تاريخ دمشق لابن القلانسي
سنة ثمان وثلاثين
وخمسمائة
فيها وردت الأخبار من ناحية العراق بأن الخبر ورد إليها بهلاك ملك
كافرترك من ناحية الصين الذي كان ظفر بعسكر السلطان سنجر في تلك الوقعة
المقدم ذكرها. وفيها ورد الخبر بافتتاح الأمير عماد الدين قلعة حيزان.
وفي شهر رمضان منها وردت الأخبار من ناحية العراق بقتل السلطان داود
ابن السلطان محمود بن محمد بن ملك شاه بيد نفر ندبوا لقتله فاغتالوه
وقتلوه ولم يعرف لهم أصل ولا جهة ولا علم مستقرهم. وفي ثالث جمادى
الأولى منها قبض على الأمير الحاجب أسد الدين أكثر وأخذ ماله وسملت
عيناه واعتقل وتفرق عنه أصحابه. وفيها ورد الخبر من ناحية الافرنج
بهلاك ملكهم الكند ايجور ملك بيت
(1/433)
المقدس بعلة عرضت له كان فيها اتلاف نفسه
وأقيم ولده الصغير وأمه مقامه في الملك ورضي الافرنج بذلك واستقامت
الحال عليه. وفي رمضان منها عزل أبو الكرام عن وزارته ديوان دمشق
لأسباب أنكرت عليه وأشياء قبيحة عزيت إليه. وفيها ورد الخبر بعزل عماد
الدين أتابك وزيره أبا الرضا بن صدقة لأسباب أوجبت ذاك ودعت إليه
وأغراض بعثت عليه واستوزر مكانه
سنة تسع وثلاثين وخمسمائة
في يوم الخميس الحادي عشر من المحرم منها توجه الأمير الرئيس مؤيد
الدين رئيس دمشق إلى ناحية صرخد مستوحشاً من أحوال بلغته عن أبي الكرام
المستناب في وزارة ديوان دمشق وعن الأمير مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن
علي بن منقذ أنكرها من سعيهما واستبشعهما من قصدهما فسار عن البلد
ممتعضاً من اقدامهما على من يخالف أمره ويضيق صدره ووصل إليهما وتلقاه
واليها بالاكرام لمثواه واحسان لقياه وترددت المراسلات بينه وبين
الأمير معين الدين أتابك صاحب الأمير والتدبير بدمشق في هذا الباب
وتكرر المقال بينهما بالاعتذار من كل واحد منهما العتاب ولم تزل هذه
الحال مترددة بينهما إلى أن أسفرت عن تقرير عوده إلى داره وإخراج أبي
الكرام الوزير وأسامة بن منقذ إلى ناحية مصر بأهليهما ومالهما
وأسبابهما فسارا من دمشق إلى ناحية مصر بعد استئذان صاحبها في أمرهما
وخروج إذنه بوصلهما في يوم الخميس السابع من جمادى الأولى من السنة على
سبيل المداراة والمصانعة وقيل أنهما لقيا من احسان تلك الدولة السعيدة
(1/434)
من الاحسان وجزيل الانعام ما جرت به
عادتهما المستحسنة في حق من يلجأ إلى ظلها وسابغ عدلها. وفي يوم الجمعة
الثالث عشر من جمادى الأولى عاد الأمير مؤيد الدين إلى دمشق من صرخد
وخرج أهل البلد لتلقيه واظهار السرور به والاستبشار بعوده وطابت نفسه
ببلوغ أمانيه ومضي أعاديه الساعين فيه وفي شهر ربيع الآخر ورد الخبر
بخروج عسكر إلى فرقة وافرة من الافرنج وصلت إلى ناحية بعلبك للعيث فيها
وشن الاغارات عليها فالتقيا فأظفر الله المسلمين بهم وأظهرهم عليهم
فقتلوا أكثرهم واستولوا على ما كان معهم وامتلأت أيدي المسلمين
بغنائمهم وعادوا إلى بعلبك سالمين مسرورين غانمين وعاد الباقون من
الافرنج إلى مكانهم مفلولين محزونين خاسرين وفي جمادى الأولى منها ولد
الخبر من ناحية الشمال بان عسكر حلب ظفر بفرقة كبيرة من التجار
والأجناد وغيرهم خرجت من أنطاكية تريد بلاد الافرنج ومعها مال كثير
ودواب ومتاع وأثاث فأوقعوا بها واشتملوا على ما كان فيها وقتلوا من كان
معها من خيالة الافرنج لحمايتها والذب عنها وعاد إلى حلب بالمال والسبي
والأسرى والدواب وفي يوم السبت الثالث عشر من رجب من السنة توفي الأخ
الأمين أبو عبد الله محمد بن أسد بن علي بن محمد التميمي عن 84 سنة
بعلة الذرب ودفن بتربة اقترحها خارج باب الصغير من دمشق وكان على
الطريقة المرضية من حسن الأمانة والتصون والديانة ولزوم داره والتنزه
عن
(1/435)
كل ما يوتغ الدين ويكره بين خيار المسلمين
غير مكاثر للناس ولا معاشر لهم ولا مختلط بهم
وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية للشمال بأن الأمير عماد الدين
أتابك افتتح مدينة الرها بالسيف مع ما هي عليه من القوة والحصانة
والامتناع على قاصديها والحماية على طالبيها من العساكر الجمة
ومنازلتها وأن السبب في ذلك أن الأمير عماد الدين أتابك لم يزل لها
طالباً وفي تملكها راغباً ولانتهاز الفرصة فيها مترقباً لا يبرح ذكرها
جائلاً في خلده وسره وأمرها ماثلاً في خاطره وقلبه إلى أن عرف أن
جوسلين صاحبها قد خرج منها في جل رجاله وأعيان حماته وابطاله لأمر
اقتضاه وسبب من أسباب إلى البعد عنها دعاه للأمر المقضي والقدر النازل
فحين تحقق ذاك بادر بقصدها وسارع إلى النزول في العسكر الدثر عليها
لمضايقتها والحصر لمن فيها وكاتب طوائف التركمان بالاستدعاء لهم
للمعونة عليها والاسعاد وأداء فريضة الجهاد فوصل إليه منهم الخلق
الكثير والجم الغفير بحيث أحاطوا بها من جميع الجهات وحالوا بينها وبين
ما يصل إليها من المير والأقوات والطائر لا يكاد يقرب منها خوفاً على
نفسه من صوائب سهام منازليها ويقظة المضيقين عليها ونصب على أسوارها
المناجيق ترمي عليها دائماً والمحاربة لأهلها مضراً ومواظباً. وشرع
الخراسانيون والحلبيون العارفون بمواضع النقوب الماضون فيها فنقبوا في
عدة مواضع عرفوا أمرها وتيقنوا نفعها وضرها ولم يزالوا على هذه الحال
في الايغال في النقب والتمادي في بطن الأرض إلى أن وصلوا إلى تحت أساس
أبراج السور فعلقوه بالأخشاب المحكمة والآلات المنتخبة وفرغوا من ذلك
ولم يبق غير اطلاق النار فيها. فاستأذنوا عماد الدين أتابك في ذلك فأذن
لهم بعد أن دخل في النقب وشاهد حاله واستعظم كونه وهاله. فلما أطلقت
النار في تعليق النقوب
(1/436)
تمكنت من أخشابها وابادتها فوقع السور في
الحال وهجم المسلمون البلد بعد أن قتل من الجهتين الخلق الكثير على
الهدم وقتل من الافرنج والأرمن وجرح ما أوجب هزيمتهم عنه وملك البلد
بالسيف في يوم السبت سادس وعشرين من جمادى الآخرة منها ضحوة النهار.
وشرع في النهب والقتل والأسر والسبي وامتلأت الأيدي من المال والأثاث
والدواب والغنائم والسبي ما سرت به النفوس وابتهجت بكثرته القلوب وشرع
عماد الدين أتابك بعد أن أمر برفع السيف والنهب في عمارة ما انهدم
وترميم ما تشعث ورتب من رآه لتدبير أمرها وحفظها والاجتهاد في مصالحها
وطيب بنفوس أهلها ووعدهم باجمال السيرة فيهم وبسط المعدلة في أقاصيهم
وأدانيهم. ورحل عنها وقصد سروج وقد هرب الافرنج منها فملكها وجعل لا
يمر بعمل من أعمالها ولا معقل من معاقلها فينزل عليه إلا سلم إليه في
الحال وتوجه إلى حصن البيرة من تلك الأعمال وهو غاية في الامتناع على
طالبه والصعوبة على قاصده فنزل عليه وشرع في محاربته ومضايقته وقطع عنه
سائر من يصل إليه بالقوت والميرة والمعونة والنصرة ولم يزل محاصراً له
ومحارباً ومضيقاً إلى أن ضعف أمره وعدمت الميرة فيه. وورد على عماد
الدين وقد أشرف على ملكته من خبر نائبه في الموصل الأمير جقر بن يعقوب
(1/437)
في الوثوب عليه وقتله ما أزعجه وأقلقه
ورحله عنها لكشف الحال الحادثة بالموصل مما يأتي شرح ذلك في موضعه وفي
جمادى الأولى منها ورد الخبر بأن الأمير عماد الدين أتابك انتهى إليه
أن أهل الحديثة عانة قد خالفوا أمره وعصوا عليه فأنهض إليها من عسكره
فريقاً وافراً فقصدها ونزل عليها وحاربها وضايقها وملكها بالسيف وقتل
أكثر أهلها ونهبها وبالغ في اهلاك من بها وفي شهر رمضان منها ورد الخبر
من ناحية الشمال بأن عسكر الافرنج المجتمع بناحية أنطاكية لإنجاد أهل
الرها من جميع أعمالها ومعاقلها..... وكان عماد الدين أتابك قد أنهض
إليه جيشاً وافر العدد من طوائف التركمان والأجناد فهجموا عليه بغتةً
وأوقعوا بمن وجدوه في أطرافه ونواحيه وفتكوا به فرحل في الحال وقد
استولوا على كثير من الافرنج قتلاً وأسراً واشتملوا على جملة وافرة من
كراعهم وتحكم السيف في أكثر الراجل وتفرقوا في أعمالهم ومعاقلهم
مفلولين مخذولين خاسرين. وفيها كانت الحادثة على الأمير نصير الدين جقر
بن يعقوب النائب عن الأمير عماد الدين في ولاية الموصل
(1/438)
شرح الحال في ذلك
كان الملك فرخانشاه الخفاجي بن السلطان كذا أخي السلطان محمود بن محمد
بن ملك شاه قد حدث نفسه على العمل على الأمير نصير الدين الوالي
بالموصل والفتك به وملكه الموصل وبالتفرد بالأمر واشتمال جماعة من
غلمان الأمير عماد الدين أتابك تقدير أربعين غلاماً من وجوه الغلمان مع
أصحابه وخواصه ورقب الفرصة فيه والغفلة منه مع شدة تيقظه ومشهور
احتراسه وتحفظه إلى أن اتفق ركوبه في بعض الأيام للتسليم على الخاتون
في دارها وقد خلا من حماته ووجوه أصحابه ورصدوه فلما حصل في دهليز
الدار وثبوا عليه فقتلوه وأدركه أصحابه ومن في البلد من أصحاب عماد
الدين فهرب من هرب ومسكوا الملك ابن السلطان فمانع فجرح وأخذ واعتقل
معه أكثر الغلمان المشاركين في دمه وتوثق منهم بالاعتقال لهم والاحتياط
عليهم وذلك في يوم...... وكتب إلى عماد الدين بصورة هذه الحال وهو
منازل لقلعة البيرة في عسكره وأقلقه سماع هذا الخبر الشنيع والرزء
الفظيع ورحل في الحال عن البيرة وقد شارف افتتاحها والاستيلاء عليها
وهو متفجع بهذا المصاب متأسف على ما أصيب به متيقن أنه لا يجد بعده من
يقوم مقامه لا يسد مسده. وارتاد من يقيمه في موضعه وينصبه في منصبه
فوقع اختياره على الأمير علي كوجك لعلمه بشهامته ومضائه في الأمور
وبسالته وولاه مكانه وعهد إليه أن يقتفي آثاره في الاحتياط والتحفظ
ويتبع أفعاله في التحرز والتيقظ وإن كان لا يغني غناءه ولا يضاهي
كفاءته ومضاءه
(1/439)
فتوجه نحوها وحصل بها واس أمورها سياسةً
سكنت معها نفوس أهلها واطمأنت معها قلوب المقيمين فيها وبذل جهده في
حماية المسالك وأمن السوابل وقضاء حوائج ذوي الحاجات ونصرة أرباب
الظلامات فاستقام له الأمر وحسنت بتدبيره الأحوال وتحققت بيقظته في
أعماله الآمال. وقد كان لنصير الدين هذا المقصود أخبار في العدل
والانصاف وبجنب الجور والاعتساف متداولةً بين التجار والمسافرين
ومتناقلةً بين الواردين والمصادرين من السفار وقد كان دأبه جمع الأموال
من غير جهة عن حرام وحلال لكنه يتناولها بألطف مقال وأحسن فعال وأرفق
توصل واحتيال وهذا فن محمود من ولاة الأمور وقصد سديد في سياسة الجمهور
وهذه هي الغاية في مرضي السياسة والنهاية في قوانين الرئاسة وفي أواخر
هذه السنة فرغ من عمارة المسجد الذي تولى عمارته واختيار بقعته الأمير
مجاهد الدين بزان بن مامين مقدم الأكراد بظاهر باب الفراديس من دمشق
بعقب الجسر القبلي وكان مكانه أولاً مستقبح المنظر وأجمع الناس على
استحسان بقعته واقتراح هيئته بعد أن أنفق عليه المبلغ الوافر من ماله
مع جاهه رغبةً في حسن الذكر في الدنيا ووفور الثواب والأجر في الأخرى.
إن الله لا يضيع أجر المحسنين
سنة أربعين وخمسمائة
في جمادى الأولى منها تناصرت الأنباء من ناحية الأمير عماد الدين أتابك
بصرف. الاهتمام إلى التأهب والاستعداد والجمع والاحتشاد لقصد الغزو
والجهاد وشاعت عنه الأنباء بأنه ربما قصد الأعمال الدمشقية والنزول
عليها ولم تزل أخباره بذلك متصلةً وما هو عليه بالاستكثار من عمل
المناجيق وآلة الحرب وما يحتاج إليه لتذليل كل ممتنع صعب إلى أوائل
شعبان ووردت الأخبار عنه بأن عزيمته عن ذلك قد انحرفت وأعنة رأيه
(1/440)
إلى غيره قد ثنيت وأعيدت المناجيق إلى
ناحية حمص من بعلبك. وقيل أن الخبر وافاه من جهة الرها بأن جماعة من
الأرمن عملوا علها وأرادوا الايقاع بمن فيها من مستحفظيها وأن مكتوم
سرهم ظهر ومخفي أمرهم بدأ وانتشر وأن الجناة أخذوا وتتبعوا وقوبلوا على
ذلك بما يقابل به من يسعى في الأرض بالفساد من القتل والصلب والتشريد
في البلاد وفي أوائل شعبان من السنة ووردت الأخبار من ناحية بغداد
بوصول السلطان غياث الدنيا والدين مسعود بن محمد بن ملك شاه إلى بغداد
وقيل أنه وجل من أخيه السلطان طغرل بن محمد لأنه قد جمع واجتهد فيما
حشد وهو عازم على لقائه والايقاع بعسكره وفي هذه السنة وردت الأخبار من
ناحية مصر بوفاة الأمير المعظم أبي المظفر خمارتاش الحافظي صاحب باب
الامام الحافظ لدين الله أمير المؤمنين صاحب مصر بعلة عرضت له وقضى
فيها نحبه وقيل أنه كان حسن الطريقة جميل الفعل مشكور القصد
قال الرئيس الأجل مجد الرؤساء أبو يعلي حمزة بن أسد بن علي بن محمد
التميمي: قد انتهيت في شرح ما شرحته من هذا التاريخ ورتبته وتحفظت من
الخطإ والخطل والزلل فيما علقته من أفواه الثقات نقلته وأكدت الحال فيه
بالاستقصاء والبحث إلى أن صححته إلى هذه السنة المباركة وهي سنة 540
وكنت قد منيت منذ سنة 535 وإلى هذه الغاية بما شغل الخاطر عن الاستقصاء
عما يجب إثباته في هذا الكتاب من الحوادث المتجددة من الأعمال والبحث
عن الصحيح منها وجميع الأحوال فتركت بين كل سنين من السنين بياضاً في
الأوراق
(1/441)
ليثبت فيه ما يعرف صحته من الأخبار وتعلم
حقيقته من الحوادث والآثار. وأهملت فيما ذكرته من أحوال سلاطين الزمان
فيما تقدم وفي هذا الأوان استيفاء ذكر نعوتهم المقررة وألقابهم المحررة
تجنباً لتكريرها بأسرها والاطالة بذكرها لم تجر بذلك عادة قديمة ولا
سنة سالفة في تاريخ يصنف ولا كتاب يؤلف وإذا كان الرسم جارياً في
القديم باطراح الألقاب والانكار لها بين ذوي العلوم والآداب. فلما ظهرت
الدولة البويهية الديلمية ولقب أول مسعود نبع فيها بعماد الدولة بن
بويه ثم أخوه وتلوه في الولادة والسعادة بركن الدولة أبي علي ثم أخوهما
بمعز الدولة أبي الحسين وكل منهم قد بلغ من علو المرتبة والمملكة ونفاذ
الأمر في العراق وخراسان والشام في أوائل المغرب ما هو مشهور وذكره في
الآفاق منشور. ولما علا قدر الملك عضد الدولة فناخسره بن ركن الدولة
أبي علي بن بويه بعدهم وظهر سلطانه وعلا شأنه وملك العراق بأسره وما
والاه من البلاد والمعاقل وخطب له على المنابر وزيد في نعوته في أيام
المطيع لله أمير المؤمنين رحمه الله تاج الملة ولم يزد أحد من أخوته
مؤيد الدولة صاحب أصفهان وفخر الدولة صاحب الرأي وما والاهما وانضاف
إليهما على اللقب الواحد. ولم يزل الأمر على ذلك مستمراً إلى أن ظهر
أمر السلطان ركن الدنيا والدين طغرلبك محمد بن ميكال بن سلجوق وقويت
شوكة الترك وانخفضت الدولة البويهية واضمحلت وانقرضت ولقب السلطان
طغرلبك ولما ظهر أمره في العراق واجتاح شأفة أبي الحرث أرسلان
الفساسيري في أيام الامام الخليفة القائم بأمر الله أمير المؤمنين رحمه
الله بالسلطان المعظم شاهنشاه الأعظم ركن الدين غياث المسلمين بهاء دين
الله وسلطان بلاد الله ومغيث عباد الله يمين خليفة الله طغرلبك. ثم زاد
الأمر في ذلك إلى أن أضيف إلى القاب ولاة الأطراف الدين والاسلام
والأنام والملة والأمة وغير ذلك بحيث اشترك في هذا الفن
(1/442)
الخاص والعام لا سيما في هذا الأوان والقاب
سلاطينه لأن منهم: سلطان خراسان السلطان المعظم شاهنشاه الأعظم مالك
رقاب الأمم سيد سلاطين العرب والعجم ناصر دين الله مالك عباد الله
الحافظ بلاد الله سلطان أرض الله معين خليفة الله معز الدنيا والدين
كهف الاسلام والمسلمين عضد الدولة القاهرة تاج الملة الظاهرة وغياث
الأم الباهرة أبو الحرث سنجر بن ملك شاه برهان أمير المؤمنين. وسلطان
العراق السلطان المعظم شاهنشاه الأعظم مالك رقاب الأمم مولى العرب
والعجم جلال دين الله سلطان أرض الله ناصر عباد الله حافظ بلاد الله
ظهير خليفة الله غياث الدنيا والدين ركن الاسلام والمسلمين عضد الدولة
القاهرة ومغيث الأمم الباهرة أبو الفتح مسعود بن محمد بن ملك شاه قسيم
أمير المؤمنين. وسلطان الشام وغيره الأمير الاسفهسلار الكبير العادل
المؤيد المظفر المنصور الأوحد عماد الدين ركن الاسلام ظهير الأنام قسيم
الدولة معين الملة جلال الأمة شرف الملوك عمدة السلاطين قاهر الكفرة
والمتمردين قامع الملحدين والمشركين زعيم جيوش المسلمين ملك الأمراء
شمس المعالي أمير العراقين والشام بهلوان جهان الب غازي ايران اينانج
قتلغ طغرلبك أتابك أبو سعيد زنكي بن اق سنقر نصير أمير المؤمنين. وصاحب
دمشق الأمير الاسفهسلار الكبير العادل المؤيد المظفر المنصور ظهير
الدين عضد الاسلام ناصر الامام تاج الدولة سيف الملة محيي الأمة شرف
الملوك عماد الأمراء كهف المجاهدين زعيم جيوش المسلمين أبو سعيد اتق بن
محمد بن بوري أتابك سيف أمير المؤمنين
(1/443)
سنة إحدى وأربعين
وخمسمائة
قد تقدم من ذكر عماد الدين أتابك زنكي في أخوار سنة 540 في نزوله على
قلعة دوسر على غرة من أهلها وهجمه على ربضها ونهبه وأخذ أهله ما لا
حاجة إلى إعادة ذكره وشرح أمره ولم يزل مضايقاً لها ومحارباً لأهلها في
شهر ربيع الآخر من سنة 541 حتى وردت الأخبار بأن أحد خدمه ومن كان
يهواه ويأنس به يعرف بير نقش وأصله افرنجي وكان في نفسه حقد عليه
لاساءة تقدمت منه إليه فأسرها في نفسه. فلما وجد منه غفلةً في سكرة
ووافقه بعض الخدم من رفقته على أمره فاغتالوه عند نومه في ليلة الأحد
السادس من شهر ربيع الآخر من السنة وهو على الغاية من الاحتياط بالرجال
والعدد والحرس الوافر العدد حول سرادقه فذبحه على فراشه بعد ضربات
تمكنت من مقاتله ولم يشعر بهم أحد حتى هرب الخادم القاتل إلى قلعة دوسر
المعروفة حينئذ بجعبر وفيها صاحبها الأمير عز الدين علي بن مالك بن
سالم بن مالك فبشره بهلاكه فلم يصدقه. وأواه إلى القلعة وأكرمه وعرف
حقيقة الأمر فسر بذلك واستبشر بما أتاه الله من الفرج بعد الشدة
الشديدة والاشفاء على الهلكة بتطاول المحاصرة والمصابرة وارسال خواصه
وثقاته إليه بما استدعاه منه واقترحه عليه من آلات فاخرة وذخائر وافرة
أشار إليها وعين عليها ووعده إذا حصلت عنده بالافراج عنه فعند حصوله
ذلك لديه مع أصحابه غدر بهم وعزم على الاساءة إليهم فأتاه من القضاء
النازل الذي لا دافع له ولا مانع عنه ما صار به عبرةً لأولي الأبصار
وعبرةً لذوي العقول والأفكار. وتفرقت جيوشه أيدي سبا ونهبت أمواله
الجمة وخزائنه الدثرة وقبر هناك بغير تكفين إلى أن نقل كما حكي إلى
مشهد
(1/444)
على الرقة وتوجه الملك ولد السلطان المقيم
كان معه فيمن صحبه وانضم إليه إلى ناحية الموصل ومعه سيف الدين غازي بن
عماد الدين أتابك رحمه الله وامتنع عليهم للوالي بالموصل على كوجك
أياماً إلى حين تقررت الحال بينهم ثم فتح الباب ودخل ولده واستقام له
الأمر وانتصب منصبه وعاد الأمير سيف الدولة سوار وصلاح الدين في تلك
الحال إلى ناحية حلب ومعهم الأمير نور الدين محمود بن عماد الدين أتابك
وحصل بها وشرع في جمع العساكر وانفاق المال فيها واستقام له الأمر
وسكنت الدهماء وفصل عنه الأمير صلاح الدين وحصل بحماة ولايته على سبيل
(1/445)
الاستيحاش والخوف على نفسه من أمر يدبر
عليه على أن الأعمال كانت
(1/446)
قد اضطربت والمسالك قد اختلت بعد الهيبة
المشهورة والآمنة المشكورة وانطلقت أيدي التركمان والحرامية في الافساد
في الاطراف والعيث في سائر النواحي والأكناف. ونظمت في صفة هذه الحال
أبيات من الشعر تنطق بذكرها وتغرب بالاختصار عن جلية أمرها منها من
جملة قصيدة يطول شرحها بتشبيبها:
كذاك عماد الدين زنكي تنافرت ... سعادته عنه وخرّت دعائمه
وكم بيت مالٍ من نضارٍ وجوهرٍ ... وأنواع ديباجٍ حوتها مخاتمه
وأضحت بأعلى كل حصنٍ مصونة ... يحامي عليها جنده وخوادمه
ومن صافنات الخيل كل مطهّمٍ ... تروع الأعادي حلبه وتراجمه
ولو رامت الكتّاب وصف شياتها ... بأقلامها ما أدرك الوصف ناظمه
وكم معقل قد رامه بسيوفه ... وشامخ حصنٍ لم تفته غنائمه
ودانت ولاة الأرض فيها لأمره ... وقد أمّنتهم كتبه وخواتمه
وأمّن من في كل قطر جيبةٍ ... تراع بها أعرابه وأعاجمه
وظالم قومٍ حين يذكر عدله ... فقد زال عنهم ظلمه وخصائمه
وأصبح سلطان البلاد بسيفه ... وليس له فيها نظيرٌ يزاحمه
وكم قد بنى داراً تباهي بحسنها ... جنان خلودٍ أحكمتها عزائمه
فمن خرفه بالتبر من كل جانبٍ ... وأغصان بقشٍ قد تحلّت حمائمه
وزاد على الأملاك بأساً وسطوةً ... ولم يبق في الأملاك ملكٌ يقاومه
فلمّا تناهى ملكه وجلاله ... وراعت ولاة الأرض منه لوائمه
أتاه قضاءٌ لا يردّ سهامه ... فلم ينجه أمواله ومغانمه
واذكره للحين منها حمامه ... وحامت عليه بالمنون حوائمه
وأضحى على ظهر الفراش مجدلاً ... صريعاً توّلى ذبحه فيه خادمه
(1/447)
وقد كان في الجيش اللهام مبيته ... ومن
حوله أبطاله وصوارمه
وسمر العوالي حوله بأكفّهم ... تذود الردى عنه وقد نام نائمه
ومن دون هذا عصبةٌ قد ترتّبت ... بأسهمها يردى من الطير حائمه
وكم رام في الأيّام راحة سرّه ... وهمّته تعلو وتقوى شكائمه
فأودى ولم ينفعه مالٌ وقدوةٌ ... ولا عنه رامت للقضاء مخاذمه
وأضحت بيوت المال نهبى لغيره ... يمزّقها أبناؤه ومظالمه
وكم مسلك للسّفر أمّن سبله ... ومسرح حيّ أن تراع سوائمه
وكم ثغر اسلامٍ حماه بسيفه ... من الروم لمّا أدركته مراحمه
فلمّا توّلى قام كل مخالفٍ ... وشام حساماً لم يجد وهو شائمه
وأطلق من في أسره وحبوسه ... وفكّت عن الأقدام منه أداهمه
وعاد إلى أوطانه بعد خوفه ... وطابت له بعد السغوب مطاعمه
وفرّت وحوش الأرض حين تمزّقت ... كواسره عنها وفلّت سواهمه
ولم يبق جانٍ بعده يحذر الردى ... ولا داعرٌ يخشى عليه مناقمه
فمن ذا الذي يأتي نهيبة مثله ... وتنفذ في أقصى البلاد مراسمه
فلو رقيت في كل مصرٍ بذكره ... أراقمه ذلّت هناك أراقمه
ومن ذا الذي ينجو من الدهر سالماً ... إذا ما أتاه الأمر والله حاتمه
ومن رام صفواً في الحياة فما يرى ... له صفو عيشٍ والحمام يحاومه
فإياك لا تضبط مليكاً بملكه ... ودعه فإنّ الدهر لا شكّ قاصمه
فإن كان ذا عدلٍ وأمنٍ لخائفٍ ... فلا شكّ أنّ الله بالعدل راحمه
وقل للذي يبني الحصون لحفظه ... رويدك ما تبني فدهرك هادمه
فكم ملك قد شاد قصراً مزخرفاً ... وفارق ما قد شاده وهو عادمه
وأصبح ذاك القصر من بعد بهجة ... وقد درست آثاره ومعالمه
وفي مثل هذا عبرةٌ ومواعظٌ ... بما يتناسى المرء ما هو عازمه
(1/448)
وهذه صفاته فيما ملكه من البلاد والثغور
والمعاقل وحازه من الأموال والقلاع والأعمال ونفوذ أوامره في سائر
الأطراف والأكناف ثم أتاه القضاء الذي لا يدافع والقدر الذي لا يمانع.
وحين اتصل هذا الخبر اليقين إلى معين الدين وعرف صورة الحال شرع في
التأهب والاستعداد لقصد بعلبك وانتهاز الفرصة فيها بآلات الحرب
والمنجنيقات ونهد إليها ونزل عليها وضايقها ونصب الحرب على مستحفظيها
ولم يمض إلا الأيام القلائل حتى قل الماء فيها قلةً دعتهم إلى النزول
على حكمه. وكان الوالي بها ذا حزم وعقل ومعرفة بالأمور فاشترط ما قام
له به من إقطاع وغيره وسلم البلدة والقلعة إليه ووفى له بما قرر الأمر
عليه وتسلم ما فيه من غلة وآلة في أيام من جمادى الأولى من السنة.
وراسل معين الدين الوالي بحمص وتقررت بينه وبينه مهادنة وموادعة يعودان
بصلاح الأحوال وعمارة الأعمال. ووقعت المراسلة فيما بينه وبين صلاح
الدين بحماة وتقرر بينهما مثل ذلك. ثم انكفأ بعد ذلك إلى البلد عقيب
فراغه من بعلبك وترتيب من رتبه لحفظها والاقامة فيها في يوم السبت
الثامن عشر من جمادى الآخرة من السنة وصادم الخادم يرنقش القاتل لعماد
الدين أتابك رحمه الله قد فصل عن قلعة جعبر لخوف صاحبها من طلبه منه
ووصل إلى دمشق متيقناً أنه قد أمن بها ومدلاً بما فعله وظناً منه أن
الحال على ما توهمه فقبض عليه وأنفذ إلى حلب صحبة من حفظه وأوصله إليها
فأقام بها أياماً ثم حمل إلى الموصل وذكر أنه قتل بهاووردت الأخبار في
أثناء ذلك في أيام من جمادى الآخرة من السنة بأن ابن جوسلين جمع
الافرنج من كل ناحية وقصد مدينة الرها على غفلة بموافقة من النصارى
المقيمين فيها فدخلها واستولى عليها وقتل من فيها
(1/449)
من المسلمين فضاقت الصدور باستماع هذا
الخبر المكروه ووردت الأخبار مع ذلك بأن الأمير نور الدين صاحب حلب نهض
في عسكره وانضاف إليه من التركمان عند وقوعه على الخبر وتقدمه سيف
الدولة سوار وأغذوا السير ليلاً ونهاراً وغدواً وابتكاراً من اجتمع من
الجهات وهم الخلق الكثير والجم الغفير زهاء عشرة ألف فارس ووقفت الدواب
في الطرقات من شدة السير ووافوا البلد. وقد حصل ابن جوسلين وأصحابه فيه
فهجموا عليهم ووقع السيف فيهم وقتل من أرمن الرها والنصارى من قتل
وانهزم إلى برج يقال له برج الماء فحصل فيه ابن جوسلين في تقدير عشرين
فارساً من إبطال أصحابه وأحدق بهم المسلمون من جهاته وشرعوا في النقب
عليهم وما كان إلا بقدر كلا ولا حتى تعرقب البرج وانهزم ابن جوسلين
وأفلت منه في الخفية مع أصحابه وأخذ الباقون ومحق السيف كل من ظفر به
من نصارى الرها واستخلص من كان أسر من المسلمين ونهب منها الشيء الكثير
من المال والأثاث والسبي وسرت النفوس بهذا النصر بعد الحزن والاختزال
وقويت القلوب بعد الفشل والانخذال وانكفأ المسلمون بالغنائم والسبي إلى
حلب وسائر الأطرافوفي شوال من هذه السنة ترددت الرسل والمراسلات من
الأميرين نور الدين محمود بن عماد الدين أتابك صاحب حلب ومعين الدين
أنر إلى أن استقرت الحال بينهما على أجمل صفة وأحسن قضية وانعقدت
الوصلة بين نور الدين وبين ابنة معين الدين وتأكدت الأمور على ما اقترح
كل منهما وكتب كتاب العقد في دمشق بمحضر من رسل نور الدين في الخميس
الثالث والعشرين من شوال سنة 541 وشرع في تحصيل الجهاز وعند الفراغ منه
توجهت الرسل عائدةً إلى حلب وفي صحبتهم ابنة معين الدين ومر في جملتها
من خواص الأصحاب في يوم الخميس النصف من ذي القعدة من السنة
(1/450)
وكان معين الدين قد حصل آلات الحرب
والمنجنيقات وجمع من أمكنه جميعه من الخيل والرجل وتوجه إلى ناحية صرخد
وبصرى بعد أن أخفى عزيمته وستر نيته استظهاراً لبلوغ طلب وتسهيل أربه
ونزل غفلةً على صرخد وكان المعروف بها بالتونتاش غلام أمين الدولة
كمشتكين الأتابكي الذي كان واليا أولاً وكانت نفسه قد حدثته بجهله أنه
يقاوم من يكون مستولياً على مدينة دمشق وأن الافرنج يعينونه على مراده
وما يلتمسه من انجاده واسعاده ويكونون معه على ما نواه من عيثه
وإفساده. وكان قد خرج للأمر المقضي من حصن صرخد إلى ناحية الافرنج
للاستنصار بهم وتقرير أحوال الفساد معهم ولم يعلم أن الله لا يصلح عمل
المفسدين ولم يشعر بما نواه معين الدين
من ارهاقه بالمعاجلة وعكس اماله بالمنازلة فحال بينه وبينه العود إلى
أحد الحصنين المذكورين ولم تزل المحاربة بين من في صرخد والمنازلين
متصلة والنقوب مستعملة والمراسلات مترددة من الافرنج إلى معين الدين
بالمسئلة والتلطف في اصلاح الأمر والوعد والوعيد والترهيب والتهديد إن
لم يجب إلى المطلوب ومعين الدين لا يعدل عن المغالطة والمدافعة. وكان
قد عرف تجمعهم وتأهبهم للنهوض إليه وإزعاجه وترحيلهم عنها فأوجبت هذه
الحال أن راسل نور الدين صاحب حلب يسئله الانجاد على الكفرة الأضداد
بنفسه وعسكره فأجابه إلى ذلك. وكان لاتفاق الصلاح مبرزاً بظاهر حلب في
عسكره فثنى إليه الأعنة وأغذ السير ووصل إلى دمشق في يوم الأربعاء
السابع وعشرين من ذي الحجة من السنة وخيم بعين شواقة وأقام أياماً
يسيرة وتوجه نحو صرخد ولم يشاهد أحسن من عسكره وهيئته وعدته ووفور
عدتهواجتمع العسكران وأرسل من بصرخد إليهما يلتمسان الأمان والمهلة
أياماً ويسلم المكان وكان ذلك منهم على سبيل المغالطة والمخاتلة إلى
حين
(1/451)
يصل عسكر الافرنج لترحيل النازلين عليهم
وقضى الله تعالى للخيرة التامة للمسلمين والمصلحة الشاملة لأهل الدين
وصول من أخب بتجمع الافرنج واحتشادهم ونهوضهم في فارسهم وراجلهم مجدين
السير إلى ناحية بصرى وعليها فرقة وافرة من العسكر محاصرةً لها فنهض
العسكر في الحال والساعة عند المعرفة بذاك إلى ناحية بصرى كالشواهين
إلى صيدها والبزاة إلى حجلها بحيث سبقوا الافرنج إلى بصرى فحالوا بينهم
وبينها ووقعت العين على العين وقربت المسافة بين الفريقين واستظهر عسكر
المسلمين على المشركين وملكوا عليهم المشرب والمسرب وضايقوهم برشق
السهام وارسال نبل الحمام وأكثروا فيهم القتل والجراح واضرام النيران
في هشيم النبات في طرقهم ومسالكهم وأشرفوا على الهلاك والدمار وحلول
البوار وولوا الأدبار وتسهلت الفرصة في إهلاكهم وتسرعت الفوارس
والأبطال إلى الفتك بهم والمجاهدة فيهموجعل معين الدين يكف المسلمين
عنهم ويصدهم عن قصدهم والتتبع لهم في انهزامهم اشفاقاً من كرةً تكون
لهم وراجعة عليهم بحيث عادوا على أعقابهم ناكصين وبالخذلان منهم
منهزمين قد شملهم الفناء وأحاط بهم البلاء ووقع اليأس من فلاحهم وسلمت
بصرى إلى معين الدين بعد تقرير أمر من بها واجابهم على اقترحوه من
اقطاعاتهم ورحل عنها عائداً إلى صرخد. وجرى الأمر في تسليمها إلى معين
الدين على هذه القضية وعاد العسكران إلى دمشق ووصلاها في يوم الأحد
السابع والعشرين من المحرم سنة 42 وأقام نور الدين في الدار الأتابكية
وتوجه عائداً إلى حلب في يوم الأربعاء انسلاخ المحرم من السنة
المذكورةوفي هذا الوقت وصل التونتاش الذي خرج من صرخد إلى الافرنج
بجهله وسخافة عقله إلى دمشق من بلاد الافرنج بغير أمان ولا تقرير
استئذان توهماً منه أنه يكرم ويصطنع بعد الاساءة القبيحة والارتداد
(1/452)
عن الاسلام فاعتقل في الحال وطالبه أخوه
خطلخ بما جناه عليه من سمل عينيه وعقد لهما مجلس حضره القضاة والفقهاء
وأوجبوا عليه القصاص فسمل كما سمل أخاه وأطلق إلى دار له بدمشق فأقام
بهاوفي ذي الحجة من سنة 41 ورد الخبر بأن السلطان شاهنشاه مسعوداً عمل
رأيه وتدبيره على تطييب نفس الأمير عباس فسكن إلى ذلك بعد التوثقة
بالأيمان المؤكدة والعهود المشددة ووصل إليه إلى بغداد ساكناً إلى ما
كان تأكد من ايمانه على نفسه وجماعته وكان السلطان قد تمكن في نفسه من
الرعب منه والخوف على عسكره من قوة شوكته ومشهور هيبته وكثرة عدده
وعدته ما لم يمكنه ترك الفرصة فيه وقد أمكنت والغرة قد تسهلت وتيسرت
فرتب له جماعةً للفتك به عند دخوله عليه فعوجل عليه بالقتل ونهبت خزائن
أمواله وآلاته وكراعه وامتلأت أيدي جماعة من نهبها وتفرق عسكره في
البلاد والأعمال. وكان له الذكر الحسن والفعل المستحسن والأجر الوافر
والمدح السائر بما كان له في مجاهرة أحزاب الباطنية والفتك بهم والقمع
لهم والحصر في معاقلهم والكف لشرهم ولكن الأقدار لا تغالب والأقضية لا
تدافعوأما أخبار المغرب والحوادث فيه فلم تسكن النفس إلى إثبات شيء من
طوائح أخباره وما يؤخذ من أفواه تجاره. وقد أفردت من أحوال الخوارج فيه
والفتن المتصلة بين أهليه من الحروب المتصلة وسفك الدماء ما لا تثق
النفس به لاختلاف الروايات وتباين الحكايات. وكان
قد ورد من فقهاء المغاربة من وثقت النفس بما أورده وسكنت إلى ما شرحه
وعدده وحضرت كتب من أهل المغرب إلى أقاربهم ببعض الشرح ووافق ورود ذلك
في سنة 541 بالتواريخ المتقدمة والحكايات المختلفة فرأيت ذكر ذلك وشرحه
في هذا المكان. فمن ذلك ظهور المعروف بالفقيه السوسي الخارج بالمغرب
وما آل إليه أمره إلى أن هلك ومن قام بعده واستمر على مذهبه وما اعتمده
من الفساد وسفك الدماء ومخالفة الشريعة الاسلامية. ومبدأ ذلك على ما
حكي ظهور المعروف بالفقيه أبي محمد ابن تومرت من جبل السوس ومولده به
وأصله مصمودي وكان غايةً في التفقه والدين مشهوراً بالورع والزهد وكان
قد سافر إلى العراق وجال في تلك الأعمال ومهر في المناظرة والجدال
واجتمع بايمة الفقهاء وأخذ عنهم وسمع منهم وعاد إلى ناحية مصر وما
والاها واجتمع مع علمائها وقرأ عليهم ثم عاد إلى المغرب ودعا إلى مذهب
الفكر. وابتداء ظهوره في سنة 512 في مدينة تعرف بدرن في جبل أوله في
البحر المحيط وآخره في بحر الاسكندرية في رأس أوثان وغلب على جبل السوس
واجتمع إليه خلق كثير من قبائل المصامدة بجبل درن وقيل إنه وصل إلى
المهدية وأمر أهلها أن يبنوا قصراً على نية الفكرة وأن يعبدوا الله فيه
بالفكرة فاجتمع مشايخ أهل المهدية وفقهاؤها وعزموا على بناء ما أمرهم
به والعبادة لله تعالى فيه فقام رجل من كبار الفقهاء وقال: نقيم ما
أقمنا بالمهدية ويجيء إليكم رجل بربري مصمودي يأمركم بالعبادة بالفكرة
فتجيبون إلى ما أمركم به وتسارعون إلى قبول ما ذكره لكم. وأنكر هذا
الأمر إنكاراً شديداً حتى عادوا عنه وأبطلوه واقتضت هذه الحال خروج
الخارجي من المهدية إذ لم يتم له فيها أمر ولا بلغ غرضاًوقصد بلداً في
الغرب يعرف ببجاية في أيدي بني حماد بن صنهاجة وشرع في الانكار على
أهله شرب الخمور وجعل يكسر الأواني إلى أن منع من شربها وساعده على ذلك
ابن حمدون مقدم هذا البلد حمل إليه مالاً فامتنع من أخذه وتعفف عنه لما
أظهره من الزهد في الدنيا والتفقه والورع. ثم خرج من هذا البلد وقصد
مدينة أغمات فأظهر فيها الزهد وتدريس الفقه وصار معه من أتباعه تقدير
أربعمائة رجل من المصامدة ثم ارتفع أمره وظهر شره واتصل خبره إلى
الأمير ابن يوسف بن تاشفين وما هو عليه وما يظهره ويطلقه من إباحة دمه
ودم أصحابه وأهل مملكته فاستدعاه الأمير المذكور إلى حضرته وجمع له
وجوه الفقهاء والمقدمين إلى مجلس حفل ووقع الاختيار من الجماعة على
فقيه يعرف بأبي عبد الله محمد بن مالك بن وهب الأندلسي لمناظرته فناظره
في هذا المحفل فاستظهر عليه في المناظرة وقهره وغلبه فقال الخارجي
السوسي المناظر له: انظرني. فأجابه إلى ما طلب ثم قال لابن يوسف بن
تاشفين المقدم: ينبغي أن يأمر الأمير بحبس هذا المفتن لكشف سره ويحقق
أمره ويظهر لكافة المسلمين صحة خبره فإنه لا يريد غير الدنيا والسلطنة
والفساد في الأرض وقتل النفوس. فما حفل بكلامه ولا أصغى إلى إشارته
وتغافل عنه للأمر المقضي وأعان هذا الخارجي قوم من المقدمين على مرامه
وحامى عنهثم عاد إلى السوس إلى جبل درن وكان يقول للناس: كلما قربتم من
المرابطين وملتم إليهم كانوا مطاياكم إلى الجنة لأنهم حماة الدين
والذابون عن المسلمين. ثم حمل المرابطين والملثمين وقد مال معه منهم
الخلق الكثير والجم الغفير على محاربة الأمير علي بن يوسف ابن تاشفين
وجمع عليه وحشد وقويت نفسه ونفوس من معه على اللقاء ومعهم أصحاب القوة
والبسالة وشدة البأس والشجاعة ونشبت الحرب بين الفريقين وأريقت الدماء
بين الجهتين ولم تزل رحى الحرب دائرة بينهم إلى أن كان بينهم في عدة
سنين متوالية أربعة مصافات هائلةً منكرة قتل فيها من الفريقين ما قدر
وحزر تقدير مائتي ألف نفس ولم تزل الحرب على ذلك مستمرة على هذه القضية
الشنيعة والصفة الفظيعة إلى أن أهلكه الله تعالى بمدينة درن في سنة
522. وخلف جماعةً من تلامذته وأصحابه سلكوا سبيله وبنوا على بنائه
وسلكوا مذهبه في الفساد وتولد بينهم مذهب سموه تكفير الذنب هذا ما
أورده وحكاه وشاهده واستقصاه الفقيه أبو عبد الله محمد ابن عبد الجبار
الصقلي باملائه من لسانه ورد من فقهاء المغاربة من وثقت النفس بما
أورده وسكنت إلى ما شرحه وعدده وحضرت كتب من أهل المغرب إلى أقاربهم
ببعض الشرح ووافق ورود ذلك
(1/453)
في سنة 541 بالتواريخ المتقدمة والحكايات
المختلفة فرأيت ذكر ذلك وشرحه في هذا المكان. فمن ذلك ظهور المعروف
بالفقيه السوسي الخارج بالمغرب وما آل إليه أمره إلى أن هلك ومن قام
بعده واستمر على مذهبه وما اعتمده من الفساد وسفك الدماء ومخالفة
الشريعة الاسلامية. ومبدأ ذلك على ما حكي ظهور المعروف بالفقيه أبي
محمد ابن تومرت من جبل السوس ومولده به وأصله مصمودي وكان غايةً في
التفقه والدين مشهوراً بالورع والزهد وكان قد سافر إلى العراق وجال في
تلك الأعمال ومهر في المناظرة والجدال واجتمع بايمة الفقهاء وأخذ عنهم
وسمع منهم وعاد إلى ناحية مصر وما والاها واجتمع مع علمائها وقرأ عليهم
ثم عاد إلى المغرب ودعا إلى مذهب الفكر. وابتداء ظهوره في سنة 512 في
مدينة تعرف بدرن في جبل أوله في البحر المحيط وآخره في بحر الاسكندرية
في رأس أوثان وغلب على جبل السوس واجتمع إليه خلق كثير من قبائل
المصامدة بجبل درن وقيل إنه وصل إلى المهدية وأمر أهلها أن يبنوا قصراً
على نية الفكرة وأن يعبدوا الله فيه بالفكرة فاجتمع مشايخ أهل المهدية
وفقهاؤها وعزموا على بناء ما أمرهم به والعبادة لله تعالى فيه فقام رجل
من كبار الفقهاء وقال: نقيم ما أقمنا بالمهدية ويجيء إليكم رجل بربري
مصمودي يأمركم بالعبادة بالفكرة فتجيبون إلى ما أمركم به وتسارعون إلى
قبول ما ذكره لكم. وأنكر هذا الأمر إنكاراً شديداً حتى عادوا عنه
وأبطلوه واقتضت هذه الحال خروج الخارجي من المهدية إذ لم يتم له فيها
أمر
(1/454)
ولا بلغ غرضاًوقصد بلداً في الغرب يعرف
ببجاية في أيدي بني حماد بن صنهاجة وشرع في الانكار على أهله شرب
الخمور وجعل يكسر الأواني إلى أن منع من شربها وساعده على ذلك ابن
حمدون مقدم هذا البلد حمل إليه مالاً فامتنع من أخذه وتعفف عنه لما
أظهره من الزهد في الدنيا والتفقه والورع. ثم خرج من هذا البلد وقصد
مدينة أغمات فأظهر فيها الزهد وتدريس الفقه وصار معه من أتباعه تقدير
أربعمائة رجل من المصامدة ثم ارتفع أمره وظهر شره واتصل خبره إلى
الأمير ابن يوسف بن تاشفين وما هو عليه وما يظهره ويطلقه من إباحة دمه
ودم أصحابه وأهل مملكته فاستدعاه الأمير المذكور إلى حضرته وجمع له
وجوه الفقهاء والمقدمين إلى مجلس حفل ووقع الاختيار من الجماعة على
فقيه يعرف بأبي عبد الله محمد بن مالك بن وهب الأندلسي لمناظرته فناظره
في هذا المحفل فاستظهر عليه في المناظرة وقهره وغلبه فقال الخارجي
السوسي المناظر له: انظرني. فأجابه إلى ما طلب ثم قال لابن يوسف بن
تاشفين المقدم: ينبغي أن يأمر الأمير بحبس هذا المفتن لكشف سره ويحقق
أمره ويظهر لكافة المسلمين صحة خبره فإنه لا يريد غير الدنيا والسلطنة
والفساد في الأرض وقتل
(1/455)
النفوس. فما حفل بكلامه ولا أصغى إلى
إشارته وتغافل عنه للأمر المقضي وأعان هذا الخارجي قوم من المقدمين على
مرامه وحامى عنهثم عاد إلى السوس إلى جبل درن وكان يقول للناس: كلما
قربتم من المرابطين وملتم إليهم كانوا مطاياكم إلى الجنة لأنهم حماة
الدين والذابون عن المسلمين. ثم حمل المرابطين والملثمين وقد مال معه
منهم الخلق الكثير والجم الغفير على محاربة الأمير علي بن يوسف ابن
تاشفين وجمع عليه وحشد وقويت نفسه ونفوس من معه على اللقاء ومعهم أصحاب
القوة والبسالة وشدة البأس والشجاعة ونشبت الحرب بين الفريقين وأريقت
الدماء بين الجهتين ولم تزل رحى الحرب دائرة بينهم إلى أن كان بينهم في
عدة سنين متوالية أربعة مصافات هائلةً منكرة قتل فيها من الفريقين ما
قدر وحزر تقدير مائتي ألف نفس ولم تزل الحرب على ذلك مستمرة على هذه
القضية الشنيعة والصفة الفظيعة إلى أن أهلكه الله تعالى بمدينة درن في
سنة 522. وخلف جماعةً من تلامذته وأصحابه سلكوا سبيله وبنوا على بنائه
وسلكوا مذهبه في الفساد وتولد بينهم مذهب سموه تكفير الذنب هذا ما
أورده وحكاه وشاهده واستقصاه الفقيه أبو عبد الله محمد ابن عبد الجبار
الصقلي باملائه من لسانه
(1/456)
ثم تناصرت الأخبار بعد ذلك من ناحية المغرب
بظهور أحد تلامذة المذكور يعرف بالفقيه عبد المؤمن فلقب بالمهدي أمير
المؤمنين وخليفة المهدي إلى سبيل الموحدين واجتمع إليه مع من كان في
حزبه من طوائف السوس والبربر والمصامدة والمرابطين والملثمين ما لا
يحصى له عدد ولا يدرك أمد وشرع في سفك الدماء وافتتاح البلاد المغربية
بالسيف والقتل لمن بها من الرجال والحرم والأطفال ما شاعت به الأخبار
وانتشر ذكره في سائر الأقطار. ووردت مكاتبات السفار والتجار ومن جملتها
كتاب وقفت عليه من هذا الخارجي ما نسخة عنوانه: من أمير المؤمنين
وخليفة المهدي إلى سبيل الموحدين إلى أهليه. بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين. أما بعد: يا عضد الفجار وعباد
الفساق الأشرار فقد كاتبناكم بالبنان وخاطبناكم بالبيان حتى سار كالبدر
واستمر مرور الدهر فلم تجيبوا ولا أطعتم بل تثاقلتم عن الحق وعصيتم وإن
الله سينتقم منكم لأوليائه نقمة من كان قبلكم من الأمم الجاحدة والفرق
المعاندة فانتظروا سيف الدم ينهلكم وحجارة المدر تدمغكم ثم لا يكون لكم
استرجاع ولا يقبل فيكم استشفاع وهذه خيل الله قد أظلتكم وبلها وطمى
عليكم سيلها فتأهبوا للموت والسلام على من اتبع الهدى هداه ولم يغلب
عليه هواه ورحمة الله وبركاته
(1/457)
سنة اثنتين وأربعين
وخمسمائة
في صفر منها عاد الحاجب محمود الكاتب من بغداد بجواب ما صدر على يده من
المكاتبات المعينة ومعه رسولاً للخليفة والسلطان وعلى أيديهما التشريف
برسم ظهير الدين ومعينه ولبساه وظهرا فيه في يوم السبت الثامن عشر من
ربيع الآخر وأقاما أياماً وعادا بجواب ما وصل معهما وورد الخبر عقيب
ذلك من بغداد بأن السلطان كان قد توجه منها بعد قتل الأمير عباس في
العسكر إلى ناحية همذان عند انتهاء الأخبار إليه بأن الأمير عباس
وعسكره قد انضاف إلى الأمير بوز به وصارا يداً واحدةً في خلق عظيم
وقصدا ناحية أصفهان ونزلا عليها وضايقاها إلى أن أسلمت إلى بوزبه
بأسباب اقتضت ذلك ولما حصل السلطان بظاهر همذان تواصلت العساكر من كل
جهة إليه وصار في خلق كثير ووردت الأخبار إلى بغداد بأن السلطان لما
كثف جمعه وقويت نفسه وقصد المذكورين وقصدوه وترتب المصاف بينهم والتقى
المصافات ومنح الله السلطان النصر عليهم وكسرهم وقتل بوز به وابن عباس
واستولى عسكر السلطان على الفل والسواد. وحكى الحاكي المشاهد لهذه
الوقعة في كتابه بشرحها ما ذكر فيه إن مبدأ الفتح إن السلطان كان في
مخيمه بباب همذان في تقدير ثلاثة آلاف فارس وبوزبه في عسكره على باب
أصفهان في خلق عظيم وإن بوزبه لما عرف ذلك طمع فيه ونهض في عسكره إليه
وقطع مسافة ثلاثين فرسخاً في يوم وليلة ووصل إلى مكر بابكان وقد كلت
الخيل ونزل هناك. فلما عرف السلطان ذلك التجأ إلى بساتين همذان وجعلها
(1/458)
ظهره مع جبلين هناك ووصل إليه الأمير حيدر
صاحب زنكان في ألف فارس ووصله الأمير اكز في خمسة ألف فارس ووصله خاصبك
بلنكى في اثني عشر ألفاً قويت بهم شوكته ونهض إلى جهة بوزبه عند ذلك
وعبأ كل فريق منهما مصافه في يوم السبت من شهر..... منذ غداته إلى وقت
العصر منه وكسرت الميمنة السلطانية وفيها الأمير جندار والميسرة فيها
الأمير تبر وبقي السلطان في القلب وعرف إن بوزبه يقصده فقال للأمير
جندار: أنا المطلوب أقم أنت مكاني تحت الشمسة فإن بوزبه يطلبها لقصدي.
ففعل ونهض السلطان في جملة وافرة من العسكر وجاء من وراء عسكر بوزبه
وحمل بوزبه وقصد مكان السلطان تحت الشمسة فلما قرب بوزبه في جملته من
الشمسة كبا به جواده وسقط إلى الأرض فانفل عسكره وأدركته الخيل فأخذ هو
وخواصه وابن عباس ووزير بوزبه يقال له صدر الدين ابن الخوجندي وكان قد
أعلن بوزبه على تسلم أصفهان فجازاه على ذلك باستيزاره وفي يوم الخميس
الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر وصل رسول مصر إلى دمشق بما صحبه من
تشريف وقود ومال برسم ظهير الدين ومعينه على جاري الرسم في مثل ذلك.
(1/459)
وفي ليلة الجمعة الثالث من شهر ربيع الأول
من السنة توفي الفقيه شيخ الاسلام أبو الفتح نصر الله بن محمد بن عبد
القوي المصيصي بدمشق رحمه الله وكان بقية الفقهاء المقيمين على مذهب
الشافعي رحمه الله ولم يخلف مثله بعده
وفي جمادى الآخرة منها تقررت ولاية حصن صرخد للأمير مجاهد الدين بزان
بن مامين على مبلغ من المال والغلة وشروط وإيمان دخل فيها وقام بها
وتوجه إليه وحصل به في النصف من الشهر المذكور واستبشر من بتلك الناحية
من حصوله فيه لما هو عليه من حب الخير والصلاح والتدين والعفاف عقيب من
كان قبله ممن لا يدين الله بدين ولا صلاة ولا انصاف ولا نزاهة نفس ولا
جميل فعل وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بأن رضوان بن ولخشي
المنعوت كان بالأفضل وزير صاحب مصر الذي كان معتقلاً بالقصر وقد تقدم
ذكره فيما مضى نقب من المكان الذي كان فيه إلى مكان ظاهر القصر نقباً
يكون تقدير طوله أربعون ذراعاً واجتمع إليه خلق كثير من العسكرية ممن
كان يهواه ويتوالاه في العشر الأخير من ذي القعدة سنة 42 وإنه راسل
سلطان مصر يلتمس منه إعادته إلى منصبه وإخراج المال لينفق على العسكرية
والأجناد فعاد الجواب إليه بالوعد بالاجابة على سبيل المغالطة
والمدافعة إلى حين دبر الأمر عليه ورتب له من الرجال الأجلاد
(1/460)
وأبطال الأجناد والأنجاد من هجم عليه في
مكانه ومجتمع أعوانه فقتل وقتل معه من دنا منه وتابعه وورد بشرح قصته
السجل من سلطان مصر إلى ثغر عسقلان وقرئ على منبرها ومضمونه: بسم الله
الرحمن الرحيم..... وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من شوال سنة 42 وهو
مستهل نيسان أظلم الجو ونزل غيث ساكن ثم أظلمت الأرض في وقت صلاة العصر
ظلاماً شديداً بحيث كان ذلك كالغدرة بين العشايين وبقيت السماء في عين
الناظر إليها كصفورة الورس وكذلك الجبال وأشجار الغوطة وكل ما ينظر
إليه من حيوان وجماد ونبات. ثم جاء في أثر ذلك من الرعد القاصف والبرق
الخاطف والهدات المزعجة والزحفات المفزعة ما ارتاع لها الشيب والشبان
فكيف الولدان والنسوان وقلقت لذلك الخيول في مرابطها وأجفلت من هولها
وبقي الأمر على هذه الحال إلى حين وقت العشاء الآخرة ثم سكن ذلك بقدرة
الله تعالى وأصبح الناس غد ذلك اليوم ينظرون في أعقاب ذلك المطر فإذا
على الأرض والأشجار وسائر النبات غبار في رقة الهواء بين البياض
والغبرة بحيث يكون إذا جرد عنها الشيء الكثير ويلوح فيه بريق لا يدرى
ما لونه ولا جسمه من نعومته فعجب الناس من هذه القدرة التي لا يعلم ما
أصلها ولا شبيه لها بل نزلت في جملة المطر ممتزجةً به كامتزاج الماء
بالماء والهواء بالهواء وفي هذه السنة تواصلت الأخبار من ناحية
القسطنطينية وبلاد الافرنج والروم وما والاها بظهور ملك الافرنج من
بلادهم منهم المان والفنش وجماعة من كبارهم في العدد الذي لا يحصر
والعدد التي لا تحزر لقصد بلاد الاسلام بعد أن نادوا في سائر بلادهم
ومعقلهم بالنفير إليها والاسراع
(1/461)
نحوها وتخلية بلادهم وأعمالهم خاليةً سافرةً من حماتها والحفظة لها
واستصحبوا من أموالهم وذخائرهم وعددهم الشيء الكثير الذي لا يحصى بحيث
يقال إن عدتهم ألف ألف عنان من الرجالة والفرسان وقيل أكثر من ذلك
وغلبوا على أعمال القسطنطينية واحتاج ملكها إلى الدخول في مداراتهم
ومسالمتهم والنزول على أحكامهم. وحين شاع خبرهم واشتهر أمرهم شرعت ولاة
الأعمال المصاقبة لهم والأطراف الاسلامية القريبة منهم في التأهب
للمدافعة لهم والاحتشاد على المجاهدة فيهم وقصدوا منافذهم ودروب
معابرهم التي تمنعهم من العبور والنفوذ إلى بلاد الاسلام وواصلوا شن
الغارات على أطرافهم واشتجر القتل فيهم والفتك بهم إلى أن هلك منهم
العدد الكثير وحل بهم من عدم القوت والعلوفات والمير وغلاء السعر إذا
وجد ما أفنى الكثير منهم بموت الجوع والمرض ولم تزل أخبارهم تتواصل
بهلاكهم وفناء أعدادهم إلى أواخر سنة 542 بحيث سكنت النفوس بعض السكون
وركنت إلى فساد أحوالهم بعض الركون وخف ما كان من الانزعاج والفرق مع
تواصل أخبارهم |