تاريخ دمشق لابن القلانسي
ثم دخلت سنة ثلاث
وأربعين وخمسمائة
وأولها يوم الجمعة الحادي وعشرين من أيار والشمس في الجوزاء. وفي
أوائلها تواترت الأخبار من سائر الجهات بوصول مراكب الافرنج المقدم
ذكرهم إلى ساحل البحر وحصولهم على سواحل الثغور الساحلية صور وعكا
(1/462)
واجماعهم مع من كان بها من الافرنج ويقال
إنهم بعد ما فني منهم بالقتل والمرض والجوع تقدير مائة ألف عنان وقصدوا
بيت المقدس وقضوا مفروض حجهم وعاد بعد ذلك من عاد إلى بلادهم في البحر.
وقد هلك منهم بالموت والمرض الخلق العظيم وهلك من ملوكهم من هلك وبقي
المان أكبر ملوكهم ومن هو دونه واختلفت الآراء بينهم فيما يقصدون
منازلته من البلاد الاسلامية والأعمال الشامية إلى أن استقرت الحال
بينهم على منازلة مدينة دمشق وحدثتهم نفوسهم الخبيثة بملكتها وتبايعوا
ضياعها وجهاتها. وتواصلت الأخبار بذلك وشرع متولي أمرها الأمير معين
الدين أنر في التأهب والاستعداد لحربهم ورفع شرهم وتحصين ما يخشى من
الجهات وترتيب الرجال في المسالك والمنافذ وقطع مجاري الميرة إلى
منازلهم وطم الآبار وعفى المناهل وصرفوا أعنتهم إلى ناحية دمشق في
حشدهم وحدهم وحديدهم في الخلق الكثير على ما يقال تقدير الخمسين ألف من
الخيل والرجل ومعهم من السواد والجمال والأبقار ما كثروا به العدد
الكثير ودنوا من البلد وقصدوا المنزل المعروف بمنازل العساكر فصادفوا
الماء معدوماً فيه مقطوعاً عنه فقصدوا ناحية المزة فخيموا عليها لقربها
من الماء وزحفوا إليه بخيلهم ورجلهم. ووقف المسلمون بإزائهم في يوم
السبت السادس من شهر ربيع الأول سنة 43 ونشبت الحرب بين الفريقين
واجتمع عليهم من الأجناد والأتراك القتال وأحداث البلد والمطوعة
والغزاة الجم الغفير واشتجر القتل بينهم واستظهر الكفار على المسلمين
بكثرة الأعداد والعدد وغلبوا على الماء وانتشروا في البساتين وخيموا
فيها وقربوا من البلد وحصلوا منه بمكان لم يتمكن أحد من العساكر قديماً
ولا حديثاً منه.
(1/463)
واستشهد في هذا اليوم الفقيه الامام يوسف
الفندلاوي المالكي رحمه الله قريب الربوة على الماء لوقوفه في وجوههم
وترك الرجوع عنهم اتباعاً لأوامر الله تعالى في كتابه الكريم وكذلك عبد
الرحمن الحلحولي الزاهد رحمه الله جرى أمره هذا المجرى وشرعوا في قطع
الأشجار والتحصين بها وهدم القناطر وباتوا تلك الليلة على هذه الحال
وقد لحق الناس من الارتياع لهول ما شاهدوه والروع بما عاينوه ما ضعفت
به القلوب وحرجت معه الصدور وباكروا الظهور إليهم في غد ذلك اليوم وهو
يوم الأحد تاليه وزحفوا إليهم ووقع الطراد بينهم واستظهر المسلمون
عليهم وأكثروا القتل والجراح فيهم. وأبلى الأمير معين الدين في حربهم
بلاءً حسناً وظهر من شجاعته وصبره وبسالته ما لم يشاهد في غيره بحيث لا
يني في ذيادتهم ولا يفثئ عن جهادهم ولم تزل رحى الحرب دائرةً بينهم
وخيل الكفار محجمةً عن الحملة المعروفة لهم إلى أن تتهيأ الفرصة لهم
إلى أن مالت الشمس إلى الغروب وأقبل الليل وطلبت النفوس الراحة وعاد كل
منهم إلى مكانه وبات الجند بإزائهم وأهل البلد على أسوارهم للحرس
والاحتياط وهم يشاهدون أعداءهم بالقرب منهم وكانت المكاتبات قد نفذت
إلى ولاة الأطراف بالاستصراخ والاستنجاد وحصلت خيل التركمان تتواصل
ورجالة الأطراف تتتابع وباكرهم المسلمون
(1/464)
وقد قويت نفوسهم وزال روعهم وثبتوا بإزائهم
وأطلقوا فيهم السهام ونبل الجرح بحيث تتبع في مخيمهم في راجل أو فارس
أو فرس أو جمل
ووصل في هذا اليوم من ناحية البقاع وغيرها رجالة كثيرة من الرماة فزادت
بهم العدة وتضاعفت العدة وانفصل كل فريق إلى مستقره هذا اليوم وباكروهم
من غده يوم الثلاثاء كالبزاة إلى تعاقيب الجبل والشواهين إلى مطار
الحجل وأحاطوا بهم في مخيمهم وحول مجثمهم وقد تحصنوا بأشجار البساتين
وأفسدوها رشقاً بالنشاب وحذفاً بالأحجار. وقد أحجموا عن البروز وخافوا
وفشلوا ولم يظهر منهم أحد وظن بهم إنهم يعملون مكيدةً ويدبرون حيلةً
ولم يظهر منهم إلا النفر اليسير من الخيل والرجل على سبيل المكاردة
والمناوشة خوفاً من المهاجنة إلى أن يجدوا لحملتهم مجالاً أو يجدون
لفرهم احتيالاً وليس يدنو منهم أحد إلا صرع برشقة أو طعنة وطمع فيهم
نفر كثير من رجالة الأحداث والضياع وجعلوا يرصدونهم في المسالك وقد
انثنوا فيقتلون من ظفروا به ويحضرون رؤوسهم لطلب الجوائز عنها وحصل من
رؤوسهم العدد الكثير وتواترت إليهم أخبار العساكر الاسلامية بالخفوف
إلى جهادهم والمسارعة إلى استئصالهم فأيقنوا بالهلاك والبوار وحلول
الدمار واعملوا الآراء بينهم فلم يجدوا لنفوسهم خلاصاً من الشبكة التي
حضلوا فيها والهوة التي ألقوا بنفوسهم إليها غير الرحيل سحراً يوم
الأربعاء المتالي مجفلين
(1/465)
والهرب مخذولين مفلولين. وحين عرف المسلمون
ذلك وبانت لهم آثارهم في الرحيل برزوا لهم في بكرة هذا اليوم وسارعوا
نحوهم في آثارهم بالسهام بحيث قتلوا في أعقابهم من الرجال والخيول
والدواب العدد الكثير ووجد في آثار منازلهم وطرقاتهم من دفائن قتلاهم
وفاخر خيولهم ما لا عدد له ولا حصر يلحقه بحيث لها أرائح من جيفهم تكاد
تصرع الطيور في الجو وكانوا قد أحرقوا الربوة والقبة الممدودة في تلك
الليلة واستبشر الناس بهذه النعمة التي أسبغها الله عليهم وأكثروا من
الشكر له تعالى ما أولاهم من إجابة دعائهم الذي واصلوه في أيام هذه
الشدة فلله على ذلك الحمد والشكر واتفق عقيب هذه الرحمة اجتماع معين
الدين مع نور الدين صاحب حلب عند قربه من دمشق للانجاد لها في أواخر
شهر ربيع الآخر من السنة
(1/466)
وإنهما قصدا الحصن المجاور لطرابلس
المعروف...... وفيه ولد الملك الفنش أحد ملوك الافرنج المقدم ذكرهم كان
هلك بناحية عكا ومعه والدته وجماعة وافرة من خواصه وأبطاله ووجوه رجاله
فأحاطوا به وهجموا عليه وقد كان وصل إلى العسكرين النوري والمعيني
فريقة تناهز الألف فارس من عسكر سيف الدين غازي بن أتابك ونشبت الحرب
بينهم فقتل أكثر من كان فيه وأسر وأخذ ولد الملك المذكور وأمه ونهب ما
فيه من العدد والخيول والأثاث وعاد عسكر سيف الدين إلى مخيمه بحمص ونور
الدين عائداً إلى حلب ومعه ولد الملك وأمه ومن أسر معهما وانكفأ معين
الدين إلى دمشق وقد كان ورد إلى دمشق الشريف الأمير شمس الدين ناصح
الاسلام أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبيد الله الحسيني النقيب من
ناحية سيف الدين غازي بن أتابك لأنه كان قد ندب رسولاً من الخلافة إلى
سائر الولاة وطوائف التركمان لبعثهم على نصرة المسلمين ومجاهدة
المشركين وكان ذلك السبب في خوف الافرنج من تواصل الامداد إليهم
والاجتماع عليهم
(1/467)
ورحيلهم على القضية المشروحة. وهذا الشريف
المذكور في بيت كبير في الشرف والفضل والأدب وأخوه ضياء الدين نقيب
الأشراف في الموصل مشهور بالعلم والأدب والفهم وكذا ابن عمه الشريف
نقيب العلويين ببغداد وابن عمه نقيب خراسان وأقام بدمشق ما أقام وظهر
من حسن تأتيته في مقاصده وسداده في مصادره وموارده ما أحرز به جميل
الذكر ووافر الشكر وعاد منكفئاً إلى بغداد بجواب ما وصل فيه يوم
الأربعاء الحادي عشر من رجب سنة 43 وفي رجب في هذه السنة ورد الخبر من
ناحية حلب بأن صاحبها نور الدين أتابك أمر بإبطال حي على خير العمل في
أواخر تأذين الغداة والتظاهر بسب الصحابة رضي الله عنهم وأنكر ذلك
انكاراً شديداً وحظر المعاودة إلى شيء من هذا المنكر وساعده على ذلك
الفقيه الامام برهان الدين أبو الحسن علي الحنفي وجماعة من السنة بحلب
وعظم هذا الأمر على الاسماعيلية وأهل الشيع وضاقت له صدورهم وهاجوا له
وماجوا ثم سكنوا وأحجموا بالخوف من السطوة النورية المشهورة والهيبة
المحذورة
وفي رجب من هذه السنة أذن لمن يتعانى الوعظ بالتكلم في الجامع المعمور
بدمشق على جاري العادة والرسم فبدأ من اختلافهم في أحوالهم وأعراضهم
والخوض فيما لا حاجة إليه من المذاهب ما أوجب صرفهم عن هذه الحال
وإبطال الوعظ لما يتوجه معه من الفساد وطمع سفهاء الأوغاد وذلك في
أواخر شعبان منها وفي جمادى الآخرة منها وردت الأخبار من بغداد باضطراب
الأحوال فيها وظهور العيث والفساد في نواحيها وضواحيها وأن الأمير
بازبه
(1/468)
والأمير قيس والأمير علي بن دبيس بن صدقة
اجتمعوا وتوافقوا في تقدير خمسة آلاف فارس ووصلوا إلى بغداد على حين
غفلة من أهلها وهجموها وحصلوا بدار السلطان وتناهوا في الفساد والعناد
بحيث وقعت الحرب بينهم وقتل من النظار وغيرهم نحو خمسمائة إنسان في
الطرقات وأن أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله رتب الأجناد والعسكرية
بازائهم بحيث هزموهم وأخرجوهم من بغداد وطلبوا ناحية النهروان وتناهوا
في العيث والافساد في الأعمال والاستيلاء على الغلال وخرج أمر الخلافة
بالشروع في عمارة سور بغداد وحفر الخنادق وتحصينها والزام الأماثل
والتناء والتجار وعيان الرعايا القيام بما ينفق على العمارات من
أموالهم على سبيل القرض والمعونة ولحق الناس من ذلك المشقة والكلفة
المؤلمة. وذكر أن السلطان ركن الدين مسعود مقيم بهمذان وأن أمره قد ضعف
عما كان والأقوات قد قلت والسعر قد غلا والفتن قد ثارت والفساد في
الأعمال قد انتشر وأن العدوان في أعمال خراسان قد زاد وظهر والفناء قد
كثر وفي هذه السنة وردت الأخبار من ديار مصر بظهور بعض أولاد نزار
واجتمع إليه خلق كثير من المغاربة وكتامة وغيرهم وقربوا من الاسكندرية
في عالم عظيم وأن إمام مصر الحافظ انهض إليهم العساكر المصرية ونشبت
الحرب بينهم وقتل من الفريقين العدد الكثير من الفرسان والرجالة وكان
الظهور العساكر الحافظية على النزارية بحيث هزموهم وأثخنوا القتل فيهم
وأجلت الوقعة عن قتل ولد نزار المقدم ومعه جماعة من خواصه وأسبابه
وانهزم من ثبطه الأجل وأطار قلبه الوجل وخمدت عقيب هذه النوبة
(1/469)
الثائرة وزالت تلك الفتنة الثائرة وسكنت
النفوس وزال عن مصر الخوف والبؤس ووردت الأخبار في رجب منها من ناحية
حلب بأن نور الدين صاحبها كان قد توجه في عسكره إلى ناحية الأعمال
الافرنجية وظفر بعدة وافرة من الافرنج وأن صاحب أنطاكية جمع الافرنج
فصده على حين غفلة منه فنال من عسكره وأثقاله وكراعه ما أوجبته الأقدار
النازلة وانهزم بنفسه وعسكره وعاد إلى حلب سالماً في عسكره لم يفقد منه
إلا النفر اليسير بعد قتل جماعة وافرة من الافرنج وأقام بحلب أياماً
بحيث جدد ما ذهب له من البرك وما يحتاج إليه من آلات العسكر وعاد إلى
منزله وقيل لم يعد
وكان الغيث أمسك عن الأعمال الحورانية والغوطية والبقاعية بحيث امتنع
الناس من الفلاحة والزراعة وقنطوا ويئسوا من نزول الغيث فلما كان في
أيام من شعبان في نوء الهنعة أرسل الله تعالى وله الحمد والشكر على
الأعمال من الأمطار المتداركة ما رويت به الأراضي والآكام والوهاد
وانشرحت الصدور ولحقوا معه أوان الزراعة فاستكثروا منها وزادوا في
الفلاحة والعمارة وذلك في شعبانوقد كان تقدم من شرح نوبة قتل برق بن
جندل التميمي بيد الاسماعيلية
(1/470)
وجمع أخيه ضحاك بن جندل لبني عمه وأسرته
وقومه ورجاله وكبسه لجماعة خصومه وقتلهم مع رأس طغيانهم بهرام الداعي
ما قد شرح في موضعه من هذا التاريخ وعرف وورد الخبر في شعبان من هذه
السنة بأن المذكورين ندبوا لقتل ضحاك المذكور رجلين أحدهما قواساً
والآخر نشاباً فوصلا إليه وتقربا بصنعتهما إليه وأقاما عنده برهةً من
الزمان طويلةً إلى أن وجدوا فيه الفرصة متسهلة وذاك أن ضحاك بن جندل
كان راكباً مسيراً حول ضيعة له تعرف ببيت لهيا من وادي التيم فلما عاد
عنها وافق اجتيازه بمنزل هذين المفسدين فلقياه وسألاه النزول عندهما
للراحة وألحا عليه في السؤال فنزل والقدر منازلة والبلاء معادلة فلما
جلس أتياه بمأكول حضرهما فحين شرع في الأكل مع الخلوة وثبا عليه فقتلاه
وأجفلا فأدركهما رجاله فأخذوهما وأتوا بهما إلى ضحاك وقد بقي فيه رمق
فلما رآهما أمر بقتلها بحيث شاهدهما ثم فاضت نفسه في الحال وقام مقامه
ولده من أمارة وادي التيم وبهذا الشرح وصل كتابه وعلى هيئته أوردتهوفي
ذي الحجة ورد الخبر من ناحية بغداد بوفاة القاضي قاضي القضاة الأكمل
فخر الدين عز الاسلام أبي القسم علي بن الحسين بن محمد الزينبي رحمه
الله بيوم النحر من سنة 543 وصلى عليه الامام المقتفي لأمر الله أمير
المؤمنين وصلى عليه بعده نقيب النقباء ودفن على والده نور الهدى في
تربة الامام أبي حنيفة رحمه الله وولي أمر القضاء بعده القاضي أبو
الحسن علي بن الدامغاني
ودخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة
وأولها يوم الأربعاء الحادي عشر من أيار. قد كان كثر الفساد الافرنج
المقيمين بصور وعكا والثغور الساحلية بعد رحيلهم عن دمشق وفساد شرائط
الهدنة المستقرة بين معين الدين وبينهم بحيث شرعوا في الفساد في
(1/471)
الأعمال الدمشقية فاقتضت الحال نهوض الأمير
معين الدين في العسكر الدمشقي إلى أعمالها مغيراً عليها وعائثاً فيها
وخيم في ناحية حوران بالعسكر وكاتب العرب في أواخر سنة 543 ولم يزل
مواصلاً للغارات وشنها على بلادهم وأطرافهم مع الأيام وتقضيها والساعات
وتصرمها واستدعاء جماعةً وافرةً من التركمان وأطلق أيديهم في نهب
أعمالهم والفتك بمن يظفر به في أطرافهم الحرامية وأهل الفساد والأخراب
ولم يزل على هذه القضية لهم محاصراً وعلى النكاية فيهم والمضايقة لهم
مصابراً إلى أن ألجأهم إلى طلب المصالحة وتجديد عقد المهادنة والمسامحة
ببعض المقاطعة وترددت المراسلات في تقرير هذا الأمر واحكام مشروطه وأخذ
الأيمان بالوفاء بشروطه في المحرم سنة 544 وتقررت حال الموادعة مدة
سنتين ووقعت الايمان على ذلك وزال الخلف واطمأنت النفوس من أهل العملين
بذلك وسكنت إلى تمامه وسرت بأحكامه ووافق ذلك تواصل كتب نور الدين صاحب
حلب إلى معين الدين يعلمه أن صاحب أنطاكية جمع افرنج بلاده وظهر يطلب
بهم الافساد في الأعمال الحلبية وأنه قد برز في عسكره إلى ظاهر حلب
للقائه وكف شره عن الأعمال وأن الحاجة ماسة إلى معاضدته بمسيره بنفسه
وعسكره إليه ليتفقا بالعسكرين عليه. فاقتضت الحال أن ندب الأمير معين
الدين الأمير مجاهد الدين بزان بن مامين في فريق وافر من العسكر
الدمشقي للمصير إلى جهته وبذل المجهود في طاعته ومناصحته وتوجه في
يوم..... من العشر الأول من صفر من السنة وبقي معين الدين في باقي
العسكر بناحية
(1/472)
حوران لايناس حال العرب وحفظ أطرافهم
وتطييب نفوسهم لنقل الغلال عن جمالهم إلى دمشق على جاري العادة وحفظها
والاحتياط عليها
وفي صفر من السنة وردت البشائر من جهة نور الدين صاحب حلب بما أولاه
الله وله الحمد من الظهور على حشد الافرنج المخذول وجمعهم المفلول بحيث
لم يفلت منهم إلا من خبر ببوارهم وتعجيل دمارهم وذلك أن نور الدين لما
اجتمع إليه ما استدعاه من خيل التركمان والأطراف ومن وصل إليه من عسكر
دمشق مع الأمير مجاهد الدين بزان قويت بذاك نفسه واشتدت شوكته وكثف
جمعه ورحل إلى ناحية الافرنج بعمل أنطاكية بحيث صار عسكره يناهز الستة
آلاف فارس مقاتلة سوى الاتباع والسواد والافرنج في زهاء أربعمائة فارس
طعانة وألف راجل مقاتلة سوى الاتباع. فلما حصلوا بالموضع المعروف بإنب
نهض نور الدين في العسكر المنصور نحوهم ولما وقعت العين حمل الكفرة على
المسلمين حملتهم المشهورة وتفرق المسلمون عليهم من عدة جهات ثم أطبقوا
عليهم واختلط الفريقان وانعقد العجاج عليهم وتحكمت سيوف الاسلام فيهم
ثم انقشع القتام وقد منح الله وله الحمد والشكر المسلمين النصر على
المشركين وقد صاروا على الصعيد مصرعين وبه مغفرين وبحربهم مخذولين بحيث
لم ينج منهم إلا النفر اليسير ممن ثبطه الأجل وأطار قلبه الوجل بحيث
يخبرون بهلاكهم واحتناكهم وشرع المسلمون في اسلابهم والاشتمال على
سوادهم وامتلأت الأيدي من غنائمهم وكراعهم. ووجد اللعين البلنس مقدمهم
صريعاً بين حماته وابطاله فعرف وقطع رأسه
(1/473)
وحمل إلى نور الدين فوصل حامله بأحسن صلة
وكان هذا اللعين من إبطال الافرنج المشهورين بالفروسية وشدة البأس وقوة
الحيل وعظم الخلقة مع اشتهار الهيبة وكبر السطوة والتناهي في الشر وذلك
في يوم الأربعاء الحادي والعشرين من صفر سنة 44 ثم نزل نور الدين في
العسكر على باب أنطاكية وقد خلت من حماتها والذابين عنها ولم يبق فيها
غير أهلها مع كثرة أعدادهم وحصانة بلدهم وترددت المراسلات بين نور
الدين وبينهم في طلب التسليم إلى نور الدين وإيمانهم وصيانة أحوالهم
فوقع الاحتجاج منهم بأن هذا الأمر لا يمكنهم الدخول فيه إلا بعد انقطاع
أمالهم من الناصر لهم والمعين على من يقصدهم فحملوا ما أمكنهم من التحف
والمال واستمهلوا فأمهلوا وأجيبوا إلى ما فيه سألوا ثم رتب بعض العسكر
للاقامة عليها والمنع لمن يصل إليها ونهض نور الدين في بقية العسكر إلى
ناحية أفامية. وقد كان رتب الأمير صلاح الدين في فريق وافر من العسكر
لمنازلتها ومضايقتها ومحاربتها فحين علم من فيها من المستحفظين هلاك
الافرنج وانقطع أملهم من مواد الانجاد وأسباب الاسعاد التمسوا الأمان
فأمنوا على نفوسهم وسلموا البلد ووفى لهم بالشرط فرتب فيها من رآه
كافياً في حفظها والذب عنها وذلك في الثامن عشر من شهر ربيع الأول من
السنة وانكفأ نور الدين في عسكره إلى ناحية الساحل إلى صوب أنطاكية
لانجاد من بها وطلب نور الدين تسهل الفرصة في قصدهم للايقاع بهم
فأحجموا عن الاقدام على التقرب منه وتشاغلوا عنه واقتضت الحال مهادنة
من في أنطاكية وموادعتهم وتقرير أن يكون ما قرب من الأعمال الحلبية له
ما قرب من
(1/474)
أنطاكية لهم. ورحل عنها إلى جهة غيرهم بحيث
قد كان في هذه النوبة قد ملك ما حول أنطاكية من الحصون والقلاع
والمعاقل وغنم منها الغنائم الجمة وفصل عنه الأمير مجاهد الدين بزان في
العسكر الدمشقي وقد كان له في هذه الوقعة ولمن في جملته البلاء المشهور
والذكر المشكور لما هو موصوف به من الشهامة والبسالة وأصالة الرأي
والمعرفة بمواقف الحروف ووصل إلى دمشق سالماً في نفسه وجملته في يوم
الثلاثاء رابع شهر ربيع الآخر من السنة. ومن لفظه وصفته هذا الشرح
معتمداً فيه على الاختصار دون الاكثار وفيه من تقويه أركان الدين
واذلال ما بقي من الكفرة الملحدين ما هو مشهور بين العباد وسائر البلاد
مشكور مذكور والله تعالى اسمه عليه المحمود المشكور
وقد مضى من ذكر معين الدين أنر فيما كان أنهضه من عسكره إلى ناحية حلب
لاعانة نور الدين صاحبها على ملاقاة الافرنج المجتمعين من أنطاكية
وأعمالها للافساد في الأعمال الشامية وما منح الله تعالى وله الحمد من
الظفر بهم والنصر عليهم ما أغنى عن ذكر شيء منه. واتفق أن معين الدين
فصل عن عسكره بحوران ووصل إلى دمشق في أيام من آخر شهر ربيع الأول سنة
544 لأمر أوجب ذاك ودعا إليه وأمعن في الأكل لعادة جرت له فلحقه عقيب
ذلك انطلاق تمادى به وحمله اجتهاده فيما يدبره على العود إلى العسكر
بناحية حوران وهو على هذه الصفة من الانطلاق وقد زاد به وضعفت قوته
وتولد معه المرض المعروف بجوسنطريا وعمله في الكبد وهو مخوف لا يكاد
يسلم صاحبه منه وأرجف به وضعفت قوته فأوجبت الحال عوده إلى دمشق في
محفة لمداواته فوصل في يوم السبت السابع من شهر ربيع الآخر من السنة
فزاد به المرض والارجاف بموته وسقطت قوته وقضى نحبه في الليلة التي
(1/475)
صبيحتها يوم الاثنين الثالث والعشرين من
ربيع الآخر من السنة ودفن في إيوان الدار الأتابكية التي كان يسكنها ثم
نقل بعد ذلك إلى المدرسة التي عمرها. ولما دفن في قبره وفرغ من أمره
اجتمع حسام الدين بلاق ومؤيد الدين الرئيس ومجاهد الدين بزان وأعيان
الأجناد في مجلس مجير الدين بالقلعة وإليه الأمر والتقدم وتقررت الحال
بينهم على ما اتفق من صلاح الحال وفي مستهل جمادى الأولى من السنة توفي
أبو عبد الله البسطامي المقري المصلي في مشهد زين العابدين رحمه الله.
وورد الخبر من ناحية الموصل بوفاة الأمير سيف الدين غازي بن عماد الدين
أتابك رحمه الله بعلة قولنجية دامت به في أوائل جمادى الأولى من السنة
وأنه قرر الأمر لأخيه مودود بن عماد الدين والنظر في أمره للأمير علي
كوجك والوزارة لجمال الدين وفي يوم الجمعة التاسع من رجب سنة 544 قرئ
المنشور المنشأ عن مجير الدين بعد الصلاة على المنبر بإبطال الفيئة
المستخرجة من الرعية وإزالة حكمها وتعفير رسمها وإبطال دار الضرب فكثر
دعاء الناس له وشكرهم وحدث عقيب هذه الحال استيحاش مؤيد الدين الرئيس
من مجير الدين استيحاشاً أوجب جمع من أمكنه من سفهاء الأحداث والغوغاء
وحملة السلاح من الجهلة العوام وترتيبهم حول داره ودار أخيه زين الدولة
حيدرة للاحتماء بهم من مكروه يتم عليهما وذلك في يوم الأربعاء الثالث
وعشرين من رجب ووقعت المراسلات من مجير الدين بما يسكنهما ويطيب
قلوبهما فما وثقا بذلك وجدا في الجمع والاحتشاد من العوام وبعض الأجناد
(1/476)
وأثارا الفتنة في ليلة الخميس تالي اليوم
المذكور وقصدوا باب السجن وكسروا اغلاقه وأطلقوا من فيه واستنفروا
جماعة من أهل الشاغور وغيرهم وقصدوا الباب الشرقي وفعلوا مثل ذلك
وحصلوا في جمع كثير وامتلأت بهم الأزقة والدروب فحين عرف مجير الدين
وأصحابه هذه الصورة اجتمعوا في القلعة بالسلاح الشاك فأخرج ما في
خزائنه من السلاح والعدد وفرقت على العسكرية وعزموا على الزحف إلى جمع
الأوباش والايقاع بهم والنكاية فيهم. فسأل جماعة من المقدمين التمهل في
هذا الأمر وترك العجلة بحيث تحقن الدماء وتسلم البلد من النهب والحريق
وألحوا عليه إلى أن أجاب سؤالهم ووقعت المراسلة والتلطف في إصلاح ذات
البين فاشترط الرئيس وأخوه شروطاً أجيبا إلى بعضها وأعرض عن بعض بحيث
يكون ملازماً لداره ويكون ولده وولد أخيه في الخدمة في الديوان ولا
يركب إلى القلعة إلا مستدعىً إليها وتقربت الحال على ذلك وسكنت
الدهماء. ثم حدث بعد هذا التقرير عود الحال إلى ما كانت عليه من العناد
وإثارة الفساد وجمع الجمع الكثير من الأجناد والمقدمين والرعاع
والفلاحين واتفقوا على الزحف إلى القلعة وحضر من بها وطلب من عين عليه
من الأعداء والأعيان في أواخر رجب ونشبت الحرب بين الفريقين وجرح وقتل
بينهم نفر يسير وعاد كل فريق منهم إلى مكانه
ووافق ذلك هروب السلار زين الدين اسمعيل الشحنة وأخيه إلى ناحية بعلبك
ولم تزل الفتنة ثائرة والمحاربة متصلة إلى أن اقتضت الصورة ابعاد من
التمس ابعاده من خواص مجير الدين وسكنت الفتنة وأطلقت أيدي النهابة في
دور السلار زين الدين وأخيه وأصحابهما وعمهما النهب والاخراب ودعت
الصورة إلى تطييب نفس الرئيس وأخيه والخلع عليهما
(1/477)
بعد أيمان حلف بها واعادة الرئيس إلى
الوزارة والرئاسة بحيث لا يكون له في ذلك معترض ولا مشارك وورد الخبر
بظهور الافرنج إلى الأعمال للعيث فيها والافساد وشرعوا في التأهب لدفع
شرهم. وورد الخبر من ناحية مصر بوفاة صاحبها الامام الحافظ بأمر الله
أمير المؤمنين عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله رحمه
الله في الخامس من جمادى الآخرة سنة 44 وولي الأمر من بعده ولده الأصغر
أبو منصور اسمعيل بن عبد المجيد الحافظ ولقب بالظافر بالله وولي
الوزارة أمير الجيوش أبو الفتح ابن مصال المغربي فأحسن السيرة وأجمل
السياسة واستقامت بتدبيره الأعمال وصلحت الأحوال ثم حدث من بعد ذلك من
اضطراب الأمور والخلف المكروه بين السودان والريحانية بحيث قتل بين
الفريقين الخلق الكثير وسكنت الفتنة بعد ذلك وانتشر الأمن بعد الخوف.
وقد كان الحافظ رحمه الله ولي الأمر أولاً في المحرم سنة 526 بحيث كانت
مدة إقامته فيه ثماني عشرة سنة وخمسة أشهر وخمسة وعشرين يوماً وكان أول
زمانه حسن الأفعال والسيرة وبث الاحسان في العسكرية والرعية وقد كان
الخبر اتصل بنور الدين بإفساد الافرنج في الأعمال الحورانية بالنهب
والسبي فعزم على التأهب لقصدهم وكتب إلى من في دمشق يعلمهم ما عزم عليه
من الجهاد ويستدعي منهم المعونة على ذلك بألف فارس تصل إليه مع مقدم
يعول عليه وقد كانوا عاهدوا الافرنج أن يكونوا يداً واحدةً على من
يقصدهم من عساكر المسلمين فاحتج عليه وغولط. فلما عرف ذلك رحل ونزل
بمرج يبوس وبعض العسكرية بيعفور فلما قرب من
(1/478)
دمشق وعرف من بها خبره ولم يعلموا أين
مقصده وقد كانوا أرسلوا الافرنج بخبره وقروا معهم الأنجاد عليه وكانوا
قد نهضوا إلى ناحية عسقلان لعمارة غزة ووصلت أوائلهم إلى بانياس. وعرف
نور الدين خبرهم فلم يحفل بهم وقال: لا أنحرف عن جهادهم. وهو مع ذلك
كاف أيدي أصحابه عن العيث والافساد في الضياع وإحسان الرأي في الفلاحين
والتخفيف والدعاء له مع ذلك متواصل من أهل دمشق وأعمالها وسائر البلاد
وأطرافها. وكان الغيث قد انحبس عن حوران والغوطة والمرج حتى نزح أكثر
أهل حوران عنها للمحل واشتداد الأمر وترويع سربهم وعدم شربهم. فلما وصل
إلى بعلبك اتفق للقضاء المقدر والرحمة النازلة أن السماء أرسلت عزاليها
بكل وابل وطل وانسكاب وهطل بحيث أقام ذلك منذ يوم الثلاثاء الثالث من
ذي الحجة سنة 44 إلى مثله وزادت الأنهار وامتلأت برك حوران ودارت
أرحيتها وعاد ما صرح من الزرع والنبات غصناً طريئاً وضج الناس بالدعاء
لنور الدين وقالوا: هذا ببركته وحسن معدلته وسيرته ثم رحل من منزله
بالأعوج ونزل على جسر الخشب المعروف بمنازل العاسر في يوم الثلاثاء
السادس والعشرين من ذي الحجة سنة 44 وراسل مجير الدين والرئيس بما قال
فيه: إنني ما قصدت بنزولي هذا المنزل طالباً لمحاربتكم ولا منازلتكم
وإنما دعاني إلى هذا الأمر كثرة شكاية المسلمين من أهل حوران والعربان
بأن الفلاحين الذين أخذت أموالهم وشتت نساؤهم وأطفالهم بيد الافرنج
وعدم الناصر لهم لا يسعني مع ما أعطاني الله وله الحمد من الاقتدار على
نصرة المسلمين وجهاد المشركين وكثرة المال والرجال ولا يحل لي القعود
عنهم والانتصار لهم مع
(1/479)
معرفتي بعجزكم عن حفظ أعمالكم والذب عنها
والتقصير الذي دعاكم إلى الاستصراخ بالافرنج على محاربتي وبذلكم لهم
أموال الضعفاء والمساكين من الريعة ظلماً لهم وتعدياً عليكم وهذا ما لا
يرضي الله تعالى ولا أحداً من المسلمين ولا بد من المعونة بألف فارس
نزاح العلة تجرد مع من توثق بشجاعته من المقدمين لتخليص ثغر عسقلان
وغيره
فكان الجواب عن هذه الرسالة: ليس بيننا وبينك إلا السيف وسيوافينا من
الافرنج ما يعيننا على دفعك إن قصدتنا ونزلت علينا. فلما عاد الرسول
بهذا الجواب ووقف عليه أكثر التعجب منه والانكار له وعزم على الزحف إلى
البلد ومحاربته في غد ذلك اليوم وهو يوم الأربعاء الخامس والعشرون من
نيسان فأرسل الله تعالى من الأمطار وتداركها ودوامها ما منعه من ذلك
وصرفه عنه
ودخلت سنة خمس وأربعين وخمسمائة
أولها يوم الاثنين مستهل المحرم. وفيه تقرر الصلح بين نور الدين وأرباب
دمشق والسبب في ذلك أن نور الدين أشفق من سفك دماء المسلمين أن أقام
على حربها والمضايقة لها مع ما اتصل به من أخبار دعته إلى ذلك واتفق
أنهم بذلوا له الطاعة وإقامة الخطبة له على منبر دمشق بعد الخليفة
والسلطان والسكة ووقعت الأيمان على ذلك وخلع نور الدين على مجير الدين
خلعةً كاملة بالطوق وأعاده مكرماً محترماً وخطب له على منبر دمشق يوم
الجمعة رابع عشر المحرم ثم استدعى الرئيس إلى المخيم وخلع عليه خلعة
مكملة أيضاً وأعاده إلى البلد وخرج إليه جماعة من الأجناد والخواص إلى
المخيم واختلطوا به فوصل من استماحه من الطلاب والفقراء والضعفاء بحيث
ما خاب قاصده ولا أكدى من سأله ورحل عن مخيمه ليلة الأحد عائداً إلى
حلب بعد أحكام ما قرر وتكميل ما دبر
(1/480)
وورد الخبر في الخامس من المحرم من ناحية
حلب بأن عسكرها من التركمان ظفر بابن جوسلين صاحب اعزاز وأصحابه وحصوله
في قبضة الأسر في قلعة حلب فسر بهذا الفتح كافة الناس. وورد الخبر بأن
الملك مسعود وصل في عسكره طالباً أنطاكية ونزل على تل باشر وضايقها في
أيام من المحرم وفي أيام من المحرم وصل إلى دمشق جماعة من حجاج العراق
وخراسان المأخوذون في طريق الحج عند عودهم لجماعة من كفار العربان
وزطهم وأوباشهم تجمعوا في عدد دثر وحكوا مصيبةً ما نزل مثلها بأحد في
السنين الخالية ولا يكون أشنع منها وذكر أنه كان في هذا الحج من وجوه
خراسان وتنائها وفقهائها وعلمائها وقضاتها وخواتين أمراء العسكر
السلطانية والحرم العدد الكثير والأموال الجمة والأمتعة الوافرة فأخذ
جميع ذلك وقتل الأكثر وسلم الأقل الأنزر وهتكت النساء وسلبوا وهلك من
هلك بالجوع والعطش فضاقت الصدور لهذه النازلة الفادحة والرزيئة الحادثة
فكسا العاري منهم وأطلق لهم ما استعانوا بقدره على عودهم إلى أوطانهم
من أصحاب المروءة والمقدمين بدمشق وذلك بتقدير الحكيم القدير وقد كان
نور الدين عقيب رحيله عن دمشق وحصول ابن جوسلين في قلعة حلب أسيراً
توجه في عسكره إلى اعزاز بلد ابن جوسلين ونزل عليها وضايقها وواظب
قتالها إلى أن سهل الله تعالى ملكتها بالأمان وهي على غاية من الحصانة
والمنعة والرفعة فلما تسلمها رتب فيها من ثقاته من وثق به
(1/481)
ورحل عنها ظافراً مسروراً عائداً إلى حلب
في أيام من شهر ربيع الأول من السنة وورد الخبر بعد المضايقة والمحاربة
عن تل باشر في يوم الجمعة مستهل ربيع الآخر برحيل الملك مسعود ووصل
أكثر حماتها لأسباب أوجبت ذاك ودعت إليه وكان مجاهد الدين بزان قد توجه
إلى حصنه صرخد لتفقد أمواله وترتيب أحواله وأحوال ولده النائب عنه في
حفظه وتقرير أموره وعرضت بعده نفرة بين مجير الدين والرئيس بسعايات
أصحاب الأغراض والفساد واقتضت الحال استدعاء مجاهد الدين لإصلاح الحال
فوصل وتم ذلك بوساطته على شرط إبعاد الحاجب يوسف حاجب مجير الدين عن
البلد مع أصحابه وتوجهوا ولم يعرض لشيء من أموالهم وقصد بعلبك فأكرمه
عطاء واليها وقد كانت الأخبار متناصرةً من ناحية مصر بالخلف المستمر
بين وزيرها ابن مصال وبين الأمير المظفر بن سلار وجميع العسكرية ووقوع
الحرب منهم وسفك الدماء إلى أن أسفرت عن قتل ابن مصال الوزير وظفر ابن
سلار به وغلبته على الأمر وانتصابه في الوزارة وسعى في صلاح وترتيب
الأجناد وإطلاق واجباتهم وهدت النائرة وسكنت الفتنة الثائرة وورد الخبر
بوصول منكوبرس في جماعة من الأتراك والتركمان إلى ناحية حوران واجتماعه
مع الأمير سرخاك والي بصرى على العيث والفساد في ضياع حوران وقيل إن
ذاك بإذن نور الدين وقصدوا عمل
(1/482)
صرخد بالافساد والاخراب والمضايقة لها
ورحلوا بعد ذلك إلى غيرها للإفساد ومنع الفلاحين من الزرع
وفي يوم الاثنين السابع عشر من رجب من السنة توفي القاضي بهاء الدين
عبد الملك بن الفقيه عبد الوهاب الحنبلي رحمه الله وكان إماماً فاضلاً
مناظراً مستقلاً مفتياً على مذهب الامامين أحمد وأبي حنيفة رحمهما الله
بحكم ما كان يجري عليه عند إقامته بخراسان لطلب العلم والتقدم وكان
فصيح اللسان بالعربية والفارسية حسن الحديث في الجد والهزل وكان له يوم
دفنه في جوار أبيه وجده في مقابر الشهداء رحمهما الله مشهود بكثرة
العالم والباكين حول سريره والمؤبنين له والمتأسفين عليه وتوفي أيضاً
عقيب وفاته الشريف القاضي النقيب أبو الحسين فخر الدولة ابن القاضي بن
أبي الجن رحمه الله في يوم الخميس العشرين من رجب من السنة ودفن في
مقابر فخر الدولة جده رحمه الله وتفجع الناس له لخيريته وشرف نيته وفي
رجب من السنة وردت الأخبار من ناحية نور الدين بظفره بعسكر الافرنج
النازلين بإزائه قريباً من تل باشر وعظم النكاية فيهم والفتك بهم
وامتلأت الأيدي من غنائمهم وسبيهم واستيلائه على حصن خالد الذي كان
مضايقه ومنازله
(1/483)
وفي العشر الأخير من رجب ورد الخبر من
حوران بابن الأمير منكوبرس التقى في المعروف بالبونة كذا الحاجي ورجاله
من عسكر دمشق فهزمه وجرحه جرحاً تمكن منه وحمل إلى البلد فمات في
الطريق ووصل وقبر في مقابر الفراديس في يوم الاثنين السادس من شعبان من
السنة وفي يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر رمضان أرسلت السماء عزاليها
بثلج لم ير في السنين الخالية مثله. وتمادت به الأيام بحيث عم كثيراً
من أقطار أرض حوران والبقاع والبرية وقيل إن أقصاه من بلاد الشمال إلى
قلعة جعبر وجرت أودية حوران ودارت أرحيتها وامتلأت بركها وفاضت آبارها
واستبشر الناس بهذه النعمة العامة وشكروا موليها والمنعم بها وزادت
أنهار بردى والعيون عقيب ذلك زيادةً وافرة وسرت النفوس وتتابع بعد ذلك
غيث كانون الثاني روى الزراعات ومنابت العشب وفي يوم السبت الثالث من
ذي الحجة من السنة توفي القاضي المكين أبو البركات محفوظ ابن القاضي
أبي محمد الحسن بن مصري رحمه الله بعلة طالت به وهو في أواخر الثمانين
وكان مشهوراً بالخير والعفاف وسلامة الطبع وورد الخبر من ناحية مصر
بالخلف المستمر بين وزيرها العادل بن سلار وأجنادها بحيث الدماء بينهم
مسفوحة وأبواب الشر والعناد مفتوحة
ودخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة
وأولها يوم الجمعة مستهل المحرم. وفي يوم الأربعاء العاشر من المحرم من
هذه السنة المباركة نزل أوائل عسكر نور الدين على أرض عذراء من عمل
(1/484)
دمشق وما والاها وفي يوم الخميس تاليه قصد
فريق وافر منهم ناحية السهم والنيرب وكمنوا عند الجبل لعسكر دمشق فلما
خرج منها إليها أسرع النذير إليهم فحذرهم وقد ظهر الكمين فانهزموا إلى
البلد وخرج من أعقابهم وسلموا من الايقاع بهم وفي يوم الجمعة تاليه وصل
نور الدين في عسكره ونزل على عيون فاسريا ما بين عذراء ودومة وامتدوا
إلى تلك الجهات وفي يوم السبت التالي له رحلوا من ذلك المكان ونزلوا في
أراضي حجيرا وراوية وتلك الجهات في الخلق الكثير والجم الغفير وانبثت
أيدي المفسدين في عسكر الدمشقي والأوباش من أهل العيث والافساد في زروع
الناس فحصدوها واستأصلوها وفي الثمار فافنوها بلا مانع ولا دافع وضر
ذلك بأصحابها الضر الزائد وتحرك السعر وانقطعت السابلة وضاقت الصدور
ووقع التأهب والاستعداد لحفظ البلد والسور ووافت رسل نور الدين إلى
ولاة أمر البلد تقول: أنا ما أوثر إلا صلاح المسلمين وجهاد المشركين
وخلاص من في أيديهم من الأسارى فإن ظهرتم معي في عسكر دمشق وتعاضدنا
على الجهاد وجرى الأمر على الوفاق والسداد فذلك غاية الإيثار والمراد.
فلم يعد الجواب إليه بما يرضاه ويوافق مبتغاه
وفي يوم السبت الثالث والعشرين منه رحل نور الدين في عساكره عن ذلك
المنزل بحيث نزل في أرض مسجد القدم وما والاه من الشرق والغرب ومبلغ
منتهى الخيم إلى المسجد الجديد قبلي البلد وهذا منزل ما نزله أحد من
مقدمي العساكر فيما سلف من السنين وجرى بين أوائل العسكر وبين من ظهر
إليه من البلد مناوشات ثم عاد كل إلى مكانه ولم تزل الحال مستمرة
(1/485)
من العسكر النوري على اهمال الزحف إلى
البلد ومحاربة من فيه إشفاقاً من قتل النفوس وإثخان الجراح في مقاتلة
الجهتين بحيث انطلقت أيدي المفسدين من الفريقين في الفساد وحصد زراعات
المرج والغوطة وضواحي البلد وخراب مساكن القرى ونقل أنقاضها إلى البلد
والعسكر وزاد الاضرار بأربابها من التناء والفلاحين وتزايد طمع الرعاع
والأوباش في التناهي في الفساد بلا رادع لهم ولا مانع منهم وعدم التبن
لعلف الكراع في جميع الجهات وارتفع السعر وعظم الخطب وصعب الأمر
والأخبار تتناصر باحتشاد الافرنج واجتماعهم للانجاد لأهل دمشق والاسعاد
وقد ضاقت صدور أهل الدين والصلاح وزاد إنكارهم لمثل هذه الأحوال
المنكرة والأسباب المستبشعة ولم تزل الحال على هذه القضية المكروهة
والمناوشات في كل يوم متصلة من غير مزاحفة ولا محاربة إلى يوم الخميس
الثالث عشر من صفر من السنة ثم رحل العسكر النوري من هذه المنازل ونزل
في أراضي فذايا وحلقبلتين والخامسين المصاقبة للبلد وما عرف في قديم
الزمان من أقدم من الجيوش على الدنو منها ونشبت المطاردة في اليوم
المذكور وكثر الجراح في خيالة البلد ورجالته وملك مواشي الفلاحين
والضعفاء ودواب المتعلقة من البلد وما يخص فلاحي الغوطة والمرج
والضواحي. ثم رحل في يوم الخميس العشر من صفر عائداً إلى ناحية داريا
لتواصل الأرجاف بقرب عسكر الافرنج من البلد للانجاد ليكون قريباً من
معابرهم لقوة العزائم على لقائهم والاستعداد لحربهم لأن العسكر النوري
قد صار في عدد لا يحصى كثرةً وقوةً وفي كل زيادة بما يتواصل من الجهات
وطوائف التركمان ونور الدين مع هذه
(1/486)
الحال لا يأذن لأحد من عسكره في التسرع إلى
قتال أحد من المسلمين من رجال البلد وعوامه تحرجاً من إراقة الدم فيما
لا يجدي نفعاً إذ كانوا يحملهم الجهل والغرور على التسرع والظهور ولا
يعودون إلا خاسرين مفلولين. وأقام على هذه الصورة ثم رحل إلى ناحية
الأعوج لقرب عسكر الافرنج وعزمهم إلى قصده. واقتضى رأيه الرحيل إلى
ناحية الزبداني استجراراً لهم وفرق من عسكره فريقاً يناهز أربعة ألف
فارس مع جماعة من المقدمين ليكونوا في أعمال حوران مع العرب لقصد
الافرنج ولقائهم وترقباً لوصولهم وخروج العسكر الدمشقي إليهم واجتماعهم
ثم تقاطع عليهم واتفق إن عسكر الافرنج وصل عقيب رحيله إلى الأعوج ونزل
به في اليوم الثالث من شهر ربيع الأول سنة 46 ووصل منهم خلق كثير إلى
البلد لقضاء حوائجهم وخرج مجير الدين ومؤيده في خواصهما وجماعة وافرة
من الرعية واجتمعا بملكهم وخواصه وما صادفوا عندهم شيئاً مما هجس في
النفوس من كثرة ولا قوة وتقرر بينهم النزول بالعسكرين على حصن بصرى
لتملكه واستغلال أعماله ثم رحل عسكر الأفرنج إلى رأس الماء ولم يتهيأ
خروج العسكر الدمشقي إليهم لعجزهم واختلافهم وقصد من كان بحوران من
العسكر النوري ومن انضاف إليهم من العرب في خلق كثير ناحية الافرنج
للإيقاع بهم والنكاية فيهم والتجأ عسكر الافرنج إلى لجاة حوران
للاعتصام بها وانتهى الخبر إلى نور الدين فرحل ونزل على عين الجر من
البقاع عائداً
(1/487)
إلى دمشق وطالباً قصد الافرنج والعسكر
الدمشقي. وكان الافرنج حين اجتمعوا مع العسكر الدمشقي قد قصدوا بصرى
لمنازلتها ومضايقتها ومحاربتها فلم يتهيأ ذلك لهم وظهر إليهم سرخاك
واليها في رجاله وعادوا عنه خاسرين وانكفأ عسكر الافرنج إلى أعماله في
العشر الأوسط من شهر ربيع الأول من السنة وراسلوا مجير الدين ومؤيده
يلتمسون باقي المقاطعة المبذولة لهم على ترحيل نور الدين عن دمشق
وقالوا: لولا نحن ندفعه ما رحل عنكم
وفي هذه الأيام ورد الخبر بوصول الاصطول المصري إلى ثغور الساحل في
غاية من القوة وكثرة العدة والعدة وذكر أن عدة مراكبه سبعون مركباً
حربية مشحنةً بالرجال ولم يخرج مثله في السنين الخالية وقد أنفق عليه
ما حكي وقرب ثلاثمائة ألف دينار وقرب من يافا من ثغور الافرنج فقتلوا
وأسروا وأحرقوا ما ظفروا به واستولوا على عدة وافرة من مراكب الروم
والافرنج ثم قصدوا ثغر عكا وفعلوا فيه مثل ذلك وحصل في أيديهم عدة
وافرة من المراكب الحربية الافرنجية وقتلوا من حجاج وغيرهم خلقاً
عظيماً وأنفذوا ما أمكن إلى ناحية مصر وقصدوا ثغر صيدا وبيروت وطرابلس
وفعلوا فيها مثل ذلك. ووعد نور الدين بمسيره إلى ناحية الاسطول المذكور
لاعانته على تدويخ الافرنجية واتفق اشتغاله بأمر دمشق وعوده إليها
لمضايقتها وحدث نفسه بملكتها لعلمه بضعفها وميل الأجناد والرعية إليه
وإشارتهم لولايته وعدله وذكر أن نور الدين أمر بعرض عسكره وحصره فذكر
أنه بلغ كمال ثلاثين ألف مقاتلة. ثم رحل ونزل بالدهلمية من عمل البقاع
ثم رحل منها طالباً نحو دمشق ونزل في أرض كوكبا من غربي داريا في يوم
السبت الحادي والعشرين من ربيع الأول وغارت الخيل على طريق حوران إلى
دمشق فاشتملت على الشيء الكثير من الجمال والغلة والمواشي
(1/488)
وغاروا على ناحية الغوطة والمرج واستاقوا
ما صادفوا من المواشي ثم رحل عن هذا المنزل في يوم الاثنين ونزل من أرض
داريا إلى جسر الخشب ونودي في البلد بخروج الأجناد والأحداث إليه فلم
يظهر منهم إلا اليسير ممن كان يخرج أولاً وفي يوم الأربعاء الرابع
والعشرين من الشهر رحل من هذا المنزل ونزل في أرض القطيعة وما والاها
ودنا منها بحيث قرب من البلد ووقعت المناوشة بين الفريقين من غير زحف
ولا شد في محاربة وورد الخبر إلى نور الدين بتسليم الأمير نايبه الأمير
حسن حسان المنبجي مدينة تل باشر بالأمان في يوم الخميس الخامس والعشرين
من شهر ربيع الأول سنة 46 وضربت في عسكره الطبول والكوسات والبوقات
بالبشارة وورد مع المسير جماعة من أعيان تل باشر لتقرير الأحوال واستمر
رأي نور الدين على الزحف إلى البلد ومحاربة أهله وعسكريته تحرجاً من
قتل المسلمين وقال: لا حاجة إلى قتل المسلمين بأيدي بعضهم بعضاً وأنا
أرفههم ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة المشركين. وحدثت مع هذه النية تردد
المراسلات في عقد الصلح في أيام من شهر ربيع الآخر على شروط أشير إليها
واقتراحات عين عليها وتردد فيها الفقيه برهان الدين علي البلخي والأمير
أسد الدين شيركوه وأخوه نجم الدين أيوب
(1/489)
وتقارب الأمر في ذلك وترددت المراسلات إلى
أن استقرت الحال على قبول الشروط المقترحة ووقعت الأيمان من الجهتين
على ذلك والرضا به في يوم الخميس العاشر من شهر ربيع الآخر من السنة
ورحل نور الدين في عسكره في يوم الجمعة عد اليوم المذكور طالباً ناحية
بصرى للنزول عليها والمضايقة لها والتمس من دمشق ما تدعو إليه الحاجة
من آلات الحرب والمناجيق لأن سرخاك الوالي المذكور كان بها كان شاع
عصيانه وخلافه ومال إلى الافرنج واعتضدهم فأنكر نور الدين ذلك عليه
وأنهض فريقاً وافراً من عسكره إليه وورد الخبر من ناحية قلعة جعبر في
يوم السبت الثالث عشر من شهر ربيع الآخر بأن صاحبها الأمير عز الدين
علي بن مالك بن سالم بن مالك خرج في أصحابه إلى عسكر الرقة وقد غار على
أطراف أعماله لتخليص ما استاقوا منه فالتقى الفريقان وسبق إليه سهم من
كمين ظهر عليهم وعاد به أصحابه إلى قلعة جعبر وجلس ولده مالك بن علي في
منصبه واجتمع عليه جماعة أسرته واستقام له الأمر من بعده ووردت الأخبار
في سنة 46 من ناحية مصر بأن أهل دمياط حدث فيهم فناء عظيم ما عهد مثله
في قديم ولا حديث بحيث أحصي المفقود منهم في سنة 545 سبعة ألف شخص وفي
سنة 46 مثلهم سبعة ألف بحيث يكون الجميع أربعة عشر ألفاً وخلت دور
كثيرة من أهلها وبقيت مغلقةً ولا ساكن فيهم ولا طالب لهم وفي يوم السبت
الثاني من جمادى الآخرة سنة 46 توفي القاضي السديد الخطيب أبو
الحسين..... بن أبي الحديد خطيب دمشق رحمه
(1/490)
الله وكان خطيباً سديداً مبلغاً متصوناً
عفيفاً ولم يكن له من يقوم مقامه في منصبه سوى أبي الحسن الفضل ولد
ولده حدث السن فنصب مكانه وخطب وصلى بالناس واستمر الأمر له ومضى فيه
ووردت الحكايات بحدوث زلزلة وافت في الليلة الثالثة عشر من جمادى
الآخرة سنة 46 اهتزت الأرض لها ثلاث رجفات في أعمال بصرى وحوران وسكنت
وما والاها من سائر الجهات وهدمت عدةً وافرةً من حيطان المنازل ببصرى
وغيرها ثم سكنت بقدرة من حركها وسكنها سبحانه وتعالى أنه على كل شيء
قدير وفي يوم الخميس الثاني عشر من رجب سنة 46 توجه مجير الدين صاحب
دمشق إلى حلب في خواصه ووصل إليها ودخل على نور الدين صاحبها وأكرمه
وبالغ في الفعل الجميل في حقه وقرر معه تقريرات اقترحها عليه بعد أن
بذل له الطاعة وحسن النيابة عنه في دمشق وانكفأ عنه مسروراً بما قصده
في حقه من الاكرام وحسن الاحترام ووصل إلى دمشق في يوم الثلاثاء السادس
من شعبان من السنة وفي آخر شعبان ورد الخبر من ناحية بانياس بأن فريقاً
وافراً من التركمان غاروا على ظاهرها وخرج إليهم واليها من الافرنج في
أصحابه وواقفهم فظهر التركمان عليهم وقتلوا منهم وأسروا ولم يفلت منهم
غير الوالي ونفر يسير واتصل الخبر بمن في دمشق فأنكر مثل هذا الفعل
بحكم انعقاد الهدنة والموادعة وانهض إليهم من العسكر الدمشقي من صادف
بعض التركمان متخلفاً عن رفقتهم فحصلوا منهم ما كان في أيديهم وعادوا
ثلاثة نفر منهم
(1/491)
وفي أيام من أوائل رمضان من السنة ورد
الخبر بأن أكثر عسكر الافرنج قصدوا ناحية البقاع على غرة من أهلها
وغاروا على عدة وافرة من الضياع فاستباحوا ما بها من رجال ونسوان وشيوخ
وأطفال واستاقوا عواملهم ومواشيهم ودوابهم واتصل الخبر بوالي بعلبك
فأنهض إليهم رجاله واجتمع إليهم خلق كثير من رجال البقاع وأسرعوا نحوهم
القصد ولحقوهم وقد أرسل الله تعالى عليهم من الثلوج المتداركة ما ثبطهم
وحيرهم فقتلوا من رجالتهم الأكثر واستخلصوا من الأسرى والمواشي ما سلم
من الهلاك بالثلج وهو الأقل على أقبح صفة من الخذلان وسوء الحال بحمد
الله ونصره المسلمين وفي يوم السبت الثاني والعشرين من شوال من السنة
وهو اليوم الثالث من شباط وافت قبيل الظهر زلزلة اهتزت لها الأرض ثلاث
هزات هائلة وتحركت الدور والجدران ثم سكنت بقدرة الله تعالى ذكره
ودخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة
أولها يوم الثلاثاء مستهل المحرم. وفي المحرم منها ورد الخبر من ناحية
نور الدين بنزوله على حصن انطرطوس في عسكره وافتتاحه له وقتل من كان
فيه من الافرنج وطلب الباقون الأمان على النفوس فأجيبوا إلى ذلك ورتب
فيه الحفظة وعادوا عنه وملك عدة من الحصون بالسيف والسبي والاخراب
والحرق والأمان
(1/492)
ووردت الأخبار من ناحية عسقلان في يوم
الخميس العاشر من المحرم بظفر رجال عسقلان بالافرنج المجاورين لهم بغزة
بحيث هلك منهم العدد الكثير وانهزم الباقون. وفي ليلة الثلاثاء الثاني
والعشرين من المحرم من أواخر نيسان أرسل الله تعالى غيثاً هطالاً
مجللاً بالرعود والبروق المتتابعة ما زادت معه مياه بردى زيادةً وافرةً
وتصندل لون مائها بمسايل الأدوية والجبال وانتفعت به زراعات السقي
والبعول نفعاً ظاهراً وفي النصف من شهر أيار من صفر سنة 47 كان من
زمجرة الرعود وتتابع البروق والأمطار في عدة جهات ما زادت به الأنهار
وسالت معه شعاب الجبال والأودية. وفي وقت العصر من يوم الأحد الثاني
والعشرين من أيار والعشرين من صفر من السنة نشأت غمامة برعود مجلجلة
هائلة متتابعة لا تقتر مزعجة ثم انهلت بوابل هطال جود بالمطر إلى آخر
النهار ثم أقبلت بردى بالليل بالسيل الزائد المتغير اللون بماء الجبال
المختلف بحيث أفعمت الأنهار والسواقي والمجاري واحمرت أماكنها وصادفت
طرحات الزرع والكداسة فغيرت الشعير وصفرته وسكنت بقدرة الله ونفع من
نشأتها ثم حضر من شاهد هذا العارض وحكى أنه كان من البرد الكبار ما
حدثه بحيث أفسد من المواشي الكثير وهدم بعض دور الغوطة وصار الماء في
الحقول راكداً وسانحاً بالأنهار المغدقة وحكى الحاكي أن هذا لم ير مثله
في الأزمان
وفي أواخر صفر سنة 47 توجه مجير الدين في العسكر ومعه مؤيد الدين
الوزير إلى ناحية حصن بصرى ونزل عليه محاصراً لسرخاك واليه مضايقاً
لأهليه لمخالفته لأوامره ونواهيه وجوره على أهل الضياع الحورانية
واعتدائه عليهم والزامهم ما لا طاقة لهم به واستدعى المنجنيقات وآلة
الحرب لمنازلتها. واتفق لمجير الدين المصير إلى صرخد لمشاهدته واستأذن
مجاهد الدين واليه في ذلك فقال له: هذا المكان بحكمك وأنا فيه من قبلك.
(1/493)
وأنفذ إلى ولده سيف الدين محمد النائب فيه
باعتداد ما يحتاج إليه وتلقى مجير الدين بما يجب له فخرج إليه في بعض
أصحابه ومعه المفاتيح فوفاه ما يجب له من الاعظام وأجلى الحصن من
الرجال ودخل إليه في خواصه. فسر بذلك وتعجب من فعل مجاهد الدين وشكره
على ذلك وقدم إليه ما أعده من القرد والتحف وعاد عنه شاكراً إلى مخيمه
على بصرى وحاربها عدة أيام إلى أن استقر الصلح والدخول فيما أراد وعاد
إلى البلد. وفي أوائل شعبان من السنة وردت الأخبار بوفاة السلطان غياث
الدنيا والدين مسعود ابن السلطان محمد وفي العشر الأول من شوال من
السنة الموافق للعشر الأول من تشرين الثاني تغير الماء والهواء في دمشق
وعرض لأهلها الحمى والسعال بحيث عم الخاص والعام والشيوخ والشباب
والأطفال بحيث وقع الزحام على حوانيت العطارين لتحصيل المغلي. وحكى
الحاكي أن بعض العطارين أحصى ما باعه في يوم فكان ثلاثمائة وثمانين
صفةً والسالم منه والمعفى الأكثر وما يقيم هذا المرض بالانسان أكثر من
الاسبوع ودونه ويمضي من قضى أجله وضعف أمر المغسلين والحفارين واحتيج
إليهم لكثرة الموتى وفي يوم السبت الرابع وعشرين من شوال من السنة توفي
الأمير سعد الدولة أبو عبد الله محمد بن المحسن بن الملحي رحمه الله
ودفن في مقابر الكهف وكان فيه اذب وافر وكتابة حسنة ونظم جيد وتقدم
والده في حلب في التدبير والسياسة وعرض الأجناد
(1/494)
|