تاريخ دمشق لابن القلانسي

سنة ثماني عشرة وخمسمائة
في هذه السنة ورد الخبر من ناحية العراق بأن القاضي قاضي القضاة زين الاسلام أبا سعد محمد بن نصر بن منصور الهروي كان قافلاً من ناحية خراسان بجواب السلطان سنجر عما صدر على يده إليه وأنه لما نزل بهمذان في جامعها وثب عليه على حين غفلة منه قوم رتبوا له من الباطنية فضربوه بسكاكينهم فقتلوه وهربوا في الحال ولم يظهر لهم خبر ولا بان منهم أثر ولاتبعهم شخص للخوف منهم فمضى لسبيله شهيداً إلى رحمة الله وذلك للقضاء النازل الذي لا يدافع والقدر الحال الذي لا يمانع وذلك في رجب منها
وفيها ملك الافرنج ثغر صور بالأمان وشرح الحال في ذلك كان قد مضى من ذكر الذي أوجب إخراج الأمير سيف الدولة مسعود واليها منها وحمله في الاسطول إلى مصر ما لا يحتاج إلى الاعادة له والاطالة بذكره. ولما حصل بها الوالي المندوب من مصر بعد مسعود طيب نفوس أهله وكاتب ظهير الدين بصورة الحال فأعاد الجواب بأن الأمر في ذلك لمن دبره والمرجوع إلى ما رتبه وقرره. واتفق أن الافرنج لما عرفوا هذا الأمر وانصراف مسعود عن ولاية صور تحرك طمعهم فيها وحدثوا نفوسهم بتملكها وشرعوا في الجمع والتأهب للنزول عليها والمضايقة لها. واتصل بالوالي صورة الأمر وأنه لا طاقة له بالافرنج ولا ثبات على محاصرتهم لقلة من بها من الجند والميرة فطالع الآمر بأحكام الله صاحب مصر بذلك فاقتضى الرأي أن ترد ولاية صور إلى ظهير الدين أتابك ليتولى حمايتها والذب عنها والمراماة دونها على ما جرى رسمه فيها وكتب منشور الولاية باسمه فندب لولايتها جماعةً لا غناء لهم ولا كفاية فيهم ولا شهامة ففسد أمرها بذاك وتوجه طمع الافرنج حوله لأجله وشرعوا في النزول والتأهب

(1/336)


للمضايقة لها ونزلوا بظاهرها في شهر ربيع الأول من السنة وضايقوها بالقتال والحصار إلى أن خفت الأقوات فيها وعدمت الميرة. وتوجه ظهير الدين في العسكر إلى بانياس للذب عن صور ونفذت المكاتبات إلى مصر باستدعاء المعونة لها وتمادت الأيام بذلك إلى أن ضعفت النفوس وأشرف أهلها على الهلاك وعرف أتابك جلية الأمر وتعذر تلافيها ووقع اليأس من المعونة لها فراسل الافرنج بالملاطفة والمداهنة والارهاب والارغاب إلى أن تقررت الحال على تسليمها إليهم بحيث يؤمن كل من بها ويخرج من أراد الخروج من العسكرية والرعية بما يقدرون عليه من أحوالهم ويقيم من أراد الاقامة ووقف أتابك في عسكره بازاء الافرنج وفتح باب البلد وأذن للناس في الخروج فحمل كل منهم ما خف عليه وأطاق حمله وترك ما ثقل عليه وهم يخرجون بين الصفين وليس أحد من الافرنج يعرف لأحد منهم بحيث خرج كافة العسكرية والرعية ولم يبق منهم إلا ضعيف لا يطيق الخروج فوصل بعضهم إلى دمشق وتفرقوا في البلاد وذلك في اليوم الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة 518 وفيها ورد الخبر باجتماع الافرنج من أعمالهم ونزولهم على حلب وشروعهم في قتال من بها والمضايقة وتمادى الأمر في ذلك إلى أن قلت الأقوات فيها وأشرف على الهلاك أهلها فلما ضاق بهم المر وعدم الصبر وراسلوا الأمير سيف الدين اق سنقر البرسقي صاحب الموصل بشكوى أحوالهم وشرح ما نزل بهم والسؤال له في أنجادهم على الافرنج وانقاذهم من أيدي الكافرين فضاق لذلك صدره وتوزع سره وتأهب في الحال للمصير إليهم وصرف الاهتمام إلى الذب عنهم.

(1/337)


فلما وصل إليهم في ذي الحجة من السنة وعرف الافرنج خبره وحصوله قريباً منهم وما هو عليه من القوة وشدة الشوكة أجفلوا مولين ورحلوا منهزمين وتبعهم سرعان الخيول يتلقطون من يظفرون به في أعناقهم ولم يلو منهم منهزم على متلوم إلى أن حصلوا بأنطاكية. وكانوا قد ابتنوا في منزلهم مساكن وبيوتاً تقيهم الحر والبرد وأصروا على المقام ولطف الله تعالى وله الحمد بأهل حلب وخلصهم من البلاء وانتاشهم من اللأواء. وكسب اق سنقر البرسقي بهذا الفعل الجميل جزيل الأجر والثناء ودخل حلب وأحسن السيرة فيها وأجمل المعاملة لأهليها واجتهد في الحماية لها والمراماة دونها بحيث صلحت أحوالها وعمرت أعمالها وأمنت سابلتها وتواصلت الرفق إليها ببضائعها وتجارتها وفي شتوة هذه السن احتبس الغيث بأرض الشام في كانون وكانون وأكثر شباط وتلف الزرع وغلا السعر وعم القحط أكثر البلاد الشامية ثم تدارك الله عبيده بالرحمة وانزال الغيث بعد القنوط فأحيا به الأرض بعد موتها وانتاش الزراعات بعد فوتها وطابت النفوس وزال عنها الهم والبؤس. وارتفعت الأسعار في هذه السنة في حلب ودمشق وأعمالها إلى الرحبة والقلعة والموصل وبقي إلى سنة 19 وهلك كثير من ضعفاء الناس بالجوع

سنة تسع عشرة وخمسمائة
في هذه السنة وردت الأخبار من مصر بتقدم الآمر بأحكام الله بالقبض على المأمون أبي عبد الله وأخيه المؤتمن ابني البطائحي غلامي الأفضل اللذين كانا عاملا على قتله وأعانا على إتلافه واعتقالهما في شعبان

(1/338)


والاستيلاء على أموالهما وذخائرهما للأسباب التي نقم بها عليهما والمنكرات التي اتصلت به عنهما وفيا اتصلت الأخبار من ناحية بغدوين ملك الافرنج صاحب بيت المقدس بالاحتشاد والتأهب والاستعداد لقصد ناحية حوران من عمل دمشق للعيث فيها والافساد وشرع في شن الغارات على الجهات القريبة من دمشق والمضايقة لها وقطع الطرقات على الواردين إليها. فعند المعرفة بذاك والتحقق له شرع ظهير الدين أتابك في الاستعداد للقائه والاجتماع على جهاده وكاتب أمراء التركمان ومقدميهم وأعيانهم باعلامهم صورة الحال ويستنجد بهم عليهم ويبذل لهم الاحسان والانعام وبرز في عسكره وقد ورد عليه خبر قربهم من طبرية قاصدين أعمال البلد من مرج الصفر وشرخوب وخيم به وكاتب ولاة الأطراف بامداده بالرجالة واتفق وصول التركمان في ألفي فارس أولى بأس شديد ورغبة في الجهاد ومسابقة إلى الكفاح والجلاد فاجتمع إليه خلق كثير. وكان الافرنج حين عرفوا نزول أتابك والعسكر بمرج الصفر رحلوا إليه وخيموا بازائه ووقعت العين على العين وتطاردت طلائع الفريقين. فلما كان يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي الحجة من السنة اجتمع للقضاء المقضي والحكم النافذ من أحداث دمشق والشباب الأغرار ورجال الغوطة والمرج والأطراف وأحداث الباطنية المعروفين بالشهامة والبسالة من حمص وغيرها والعقبة وقصر حجاج والشاغور خلق كثير رجالة وخيالة بالسلاح التام والناهض مع المتطوعة المتدينين وشرعوا بالمصير للحاق المصاف قبل اللقاء وقد شاع الخبر بقوة عسكر

(1/339)


الاسلام وكثرته واستظهاره على حزب الافرنج وشدة شوكته ولم يشك أحد في هلاك الافرنج في هذا اليوم وبوارهم وكونهم طعمةً للمسلمين متسهلة واتفق أن فرقةً وافرةً من عسكر التركمان غارت على أطراف الافرنج ونالت منهم واستظهرت عليهم وخاف الافرنج وعلموا أنه لا طاقة لهم بهذا الجمع وأيقنوا بالهلكة ورحلوا بأسرهم من منزلهم الذي كانوا فيه عائدين إلى أعمالهم على غاية من الخوف والوجل ونهاية من الذل والوهل. ونشب فرقة من التركمان في فريق منهم وهم راحلون فغنمت من أثقالهم ودوابهم غنيمةً وافرةً وظفرت بالكنيسة المشهورة التي لهم في مخيمهم. وطمع العسكر عند ذاك فيهم وحملوا عليهم وهم مولون لا يلوون على تابع ولا يقفون على مقصر لاحق وقد شملهم الرعب وضايقوهم مضايقةً ألجأتهم إلى رمي نفوسهم عليهم أما لهم وأما عليهم فتجمعوا وعادوا على العسكر الاسلامي وحملوا عليه حملتهم المعروفة فكسروهم وهزموهم وقتلوا من أعقابهم من شطبه الوجل وخانه الأجل. وتم العسكر في الهزيمة على حاله وعادوا على جميع الرجالة وهم العدد الكثير والجم الغفير وأطلقوا السيف فيهم حتى أتوا عليهم وتتبعوا المنهزمين بالقتل حتى وصلوا إلى عقبة سحوراً وقربوا من البلد من شرخوب مع بعد المدى والمسافة وصبر خيولهم ووصل ظهير الدين أتابك والعسكر إلى دمشق آخر نهار هذا اليوم وبنوا الأمر بينهم على مباكرتهم في غد للإيقاع بهم فصادفوهم قد رحلوا عائدين إلى عملهم خوفاً مما عز عليه من قصدهم وتتبعهم والله يحكم ما يشاء

(1/340)


سنة عشرين وخمسمائة
في هذه السنة ورد الخبر من ناحية الموصل باستشهاد الأمير الاصفهسلار سيف الدين اق سنقر البرسقي صاحبها بيد الباطنية رحمه الله في مسجد الجامع بها في ذي القعدة منها وكان الذي وثب عليه جماعة قد رتبت لمراصدته وطلب غرته حتى حان الحين ونفذ الأجل وقد كان على غاية من التيقظ لهم والتحفظ منهم بالاستكثار من السلاحية والحاقدارية والسلاح الشاك لكن القضاء النازل لا يدافع والقدر النافذ لا يمانع وعليه مع هذا من لباس الحديد ما لا تعمل فيه مواضي السيوف ومرهفات الخناجر وحوله من الغلمان الأتراك والديلم والخراسانية بأنواع السلاح عدد. فلما حصل بالجامع على عادته لقضاء فريضة الجمعة والنفل على رسمه وصادف هذه الجماعة الخبيثة في زي الصوفية يصلون في جنب المشهد لم يؤبه لهم ولا ارتيب بهم. فلما بدأ بالصلاة وثبوا عليه بسكاكينهم فضربوه عدة ضربات لم تؤثر في لبس الحديد الذي عليه وقد غفل أصحابه عنه وانتضى سيفاً كان معه وضرب أحدهم فقتله وصاح واحد منهم حين رأوا السكاكين لا تعمل فيه شيئاً: ويلكم اطلبوا رأسه وأعلاه. وقصدوا حلقه بضرباتهم فأثخنوه إلى حين أدركه أصحابه وحماته فقضي عليه وقتل شهيداً وقتلوا جميع من كان وثب عليه. وقد كان هذا الأمير رحمه الله سديد الطريقة جميل الأفعال حميد الأخلاق مؤثر العدل والانصاف كثير التدين محمود المقاصد محباً للخير وأهله مكرماً للفقهاء والصالحين فحزن الناس عليه وأسفوا لفقده على هذه الحال ولما عرف ظهير الدين أتابك هذا قلق له وضاق صدره لسماعه. وقام في الأمر بعده ولده الأمير مسعود وهو مشهور بالنجابة والزكاء معروف بالشهامة والعناء فاجتمع إليه خواص أبيه ووزيره وكتابه وسلك

(1/341)


منهاجه المحمود وقصد قصده المشكور فاستقام له الأمر وانتظمت على السداد والمراد أحواله وفي هذه السنة نهض ظهير الدين نحو تدمر ولم يزل حتى استعادها من أيدي العاملين عليها المواثبين على ابن أخيه الوالي كان بها في يوم الخميس لإثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر منها واستقر الأمر على أن يجعل برسم الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك وسلمت إليه وخرج إليها ومعه من رتب لحفظه وحفظها من الثقات وفي هذه السنة عاد ظهير الدين من حلب وقد بدا له من المرض ودخل دمشق في شعبان منها ووصل إليه أمين الدولة كمشتكين والي بصرى من مصر بجواب الرسالة التي كان نفذ لأجلها ومعه الأمير المنتضى ابن مسافر الغنوي رسول الآمر بأحكام الله صاحب مصر وعلى يده خلع سنية وتحف مصرية في الشهر المذكور وفي هذه السنة استفحل أمر بهرام داعي الباطنية وعظم خطبه في حلب والشام وهو على غاية من الاستتار والاختفاء وتغيير الزي واللباس بحيث يطوف البلاد والمعاقل ولا يعرف أحد شخصه إلى أن حصل في دمشق بتقرير قرره نجم الدين ايل غازي بن ارتق مع الأمير ظهير الدين أتابك وخطاب وكده بسببه فأكرم لاتقاء شره وشر جماعته وحملت له الرعاية وتأكدت به العناية بعد أن تقلبت به الأحوال وتنقل من مكان إلى مكان وتبعه من جهلة الناس وسفهاء العوام وسفساف الفلاحين الطغام من لا عقل له ولا ديانة فيه احتماءً به وطلباً للشر بحزبه. ووافقه الوزير أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني وإن لم يكن على مذهبه على أمره وساعده على بث حبال شره وإظهار خافي سره. فلما ظهر أمره وشاع وطاوعه وزير ظهير

(1/342)


الدين المذكور ليكون عوناً له على فعله وتقوية يده في شغله التمس من ظهير الدين أتابك حصناً يأوي إليه ومعقلاً يحتمي به ويعتمد عليه فسلم له ثغر بانياس في ذي القعدة سنة 520 فلما حصل فيه اجتمع إليه أوباشه من الرعاع والسفهاء والفلاحين والعوام وغوغاء الطغام الذين استغواهم بمحاله وأباطيله واستمالهم بخدعه وأضاليله فعظمت المصيبة بهم وجلت المحنة بظهور أمرهم وسبيهم كذا وضاقت صدور الفقهاء والمتدينين والعلماء وأهل السنة والمقدمين والستر والسلامة من الأخيار المؤمنين وأحجم كل منهم من الكلام فيهم والشكوى لواحد منهم دفعاً لشرهم وارتقاباً لدائرة السوء عليهم لأنهم شرعوا في قتل من يعاندهم ومعاضدة من يوازرهم على الضلال ويرافدهم بحيث لا ينكر عليهم سلطان ولا وزير ولا يفل حد شرهم متقدم ولا أمير
وفي هذه السنة ورد الخبر بوصول السلطان مغيث الدنيا والدين محمود ابن السلطان محمد بن ملك شاه إلى بغداد وجرى بينه وبين الخليفة الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين مراسلات ومخاطبات أوجبت تشعيث الحال بينهما والمنافرة من كل منهما وتفاقم الأمر إلى أن أوجب زحف السلطان في عسكره إلى دار الخلافة ومحل الامامة ومحاربته في قصره والطلبة لغلبته وقهره ولم يزل الشحناء مستمرة والفتنة على غير الايثار مستقرة إلى أن زالت أسباب الخلف والنفار وعادت الحال إلى ما ألفيت من شوائب الأكدار بحسن سفارة الوزير جلال الدين بن صدقة وزير الخلافة وجميل وساطته وسديد نيابته وعاد السلطان مع ذلك إلى المألوف من طاعته والمعروف من مناصحته والتصرف على أوامر أمير المؤمنين وأمثلته وذلك في العشر الأخير من ذي الحجة سنة 520 وقيل في أول المحرم سنة 521

(1/343)


وفي رجب من هذه السنة توفي الأمير طرخان بن محمود الشيباني أحد أمراء دمشق بعلة حادة هجمت عليه فاردته. وفيها قصدت الافرنج رفنية وضايقوها واستعادوها من ملكة المسلمين

سنة إحدى وعشرين وخمسمائة
فيها ورد الخبر من ناحية العراق بقتل المعين وزير السلطان سنجر ابن السلطان ملك شاه صاحب خراسان بتدبير الباطنية في شهر ربيع الآخر منها. ذكر إنه كان فتك بجماعة منهم ومحرضاً للسلطان على النكاية فيهم وتطهير الأرض منهم فرتبوا له قوماً من سفهائهم للأرصاد لفرصة تلوح فيه وغرة تظهر منهم فلم يتم لهم في ذلك نيل طلب ولا تسهل لهم إدراك أرب فافردوا منهم سفيهاً ولم يزل يتحيل إلى أن خدم في اسطبل دوابه سائساً لبغاله وأقام في خدمته إلى أن وجد الفرصة متسهلة عند حضوره لمشاهدة كراعه فوثب عليه وهو غافل مطمئن فقتله ومسك فقتل من بعده. وكان هذا الوزير موصوفاً بجميل الأفعال وحميد الفعال ومتانة الدين وحسن اليقين والانصاف في أعماله والتسدد في أقواله ومضى لحال سبيله شهيداً وانتقل إلى ربه مرضياً حميداً عند نفاد المدة وانقضاء العدة ولله عاقبة الأمر وبيده محتوم النفع والضر وقد تقدم من شرح حال الأمير سيف الدين اق سنقر البرسقي صاحب الموصل في استشهاده بيد الباطنية في جامعها رحمه الله وقيام ولده الأمير مسعود في الأمر من بعده ما فيه الكفاية. فلما استتب أمره وقويت شوكته واستقامت ولايته شمخ بأنفه ونفخت حداثة السن في سحره وحدثته

(1/344)


نفسه بمنازلة البلاد الشامية والطمع في تملك المعاقل الاسلامية والاطراح لمجاهدة العصب الافرنجية بالضد من أولي الحزامة والسداد وذوي البأس والبسالة في احراز فضيلة الغزو والجهاد. ونمى الخبر عنه إلى ظهير الدين أتابك بحكايات تدل على حسده له بما أوتي من الهيبة وحسن الصيت وجميل الذكر وكبر الشأن والأمر وأنه عازم على التأهب والاحتشاد لقصد أعمال الشام والعيث فيها والافساد. فعزم ظهير الدين أتابك عند معرفته هذه الأحوال التي لا يصدر مثلها عن أريب ولا يبدو شبهها عن حازم في رأيه لبيب على الاستعداد لقصده في عسكره حين يدنو من الأعمال الشامية فيوقع بعسكره ويشفي غليله بالفتك بحزبه. فما كان بعد ذلك إلا الأيام القلائل حتى انفصمت عرى شبابه ونزل محتوم القضاء به بهجوم مرض حاد عليه بظاهر الرحبة أتى عليه واصاره إلى المحتوم الذي لا بد له عنه ولا مجير له منه فانفل حده وخذله أنصاره وجنده وأسلمته للقضاء حماته وتفرقت عنه خواصه وثقاته وهلك في الحال وزيره وشريكه في الوزر ومشيره بعلة شديدة أعجلته وفي إشراك المنية أوبقته وهرب جماعة من خواص غلمان أبيه الأتراك باعلامه التي كانت قد استعملها على مراده وإيثاره وتناهى في أحكامها على قضية اقتراحه واختياره ووصلوا بها إلى ظهير الدين أتابك متحفين له بها ومتقربين إليه باهدائها فأحسن إليهم وبالغ في الاكرام لهم والانعام عليهم واصطفاهم لنفسه وضمهم إلى ثقاته واهل أنسه وقابلهم على وفودهم عليه بالفعل الجميل والعطاء الجزيل

(1/345)


وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق بمسير السلطان مغيث الدنيا والدين محمود وقد عبث به مرض خاف منه على نفسه محمولاً في محفة نحو همذان واجتاز عند ذلك بدار الخلافة وراسل الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين يسأله المسامحة بما سبق منه في تلك النوبة الحادثة بينهما وأن يحلله ويدعو له ولا يدعو عليه فخرج إليه جواب الرسالة بأجمل جواب وألطف خطاب طابت بهما نفسه وزاد في استماعهما أمله في البر

(1/346)


وأنسه ثم إنه أفاق من مرضه هذا وعاوده نشاطه بعد الكسل والفتور وعاد إلى الغرض المأثور. وكان قد أنكر على وزيره شمس الملوك خواجه بزرك أموراً دعته إلى الأمر بالقبض عليه وتسليمه إلى حاجبه فقتله وقيل إنه شرب الخمر في قحف رأسه وفي شعبان من هذه السنة قصد بغدوين ملك الافرنج صاحب بيت المقدس في عسكره وادي موسى فنهب أهله وسباهم وشرد بهم وعاد عنهم. وفي جمادى الآخرة منها ورد الخبر بأن الأمير ختلع ابه السلطاني ولي مدينة حلب وحصل في قلعتها بطلائع اختير له ولم يقم إلا القليل حتى فسد أمره واضطرب حاله ووقع بينه وبين أحداث الحلبيين فحصروه في القلعة إلى أن وصل إلى حلب عسكر الأمير عماد الدين أتابك فتسلمه من القلعة واعتقل واستؤذن في أمره فأذن في سمل عينيه فسملتا

سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة
في هذه السنة اشتد المرض بظهير الدين أتابك وطال به طولاً أنهك قوته وأنحل جسمه وأضعف منته وأشفى منه على نزول ما لا يدفع بحيلة ولا يمنع بقوة فأحضر ولده الأمير تاج الملوك وأمراء دولته وخواصه وأهل ثقته وأعيان عسكريته وأعلمهم بأنه قد أحس من نفسه بانقطاع الأجل وفراغ المهل وخيبة الرجاء من البقاء والأمل ولم يبق غير الوصية بما يعمل عليه ويدبر به الأمر بعدي وينتهي إليه وهذا ولدي تاج الملوك بوري هو أكبر ولدي والمترشح للانتصاب مكاني من بعدي والمأمول لسد ثلمة فقدي ولا أشك في سداد طريقته وإيثاره لفعل الخير ومحبته وأن يكون مقتفياً لآثاري في حفظ قلوب الأمراء والعسكرية وعاملاً على مثالي في أنصاف الأعيان والرعية فإن قبل وصيتي

(1/347)


هذه ونهج السبيل المرضية في بسط المعدلة والنصفة في الكافة وأزال بحسن سياسته عنهم أسباب الوجل والمخافة فذاك الظن في مثله والمرجو من سداده وجميل فعله وإن عدل عن ذاك إلى غيره وحاد عن ما يؤثر من السداد في سره وجهره فها هو متشاهد لهذه الحال ومتوقع لمثل هذا المآل فقال: بل أوفى على المراد ولا أتعدى سبيل السداد والرشاد فوكد الأمر عليه في ذلك تأكيداً فهمه منه وقبله عنه ثم توفي إلى رحمة الله ضحى نهار يوم السبت لثمان خلون من صفر من السنة فأبكى العيون ونكأ القلوب وفت في الأعضاد وفتت الأكباد واشتد الأسف لفقده والجزع عليه ولم يسمع إلا متفجع له وذاكر لجميل أفعاله وشاكر لأيامه. وقام ولده تاج الملوك بوري بالأمر من بعده وأحسن السيرة في خاصه ورعيته وجنده فلو كانت مجاري الأقدار تدفع إليه عن ذوي المناصب والأخطار لكان هذا الأمير السعيد الفقيد أحق من تخطأ به المنايا ولم تلم بساحته الرزايا وأبقته الأيام لها رتبةً تتباهى بها وحليةً تتنافس بها إلا أن الله تعالى لا يغالب أمره ولا يدافع حكمه ولا بد من تمام ما سبق به علمه وحدوث ما تقرر نفاذه في خلقه لأن الموت غاية الحيوان ونهاية ما يكون من مصير الانسان. وقد كان هذا الأمير السعيد قد بالغ في استعمال العدل والكف عن الظلم وأعاد على جماعة من الرعية أملاكاً في ظاهر البلد جمةً دائرةً أغتصبت منهم في زمن الولاة الظالمة وقبضت عنهم في زمن العتاة الجبابرة وجرت عليهما أحكام المقاسمة وعتت الأيدي العادية الغاشمة فأعادها إلى خراجها القديم المستقر ورسمها السالف المستمر ورفع عنها مواد الجور والعدوان وحسم عن مالكيها أسباب التأول في كل مكان وأوان فأحرز بذاك صالح الدعاء وجميل الشكر والثناء

(1/348)


ثم رفع إلى أمير المؤمنين الخليفة المسترشد بالله رقعةً عند مصيره إلى بغداد ومهاجرته إلى الباب الأماملي المسترشدي والسلطاني الغياثي يذكر فيها حال مواضع دائرة في عمل دمشق وحصص عامرة وأرض معطلة لا مالك لها ولا فائدة في عطلتها ولا انتفاع لخاصي ولا عامي بشيء منها لدثورها ودروس معاملها ورسومها واستأذنه في بيعها ممن رغب فيها ويؤثر عمارتها للانتفاع بريعها وغلتها وصرف ما يحصل من ثمنها في الأجناد المرتبين للجهاد فأذن له في ذلك أذناً تاماً مؤكداً أباحه له وأمضاه لمن يملكه بالابتياع منه وأحله وأطلقه ووقع بذاك على ظهر الرقعة بالأمضاء وإبطال التأول فيه والتحذر من إبطال شيء من حكمه أو التجاوز لرسمه ووكد بالعلامة الشريفة الأمامية المسترشدية التي قبلها منه وتقلدها عنه وأشهد عليه بذلك الشهود المعدلين وأمضى البيع في ذلك لمن رغب فيه فعمرت عدة ضياع يباباً خالية وعلى عروشها خاوية وأرض عافية لا انتفاع بها ولا فائدة لأحد فيها فأجريت عيون مياهها وأعيدت إلى أجمل عاداتها وظهرت منها الخيرات وعمت بذلك الميامن والبركات ودامت له الدولة ولمن بعده ببركات هذه الأفعال الحميدة والنية الجميلة وحسنت لهم العقبى في الولد والأسرة والأهل والجملة وحصل له الذكر الجميل في الآفاق والأقطار والأمصار والثناء الطيب الحسن الآثار ومضى لشأنه سعيداً عزيزاً حميداً على ظهر فراشه لا يرد له أمر ولا يخالف له قول ولا يتجاوز له حكم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

(1/349)


ذكر تاج الملوك بوري بن أتابك عند توليه الأمر بعد
أبيه ظهير الدين أتابك وأخباره وما جرى في أيامه من نوبة الباطنية والأحداث المتجددة وما جرى مع الافرنج إلى أن مضى سبيله

شرح ذلك
لما نفذ القضاء في ظهير الدين أتابك رحمه الله قام ولده الأمير تاج الملوك بالأمر من بعده إذ كان نجله وولي عهده فعمل بما كان ألقاه إليه واعتمد على ما وكده في وصيته عليه من حسن السيرة في جميع من حوته دمشق من الأجناد والعسكرية وكافة الأتباع والرعية وزاد على ذلك وبالغ في الذب عنهم والمراماة دونهم وجرى على منهاج أبيه في بسط المعدلة واعتماد النصفة للأجناد وثقل الوطأة على الأعداء والأضداد وأنصاف المتظلمين وردع الظالمين وحماية السفار والمترددين والتبليغ بالنكاية للمفسدين بحيث اجتمعت القلوب على حب دولته وانطلقت الألسن بالدعاء الصالح بإدامة أيامه وإطالة مدته وأقر وزير أبيه أبا علي طاهر بن سعد المزدقاني على وزارته وأجراه على رسمه في سفارته ولم يصرف أحداً من نوابه المعروفين بخدمته عن رسمه وعادته ولا أزاله عن معيشته بل زاد في أرزاقهم وخلع عليهم وأحسن إليهم وأقر الاقطاعات على أربابها والجامكيات على أصحابها فكثر الدعاء له والثناء عليه وأحسن إلى وزيره المقدم ذكره وأطلق له عشر ارتفاعه مع حقوق العرض عن الاقطاعات والواجبات والنفقات. وقد كان أسر في نفسه من أمر الباطنية ما لم يبده لأحد من خواصه وثقات بطانته عند ما قويت شوكتهم وتضاعفت مضرتهم أتباعاً لما كان عليه أبوه من إظهار الرعاية لهم والمداراة لدفع شرهم فلما مكنه الله منهم وأقدره عليهم افتتح أمره بالتدبير عليهم والايقاع بهم فكان منه في أمره ما سيأتي مشروحاً في مكانه

(1/350)


ذكر ما حدث من الباطنية بدمشق وأعمالها وما آلت إليه أحوالهم من البوار وتعفية الآثار في بقية سنة 522

شرح الأمر والسبب في ذلك
قد تقدم من ذكر بهرام داعي الباطنية والسبب الذي أوجب تسليم ثغر بانياس إليه ما فيه الكفاية عن تكرير الذكر له ولما حصل في بانياس شرع في تحصينها وترميم ما استرم وتشعث منها وبث دعاته في سائر الجهات فاستغووا خلقاً كثيراً من جهال الأعمال وسفساف الفلاحين من الضياع وغوغاء الرعاع ممن لا لب له يصده عن الفساد ويردعه ولا تقية تصدفه عن المنكر وتمنعه فقوي شرهم وظهر بقبح الاعتقاد سرهم وامتدت أيديهم وألسنتهم إلى الأخيار من الرعية بالثلب والسب وإلى المنفردين في المسالك بالطمع والسلب وأخذهم قسراً وتناولهم بالمكروه قهراً وقتل من يقتل من الناس تعدياً وظلماً. وأعانهم على الإيغال في هذا الضلال أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني الوزير معونةً بالغ فيها وحصل له وخيم عاقبتها وذميم مغبتها لما تقرر بينه وبين بهرام الداعي المقدم من المؤازرة والمعاضدة والمظافرة والمرافدة موافقةً في غير ذات الله ولا طاعته طلباً لأن تكون الأيدي واحدةً على من يقصدهما بمكروه والنيات مترادفة على من ينوي لهم شراً وتاج الملوك غير راض بذاك ولا مؤثر له بل تبعثه السياسة السديدة والحلم الوافر والمعرفة الثاقبة على الأغضاء منهم على القذى والصبر على مؤلم الأذى وهو يسر في نفسه ما لم يظهره ويطوي من أمرهم ما لم ينشره إلى حين يجد الفرصة متسهلة المرام والمكنة من أعداء الله بادية

(1/351)


الأعلام فعند ذاك تنتهز الفرصة وتقتنص الفريسة. واتفق إن بهرام الدعي لما يريد الله تعالى من بواره ويحل به من هلاكه ودماره حدثته نفسه بقتل برق بن جندل أحد مقدمي وادي التيم لغير سبب حمله عليه ولا جناية دعته إليه بل اغترار بعاقبة الظالمين في سفك الدماء المحرمة وافاظة النفوس المحظورة وجهلاً بما حذر الله تعالى من يقصد ذاك ويقدم عليه بقوله عز وجل: " وَمَنْ يَقتُلْ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهنَّمُ خالداً فيها وَغَضِبَ أللهُ عليهِ وَلَعَنَهُ وَأَعدَّ لَهُ عَذَاباً عظيماً " فخدعه إلى أن حصل في يده فاعتقله وقتله صبراً فتألم لقتل مثله على هذه مع حداثة سنه وشهامته وحسن صورته وأعلنوا بلعن قاتله في المحافل والمشاهد وذمه من كل غائب ومشاهد. فحملت أخاه ضحاك بن جندل وجماعته وأسرته الحمية الاسلامية والحرقة الأهلية على الطلب بدمه والأخذ بثاره فتجمعوا وتعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا على المصابرة على لقاء أعدائهم والإيغال في الطلب لدمائهم وبذل المهج والنفوس في إدراك ثأرهم وشرعوا في التأهب لهذه الحال صابرين وللفرصة متوقعين إلى أن ساق بهرام ولفيفه الحين المتاح وقضى الله عليهم بالاصطلام والاجتياح فتجمعوا من كل ناحية وتهافتوا من كل صوب وجهة وظهر بهم من بانياس في سنة 522. وقصد ناحية وادي التيم للإيقاع بالمذكورين وكانوا مستعدين للقائه مترقبين لحربه. فلما أحسوا بقربه منهم نهضوا بأجمعهم إليه نهوض الليوث من غلبها للمحاماة على أشبالها وطاروا نحوهم مطار صقور الجبال إلى يعاقيبها وأحجالها فحين دنوا من حزبه المفلول وحشده المخذول هجموا عليهم وهم في مخيمهم غارون وبهم مغترون وصاح صائحهم وهم غافلون وبما نزل بهم من البلاء ذاهلون وإلى أن يتمكن فارسهم من امتطاء جواده وراجلهم من تناول عدته وعتاده

(1/352)


أتى القتل على أكثرهم ضرباً بالسيوف ووجياً بخناجر الحتوف ورشقاً بسهام البلاء ورجماً بأحجار الأقدار والقضاء وكان بهرام في خيمته وحوله جماعة من شركائه في جهله وضلالته غافلاً عما أحاط به وبطائفته وقد وثبوا عند سماع الضوضاء والصياح إلى أخذ آلة السلاح فأرهقوهم بسيوفهم الماضية وخناجرهم المبيرة القاضية حتى أتوا على الجميع وقطع رأس بهرام ويده بعد تقطيعه بالسيوف والسكاكين وأخذهما واحد مع خاتمه من الرجال القاتلين ومضى بهما إلى مصر مبشراً بهلاكه ومهنئاً ببواره فخلع عليه وأحسن إليه وشاعت بذلك الأخبار وعم الكافة الجذل بمهلكهم والاستبشار وأخذ الناس من السرور بهذا الفتح بأوفر السهام وأكمل الأقسام فقلت عدتهم وانقصفت شوكتهم وانفلت شكتهم
وقام بعد بهرام صاحبه إسمعيل العجمي رفيقه في الضلال والعدوان وشريكه في المحال والطغيان مقامه وأخذ في الاستغواء للسفساف مثاله وزاد في الجهل زيادةً أظهرت سخف عقله ومحاله وتجمع إليه بقايا الطائفة الخبيثة من النواحي والاصقاع ومن كان منهم متفرقاً في النواحي والبقاع. وجرى أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني الوزير على الحال التي سلكها مع بهرام في حق إسمعيل في المساعدة على مراده والمعاضدة على أغراضه لتحرزه من الشر ورغبته في السلامة ولم يعلم أن عقبى هذه الأفعال عين الندامة والبعد عن طريق السلامة فقد قيل رب مستسلم نجت به سلامته ومتحرز من الشر كانت فيه آفته ولم تزل شكوى الناس من الخاصة والعامة تتضاعف والأضرار بهم من المخذولين يتوالى ويترادف إلى أن صرف تاج الملوك بن ظهير الدين أتابك إلى الفتك بهم والاجتياح لهم همته وأرهف لتطهير الأعمال منهم عزيمته ورأى إن صلاح الأمر فيما

(1/353)


يقتضيه التدبير فيما يراد والتقرير الايقاع بأبي علي الوزير أولاً فإنه أصوب ما اعتمد وأولى ما قصد فرتب لقتله من خواصه من اعتمد عليه وسكن في أمره إليه وقرر معه أن يضرب رأسه بالسيف متى أشار إليه. فلما كان يوم الأربعاء السابع عشر من شهر رمضان سنة 523 حضر مع جماعة الأمراء والمقدمين على الرسم في قبة الورد من دار القلعة بدمشق وجرى في المجلس أمور ومخاطبات مع تاج الملوك والحضور انتهى الأمر فيها إلى الانصراف إلى منازلهم والعود إلى دورهم ونهض الوزير المذكور منصرفاً بعدهم على رسمه فأشار تاج الملوك إلى خصمه فضرب رأسه بالسيف ضربات أتت عليه وقطع رأسه وحمل مع جثته إلى رمادة باب الحديد فألقيت عليها لينظر الكافة إلى صنع الله تعالى بمن مكر واتخذ معيناً سواه وبغيره انتصر وأحرقت جثته بعد أيام بالنار وصار رماداً تذروه الرياح ذلك بما قدمت يداه وما الله بظلام للعبيد

(1/354)


وشاع الخبر بذاك في الحال فثارت الأحداث بدمشق والغوغاء والأوباش بالسيوف والخناجر المجردة فقتلوا من ظفروا به من الباطنية وأسبابهم وكل متعلق بهم ومنتم إليهم وتتبعوهم في أماكنهم واستخرجوهم من مكانهم وأفنوهم جميعاً تقطيعاً بالسيوف وذبحاً بالخناجر وجعلوا مصرعين على المزابل كالجيف الملقاة والميتة المجتواة وقبض منهم نفر كثير التجأوا إلى جهات يحتمون بها وأملوا السلامة بالشفاعة منها قهراً وأريقت دماؤهم هدراً وأصبحت النواحي والشوارع منهم خالية والكلاب على أشلائهم وجيفهم متهارشة عاوية إن في ذلك لآية لأولي الألباب وكان قد أخذ في الجملة المعروف بشاذي الخادم تربية أبي طاهر الصائغ الباطني الذي كان بحلب وهذا اللعين الخادم كان أصل البلاء والشر فعوقب شر عقوبة شفت قلوب كثير من المؤمنين وصلب ومعه نفر منهم على شرفات سور دمشق ليشاهد فعل الله بالظالمين ونكاله بالكافرين. وكان الحاجب يوسف بن فيروز شحنة البلد ورئيسه الوجيه ثقة الملك أبو الذواد مفرج بن الحسن الصوفي قد بالغا في التحريض على هلاك هذه الطائفة الخبيثة فأخذوا في التحرز والاحتياط من اغتيال من يندب إليهما من باطنية ألموت مقر الباطنية بلبس الحديد والاستكثار من الحفظة حولهما بالسلاح الوافر العتيد فحصل الشقاء لمن أساء وكفر والسعادة لمن أحسن واعتبر وأما إسمعيل الداعي المقيم ببانياس ومن معه فإنهم لما سمعوا ما حدث من هذه الكائنة سقط في أيديهم وانخذلوا وذلوا وأقبل بعضهم على بعض

(1/355)


يتلاومون وتفرق شملهم في البلاد وعلم إسمعيل إن البلاء محيط به إن أقام ببانياس ولم يكن له صبر على الثبات فأنفذ إلى الافرنج يبذل لهم تسليم بانياس إليهم ليأمن بهم فسلمها إليهم وحصل هو وجماعة في أيديهم فتسللوا من بانياس إلى الأعمال الافرنجية على غاية من الذلة ونهاية من القلة وعرض إسمعيل علة الذرب فهلك بها وقبر في بانياس في أوائل سنة 524 فخلت منهم تلك الناحية وتطهرت من رجسهم
وفي سنة 522 ورد الخبر من بغداد بوفاة الوزير جلال الدين أبي علي الحسن بن علي بن صدقة وزير الخليفة رحمه الله في جمادى الآخرة منها وكان حسن السيرة محمود الطريقة كاتباً فاضلاً بليغاً محبوباً من الخاصة والعامة سديد الرأي حميد التدبير صادق العزم صافي الحسن كريم النفس. فكثر الأسف عليه والتوجع لفقده واستوزر بعده نقيب النقباء شرف الدين أبو القسم علي بن طراد الزينبي في جمادى الأولى منها وهو من جلالة القدر وشرف الأصل ونباهة الذكر والمنزلة المشهورة والرتبة المعروفة والمكان المشتهر. وفي جمادى الأولى سنة 522 توفيت الخاتون شرف النساء والدة تاج الملوك رضي الله عنها وقبرت في قبتها المبنية برسمها خارج باب الفراديس