تاريخ دمشق لابن القلانسي

سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة
قد مضى ذكر نوبة الباطنية وغيرهم لما اقتضى سوق الكلام فيه في سنة 2 و3 لما انتهى إلى الافرنج خبر الكائنة في الباطنية وانتقال بانياس عنهم إليهم أحدث ذلك لهم طمعاً في دمشق وأعمالها وأكثروا الحديث في قصدها وبثوا رسلهم إلى الأعمال في جمع الرجال والاحتشاد

(1/356)


فاجتمع إليهم سائر من حوته بلادهم من الرها وانطاكية وطرابلس والساحل ووصلهم في البحر ملك كند هو الذي قام مقام بندوين الهالك في الافرنج ومعه خلق كثير فاجتمعوا ونزلوا على بانياس وخيموا عليها وشرعوا في تحصيل المير والأزواد للإقامة وتواترت الحكايات عنهم ممن شاهدهم وأحصى عددهم إنهم يزيدون على ستين ألفاً فارساً وراجلاً وأكثرهم الرجالة فلما عرف تاج الملوك ذلك من عزمهم تأهب لهذا الأمر وصرف همه إلى الاستكثار من العدد والسلاح وآلة الحرب وما يحتاج إليه من الآلات التي يحتاج إليها لتذليل كل صعب وكاتب أمراء التركمان على أيدي رسله المندوبين إليهم بالاستنجاد والاستغاثة بهم وبذل من المال والغلال ما بعثهم على المبادرة إلى اجابة ندائه والسرعة إلى دعائه ووصل إليه من طوائفهم المختلفة الأجناس كل ذي بسالة وشدة مراس راغبين في أداء فريضة الجهاد ومسارعين إلى غزو الكفرة والأضداد وأطلق ما يحتاجون إليه لقوتهم وقضيم خيولهم ورحل الملاعين عن بانياس طالبين دمشق على أناة وترتيب ونزلوا على جسر الخشب والميدان المعروف المجاور له في.... من ذي القعدة سنة 523 وخيموا هناك وأصبح العسكر خرج من دمشق وانضم إليه التركمان من منازلهم حول البلد والأمير مرة بن ربيعة في العرب

(1/357)


الواصلين معه وتفرقوا كراديس في عدة جهات ووقفوا بإزائهم لتخرج منهم فرقة فيسارعوا إليها ويزحفوا فيبادروا إلى لقائهم فلم يخرج منهم فارس ولا ظهر راجل بل ضموا أطرافهم ولزموا مخيمهم وأقام الناس على هذه الصورة أياماً يتوقعون زحفهم إلى البلد فلا يشاهد منهم إلا تجمعهم وإطافتهم حول مخيمهم وبريق بيضهم وسلاحهم وكشف خبرهم وما الذي أوجب تأخرهم عن الزحف وتلومهم فقيل إنهم قد جردوا أبطال خيلهم وشجعان رجالهم للمصير مع البغال إلى حوران لجمع المير والغلال التي يستعان بمثلها على الاقامة والنزال وإنهم لا حركة لهم ولا قوة بهم إلى عود المذكورين
فلما عرف تاج الملوك هذه الحال بادر بتجريد الأبطال من الأتراك الدمشقيين والتركمان الواصلين والعرب القادمين مع الأمير مرة وأضاف إليهم الأمير سيف الدولة سوار في عسكر حماة وقرر معهم نهوضهم آخر يومهم والجد في السير عامة الليل ووصولهم عند الصباح إلى ناحية براق لأن تقدير وصول الملاعين عند عودهم من حوران إلى ذلك المكان. فسارعوا إلى العمل بما مثل لهم وأصبحوا في ذلك المكان وهم على غاية من الكثرة والمنعة ومعهم سواد عسكرهم بأسره في عدد لا يحصى كثرةً فهجموا عليهم فلم يتكامل ركوبهم إلا وقد قتل منهم جماعة بالنشاب وضربوا مصافاً ووقفوا قطعةً واحدةً وحمل عليهم المسلمون فثبتوا

(1/358)


ولم يزل عسكر الاسلام يكر عليهم ويفتك بهم إلى أن فشلوا وانخذلوا وأيقنوا بالبوار وحلول الدمار. وولى كليام دبور مقدمهم وشجاعهم في فريق من الخيالة منهزمين وحمل الأتراك والعرب حملةً هائلةً وأحدقوا بهم ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ورشقاً بالسهام فما كان إلا بعض النهار حتى صاروا على وجه الأرض مصرعين وبين أرجل الخيل معفرين وغنموا منهم الغنيمة التي امتلأت أيديهم بها من الكراع والسلاح والأسرى والغلمان وأنواع البغال وهو شيء لا يحصر فيذكر ولا يجد فيعد ولم يسلم منهم إلى معسكرهم إلا القليل من الخيالة الذين نجت بهم سوابقهم المضمرة وعاد الأتراك والعرب إلى دمشق ظافرين غانمين منصورين مسرورين آخر نهار ذلك اليوم المذكور. فابتهج الناس بهذا اليوم السعيد والنصر الحميد وقويت به النفوس وانشرحت به الصدور وعزم العسكر على مباكرتهم بالزحف إلى مخيمهم عند تكامل وصوله وتسرع إليهم جماعة من الخيل وافرة وهم ينظرون إلى كثرة النار وارتفاع الدخان وهم يظنون إنهم مقيمون فلما دنوا من المنزل صادفوهم وقد رحلوا آخر تلك الليلة عندما جاءهم الخبر وقد أحرقوا أثقالهم وآلاتهم وعددهم وسلاحهم إذ لم يبق لهم ظهر يحملون عليه عند ما عرفوه من حقيقة الأمر الذي لا يمكن معه المقام مع معرفتهم بكثرة عسكر الأتراك ولا طاقة لهم به ولم يتمالكوا إن رحلوا لا يلوون على منقطع ولا يقفون على مقصر وخرج إلى منزلهم فغنموا منه الشيء الكثير من أثاثهم وزادهم وصادفوا

(1/359)


جماعةً من الجرحى في الوقعة قد هلكوا مع وصولهم ودفنوا في أماكنهم وخيولهم مصرعة من الجراح الكثيرة ولحق أواخرهم العسكر فقتلوا جماعةً من المنقطعين وأغذوا سيرهم في هزيمتهم خوفاً من لحاق المسلمين لهم. وأمن الناس وخرجوا إلى ضياعهم وانتشروا في أماكنهم ومعائشهم وانفرجت عنهم الكربة وانكشفت الغمة وجاءهم من لطف الله تعالى وجميل صنعه ما لم يكن في حساب ولا خطر في بال. فلله الحمد والشكر على هذه النعمة السابغة والموهبة الكاملة حمداً يستديم جزيل نعمه ويستمد المزيد من منائحه وقسمه وعاد التركمان إلى أماكنهم بالغنائم الوافرة والخلع الفاخرة وتفرق جمع الكفرة إلى معاقلهم على أقبح صفة من المذلة وعدم الكراع وذهاب الأثقال وفقد أبطال الرجال وسكنت القلوب بعد الوجل وأمنت بعد الخوف والوهل وأيقنت النفوس بأن الكفرة لا يكاد يجتمع لهم بعد هذه الكائنة شمل بعد فناء إبطالهم واجتياح رجالهم وذهاب أثقالهم

سنة أربع وعشرين وخمسمائة
في المحرم أول هذه السنة توفي الشيخ الأمين جمال الأمناء أبو محمد هبة الله بن أحمد الأكفاني رحمه الله وكان موصوفاً بالكفاية والأمانة معروفاً بالصيانة والديانة ولم يقم من الشهود بعده مثله في الذكاء والأمانة والغناء
لما خلا ديوان الوزارة بدمشق بعد قتل أبي علي طاهر المزدقاني الوزير من عارف ينظم حسباناته ويسدد أمور معاملاته وارتاد تاج الملوك كافياً يرد الأمر في ذلك إليه ويعتمد فيه عليه ويسكن إلى نهضته في تهذيب أحواله وترتيب أعماله وحفظ أبواب ماله فلم يتسهل له بلوغ المقصود ولا تيسر لارتياده نيل الغرض المنشود فوقع تعويله على الرئيس الوجيه

(1/360)


ثقة الملك أبي الذواد المفرج بن الحسن الصوفي رئيس دمشق فرد الأمر في ذلك إليه وقلده منصب الوزارة واعتمد فيه عليه ووجده أكفى من وقعت إليه الاشارة من كتابه ومتصرفيه وإن كان ضيف الصناعة في الكتابة خفيف البضاعة من البلاغة فإن رأيه سديد ومذهبه في التنزه والأمانة حميد وله معرفة بسياسة المعاملين في المعاملات ويد في الحك والضبط في استدعاء الحسبانات وحفظ الاخراجات ولم يجد له محيداً عنه ولا بدلاً منه فقلده هذا المنصب واثقاً بحسن سفارته ومرضي مؤازرته وخلع عليه وزاد في إحسانه إليه وأجلسه مجلسه من الديوان بمحضر من الأمراء والأماثل والأعيان وأمر بكتب المنشور بأحسن أوصافه والتحذير من تجاوز أمره وخلافه ولقبه محيي الدين تأكيداً لأمره ورفعاً لقدره فأحسن السياسة وسدد أحوال الرئاسة واستعمل العدل في أعماله والانصاف لمعاملته وعماله ونظر في الأعمال واعتمد على الكفاة الثقات من العمال وجرت الأحوال في ذلك على السداد واطردت على الاستقامة أحسن اطراد وفي هذه السنة ورد الخبر بوصول الأمير عماد الدين أتابك زنكي بن اق سنقر صاحب الموصل إلى حلب في عسكره عازماً على الجهاد وأرسل تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك يلتمس منه المعونة والإسعاد على محاربة الافرنج الأضداد وترددت الرسل بينهما في ذلك إلى أن أجاب إلى المراد وأنفذ إليه من استحلفه على المصافاة والوداد وتوثق منه على الوفاء وجميل الاعتقاد وأكد الأمر في هذه الحالة تأكيداً سكن إليه ووثق به واعتمد عليه وبادر بتجريد وجوه عسكره في خمسمائة فارس وكتب إلى ولده بهاء الدين سونج بحماة يأمره بالخروج في عسكره والاختلاط بالعسكر الدمشقي ومقدمه الأمير شمس الأمراء الخواص وعدة من الأمراء والمقدمين فامتثل الأمر وخرج من حماة في رجاله وتجمله

(1/361)


وتوجهوا جميعاً إلى مخيم عماد الدين أتابك فأحسن لقاءهم وبالغ في الاكرام لهم وأغفلهم أياماً وعمل عليهم وغدر بهم وقبض على سونج ولد تاج الملوك وعلى جماعة المقدمين ونهب خيامهم وأثقالهم وكراعهم فهرب منهم من هرب واعتقل الباقين وحملهم إلى حلب وأمر بحفظهم فيها وزحف من يومه إلى حماة وهي خالية من الرجال الحماة فملكها واستولى على ما فهيا ورحل عنها إلى حمص وكان صاحبها خيرخان بن قراجه معه بعسكره ومناصح في خدمته وعامل بطاعته وكان المعين له والمحرض على الغدر بسونج وقبضه حين نزل عليها غدراً بخيرخان صاحبها واعتقله ونهب خيامه وأثقاله وتوثق منه وطلب بتسليم حمص إليه فراسل نوابه فيها وولده بذاك فلم يلتفتوا إلى مقاله ولا وقعت منهم إجابة إلى سؤاله فأقام عليها مدةً طويلةً يبالغ في المحاربة لأهلها والمضايقة لها فلم يتهيأ له فيها مطلب ولا تيسر مأرب فرحل عنها إلى الموصل واستصحب معه سونج بن تاج الملوك والمقدمين من عسكر دمشق وأقر الباقين في حلب وترددت المراسلات في إطلاق المعتقلين فلم يفعل والتمس عنهم خمسين ألف دينار أجاب تاج الملوك إلى تحصيلها والقيام بها
في هذه السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بقتل الآمر بأحكام الله صاحبها في آخرها تدبيراً دبر له وعمل فيه عليه لأمور منكرة ارتكبها وأحوال قبيحة اعتمدها ادعت إلى قتله وأوجبت الفتك به لأنه بالغ في ظلم الرعية وأخذ أموالهم واغتصاب ملاكهم وسفك الدماء وأساء السيرة وارتكب المحذورات واستحسن القبائح من المحظورات فابتهج الخاص والعام بالحادث فيه والراحة منه في يوم الثلاثاء الثاني من ذي القعدة سنة 524 وعمره 34 سنة ومولده بالقاهرة سنة 490 وأيام دولته 24 سنة ونقش خاتمه الامام

(1/362)


الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين وقام بعده ابن عمه أبو الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم ابن الامام المستنصر بالله أمير المؤمنين وأخذت له البيعة على الرسم فيها ونعت بالحافظ لدين الله أمير المؤمنين فاستقام له الأمر واستتب برأيه التدبير وقلد الأمر أبا علي أحمد بن الأفضل أمير الجيوش وزارة الدولة وتدبير المملكة فساس الكافة أعدل سياسة ودبر الأعمال أجمل تدبير وجرى على منهاج أبيه الأفضل رحمه الله في حب العدل وايثاره واحتواء الجور واخماد ناره وأعاد على التناء والتجار ما اغتصب من أموالهم وقبض من أملاكهم وأمن البر التقي وأخاف المفسد ولم يزل على هذا المذهب الحميد مواظباً ولهذا المنهاج السديد مداوماً إلى أن نجم له من مقدمي الدولة حسدة حسدوه على ما الهمة الله من أفعال الخيرات واقتناء الصالحات تجمعوا على افساد أحواله ولفقوا المحال في الطعن في أعماله وسعوا في العمل بأنواع من الكذب جمعوها وألفاظ من الباطل نمقوها وقرر ذلك مع العسكرية دون الأعيان والأماثل

(1/363)


من الرعية وأغفل إلى أن وجدت الفرصة فيه متسهلة والغرة منه باديةً وحصل في جانب من الميدان خالياً من العدة والعدة والأعوان والنجدة لا يشعر بما قد رتب له ودبر عليه فوثبوا عليه وقتلوه رحمه الله وانفردوا به وأدركه أصحابه وقد قضى فقتلوا الجناة وحملوه إلى تربته فدفنوه بها

سنة خمس وعشرين وخمسمائة
في هذه السنة انتهى إلى تاج الملوك عن الرئيس المقلد أمر الوزارة محال غير قلبه عليه وقدح في منزلته وأفسد ما كان جميلاً فيه من رأيه وأمر باعتقاله مع بعض أقاربه اعتقالاً جميلاً وعزله عن الوزارة والرئاسة

(1/364)


في شهر ربيع الأول منها وعول في تقليد مكان الوزارة على كريم الملك أبي الفضل أحمد بن عبد الرزاق المزدقاني ابن عم الوزير أبي علي المزدقاني المقدم ذكره فرد الأمر في ذلك إليه وعول في الوزارة والسفارة عليه واستقام له الأمر ومشت الأحوال به. واستبشر أكثر المتصرفين والعمال لأنه كان حسن الطريقة قد تهذب في النيابة عن الوزارة في الديوان وعرف سياسة الأعمال في كل عصر وأوان فصيح اللسان بالفارسية والعربية ولم يزل مستمر الأمر إلى أن حدث ما تغيرت به حاله لأن الباطنية لما جرى عليهم قضاه الله من البوار وأحله بهم من الهلاك والدمار انتهى خبر ذاك إلى رفقائهم بألموت فأسفوا عليهم وقلقوا لما نزل بهم وشرعوا في بث حبائل شرهم ونصب اشراك خترهم ومكرهم وندبوا لتاج الملوك من يغتاله ويوقع به من جهال إخوانهم وفتاك أقرانهم. ووقع اختيارهم على جاهلين من الخراسانية قرروا معهما التحيل في أمر تاج الملوك والطلب له والفتك به في داره عند إمكان الفرصة فيه ووصل هذان الرجلان إلى دمشق في زي الأتراك بالقباء والشربوش وحضرا إلى معارف لهما من الأتراك وسألوهما الوساطة في استخدامهما وتقرير الواجب لهما وخدعاهم ولم يرتابوا بهما وتدرجا بالحيلة والمكر إلى أن صارا في الجملة من الخراسانية المرتبين لحفظ ركاب تاج الملوك وتمكنا وسكنت القلوب إليهما لأنها ضمنا. ورقبا الفرصة في تاج الملوك إلى أن دخل الحمام وعاد منه ووصل إلى باب داره من القلعة بدمشق وتفرق عنه من كان في ركابه من الخراسانية والديلم والأحداث الحفظة له فوثبا عليه في يوم الخميس لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة 525 وضربه أحدهما بالسيف طالباً لرأسه فجرحه في رقبته جرحاً لم يتمكن منه وضربه بسكين عند خاصرته نفذت بين اللحم والجلد ورمى بنفسه في الحال عن فرسه سليماً

(1/365)


وتكاثرت الرجال عليهما فقطعوهما بالسيوف وأحضر أهل الخبرة بمداواة الجراح من الأطباء والجرائحيين وعولجا فبرأ أحدهما الذي عند الرأس وتنسر الذي في الخاصرة وصلحت الحال في ذلك وركب وأقام مدة يحضر مجلسه الخواص والعسكرية والأجناد للسلام والشراب على الرسم المعتاد وفيها ورد الخبر من بغداد بوفاة السلطان مغيث الدنيا والدين محمود ابن السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن الملك شاه بن البارسلان رحمه الله في شوال سنة 525 بمرض حدث به كان معه نفاد أجله وفراغ مهله وتقررت السلطنة بعده لأخيه السلطان أبي الفتح مسعود بن محمد بن ملك شاه بن البارسلان وتكون ولاية العهد من بعده لابنه داود بن محمود ثم لأخيه السلطان طغرل بن محمد وسيأتي ذكر كل واحد منهم في موضعه وفيها ورد الخبر من حلة مكتوم بن حسان بن مسمار بأن الأمير دبيس بن صدقة ابن مزيد اجتاز بالحلة وكان قد انهزم من العراق في خواص أصحابه وغلمانه خوفاً من الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين وضل في الطريق لم يكن معه دليل عارف بالمسالك والمناهل وكان قصده حلة مرى بن ربيعة فهلك أكثر من كان معه وتفرق أصحابه بعد موت من مات بالعطش وقد حصل في الحلة كالمنقطع الوحيد في نفر يسير من أصحابه فانهض تاج الملوك فرقة من الخيل نحوه لاحضاره فأحضرته إلى القلعة بدمشق في ليلة يوم الاثنين لست خلون من شعبان سنة 525 فتقدم تاج الملوك بإنزاله في دار القلعة وإكرامه واحترامه والتنوق في شرابه وطعامه وحمل إليه من الملبوس والمفروض ما يقتضه محله الرفيع ومكانه المكين الوجيه واعتقله اعتقال كرامة لا اعتقال إهانة وأنهى

(1/366)


الحال في ذلك إلى الدار العزيزة الأمامية المسترشدية فورد الجواب إليه بالتوثق منه والاحتياط عليه إلى حين يصل إليه من يتسلمه ويحمله إلى بغداد
ولما عرف عماد الدين أتابك زنجي صاحب الموصل هذه الحال نفذ رسولاً له إلى تاج الملوك يلتمس منه تسليمه ويكون الجزاء عنه الخمسين الألف الدينار المقررة على ولده سونج وبقية العسكر الدمشقي المتعلقين فأجابه تاج الملوك إلى ذلك وتقرر الشرط عليه وأن يصل عسكره إلى ناحية قارا ومعه المعتقلون ويخرج الأمير دبيس مع عسكر دمشق إلى هناك فإذا تسلم المعتقلين سلموا دبيساً إلى أصحابه فتوجهوا به من دمشق ووصلوا به إلى قارا فتسلموا المعتقلين منهم وسلموا إليهم دبيساً في يوم الخميس الثامن من ذي القعدة من السنة وعاد كل من العسكرين إلى مكانه ووصل سونج إلى دمشق هو والجماعة فسر تاج الملوك بهم وزال شغل قلبه بوصولهم فعند ذلك خوطب تاج الملوك في الرئيس وأهله المعتقلين وسئل في إطلاقهم والمن عليهم بتخلية سبيلهم فأجاب إلى ذلك بعد أن قرر عليه مصالحة يقوم بها وأطلق وأعيد إلى رئاسة دون وزارته وخلع عليه وعلى الوزير كمال الدين كريم الملك أبي الفضل أحمد بن عبد الرزاق المزدقاني في مستهل رمضان من السنة وفي هذه السنة ورد الخبر من صرخد بوفاة واليها فخر الدولة كمشتكين الخادم التاجي في جمادى الآخرة منها وكان حسن الطريقة جميل الذكر كثر التدين مشكور المقاصد. وفيها وصل سديد الدولة ابن الأنباري كاتب الخليفة الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين رسولاً منه في أمور وأسباب اقتضتها في آخر ذي القعدة منها ويبعث على تسليم الأمير دبيس إلى من يحمله إلى بغداد

(1/367)


وقد فات الأمر فيه فأكرم مثواه وسر بمقدمه وأجيب عن رسائله وتوجه عائداً بعد أن حمل إليه ما يقتضيه محله ويوجبه مكانه وصادفه في طريقه بناحية الرحبة خيل الأمير عماد الدين فقبضت عليه ونهبت ما كان معه وقتلت بعض غلمانه ولقي شدةً عظيمةً من الاعتقال والإعنات إلى أن خلص وأطلق سراحه وعاد إلى بغداد. وفي يوم الخميس لثلاث ليال خلت من جمادى الآخرة منها جمع تاج الملوك جماعة من الأمراء والمقدمين والخواص وأعيان الأجناد والكتاب والفقهاء وأماثل الرعية في مجلسه وقال لهم: إنني قد انتهت بي الحال بسبب هذا الجرح الذي قد طال أله وتعذر اندماله ما قد أيقنت معه الحلول بالأمر المقضي الذي لا بد منه ولا مندوحة للخلق عنه وقد يئست من روح الحيوة واستشعرت قرب الوفاة وهذا ولدي أبو الفتح إسمعيل قد لاحت لي منه إمارة الشهامة والنجابة وبانت لي فيه مخايل الكفاية واللبابة وهو أكبر ولدي والمرجو لسد ثلمة فقدي وقد رأيت أن أجعله ولي عهدي والمرشح لتولي الأمر بعدي ثقةً بسداده وحسن تأتيه مع حداثة سنه وحميد اقتصاده فإن سلك منهاج الخير واقتفاه وقصد سبيل العدل والانصاف وتوخاه فذاك المراد منه والمأمول فيه وإن عدل عن المطلوب المشار إليه وخالف الأمر المنصوص عليه كان المعول عليكم في

(1/368)


تنبهه من نومته وإيقاظه من فتور غفلته فإن الحازم اللبيب والسديد الأريب إذا ذكر ذكر وإذا أنهي عن منكر أعرض عنه واقتصر. فقالوا: الأمر أمرك الذي لا يخالف ولا يعدل عنه والحكم حكمك الذي لا خروج لنا منه وطاعتنا لك في حياتك كطاعتنا لولدك بعد وفاتك والله يمد لك في العمر ويمن عليك بالعافية الشافعية وتعجيل السلامة والبرء. فسر بمقالهم وشكر ما بدأ منهم من الحوادث الدالة على حميد خلالهم ثم نص في الأمر عليه وأشار في ولاية العهد من بعده إليه وقرر معهم العمل بطاعته والانتهاء إلى إشارته وخلع عليه خلعاً سنيةً تليق بمثله وتضاهي شرف مثله وركب فيها إلى داره من القلعة بين الأمراء والمقدمين والأتباع من الخراسانية والغلمان والسلاحية والمقرعدارية كذا والجاووشية في اليوم المذكور والمحفل المحضور وتضاعف بذاك منهم الجذل والسرور ومالت كافة الأصحاب إليه واجتمعوا عليه وواظبوا الخدمة له في كل يوم والتسليم عليه

سنة ست وعشرين وخمسمائة
في هذه السنة ورد الخبر من ناحية الافرنج بهلاك بغدوين الرويس ملك الافرنج صاحب بيت المقدس بعكا في يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر رمضان منها وكان شيخاً قد عركه الزمان بحوادثه وعانى الشدائد من نوائبه وكوارثه ووقع في أيدي المسلمين عدة دفعات أسيراً في محارباته

(1/369)


ومصافاته وهو يتخلص منهم بحيله المشهورة وخدعه المخبورة ولم يخلف بعده فيهم صاحب رأي صائب ولا تدبير صالح وقام فيهم بعده الملك القومص الجديد الكند ايجور الواصل إليهم في البحر من بلادهم فلم يتسدد في رأيه ولا أصاب في تدبيره فاضطربوا لفقده واختلفوا من بعده وفيها اشتد مرض الجرح بتاج الملوك ووقع اليأس من برئه وصلاحه فطال الأمر به طولاً سئم معه الحياة وأحب الوفاة وتزايد الضعف به والذبول في جسمه وقوته وقرب أجله وخاب في الصحة أمله وتوفي إلى رحمة الله ومغفرته وتجاوزه على مضي ساعة من نهار يوم الاثنين الحادي والعشرين من رجب منها فتألمت القلوب لمصابه وأفيضت الدموع للنازل به:
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألقيت كلّ تميمةٍ لا تنفع
ولكن قضاء الله تعالى لا يغالب وحكمه لا يدافع لأن هذه الدنيا دار سوء لم يدم فرح لامرئ فيها ولا حزن النفاس فيها محصاة معدودة والآجال محصورة محدودة والليل والنهار يقطعان الأعمار ويفنيان المدة وما فهم مواعظ الزمان من سكن إلى خدع الأيام. ولقد أنشد عند فقده الشريف الرضي:
بعداً ليومك في الزمان فإنّه ... أقذى العيون وفتّ في الأعضاد
لولا ما من الله من قيام نجله في الأمر من بعده ونصه عليه في ولاية عهده شمس الملوك فأزال الروعة وخفف اللوعة فاشتغل الناس بالتهنئة بالأمير الموجود عن التعزية بالشهيد المفقود. وقد كان لتاج الملوك رحمه الله

(1/370)


من المحاسن والمآثر والمناقب ما يذكر في المحافل وينشر في الأندية والمحاضر ونظمت مدائحه الشعراء ونشرت فضائله الفصحاء البلغاء وكان الأديب الفاضل أبو عبد الله محمد بن الخياط الشاعر الدمشقي رحمه الله وهو طرفة شعراء الشام والمشهور بمحاسن الفنون من المديح وغيره بينهم قد نظم في تاج الملوك عدة قصائد بالغ في تهذيبها وتحريرها وتحكيكها فذكرت من جملة أبياتها المعربة عن صفات معاليه ما يستدل به على استحقاقه ما بالغ فيه من مدح مقاصده ومساعيه فمن أبيات قصيدة أولها:
لقد كرّم الله ابن دهرٍ تسوده ... وشرّف يا تاج الملوك بك الدهرا
ومنّ على هذا الزمان وأهله ... بأروع لا يعصي الزمان له أمرا
حسام أمير المؤمنين ومن يكن ... حساماً له فليقتل الخوف والفقرا
إذا قلت في تاج الملوك قصيدةً ... من الشعر قالوا قد مدحت به الشعرا
وقال من أخرى
ألم تك للملوك الغرّ تاجا ... وللدنيا وعالمها سراجا
لقد شرّف الزمان بك افتخاراً ... كما سعد الأنام بك ابتهاجا
مددت إلى اقتناء الحمد كفّاً ... طمى بحر السماح جا وماجا
وغادرت المعالي بالعوالي ... كخيس الليث عزّ به ولاجا

(1/371)


ذكر أيام شمس الملوك أبي الفتح إسمعيل بن تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك وشرح حاله في ابتداء أمره إلى انقضائه وما كان في خلال ذلك من الحوادث المتجددة ومعرفة تواريخها وأوقاتها وأحوالها
لما مضى الأمير تاج الملوك بوري بن أتابك رحمه الله من هذه الدنيا الفانية إلى الدار الباقية سعيداً حميداً شهيداً أقام ولده شمس الملوك أبو الفتح إسمعيل مقامه في المملكة حسب ما كان عهد به إليه في حياته وأوصى بما يعمل به بعد وفاته أحسن السياسة والسيرة وأخلص النية في أعماله والسريرة وبسط العدل في الرعية وأفاض إحسانه على كافة الأجناد والعسكرية وأقر الاقطاعات على أربابها والجامكيات على أصحابها وزاد في الواجبات ولم ينقصها وأقر وزير أبيه على وزارته ورتب العمال والمتصرفين على ما كانوا عليه ورد أمر التقرير والتدبير إلى الحاجب يوسف بن فيروز شحنة دمشق واعتمد عليه في مهمات أمره وسكن إليه في جهره وسره وافتتح أمر السياسة بالنظر في أمر الرعية والمتعيشين بأن رفع عنهم ما كان يستخرج منهم في كل سنة من أقساط الفيئة وأبطل رسمها وحظر تناولها وأزال حكمها وعوض أرباب الحوالات عليها بجهات غيرها فكثر له الدعاء واتصل عليه الثناء وذلك في رجب سنة 526. وظهر من شهامته وشدة بأسه وشجاعته وإقدامه وبسالته ومضاء عزيمته ما لم يقع في وهم ولا خطر في بال وفهم وسنذكر من ذلك في أماكنه ما يقوم مقام العيان دون الحكاية بالمقال فمن ذلك أولاً افتتاحه حصن اللبؤة والرأس وكانا في يدي المندوبين لحفظهما من قبل تاج الملوك أبيه وكانا قد أقرا على رسمهما

(1/372)


فانتهى إلى شمس الملوك إن أخاه شمس الدولة محمد بن تاج الملوك صاحب بعلبك قد عمل عليهما حتى استنزلهما على حكمه من حصنيهما المذكورين وندب لهما من رآه من ثقاته ونوابه لحفظهما فأنكر مثل هذا الفعل عليه وامتعض منه وراسل أخاه المذكور بالمعاتبة على ما قصده ويهجن رأيه فيما اعتمده ويسأله النزول عليهما وإعادتهما إلى ما كانا عليه فامتنع من الاجابة إلى ما طلب والقبول لما التمس فأهمل الأمر فيه وفي الحديث في معناه مدةً يسيرةً ثم استعد وتأهب لقصد الحصنين المذكورين ولم يشعر أحد بما عزم عليه وصرف همه إليه. ثم نهض في العسكر وآلات الحرب من دمشق موهماً إنه يطلب ناحية الشمال في آخر ذي القعدة من السنة ثم عاد في طريق أخرى مغرباً بعد تشريقه فلم يشعر من بحصن اللبؤة إلا وقد نزل عليه وزحف من وقته إليه بعزيمة لا تدافع وشدة لا تمانع. فلما أحس من فيه بالبلاء لما شاهده من شدة القتال ولم يجد له مخلصاً بحال من الأحوال طلب الأمان من يومه فأجيب إلى ما سأل وأسعف بما أمل ونزل من الحصن وسلمه إليه فقرر أمره واستناب في حفظه من اعتمد على كفايته ونهضته. ثم رحل عنها عند الفراغ منه إلى حصن الرأس فجرى أمر من فيه على تلك القضية فتسلمه وولاه لمن يحفظه ثم رحل عنه ونزل على بعلبك وقد استعد أخوه صاحبها واحتشد واجتمع إليه خلق كثير من فلاحي البقاع والجبال وغير ذلك من الحرامية المفسدين فحصرهم فيها وضايقهم وزحف إليهم في الفارس والراجل وخرج من بعلبك من المقاتلة جماعة فقتل منهم وجرح نفر كثير وعلى السور أيضاً ثم زحف بعد أيام إلى البلد البراني وقد حصفوه بالرجال فشد عليهم القتال وفرق العسكر عليه من عدة جهات فملكه وحصل العسكر فيه بعد أن قتل وجرح الخلق الكثير ممن كان فيه ونصب المناجيق على

(1/373)


البلد والحصن وواظب الزحف إليهما والشد عليهما. فلما عاين صاحبها شدة الأمر والاستمرار على الاقامة والمصابرة راسل في بذل الطاعة والمناصحة والسؤال في إقراره على ما كان عليه في أيام أبيه فحملته عاطفة القربى على احتمال ما جرى والاغضاء عما سلف وأجاب إلى ما التمس ونزل على إيثاره ما طلب وتقرر الأمر بينهما على ما اقترح وعاد شمس الملوك في العسكر إلى دمشق ظافراً مسروراً في أوائل المحرم منها

سنة سبع وعشرين وخمسمائة
في المحرم منها وردت الأخبار من ناحية الافرنج بوقوع الخلف بينهم من غير عادة جارية لهم بذلك ونشبت المحاربة بينهم وقتل منهم جماعة. وفيها صادف جماعة من التركمان صاحب زردنا في خيله فظفروا به وقتلوه ومن معه واشتملوا على خيولهم وكراعهم. وقيل إن ابن الدانشمند ظفر بفريق وافر خرج من القسطنطينية فأوقع به وقتل من كان فيه من الروم وغيرهم
وفي سابع عشر جمادى الآخرة غار الأمير سوار من حلب في خيله على تل باشر فخرج من فيه من أبطال الافرنج إليه فقتل منهم تقدير ألف فارس وراجل وحمل رؤوسهم إلى حلب.

(1/374)


وفي رجب منها قبض شمس الملوك على مري بن ربيعة فاعتقله وعلى أسامة بن المبارك وصانعه على مصالحة قام بها وأطلقه وأقام مري على حاله وتردد فيه خطاب انتهى آخره إلى قتله وهذا مكافأة ما أسلفه من قبيح الأفعال ومذموم الأعمال والظلم الذي ارتكبه في سائر الأحوال ولما عاد شمس الملوك من ناحية بعلبك بعد المقرر بينه وبين أخيه صاحبها مما تقدم ذكره وشرحه انتهى إليه من ناحية الافرنج ما هم عليه من فساد النية والعزم على نقض الموادعة المستقرة. وشكا إليه بعض التجار الدمشقيين إن صاحب بيروت قد أخذ منهم عدة حمال كتان قيمتها جملة وافرة من المال فكتب إلى مقدم الافرنج في رد ذلك على أربابه وإعادته على من هو أولى به وترددت المكاتبات في ذلك فلم تسفر عن نيل مراد ولا نيل طلاب فحمله الغيظ والحنق على مقابلة هذا الفعل بمثله وأسر ذلك في نفسه ولم يبده لأحد من خاصته وثقات بطانته وصرف همه وعزمه إلى التأهب لمنازلة بانياس وانتزاعها من أيدي الملاعين المتغلبين عليها ونهض إليها في أواخر المحرم من السنة ونزل عليها في يوم الأحد غرة صفر منها وزحف في عسكر إليها وفيها جماعة وافرة من الخيالة والرجالة فارتاعوا لما أتاهم فجأةً وذلوا وانخذلوا وقرب من سورهم بالدرق الجفتيات والخراسانيين والنقابين وترجل عن جواده وترجل الأتراك بأسرهم لترجله ورشقوا من على السور بالنشاب فاستتروا ولم يبق أحد يظهر برأسه عليه لكثرة الرماة وألزق الجفتيات إلى مكان من السور استرقه فنقبوه إلى أن تمكنوا منه ثم هجموه وتكاثروا في البلد. والتجأ من كان فيه من الافرنج إلى القلعة والأبراج وتحصنوا بها ومانعوا عن نفوسهم فيها وملك البلد وفتح بابه وقتل كل من صودف فيه من الافرنج وأسر. ولما رأى من بالقلعة والأبراج من المنهزمين ما نزل بهم من تملك البلد والقصد لهم بالقتال ولا ناصر لهم ولا ممانع عنهم التمسوا الأمان فأجيبوا إليه

(1/375)


ونزلوا فاسروا جميعاً ونهب ما كان في البلد وقرر فيه من الرجال الأجلاد من يحفظه ويذب عنه ورحل عنه في العسكر ومعه الأسرى ورؤوس القتلى وحرم الوالي الذي كان به وأولاده والعدد الكثيرة ووصل إلى دمشق في يوم الخميس لست ليال خلت من صفر من السنة. وخرج الناس من البلد للقائه ومشاهدة الأسرى في الحبال والرؤوس في القصب وهم الشيء الكثير والجم الغفير فرأى الناس من ذلك ما أقر عيونهم وسر قلوبهم وشد متنهم وابتهجوا له وأكثروا من شكر الله تعالى على ما سناه من هذا النصر العزيز والفتح المبين وشاعت الأخبار بذلك في الافرنج فهالهم سماعه وارتاعوا لحدوث مثله وامتلأت قلوبهم رعباً ووجلاً وأكثروا التعجب من تسهل الأمر في بانياس مع حصانتها وكثرة الرجال فيها في أقرب مدة وأسهل مرام وأسفوا على من قتل من الخيالة الفرسان والرجالة
وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق بوصول السلطان مسعود بن السلطان محمد إلى بغداد ونزوله في الجانب الغربي منها وأقام بها أياماً قلائل لتقرير الحال وكتب تذكرةً بأشياء اقترحها والتمس إضافة الشام إلى العراق ووصل إليه قاضي القضاة والأعيان والأماثل واستحلفوه على ما تضمنه المشروح المقترح في التذكرة وطولع بما جرى فخرج الأمر السامي الأمامي المسترشدي بالاذن له في نزوله في دار السلطنة وكتبت ألقابه وإقامة الدعوة له وحمل إليه ما يحتاج إلى مثله من الفرش وغيره وخطب له آخر جمعة من المحرم وكتب بتقرير أمر السلطنة إلى جميع الأعمال والأمر بالدعاء له على منابرها. واستدعي إلى الدار العزيزة المسترشدية وناب الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد وزير الخليفة عنه في إيصال سلامه ودعائه أحسن مناب وخوطب بأجمل

(1/376)


جواب وأفيضت الخلع عليه في يوم الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الأول من السنة وقد جلس الامام الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين فحضر بين يديه وخدم كما جرت العادة لمثله فقال له أمير المؤمنين في مبدإ خطابه: تلق هذه النعمة بشكرك واتق الله تعالى في سرك وجهرك. وكان هذا التشريف سبع دراريع مختلفات الأجناس والسابعة منها سوداء وتاجاً مرصعاً وسوارير وطوق ذهب ولما جلس على الكرسي المعد له وقبل الأرض قال له أمير المؤمنين: من لم يحسن سياسة نفسه لم يصلح لسياسة غيره. قال الله تعالى ذكره: " فَمنْ يَعْمَلْ مِثقالَ ذرَّةٍ خيراً يَرَهُ ومَنْ يَعمَلْ مِثقالَ ذرَّةٍ شرّاً يَرَهُ ". فأعاد الوزير عليه ذلك بالفارسية فأكثر من الدعاء له والثناء عليه واستدعى أمير المؤمنين السيفين المعدين له فقلده بهما واللوائين فعقدهما له بيده وسلم عيه السلطان داود بن محمود أخيه وأتابكه اق سنقر وأكد الوصية عليه في بابهما واجمال الرعاية لهما واستحلفه على الوفاء بما قرره في بابهما وقال له أمير المؤمنين: انهض وخذ ما أتيتك وكن من الشاكرين. وتوجه السلطان مسعود بعد ذلك إلى ناحية أذربيجان في أول شهر ربيع الآخر من السنة وقد انضم إليه اق سنقر أحمديلي وخلق كثير من الأتراك ووردت الأخبار إلى بغداد بأن عسكر السلطان مسعود كسر عسكر السلطان طغرل بن محمد بناحية همذان في ثامن عشر رجب من السنة

(1/377)


وتفرق عسكره في البلاد وعاد السلطان مسعود إلى منزله وخوطب له في جامع همذان
وفي هذه السنة عزم شمس الملوك إسمعيل بن تاج الملوك على قصد حماة لمنازلتها واستعادتها من أيدي الغالبين عليها وملكتها وقد كان أخفى هذا العزم في نفسه ولم يظهر عليه غيره وشرع في التأهب لذاك والاستعداد للمصير إليها وقد كانت الأخبار انتهت إلى الحافظ لها بهذا الاعتزام فبالغ في التحصين لها والتأهب للذب عنها والمراماة دونها وأعد لذلك كل آلة يحتاج إليها ويعتمد عليها. وانتهى الخبر بهذه الحال إلى شمس الملوك فلم يحفل بهذا الأمر ولا يشطن عنه بل برز في العشر الأخير من شهر رمضان سنة 27 ولم يبق من مقدمي أمرائه وخواصه إلا من أشار عليه بأبطال هذه الحركة واستوقف عزمه عنها وهو لا يحفل بمقال ولم يسمع منه جواب خطاب وقيل له: تهمل هذا إلى فراغ صوم هذه الأيام القلائل من هذا الشهر المبارك وتقضي سنة العيد ويكون التوجه بعده إلى ذلك المكان. فلم يصغ إلى أحد في هذا الرأي ولا عمل بمشورة انسان وبنى أمره على قصدها وأهلها غارون ومن بها من الحماة غافلون لتحققهم إنه لا ينهض أحد في هذه الأيام إلا بعد العيد وترفيه الجند. ثم إنه رحل في الحال إليها وأغذ السير حتى نزل عليها وهجم في يوم العيد على من فيها فراعهم ما أحاط من البلاء بهم وزحف إليهم من وقته في أوفر عدة وأكمل عدة فتحصنوا بالدروب والرحال وصبروا على الرشق بالسهام والنبال وعاد العسكر في ذلك اليوم وقد نكأ فيهم نكايةً ظاهرةً في القتل والجرح والنهب والسلب وباكرهم من غده في الفارس والراجل وفرقهم حول البلد من جميع نواحيه ثم زحف في خواصه من الغلمان الأتراك وجماعة وافرة من الرجالة والخيالة

(1/378)


القتال واسترق موضعاً من حماة قصد إليه وعول في هجم البلد عليه وشد على من به من الحماة والرماة فاندفعوا بين يديه وهجم البلد بنفسه من ذلك المكان. ولاذ من بها بالأمان وترامى إليه جماعة من حماتها مستأمنين فأمنهم وخلع عليهم وأحسن إليهم ونادى بالكف عنهم ورفع الأذية عن كافتهم ورد ما نهب عليهم فخرج إليه أكثر رجال القلعة طالبين الأمان فخلع عليهم وأمنهم. فحين رأى الوالي ذلك وعرف عجزه عن المصابرة طلب أيمانه فأمنه: وسلم القلعة بما فيها إليه وحصلت مع البلد في يديه بأسهل أمر وأسرع وقت فرتب لولايتها من اعتمد عليه وسكن في حفظها إليه ورحل عنها وقصد شيزر ونزل عليها وأمر بالعيث والفساد في نواحيها ولم يزل على هذه الحال إلى أن لوطف واستعطف بما حمل إليه ورحل عائداً إلى دمشق ودخلها مسروراً ظافراً في ذي القعدة من السنة ومن اقتراحات شمس الملوك الدالة على قوة عزيمته ومضاء همته ومستحسن ابتدائه ما أحدثه من البابين المستجدين خارج باب الحديد من القلعة بدمشق الأوسط منها وباب جسر الخندق الشرقي منها وهو الثالث لها أنشأهم في سنة 527 مع دار المسرة بالقلعة والحمام المحدثة من شامها على قضية اخترعها وبنية اقترحها وصفة أثرها فجاءت في نهاية الحسن والطيبة والتقويم والاعتدال وفرغ منها في أوائل سنة 528 وفيها ورد الأمير المنتضى أبو الفوارس وثاب بن مسافر الغنوي رسولاً من مصر في يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة منها بجواب ما كان صدر من مكاتبة شمس الملوك وواصل ما صحبه من الخلع السنية وأسفاط الثياب المصرية والخيل والمال وقرئ الكتاب الوارد على يده

(1/379)


ولم يزل مقيماً إلى أن تسهل مسيره فعاد منكفئاً سنة 28 في يوم السبت لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول منها
وفي ذي الحجة منها وردت الأخبار بوصول عسكر وافر من التركمان إلى ناحية الشمال وإنهم غاروا على طرابلس وأعمالها من معاقل الافرنج فظفروا بخلق كثير منهم قتلاً وأسراً وحصل لهم من الغنائم والدواب الشيء الكثير وإن صاحب طرابلس قنض طلولاً بن بدران الصنجيلي خرج إليهم فيمن حشده من أعماله ولقي عسكر التركمان فكسروه وأظفرهم الله بحشده المفلول وجمعه المخذول وقتل أكثر رجاله وحل حماته وأبطاله وانهزم في نفر قليل من الحصن المعروف ببعرين فالتجأوا إليه وتحصنوا به ونزل عسكر الأتراك عليه وأقاموا محاصرين له أياماً كثيرة حتى نفد ما فيه من القوت والماء بحيث هلك منهم ومن خيلهم الأكثر فاعملوا الحيلة واستغنموا الغفلة وانتهزوا الفرصة وخرجوا في تقدير عشرين مع المقدم فنجوا ووصلوا إلى طرابلس. وكاتب ملك بنض طلولا صاحبها ملك الافرنج بعكا يستصرخ به وبمن في أعماله ويبعثهم على نصرته فاجتمع إليه من الافرنج خلق كثير ونهضوا إلى التركمان لترحيلهم عن حصن بعرين واستنقاذ من بقي فيه منهم فلما عرفوا عزمهم وقصدهم زحفوا إلى لقائهم فقتلوا منهم جمعاً كثيراً وأشرف التركمان على الظفر بهم والنكاية فيهم لولا إنهم اندفعوا إلى ناحية رفنية فاتصل بهم رحلهم عنها وعودهم على طريق الساحل فشق ذلك عليهم وأسفوا على ما فاتهم من غنائمهم وتفرقوا في أعمالهم

(1/380)


وفي هذه السنة عرض لكريم الملك أبي الفضل أحمد بن عبد الرزاق وزير شمس الملوك مرض حاد لم يزل به إلى أن توفي إلى رحمة الله في يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي الحجة منها فحزن له الناس وتفجعوا بوفاته وتأسفوا عليه بحسن طريقته ومشكور أفعاله وحميد خلاله وكان محباً للخير متمسكاً بالدين مواظباً على تلاوة القرآن العظيم وفي صفر من السنة نهض صاحب بيت المقدس ملك الافرنج في خيله إلى أطراف أعمال حلب ووصل إلى موضع يعرف بنوار فنهض إليه الأمير سوار النائب في حلب في عسكر حلب وما انضاف إليه من التركمان فالتقوا وتحاربوا أياماً وتطاردوا إلى أن وصلوا إلى أرض قنسرين فحمل الافرنج عليهم فكسروهم كسرةً عظيمةً قتلوا فيها من المسلمين تقدير مائة فارس فيهم جماعة من المقدمين المشهورين المذكورين وقتل من الافرنج أكثر من ذلك ووصل الفل إلى حلب وتم الافرنج إلى قنسرين ثم إلى المقاومة ثم إلى نقرة الأحرين كذا فعاود الأمير سوار النهوض إليهم من حلب في من بقي من العسكر والأتراك فلقوا فريقاً من الافرنج فأوقعوا به وكسروه وقتلوا منه تقدير مائة فارس فانكفت الافرنج هزيماً نحو بلادهم وعاد المسلمون برؤوس القتلى والقلائع إلى حلب فانجلت تلك الغمة بتسهل هذه النعمة. ووصل الملك إلى انطاكية وانتهى إلى سوار خبر خيل الرها فنهض الأمير

(1/381)


سوار وحسان البعلبكي فأوقعوا بهم وقتلوهم عن آخرهم في بلد الشمال وأسروا من وقع في أيديهم حياً وعادوا إلى حلب ظافرين سالمين ومعهم الأسرى والرؤوس