تاريخ دمشق لابن القلانسي

سنة ثمان وعشرين وخمسمائة
وفي هذه السنة نهض شمس الملوك إسمعيل بن تاج الملوك في عسكره إلى شقيف تيرون. الذي في الجبل المطل على ثغر بيروت وصيدا فملكه وانتزعه من يد ضحاك بن جندل التميمي المتغلب عليه في يوم الجمعة لست بقين من المحرم منها
وفي هذه السنة خرج شمس الملوك إلى التصيد أواخر شهر ربيع الآخر بناحية صيدنايا وعسال فلما كان يوم الثلاثاء التاسع منه وقد انفرد من غلمانه وخواصه وثب عليه أحد مماليك جده ظهير الدين أتابك من الأتراك يعرف بايلبا وقد وجد منه خلوةً وفرصةً بالسيف وضربه ضربةً هائلةً يريد بها قطع رأسه فقضى الله تعالى بالسلامة فانقلب السيف من يده ولم يعمل شيئاً ورمى بنفسه إلى الأرض في الحال وضربه ثانيةً فوقعت في عنق الفرس فأتلفه وحال بينه وبين الفرس إلى أن تكاثر عليه الغلمان وتوافوا إليه فانهزم وأنهض في أثره من الخيل من يتعقبه ويطلبه ويتوثق منه وعاد إلى البلد. وقد اضطرب الأمر فيه عند إشاعة هذه الكائنة فسكنت النفوس بسلامته. وجد المنهضون في طلبه من الخيل والغلمان والبحث عنه في الجبال والطرقات والمسالك إلى أن لحقوه فجرح جماعةً بالنشاب

(1/382)


إلى أن أمسكوه فلما أحضروه إلى شمس الملوك وقرره وسأله: ما الذي حملك على هذا الفعل. فقال: لم أفعله إلا تقرباً إلى الله تعالى بقتلك وراحة الناس منك لأنك قد ظلمت المساكين والضعفاء من الناس والصناع والمتعيشين والفلاحين وامتهنت العسكرية والرعية. وذكر جماعةً من الغلمان أبرياء أوقعهم في التهمة بأنهم وافقوه على هذا فقبض عليهم وأضافهم إليه وقتل الجميع في الحال صبراً. ولامه الناس على ذلك حيث قتل هؤلاء الغلمان بقول هذا الجاني من غير بينة قامت ولا دلالة ظهرت ولم يكفه قتل من قتل ظلماً حتى اتهم أخاه سونج بن تاج الملوك فقتله وهو كبيره أشنع قتلة بالجوع في بيت وبالغ في هذه الأفعال القبيحة والظلم ولم يقف عند حد وفي يوم السبت الرابع من جمادى الأولى من السنة وصل أثير الملك أبو علي الحسن ابن اقش رسولاً من الدار العزيزة النبوية المسترشدية وعلى يده برسم شمس الملوك التشريف الامامي المندوب لإيصاله إليه وإفاضته عليه ووردت المكاتبات على يده عن الوزير شرف الدين أبي القسم علي بن طراد النقيب الزينبي وزير الخليفة وكان معزولاً عن الوزارة فأعيد إليها في شهر ربيع الأول سنة 528 وصرف عنها الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد صرفاً جميلاً وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بالخلف الحادث بين ولدي الامام الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد أمير المؤمنين أبي علي الحسن ولي عهد المسلمين وأخيه أبي تراب حيدرة ابني الحافظ واقتسام الأجناد فرقتين أحدهما مائلة إلى مذهب السنة وأهله والاخرى إلى مذهب

(1/383)


الاسماعيلية وحزبه واستعار نار الحرب بينهما واستظهار حزب السنة على حزب الاسماعيلية بحيث قتل منهم خلق كثير وكان أكثر القتل في الريحانية والسودان واستقام الأمر بعده لأبي علي الحسن وتتبع من كان ينصر مذهب الاسماعيلية من المقدمين والدعاة ومن يجري مجراهم فأبادهم بالقتل والتشريد وصلحت الأحوال واستقامت أمور الأعمال بعد الاضطراب والاختلال وورد كتاب الحافظ لدين الله إلى شمس الملوك بهذه الحال في أواخر ذي الحجة من السنة بما تجدد عنده من هذه النعمة
وفي ذي القعدة من السنة انتهت الأخبار إلى شمس الملوك من ناحية الافرنج باعتزامهم على نقض المستقر من الهدنة وقبيح الموادعة المستمرة وتأهبهم للجمع والاحتشاد وقصد الأعمال الدمشقية بالعيث والفساد فحين عرف شمس الملوك هذه الحال شرع في جمع الرجال واستدعى التركمان من جميع الأعمال واتصل به نهوض الافرنج إلى ناحية حوران فبرز في العسكر وتوجه إليهم وخيم بإزائهم وشرعوا في اخراب أمهات الضياع الحورانية ووقع التطارد بين الفريقين. وكان الافرنج في جمع كثيف من الخيل والرجل بحيث حصروهم في منزلهم لا يخرج منهم فارس ولا راجل إلا رشقته السهام واختطفه الحمام وأقامت المناوشة بين الفريقين عدة أيام ثم أغفلهم شمس الملوك ونهض في فريق وافر من العسكر وهم لا يشعرون وقصد بلادهم عكا والناصرية وما جاورهما وطبرية وما والاها فظفر بما لا يحصى كثرةً من المواشي والعوامل والنسوان والصبيان والرجال وقتل من صادفه وسبى من ظهر له وأحرق ما وجده وامتلأت أيدي التركمان من غنائمهم. واتصل الخبر بالافرنج فانخذلوا وقلقوا وانزعجوا وأجفلوا في الحال من منزلهم طالبين أعمالهم وعرف شمس الملوك ذاك

(1/384)


فانكفأ إلى مخيمه على طريق الشعراء سالماً في نفسه وجملته ظافراً غانماً. ووصل الافرنج إلى أعمالهم فشاهدوا ما حل بها ونزل بأهلها من البلاء فساءهم ذاك وفت في أعضادهم وانفلت شكتهم وانقصفت شوكتهم وتفرق شملهم وذلوا وطلبوا تقرير الصلح بينهم وعاد شمس الملوك إلى دمشق مسروراً في آخر ذي الحجة من السنة وفيها وردت الأخبار باجتماع الأمير عماد الدين أتابك والأمير حسام الدين تمرتاش ابن ايل غازي بن ارتق على بلاد الأمير داود بن سكمان بن ارتق ونهض إليهما في عسكره والتقى الفريقان على باب آمد فانهزم داود وانفل عسكره وأسر بعض أولاده وقتل جماعة من أصحابه وذلك في يوم الجمعة سلخ جمادى الآخرة ونزل على آمد وحصرها وقطع شجرها ولم يحصل منها على طائل فرحل عنها ووردت الأخبار بأن عماد الدين أتابك نزل على القلعة المعروفة بالصور وضايقها وافتتحها في رجب من السنة. وفيها ورد الخبر من ناحية بغداد بوقوع النار في بعض محالها فاحترق الخان المشهور بمخازن التجار وكثير من الأسواق وتلف للتجار الحاضرين والغائبين من جميع الجهات ما لا يحصى من أموالهم وبضائعهم. وفيها ورد الخبر بأن عماد الدين أتابك استوزر ضياء الدين أبا سعيد الكفرتوثي وهو مشهور بحسن الطريقة والكفاية وحب الخير والمقاصد السديدة والمذاهب الحميدة. وفيها وردت الأخبار من ناحية العراق بوفاة السلطان طغرل بن السلطان محمد بن ملك شاه رحمه الله.

(1/385)


وفيها تواصلت الأخبار من ناحية الأمير عماد الدين أتابك باعتزامه على التأهب لقصد مدينة دمشق لمنازلتها ومحاصرتها وإنه منصرف الهمة إلى الاستعداد لذلك.

سنة تسع وعشرين وخمسمائة
في أول المحرم هرب الحاجب يوسف بن فيروز شحنة دمشق إلى تدمر خوفاً من شمس الملوك إسمعيل بن تاج الملوك بوري

شرح السبب في ذلك
كان الحاجب المذكور في جاه تاج الملوك متمكن الرتبة عنده مقبول الرأي فيما يرومه وقد صرف همه ووكده إلى تطلب معقل حصين بعده لنائبة تنوب وخطب من خطوب الزمان تتجدد واتفق إن الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك المقيم بتدمر قد سئم المقام بها وضجر من كونه فيها وارتاحت نفسه إلى دمشق والاقامة فيها وجعل يراسل أباه تاج الملوك ويسأله نقله عنها ولم يزل إلى أن أجيب إلى مقترحه وأسعف بمطلبه. فوجد يوسف بن فيروز الغرض الذي يتطلبه قد تسهلت أسبابه فشرع في الحديث فيه والخطاب بسببه والاستعانة بمن يعينه على ذلك من المقدمين والوجوه إلى أن تسهل الأمر وأجيب إليه وعول في تولي أمر تدمر عليه وتسلمها وحصلت في ولايته ورتب فيها ولده مع من وثق به في حفظها والذب عنها من ثقات أصحابه وأمناء نوابه وشرع في تحصينها ومرمتها ولم شعثها وشحنها بالغلة والعدد وحصل فيها كل ما يحتاج مثلها إلى مثله. فلما عرف

(1/386)


من شمس الملوك التنكر عليه وظهر له فساد نيته فيه وبان ذلك له من ثقات يسكن إليهم ولا يشك فيهم وحمله الخوف من المعاجلة له والايقاع به فهم بالهروب إلى تدمر وترقب الفرصة في ذلك إلى أن اتفق لشمس الملوك في بعض الجهات خروج فخرج من البلد آخر النهار وسره مكتوم عن الخل والجار وقصد ضيعته لمشاهدتها وقد استصحب خواص أصحابه وغلمانه ثم تم على حاله مغذاً في سيره مجداً في قصده إلى أن حصل بتدمر آمناً مما توقاه ظافراً بما رجاه. وظهر خبره في غد ذلك اليوم فحين عرف شمس الملوك جلية حاله ضاق صدره لافلاته من يده وتضاعف ندمه لفوات الأمر فيه وكاتبه بما يطيب نفسه ويؤنسه بعد استيحاشه فلم يصغ إلى ذلك بل أجابه جواب الخاضع والطائع والعبد الناصح والمستخدم المخلص ويقول: إنني في هذا المكان خادم في حفظه والذب عنه فلما وقع اليأس وعلم إن المقال لا ينجع حنق عليه وذكره بكل قبيح وأظهر ما يسره في نفسه ولم يعرض لشيء من ملكه وداره وأقطاعه وأهله وأسبابه. وتجدد بعد ذلك ما يذكر في موضعه وكان هروبه في ليلة الجمعة لليلة خلت من المحرم سنة 529 من الضيعة الجارية في أقطاعه المعروفة بالمنيحة من الغوطة
وفي هذه السنة شاعت الأخبار في دمشق بين خاصتها وعامتها عن صاحبها الأمير شمس الملوك أبي الفتح إسمعيل بن تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك بتناهيه في ارتكاب القبائح المنكرات وإيغاله في اكتساب المآثر المحظورات الدالة على فساد التصور والعقل وصداء الحسن

(1/387)


وظهور الجهل وتبلد الفهم وحب الظلم وعدوله عما عرف فيه من مضاء العزيمة في مصالح الدين والمسارعة إلى الجهاد في الأعداء الملحدين وشرع في مصادرات المتصرفين والعمال وتأول المحال على المستخدمين في الأعمال واستخدم بين يديه كردياً جاءه من ناحية حمص يعرف ببدران الكافر لا يعرف الاسلام ولا قوانينه ولا الدين وشروطه ولا يرقب في مؤمن ولاء ذمة ونصبه لاستخراج مال المصادرين من المتصرفين والأخيار المستورين بفنون قبيحة اخترعها في العقوبات وأنواع مستبشعة في التهديد لهم والمخاطبات. وظهر من شمس الملوك مع هذه الحال القبيحة والأفعال الشنيعة بخل زائد وإشفاق نفس إلى الدنايا متواصل بحيث لا يأنف من تناول الخسيس الحقير بالعدوان وأخذه من غير وجهه بالعتو والطغيان وأشياء من هذا الباب لا حاجة إلى ذكرها لاشاعتها واشتهار أمرها بحيث أنكرت من أفعاله واستبشعت من أمثاله ولم يكفه ما هو عليه من هذه الأفعال الذميمة والخصال المكروهة حتى أسر في نفسه مصادرة كفاته من الكتاب وخواصه من الأمراء والحجاب وعزم على الابتداء أولاً بالحاجب سيف الدولة يوسف بن فيروز أحظى من كان عند أبيه أولاً وعنده ثانياً واشتهر عنه حتى هرب إلى تدمر منه ورأى الغنيمة الكبرى ببعده من شره وراحته من نظره. وكاتب في أثناء هذا الاختلال والاضطراب الأمير عماد الدين أتابك حين عرف اعتزامه على قصد دمشق لمنازلتها ومضايقتها والطمع في ملكتها يبعثه على سرعة الوصول إليها ليسلمها إليه طائعاً ويمكنه من الانتقام من كل من يكرهه من المقدمين والأمراء والأعيان بإهلاكهم وأخذ أموالهم وإخراجهم من منازلهم لأمر تصوره وهذيان في نفسه قرره وتابع الكتب إليه بالمسئلة في الاسراع والبدار وترك التلوم والانتظار ويقول له في أثناء هذا المقال وإن اتق إهمال لهذا الأمر وإغفال أو إمهال أحوجت إلى

(1/388)


استدعاء الافرنج من بلادهم وسلمت إليهم دمشق بما فيها وكان إثم دم من بها في رقبته وأسر ذلك في نفسه ولم يبده لأحد من وجوه دولته وأهل بطانته وكانت كتبه بذلك بخط يده وشرع في نقل المال والأواني والثياب من خزانته إلى حصن صرخد حتى حصل الجميع به ظناً منه إنه يفوز به ويهلك جميع الناس من بعده. فلما بدأ هذا الأمر يظهر واسر فيه ينتشر شرع في القبض على أصحابه وكتابه وعماله وغيرهم من أهل دمشق ومقدمي الضياع امتعض الأمراء والمقدمون ووجوه الغلمان الأتابكية وكافة العسكرية والرعية من هذا الفعل وأشفقوا من الهلاك والبوار إن تم هذا التدبير المذموم لما يعلمون من أفعال عماد الدين أتابك إذا ملك البلد فأجروا الحديث فيما بينهم سراً. وأنهوا الحال فيه إلى والدته الخاتون صفوة الملك فقلقت لذاك وامتعضت منه واستدعته وأنكرته واشتبشعت وحملها فعلها الجميل ودينها القويم وعقها الرصين على النظر في هذا الأمر بما يحسم داءه ويعود بصلاح دمشق ومن حوته وتأملت الأمر في ذلك تأمل الحازم الأريب والمرتأي المصيب فلم تجد لدائه دواء ولا لفمه شفاء إلا بالراحة منه وحسم أسباب الفساد المتزايد عنه وأشار عليها وجوه الغلمان وأكابرهم بذاك واستصوبوا رأيها فيه وبعثوها على المعاجلة له قبل ظهور الشر وفوات الأمر وإنه لا ينفع فيه أمر ولا ينجع معه وعظ. فصرفت الهمة إلى مناجزته وارتقبت الفرصة في خلوته إلى أن تسهل الأمر المطلوب عند خلوته من غلمانه وسلاحيته فأمرت غلمانها بقتله وترك الامهال له غير راحمة له ولا متألمة لفقده لما عرفت من قبيح فعله وفساد عقله وسوء سيرته ومذموم طريقته وأوعزت بإخراجه حين قتل وإلقائه في موضع من الدار ليشاهده غلمانه. وكل سر بمصرعه وابتهج بالراحة منه وبالغ

(1/389)


في شكر الله تعالى على ما سهله فيه وأكثر الدعاء لها والثناء عليها وذلك ضحى نهار يوم الأربعاء الرابع عشر من ربيع الآخر سنة 529. وقد كان مولده ليلة الخميس السابع بالعدد من جمادى الآخرة سنة 506 في الساعة الثانية منها والطالع برج السرطان أو المشتري فيه كمح مح والمريخ في السنبلة والزهرة في الخامس والعقرب والشمس في
السادس من القوس والقمر وزحل في التاسع وسهم السعادة في العاشرسادس من القوس والقمر وزحل في التاسع وسهم السعادة في العاشر وقد كان المعروف ببدران الكافر لعنه الله في يوم الثلاثاء المتقدم ليوم الأربعاء الذي قتل فيه وقد راح من بين يديه بعد أن أسر إليه بشر يعمل عليه له. فلما حصل في بيته وقت الظهر من يومه المذكور أرسل الله تعالى ذكره عليه آفةً عظيمة أخذت بأنفاسه وربا لسانه حتى ملأ فاه وهلك من وقته وكانت الكائنة في غده فبالغ الكافة في حمد الله تعالى وشكره على هذه الآية الباهرة والقدرة الظاهرة وواصلوا تسبيحه وتقديسه وتمجيده فسبحان مالك الأمر ومدبر الخلق تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً وفي الوقت نودي بشعار أخيه الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بن أتابك جلس في منصبه بمحضر من والدته خاتون صفوة الملك وحضر الأمراء وأماثل الأجناد وأعيان الرعية فسلموا عليه بالامرة واستحلفوا على الطاعة له ولوالدته والمناصحة في خدمتهما والنصرة لأوليائهما والمجاهدة في أعدائهما وحلف كل منهم بانشراح من صدره وانفساح من أمله وظهر من سرور الكافة خاصيها وعاميها بهذه النوبة السعيدة والأفعال الحميدة ما يزيد على الوصف وأيقنوا بالخلاص من المكروه الذي أشرفوا عليه واستقامت الأحوال وتحققت الآمال وتتابعت المكاتبات في أثناء ذلك من سائر الجهات بوصول عماد الدين في عسكره وقطعه الفرات مجداً لتسلم دمشق من شمس الملوك

(1/390)


صاحبها ووصلت رسله لتقرير الأمر فصادفوا الحال بالضد والتدبير بالعكس إلا إنهم أكرموا وبجلوا وأحسن إليهم وأعيدوا بأجمل جواب وألطف خطاب وأعلم عماد الدين جلية الحال واتفاق الكلمة في حفظ الدولة والذب عن الحوزة والبعث على اجمال الرعاية والعود على أحسن نية فلما انتهى إليه الجواب ووقف عليه لم يحفل به ولا أصاخ إلى استماعه فأوهمته نفسه بالطمع في ملكة دمشق ظناً منه بأن الخلف يقع بين الأمراء والمقدمين من الغلمان فكان الأمر بخلاف ما ظن وواصل الرحيل وأغذاذ السر إلى أن وصل إلى ظاهر دمشق وخيم بأرض عذراء إلى أرض القصير في عسكر كثيف الجمع عظيم السواد في أوائل جمادى الأولى في سنة 519. وقد كان التأهب له مستعملاً عند ورود أخبار عزيمته وأجفلت الضياع وحصل أهلها في البلد ووقع الاستعداد لمحاربته واللقاء عند منازلته والاجتماع على صده ودفعه ولم تزل الحال على هذه القضية والانتصاب بإزائه على هذه السجية وقد أشعرت النفوس من شدة البأس والصبر على المراس للقائه والتأهب لزحفه ودنوه من البلد وقربه وقد كان رحل عن عذارء ونزل تحت العقبة القبلية وكان يزحف في عسكره وقد فرقه في عدة مواضع كالمراكب حتى تقرب من البلد فيشاهد كثرة من يخرج من البلد والعسكرية وأحداث الرعية بالسلاح الشاك وامتلأ المصلي وسائر الأماكن والكمناء في جميع المسالك ما يروعه ويصده عن الزحف وفي كل يوم يصل من مستأمني عسكره جملة وافرة مع ما ينهب من خيولهم ويقلع من فوارسهم فلما طالت الأيام عليه ولم يحصل على طائل مما حاول ولا مرام راسل في طلب الصلح والدخول في طاعته والتمس خروج الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك إليه لوطء بساط ولد السلطان الواصل معه ويخلع عليه ويعيده إلى بلده وأجمل الخطاب في ذلك والوعد فلم يجب إلى خروج شهاب الدين وتقررت الحال

(1/391)


على خروج أخيه تاج الملوك بهرام شاه بن تاج الملوك. ووافق ذلك وصول الرئيس بشر بن كريم بن بشر رسولاً من الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين إلى عماد الدين أتابك بخلع أعدت له والأمر بالرحيل عن دمشق وترك التعرض لها والوصول إلى العراق لتولي أمره والتدبير له وأن يخطب للسلطان البارسلان المقيم بالموصل
ودخل الرسول المذكور والقاضي بهاء الدين ابن الشهرزوري إلى دمشق لتقرير الأمر ولإحكام القاعدة في الجمعة في الثامن والعشرين من جمادى الأولى فتقرر الأمر ووكدت الايمان وحضرا الجامع لصلاة الجمعة وخطب للسلطان البارسلان على المنبر بأمر أمير المؤمنين وعاد إلى العسكر الأتابكي وخرج بهرام شاه فأكرمه وأعاده على أجمل قضية ورحل في يوم السبت غد ذلك اليوم منكفئاً والقلوب قد أمنت بعد الوجل والنفوس قد سكنت بعد الاضطراب والوهل والشكر له متواصل والثناء عليه متكامل. فلما حصل بحماة أنكر على شمس أمراء الخواص واليها أمراً أظهر له منه وتزايد شكوى أهلها لأصحابه ونوابه فعزله عنها وقرر من رآه في ولايتها. وقد كان ظهر من الأمير شجاع الدولة بزواج ومعين الدين أنر من حسن السياسة في تدبير العسكرية والأجناد عند الترتيب في الحرب ما وافق الأعراض وطابق الاصابة والسداد بحيث شكرا وحمدت مقاصدهما وفي ذي القعدة منها وردت الأخبار من العراق باستشهاد الامام الخليفة المسترشد بالله أبي منصور الفضل بن المستظهر بالله أمير المؤمنين رحمه الله عليه ورضوانه

(1/392)


شرح السبب في ذلك
قد مضى ذكر ما كان من الخليفة المفقود في معنى السلطان مسعود بن السلطان محمد بن ملك شاه من تقرير السلطنة له ورد تدبير الأعمال والأمر بالدعاء له على منابر البلاد وتشريفه بالخلع والحملان الكامل. وعقيب هذا الفعل الجميل ظهر لأمير المؤمنين المسترشد بالله أمور أنكرها وبلغته أسباب امتعض منها وبدت منه أفعال أكبرها فرام استعطافه واستعادته إلى الواجب المألوف في طاعة الخلفاء فامتنع وحاول استمالته إلى الصواب المعروف في المناصحة وحسن الوفاء فلم ينفع وبعثه على الحق الذي هو خير من التمادي في الباطل فلم يقبل. فأفضت الحال صرف الهمة العلية المسترشدية إلى مداواة هذا الداء والاستعداد له إلى أن أعضل بالدواء ولم ير فيه أنجع من التأهب لقصده والاحتشاد للإيقاع به وصمده لأن أخباره كانت متناصرةً بعزمه على قصد بغداد والاخراب لها والاعاثة في نواحيها فرأى الصواب في معاجلته ومقابلة فعله بمثله واتفق وصول جماعة من وجوه عسكره ومقدمي جنده لخدمة الخليفة والمعاضدة له على محاربة عدوه وشرعوا في تحريضه على البروز إليه والمسارعة للإطلال عليه فتوجه نحوه في تجمل يعجز عنه الوصف ويقصر دونه النعت وقد اجتمع إليه من أصحاب الأطراف وأصناف الأجناد الخلق الكثير والجم الغفير الذي بمثله قويت نفسه واشتد بأسه ولم يشك أحد في إنه الظافر به والمستولي على حزبه. فلما قرب من مخيمه بناحية همذان ووقع العيان على العيان زحف إليه في عسكره والتقى الجمعان واتفق للقضاء المكتوب والقدر المحجوب إن أمراء الأتراك الواصلين لخدمة

(1/393)


الخليفة في عسكره خامروا عليه بمواطأة كانت وتقريرات تقررت وبانت فانقلبوا عنه وأسلموه وعملوا عليه وأغنموه بحيث تفرقت عنه جماعة وخذله أبطاله وكماته وثبت هو وخواصه في المصاف يقاتلون ولا يولون إلى أن انفل عنه حزبه وضعف أمره وغلب على نفسه فأخذوه ووزيره النقيب وكاتبه سديد الدولة بن الأنباري وصاحب مخزنه وخدمه وخاصته وحملوه مع أصحابه المذكورين إلى خيمه ووكل بجماعة من يحفظهم ويتوثق منهم ويحتاط عليهم
وكتبت المطالعات إلى السلطان سنجر بن ملك شاه صاحب خراسان بصورة الحال والاستئذان بما يعتمد في بابه ووعد السلطان مسعود الخليفة ومن معه بالاطلاق وإعادتهم إلى بغداد وتقرير أمر الخلافة على ما جرى به الرسم قديماً فلما عاد الجواب من السلطان سنجر في هذا الباب وتقرير ما اقتضاه الرأي في أمر الخلافة بين السلطانين المذكورين ندب عدة من الرجال تقدير أربعة عشر رجلاً نسبوا إلى إنهم من الباطنية فقصدوا الخليفة في خيمته وهو مطمئن لا يشعر بما نزل به من البلاء وأحاط به من محتوم القضاء وهجموا عليه فقتلوه في يوم الخميس الثامن عشر من ذي القعدة سنة 529 صبراً وقتلوا معه من أصحابه وفراشيه من دافع عنه ومانع دونه. وشاع الخبر بذاك بناحية مراغا على مرحلتين منها ودفن بها واستبشع الناس هذا الفعل الشنيع والقصد الفظيع في حق خليفة الزمان وابن عم رسول الله عليه أفضل الصلاة والرضوان وأكبروا الجرأة على الله والاقدام على هذا المنكر في الاسلام والدم الحرام وأطلقوا الألسنة بالدعاء والذم على من استحسن هذا الفعل القبيح ودبر هذا الخطب الشنيع وتيقن كل إنسان من الخاص والعام إن الله تعالى لا يمهل المقدم عليه ولا يرضى بفعل المجرم إليه لأنه جلت قدرته لا يصلح عمل المفسدين ولا يهدي كيد الخائنين ولا يمهل عقوبة الظالمين

(1/394)


ولما انتهى هذا الخبر إلى ولده ولي عهده تقدم بتحصين بغداد والتأهب لدفع من يقصدها بسوء من الأعداء والمخالفين وبويع بالخلافة في يوم السبت السابع والعشرين من ذي القعدة سنة 529 ولقب بالراشد بالله أبي جعفر المنصور بن المسترشد بالله أمير المؤمنين وجلس في منصب الخلافة في ذي الحجة سنة 529 واستقام له الأمر وتوكدت له البيعة على الرسم ووعد كافة الأجناد والعسكرية وأماثل الرعية بما طيب نفوسهم وشرح صدورهم وأطلق مال النفقات والواجبات على جاري العادة فكثر الدعاء له والثناء عليه وسكنت الدهماء

(1/395)


سنة ثلاثين وخمسمائة
في المحرم منها وردت الأخبار من ناحية العراق بقتل الأمير دبيس بن صدقة بن مزيد قتله السلطان مسعود بن محمد لأمور أنكرها وأسباب

(1/396)


امتعض منها نسبت إليه وقيل إن هذا مكافأة من الله تعالى له عما كان منه في عصيان الخليفة الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين والسعاية في دمه. وكان هذا الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين رحمه الله عالماً تقياً فاضلاً حسن الخط بليغاً نافذاً في أكثر العلوم عارفاً بالفتوى واختلاف الفقهاء فيها أشقر الشعر أشهل العينين بوجهه نمش وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وما الله بغافل عما يعمل الظالمون. وفي شهر ربيع الأول منها تسلم الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك مدينة حمص وقلعتها

شرح الحال في ذلك
لما عرف من كان بحمص وقلعتها من أولاد خيرخان بن قراجه وخمارتاش الوالي من قبلهم فيها ما استمر عليها من مضايقة الأمير عماد الدين أتابك لها وبذل جهده وحرصه في تملكها وأخذها وأخذه حماة المجاور لها وجده في طلبها وإضعاف أهلها ومواصلة الغارات عليها وإنهم لا طاقة لهم بضبطها لقلة القوت بها وعدم الميرة فيها أنفذوا رسلهم إلى شهاب الدين يلتمسون منه إنفاذ من يراه لتسلم حمص وقلعتها ويعوضهم عنها بما يتفق عليه الرأي. وتوسط الحاجب سيف الدولة يوسف بن فيروز المقيم بتدبير الأمر في ذلك طمعاً في الكون بها والانتقال من تدمر إليها لكونها من الأماكن الحصينة والقلاع المنيعة واستأذن في الوصول إلى دمشق للحديث وتقرير الحال في ذلك فأذن له ووصل إلى دمشق وجرى في ذلك خطاب طويل أفضى آخره إلى أن تسلم حمص وقلعتها إلى شهاب الدين

(1/397)


وتسلم إلى خمارتاش تدمر عوضاً عنها ووقع الشرط واليمين على هذه الصفة. وبرز شهاب الدين من دمشق في العسكر وتوجه إليها فحين حصل بها نزل خمارتاش من القلعة وأولاد خيرخان وأهله بما يخصهم وسلموها إليه فتسلمها يوم الأحد الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 530 وحصل بها ورتب أمرها وقرر ولايتها للحاجب يوسف بن فيروز وأن يكون فيها نائباً عن الأمير معين الدين أنر الأتابكي حسب ما استقر وكتب إلى الجهات والأطراف بحمل الأقوات إليها والتقوية لها بالميرة وعاد شهاب الدين عنها بعد تقرير أمرها منكفئاً إلى دمشق. وشرع الأمير سوار النائب عن عماد الدين في حلب ومن بحماة من قبله في الغارات على أعمال حمص ورعي زرعها وجرى في ذلك مراسلات ومخاطبات أسفرت عن المهادنة والموادعة والمسالمة إلى أمد معلوم وأجل مفهوم بحيث انحسمت أسباب الفساد عن الجهتين واستقامت أحوال الجانبين وفي يوم الأحد الرابع والعشرين من جمادى الأولى من السنة خلع شهاب الدين على أمين الدولة كمشتكين الأتابكي والي صرخد وبصرى الخلع التامة ورد إليه اسفهسلارية العسكرية وخوطب بالأتابكية وأنزل في دار الكبيرة الأتابكية بدمشق وحضر الناس لهنائه فيها وأوعز إلى الكافة باتباع رأيه والامتثال لأمره. وفي يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة قتل الحاجب يوسف بن فيروز في ميدان المصلى بدمشق

(1/398)


شرح السبب في ذلك
كان الحاجب يوسف بن فيروز المقدم ذكره عند كونه في خدمة شمس الملوك إسمعيل بن تاج الملوك وتمكنه عنده وارتفاع طبقته لديه قد اعتمد في حق مقدمي الغلمان الأتابكية ما أوحشهم منه وبلغهم ما ضيق صدورهم عنه وأسروا ذلك في نفوسهم وأخفوه في قلوبهم لا سيما ما قصده في نوبة الغلمان الذين قتلهم شمس الملوك مع أخيه سونج بن تاج الملوك بسبب اتهمهم بكونهم مع ايلبا الغلام التركي الذي كان وثب على شمس الملوك وضربه بالسيف طالباً قتله فسلمه الله منهم ونجاه حسب ما تقدم به الشرح وكونه أكبر السعاة عليهم والسبب في قتلهم على عادة قد ألفيت من فعله وطريقة قد عرفت من طبعه وقد كان حصل بتدمر وأهمل أمره ونسي ما سبق به شره. فلما راسل من تدمر من يطلب الأذن في الوصول إلى دمشق لتقرير أمر حمص وأوجب إلى الأذن في ذلك أنكر الأمير شجاع الدولة بزواج والحاجب سنقر وأكابر الغلمان الأتابكية الأذن له في ذلك وامتعضوا من وصوله كل الامتعاض لما عرفوا من سوء فعله ومشهور سعيه وختله وأشاعوا بينهم ما هم عازمون عليه من العمل على قتله. ونصحه أهل وده والاشفاق عليه والمتقربين إليه بذاك فأبى القبول منهم وأخذ النصح منهم وقويت نفسه على التغرير بها والمخاطرة باتباع هوائها. وتمسك بمدافعة الأمير معين الدين عنه والمنع منه لصداقة كانت بينهما قد استحكمت قواها ووصلة انعقدت وأحكمت عراها ولما وصل إلى دمشق توثق لنفسه من الجماعة بأيمان سكنت إليها نفسه وتوكد معها أنسه وقرر معه إنه يكون يحضر للسلام في كل يوم ويعود إلى داره ويقنع بالكون في ملكة دمشق والتنقل منها إلى حمص ولا يداخل نفسه في أمر غير ذلك

(1/399)


فما هو إلا إن حصل بها وجعل يدبر أمراً غير خاف ويقرر تقريراً غير مكتوم ولا مستتر فأثار بذلك ما كان في نفوس الغلمان كامناً وحرك ما كان في القلوب ساكناً. ووجد الأمير بزواج والغلمان السبيل إلى نقض ما عوهدوا عليه باعتماده المخالفة لما قرروه معه وسكنوا إليه ولاحت الفرصة لهم فيه ولما كان في يوم المقدم ذكره وقد تقرر الأمر بينهم على الفتك به صادفه شجاع الدولة بزواج المقدم ذكره في الميدان المجاور للمصلى بظاهر دمشق فماشاه ساعةً بالحديث وقد خلا من أصحابه وأغفله وجرد سيفه وضربه به ضربةً عظيمةً في وجهه إلى رأسه وثنى بأخرى فسقط إلى الأرض وأجهز عليه آخر من الغلمان ولم يتجاسر أحد من أصحابه من الدنو منه ولا الدفع عنه لقوة شوكة الغلمان واتفاق كلمتهم على قتله وانهزم شهاب الدين وأصحابه من الميدان إلى داره وبقي ساعةً مطروحاً على الأرض في الميدان يشاهد مصرعه ويعتبر اللبيب بمنظره ثم حمل إلى المسجد الذي بناه فيروز أبوه بالعقيبية فدفن عند قبره في يومه في تربته. وأنفذ بزواج وسنقر وجماعة الغلمان إلى شهاب الدين ووالدته الخاتون مراسلات ومعاتبات على ما اعتمداه من الأذن له في العود إلى دمشق بعد ما كان من فعله في حق من قتل بسعيه من الغلمان واشترطوا أموراً وقع الآباء لها والاستيحاش منها ومن طلب مثلها وامتنع الغلمان وأكثر الأتراك من الدخول إلى البلد والعود إلى دورهم إلا بعد تقرير أمر بزواج وجماعة الغلمان والدخول فيما راموه وتطييب نفوسهم بالاجابة إلى ما حاولوه واندفعوا إلى ناحية المرج فنزلوا فيه وخيموا في ناحية من نواحيه وترددت بينهما مراسلات لم تسفر عن سداد ولا نيل مراد فأظهروا الخلاف

(1/400)


وكاشفوا بالعصيان والانحراف وعمدوا إلى خيل الجشار فاستاقوها واشتملوا على جميعها وهي العدد الكثير لسائر الأمراء والعسكرية والرعية من أنواع الدواب ولها قيمة عظيمة وتوجهوا بها في يوم الجمعة السابع والعشرين من جمادى الأولى من السنة من تل راهط إلى ناحية المرج. وخرج إليهم من بقي في البلد من العسكر مع الأمراء والمقدمين وهم منهم أكثر عدداً وأتم عدداً طلباً للإيقاع بهم وتخليص الجشار من أيديهم فما أغنوا فتيلاً ولا أعادوا مما أخذوا كثيراً ولا قليلاً ورحلوا به إلى صوب بعلبك. فخرج إليهم الأمير شمس الدولة محمد ابن تاج الملوك صاحبها ووقعت الموافقة والمعاهدة بينهم على إقامته والدخول في طاعته والمناصحة في خدمته واجتمع إليه خلق كثير من التركمان فأخافوا السبيل وشرعوا في العيث والفساد واقتضت الحال مراسلتهم بالملاطفة ودعاهم إلى الطاعة وترك المخالفة وتطييب نفوسهم وبعثهم على العود إلى ما كانوا عليه والاجابة إلى ما اقترحوا وأشاروا إليه واستقرت الحال على مرادهم وأخذت الأيمان الموكدة عليهم ولهم بالوفاء واستعمال الاخلاص والصفاء وأذن لهم في العود فعادوا إلى البلد وخيم بزواج وجماعته بجسر الخشب وامتنع من الدخول إلى داره لما رأه وجال في نفسه. واتفق الرأي على خروج شهاب الدين في العسكر إلى ناحية حوران على الرسم في ذلك والاجتماع هناك وتقرير ما يجب تقريره من الأحوال والبعث على تحصيل الغلال واتفق الرأي في أوائل شعبان على تقديم بزواج على سائر الأجناد والغلمان ورد إليه الاسفهسلارية وخوطب بالأتابكية وكتب بجمال الدين مضافاً إلى ألقابه فاستقام له الأمر ونفذ في النفع والضر

(1/401)


وفي العشر الأول من رجب من السنة خرج أمين الدولة كمشتكين الأتابكي والي صرخد من دمشق مظهراً قصد الصيد والإشراف على ضياعه لأجل الجراد الظاهر بها في خواصه وثقله وفي النفس ضد ذاك فلما توارى عن البلد أغذ السير قاصداً سمت صرخد ومفارقاً لما كان فيه خوفاً على نفسه من الغلمان بحيث حصل بها وسكنت نفسه من الخوف فيها. ثم روسل بالاستعطاف والتلطف في العود إلى داره ومنزلته والانكفاء إلى رتبته فأبى واحتج بأسباب ذكرها وأحوال شرحها ونشرها فوقع السلو عنه واليأس منه
وفي يوم السبت الثالث عشر من شعبان سنة 530 وردت الأخبار من ناحية الشمال بنهوض الأمير مسعود سوار من حلب فيمن انضم إليه من التركمان إلى الأعمال الافرنجية فاستولوا على أكثرها وامتلأت أيديهم بما حازوه من غنائمها وتناصرت الأخبار بهذا الظفر من جميع الجهات والاستكثار لذلك والتعظيم له ولقد ورد كتاب من شيزر يتضمن البشرى بهذه النوبة ويشرحها على جليتها فأثبت مضمونه في هذا الموضع تأكيداً للخبر وتصديقاً لما وصف وذكر وهو: إن المتجدد عندنا بهذه الناحية ما يجب علينا من حيث الدين أن نذيعه ونبشر به كافة المسلمين فإن التركمان كثرهم الله ونصرهم اجتمعوا في ثلاثة ألف فارس جريدةً معدةً ونهضوا إلى بلاد اللاذقية وأعمالها بغتةً بعد اليأس منهم وقلة الاحتراز من غارتهم وعادوا من هذه الغزاة إلى شيزر يوم الأربعاء حادي عشر رجب ومعهم زيادة عن سبعة ألف أسير ما بين رجل وامرأة وصبي وصبية ومائة ألف رأس دواب ما بين بقر وغنم وخيل وحمر والذي حازوه واحتاجوه يزيد عن مائة قرية كبار وصغار وهم متواصلون بحيث قد امتلأت الشام من الأسارى والدواب. وهذه نكبة ما مني الافرنج الشماليون بمثلها وبعد هذا لا يبع منهم أسير إلا بثمنه ولا نقص السعر الأول وهم سائرون بهم إلى حلب وديار بكر والجزيرة

(1/402)


وفي آخر نهار يوم الأربعاء الرابع وعشرين من أيار طلع على دمشق سحاب أسود أظلمت الدنيا له وصار الجو كالليل ثم طلع بعد ذلك سحاب أحمر أضاءت الدنيا منه وصار الناظر إليه يظن إنه نار موقدة وكان قد هب قبل ذلك ريح عاصف شديدة أذت كثيراً من الشجر وقيل إنه في هذا الوقت والساعة جاء في حوران برد كبار ومطر شديد بحيث جرت منهما الأودية وجاء في الليلة مطر عظيم زاد منه برداً زيادةً لم ير مثلها عظماً وفي المحرم من هذه السنة في الثالث عشر منه أرسل الله تعالى من الغيث ما طبق الأعمال الدمشقية بحيث سالت به الأودية والشعاب وزاد المد في الأنهار بحيث اختلطت وانكسر نهر يزيد ونهر باناس والقنوات والتقت المياه وبطلت الأرحية ودخل المال إلى بعض بيوت العقيبة وذكر جماعة من الشيوخ المعمرين إنهم لم يشاهدوا في مثل هذا الوقت مثل ذلك وفي شعبان من هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق بأن السلطان مسعود ابن محمد بن ملك شاه حضر بغداد وضايق الامام الخليفة الراشد بالله بن الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين ومعه السلطان داود ابن أخيه والأمير عماد الدين أتابك زنكي بن اق سنقر واقتضى التدبير حين لم ينل منها غرض ولم يظفر بمراد ولا بد من اللقاء والمحاربة العود عنها فعاد السلطان داود إلى بلاده وعماد الدين أتابك إلى الموصل وأقام السلطان مسعود على رسمه في بغداد وحين رأى الامام الراشد بالله إقامة السلطان على الاستيحاش منه زادت وحشته وعلم إنه لا طاقة له بالمقام معه وخاف على نفسه فتبع عماد الدين إلى الموصل ونزل بظاهرها وخيم به كالمستجير والعائذ به. وحين خلت بغداد من الخليفة وتدبيره تمكن

(1/403)


من كل ما يريد فعله ويروم قصده فأقام في منصب الخلافة أبا عبد الله محمد أخا المسترشد بالله ولقبه المقتفي لأمر الله وعمره أربعون سنةً وأخذ البيعة له على جاري الرسم وخطب له على المنابر في بلاده فقط في ذي القعدة سنة 530 وبقي الأمر واقفاً إلى أن تقرر الصلح بين السلطان مسعود وبين عماد الدين أتابك في سنة 531 فخطب له وللسلطان في الموصل وسائر الأعمال وسيأتي ذكر ذلك مشروحاً في موضعه وفي هذه السنة سنة 530 تشتى السلطان مسعود ببغداد وأتابك عماد الدين والامام الراشد بالله ووزيره جلال الدين أبو الرضا بن صدقة بظاهر الموصل
وفيها وردت الأخبار في ذي القعدة منها بظهور متملك الروم من القسطنطينية وحكي إن طالع ظهوره كان عشر درج من الميزان وإن الزهرة والمشتري في العاشر والشمس في الأسد والمريخ في السابع والله أعلم بالغيب. وفي يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة قتل الرئيس محيي الدين أبو الذواد المفرج بن الحسن بن الحسين الصوفي رئيس دمشق بظاهر المسجد الجديد قبلي المصلى في اليوم المذكور والسبب في ذلك إن الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك صاحب دمشق والأمير بزواج والحاجب سنقر كانوا قد أنكروا عليه أموراً بلغتهم عنه وأحوالاً استوحشوا بسببها منها فشرعوا في افساد حاله وتحدثوا في أخذ ماله وتقررت الحال فيما

(1/404)


بينهم على هذه الصورة في المخيم بحوران وكان الرئيس المذكور قد فارقهم من حوران وعاد إلى البلد لمداواة مرض عرض له. فلما استقر الأمر بينهم على هذه القضية وعادوا إلى البلد وخرج الرئيس المذكور في جماعة لتلقيهم فحين سلم عليهم وافق ذاك حديث جرى بينهم في معنى المعاملات أجاب عنه جواباً غلظ عليهم وأنكروه منه فعادوا لذاك عن القبض عليه إلى القتل له. وقد كان بلغه اعتزامهم على إفساد حاله بأخذ ماله وأشير عليه بالاحتياط على نفسه والتحيل في دفع الضرر عنها فلم يقبل للأمر المقضي والقدر النازل فقتل مظلوماً رحمه الله بغير استحقاق للقتل ومضى شهيداً واعتقل باقي أقاربه والتمسوا الاذن لهم بعد أيام في التوجه إلى صرخد دفعاً للشر واخماداً لنار الفتنة فأذن لهم في ذلك فتوجه من توجه منهم إليها وفي هذه السنة في أواخرها حضر المعروف بالأصمعي الديوان الشهابي والتمس الاذن له في ضرب الدينار في دمشق على أن يكون عياره نصف وربع وثمن دينار خلاصاً والباقي من الفضة والنحاس وكرر الخطاب إلى أن أجيب إلى ما طلب وتقرر ضربه على هذه السجية وأن ينقش السكة باسم الامام الراشد بالله أمير المؤمنين والسلطان المعظم مسعود وشهاب الدين. ولما وردت الأخبار بأخذ السلطان البيعة للامام المتقي لأمر الله وتوجه الراشد بالله إلى ناحية الموصل وأظهر السلطان رقعةً بخط الراشد بالله تتضمن إنه متى خرج من داره وقصد محاربة السلطان أو أباح دماً محرماً بغير واجب أو مد يداً إلى أخذ مال من غير حله ولا جهته كانت بيعته باطلة وخرج من عهدة الخلافة وكان متعدياً للواجب وبذاك أشهد على نفسه القضاة والفقهاء والأعيان فكان ذلك أوكد الحجة في خلعه ونقض أمره

(1/405)


سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة
في هذه السنة وردت الأخبار بظهور متملك الروم كيالياني من القسطنطينية في ذي القعدة سنة 30 وقيل بل أول المحرم سنة 531 ووصل إلى جزيرة انطاكية وأقام بها إلى أن وصلت مراكبه البحرية بالأثقال والميرة والمال والعدد في عاشر نيسان ونزل على نيقية فملكها وقيل بل هادنه عليها أهلها ووصل إلى الثغور وتسلم اذنة والمصيصة وغيرهما وحاصر عين زربة وملكها عنوةً. وقيل في التاريخ إن أمير المؤمنين المأمون بالله ابن الرشيد بالله كان عمر عين زربة عند الاجتياز بها لما ورد إلى هذه الجهات وأنفق على عمارتها مائة وسبعين ألف دينار مع جاه الخلافة والسلطنة والقدرة وكان يعمل فيها كل يوم أربعون ألف فاعل سوى البنائين والحدادين والنجارين. وملك تل حمدون وحمل أهله إلى جزيرة قبرص وكان صاحبه ابن هيثم الأرمني ثم عمر مينا الاسكندرية ثم خرج إلى انطاكية ونزل عليها وضايق أهلها في سلخ ذي القعدة وجرى بينه وبين صاحبها ريمند ابن مدقين كذا مصالحة ورحل عائداً إلى الدروب فافتتح ما بقي في يد ابن ليون الأرمني من الحصون وشتى بها وفي رجب من السنة نهض الأمير بزواج في فريق وافر من العسكر الدمشقي من التركمان إلى ناحية طرابلس فظهر إليه قومصها في عسكره والتقيا فكسره بزواج وقتل منهم جماعة وافرة وملك حصن وادي ابن الأحمر وغيره.

(1/406)


وفي رجب أيضاً نهض ابن صلاح والي حماة في رجاله إلى حصن الخربة فملكه
وفي شعبان منها ورد الخبر بأن عماد الدين أتابك بن اق سنقر توجه في عسكره من ناحية الموصل وقطع الفرات في العشر الأول منه ووصل إلى حمص وكان قد تقدمه إليها صلاح الدين في أوائل العسكر ونزلا عليها وضايقاها وفيها الأمير معين الدين أنر واليها فراسله في تسليمها فاحتج عليه بأنها للأمير شهاب الدين وإنه نائبه فيها فنصب الحرب عليها والمضايقة لها أياماً ولم يحظ منها بطائل فرحل عنها في العشرين من شوال من السنة ونزل على الحصن المعروف ببعرين لينتزعه من أيدي الافرنج. فلما عرفوا ذاك تجمعوا ونزلوا قريباً لحمايته ومعونة من فيه منهم فحين عرف عماد الدين خبرها كمن لهم كميناً والتقى الجمعان فانهزم فريق من الأتراك بين أيدي الافرنج وقتلوا منهم جماعة وافرة عند عودهم إلى منزل مخيمهم وظهر عليهم عماد الدين في من كمن لهم من الكمناء وأوقع الرجالة وملك الأثقال والسواد وحين قربوا من المخيم وشاهدوا ما نزل عليهم وحل بهم انخذلوا وفشلوا وحمل عليهم عسكر عماد الدين فكسرهم ومحقهم قتلاً وأسراً وحصل لهم من الغنائم الشيء الكثير من الكراع والسواد والأثاث وعاد عماد الدين إلى حصن بعرين. وقد انهزم إليه ملكهم كند اياجور ومن يجامعه من مقدمي الافرنج وهم على غاية من الضعف والخوف فنزل عليهم وحصرهم في الحصن المذكور ولم يزالوا على هذه الحال في المضايقة والمحاربة إلى أن نفد ما عندهم من القوت فأكلوا خيلهم وتجمع من بقي من الافرنج في بلادهم ومعاقلهم وانضموا إلى ابن جوسلين وصاحب انطاكية واحتشدوا

(1/407)


وساروا طالبين نصرة المخذولين المحصورين في حصن بعرين وتخلصهم مما هم فيه من الشدة والخوف والهلاك فحين قربوا من عسكر أتابك وصح الخبر عنده بذاك اقتضت الحال إن أمنهم وعاهدهم على ما اقترحه عليهم من طاعته وقرر عليهم خمسين ألف دينار يحملونها إليه وأطلقهم وتسلم الحصن منهم وعاد من كان اجتمع لنصرتهم وفي شهر رمضان منها ورد الخبر بأن الامام الخليفة الراشد بالله أمير المؤمنين ابن المسترشد بالله كان قد فصل عن الموصل قاصداً إلى مراغة وإنه اجتمع بالسلطان داود بن محمود وجرى بينهما أحاديث وتقريرات قررها كل واحد منهما مع الآخر.

(1/408)


ووردت الأخبار من ناحية الشمال بأن الأمير عماد الدين أتابك رحل في عسكره عن حلب في يوم الجمعة السادس عشر من شهر رمضان من السنة ونزل على حمص وخيم بها وقاتلها ووصل إليه رسول متملك الروم

(1/409)


ووردت الأخبار من ناحية العراق بالتقاء عسكري السلطان مسعود وأخيه كذا داود وإن عسكر السلطان مسعود ظهر على عسكر السلطان داود وكسره وقتل من مقدميه وأجناده جماعةً وافرةً من السنة كذا
وفي سنة 531 ترددت المراسلات من الأمير شجاع الدولة أبي الفوارس المسيب ابن علي بن الحسين الصوفي وجماعة المقيمين بصرخد وكتب الأمير أمين الدولة كمشتكين الأتابكي الوالي بصرخد إلى الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك وإلى الأمير شجاع الدولة بزواج والحاجب أسد الدين أكز في التماس الاذن لهم في العود إلى دمشق والسؤال

(1/410)


في إعادة ما قبض من أملاكهم إليهم وإعادة كل مغصوب منها عليهم ولم تزل المراسلات في هذا الباب متناصرة والكتب في طلبه متواترة إلى أن تقررت الحال في ذلك والاجابة إليه على مصالحة معينة مقسطة برسم واجبات الأجناد يقومون بها في أنجمها المعينة وأوقاتها المبينة تصلح الأحوال بتأديها وتتحقق الآمال بتملكها وإن يرد أمر الرئاسة في البلد إلى الأمير المقدم ذكره وكتب له المنشور بالرئاسة ونعت فيه مع أوصافه بالأمير الرئيس الأجل مؤيد الدين ممهد الاسلام مضافاً إلى ألقابه ونعوته المتقدمة وأن يكون الرسم في الرئاسة جارياً على العادة المستمرة والقاعدة المقيمة المستقرة في الحمايات والواجبات والرسوم الجاريات في دار الوكالة وسائر العراض ونفذت الكتب إليهم بالاجابة إلى ما التمسوه والاسعاف بما اقترحوه والاذن لهم في العود إلى البلد واثقين بما يقدمون عليه من حفظ الحرمة وحراسة الحشمة والتطييب بالنفس وتأكيد الأنس. فعند الوقوف على ما صدر إليهم من هذه الحال سرت به نفوسهم وابتهجت بمعرفته قلوبهم وشرعوا في التأهب للعود بصدور منشرحة وآمال منفسحة وعادوا بأسرهم وحين قربوا من البلد خرج كل من فيه من خاص وعام لتلقيهم وإظهار السرور والاستبشار بعودهم والاغتباط والابتهاد بمقدمهم ودخلوا البلد في العشر الأول من رجب من السنة المذكورة فاستقامت أحوالهم على منهج السداد واستمرت على قضية الايثار والمراد وأعيد عليهم جميع ما اعترض لهم من ملك وغيره وأجروا على كل رسم جميل واكرام وتبجيل. فكم من شدة فرجها الله تعالى ذكره بعد اشتدادها وغمة كشفها بلطفه بعد اظلامها
ربّما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجةٌ كحلّ العقال
وفي هذه السنة ورد الخبر من ناحية مصر بأن مقدم الأرمن بها

(1/411)


قام في حزبه على صاحبها الامام الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد وزحف إليه في قصره وأقام عليه كالمحاصر له فعاد أكثر الجند عنه خوفاً وقتلاً فانخذل وانهزم. وقيل إن السبب في ذلك كون أخ لمقدم الأرمن في الصعيد ورد عليه خبر قتله فغلظ هذا الأمر عليه وحمله على ما كان منه ثم إنه تلطف أمره بحيث عفي عنه ولزم داره خائفاً مروعاً وفي رجب من السنة نهض الأمير بزواج في العسكر ومن حشده وجمعه من التركمان إلى ناحية طرابلس في الرابع منه فظهر إليه صاحبها في خيله من الافرنج فكمن لهم في عدة مواضع فلما حصلوا بالموضع المعروف بالكورة ظهرت عليهم الكمناء فهزموهم ووقع السيف في أكثرهم ولم يفلت منهم إلا اليسير وهجم على الحصن الذي هناك فنهبه وقتل من فيه من المقدمين والأتباع وأسر من بذل في نفسه المال الكثير وحصل له ولعسكره القيمة الكثيرة وفي شوال من السنة تقررت المهادنة والموادعة بين عماد الدين وبين شهاب الدين صاحب دمشق على قاعدة أحكمت. وفي ذي الحجة منها ورد الخبر بعود متملك الروم في عسكره عن انطاكية إلى ناحية بعرين من عملها في الثاني والعشرين منه وأنفذ رسوله إلى عماد الدين أتابك وظفر الأمير سوار النائب عنه في حلب بسرية وافرة العدد من عسكر الروم فقتل بعضاً وأسر بعضاً ودخل بهم إلى حلب

(1/412)


وورد الخبر بأن حسام الدين تمرتاش بن ايل غازي بن ارتق ملك قلعة الهتاخ من بقية آل مروان وما كان بقي في أيديهم غيرها بعد البلاد والمعاقل ملكها بحيلة اعملها عليهم ومكيدة نصبها لهم وهي على غاية من الحصانة والمنعة وفيها شرع أهل حلب في تحصينها وحفر خنادقها والتحصن من الروم بها لقربهم منها. وورد الخبر بأن عماد الدين أتابك عزل وزيره أبا المحاسن علي بن أبي طالب العجمي وقبض عليه واعتقله بسبب مال وافر وانكسر عليه من المعاملات ما عجز عن القيام به والخلاص بتأديته وبقي معتقلاً في القلعة بحلب بسببه

سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة
أولها يوم الاثنين مستهل المحرم وهو العشرون من أيلول وفيه وصل الحاجب حسن الذي كان أرسل إلى متملك الروم ومعه رسول الملك عماد الدين أتابك. وفي رابع عشر المحرم وصل أتابك في عسكره إلى حماة ورحل عنها متوجهاً إلى ناحية البقاع فملك حسن المجدل من أيدي الدمشقيين ودخل في طاعته ابرهيم بن طرغت والي بانياس من عمل دمشق.

(1/413)


وورد الخبر في صفر بأن زلزلة عظيمة جاءت بالجزيرة وأعمال الموصل وقيل أنها أهلكت عدة مواضع من الأرض وهلك فيها خلق كثير وافر من أهلها. وفي أوائل شهر ربيع الأول من السنة وقيل أن رسول السلطان مسعود بن السلطان محمد ووصل إلى الموصل بالتشريف الكامل لعماد الدين أتابك ووصلت كتب نصير الدين نائبه فيها يشرح حالها وورد الخبر بأن صاحب أنطاكية قبض على بطركها الافرنجي ونهب داره وذكر أن السبب في ذلك أن ملك الروم لما تقرر الصلح بينه وبين ريمند صاحب أنطاكية شرط في جملة الشروط أن ينصب بأنطاكية بتركاً كذا من قبل الروم على ما جرى بمثله الرسم قديماً ثم انتقض هذا الرسم فيما بعد وخرج ريمند صاحب أنطاكية إلى متملك الروم وهو مخيم في عسكره بمرج الديباج وقرر معه الهدنة والموادعة وعاد إلى أنطاكية. وفيها عاد عماد الدين أتابك عن دمشق إلى حماة في شهر ربيع الآخر ونزل عليها ورحل عنها إلى حمص فنزل عليها محاصراً لها وفي هذه السنة نقض الافرنج الهدنة المستقرة بين عماد الدين أتابك وبينهم وأظهروا الشقاق والعناد وشرعوا في العيث والفساد بعد اصطناعه لمقدميهم والكف عنهم حين أظهره الله عليه وقبضوا بأنطاكية وثغور الساحل جماعةً من تجار المسلمين وأهل حلب والسفار تقدير خمسمائة رجل في جمادى الآخرة وفيها شتى السلطان مسعود ببغداد ووصل رسوله إلى أتابك بحمص وشتى ملك الروم بالثغور والدروب وخيم بمرج الديباج. وفي يوم الأحد النصف من جمادى نهض الأمير بزواج من دمشق في عسكره إلى ناحية الافرنج وقد فسد أمره مع شهاب الدين صاحب دمشق

(1/414)


لعجرفية فيه واقدام على استعمال الشر ونودي عليه بفساد أمره وظهور غرده ومكره وكثرة جهله وتناهيه في سوء فعله وأقام بظاهر البلد مدة وعاد أمره انصلح ودخل البلد وأقام فيه مستقيم الحال مبلغاً غاية الآمال فعمل عليه شهاب الدين وقتله بقلعة دمشق بأيدي الشمسية في يوم الاثنين السادس من شعبان من السنة. والسبب في ذلك أن شهاب الدين كان قد نقم عليه أموراً أنكرها واستوحش منه لأجلها وعبث بمال الارتفاع يمزقه في النفقات والاطلاقات فاعمل الحيلة في قتله وآنسه وطمنه إلى حين وجد الفرصة فيه مستهلة وحصل عنده بقبة الورد في داره بالقلعة وقد رتب له جماعةً من الأرمن الشمسية أصحاب ركابه وقرر معهم قتله فحين تمكنوا منه بخلوة من أصحابه قتلوه وأخرجوه ملفوفاً في كساء إلى المقبرة المبنية لزوجته فدفن بها وفي يوم الأحد السابع عشر من شعبان من السنة خلع شهاب الدين على الأمير معين الدين أنر وقرر له أمر الاسفهسلارية وخوطب بالأتابكية ورد أمر الحجبة إلى الأمير الحاجب أسد الدين أكز وطيب بنفسيهما ورد التدبير والتقرير في سائر الأعمال وعامة الأحوال إليهما وفي هذا الشهر وردت الأخبار من ناحية الشمال بنزول ملك الروم في عسكره على شيزر محاصراً لها ومضايقاً عليها ونصب عليها عدة من المناجيق واشتدت الحرب بينه وبين أهلها وقتل فيها جماعة من المسلمين بحيث أشرفت على الهلاك مع مبالغة الأمير عماد الدين أتابك في امدادها بالرجالة والسلاح وآلات الحرب وكونه بازاء الروم يجول بخيله على أطرافهم ويفتك بمن يظفر به منهم ولم يزالوا على هذه القضية إلى أن سئم المقام عليها ويئسوا من بلوغ الغرض فيها ولطف الله تعالى بأهل الشام وتداركهم برحمته وورد خبر رحيلهم عن شيزر إلى أنطاكية واستبشر الناس برحيلهم وعودهم خاسرين غير ظافرين ومفلولين غير فالين فلله تعالى الحمد على هذه النعمة دائماً والشكر متواصلاً متتابعاً

(1/415)


قد مضى من ذكر الروم فيما اعتمدوه في هذه الأيام ما قد عرف ويذكر بعد ذلك مبدأ أحوالهم وخروجهم وأفعالهم وذلك أنهم ظهروا من ناحية مدينة البلاط في يوم الخميس الكبير من صومهم ونزلوا غفلةً على حصن بزاعة بالوادي في يوم الأحد عندهم وغارت خيلهم على أطراف حلب في تاسع عشر رجب من السنة واستأمن منهم إلى حلب جماعة من كافر ترك وأنذروا من بحلب بالروم فحذروا وضموا أطرافهم وتحرزوا وتحفظوا استعدوا وتيقظوا قبل الاغارة بليلة وكان هذا الانذار من المستأمنة لطفاً من الله تعالى ورحمةً. وبعد هذا التحرز والاحتياط اشتمل الروم في عادتهم على جملة وافرة من أهل حلب وضواحيها وأنفذ أهل حلب من أعيانهم من مضى إلى عماد الدين أتابك مستصرخا به وهو مخيم على حمص فانهض إليهم من أمكنه من الخيالة والرجالة والناشبة والنبالة والعدد الوافرة وحصل الجميع في السابع وعشرين من رجب من السنة ووردت الأخبار بتملك الروم المذكورين حصن بزاعة بعد حصره ومضايقته ومحاربته بالمنجنيقات في يوم السبت الخامس والعشرين من رجب بالأمان وغدر بأهله بعد تسلمه وأيمانهم وجمع من غدر بهم وأحصاهم وقيل أنهم كانوا خمسة ألف وثمانمائة نفس وتنصر قاضي بزاعة وجماعة من الشهود وغيرهم تقدير أربعمائة نفس وأقام الملك بعد ذلك بمكانه عشرة أيام يدخن على مغارات اختفى فها جماعة فملكوا بالدخان وفي يوم الأربعاء الخامس من شعبان نزل الروم أرض الناعورة ورحلوا عنها في يوم الخميس ثامنه واجتازوا بحلب ومعهم عسكر أنطاكية ومقدمهم

(1/416)


ريمند صاحبها وابن جوسلين فنزلوا على حلب ونصبوا خيامهم على نهر قويق وأرض السعدي. وزحف الملك من غده في خيله ورجله من قبلي حلب وغربيها من ناحية قرنة برج الغنم وخرج إليها فرقة وافرة من أحداث حلب فقاتلتهم وظفرت عليهم فقتلوا فيهم وجرحوا وأصيب من الروم مقدم مذكور وانكفوا خائبين إلى مخيمهم وأقاموا على حلب أياماً قلائل ورحلوا عنها غداة يوم الأربعاء ثامن شعبان مقتبلين إلى أرض صلدع وخاف من بقلعة الأثارب فهربوا منها في يوم الخميس تاسع شعبان وطرحوا النار في خزائنها وعرف الروم ذلك فنهضت منهم طائفة إلى القلعة ونزلت عليها وملكتها وحازوا ما فيها والجأوا السبايا والأسرى الذين في أيديهم من حصن بزاعة إلى ربض الأثارب وخندقها بحيث عرف الأمير سوار النائب بحلب ذاك وانعزال الروم عنها نهض في عسكر حلب وأدركهم بالأثارب فأوقع بهم وقهرهم واستخلص المأسورين والمسبيين إلا اليسير منهم وذلك في يوم السبت الحادي عشر من شعبان وسر أهل حلب بهذه النوبة سروراً عظيماً وفي يوم الخميس التاسع من الشهر رحل عماد الدين أتابك عن حماة إلى سلمية وسير ثقله إلى الرقة وبقي في خيله جريدة مخففة. وفي يوم الاثنين رحل ملك الروم عن بلد المعرة فهرب من كان مقيماً في كفرطاب من الجند خوفاً على نفوسهم. وتناصرت الأخبار بعبور عسكر التركمان الفرات مع ولد الأمير داود بن أرتق إلى ناحية حلب للغزو في الروم ونزلوا بمجمع المروج ونهض فريق وافر من عسكر دمشق للغزاة أيضاً في خدمة عماد الدين أتابك وكان سبب رحيل الروم عن شيزر ما انتهى إليهم من وصول التركمان وتجمع العساكر خاسرين وكان مدة إقامتهم عليها ثلاثة وعشرين يوماً ووصول ملك الروم إلى أنطاكية في عوده يوم الأحد

(1/417)


الثامن من شهر رمضان من السنة وتواصلت الأخبار باتمام الروم في رحيلهم إلى بلادهم وسكنت القلوب بعد انزعاجها وقلقها منهم ووجلها وورد الخبر من ناحية حلب بوفاة القاضي بهاء الدين ابن الشهرزوري بها في يوم السبت السادس عشر من شهر رمضان من السنة وحمل إلى مشهد صفين ودفن به وكان صاحب عزيمة ماضية وهمة نافذة ويقظة ثاقبة. وفي هذه السنة توفي القاضي الأعز أبو الفتح محمد بن هبة الله بن خلف التميمي رحمه الله في ليلة الجمعة النصف من شهر رمضان وكان من المتخصصين ذوي المروة وكرم النفس
وفي هذه السنة ترددت المراسلات من الأمير عماد الدين أتابك إلى الأمير شهاب الدين في التماس انعقاد الوصلة بينه وبين والدته الخاتون صفوة الملك زمرد ابنة الأمير جاولى إلى أن أجيب إلى ذلك واستقر الأمر فيه وندب من دمشق من تولى لها العقد في مخيمه بحمص في يوم الاثنين السابع عشر من شهر رمضان من السنة وتقررت الحال على تسليم حمص إليه فتسلمها مع القلعة وعوض عنها لواليها الأمير معين الدين أنر حصن بعرين

(1/418)


وتوجهت الخاتون صفوة الملك والدة شهاب الدين من دارها إلى عسكر عماد الدين أتابك بناحية حمص وحماة مع أصحاب عماد الدين المندوبين لايصالها في أواخر شهر رمضان منها ووردت الأخبار من ناحية العراق بأن الامام الراشد بالله أمير المؤمنين كان قد فصل عن الموصل وتوجه إلى ناحية الجبل فقضى الله تعالى للقدر النازل والحكم النافذ استشهاده على باب أصفهان بأمر قرر له وعمل عمل عليه فصار إلى رحمة ربه سعيداً مأجوراً شهيداً في يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر رمضان من السنة فكانت خلافته إلى أن استشهد سنتين وعشرة أشهر وفي هذه السنة ورد الخبر بوفاة الأمير طغان أرسلان الأحدب بن حسام الدولة ببدليس وانتصب في مكانه ولده الأمير قرتي بن طغان أرسلان

(1/419)


واستقام له الأمر وحكي عنه حكايات في الظلم والتعجرف والتجبر والجور تنكرها النفوس وتنفر من سماعها القلوب