عنه قيل في
جملتها أنه عازم على الخلاف والعصيان وأن يده ويد أتابك قد صارت يداً
واحدة وأراؤهما متوافقة وأهواؤهما متطابقة. فما عرف ذلك سير ولده
وزوجته إلى باب السلطان بأصفهان للتنصل والاعتذار وإبطال ما رمي إليه
من المحال والتبرئ مما افتري عليه وعزي إليه والاستعطاف له والاعلام
بأنه جار على ما ألف منه على اخلاص الطاعة والعبودية والمناصحة في
الخدمة والاهتمام بالجهاد. ثم جمع عسكره من الأتراك والأكراد ومن أمكنه
وتوجه إلى الشام وقطع الفرات في ذي القعدة من السنة. فحين اتصل خبره
ببغدوين الملك قلق لذلك وانزعج لخبره. وكان جوسلين صاحب تل باشر قد
اختلف هو وخاله بغدوين الرويس صاحب الرها وصار مع بغدوين صاحب بيت
المقدس واقطعه طبرية واتفقا على أن راسل جوسلين لظهير الدين أتابك يبذل
المصافاة والمودة ويرغبه في الموادعة والمسالمة ويسلم إليه حصن ثمانين
المجاور لحصن.... وجبل عاملة ويتعوض عن ذلك بحصن الحبيس الذي في
(1/293)
السواد ونصف السواد ويضمن عن بغدوين الوفاء
بذلك والثبات على المودة والمصافاة وترك التعرض لشيء من أعمال دمشق ولا
يعرض هو لشيء من أعمال الافرنج. فلم يجب إلى ذلك ونهض من دمشق في
العسكر للقاء الأمير مودود والاجتماع به على الجهاد فاجتمعا بمرج سلمية
واتفق رأيهما عرى قصد بغدوين وصارا وقد استصحب أتابك جميع العسكر ومن
كان بحمص وحماة ورفنية ونزلا يوم عيد النحر بقدس ورحلا منها إلى عين
الجر بالبقاع ثم منها إلى وادي التيم ثم نزلا بانياس ونهضت فرقة من
العسكر فقصدت ناحية ثمانين فلم يظفر منها بمراد وعادت ووصل إليها
بغدوين وقد كان لما ينس من إجابة أتابك إلى الموادعة وأصل الغارات
والفساد في الشام إلى أن وصل عسكر السلطان إلى عمله. وبالغ أتابك فيما
حمله إلى الأمير مودود وإعظامه وإكرامه وما حمله إليه وإلى مقدمي عسكره
وخواصه من أنواع الملبوس والمأكول والمركوب ثم نهضوا معلمين على النزول
على القحوانة ووصل إلى بغدوين سرخالة صاحب أنطاكية وصاحب طرابلس
وأجمعوا رأيهم على النزول غربي جسر
(1/294)
الصنبرة ثم يقطعون إلى القحوانة للقاء
المسلمين وقد احتاطوا على أثقالهم وراء الجسر والمسلمون لا يعملون بذلك
وأنهم قد عارضوهم في المسير إلى هذا المنزل. فسبق الأتراك إلى نزولهم
في القحوانة وقطع بعد عسكر الأتراك الجسر لطلب العلوفات والزرع فصادفوا
الافرنج قد ضربوا خيامهم وقد تقدم بغدوين المسبق إلى هذا المنزل ونزل
صاحب أنطاكية وصاحب طرابلس وراءه يتبعونه إليه
ونشبت الحرب بين المتعلفة وبين الافرنج وصاح الصائح ونفر الناس وقطعوا
الجسر وهم يظنون أنه جوسلين لأنه صاحب طبرية فوقف أتابك على الجسر
وتسرع خلق كثير من العسكر إلى قطع الجسر وقطع الأمير تميراك بن
أرسلانتاش في فريق وافر من العسكر ونشبت الحرب بين الفريقين من غيرتا
هب للقاء ولا ضرب خيام ولا استقرار في منزل ولا مجال واختلط الفريقان
فمنح الله الكريم له الحمد المسلمين النصر على المشكرين بعد ثلاث كرات
فقتل فيها من الافرنج تقدير ألفي رجل من الأعيان ووجوه الأبطال
والشجعان وملكوا ما كان نصب من خيامهم والكنيسة المشهورة وأفلت بغدوين
بعد ما قبض وأخذ سلاحه وملكت دواب الرجالة وما كان لهم وغرق منهم خلق
كثير في البحيرة واختلط الدم والماء وامتنع الناس من الشرب منها أياماً
حتى صفت منه وراقت والتجأ من نجا من الافرنج إلى طبرية وأكثرهم جرحى
وذلك في يوم السبت الحادي عشر من المحرم سنة 507. وبعد انفصال الأمر
(1/295)
وصل باقي الافرنج أصحاب طنكري وابن صنجيل
فلأمره على التسرع وفندوا رأيه ونصبوا ما كان سلم من خيامهم على طبرية
وفي غد يوم الوقعة نهض فريق من عسكر الأتراك إلى ناحية طبرية وأشرفوا
على الافرنج بناحية طبرية وعزموا على النزول إليهم والايقاع بهم فخافهم
الافرنج وأيقنوا بالهلاك وأقام الأتراك على الجبل عامة نهارهم وانكفوا
إلى معسكرهم وطلع الافرنج إلى الجبل وتحصنوا به لصعوبة مرتقاه وهو من
غربي طبرية والماء ممتنع على من يكون فيه فعزم المسلمون على الصعود
إليه مواقعتهم واستدعى أتابك العرب الطائيين والكلابيين والخفاجيين
فوصلوا في خلق كثير بالمزادات والروايا والابل لحمل الماء وصعدت
الطلائع إلى الجبل من شماله وعرفوا أن هذا الجبل لا يمكن الحرب فيه
لصعوبته على الفارس والراجل. وعلم المسلمون أن الظفر قد لاحت دلائله
واماراته والعدو قد ذل وانخزل وفل وانخذل وسرايا الاسلام قد بلغت في
النهيض إلى أرض بيت المقدس ويافا وأخربت أعمالهم ودوختها واستاقت
عواملها ومواشيه وغنمت ما وجدته فيها فانثنى الرأي عن الصعود ودامت
الحال على هذه القضية إلى آخر صفر وعقيب هذه النوبة وصل من حلب من عسكر
الملك فخر الملوك رضوان مائة فارس على سبيل المعونة خلاف ما كان قرره
وبذله فأنكر ظهير الدين أتابك وشرف الدين مودود ذلك منه وأبطلا العمل
بما كانا عزما عليه من الميل إليه وإقامة الخطبة له وذلك في أول شهر
ربيع الأول سنة 507 وسيرا رسولاً إلى السلطان غياث الدنيا والدين إلى
مدينة أصفهان بالبشارة بهذا الفتح ومعه جماعة من أسارى الافرنج ورؤسهم
وخيولهم وطوارقهم ومضاربهم وأنواع سلاحهم
(1/296)
ثم إن العسكر رحل من المنزل إلى وادي
المقتول ونزل الافرنج عند ذلك عن الجبل إلى منزلهم والتجأوا إلى جبل في
المنزل وتواصلت إليهم ميرهم وازوادهم وأمدادهم من أعمالهم فعاد إليهم
عسكر الأتراك من منزلهم جرائد في بضع عشرة كردوساً ولزموا ذلك أياماً
يرومون أن يخرجوا إليهم فلم يظهروا للحرب ولازم بعضهم بعضاً الفارس
والراجل في مكان واحد لا يظهر منهم شخص وجعل الأتراك يحملون عليهم
فيصيبون منهم بالنشاب ما يقرب منهم ويمنعون الميرة والعلوفة عنهم وقد
أحدقوا بهم كالنطاق وهالة بدر الآفاق فاشتد الأمر بهم فرحلوا عن منزلة
في ثلاثة أيام تقدير فرسخ عائدين. فلما كان الليل قصدوا الجبل الذي
كانوا أولاً عليه ملتجئين إليه ومحتمين به وواظب المسلمون قصدهم
والتلهف على ما يفوت منهم ومن غنائمهم بالاستمرار على الاحجام عن
ظهورهم على أن مقدمي العسكر يمنعونهم من التسرع إليهم والاقدام في
منزلهم عليهم ويعدونهم بفرصة تنتهز فيهم. فطال أمد المقام وضاقت صدور
أصحاب مودود لبعد ديارهم وتأخر عودهم وتعذر أوطارهم فتفرق أكثرهم
وعادوا إلى بلادهم فاستأذن آخرون في العود فأذن لهم وعزم مودود على
المقام بالشام والقرب من العدو ينتظر ما يصله من الأمر السلطاني
والجواب عما أنهاه وطالع به فيعمل بحسبه. ولم يبق في بلاد الافرنج مسلم
إلا وأنفذ يلتمس الأمان من أتابك وتقرير حاله ووصل إليه بعض ارتفاع
نابلس ونهبت بيسان ولم يبق بين عكا والقدس ضيعة عامرة والافرنج على
حالهم في التضييق عليهم والحصر لهم على الجبل. واقتضى الرأي عود أتابك
ومودود فعادا إلى دمشق في الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 507
ونزل مودود في حجرة
(1/297)
الميدان الأخضر وبالغ أتابك في إكرامه
واحترامه وإعظامه بما يجد إليه السبيل وتأكدت المودة بينهما والمصافاة
وتولى خدمته بنفسه وخاصته وواصلا صلاة الجمعة جميعاً في مسجد الجامع
بدمشق والتبرك بنظر المصحف الكريم الذي كان حمله عثمان بن عفان رضي
الله عنه من المدينة إلى طبرية وحمله أتابك من طبرية إلى جامع دمشق
سنة سبع وخمسمائة
قد ذكرنا ما ذكرناه من الحوادث في سنة 506 وسياقة الأمر إلى أوائل سنة
507 رغبةً في صلة الحديث ورغبةً عن قطعه. ولما كان يوم الجمعة الأخيرة
من شهر ربيع الآخر سنة 507 دخل الأمير مودود من مخيمه بمرج باب الحديد
إلى الجامع على رسمه ومعه أتابك فلما قضيت الصلاة وتنفل بعضها مودود
وعادا جميعاً وأتابك أمامه على سبيل الاكرام له وحولهما من الديلم
والخراسانية والأحداث والسلاحية بأنواع السلاح من الصوارم المرهفة
والصمصامات الماضية والنواحل المختلفة والخناجر المجردة ما شاكل الأجمة
المشتبكة والغيضة الآشبة والناس حولهما لمشاهدة زيهما وكبر شأنهما فلما
حصلا في صحن الجامع وثب رجل من بين الناس لا يؤبه له ولا يحفل به فقرب
من الأمير مودود كأنه يدعو له ويتصدق منه فقبض ببند قبائه بسرعة وضربه
بخنجره أسف سرته ضربتين إحداهما نفذت إلى خاصرته والأخرى إلى فخذه هذا
والسيوف تأخذه من كل جهة وضرب بكل سلاح وقطع رأسه ليعرف شخصه فما عرف
وأضرمت له نار فألقي فيها. وعدا أتابك خطوات وقت الكائنة وأحاط به
أصحابه ومودود متماسك يمشي إلى أن قرب من الباب
(1/298)
الشمالي من الجامع ووقع فحمل إلى الدار
الأتابكية وأتابك معه ماش واضطرب الناس اضطراباً شديداً وماجوا
واختلفوا ثم سكنوا بمشاهدتهم له يمشي وظنوا به السلامة وأحضر الجرائحي
فخاط البعض وتوفي رحمه الله بعد ساعات يسيرة في اليوم المذكور فقلق
أتابك لوفاته على هذه القضية وتزايد حزنه وأسفه وانزعاجه وكذلك سائر
الأجناد والرعية وتألموا لمصابه وزاد التأسف والتلهف عليه وكفن ودفن
وقت صلاة العصر من اليوم في مشهد داخل باب الفراديس من دمشق وكل عين
تشاهده باكية والمدامع على الوجنات جارية. وشرع أصحابه في التأهب للعود
إلى أماكنهم من الموصل وغيرها من البلاد وتقدم أتابك بإطلاق ما
يستدعونه لسفرهم واستصحبوا معهم أثقاله وجواهره وماله
وقد كانت سيرته في ولايته حائرةً وطريقته في رعية الموصل غير حميدة
وهرب خلق كثير من ولايته لجوره فلما بلغه تغير نية السلطان فيه عاد عن
تلك الطريقة وحسنت أفعاله وظهر عدله وانصافه واستأنف ضد ما عرف منه
وسمع عنه ولزم التدين والصدقات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المكروه فشاعت بالجميل أخباره وبحسن الارتضاء آثاره ثم توفي سعيداً
مقتولاً شهيداً ولم يزل مدفوناً في ذلك المشهد مخدوم القبر بالقومة
والقراءة إلى آخر شهر رمضان من السنة ووصل من عند ولده وزوجته من حمل
تابوته إليهما
(1/299)
وفي هذه السنة ورد الخبر من بغداد بوفاة
الفقيه الامام أبي بكر محمد بن أحمد الشاشي رحمه الله ببغداد يوم السبت
الخامس والعشرين من شوال منها وقد انتهت الرئاسة إليه على أصحاب
الشافعي ودفن في تربة شيخه أبي إسحق الشيرازي رحمه الله قد تقدم من ذكر
ما كان من نوبة صور وانتقال ولايتها إلى ظهير الدين أتابك واستنابته
مسعوداً في حفظها وحمايتها وتدبير أمرها وانفاذ رسوله إلى الأفضل بشرح
حالها ولم يزل الرسول المسير إلى مصر مقيماً بها إلى ذي الحجة من سنة
506 وظهر للأفضل صورة الحال فيها وجلية الأمر بها وأعاد الرسول بالجواب
الجميل وإن: هذا أمر وقع منا أجمل موقع وأحسن موضع واستصواب رأي ظهير
الدين فيما اعتمده وإحماد ما قصده. وتقدم بتجهيز الاسطول إليها بالغلة
والميرة ومال النفقة في الأجناد والعسكرية وما يباع على الرعية من
الغلات ووصل الاسطول بذلك إلى صور ومقدمه شرف الدولة بدر بن أبي الطيب
الدمشقي الوالي كان بطرابلس عند تملك الافرنج لها في آخر صفر سنة 507
بكل ما يحتاج إليه فرخصت الأسعار بها وحسنت حالها واستقام أمرها وزال
طمع الافرنج فيها. ووصل في جملته خلع فاخرة من طرف مصر رسم ظهير الدين
وولده تاج الملوك بوري وخواصه ولمسعود الوالي المستناب بها وأقام
الاسطول عليها إلى أن استقام الريح له فأقلع عنها في العشر الأخير من
شهر ربيع الأول منها. وأرسل بغدوين الملك إلى الأمير مسعود واليها
يلتمس منه المهادنة والموادعة والمسالمة لتحسم أسباب الأذية عن
الجانبين فأجابه إلى ذلك
(1/300)
وانعقد الأمر بينهما على السداد واستقامت
الأحوال على المراد وأمنت السابلة للمترددين والتجار والسفار الواردين
من جميع الأقطار وتوفي رحمه الله في عاشر شوال سنة 507 وقد كان صاحب
أنطاكية لما فصل عن الملك بغدوين بعسكره عائداً إلى أنطاكية فسح عنه
ولد الملك تكش بن السلطان البارسلان وقصد صور وأنفذ إلى ظهير الدين
أتابك في الوصول إلى دمشق فأجابه بالاعتذار الجميل والاحتجاج المقبول
ودفعه أحسن دفع فلما أيسه توجه إلى مصر ولقي من الأفضل ما أحب من
الإكرام والمزيد من الاحترام والانعام واطلاق ما يعود إليه بصالح الحال
وتحقيق الآمال
وفي جمادى الآخرة وردت الأخبار من ناحية حلب بمرض عرض للملك فخر الملوك
رضوان صاحبها وأنه أقام به واشتد عليه وتوفي رحمه الله في الثامن
والعشرين من الشهر فاضطرب أمر حلب لوفاته وتأسف أصحابه لفقده وقيل أنه
خلف في خزانته من العين والعروض والآلات والأواني تقدير ستمائة ألف
دينار وتقرر الأمر بعده لولده البارسلان وعمره ست عشرة سنة وفي كلامه
حبسة وتمتمة وأمه بنت الأمير ياغي سيان صاحب أنطاكية وقبض على جماعة من
خواص أبيه فقتل بعضاً وأخذ مال بعض ودبر الأمر معه خادم أبيه لؤلؤ
فأساء كل واحد منهما التدبير وقبض على أخويه ملك شاه من أمه وأبيه
ومبارك من أبيه وجارية وقتلهما. وقد كان أبوه الملك رضوان في مبدأ أمره
فعل مثل فعله بقتل أخويه من تاج الدولة أبي طالب وبهرام شاه وكانا على
غاية من حسن الصورة فلما توفي كان ما فعل بولديه مكافأة عما اعتمده في
أخويه.
(1/301)
وكان أمر الباطنية قد قوي بحلب واشتدت
شوكتهم بها وخاف ابن بديع رئيس الأحداث بحلب وأعيان البلد منهم لكثرتهم
وشد بعضهم من بعض وحماية من يلجأ إليهم منهم لكثرتهم وكان الحكيم
المنجم وأبو طاهر الصائغ أول من أظهر هذا المذهب الخبيث بالشام في أيام
الملك رضوان واستمالا إليه بالخدع والمحالات ومال إليهم خلق كثير من
الاسماعيلية بسرمين والجور وجبل السماق وبني عليم فشرع ابن بديع رئيس
حلب في الحديث مع الملك البارسلان بن رضوان في أمرهم وقرر الأمر معه
على الايقاع بهم والنكاية فيهم فقبض على أبي ظاهر الصائغ وعلى كل من
دخل في هذا المذهب وهو زهاء مائتي نفس وقتل في الحال أبو طاهر الصائغ
واسمعيل الداعي وأخو الحكيم المنجم والأعيان المشار إليهم منهم وحبس
الباقون واستصفيت أموالهم وشفع في بعضهم فمنهم من أطلق ومنهم من رمي من
أعلى القلعة ومنهم من قتل وهرب جماعة أفلتوا إلى الافرنج وتفرقوا في
البلاد ودعت الملك البارسلان الحاجة إلى من يدبر أمره ويثقف أوده فوقع
اختياره على ظهير الدين أتابك صاحب دمشق فراسله في ذلك وألقى مقاليده
إليه واعتمد في صلاح أحواله عليه وسأله الوصول إلى حلب والنظر في
مصالحها وأوجبت الصورة أن خرج الملك نفسه في خواصه وقصد أتابك في دمشق
ليجتمع معه ويؤكد الأمر بينه وبينه فوصل إليه في النصف من شهر رمضان من
السنة فلقيه أتابك بما يجب لمثله من تعظيم مقدمه واجلال محله وأدخله
إلى قلعة دمشق وأجلسه في دست عمه شمس الملوك
(1/302)
دقاق بن تاج الدولة وقام هو والخواص في
خدمته وحمل إليه ما أمكن حمله من تحف وألطاف تصلح لمثله وكذلك لجميع من
وصل في صحبته وأقام أياماً على هذه الحال وتوجه عائداً إلى حلب في أوال
شوال من السنة ومعه ظهير الدين أتابك في أكثر عسكره ووصل إلى حلب وأقام
أياماً. وأشار عليه قوم من أصحابه بالقبض على جماعة من أعيان عسكره
وعلى وزيره أبي الفضل بن الموصول وكان حميد الطريقة مشهوراً بفعل الخير
وتجنب الشر ففعل ذلك واستخلص ظهير الدين أتابك من جملتهم الأمير
كمشتكين البعلبكي مقدم عسكره وخالف ما في نفس أتابك من صائب الرأي
ومحمود التدبير فحين شاهد الأمر على غير السداد والصواب وبان له فساد
التدبير واختلاف التقدير رأى أن الانكفاء إلى دمشق أصوب ما قصد وأحسن
ما اعتمد وفي صحبته والدة الملك رضوان لرغبتها في ذلك وايثارها له.
ولما حصل في دمشق اتصلت المراسلة بينه وبين بغدوين ملك الافرنج في
ايقاع المهادنة والموادعة والمسالمة لتعمر الأعمال بعد الأخراب وتأمن
السوابل من شر المفسدين والخراب فاستقرت هذه الحال بينهما واستحلف كل
واحد منهما صاحبه على الثبات والوفاء واخلاص المودة والصفاء وأمنت
المسالك والأعمال وصلحت الأحوال وتوفر الاستغلال
وفي هذه السنة ورد الخبر من شيزر بأن جماعة من الباطنية من أهل أفامية
وسمين ومعرة النعمان ومعرة نصرين في فصح النصارى وثبوا في حصن شيزر على
غفلة من أهله في مائة راجل فملكوه وأخرجوا جماعةً وأغلقوا باب الحصن
وصعدوا إلى القلعة فملكوها وأبراجها وكان بنو منقذ أصحابها قد خرجوا
لمشاهدة عيد النصارى وكان هذا أمر قد
(1/303)
رتب في المدة الطويلة وقد كانوا أحسنوا إلى هؤلاء المقدمين على الفساد
كل الاحسان فبادر أهل شيزر قبل وصولهم إلى الباشورة ورفع الحرم بالحبال
من الطاقات وصاروا معهم وأدركهم الأمراء بنو منقذ أصحاب الحصن وصعدوا
إليهم وكبروا عليهم وقاتلوهم حتى الجأوهم إلى القلعة فخذلوا وذلوا
وهجموا إليهم وتكاثروا عليهم وتحكمت سيوفهم فيهم فقتلوهم بأسرهم وقتل
كل من كان على رأيهم في البلد من الباطنية ووقع التحرز من مثل هذه
الحال |