تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء

أسماء القوم الذين قبض المحسن بن أبي الحسن بن الفرات عليهم ونكبهم وقتلهم وأبعدهم وما جرى عليه أمر كل واحد منهم
قد ذكرنا من أخبار حامد بن العباس وعلي بن عيسى ما لا فائدة في تكريره، فأما سليمان بن الحسن فقبض المحسن عليه من ديوان المشرق، وكان يتولاه مع غيره من الدواوين، فصادره على ما صح منه خمسون ألف دينار ثم أخرجه إلى فارس.
وأما أبو علي بن مقلة فكان يتقلد لعلي بن عيسى في وزارة حامد زمام السواد، فلما تقلد أبو الحسن بن الفرات تجلد ولم يستتر، وحضر مجلسه، فأعرض عنه إعراضاً

(1/44)


غض به من محله، ولم يقبض عليه مراعاة للمودة بينه وبين أبي القاسم بن الحواري. فلما قبض على ابن الحواري أنفذ المحسن أبا غانم كاتبه حتى قبض علي ابن مقلة وقيده، وقد شرحنا حديثه في أخباره. وأما أبو القاسم علي بن محمد الحواري فإنه تأخر عن تهنئة ابن الفرات في صدر نهار يوم الجمعة، وراح إليه في آخره، وأطال عنده، وآنسه ابن الفرات وشاوره في أموره، وخلا به خلوة طويلة اعتمد فيها سكون نفسه، وراسله ابن الفرات فتحقق بخدمته وأظهر السرور بولايته مع ما اعتقده باطناً من مخافته، وقد كان أصحاب ابن الحواري أشاروا عليه بالاستتار عن ابن الفرات وقالوا له: إن الخليفة لم يكتمك أمره وما عزم عليه من تقليده مع ما يعرفه من العداوة بينكما إلا لسوء رأي فيك. فلم يقبل ذلك وقال: لو كان الأمر على ما قلتم لقبض علي قبل إخراجه إياه وإظهار أمره، وما أرى أن أنكب نفسي بسوء الاستشعار مني. لكنه ستر حرمه وولده واستظهر بعض استظهار في رحله وماله. وركب ابن الحواري إلى دار السلطان وحضر ابن الفرات وأذن له ولم يؤذن لابن الحواري. فاستوحش من ذلك، ثم صرف الأمر إلى أن ابن الفرات قد شرط على المقتدر بالله أن يجريه على رسمه في وزارته الثانية، فإن ابن الحواري لم يكن يصل معه ظاهراً وإنما كان يصل سراً. فلما خرج ابن الفرات من حضرة المقتدر بالله وجلس في الدار التي أفردت له للنظر في أمر القواد والحواشي دخل معه

(1/45)


ابن الحواري فأقبل عليه وشاوره في ما كان يخاطب عليه، وقال له: قد غبت عن مجاري الأمور منذ خمس سنين وأنت عارف بما كان علي بن عيسى قرر عليه أمر الحاشية، وأريد أن تنبهني وترشدني وتعاونني وتعاضدني، وتستعمل في ذلك ما تقتضيه المودة. فقال له: السمع والطاعة. ووعده بالإخلاص في المناصحة، وفاوضه ابن الفرات حديثاً طويلاً ونهض قبل أن يستتمه، ونزل إلى طياره ونزل ابن الحواري معه وأحمد بن نصر البازيار ابن أخيه، ومحمد بن عيسى صهره، وعلي بن مأمون الإسكافي كاتبه، وعلي بن خلف أخو محمد بن خلف صهره، فأكرم جماعتهم وأخذ يحادثهم ويضاحكهم إلى أن صعد من طياره إلى داره، ووصل إلى بعض الأروقة ثم أسر إلى العباس الفرغاني حاجبه سراً أمره فيه بالقبض عليهم ففعل، واعتقلهم في بعض الحجر، واستدعى شفيعاً اللؤلؤي، وأنفذه إلى دار ابن الحواري وأمره بحفظها وحراستها، وأنفذ إلى إصطبلاته بمن قاد دوابه وبغاله وساق جماله إلى إصطبلات السلطان، ونقل فاخر ثيابه وفرشه وآلاته إلى الخزائن، ووصي ابن الفرات قهرمان داره بإحسان مراعاة ابن الحواري في مأكوله ومشروبه. ثم راسله مع عبد الله بن جبير وغيره في تقرير أمره، وواقفه على أعمال عملت له قبل القبض عليه، فسأل أن يوسط بينه وبين أبا بكر بن قرابة، وكان ابن قرابة متحققاً بابن الفرات في هذا الوقت وبابن الحواري من قبل، فوسطه ذلك، وتقرر مصادرة ابن الحواري خاصةً من دون كتابه وأسبابه على سبعمائة ألف دينار، يعجل منها مائتين وخمسين ألف دينار ويحتسب له عن ثمن المأخوذ منه بخمسين

(1/46)


ألف دينار ويؤدي الباقي في أربعة وعشرين شهراً بعد أن حلف أن قيمة المأخوذ منه ثلاثمائة ألف دينار. واشترط إطلاق أحمد بن نصر البازيار ليقوم بمال التعجيل، فأُطلق وأزيل التوكيل عن دوره وسلم الباقي فيها إلى أحمد بن نصر. وتسلم المحسن بن أبي الحسن بن الفرات من بعد ذلك ابن الحواري فصفعه صفعاً عظيماً في دفعات وضربه بالمقارع. ثم أخرجه إلى الأهواز في طيار خدمه غير مقيد، وأنفذ معه الحبشي المستخرج. وحدر أيضاً في هذه الجملة سليمان بن الحسن وأبا علي بن مقلة، فلما وصلوا إلى البصرة وتوجهوا منها إلى الأهواز طرح الحبشي ابن الحواري في الماء منكساً وشد رجليه في شكات الطيار وهو سائر وبلغ موضعاً يعرف بالمنارة أسفل الأُبلة بفرسخ فأخرجه، وقد بقي فيه أدنى رمق فخنقه غلمان سودان كانوا معه ودفنوه، وحمل سليمان وابن مقلة إلى الأهواز. وأما ابن حماد الموصلي فإن ابن الفرات كتب إلى محمد بن نصر بالقبض عليه وحمله إلى الحضرة، فعرف ابن حماد ذلك وهرب، فوجد في عمر يقارب بلد فأُخذ وحمل إلى محمد بن نصر فضربه ضرباً أثخنه، لعداوة كانت بينه
وبينه، ثم أنفذه، فتسلمه المحسن وأمر ابن أبي عمر كاتبه وابن حبشي المستخرج بصفعه، فأوقعا به فلم يرض بذلك حتى أحضره بين يديه وصفعه على رأسه إلى أن خرج الدم من فيه ومات في ليلته. وخاف المحسن إنكار المقتدر بالله ما جرى في أمره فأظهر أن محمد ابن نصر أنفذه مثخناً بالضرب فتلف مما ناله منه. بينه، ثم أنفذه، فتسلمه المحسن وأمر ابن أبي عمر كاتبه وابن حبشي المستخرج بصفعه، فأوقعا به فلم يرض بذلك حتى أحضره بين يديه وصفعه على رأسه إلى أن خرج الدم من فيه ومات في ليلته. وخاف المحسن إنكار المقتدر بالله ما جرى في أمره فأظهر أن محمد ابن نصر أنفذه مثخناً بالضرب فتلف مما ناله منه.

(1/47)


وأما علي بن الحسن الباذبيني، وكان رجلاً متسلما، وتقلد ديوان الضياع المقبوضة في أيام علي بن عيسى، فقبض عليه المحسن وصادره على أحد عشر ألف دينار. وأعاد المكروه عليه فبلح في يديه، وأيس من حصول شيء منه. وأخرجه إلى الموصل فلم يزل مقيماً بها إلى أن وزر أبو القاسم عبد الله بن محمد الخاقاني.
وأما أبو المنذر النعمان بن عبد الله فقد كان تاب من خدمة السلطان، ولبس الخف والطيلسان، وحضر مجالس الوزراء بهما كان تحضر مشايخ الكتاب إلا أنه كان متحققاً بحامد بن العباس وعلي بن عيسى ونصر الحاجب. فلما تقلد ابن الفرات الوزارة في هذا الوقت لم يجد عليه متعلقاً ولا متسلقاً، وكان يحضر مجلسه فيكرمه، وخاف النعمان على نفسه منه لما كان يشاهده من المحسن وإقدامه على ما يقدم عليه فلازم نصراً الحاجب وثمل القهرمانة، وكان يروح إليهما في أكثر العشيات ويقيم عندهما إلى أن تمضي قطعة من الليل. فاتفق أن خرج في بعض الليالي من دار ثمل القهرمانة ومعه إبراهيم حاجبه فرآه أحد أصحاب الأخبار الذين لابن الفرات، فكتب إليه بخبره، وبأنه سمعه يقول لبعض العمال المعطلين وقد لقيه في طريقه: ما عندك من الأخبار؟ فقال: كثرة الأراجيف بابن الفرات. فقال له النعمان: على أن يكون الوزير من؟ قال: أنت أو محمد بن علي المادرائي أو عبد الله بن محمد الخاقاني، والأقوى في الظنون أنت. فقال له: ومن لهم بأن أساعدهم على ذلك. فلما قرأ ابن الفرات هذا الفصل سلمه إلى المحسن، وأمره بإحضار النعمان وأن

(1/48)


يعرض عليه ولاية الأعمال بالأهواز وفارس، فإن استجاب حمله معه ليكتب له الكتب ويخرج إلى عمله، وإن امتنع أوقفه على الفصل وقال له: ليس يصلح للوزير ولا لي مقامك بالحضرة، فأخرج إلى حيث تختار من غير إخراج ولا توكيل. فأحضره المحسن وخاطبه بذلك فامتنع من العمل، فأقرأه حينئذ الفصل من رقعة صاحب الخبر، وتقدم إليه بالخروج إلى حيث يريد، فاختار واسط، وانحدر إليها لحينه. فلما دخلها قصده العمال والتناء هناك، ولقوه وأكرموه وعظموه. وكتب إلى ابن الفرات بذلك، فكتب إلى محمد بن علي البزوفري بالقبض عليه، فقبض عليه في يوم جمعة من المسجد الجامع، وطالع ابن الفرات بحاله، فرسم له مطالبته بما بقي عليه من مال مصادرته في وزارته الثانية وهو سبعة عشر ألف دينار. ففعل البزوفري ذلك وأدى النعمان سبعة آلاف دينار. وأما أحمد بن محمد بن بسطام فكان مصاهراً لحامد بن العباس ومتقلداً بهرسير والرومقان وإيغار يقطين في وزارة علي بن عيسى. فلما رأى ما الناس فيه مع المحسن بن الفرات واستتر عند الشاه بن ميكال، وعرف المحسن خبره فكبسه وأخذه وقرر عليه ثلاثمائة ألف دينار، وطالبه مطالبة زاد فيها، حتى أخرجه من نعمته وضيعته، ثم عمل على إخراجه إلى واسط عند قرب مؤنس واستيحاشه منه،

(1/49)


وكتب له بولاية بعض النواحي فخاف وقوع حيلة عليه بذلك، فاستتر استتاراً ثانياً حتى زال أمر ابن الفرات. وأما إبراهيم أخو علي بن عيسى فإنه كان ملازماً لمنزله في أيام حامد وعلي ابن عيسى، فلما تقلد أبو الحسن بن الفرات تأخر عن تهنئته، فوقع إليه توقيعاً جميلاً أمره فيه بالمصير إليه، فجاءه من وقته، وقبض عليه وطالبه بأحد عشر ألف دينار، بقيت عليه من جملة خمسين ألف دينار صادره عليها في وزارته الثانية. فاحتج إبراهيم بأن المقتدر بالله وضعها عنه، وأظهر توقيعاً معمولاً في الدواوين شاهداً على قوله، فلم يقبل ذلك منه، وطالبه حتى أدى المال، فلما أداه أحضره مجلسه، وواقفه على أمور كانت في نفسه عليه منذ أيام العباس بن الحسن، وصادره مصادرة مجددة على عشرين ألف دينار، ثم سلمه إلى المحسن فأوقع به مكروهاً شديداً إلى أن وفى القيمة، ثم نفاه إلى البصرة، وسلمه إلى ابن أبي الأصبغ عاملها، فقيل: إنه سمه فمات. وأما عبيد الله أخوه فإنه كان عليلاً في منزله، فأنفذ المحسن من حمله إليه في محفة وطالبه وأوقع به مكروهاً كرره إلى أن ضمنه أبو الحسين بن روح وجماعة بما قرره عليه. فلما أداه أخرجه إلى الكوفة. وأما أبو علي عبد الرحمن فإنه استتر بعد القبض على أبي الحسن أخيه، فلم يعرف به خبر مع شدة الطلب له، والحرص على حصوله.
وأما أبو الحسن علي بن مأمون الإسكافي كاتب ابن الحواري فصودر على مائة ألف دينار، وأدى بعضها، وتلف تحت المكروه.

(1/50)


وأما أبو الحسين محمد بن أحمد بن أبي البغل فكان بفارس، وكتب المحسن إلى جعفر بن محمد العامل هناك بالقبض عليه وعلى زيد بن إبراهيم عامل كرمان، ومصادرتهما على مال حده له، فإن أذعنا وإلا أشخصهما إلى الحضرة، فافتديا أنفسهما بما التمس منهما إشفاقاً من إنفاذهما إلى المحسن.
وأما أبو زنبور الحسين بن أحمد المادرائي فكان ضامناً لمصر والشام في أيام حامد فتنكر له أبو الحسن علي بن عيسى وصرفه بأبي الحسين محمد بن الحسن بن عبد الوهاب كاتبه وولي أبو الحسن بن الفرات فأقر أبا الحسين على نظره وكاتبه بحمل أبي زنبور إلى الحضرة، وكان بدمشق، فأنفذه إلى مؤنس المظفر وهو بحلب، وأنفذ ابن الفرات اعتقالاً جميلاً. ثم جمع القضاة وأصحاب الدواوين وأخرجه إلى مجلسه، وقد حضر المحسن وأبو العلاء بن سنجلا كاتبه على ديوان المغرب وأحضرا أعمالاً عملاها له، ووقعت المناظرة له على أبوابها، فألزمه ابن الفرات منها ألفي ألف وأربعمائة ألف دينار، ثم استكثرها فحط منها سبعمائة ألف دينار، وأخذ خطه بالباقي وعرضه على المقتدر بالله فأحمد فعله فيه، وزاد ابن الفرات في مراعاة أبي زنبور وإحسان عشرته لأنه كان يسترجله ويستجلده، وسامه أن يواجه علي بن عيسى بأنه أرفقه في أيام تقلده ديوان المغرب وبعد ذلك في وزارته، فاستعفاه. فقال له ابن الفرات: فلم واجهتني بأمره وليس تواجهه بأمري. فقال له: ما أُحمدت عاقبة تلك الحال ولا استحسنها لي أحد، مع الظاهر من إساءة الوزير إلي بتسليمه إياي إلى ابن بسطام

(1/51)


وبسط يده علي في أيام وزارته الثانية فكيف تستحسنون لي الآن معاملة علي بن عيسى بالقبيح على ماله عندي من الجميل القديم فأمسك ابن الفرات عنه.
وقدم محمد بن علي المادرائي من مصر، ولم يكن تقلد في وزارة حامد عملاً، فنوظر على أموال تلزمه وبقايا عليه في وقت شركته للحسين بن أحمد، فاحتج لنفسه احتجاجاً قاله له ابن الفرات في آخره: فلست بأعلم وأعرف من الحسين بن أحمد، وقد أورد أكثر مما أوردت، فلم يدفع ذلك عنه ما وجب عليه. وأخذ خطه طوعاً بألف ألف ومائة ألف دينار. وكتب عليه بها كتاب دين للمقتدر بالله في نجوم ثبتت، وأشهد على نفسه القضاة والشهود فيه. وكان المحسن بن الفرات يكرم محمد بن علي ويتطاول له إذا حضر عنده، وأطلقه إلى داره رعاية لما ذكر أنه حمله إليه من أموال كثيرة وجواهر ثمينة وخدم روقة وسلم محمد بن علي والحسين بن أحمد إلى مؤنس المظفر عند خروجه إلى الرقة ليستوفي منهما ما تقرر عليه أمرهما ويصرفه في نفقات رجاله. وكان مؤنس المظفر عند تقلد أبي الحسن بن الفرات الوزارة في هذه الدفعة غائباً في الغزو. فلما عاد كثر الحديث بإنكاره ما جرى على الكتاب وغيرهم من أبي الحسن بن الفرات والمحسن ابنه، وما كان من وفاة حامد مسموماً وأن أكثر الفرسان التفاريق المقيمين بالحضرة قد عملوا على أن ينضموا إليه لتروج لهم أرزاقهم به. فثقل ذلك على ابن الفرات، وركب بعد أسبوع من قدوم مؤنس إلى المقتدر بالله

(1/52)


وخلا به، وعرفه ما عليه مؤنس من اجتذاب الجند إليه، وأن ذلك إن تم غلب على الأمر وصار أمير الأمراء ومد يده إلى الأموال وأقل مراعاة الخدمة واحتشام الخلافة. وأغراه شديداً وخوفه منه تخويفاً كثيراً. فلما ركب مؤنس إلى المقتدر بالله قال له بمحضر من ابن الفرات: ما شيء أحب إلي من مقامك، عندي لأنني أجمع في ذلك بين الأنس بقرب دارك، والتبرك برأيك والانتفاع بمكانك، ولكن أرزاق الفرسان التفاريق عظيمة، وما يمكن إطلاقها ولا النصف منها على إدرار، ولا يطيعون في الخروج إلى بعض الجهات، وإذا أقمت طالبوا بالانضواء إليك، فإن أُجيبوا لم يف ما يحمل من أموال السواد والأهواز وفارس والمشرق بنفقات الحضرة ومال من يجتمع معك، وإن لم يجابوا شغبوا وافتتن البلد. ثم إنك إن أقمت لم يرج مال ديار مضر وربيعة والشام، ووقف ما قرر على المادرائيين، والصواب أن تخرج إلى الرقة، فإنها واسطة أعمالك وعمال الخراج والمعاون بمصر والشام يهابونك ويراقبونك، ويحملون الأموال مراعاة لك وخوفاً منك، ويستقيم أمر المملكة بذلك. وأمره بالشخوص إلى هناك من وقته في سائر من برسمه. وكان المتكلم عن المقتدر بالله ابن الفرات. فعلم مؤنس أنه أمر قد تقرر برأيه وتدبيره وعلى حكم ما يعتقده من عداوته، فقال: السمع والطاعة لأمير المؤمنين، إلا أنني استأذن في المقام بقية شهر رمضان، فإذا أفطرت وعيدت سرت وتوجهت. فقال له: افعل. فلما عيد ركب إلى ابن الفرات لوداعه ودخل إليه فقام له قياماً تاماً، واستعفاه مؤنس من ذلك فلم يعفه وحلف عليه أن يجلس معه على المصلى فامتنع. وسأله مؤنس في عدة أمور فوقع له بها وأجابه إلى جميعها، ونهض فأراد ابن الفرات

(1/53)


القيام له عند نهوضه فأقسم عليه برأس الخليفة أن لا يفعل، وسار إلى الرقة.
وأما نصر القشوري الحاجب فإن ابن الفرات لما فرغ من إخراج مؤنس وإبعاده عن الحضرة عدل إلى أمره، وكثر على المقتدر بالله الأموال في جنبه، وأعلمه عظم ضياعه وارتفاعه ومرافقه ومنافعه وما يصل إليه من أعمال المعاون المرسومة بولايته، فأجابه إلى القبض عليه، وتسليمه إليه دون شفيع المقتدري وقد كان القول منه فيهما جميعاً. وعرف نصر ما جرى في بابه، فلجأ إلى السيدة، ومضى في بعض أيام نوبته إلى منزله واستتر، وكلمت السيدة المقتدر بالله في أمره وقالت له: قد أبعد ابن الفرات مؤنساً وهو سيفك، ويريد أن ينكب نصراً وهو حاجبك، ليمكن من مجازاتك على ما فعلته من إزالة نعمته وهتك حريمه. فيا ليت شعري من يكون عونك عليه مع ما قد ظهر من شره وشر المحسن ابنه وأخذهما الأموال وقتلهما النفوس؟ فوعدها بالدفع عن نصر، وراسلت السيدة نصراً بالظهور والحضور، فأمن وأنس، وعاد إلى خدمته. واستأنف التذلل لابن الفرات وابنه. وما ترك ابن الفرات الوقيعة فيه، والإغراء به حتى قال للمقتدر بالله: ما ضيع عليك الأموال التي أنفقتها على محاربة ابن أبي الساج غيره، لأنه عاداه وأوحشه من أجل غلام له كان يتولى أعمال أرمينية، فصرفه ابن أبي الساج، فأفسد رأيك يه حتى جرى ما جرى.
فلما كان في بعض أيام حضر صاحب لأبي طاهر محمد بن عبد الصمد

(1/54)


أحد القواد المضمومين إلى ابن أبي الساج عند ابن الفرات، فعرفه أن كتاب أبي طاهر ورد عليه بأن يوسف بن أبي الساج واقع أحمد بن علي فقتله وأخذ رأسه وحمله مع جثته إلى بغداد. وركب المحسن إلى المقتدر بالله واستأذن عليه، فأوصله مفلح الأسود حيث لم يحضر نصر الحاجب، وبشره بالفتح وقرأ عليه الكتاب الوارد به، وعرفه أن نصراً يكره ذاك، فلهذا طواه عنه وكتمه إياه. ولم يبعد بعد هذه الحال أن وجد المقتدر بالله رجلاً أعجمياً واقفاً على سطح مجلس من مجالسه، وعليه ثياب دبيقية. ومن تحتها ثياب صوف ومعه محبرة ومقلمة، وأقلام وسكين وورق وسويق. فأخذ وسئل عن أمره فقال: ما أخاطب إلا صاحب الدار. فقيل: قل ما عندك. قال: ما يجوز. وأخرج إلى أبي الحسن ابن الفرات، فقال: أنا أقوم مقام صاحب الدار، فقل ما عندك. فقال: ليس يجوز إلا خطابه في نفسه. فرفق به فلم يغن الرفق. وحمله الخدم حينئذ وضربوه ضرباً عنيفاً، فعدل عن الكلام بالعربية إلى قوله بالفارسية: ندانم ولزم هذه اللفظة فلم يزل عنها في كل ما يخاطب به، وأخرج بعد أن مات تحت العقوبة إلى رحبة الجسر، وصلب هناك وضرب بالنار. وتحدث الناس بأن ابن الفرات دسه ليوهم المقتدر بالله أن نصراً الحاجب أراد الاحتيال عليه به.

(1/55)


وخاطب ابن الفرات نصراً الحاجب بحضرة المقتدر بالله في أمر هذا الرجل فقال له: ما أظنك ترضى أن يجري عليك في دارك مثل ما جرى على دار أمير المؤمنين، وأنت حاجبه، مما لم يتم على أحد من الخلفاء، ولا شك أن الرجل صاحب أحمد بن علي أخي صعلوك لأنه عجمي، فإما أن يكون أحمد بن علي واطأك على أمره قبل قتله وأنفذه فورد في هذا الوقت، أو تكون دسسته لثقتك بأمير المؤمنين خوفاً على نفسك منه، فمعلوم أن ابن أبي الساج عدوك وأنك صديق أحمد بن علي. فقال له نصر الحاجب: ليت شعري لم أفعل بأمير المؤمنين وهو مصطنع مثل ذلك، لأنه أخذ أموالي وضياعي وحبسني خمس سنين؟ قال المقتدر بالله لنصر: دع هذا، فلو تم على بعض العامة ما تم علي لكان عظيماً. فقال: يا أمير المؤمنين، ابن الفرات يقف أمري، ويسعى علي بقبيح أثري، ويؤخر أرزاق الرجالة المصافية الذين برسمي وكانوا عشرة آلاف رجل فأجابه ابن الفرات جواباً استوفاه، وبين الزيادة فيما ينصرف إليه على ما كان يقبضه نظراؤه. وقال للمقتدر بالله: إن أمر أمير المؤمنين أن أُخرج أرزاقه وأرزاق أولاده وغلمانه وفوائده ومرافقه وما كان يقام لأمثاله من الحجاب في أيام الناصر والمعتضد والمكتفي فعلت. فتقدم إليه بذلك، وواقف ابن الفرات الكتاب عليه، وضعفت نفس نصر الحاجب وكانت السيدة تشد منه، وتواصل خطاب المقتدر بالله في معناه، واندفع أمره إلى أن ورد الخبر في يوم الجمعة لثمان بقين من المحرم

(1/56)


سنة اثنتي عشرة وثلثمائة بأن أبا طاهر بن أبي سعيد الجنابي أخذ الحاج بالهبير وأسر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان وأحمد ابن كشمرد ونحريرا العمري وأحمد بن بدر عم السيدة وشفيعاً خادمها وفلفلاً وجماعة من الحرم والخدم، ومات الكثير من الناس بالعطش والحفا والرجلة فانقلبت بغداد في جانبيها، وخرجت النساء إلى الطرقات مسودات الوجوه منشرات الشعور يصرخن ويلطمن، وانصرف إليهن حرم من نكبه وقتله ابن الفرات. فقبحت الحال قبحاً شديداً. وتقدم ابن الفرات إلى نازوك بالركوب إلى المساجد الجامعة لزم العامة ومنع الفتنة. وضعفت نفس ابن الفرات بهذه الحادثة، وركب في آخر نهار يوم السبت إلى المقتدر بالله، وشرح له الصورة على ما أورده الزنجي سابق الحاج، واستدعى المقتدر بالله نصراً الحاجب، وأدخله في الخطاب والمشاورة، فانبسط لسان نصر على ابن الفرات وقال: الساعة تقول ما الرأي بعد أن زعزعت أركان المملكة، وأطمعت الأعداء بإبعاد مؤنس عن الحضرة، ومن يدفع الآن هذا العدو إن حاول بالسلطان أمراً؟ وأشار على المقتدر بالله بمكاتبة مؤنس واستقدامه، فأمره بذلك. فلما خرجا سأل ابن الفرات نصراً ألا يكتب إلى مؤنس شيئاً إلا بعد نفوذ كتابه، فوعده بالتوقف وعداً لم يف به. وأنفذ الرسل من وقته، وكتب إليه ابن الفرات عن المقتدر بالله بالانكفاء إلى الحضرة. ووثب العامة إلى ابن الفرات، ورجموا طياره بالآجر ورجموا ابنه المحسن وهو في موكبه على الظهر

(1/57)


وذكروهما في الطرق والأسواق بالدعاء عليهما. وبرز ياقوت إلى مضاربه بباب الكناس للتوجه إلى الكوفة، ومنع القرمطي منها إن حدث نفسه بورودها. ثم وردت الكتب والأخبار بانصراف القرمطي إلى بلده بما أخذه من الأموال والأمتعة والأحمال والأساري، فرد ياقوت وكثر الإرجاف بابن الفرات وابنه المحسن. فكتب إليهما المقتدر بالله رقعة تتضمن التسكين منهما، واليمين على حسن اعتقاده فيهما، وما هو عليه من الثقة بموالاتهما والإحماد لخدمتهما، وأمرهما بإظهارها لأهل الحضرة وإنفاذ نسخها إلى عمال المعاون والخراج. وركب أبو الحسن وابنه المحسن إلى المقتدر بالله في يوم الأحد لثمان بقين من صفر، فأصلح بينهما وبين نصر الحاجب، وأمرهم بالتضافر على ما فيه صلاح الدولة، وورد هلال بن بدر برسالة مؤنس إلى المقتدر بالله. فوصل وأداها وسمع جوابها، وعاد به إلى مؤنس من غير أن يحضر ابن الفرات، ووافق دخول مؤنس في أول شهر ربيع الأول، فخرج نصر الحاجب والأستاذون ووجوه القواد والغلمان لاستقباله. ثم دخل يوم الأحد لسبع خلون منه. ثم بدأ بدار المقتدر من وقته، وخدم وانصرف إلى داره، فركب ابن الفرات إليه للسلام عليه، ولم يفعل مثل ذلك أحد من الوزراء قبله، وأُوذن مؤنس به، فخرج إلى باب داره واستعفاه من الصعود فلم يعفه، وصعد وهنأه بمورده، ونهض لينصرف، فخرج مؤنس معه إلى
أن نزل إلى طياره وقبل يده، وسأله العود إلى موضعه ففعل. وركب أبو العباس بن المقتدر بالله إليه أيضاً فخرج حافياً حتى نزل إلى طياره. وصار ابن الفرات وابنه المحسن من غد وهو يوم الاثنين إلى دار المقتدر بالله، ووصلا إليه وخاطباه بما أراداه ووليا للانصراف، فعاد المحسن وحده وقال للمقتدر بالله: قد عرفت يا أمير المؤمنين ضيق المال وكثرة النفقات، وها هنا وجوه ثلاثمائة ألف دينار تصح في مدة قريبة، فإن أذنت في استخراجها استخرجت. فقال: قد أذنت لك. وخرج فلحق أباه. فلما أرادا الخروج من الصحن التسعيني أقعدهما نصر الحاجب في مجلس بالقرب، وراسل الغلمان الحجية المقتدر بالله في القبض عليهما على لسان مفلح الأسود، فدخل وأدى إليه ذلك. ثم قال له: إن في صرف الوزير بقول هذه الطائفة خطأً في التدبير وإطماعاً للغلمان. فأمره بأن يخرج ويقول لنصر حتى يصرفه، ويقول للغلمان: إننا نفعل فيما راسلتمونا به ما يجري الأمر فيه على محابكم. فلم يقدم مفلح على الخروج إلى نصر بهذا الجواب ووقف عند الستر وقال: ينصرف الوزير. فتكلم الغلمان كلاماً كثيراً حتى أنفذ إليه مفلح من وعدهم عن الخليفة بلوغ مرادهم، فحينئذ أذن نصر للوزير في الانصراف. فذكر بعض من كان معهما أنهما لم يزالا يمشيان في الممرات مشياً سريعاً حتى نزلا إلى طيارهما، وقدما إلى دار الوزير وصعدا. وسار المحسن أباه سراً طويلاً. ثم خرج ومضى إلى داره فجلس فيها ساعة حتى نظر في أمره واستتر. وجلس ابن الفرات ينظر في الأعمال وبين يديه جماعة من كتابه. ثم قام إلى دور حرمه فأكل عندهم. وخرج وقت العصر فتشاغل بالوقوف على ما ورد، وأمر ونهى على رسمه من غير أن يبين فيه خوف أو زوال عن العادة، وبات تلك الليلة على هذه الجملة، فحدث بعض خواصه أنه سمعه في آخر الليل وهو في مرقده يتمثل بهذا البيت: ن نزل إلى طياره وقبل يده، وسأله العود إلى موضعه ففعل. وركب أبو العباس بن المقتدر بالله إليه أيضاً فخرج حافياً حتى نزل إلى طياره. وصار ابن الفرات وابنه المحسن

(1/58)


من غد وهو يوم الاثنين إلى دار المقتدر بالله، ووصلا إليه وخاطباه بما أراداه ووليا للانصراف، فعاد المحسن وحده وقال للمقتدر بالله: قد عرفت يا أمير المؤمنين ضيق المال وكثرة النفقات، وها هنا وجوه ثلاثمائة ألف دينار تصح في مدة قريبة، فإن أذنت في استخراجها استخرجت. فقال: قد أذنت لك. وخرج فلحق أباه. فلما أرادا الخروج من الصحن التسعيني أقعدهما نصر الحاجب في مجلس بالقرب، وراسل الغلمان الحجية المقتدر بالله في القبض عليهما على لسان مفلح الأسود، فدخل وأدى إليه ذلك. ثم قال له: إن في صرف الوزير بقول هذه الطائفة خطأً في التدبير وإطماعاً للغلمان. فأمره بأن يخرج ويقول لنصر حتى يصرفه، ويقول للغلمان: إننا نفعل فيما راسلتمونا به ما يجري الأمر فيه على محابكم. فلم يقدم مفلح على الخروج إلى نصر بهذا الجواب ووقف عند الستر وقال: ينصرف الوزير. فتكلم الغلمان كلاماً كثيراً حتى أنفذ إليه مفلح من وعدهم عن الخليفة بلوغ مرادهم، فحينئذ أذن نصر للوزير في الانصراف. فذكر بعض من كان معهما أنهما لم يزالا يمشيان في الممرات مشياً سريعاً حتى نزلا إلى طيارهما، وقدما إلى دار الوزير وصعدا. وسار المحسن أباه سراً طويلاً. ثم خرج ومضى إلى داره فجلس فيها ساعة حتى نظر في أمره واستتر. وجلس ابن الفرات ينظر في الأعمال وبين يديه جماعة من كتابه. ثم قام إلى دور حرمه فأكل عندهم. وخرج وقت العصر فتشاغل بالوقوف على ما ورد، وأمر ونهى على رسمه من غير أن يبين فيه خوف أو زوال عن العادة، وبات

(1/59)


تلك الليلة على هذه الجملة، فحدث بعض خواصه أنه سمعه في آخر الليل وهو في مرقده يتمثل بهذا البيت:
وأصبح لا يدري وإن كان حازماً ... أقدّامه خير له أم وراؤه
وبكر من غد فجلس لأصحاب المظالم. قال أبو القاسم بن زنجي: فبينما هو في قراءة رقاعهم واستماع ظلامتهم إذ وردت عليه رقعة لطيفة مختومة، لم أعلم في الوقت ممن هي، ثم عرفت أنها كانت من مفلح، وتلتها رقعة أخرى من كاتب مفلح، فلما وقف عليها أمسك قليلاً، ثم دعا أبا زكرياء يحيى الدقيقي قهرمانه فأسر إليه ما لا أدري ما هو، فانصرف. وقال لأبي إسحاق المدبر: خذ قصص المتظلمين واجمعها لتعرضها الليلة علي وأوقع فيها وتفرقها عليهم من غد. ونهض من مجلسه إلى دور حرمه وتفرق الناس ولم يبعد أن وافى نازوك ومعه سلاح، وبيده دبوس، وتلاه يلبق على مثل هذه الصورة، ومع كل واحد منهما خمسة عشر غلاماً. فلما لم يروه هجموا على دار حرمه، وأخرجوه حاسراً، وأنزله في طيار، وحمل إلى دار نازوك، وقبض معه على الفضل والحسن ابنيه، وعبد الله بن جبير وسعيد بن إبراهيم التستري وأبي غانم سعيد بن محمد كاتب المحسن وابن هشام وأبي الطيب الكلوذاني. ومضى نازوك ويلبق إلى مؤنس فعرفاه الخبر، وقد خرج إلى باب الشماسية للتنزه، فانحدر معه هلال بن بدر، وجماعة من القواد، وساد يلبق إلى دار نازوك وأخرج

(1/60)


ابن الفرات وابنيه وكتابه إلى شاطئ دجلة. فلما شاهدهم العامة رجموهم. وأنزل مؤنس ابن الفرات معه في طياره، فأظهر السرور بحصوله في يده، ورفعه مؤنس وخاطبه بجميل وعاتبه مع ذلك عتاباً كثيراً بحضرة الناس، فتذلل له وخاطبه بالأستاذية. فقال له: الآن تخاطبني بالأستاذية وبالأمس تخرجني إلى الرقة على النفي والمطر ينزل على رأسي؟! وتقول لمولانا أمير المؤمنين إنني أسعى في فساد مملكته؟ وانحدر به إلى دار السلطان وأصعد به إليها. وسلم ولداه وكتابه إلى نصر الحاجب. واجتمع القواد إلى مؤنس ونصر وقالوا: إن اعتقل ابن الفرات في دار الخلافة خرجنا بأسرنا إلى المصلى وشغبنا. وزادوا في القول وأكثروا، فاستدعي المقتدر بالله مؤنساً ونصراً واستشارهما، فأشارا بإخراج ابن الفرات من الدار وتسليمه إلى شفيع اللؤلؤي ليكون عنده ويسكن القواد إلى ذلك. فاستدعي شفيع وسلم إليه. ونظر أبو القاسم عبد الله بن محمد بن الخاقاني في الوزارة، على ما ذكرناه في أخباره. وانتهى الأمر في ابن الفرات إلى أن تقدم المقتدر بالله بتسليمه إلى الخاقاني فتسلمه في يوم الأحد لأربع عشرة ليلةً خلت من شهر ربيع الأول، وسلم معه الدقيقي قهرمانه، ورد الخاقاني مناظرة ابن الفرات إلى ابن بعد شر، فأخذ من

(1/61)


ودائع أقر بها مائةً وخمسين ألف دينار. ثم أوقع به مكروهاً كان سبباً لتقاعده عن أداء شيء بعده. ومضى هارون بن غريب وكان موكلاً به إلى المقتدر بالله فقال له: إن ابن الفرات ممن لا يذعن بمال وينقاد إلى أداء بالقبيح، وقد جنى الخاقاني جناية كبيرة بتسليمه إياه إلى ابن بعد شر حتى خرق به وعسفه. فتقدم المقتدر بالله إلى الخاقاني بأن يجعل مطالبة ابن الفرات بحضرة هارون بن غريب، وكان ابن بعد شر قد ضيق على ابن الفرات في مطعمه ومشربه، واقتصر به على خبز خشكار وقثاء وماء الهواء. فحمل إليه الخاقاني طعاماً واسعاً جميلاً وفاكهة وثلجاً كثيراً، واعتذر إليه مما جرى وحلف أنه لم يعلم به. ثم راسله مع خاقان بن أحمد بن يحيى ومحمد بن سعيد حاجبه وقالا له: الرأي أن تقر بأموالك ولا تلاج السلطان فتؤكد سوء رأيه فيك. فأجابه بما قال فيه: لست أيها الوزير حدثاً تخدعني، ولا عزاً فتحتال علي، وما أقول إنني ما أقدر على المال، لكنني إن وثقت لنفسي بالسلامة والخلاص، وأعطاني الخليفة أمانه بخطه، وأشهد لي فيه الوزير والقضاة والغلمان. وسلمني إما إلى مؤنس المظفر، وإن كان عدوي، أو إلى شفيع اللؤلؤي، قررت أمري وأعطيت مالي. فأما أن أكون على ما أنا عليه ويراد مني المال فذلك ما لا أفعله. فأعاد الخاقاني مراسلته: بأنني لو قدرت على التوثق لك توثقت، ومتى قلت في هذا المعنى قولاً عاداني خواص الدولة ولم تنتفع أنت، وقد رد أمير المؤمنين أمرك إلى هارون بن غريب، وهو قريبه وثقته. ولعمري إنه عدو لك، ولكن العدو ربما رق في مثل هذه الصورة، والصواب أن تداريه وتلاطفه.

(1/62)


وحضر هارون دار الخاقاني واستحضر ابن الفرات وناظره ابن بعد شر بحضرته. فلما خرج من القول إلى الإسماع زبره هارون وقال له: تريد أن تستخرج المال من ابن الفرات على هذا الوجه! وأقبل على ابن الفرات وقال له: أنت أعرف بالأمور من أن تعرفها. والخلفاء لا يلاجهم كتابهم ووزراؤهم إذا سخطوا عليهم، والرأي لك، غير ما أنت فيه. فقال: أشر علي أيها الوزير، فإن الرأي عازب عني مع حصولي فيما أنا حاصل فيه. ولم يزل معه في مقاولة ومراوضة إلى أن أخذ خطه بألفي ألف دينار يعجل منها الربع، على أن يحتسب له من الربع بما صح من ودائعه بإقراره وغير إقراره منذ وقت القبض عليه، ويطلق في بيع ما يستبيع من ضياعه وأملاكه وينقل إلى دار شفيع اللؤلؤي أو غيره من ثقات السلطان، ويطلق أبو الطيب كاتبه ليتصرف له في أموره، وتطلق له الدواة ليكاتب من يريد أن يكاتبه، ويؤذن لمن يبتاع شيئاً من أملاكه في الوصول إليه. وصار هارون بن غريب بالخط إلى المقتدر بالله فعرضه عليه. واتفق أن وجد ابنه المحسن ليلة الجمعة الحادية عشرة من ربيع الأول، فقبض عليه، وحمل إلى دار الوزارة بالمخرم. وكان من شرح الحال في أخذه أنه لجأ في استتاره بعد القبض على أبيه إلى حماته خزابة والدة الفضل بن جعفر بن الفرات، فكانت تحمله كل يوم بكرة إلى المقابر في زي النساء، وتعيده إلى المواضع التي تثق بها، فمضت به

(1/63)


بكرة يوم الخميس على هذه السبيل إلى مقابر قريش، فأمست مساء بعد عليها معه الوصول إلى دواخل الكرخ، فوصفت لها امرأة كانت معها منزل امرأة تعرفها وتأمنها، ولا زوج لها لأنه توفي قبل ذلك بسنة، فحملته خزابة ومعه جماعة نساء إلى هذه المرأة التي ذكرت لها وهي غير عارفة بها، ودخلت الدار وقالت: معي امرأة عاتق لم تتزوج وقد انصرفت من مأتم وضاق عليها الوقت، وسألتها أن تفرد لها موضعاً. فأفردت لها بيتاً في صفة، وأدخلت المحسن إليه وردت الباب عليه، وجلست النسوة معه في البيت، ووافت جارية سوداء للقوم بسراج فتركته في الصفة، وجاءت خزابة إلى المحسن بسويق ليشربه وقد نزع ثيابه. واطلعت الجارية السوداء فرأته من غير أن تشعر بها خزابة، وعلمت أنه رجل، فحدثت مولاتها بذلك، فلما تصرم الليل قامت مولاتها إلى الموضع سراً حتى شاهدته. وكان من سوء الاتفاق أن كانت المرأة زوجة محمد بن نصر وكيل أبي الحسن علي بن عيسى على نفقاته، وكان المحسن طلبه فحضر ودخل ديوانه، ورأى ما يعامل الناس به من المكاره، فمات فزعاً من غير أن يكلمه المحسن أو يوقع به مكروهاً. فمضت المرأة في الوقت إلى دار السلطان حتى وصلت إلى نصر الحاجب، وشرحت له الصورة. وأنهاها نصر إلى المقتدر بالله. فتقدم بالبعثة إلى نازوك بالركوب إلى الموضع والقبض عليه. فركب من وقته وكبسه وأخذه. وضربت الدبادب ليلاً عند وصوله حتى ارتاع الناس لأصواتها، وظنوا أن حادثاً حدث

(1/64)


من جهة القرمطي. ووجد المحسن في زي امرأة، وقد قص لحيته، وخضب يديه ورجليه، ولبس قميصاً معصفراً. فأوقع به ابن بعد شر من وقته مكروهاً عظيماً، وأخذ خطه بثلاثة آلاف دينار، يؤدي الربع منها معجلاً.
وحضر من غد هارون بن غريب، وخاطبه على إظهار ماله، فوعده بتذكر ودائعه والدلالة على مواضعها، وناله مكروه عظيم في يومين فلم يذعن بدرهم واحد. وقال: لا أجمع بين ذهاب نفسي ومالي. وأعيدت مخاطبته ومطالبته بمحضر من هارون بن غريب وشفيع اللؤلؤي. وجدد المكروه عليه، وقال له هارون: هبك لا تقدر على سبعمائة ألف دينار فما تقدر على مائة ألف دينار؟! قال: بلى إذا أُمهلت وأزيل عني المكروه. فقال له: نحن نمهلك ونرفهك، فاكتب خطك بأنك تؤدي مائة ألف دينار. فكتب وقال: في مدة ثلاثين يوماً. فلما قرأ ذلك هارون قال له: كأنك تريد أن تعيش ثلاثين يوماً: فخضع المحسن وقال: أفعل ما يأمر به الأمير. فقال له: اكتب أنك تؤديها في سبعة أيام. فارتجع الرقعة ليكتب بدلاً منها، فلما حصلت في يده خرقها وأكلها. وضرب على رأسه وسائر جسده بالطبرزينات على أن يكتب غيرها فلم يكتب. فقيد حينئذ وغل، وأُلبس جبة صوف وجبة شعر، وأعيد إلى مجلسه، وعذب بكل شيء، فلم يعط درهماً واحداً. وتشاغل أبو القاسم الخاقاني بوفاة أبي علي محمد أبيه، فوقف الأمر في مطالبة ابن الفرات. فلما كان يوم الأربعاء لست بقين من شهر ربيع الأول حضر مؤنس

(1/65)


المظفر ونصر الحاجب الأستاذان والقضاة والكتاب في مجلس الوزير أبي القاسم الخاقاني وأُحضر ابن الفرات، وناظره الخاقاني، فلم يكن من رجاله، وكاد ابن الفرات أن يأكله. وكان من قوله له: أغللت ضياعك في مدة أحد عشر شهراً ألف ألف دينار. فقال: قد كانت الضياع في يد علي بن عيسى عشر سنين، هي أيام وزارته وأيام نظره مع حامد فما ارتفع له منها أربعمائة ألف دينار. فإذا أغللتها أنا في مدة أحد عشر شهراً ألف ألف دينار فقد ادعي لي المعجز بذلك. فقال له: قد أضفت إلى حق الرقبة حقوق بيت المال. فقال: ما يتمكن أحد أن يستر ما في الدواوين، فانظروا ارتفاع النواحي السلطانية في أيامي، وارتفاعها في أيام علي بن عيسى وحامد ووزارة أبيك التي دبرتها أنت، فإن كان ارتفاع نقص في أيامي لزمتني الحجة، أو في أيامكم عرف أثري. ومع هذا فقد علم الخاص والعام ما جرى في وزارة أبيك من الشغب حتى أخرج أمير المؤمنين من بيت مال الخاصة خمسمائة ألف دينار أنفقها في الجيش على يد شفيع اللؤلؤي. وما فعله علي ابن عيسى من إسقاط الناس وحطهم من أرزاقهم، وما فعلته أنا في نظري من توفية الحاشية جميع استحقاقها مع زيادات تكلفتها وتحملتها لأحبب أمير المؤمنين إلى خدمه وأولياء دولته. وخوطب على أمر من قتل من المصادرين، فقال: ليس يخلو الأمر من أن

(1/66)


يقال إني قتلتهم فأنا مقيم بالحضرة، والمدعى قتله بالبعد منها، أو إني كتبت بقتلهم فعمال المعاون ثقات السلطان، وعمال الخراج وجوه المتصرفين، وقد حكمتهم على نفسي فيما يقولونه. أو كانت الدعوى على المحسن ابني فأنا غير ابني. فقال له ابن بعد شر: إذا قتل ابنك فأنت قتلت. فقال ابن الفرات: هذا غير ما حكم الله ورسوله به وقد قال تعالى: " وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى " وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: هذا ابنك. فقال نعم. فقال: إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ومع ذلك فإنه في أيديكم فسلوه فإن وجب عليه قود بادعاء قتل في بلد نأى عنه، ويقال. إن عيره تولى القتل فيه، فاحكموا بما ترون. فتحير القوم في الجواب. وقال عثمان بن سعيد صاحب ديوان الجيش لنصر الحاجب: إن رأى الأستاذ أن يقول له: حيث كنت تقول لمن تطالبه: إن أديت وإلا سلمتك إلى المحسن. أكنت تسلمه ليسقيه السويق والسكر أو ليعذبه؟ ومن أطلق العذاب على الناس فقد أطلق إتلاف نفوسهم، لأنه قد يتلف الإنسان من مقرعةً واحدة. فقال له نصر ذلك، فقال له في الجواب: الخليفة أطال الله بقاءه ولى المحسن، وهو ضمن له ما ضمنه بواسطة مفلح وغيره من ثقاته، وأنا إذ ذاك محبوس، وكنت أحب الرفق بالناس فأناظرهم بالقول، فإن أذعنوا وقاربوا قاربتهم وقبلت عفوهم، وإن امتنعوا سلمتهم إلى من أمر الخليفة أيده الله بتسليمهم إليه، فقال له مؤنس: كأنك تحيل على الخليفة في قتل الناس! قد قال: إنه ما أمر

(1/67)


بقتل أحد غير ابن الحواري فقط. ثم قال له: الخليفة أيده الله يقول: سلمت إليك قوماً بمال ضمنته لي، فإما وفيتني المال أو رددت علي القوم. فاضطرب ابن الفرات من هذا القول وقال: أما المال فصح في بيت المال، وأما الرجال فماتوا
حتف أنفهم، فقال له مؤنس: هب لك عذراً في كل شيء، أي عذر لك في إخراجي إلى الرقة حتى كأني من العمال المصادرين أو من أعداء دولة أمير المؤمنين؟ قال: فأنا أخرجتك؟! فقال: فمن؟ قال: مولاك. في السفط الخيزران المكتوب عليه بخطي: ما يحتفظ به من المهمات رقعة بخط الخليفة، أطال الله بقاءه، إلي يشكو فيها أفعالك وقتاً بعد وقت، وفتحك البلدان ثم إغلاقك إياها بالتدبيرات القبيحة، ويأمر بإخراجك إلى الرقة والتوكيل بك حتى تخرج. فأنفذ الخاقاني وأحضر السفط وعليه ختم ابن الفرات وفتحه فوجدت الرقعة من المقتدر على ما حكي من مضمونها. فأخذها مؤنس ومضى من وقته إلى المقتدر حتى أقرأه إياها، فاغتاظ المقتدر بالله علي ابن الفرات، وأمر هارون بن غريب بضربه بالسوط، فعاد وأقامه بين الهنبازين وضربه خمس درر وقال له: أذعن يا هذا بالمال، فكتب له خطه بعشرين ألف دينار. وأخرج المحسن وضربه حتى كاد يتلف فلم يعف بشيء وصار هارون إلى المقتدر بالله واستعفى من مطالبة ابن الفرات وابنه وقال: هؤلاء قوم قد استقتلوا وما ينقادون ولا يذعنون. فأمر بتسليمهما إلى نازوك وإيقاع المكروه بهما. فأوقع نازوك المكاره بالمحسن حتى تدود بدنه ولم يبق فيه فضل لضرب. وضرب ابن الفرات ثلاث دفعات بالقلوس فلم يعط شيئاً، ولا صح للمحسن في مدة حياته أكثر من سبعة آلاف دينار منها خمسة آلاف أقر بها الحسن بن شبيب العتي تبرعاً، وواجه المحسن بأمرها فأنكر أن يكون له وقال: هذا مال اجتمع من الوقف الذي كان والدي أسنده إلي وترك عند ابن شبيب لينضاف إليه غيره ويفرق في أهله. ومنها ألف دينار اجتمعت من ثمن فرش وثياب صحاح ومقطوعة كانت مودعة عند بعض التجار بسوق العطش. وأقرت بها دنانير ورهبان جاريتا زوجة المحسن، فإنهما كانتا ممن قبض عليهما وضربهما ابن بعد شر ضرباً مبرحاً فلم تقرا بغير ذلك. واستبطأ المقتدر بالله أبا القاسم الخاقاني وقال له: أين أموال ابن الفرات وابنه التي ضمنتها لي؟ فقال: لم أترك تدبير أمرهما، ولما رأيا أن قد سلما إلى أصحاب السيوف وعدل بهما عن الكتاب خافا القتل وضنا بأموالهما. وقال نازوك: قد بلغت في مكاره القوم إلى الغاية، وللمحسن أيام لم يطعم فيها طعاماً، وإنما يشرب الماء شرباً قليلاً، وهو في أكثر أوقاته مغشي عليه. فقال المقتدر بالله: إذا كان الأمر على ذلك فليحملا إلى داري. فقال مؤنس والجماعة: الأمر لمولانا. وقال الخاقاني: قد وفق الله رأي أمير المؤمنين. وخرجوا من بين يديه. فقال الخاقاني لهم: ما قال أمير المؤمنين ذلك إلا وقد واصل أسباب ابن الفرات مكاتبته بأنه متى حمل وابنه إلى داره ورفها وأمنا على نفوسهما أديا مالاً كثيراً. ولعلهم قد بذلوا عنهما ألف ألف دينار وأكثر. وأشار بأن يجتمع القواد ويتحالفوا على أنه متى نقل ابن الفرات وابنه إلى دار الخليفة خلعوا الطاعة، وأن يثبتوا على هذا القول ثبات التظافر وقوة العزيمة، وإلا فإن حصل ابن الفرات عند السلطان وأدى ماله وتوثق لنفسه ضمن الجاعة منه، وحمله على القبض عليهم وتسليمهم إليه. فقال مؤنس: هذا أمر متى لم نفعله لم تسكن نفوسنا ولم يصف عيشنا. وتكفل هارون بن غريب ونازوك بجمع القواد ووجوه الغلمان الحجرية وموافقتهم على ذلك. وقام يلبق باستحلاف قواد مؤنس. فلما كان يوم الخميس السابع من شهر ربيع الآخر كاشفوا المقتدر بالله وقالوا: إن لم يقتل ابن الفرات وابنه خلع الأولياء كلهم الطاعة. فقال لهم: دعوني حتى أفكر. وجد هارون بن غريب خاصة. وأرادت الجماعة من الخاقاني التجريد في ذلك فقال: ما أدخل في دم. والذي أشرت به أن يمنع من حمله إلى دار السلطان. فأما قتله فإنه خطأ؛ لأنه متى سهل القتل على الملوك ضروا عليه، ولم يميزوا فيه. وقدم إلى ابن الفرات طعامه في يوم الأحد الثاني عشر من الشهر فامتنع عنه وقال: أنا صائم. وحضر وقت الإفطار فأعيد إليه فقال: لست أُفطر الليلة. واجتهد به فلم يفعل وقال: أنا مقتول في غد لا محالة. فقيل له: نعيذك بالله. فقال: بلى، رأيت البارحة في النوم أبا العباس أخي وقال لي: أنت تفطر عندنا يوم الاثنين الذي هو غد. وما قال لي في النوم شيئاً إلا صح، وغد يوم الاثنين، وهو اليوم الذي قتل فيه الحسن صلوات الله عليه. أنفهم، فقال له مؤنس: هب لك عذراً في كل شيء، أي عذر لك في إخراجي إلى الرقة حتى كأني من العمال المصادرين أو من أعداء دولة أمير المؤمنين؟ قال: فأنا أخرجتك؟! فقال: فمن؟ قال: مولاك. في السفط الخيزران المكتوب عليه بخطي: ما يحتفظ به من المهمات رقعة بخط الخليفة، أطال الله بقاءه، إلي يشكو فيها أفعالك وقتاً بعد وقت، وفتحك البلدان ثم إغلاقك إياها بالتدبيرات القبيحة، ويأمر بإخراجك إلى الرقة والتوكيل بك حتى تخرج. فأنفذ الخاقاني وأحضر السفط وعليه ختم ابن الفرات وفتحه فوجدت الرقعة من المقتدر على ما حكي من مضمونها. فأخذها مؤنس ومضى من وقته إلى المقتدر حتى أقرأه إياها، فاغتاظ المقتدر بالله علي ابن الفرات، وأمر هارون بن غريب بضربه بالسوط، فعاد وأقامه بين الهنبازين وضربه خمس درر وقال له: أذعن يا هذا بالمال، فكتب له خطه بعشرين ألف دينار. وأخرج المحسن وضربه حتى كاد يتلف فلم يعف بشيء وصار هارون إلى المقتدر بالله واستعفى من مطالبة ابن الفرات وابنه وقال: هؤلاء قوم قد استقتلوا وما ينقادون ولا يذعنون. فأمر بتسليمهما إلى نازوك وإيقاع المكروه بهما. فأوقع

(1/68)


نازوك المكاره بالمحسن حتى تدود بدنه ولم يبق فيه فضل لضرب. وضرب ابن الفرات ثلاث دفعات بالقلوس فلم يعط شيئاً، ولا صح للمحسن في مدة حياته أكثر من سبعة آلاف دينار منها خمسة آلاف أقر بها الحسن بن شبيب العتي تبرعاً، وواجه المحسن بأمرها فأنكر أن يكون له وقال: هذا مال اجتمع من الوقف الذي كان والدي أسنده إلي وترك عند ابن شبيب لينضاف إليه غيره ويفرق في أهله. ومنها ألف دينار اجتمعت من ثمن فرش وثياب صحاح ومقطوعة كانت مودعة عند بعض التجار بسوق العطش. وأقرت بها دنانير ورهبان جاريتا زوجة المحسن، فإنهما كانتا ممن قبض عليهما وضربهما ابن بعد شر ضرباً مبرحاً فلم تقرا بغير ذلك. واستبطأ المقتدر بالله أبا القاسم الخاقاني وقال له: أين أموال ابن الفرات وابنه التي ضمنتها لي؟ فقال: لم أترك تدبير أمرهما، ولما رأيا أن قد سلما إلى أصحاب السيوف وعدل بهما عن الكتاب خافا القتل وضنا بأموالهما. وقال نازوك: قد بلغت في مكاره القوم إلى الغاية، وللمحسن أيام لم يطعم فيها طعاماً، وإنما يشرب الماء شرباً قليلاً، وهو في أكثر أوقاته مغشي عليه. فقال المقتدر بالله: إذا كان الأمر على ذلك فليحملا إلى داري. فقال مؤنس والجماعة: الأمر لمولانا. وقال الخاقاني: قد وفق الله رأي أمير المؤمنين. وخرجوا من بين يديه. فقال الخاقاني لهم: ما قال أمير المؤمنين ذلك إلا وقد واصل أسباب ابن الفرات مكاتبته بأنه متى حمل وابنه إلى داره ورفها وأمنا على نفوسهما أديا مالاً كثيراً. ولعلهم قد بذلوا عنهما ألف ألف دينار وأكثر. وأشار بأن يجتمع القواد ويتحالفوا على أنه متى نقل ابن الفرات وابنه إلى دار الخليفة

(1/69)


خلعوا الطاعة، وأن يثبتوا على هذا القول ثبات التظافر وقوة العزيمة، وإلا فإن حصل ابن الفرات عند السلطان وأدى ماله وتوثق لنفسه ضمن الجاعة منه، وحمله على القبض عليهم وتسليمهم إليه. فقال مؤنس: هذا أمر متى لم نفعله لم تسكن نفوسنا ولم يصف عيشنا. وتكفل هارون بن غريب ونازوك بجمع القواد ووجوه الغلمان الحجرية وموافقتهم على ذلك. وقام يلبق باستحلاف قواد مؤنس. فلما كان يوم الخميس السابع من شهر ربيع الآخر كاشفوا المقتدر بالله وقالوا: إن لم يقتل ابن الفرات وابنه خلع الأولياء كلهم الطاعة. فقال لهم: دعوني حتى أفكر. وجد هارون بن غريب خاصة. وأرادت الجماعة من الخاقاني التجريد في ذلك فقال: ما أدخل في دم. والذي أشرت به أن يمنع من حمله إلى دار السلطان. فأما قتله فإنه خطأ؛ لأنه متى سهل القتل على الملوك ضروا عليه، ولم يميزوا فيه. وقدم إلى ابن الفرات طعامه في يوم الأحد الثاني عشر من الشهر فامتنع عنه وقال: أنا صائم. وحضر وقت الإفطار فأعيد إليه فقال: لست أُفطر الليلة. واجتهد به فلم يفعل وقال: أنا مقتول في غد لا محالة. فقيل له: نعيذك بالله. فقال: بلى، رأيت البارحة في النوم أبا العباس أخي وقال لي: أنت تفطر عندنا يوم الاثنين الذي هو غد. وما قال لي في النوم شيئاً إلا صح، وغد يوم الاثنين، وهو اليوم الذي قتل فيه الحسن صلوات الله عليه.

(1/70)


وانحدر الناس في يوم الاثنين إلى دار السلطان فلم يصلوا، وكتب هؤلاء الرؤساء إلى المقتدر بالله رقعة بأنه إن تأخر قتل ابن الفرات وابنه عن يومهم جرى ما لا يتلافى. وأشاروا إلى ما عظموا الأمر فيه. فوقع إلى نازوك بأن يركب إلى موضعهما ويضرب أعناقهما ويحمل رأسيهما. فقال نازوك: هذا أمر لا يجوز أن أعمل فيه بتوقيع. فأمر المقتدر بالله الأُستاذين الخدم بأداء رسالة عنه إليه في هذا المعنى، فخرجوا وأدوها، فامتنع وقال: لا بد من المشافهة بذلك، فأُمر بأن ينصرف ويعود على خلوة، فمضى وعاد، فأوصله المقتدر بالله حتى سمع قوله. وكان ابن الفرات يراعي الخبر، فلما عرف انصراف الناس ونازوك سكن قليلاً ثم قيل له: قد عاد نازوك. فخاف وأيقن بالهلاك، وصار نازوك إلى دار الوزارة بعد الظهر من ذلك اليوم، وجلس في الحجرة التي كان ابن الفرات معتقلاً فيها، وأنفذ عجيباً خادمه ومعه جماعة من السودان حتى ضرب عنق المحسن ابنه وجاء برأسه إلى أبيه فوضعه بين يديه، فارتاع لذلك ارتياعاً شديداً. وعرض هو على السيف. فقال لنازوك: يا أبا منصور ليس إلا السيف! راجع أمير المؤمنين في أمري فإنني أقر بأموالي وودائعي وعندي جوهر جليل. فقال له نازوك: جل الأمر عما تقدر. ثم أمر به فضربت عنقه وحمل رأسه ورأس المحسن إلى دار السلطان مع عجيب خادمه فغرقا في الفرات وطرحت جثتاهما في دجلة. ومضى ابن الفرات عن إحدى وسبعين سنة وشهور، والمحسن عن ثلاث وثلاثين سنة. وكانت مدة وزارته الثالثة سنة واحدة.

(1/71)


وذكر أبو الطيب الكلوذاني كاتب ابن الفرات قال: رأيت في منامي وأنا في الاعتقال كأن مؤنساً المظفر قد دخل إلى موضعي وفي يديه عشرة خواتيم، فصوصها ياقوت أحمر وواحد منها لطيف في البنصر، فقال لي: قد قتل ابن الفرات ووالله ما أردت قتله، وإنما قيل لي فيه وأمسكت وسنقتل كلنا بالسيف، وأولنا جعفر المقتدر بالله، ولا يسلم منا من السيف إلا نصر الحاجب فإنه يموت مسموماً. قال: فسألته عن الخواتيم فقال: هي عدد سني ولايتي. قلت: فلم هذا الواحد الصغير؟ فقال: إنه لا يتم سنةً. فعاش مؤنس بعد هذه الرؤيا دون عشر سنين وقتل بالسيف.