تاريخ دمشق لابن القلانسي
سنة ثمان وخمسمائة
في هذه السنة ورد الخبر من ناحية حلب بأن بابا المعروف بلؤلوء الخادم
أتابك الملك تاج الدولة البارسلان ولد الملك رضوان صاحب حلب عمل عليه
وواطأ جماعةً من أصحابه على الايقاع به والفتك به عند وجود الفرصة
متسهلة فيه فحين لاحت لهم وثبوا عليه فقتلوه في داره بقلعة حلب واضطرب
الأمر بعده وقد كان تدبيره لنفسه وعسكريته ورعيته ستيئاً فاسداً لا
يرجى له صلاح ولا اصلاح فمضى لسبيله غير مأسوف عليه ولا محزون لفقده.
(1/304)
وفيها توفي الشريف نسيب الدولة أبو القسم
علي بن إبراهيم بن العباس بن الحسن الحسيني رحمه الله في ليلة الأحد
الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر ودفن بعد صلاة الظهر في التربة
الفخرية بدمشق. وفي هذه السنة حدثت بالشام زلزلة عظيمة ارتجت لها الأرض
وأشفق الناس وسكنت فسكنت لها النفوس بعد الوجيب والقلق وقرت القلوب بعد
الانزعاج والفرق وفي هذه السنة نزل الأمير نجم الدين ايل غازي بن ارتق
على حمص وفيها خيرخان ابن قراجا وكان عادة نجم الدين إذا شرب الخمر
وتمكن منه أقام منه عدة أيام مخموراً لا يفيق لتدبير ولا يستأمر في أمر
ولا تقرير وقد عرف خيرخان منه هذه العادة المستبشعة والغفلة المستبدعة
فحين عرف إنه على تلك القضية خرج من قلعة حمص في رجاله وكبسه في مخيمه
وانتهز الفرصة فيه وقبض عليه وحمله إلى حمص وذلك في شعبان منها وضاق
صدر ظهير الدين أتابك لما انتهى الخبر بذلك إليه وكاتب خيرخان بالانكار
عليه والأكبار لما أجرى عليه وتغيرت نيته فيه وأقام أياماً في اعتقاله
إلى أن أطلقه وخلى سبيله وفيها وردت الأخبار من ناحية الافرنج بهلاك
ملكهم بغدوين بعلة هجمت عليه مع انتقاض جرح كان أصابه في الوقعة
الكائنة بينه وبين المصريين فهلك بها وقام مقامه من بعده من أرتضي به.
(1/305)
وفيها توفي الشيخ أبو الوحش سبيع بن مسلم
الضرير المعروف بابن قيراط المقري المجود بالسبغة رحمه الله في يوم
السبت الحادي عشر من شعبان منها ودفن بباب الصغير بين قبور الشهداء رضي
الله عنهم وكان ملازماً لجامع دمشق يقرأ إلى أن توفي على حسن طريقه
سنة تسع وخمسمائة
في هذه السنة قويت شوكة الافرنج في رفنية وبالغوا في تحصينها وتشحنها
بالرجال وشرعوا في الفساد والتناهي في العناد فصرف ظهير الدين همه إلى
الكشف عن أحوالهم والبحث عن مقاصدهم في أعمالهم وترقب الفرصة فيهم
ومعرفة الغرة منهم وتقدم إلى وجوه العسكر ومقدميه بالتأهب والاستعداد
لقصد بعض الجهات لاحراز فضيلة الجهاد والنهوض لأمر من المهمات ثم أسرى
إليهم مغذاً حتى أدركهم وهم في مجاثمهم غارون وفي أماكنهم لاهون قارون
فلم يشعروا إلا والبلاء قد أحاط بهم من جميع جهاتهم فهجمت الأتراك
عليهم البلد فملكوه وحصل كل من كان فيه في قبضة الأسر وربقة الذل
والقهر فقتل من قتل وأسر من أسر وغنم المسلمون من سوادهم وكراعهم
وأثاثهم ما امتلأت به الأيدي وسرت به النفوس وقويت بمثله القلوب وذلك
في يوم الخميس لليلة خلت من جمادى الآخرة من السنة وانكفأ المسلمون إلى
دمشق ظافرين مسرورين غانمين لم يفقد منهم بشر ولا عدم شخص ومعهم الأسرى
ورؤوس القتلى فأطيف بهم في البلد بحيث تضاعف بمشاهدتهم السرور وانشرحت
الصدور وقويت من الجند في الجهاد والغزو الظهور.
(1/306)
ولما شاع ذكر ظهير الدين أتابك في الأعمال
العراقية والدركاه السلطانية بما أعطاه الله من شدة البأس في محاربة
الافرنج الأرجاس ومنحه من النصر عليهم والنكاية فيهم والذب عن أهل
الشام ومراماته دونهم ومحاماته عنهم واحسان السيرة فيهم بحيث دعي له في
محافل الرعايا والتجار وشكر بين الرفق من سفار الأقطار فحسده قوم من
مقدمي الدركاه السلطانية الغياثية وراموا القدح فيه والطعن عليه طلباً
لافساد حاله واعتماداً لعكس أماله وحطاً لرتبته بالحضرة السلطانية
وتشعيث الآراء الجميلة الغياثية وظهر الأمر بذاك وانتشر وشاع من كل صوب
واشتهر وكتب إليه بذلك من يؤثر صلاحه من الأصدقاء ويشفق عليه فأحدث ذاك
له استيحاشاً دعاه إلى التأهب والاستعداد لتوجه ركابه إلى الباب
الأمامي المستظهري والباب السلطاني الغياثي بمدينة السلام بغداد
للمتولي بهما والخدمة لهما والتقرب بالسعي إليهما وإنهاء حاله إليهما
وإزالة ما وقع في النفوس كأنه بالقدوم عليهما. وأشير عليه بترك ذلك
وإهماله وحذر منه وبعث على إغفاله فلم يصح إلى هذا المقال ولا أعاد على
أحد جواب سؤال بل تأهب للمسير وبالغ في الجد فيه والتشمير وأعد ما
يصحبه من أنواع التحف المستحسنة من أواني البلور والمصاغ وأجناس الثياب
المصرية والخيول السبق العربية مما يصلح أن يتقرب بمثله إلى تلك
المناصب العلية وسار في خواصه وأهل ثقته من غلمانه في يوم الأحد لست
بقين من ذي القعدة من السنة
فلما قرب من بغداد وأنهي خبر وصوله تلقاه من خواص الدار العزيزة
النبوية المستظهرية والدركاه السلطانية الغياثية ووجوه الدولة وأعيان
الرعية من بالغ في إكرامه وتناهى في احترامه وقوبل من ذاك وما زاد في
مسرة أوليائه وألفت في أعضاد حساده وأعدائه وأوضح حاله فيما قصد لأجله
فما سمع إلا ما عاد ببسط عذره وإحماد فعله وإطراء أمره وتطييب نفسه
وإبعاد
(1/307)
استيحاشه وتأكيد أنسه. وحين عزم على
الانكفاء إلى دمشق وأذن له في ذلك شرف بالخلع السنية والكرامات الهنية
وكتب له المنشور العالي السلطاني الغياثي بولاية الشام حرباً وخراجاً
واطلاق يده في ارتفاعه على ايثاره واختياره بانشاء الطغرائي أبي إسمعيل
الأصفهاني وهو إذ ذاك فريد زمانه في الكتابة والبلاغة ووحيد عصره في
الآداب والبراعة وقد أثبت نسخته في هذا المكان ليعرف الواقف عليه فضل
منشئه وعلو مرتبة من كتب له وأحسن وصفه فيه وهو: بسم الله الرحمن
الرحيم: هذا منشور أمر بانشائه السلطان المعظم غياث الدنيا والدين أطال
الله بقاءه وأعز أولياءه ونصر لواءه للأمير الاصفهسلار الأجل الكبير
ظهير الدين أتابك أدام الله تأييده لما بان تمسكه من الطاعة بأحكم
علائقها واعتصامه من الخدمة بأوكد وثائقها وانتهاجه من المشايعة أقوم
مسالكها واعتماده أفضل طرائقها وأجلت التجارب منه عين الناصح الأريب
والمهذب اللبيب المتدرج في مراقي الرتب السنية بالمساعي الرضية والمحرز
أحاظي القرب الخطيرة بالآثار الشهيرة المشهورة موافقة في قود الجماهير
العظام والذب عن حوزة الاسلام والتجرد لمظافرة الأولياء ومقارعة
الأعداء والاستقلال بمضلعات الأعباء الجامع إلى خصائص هذه الأسباب
والالمام بخدمة الأبواب والتحقق بزمر الحشم والأصحاب المستقل بنصحه
المنخول بولائه المقبول ووسائله المشفوعة توالدها بالطوارف وشوافعه
المنصورة سوالفها بالأوانف أن يزاد في الانافة بقدره والاشادة بذكره
ويستخلص
(1/308)
تخلية صدره بتفخيم أمره وتجدد الصنيعة عنده
بما يكون لواجب حقوقه قضاءً ولمصالح مساعيه كفاءً ولمحله المرموق
لائقاً ولموضعه من الدولة مضاهياً مطابقاً فرأيناه أحق من أفيضت عليه
ملابس الانعام وحبي من الكرامة بأوفر الأقسام ورفع من مراتب الاجتباء
والاختصاص إلى الذروة والسنام ورشح لكفاية المهام وتدبير الأمور الجسام
وأوطئ عقبة الكماة الأنجاد ورد إلى ايالته الأمصار والأجناد رسمنا أن
نجدد له هذا المنشور بإمارة الشام ونقرر عليه جميع ما دلت عليه
المناشير المنشأة المتضمنة لأسامي البلاد الموجبة له صارة رسمه معما
يجري معها ويضاف إليها من النواحي والضياع والحصون والقلاع حسبن ما
أورد ذكره مفصلاً في هذا المثال وجعلناها نعمةً مصونةً من الارتجاع
وطعمةً محميةً من الانتزاع قلدناه في عامة تلك البقاع أعمال الحرب
والمعاون والأحداث والأخرجة والأعشار وسائر وجوه الجبايات والعروض
والاعطاء والنفقة في الأولياء والمظالم والأحكام وسائر المستظهر عليه
بنظر الولاة الكفاة والنصحاء الثقاة رعايةً لحقوقه اللازمة ومحافظةً
على أذمته المتقادمة وثقةً منه باستدامة النعمة وارتباطها بالتوفر على
شرائط الخدمة واستدعاء مزيد الاحسان واستيفاء عوائد الاصطناع بدوام
النصح وفضل الاستقلال والاضطلاع والله تعالى يجرينا على أحسن عوائده
بإصابة شاكلة الصواب في اختيار الأولياء ويلهمنا المرشد في مرامي
الأفكار ومواقع الآراء. ولا يخلينا في اصطفاء من يصطفيه واجتباء من
يجتبيه من مساوقة التوفيق لما نرتاده ونرتنيه أمرناه بتقوى الله وطاعته
واستشعار خيفته ومراقبته والالتجاء منها إلى الحصن الأمنع والظل الأمتع
والاستظهار منها بالذخر الأتقى
(1/309)
والحرز الأوقى والاحتراس من هواجس الهواء
باعتلاق عروتها الوثقى وادراع شعارها الأتقى، قال الله تعالى: " يا
أَيُّها الذينَ آمنوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكمْ فُرقاناً
وَيُكَفِّر عَنكُمْ سَيَآتِكُمْ وَيَغفِرْ لَكمْ وَأللهُ ذو الفضلِ
العظيم ". وأمرناه أن يسير فيمن قبله من الأولياء والحشم أجمل سيرة
ويحملهم بحسن السياسة على أفضل وثيرة ويسلكهم مسلكاً وسطاً بين اللين
والخشونة والسهول والوعورة ويشعر قلوبهم من الهيبة ما يقبض المتبسط
ويردع المتسلط ويرد غرب الجامح ويقيم صعر الجانح ويخص منهم ذوي الرأي
والحنكة والثبات والمسكة بالمشاورة
والمباحثة ويستخلص نخائل صدورهم عند طروق الحوادث بالمفاوضة والمنافثة
ويستعين بثمار ألبابهم ونتائج أفكارهم على دفاع الملم وكفاية المهم
ويتناول سفهاءهم وذوي العيث والفساد منهم بالتقويم والتهذيب والتعريك
والتأديب ويردهم عن غلوائهم بالقول ما كفى وأحرز النصح ما أجدى وأغنى
ومن زاده الأناة والحلم والاحتمال والكظم تمادياً في العدوان وتتابعاً
في الطغيان عركه عرك الأديم وتجاوز به حد التقويم إلى التحطيم متيقناً
إن إعطاء كل طبقة ممن تشمله رعايته وتكنفه إيالته حقها من قوانين
السياسة إرهاقاً لبصيرة القارح المتمسك وكفاً لغرب الحرج المتهالك. قال
الله تعالى: " وَإِمَّا تخافنَّ مِنْ قومٍ خِيانَةً فأنْبِذْ إِلَيهِم
على سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحبُّ الخائنينَ " وأمرناه أن يوكل بأمر
الثغور المتاخمة لأعماله والمصاقبة لبلاده عيناً كالئةً وأذناً واعيةً
وهمةً للصغير والكبير في مصالحها مراعية فيشحنها بذوي البأس والنجدة
المذكورين بالبسالة والشدة المعروفين بالصريمة والغناء
(1/310)
والصبر عند اللقاء والبصيرة بمكابدة
الأعداء ويستظهر لهم باستنجادة الأسلحة والآلات والاستكثار من المير
والأقوات ويناوب بينهم في مقارهم مناوبةً تجم المكدود وتريح المجهود
وتدر عليهم الأرزاق عند الوجوب والاستحقاق ليقوم أودهم ويقل لددهم
ويحسن طاعتهم وتلين مقادتهم ويكثف عددهم وعدتهم ويشتد على الأعداء
شوكتهم ويغيظ الكفاء وربهم وشازبهم. قال الله تعالى: " وأَعدُّوا لهم
ما استطعتم من قوَّةٍ ومِنْ رباطِ الخيلِ تُرْهبونَ بِه عَدُوَّ اللهِ
وعدُوَّكمْ " وأمرنا أن يأخذ نفسه وأصحابه بالثبات والصبر عند قراع
السيوف بالسيوف وذلوق الزحوف بالحروف ويرخصوا أنفسهم في ابتغاء مرضاه
والذب عن حوزة الدين والمحاماة عن بيضة الاسلام والمسلمين ويحتاط مع
ذلك لنفسه وأصحابه ولا يقدم بهم على غرر ولا يفسح لهم في ركوب خطر إلا
بعد الأخذ بالحزم واستعمال الرفق في الحذر ويكون أقدامهم على بصيرة
تامة لا تقتحم معها غرة ولا تضاع فرصة ولا يحجمون إذا أحمر الناس واشتد
المراس عن تورد المعركة ولا يلقون بأنفسهم إذا حمي الوطيس والتقى
الخميس بالخميس إلى التهلكة. قال الله جل وعلا: " وجاهِدوا في اللهِ
حقَّ جِهادِهِ " وأمرناه أن يصل جناح ضمانه بالوفاء ويشد أركان عهده
بالثبات ويصون ذمته عما يحفزها ويشفق عليها مما يحيلها ويغيرها ويذهب
مع دواعي الصدق ويصير على تكاليف الحق ولا يروع لهم سرباً أمنه ولا
ينقض شرطاً ضمنه ولا ينكث عهداً أبرمه ولا يخلف وعداً أقدمه ولا يتجافى
عمن يلوذ بعقوته ولا يأبى قبول السلم ممن اتقى بصفحته. قال
(1/311)
الله تعالى: " وأَوفوا بالعهدِ إِنَّ
العهدِ كانَ مسؤولاً ". وقال جل من قائل: " وَإِنْ جَنحوا المسَّلْمِ
فاجنحْ لها " وأمرناه أن يعم رعاياة القارة والمارة بالأمن العائد
عليهم بسكون الجأش وسعة المعاش ويحوطهم في متوجهاتهم ومتصرفاتهم حياطةً
تكنفهم من جميع جهاتهم ويحمي نفوسهم وذراريهم وأموالهم ومعائشهم حمايةً
ترد كيد الظالم وتقبض يد الغارم وتخرج ذوي الريب من مظانهم وتحول بينهم
وبين عدوانهم وتجري حكم الله فيهم وتقيم حده على من سفك فيهم دماء
وانتهك محرماً أو أظهر شقاقاً وعناداً أو سعى في الأرض فساد. قال الله
تعالى: " إِنَّما جَزَاءُ الَّذينَ يُحارِبونَ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعُونَ في الأَرضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلوا أَو يُصْلَبُوا أَو
يُقطَّعَ أَيديهمْ وأَرجُلُهمْ مِنْ خِلاَفٍ أَو يُنفَوْا مِنَ الأَرضِ
ذلكَ لهمْ جِزْيٌ في الدُّنيا ولهم في الآخرةِ عَذَابٌ عظيمٌ " وأمرنا
أن ينظر في أموال الرعايا أتم نظر وأوفاه ويسئل عن ظلاماتهم أبلغ سؤال
وأحفاه ويستن بالسنة العادلة فيهم ويمنع أقوياهم عن تهضم مستضعفيهم
ويحمل من تحت يده على التعادل والتناصف ويصدهم عن التعاصب والتظالم
ويقر الحقوق مقارها عند وضوح الحجة وارتفاع الشبهة ويختار لهم من
العمال والولاة أسدهم طرائق وأقومهم مذاهب وأحمدهم خلائق ويأمر كلاً
منهم أن لا يغير عليهم رسماً ولا ينوي لهم حقاً ولا يسومهم في
معاملاتهم خسفاً ولا يحدث عليهم من يدع الجور رسماً
(1/312)
ولا يرتكب منهم ظلماً ولا يأخذ منهم براً
باثيم ولا برءًا بسقيم ويقنع منهم في اخرجاتهم ومقاساتهم وقسوطهم
ومقاطعاتهم بالجقوق المستمرة ويحملهم في العدل على الفوائد
المستقرة ويستقرئ آثار الولاة قبله فما طاب منها وحسن اقتفاؤه اقتفره
وما ذم منها واستنكره أماطه وغيره. ويعتقد إنه مسؤول عما اكتسب واجترح
ومحاسب على ما أفسد وأصلح. قال الله تعالى: " وأَنْ ليسَ للإِنسانِ
إِلاَّ ما سَعَى وأَنْ سَعيهُ سَوفَ يُرَى ثُمَّ يُجزاهُ الجزاءَ
الأَوْفَى " فليتلقى هذه النعمة الكبيرة والعارفة الخطيرة بإعظام قدرها
والقيام بواجب شكرها وليتحقق إنها قاطنة بفنائه ما أحسن جوارها بخالصة
نصحه وولائه وباقية عليه على عقبه ما عملوا بأحكام هذا العهد وغنوا
بتأكيد أسبابه وأعلنوا بشعار الدولة واستمروا على السنة المألوفة في
إقامة الخطبة والسكة ويمسكوا بولاء الدولة العباسية التي هي سنة متبعة
وما عداها ضلالة مبتدعة وجاهدوا في الله حق جهاده وأحسنوا السيرة في
عباده وبلاده والله تعالى يمدنا وإياه في هذا الرأي الذي رأيناه ويزلف
من رضاه يحمد فاتحته وعقباه إن شاء الله تعالى وكتب في المحرم سنة
510قرة ويستقرئ آثار الولاة قبله فما طاب منها وحسن اقتفاؤه اقتفره وما
ذم منها واستنكره أماطه وغيره. ويعتقد إنه مسؤول عما اكتسب واجترح
ومحاسب على ما أفسد وأصلح. قال الله تعالى: " وأَنْ ليسَ للإِنسانِ
إِلاَّ ما سَعَى وأَنْ سَعيهُ سَوفَ يُرَى ثُمَّ يُجزاهُ الجزاءَ
الأَوْفَى " فليتلقى هذه النعمة الكبيرة والعارفة الخطيرة بإعظام قدرها
والقيام بواجب شكرها وليتحقق إنها قاطنة بفنائه ما أحسن جوارها بخالصة
نصحه وولائه وباقية عليه على عقبه ما عملوا بأحكام هذا العهد وغنوا
بتأكيد أسبابه وأعلنوا بشعار الدولة واستمروا على السنة المألوفة في
إقامة الخطبة والسكة ويمسكوا بولاء الدولة العباسية التي هي سنة متبعة
وما عداها ضلالة مبتدعة وجاهدوا في الله حق جهاده وأحسنوا السيرة في
عباده وبلاده والله تعالى يمدنا وإياه في هذا الرأي الذي رأيناه ويزلف
من رضاه يحمد فاتحته وعقباه إن شاء الله تعالى وكتب في المحرم سنة 510
وتوجه منكفئاً إلى دمشق على أجمل صفة وأحسن قضية في سلامة النفس
والجملة وتزايد العز والحرمة ودخلها في يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة
بقيت من ربيع الأول سنة 510
(1/313)
سنة عشر وخمسمائة
في هذه السنة ورد الخبر بأن بدران بن صنجيل صاحب طرابلس قد جمع وحشد
وبالغ واجتهد ونهض إلى ناحية البقاع لاخرابه بالعيث والفساد والاضرار
والعناد وكان الاصفهسلار سيف الدين البرسقي صاحب الموصل قد وصل إلى
دمشق في بعض عسكره لمعونة ظهير الدين أتابك على الافرنج والغزو فيهم
وبالغ أتابك في الاكرام له والتعظيم لمحله. وصادف ورود هذا الخبر بنهضة
الافرنج إلى البقاع فاجتمع رأيهما على القصد لهما جميعاً وأغذا السير
ليلاً ونهاراً بحيث هجموا عليهم وهم غارون في مخيمهم قارون لا يشعرون
فأرهقهم العسكر فلم يتمكنوا من ركوب خيلهم ولا أخذ سلاحهم فمنحهم الله
النصر عليهم وأطلقوا السيف فيهم قتلاً وأسراً ونهباً فاتوا على الراجل
وهم خلق كثير قد جمعوا من أعمالهم وأسروا وجوه فرسانهم ومقدميهم وأعيان
شجعانهم وقتلوا الباقين منهم ولم يفلت منهم غير مقدمهم بدران بن صنجيل
والمقدم كند اصطبل ونفر يسيرة معهما ممن نجا به جواده وحماه أجله
واستولى الأتراك على العدد الجمة والخيول والكراع والسواد. وذكر الحاكي
المشاهد العارف إن المفقود المقتول من الافرنج الخيالة والسرجندية
الرجالة والنصارى الخيالة والرجالة في هذه الوقعة ما يزيد على ثلاثة
آلاف نفس
(1/314)
وعاد ظهير الدين أتابك وسيف الدين اق سنقر
البرسقي في عسكريهما إلى دمشق مسرورين بالظفر السني والنصر الهني
والغنائم الوافرة والنعم المتوافرة فلم يفقد من العسكرين بشر ولا
أصابهم بؤس ولا ضرر ووصلا البلد بالأسرى ورؤوس القتلى وخرج الناس من
البلد لمشاهدتهم واستبشروا بمعاينتهم وسروا بنظرهم سروراً واصلوا معه
حمد الله مولى النصر ومانح القهر وشكروه تعالى على ما سناه من
الاستظهار المبين بالاستعلاء المشرق الجبين. وأقام اق سنقر البرسقي
أياماً بعد ذلك وتوجه عائداً إلى بلده بعد استحكام المودة بينه وبين
ظهير الدين والمصافاة والموافقة على الاعتضاد في الجهاد متى حدث أمر أو
حزب خطب. وقد كان في هذه السنة وردت الأخبار قبل عود ظهير الدين من
العراق بالكائنة الحادثة من الباطنية في الدركاه السلطانية وقتلهم
الأمير أحمديل فيها في المحرم منها مع وجاهته وتزايد حشمته ووفور عدته
وأكثر الناس التعجب من هذا الاقدام المشهور والفعل المذكور ولله عاقبة
الأمور وفيها وردت الأخبار من ناحية حلب بقتل لؤلؤ الخادم الذي كان غلب
أمره فيها وعمل على قتل ولد مولاه الملك البارسلان بن رضوان في ذي
الحجة منها بأمر دبره عليه أصحاب الملك المذكور
(1/315)
سنة إحدى عشرة
وخمسمائة
في هذه السنة توفي السلار بختيار شحنة دمشق ونائب ظهير الدين في تولي
أمر البلد وسياسة الرعية بعلل اختلفت عليه وطالت به إلى أن قضي نحبه
رحمه الله في ليلة النصف من شعبان منها فأحزن ظهير الدين فقده وأهمه
المصاب به وتأسف أكثر الناس عليه لأنه كان عفيفاً في أفعاله غير معترض
لخمر غني الحال والنفس معيناً لمن يقصده في دفع مظلمة وانقا من شدة
جميل المناب فيما يعود بصلاح الرعية والبعث على العمل بالعدل والسوية
وأقيم ولده السلار عمر في منصبه فاقتفى آثاره في أشغاله وحذا مثاله في
أعماله وفيها وردت الأخبار من ناحية العراق بوفاة السلطان غياث الدنيا
والدين محمد بن ملك شاه بأصفهان رحمه الله بعلة حدثت به وطال مقامها
عليه إلى أن توفي في الحادي عشر من ذي الحجة منها وقام مقامه في
السلطنة ولده محمود واستقام له الأمر واستقرت على صلاح الحال وفيها
وردت الأخبار من ناحية حلب بأن الاصفهسلار يارقتاش الخادم متولي
اصفهسلارية حلب هادن الافرنج ووادعهم وسلم إليهم حصن القبة. وقيل إن
الأمير اق سنقر البرسقي خرج من الرحبة في عسكره وقصد حلب ونزل عليها
طامعاً في تملكها فلم يتسهل له ما أمل ورحل عنها عائداً إلى الموصل.
وورد الخبر أيضاً بأن الاصفهسلار يارقتاش المقدم ذكره أخرج من قلعة
(1/316)
حلب ورد أمر الاصفهسلارية والنظر في
الأموال إلى الأمير أبي المعالي المحسن بن الملحمي العارض الدمشقي ودبر
الأشغال بها والأعمال فيها. وفي النصف من المحرم منها هجمت الافرنج على
ربض حماة في ليلة خسوف القمر وقتلوا من أهلها تقدير مائة وعشرين رجلاً
وورد الخبر بهلاك دوقس انطاكية. وفي المحرم منها وصل الأمير نجم الدين
ايل غازي بن ارتق في عسكره إلى حلب وتولى تدبير أمرها مدة صفر وفسد
عليه ما أراده فخرج منها وبقي ولده حسام الدين تمرتاش. وفيها وردت
الأخبار من القسطنطينية بموت متملك الروم الكرانكس وقام في الملك بعده
ولده يوحنا واستقام له الأمر وعمل بسيرة أبيه. وفيها وردت الأخبار
بمهلك بغدوين ملك الافرنج صاحب بيت المقدس بعلة طالت به وكانت سبب
هلاكه في ذي الحجة منها وقام بعده في الأمر كندهو كندهري الملك
(1/317)
سنة اثني عشرة
وخمسمائة
في هذه السنة شاعت الآثار والأخبار من ناحية الافرنج بطمعهم في المعاقل
والبلاد وإجماعهم على قصدها بالعيث والافساد لغفلة الاسلام عن قصدهم
بالغزو والجهاد وإنهم قد شرعوا في التأهب لهذه الحال والاستعداد وكاتب
ظهير الدين أتابك أرباب الجهات والمناصب وبعثهم على التعاون على دفع شر
الملاعين بالتوازر والتواظب. وورد الخبر بتوجه الأمير نجم الدين ايل
غازي إلى دمشق في عسكره للاجتماع مع ظهير الدين أتابك على أعمال الرأي
في التدبير والتشاور في العمل والتقرير هذا بعد أن راسل طوائف التركمان
بالاستدعاء لأداء فريضة الجهاد والتحريض على الباعث لذاك والاحتشاد.
ووصل الأمير المذكور إلى دمشق من حلب في بعض أصحابه وخواصه واجتمعا
وتعاهدا وتعاقدا على بذل المكنة والاجتهاد في مجاهدة الكفرة الأضداد
وطردهم عن الافساد في هذه المعاقل والبلاد ووقع الاتفاق بينهما على
الأمير نجم الدين ايل غازي بن ارتق والي ماردين لانجاز أمره وجمع
التركمان من الأعمال وحضهم على النكاية في اخراب الشرك والضلال واقتضت
الآراء مصير الأمير ظهير الدين معه لتأكيد الحال وتسهيل الآمال وسارا
في العشر الأول من شهر رمضان سنة 512. وعاد ظهير الدين عنه بعد أن قررا
مع طوائف التركمان صلاح أحوالهم والتأهب للوصول إلى الشام بجموعهم
الموفورة وعزائمهم المنصورة في صفر سنة 513 ليقع الاجتماع على نصرة
الدين واصطلام المردة الملحدين. وأقام ظهير الدين بدمشق إلى حين قرب
الأجل المضروب
(1/318)
والوقت المرقوب وسار إلى ناحية حلب في أول شهر ربيع الأول سنة 513
ووردت الأخبار من ناحية العراق بوفاة الخليفة الامام المستظهر بالله
أمير المؤمنين ابن الامام المقتدي بالله أمير المؤمنين بعلة عرضت له
واستمرت به إلى أن قضى نحبه إلى رحمة ربه في ليلة الخميس الرابع عشر من
شهر ربيع الآخر سنة 512 وكانت مدة خلافته ستاً وعشرين سنة وشهرين
وأياماً وكان جميل السيرة محباً للعدل والانصاف ناهياً عن قصد الجور
والاعتساف وولي الأمر من بعده ولده ولي العهد أبو منصور الفضل المسترشد
بالله أمير المؤمنين بن أبي العباس أحمد المستظهر بالله أمير المؤمنين
وجدد له أخذ البيعة واستقام له الأمر ونفذت المكاتبات إلى سائر الأعمال
بالتعزية عن الامام الماضي والتهنئة بالامام الباقي |