زبدة الحلب في تاريخ حلب

القسم الثاني عشر
ثمال بن صالح بن مرداس
ولما هرب ثمال بن صالح وصل إلى حلب، ومعه شبيب بن وثاب، في يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان، فملكها ثمال، ووعده مشايخها بالمعونة والنصر، فخوفه خليفة بن جابر الكعبي، وقال له: ربما خذلتك عشيرتك وقعد بك أهل البلد، ولم يمكنك الثبات والمقاومة، ولا الانصراف على حال السلامة. وأراد بذلك غشه لا نصحه.
وكان أمير الجيوش قد سير في أثرهم إلى حلب عسكراً يقدمه طغان المظفري، فخاف ثمال من المقام بحلب، وولى بقلعة حلب مقلد بن كامل بن مرداس، وبالمدينة خليفة بن جابر الكعبي.
وأطلق للتجار ديوناً كانت لهم على أخيه مقدارها ثلاثون ألفاً ذهباً، ليستميل الناس بذلك إلى طاعته، وأخذ أولاد أخيه، وأخذ شبيب زوجة أخيه أخته علوية المعروفة بالسيدة وأخذا من المال والآنية الذهب والفضة والثياب ما قدرا على حمله، وساروا إلى الجزيرة.
وقيل: أن السيدة أخذت من القلعة عند قتل نصر خمسين ألف دينار، وأخذ ثمال ثلاثين ألفاً، وسار ثمال يستنجد بأخواله بني خفاجة.
ووقعت الفتنة بحلب، ونهبت دار السلطان، وأموال التجار. وكان رسول ملك الروم قد وصل إلى حلب فنهب العامة متاعه ودوابه.

(1/143)


وأما طغان فإئه لما وصل بالعسكر إلى حلب نزل على المدينة، فراسله خليفة ابن جابر الكعبي ومن وافقه من الحلبيين في تسليم البلد، فتسلمه في يوم السبت الرابع من شهر رمضان.
وأنفذ رسولاً إلى الدزبري يعلمه بذلك، فأغذ السير إلى حلب، ووصل إليها في عدة قليلة، واجتاز في طريق بمعرة النعمان، فالتقاه أهلها، فأكرمهم وسألهم عن أبي العلاء بن سليمان. وقال لهم: لأسيرن فيكم بسيرة العمرين. وإجتمع عنده بالمعرة كثير من العرب، فخشي منهم، فأركب رجلاً من أصحابه جملاً، ونادى بمعرة النعمان وبظاهرها: من لم يأخذ معه قوت ثلاثة أيام فلا يلومن إلا نفسه. فلم يبق من العرب أحد حوله، وظن كل منهم أنه يطلب حلته وتم أمير الجيوش إلى حلب، فدخلها يوم الثلاثاء السابع من شهر رمضان، والقلعة مستعصية على أصحابه في يد سيف الدولة مقلد بن كامل بن مرداس، وقد احتوى على الأموال التي بها، واستولى على جمهورها.
فترددت الرسل بينه وبين مقلد حتى قرر له عما في القلعة ثمانين ألف دينار، وثياباً، وفرشاً، وآلات فضة، مكراً وخديعة، وأن يأخذ المقلد الباقي.
وقنع الدزبري بذاك، وأفرج له عن نزوله وخروجه فسلم مقلد القلعة وصعد إليها أمير الجيوش، يوم الثلاثاء لثمان بقين وقيل لسبع بقين من شهر رمضان.
وأقام مقلد يوماً واحداً بعد نزوله من القلعة، وهرب بما معه من الأموال خوفاً من غدر الدزبري به، ولحق بحلته وبثمال بن صالح بالجزيرة، ونادى الدزبري في مدينة حلب بأن يخرج منها جميع الجند والحواشي الذين كانوا يخدمون ابن صالح. واجتمع الناس من سائر البلدان ليهنئوه بالفتح، وجلس للهناء في القصر بباب الجنان وعيد عيد الفطر بحلب، فذكر أنه لم ير بحلب عيد أحسن منه، لكثرة ما أظهر فيه من العدة والآلة، وأحسن إلى أهل حلب، وأمر برد ما كان صالح اغتصبه من أملاك الحلبيين، وتزوج بنت منصور بن زغيب. وولى بقلعة حلب مملوكين له. أحدهما يقال له فاتك، والآخر سبكتكين، وولى بالمدينة غلامه رضي الدولة بنجوتكين.

(1/144)


ثم قصد بالس ومنبج، فأخذهما. ورام أخذ الرحبة فلم يقدر عليها. وأقام بحلب إلى أن عيد عيد الأضحى، وسار إلى دمشق. ومدحه ابن حيوس بقصيدة يذكر فيها قتل نصر، ويقول فيها:
ولما طغى نصر أتحت له الردى ... ولم ينجه الجمع الكثير ولا الحشد
وبأخرى يذكر فيها حلب، أولها:
هل بعد فتحك ذا لباغ مطمع ... لله هذا العزم ماذا يصنع
وولى قضاء حلب أبا الوليد سليمان بن خلف الباجي سنة واحدة، ثم وليه بعده القاضي أبو الحسن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة جد جد أبي.
ومات شبيب بن وثاب النميري في سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. واستولى أخوه مطاعن وقوام على ما كان في يده من الجزيرة، وكانت أخته السيدة علوية امرأة نصر مقيمة بالرافقة، فتحيلت على غلام أخويها الوالي بالرافقة إلى أن أخرجته، واستولت على البلد، وتزوجت بثمال لتقيم هيبتها به، ويحفظ أمرها. ووقع في هذه السنة وقعة بين عسكر الروم وعسكر حلب، فكسر عسكر أنطاكية الحلبيين، وعاد الدمستق إلى أنطاكية.
ودخل طغان حلب، وحصل ثمال بن صالح في الرقة، وخشي الدزبري من قربه إلى حلب، فاشترى قلعة دوسر ليكون مطلاً عليه. وراسل نصر بن مروان صاحب ميافارقين في أن يزوج ابنته لابنه، فأجابه إلى ذلك، فاستوحش المصريون منه
لذلك، وأنفذ إلى مصر ليحضر زوجته وابنته، فلم يطلقهما الوزير.
وثقل على الوزير الجرجرائي فتح الدزبري حلب، لأنه لم يكن برأيه، وأنكر

(1/145)


ذلك فقال الدزبري: قد خرف الوزير، وبسط لسانه فيه بالكلام القبيح، فكاتب ولاة الشام بترك الانقياد له، وكتب توقيعاً عن المستنصر لثمال بن صالح بحلب، وشرط عليه أن يحمل جميع ما بقلعتها من المال إلى المستنصر.
وكاتب أجناد دمشق، وأغراهم به، فثاروا عليه، وأحدقوا به بقصر كان له في ظاهر دمشق، فهرب من دمشق ليلاً ومعه ثلاثمائة صبي من غلمانه الأتراك ليس لواحد منهم لحية، وعلى وسط كل واحد منه ألف دينار، وأحدقت به بنو كلاب فلم يقروا عليه.
ونزل بحصن المعرة، ثم سار منها إلى حلب، ولقيه عسكره بها في أراضي سرمين، فدخل حلب في شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.

نهاية الدزبري
وشرع ثمال بن صالح في جمع عشيرته، وحشد من أجابه من العرب وغيرهم لمنازلة حلب، وطمع في الدزبري. فرأى بنفسه الذل لما لم يكن له طاقة بدفعهم، وزاد هذه وغمه، حتى مرض مرضاً حاداً، ومات بعد ثلاثة أيام، يوم الأحد النصف من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة. ودفن بحلب، ثم نقل منها إلى البيت المقدس، في سنة ثمان وأربعين
وأربعمائة.

ثمال حاكماً في حلب
فدبر البلد بعده مملوكه رضي الدولة بنجوتكين التركي أبو منصور، بقية جمادى الأولى وثمانية وعشرين يوماً من جمادى الآخرة، فوصل معز الدولة أبو علوان ثمال بن صالح بالتوقيع الذي سيره إليه المستنصر، فسلم بنجوتكين وأهل المدينة إليه، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة من سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، بعد

(1/146)


أن نزل إليها ومعه مقلد ابن عمه في جماعة، وقاتلوها أياماً، واستظهر الحلبيون عليهم، فرحلوا إلى ناحية قنسرين.
وجرى بين الحلبيين والمغاربة عربدة، وقتل بينهم جماعة، ونهبت أهراء السلطان، وطلع أصحاب الدزبري إلى القلعة خوفاً على أنفسهم، فلم يمكنهم سبكتكين من دخولها، فنزلوا في القصر تحت القلعة.
واستدعى الحلبيون ثمالاً ومقلداً. فورد مقلد في مقدمته من قنسرين، فتسلمها يوم الإثنين لليلتين بقيتا من جمادى. ووصل ثمال يوم الثلاثاء، فدخلها واجتمع إليه أحداثها. واعتصم سبكتكين بالقلعة شهراً وسلمها إليه.
وقيل: إنه بقي بها إلى النصف من صفر سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، وإذ القلعيين رموا على الحلبيين، وأتوا على عدد كثير منهم، وأصلح الحلبيون المنجنيقات، وقاتلوا بها القصر الذي تحت القلعة، ونقبوه، وخربوا حيطانه مما يلي المدينة مع قطعة من سور المدينة من ناحية باب العراق.
وثبت سبكتكين على الحصار مدة سبعة أشهر، واستنصر الفريقان، ونفد ما مع آل مرداس من المال، ووقع المرض في القلعيين فأفناهم، وأيس الباقون من نفوسهم فجنحوا إلى التسليم واصطلحوا على شروط منها أن لا يعرض لأحد من القلعيين بمساءة، وانتظم الأمر وسلمها سبكتكين بجميع ما فيها بعد أن أخذ لنفسه ثلاثين ألف دينار، ولورثة الدزبري اثنين وثلاثين ألف دينار.
واستقر ملك حلب لمعز الدولة أبي العلوان ثمال بن صالح بن مرداس، ووصله تشريف من المستنصر في سنة ست وثلاثين. ودرت الأرزاق في أيامه على الناس، وأحسن السيرة معهم، وجاد بالعطاء.
وظهر في أيامه ببعلبك رأس يحيى بن زكريا في حجر منقور فنقل إلى حمص ثم إلى حلب، فوضع بمقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم بقلعة حلب في سنة خمس وثلاثين وأربعمائة.

(1/147)


وكان ثمال لما طاول حصار قلعة حلب قد رغب إلى تدورا ملكة الروم، وسير رسولاً يلتمس نصرتها وإعانتها وانتماءه إليها، فرتبت ثمالاً ماخسطرس على حلب، ومقلد ابن عمه بسطرخس، وجعلت له واجب الماخسطرية عن حلب، ورتبت صالح ابن ثمال، ومنيع بن مقلد، ومحمود بن نصر، وعطية وحسناً أخوي ثمال، بطارقة. ورتبت السيدة علوية أم محمود بطريقة، وأطلقت لجماعتهم واجبات هذه المراتب، وسيرت إليهم هدايا كثيرة،
وشرطت على ثمال أن يحمل في كل سنة ما كان يحمله أخوه نصر، على الشروط المشروطة عليه.
وكان المستنصر قد وقع لثمال بحلب على أن يحمل إليه جميع ما بقلعتها من المال على ما ذكرناه فلما استولى ثمال على حلب حمل إلى المستنصر من ذلك مائتي ألف دينار وأفرد برسم عمارة القلعة ومساكنها ومصانعها خمسة وسبعين ألف دينار وإقامة العوض عما استنقد من العدة وهلك من أصحاب الأسلحة باستعمالها والابتذال لها في الحرب ثلاثين ألف دينار، وما أخذه من آلات ذهب وفضة وغيرها خمسة عشر ألف دينار.
فلما علم المستنصر بذلك شق عليه ذلك، ووقعت الوحشة بينه وبين معز الدولة ثمال، فعصى ثمال على المستنصر، فسير المستنصر إليه إلى حلب الأمير ناصر الدولة أبا محمد الحسن بن الحسين بن الحسن بن حمدان، ومعه عبد العزيز ابن حمدان، وشجاع الدولة بن كليد.
وكان ناصر الدولة بن حمدان قد ولي دمشق من قبل المستنصر بعد الدزبري، فوصلوا إلى حلب بعد أن فتحوا حماة ومعرة النعمان، في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، فطاف بحلب ولم ينزل بها فخرج أهل حلب لقتاله، فهزمهم واختنق منهم في الباب على ما يقال سبعة عشر ألف نفس
وعاد ناصر الدوله فنزل بصلدي قرية قريبة من حلب على نهر قويق فجاءهم سيل في الليل لم يسمع بمثله، فغرق أكثر المضارب، وأتلف الرجال، وأهلك

(1/148)


الدواب المشبوحة، فانهزم ناصر الدولة عن حلب إلى دمشق، فقبض عليه الأمير منير الدولة بها، في شهر رجب من سنة أربعين وأربعمائة، وسير إلى مصر. وكان معز الدولة ثمال قد خاف من الحلبيين أن يسلموا البلد إلى أبي محمد بن حمدان حين توجه إلى حلب، فقبض أعيان الحلبيين ومنهم قاضي حلب أبو الحسن بن أبي جرادة واعتقلهم بالقلعة سنة أربعين، فلما كفي أمر ابن حمدان أطلقهم في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة.
وقتل معز الدولة منهم الشريف أبا علي محمد بن محمد صالح المحبره بسعاية ابن الأيسر به، دون الباقين، فإن ابن الأيسر صعد إلى مصر رسولاً فتحقق براءة الباقين من تهمة تتطرق إليهم.
ووصل شجاع الدولة بن كليد والي حمص، في سنة أربعين وأربعمائة عائثاً على بلد حلب، فخرج إليه مقلد بن كامل بن مرداس وأبو الوفاء حفاظ المعري، في جمع من الكلابيين ورجالة الحلبيين والفلاحين، فالتقوا بكفر طاب.
ومضى ابن كليد لينهزم، فلحقته بنو كلاب، فقتل في هذه المرة شجاع
الدولة ابن كليد والي حمص، قتله جعفر بن كامل بن مرداس، وحمل رأسه إلى حلب. وكان المنجم رأى أنه يدخل إلى حلب، فدخلها قطعاً، وانهزمت عساكره.
فسار مقلد بن كامل إلى حماة ففتحها بعد أن قاتل حصنها أياماً، ثم سار إلى حمص ووجد ابن منزو قد أتاها في عسكر من دمشق، فانهزم إلى باطن حمص، وقاتل قتالاً عظيماً فقل عليه الماء، فخرج ابن منزو إليهم بالأمان.

قدوم رفق الخادم ونهايته
ثم إن المستنصر سير الأمير أبا الفضل رفق الخادم في جيش كثيف إلى حلب، في سنة إحدى وأربعين، وقيل سنة اثنتين، ونزل على حلب على مشهد

(1/149)


الجف، فقاتله الحلبيون، فانكسر عليها وجرح وأخذ أسيراً، فمات في قلعة حلب في الأسر.
وسير معز الدولة كل من بقي من أصحابه مأسوراً إلى مصر، ففي ذلك يقول الأمير أبو الفتح بن أبي حصينة:
يارفق رفقاً رب فحل غزه ... ذا المشرب الأهنى وهذا المطعم
حلب هي الدنيا تلذ وطعمها ... طعمان: شهد في المذاق وعلقم
قد رامها صيد الملوك فما انثنوا ... إلا ونار في الحشا تتضرم
وكان رفق لما نزل على حلب داهن عليه العرب الكلبيون، فأشار عليه عسكره أن يرحل عن حلب إلى صلدغ فلم يفعل، فأشير عليه أن يقبض على أمراء طيء وكلب فلم يفعل، فقيل له أن ينشىء سجلاً عن السلطان بأنه قد أقطع الشام لمعز الدولة، ويعود بهيبته فلم يفعل، فلما رآه أمراء العسكر لا يلتفت إليهم، ولا يقبل مشورتهم، ووقع القتال، انهزم العرب فانهزم العسكر معهم، فسير رفق إليهم وأمرهم بالعود يلتفتوا.
وخرج من حلب خيل يسيرة فشاهدوا رحيل العسكر فظنوا أنه حيلة فاتبعوهم، وغنموا منهم. وخرج من بحلب فلحقوا رفق الخادم، في طرف جبل جوشن، وجرح ثلاث جراحات، وأخذ والضرب القوي برأسه، فمات في القلعة ودفن في مشهد الجف. ونهب من العسكر شيء عظيم من الأموال والقماش والدواب.

السيدة والمستنصر
ثم أن معز الدولة ثمالاً استمال المستنصر بعد هذه الوقعة، ولاطفه، وحمل القسط إلى مصر على يد شيخ الدولة علي بن أحمد بن الأيسر، وسير معه ولده وثاب وزوجته علوية بنت دينار، وهدايا، وألطافاً فاخرة، وتحفاً جليلة.
فلما وصلت أكرمها المستنصر غاية الإكرام، وحضرت بين يديه،

(1/150)


فقالت الأرض، وقالت: خصك الله يا أمير المؤمنين بأفضل تحية وسلام. فرد عليها أفضل رد، وسألها عمن خلفته بالشام، فقالت: في نعيم وخير إن أنعمت عليهم بأمان وذمام، حسبما جرت به عادة هذا البيت المنيف من الإحسان والإكرام. فأعجبه منها سرعة جوابها وحسن توصلها، وقال لها: أنت المسماة بالسيدة؟. فقالت: نعم، سيدة قومي وأمتك يا أمير المؤمنين، صلوات الله عليك ". فقال: ما خيب الله من فوض تدبير أمره إليك في هذه الرسالة. ثم أمرها أن تمل على كاتبها تذكرة ليوقع لها بجميع ما تقترحه توقيعاً مفرداً، وتوقيعاً بحلب وسائر أعمالها لمعز الدولة.
وأمر لمعز الدولة بتشريف ولجميع بني عمه، وأفاض عليها ما غمرها وجميع أصحابها وحاشيتها، وعادت بمقصودها.
ولما وردت زوجة معز الدولة إلى حلب سكن معز الدولة إلى ذلك، واطمأن، ونشر العدل، وطابت قلوب الرعية. وولى وزارته في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة رجلاً من أهل الرحبة يقال له أبو الفضل إبراهيم بن عبد الكريم بن الأنباري، ولقبه الثقة الكافي، وكان رجلاً حسن السياسة.

المرداسيون والروم
وسير ثمال شيخ الدولة علي بن أحمد بن الأيسر، في سنة ثلاث وأربعين، رسولاً إلى القسطنطينية بالمال! المقرر عليه في كل سنة، وبهدية
فشاهدوا من سداده وكمال مروءته ما أوجب لهم أن ميزوه عن غيره من الرسل، وأكرموه، وجعلوه بسطرخس في مرتبة مقلد بن كامل، وجعلوا مقلداً ماخسطرس في مرتبة ثمال، وجعلوا ثمالاً ابريدرس، وسيروا إليه هدية سنية عوضاً عن هديته.
ومات قاضي حلب أبو الحسن بن أبي جرادة في سنة خمس وأربعين، فولى القضاء بحلب القاضي أبا محمد كسرى بن عبد الكريم بن كسرى وإليه ينسب آدر بني كسرى بحلب.

(1/151)


في الوزارة
ثم قدم الوزير فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير حلب فاستوزره معز الدولة، وفوض أموره جميعها إليه، فاستقامت، وتضاعف ارتفاعه، وضبط أمواله، فحسد على مكانه، وقربه منه، فسعي به إلى معز الدولة. وكان معز الدولة له وفاء وذمة فنبهه على ما سعي به عليه، فاستأذنه في المفارقة ففسح له في ذلك، فسار من حلب سنة ست وأربعين وأربعمائة، وقصد ابن مروان.
فولى معز الدولة وزارته سديد الدولة أبا القاسم هبة الله بن محمد بن
الرعباني الرحبي إلى أن سلم حلب إلى المستنصر، وسافر ابن الرعباني إلى مصر، فولاه المستنصر وزارة مصر عشرة أيام، ثم عزله، ثم أعاده إلى الولاية فأقام فيها عشرة أيام وانصرف.

خلع الفاطميين
وصلت الخلع والتشريف من مصر لثمال، في محرم سنة سبع وأربعين وأربعمائة، على يدي أبي الغنائم صالح بن علي بن أبي شيبة،، فمدحه أبو القاسم هبة الله بن فارس المؤدب بقصيدة أولها:
لا زال طوعاً لأمرك الأمم ... ولا خلت من ديارك النعم
وتنكر معز الدولة ثمال لثقته وأمينه شيخ الدولة علي بن أحمد بن الأيسر، وقد سعي به، فصرفه عما كان يتولاه من أموره، وأقام مقامه سالماً ومسلماً ابني علي بن تغلب.. واستوحش ابن الأيسر من المقام بحلب خوفاً على نفسه فتسبب في أن سار إلى مصر.
وأرسل ثمال سالماً إلى تدورا الملكة بهدية، والتمس منها الزيادة في مرتبته، فقبلت هديته، وعوضته عنها، وأجابته إلى ملتمسه، وجعلت سالماً بسطرخس عوضاً عن ابن الأيسر.

(1/152)


البساسيري وثمال
واندفع البساسيري المتغلب على بغداد إلى الشام، في سنة سبع وأربعين وأربعمائة، منهزماً من طغرلبك، وحصل في أرض الرحبة، ووصل
في قل من الرجال، فلقيه معز الدولة ثمال وأكرمه وحمل إليه مالاً عظيماً.
وحدث بعض العرب من بني كلاب أنهم لم يروا مثله في الشجاعة والمكر والحيلة، وكان إذا ركب معز الدولة قفز إليه، ليمسك له الركاب، ويصلح ثيابه في السرج، وهمت بنو كلاب بالقبض عليه فمنعهم معز الدولة. ثم ندم بعد ذلك فإنه تقدم إلى بالس، وشتى بشط الفرات، واجتمعت إليه العرب والأتراك، ففزع منه معز الدولة، وكان قد عرض عليه معز الدولة أولاً مفاتيح الرحبة فلم يأخذها منه، ثم طلبها منه في هذه الحالة ليجعل فيها ماله وأهله، في سنة ثمان وأربعين، فسلمها معز الدولة إليه.

خصائل ثمال
وكان معز الدولة كريماً معطاء حليماً. فمما يحكى من كرمه: أن العرب اقترحوا عليه مضيرة، فتقدم إلى وكليه أن يطبخها لهم، وسأله: كم ذبحت لأجلها؟. فقال: سبعمائة وخمسين رأساً. فقال: والله لو أتممتها ألفاً لوهبت لك ألف دينار.
واستغنى أهل حلب في أيامه، حتى أن الأمير أبا الفتح بن أبي حصينة امتدحه بقصيدة، شكا فيها كثرة أولاده، وكان له أربعة عشر ولداً، قال فيها:
جنيت على نفسي بنفسي جناية ... فأثقلت ظهري بالذي شب من ظهري
عداد الثريا مثل نصف عدادهم ... ومن نسله ضعف الثريا متى يثري
وأخشى الليالي الغادرات عليهم ... لأن الليالي غير مأمونة الغدر
ولي منك إقطاع قديم وحادث ... تقلبت فيه تحت ظلك من عمري
وما أنا بالممنوع منه ولا الذي ... أخاف عليه منك حادثة تجري
ولكنني أبغيه ملكاً مخلداً ... خلود القوافي الباقيات على الدهر

(1/153)


فأمر معز الدولة بإحضار شهود، أشهدهم بتمليكه ضيعتين من أعمال حلب ومنبج، مضافتين إلى ما كان له من الإقطاع، فاثرى وحسنت حاله، وعمر بحلب داراً وكتب على روشنها:
دار بنيناها وعشنا بها ... في نعمة من آل مرداس
قوم محوا بؤسي ولم يتركوا ... علي للأيام من باس
قل لبني الدنيا إلا هكذا ... فليفعل الناس مع الناس
فكتب معز الدولة له داراً إلى جانب داره، وهي الآن لبعض السراف بحلب بالبلاط، تجاه المسجد، والدار التي بناها إلى جانبها مقابل حمام الواساني.
ومما يحكى عن معز الدولة: أن فراشاً من جملة الحفدة، صب يوماً من الأيام على يده ماء بإبريق كان في يده، فصادفت أنبوبة الإبريق بعض ثنيته،
فكسرتها وسقطت في الطست، فهم به الغلمان فمنعهم، وأمر برفعها، وعما عنه، فقال ابن أبي حصينة:
حليم عن جرائمنا إليه ... وحتى عن ثنيته انقلاعا
ولما اتسع الرزق على معز الدولة، ولم يبق له عدو يقصده، اضطرب عليه بنو كلاب، وامتدت أعينهم إلى ما في يده، واستقلوا ما كان يصل منه إليهم، وأكثروا في العنت له، وقالوا: لولانا ما صرت إلى ما صرت إليه، وما أنت بأحق منا بذلك، فينبغي أن تفرضه على جميعنا.
وأوجب الزيادة في ذلك أن معز الدولة في سنة تسع وأربعين، سلم الرقة والرافقة إلى منيع بن شبيب بن وثاب النميري، لأئها كانت لأبيه وكانت عمته السيدة زوجة معز الدولة وكانت قبله عند أخيه شبل الدولة، فولدت له محمود بن نصر وهي التي أخذتها من غلمان أبيها، على ما ذكرناه، فأعادها إلى منيع، فكثر اشتطاط بني كلاب وفسادهم.

تسليمه حلب وخروجه إلى مصر
فكاتب معز الدولة المستنصر في تسليم حلب إليه، وطلب أن يعوضه عنها أماكن تبعد عن مواطن الكلبيين، ليأمن شرهم وتزول منتهم عنه، فأجابه المستنصر

(1/154)


إلى ذلك، وعوضه عنها بيروت، وعكا، وجبيل.
وأنفذ المستنصر نوابه فتسلموها منه، وهم: مكين الدولة أبو علي
الحسن ابن علي بن ملهم بن دينار العقيلي، وعين الدولة أبو الحسن علي بن عقيل، والقاضي أبو محمد عبد الله بن عياض قاضي صور، تسلموا البلد والقلعه، في ذي القعدة من سنة ثمان وأربعين وأربعمائة.
وقد كان أبو علي بن ملهم مقيماً برفنية، فقلد الحرب والخراج بحلب. وفي الليلة التي سلمها معز الدولة إليهم احترق المركز الشرقي بالقلعة، وولوا في قلعة حلب رجلاً يعرف بركن الدولة.
وصعد معز الدولة مع عين الدولة وقاضي صور إلى مصر، فلقي من المستنصر من الكرامة والحباء ما لم يلقه وافد منه ولا من آبائه، وجعل له كل يوم، إلى أن وصل إلى مصر، ثلاثمائة دينار، وأعطي ما لم يعط أحد من المال والجوهر والآلة، وكان إذا ركب السلطان حجبه، وكان ذنب دابته عند رأس دابة السلطان.
واعتل معز الدولة بمصر، فركب السلطان، فوقف بباب داره حتى خرج إليه وسأله عن حاله.

حكم ابن ملهم
وأما ابن ملهم فإنه أقام بحلب، وعدل في الرعية، وأحسن السيرة، وبسط وجهه ويده لهم، ورخصت الأسعار في أيامه، وبنى كثيراً من أبرجة سور حلب، إلى أن تجمعت بنو كلاب وامتدت أطماعهم إلى حلب. وذلك أن البساسيري كان من المنتمين إلى المصريين، ودعا لهم ببغداد، في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة فعاد السلطان طغرلبك، وجمع جموعاً عظيمة، ولقي البساسيري

(1/155)


فقتله، وكانت الرحبة في يده على ما ذكرناه.
فسار الأمير أسد الدولة أبو ذؤابة عطية بن صالح إلى الرحبة، فأخذ ما تركه البساسيري بها، من السلاح الذي لم ير مثله، كثرة وجودة، وأموالاً جزيلة كانت للبساسيري، ثم ولى فيها بعض أصحابه.

حلب بين محمود بن نصر وناصر الدولة
فطمع بنو كلاب حينئذ في حلب، وقوي جأشهم، وقدموا عليهم
الأمير محمود بن نصر بن صالح، لأن حلب كانت لأبيه شبل الدولة، فسار إليها محمود ببني كلاب، في جمادى الأولى سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، ونزل عليها، وقاتلها، وأقام عليها سبعة أيام، ومعه منيع بن مقلد بن كامل، ثم رحل عنها. فطلب الأحداث من مكين الدولة مالاً ينفقه فيهم، فقال: " قد أخذتم واجبكم المقرر على الكمال، وتسلمتم أيضاً فلا تطمعوا في وصول شيء آخر إليكم. فعصى أحداث حلب عليه، وغدروا به، وأنفذوا إلى محمود بن نصر بن صالح فردوه.
فلما قرب منهم محمود، وثب أهل حلب على مدار الشريف القاضي معتمد الدولة يحيى بن يزيد الحسيني الزيدي، وكان قاضي الشام، وعلى دار رجل يعرف بالطهير جلال الدولة، وكانا مكرمين لأهل حلب فنهبوا داريهما، وأخرجوهما راجلين، حفاة، مكشفي الرؤوس إلى الضياع العربية، وكان من جملتهم: كندي، وابن الزغري، وابن عنتر، وابن الناقد.
ووصل محمود ببني كلاب، فسلموا إليه حلب يوم الإثنين مستهل جمادى

(1/156)


الآحزة سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وانحاز مكين الدولة بن ملهم
إلى القلعة، وتحصن بها، وأنفذ إلى مصر رسولاً فطلب النجدة والإعانة، فوصل الأمير ناصر الدولة أبو علي الحسين ابن الأمير ناصر الدولة الحسن بن الحسين بن حمدان وهو ولد ناصر الدولة الذي نازل حلب أولاً في أيام معز الدولة وقدم في عسكر ضخم في جيوش المغاربة، حتى نزل حمص لنصرة أصحاب القلعة، فسارت إليه بنو كلاب وبنو خفاجة، وكانوا جيراناً لهم بالطعن، في خلق كبير.
فرجع ناصر الدولة بن حمدان إلى بعلبك، وهمت بنو كلاب باتباعه، فأبى عليهم أسد الدولة أبو ذؤابة عطية بن صالح بن مرداس، وانحاز عنهم فافترقوا، ورجعوا إلى قنسرين.
وأقبل ناصر الدولة حتى نزل أفامية، واستدعى من قدر عليه من بني كلاب، واستحلفهم أربعين يميناً، وخلع عليهم خلعاً فاخرة، وسار بعد أن استوثق منهم، فلما وصل إلى سرمين أجفلت بنو كلاب ومحمود إلى الشرق، وأجفل أحداث حلب منها وحصلوا مع بني كلاب، وذلك ليلة الإثنين السابع من رجب من السنة.
ونزل مكين الدولة بن ملهم وأصحابه من القلعة، فنهبوا المدينة. وقتلوا من وجدوا من أحداثها، وعدتهم أربعون رجلاً، وصلبوا في محال حلب جماعة من القتلى، ونهبوا كل موضع جليل يعرفونه بالمدينة، وقياسر الوكلاء، وأموال التجار، وغير ذلك.
ووصل ناصر الدولة أبو علي الحسين فنزل حلب، وأراد أن ينهبها، فقيل
له: إن أصحاب مكين الدولة قد سبقوك، ولم يبق لك ولأصحابك إلا الإسم بلا فائدة فامتنع من النهب. وقال: لا بد من أهل المدينة أن يقسطوا لي خمسين ألف دينار، عوضاً عن ترحيل محمود عنهم، فبذلوا له خدمة فلم يفعل، وقال: أنا أمضي

(1/157)


إلى الفنيدق وأقابل محموداً على فعله، وأعود أنتقم من الحلبيين.
فسار عن حلب في مقدار خمسة عشر ألف فارس، ومحمود في دون الألفين، ونزلوا على الفنيدق وهو المعروف الآن بتل السلطان، وانهزمت بنو كلب وبنو طيء، وبقي العسكر وحده، وقل الماء عليهم، فكسروا. وأسر الدنين بن أبي كلب الجهبلي الكلابي ناصر الدولة، وأمكنته الهزيمة فلم ير على نفسه أن يولي، وأسر كل مقدم كان في عسكره.
وقتلت بنو كلاب أكثر عسكره، وغنموا كل ما كان في العسكر، ولم يسلم منهم إنسان بالجملة إلا عارياً.
وبعد ذلك علم محمود بن نصر بن صالح بأسر الأمير ناصر الدولة، فاشتراه من الدنين بألفين وسبعمائة دينار، وقيل: بأقل من ذلك.
وأسر رجل يقال له جبر من بني كلاب أخا ناصر الدولة، فاشتري
أيضاً بمال كثير، وكانت الكسرة في يوم الأربعاء سلخ شهر رجب سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة.

حلب بين عطية بن صالح ومحمود بن نصر
ووصل وقت الكسرة أسد الدولة أبو ذؤابة عطية بن صالح بن مرداس إلى حلب، وتسلم المدينة من المغاربة، يوم الخميس، ودار فيها ساعة، ونزل عند شافع ابن عجل بن الصوفي في داره، التي هي الآن مدرسة القاضي بهاء الدين بن شداد. وقيل: إن ملهم استدعاه، وسلم المدينة، وفرج الله عن أهل حلب. وقدم الأمير محمود بن نصر إلى المدينة، فانهزم عطية منه آخر النهار من يوم الخميس مستهل شعبان، وتسلم محمود البلد يوم الجمعة الثاني من شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وهذا من أغرب الإتفاقات أن يملك حلب ثلاثة من الملوك وفي تلاثة أيام متتابعة.

(1/158)


وأيس مكين الدولة بن ملهم وركن الدولة والي القلعة، من حلب ومن نجدة تصل إليهما من مصر بعد هذه الكسرة فأنفذا من استحلف محمود بن
نصر على شروط اشترطاها عليه، وسلما إليه القلعة في عاشر شعبان من هذه السنة، بعد أخذا أولاد بني كلاب: ولد محمود بن نصر، وولد شبل بن جامع، وولد محمود زائدة، وولد منصور بن زغيب، وجعلاهم في حصن أفامية رهينة على أنفسهما وعسكرهما وأموالهما ثم سيرهم مع الأمراء في الروج إلى أفامية سالمين، وأخذ أولادهم الرهائن ورجعوا إلى حلب.
وأما ناصر الدولة، فبقي في أسر محمود إلى أن قدم البلد عمه معز الدولة فاصطنعه منيع بن وثاب، وخلى سبيله في سنة ثلاث وخمسين.
وسير محمود كل من كان في أسره من الأمراء والقواد إلى مصر، بعد أن أحسن إليهم، وشلت يد ناصر الدولة في وقعة الفنيدق، فلما وصل إلى مصر ولاه المستنصر دمشق، فقال أبو الحسن علي بن عبد العزيز الحلبي الفكيك فيه:
على حلب به حلبت دماء ... وحكم فيكم الرمح الأصم
وقد أرسلته والي دمشق ... يد شلا وأمر لايتم
وفي ذلك يقول أبو نصر منصور بن تميم بن الزنكل السرميني من قصيدة يذكر فيها مآثر بني كلاب:
أليس هم ردوا ابن حمدان عنوة ... على عقبه لا يتقون العواقبا
أليس ابنه يوم الفنيدق قاده ... دنين أبي كلب وعراه سالبا

ثمال في حلب
ولما أخذ محمود حلب من ابن ملهم، كان عمه معز الدولة بمصر، فصرفه المستنمر عن عكا وبيروت وجبيل، وقال له: إن هذه الأماكن
أخذتها عوضاً عن حلب، وقد عادت إلى ابن أخيك، فتمضي إلى حلب وتستعيدها منه، فقال: إن نوابكم فرطوا فأعينوني بمال فأعانوه على ذلك بمال، وسيروه، وقرروا ألقابه الأجل، الأعز، تاج الأمراء، عماد الملك، سيف الخلافة، عضد الإمامة، بهاء الدولة العلوية، وزعيم جيوشها المستنصرية، علم الدين ذو الفخرين مصطفى أمير المؤمنين.
فعاد معز الدولة إلى حلب وجمع قوماً من عشيرته بعد أن كاتبهم حين وصل إلى حمص فأجابوه ولقيه أكثرهم بحمص وبعضهم بحماة فلما نزل معرة

(1/159)


النعمان، أقام بها ثمانية أيام، وضيق العرب على الناس، وكان ذلك في قوة الشتاء، فنزلوا منازل الناس.
وسير محمود الشيخ أبا محمد عبد الله بن محمد الخفاجي رسولاً إلى ملك الروم، يستنجده على عمه وبقي عندهم إلى أن ملك ثمال حلب، وكتب الخفاجي إلى حلب القصيدة المشهورة:
هذا كتابي عن كمال سلامة
ورحل ثمال، فنزل حلب محاصراً لابن أخيه محمود، فأغلق محمود باب حلب في وجهه، وعمل قوم من الأحداث، وفتحوا لمعز الدولة باب قنسرين.
ودخل أصحابه إلى أن وصلوا درب البنات، فنزل محمود من القلعة،
وعاد أخرجهم ولم يقتل منهم واحد، وقبض على من كان سبب ذلك من الأحداث وهم: ابن حيون، وابن المغازلي، وذلك في ذي الحجة من سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. ووصل منيع بن شبيب بن وثاب إلى حلب لنصرة محمود ببني نمير، وحصل مع محمود بالقلعة، فرحل معز الدولة عن حلب، ونزل منيع ببني نمير مدة عشرين يوماً في ضيافة محمود، وأشار على محمود باطلاق ناصر الدولة بن حمدان ففعل، وخلع عليه، وقاد خيلاً كثيرة إليه، وسيره إلى مصر.
وسار محمود إلى الحانوتة ليجمع العرب على عمه، فعاد معز الدول ثاني يوم مسيره، ونزل على حلب، ثم رحل طالباً لمحمود فلقيه، وكسره، وانهزم محمود، ودخل حلب في ثلاث فوارس آخر صفرة وأسر معز الدولة أكثر عسكره، والأحداث الذين كانوا معه، وهم: كندي، وصبح، وابن الأقراصي، والشطيطي، واللباد. واستأمن منهم صبح إلى القلعة، فحبسه نائب محمود، وقيده خيفة من حيلة تتم عليه.
وقصد محمود حسام الدولة منيع بن مقلد، وقال له: " أنت كنت مساعدي ومعاضدي في كسر العسكر المصري الواصل مع ناصر الدولة وأوثر أيضاً أن تساعدني على عمي. فاستمهله إلى غد ذلك اليوم، ورحل في الليل
طالباً معز الدولة، وقال لنائبه: " تقول لمحمود: عمك هو الشيخ الكبير، والعرب تأنف من

(1/160)


معاضدة الولد على الوالد، بل أنا برحيلي أصلح الأمر بينكما إن شاء الله.
فأمر محمود كاتبه أبا العلاء صاعد بن عيسى بن سمان النصراني بأن يعمل شعراً، يذكره فيه بعهده، ويعتب عليه في أطراح وده، فكتب إليه:
ألا أيها الساري تخب برحله ... قصيرة فضل النسغين إذا تسري
تحمل هداك الله عني رسالة ... إذا بلغت يوماً شفيت بها صدري
إلى معشر إن تنح نحوي سهامهم ... فأخطأ منها ما توغل في صدري
وخص حسام الدولة بن مقلد ... أخا الغارة الشغواء والكرم الدثر
ومن علقت كفاي حبل وداده ... وما خلت أن تغتاله نوب الدهر
تذكر هداك الله يوماً أظلنا ... به الموت في ظل الردينية السمر
لقد غالني في ودك الدهر بعد ما ... غدوت أراه وهو من أنفس الذخر
وحاشا لذاك العهد من بعد ما غدا ... نقي الحواشي أن يدنس بالغدر
وأنت من القوم الذي نفوسهم ... ترى الغدر بالإخوان ضرباً من الكفر
سأصفيك ما صافيت يوماً بحفظه ... وآمل إن ضيعتني عاجل النصر
وأنت عليم أئني غير جازع ... إذا ما رماني الدهر بالنوب الغبر
وإني إذا ما يدج ليل خطوبها ... أصدعه بالسيف عن فلق الفجر
وما الموت إلا خطة حم وقتها ... وأكرمها ما كان في طلب الفخر
أبي الله والأصل الذي طاب فرعه ... إلى اليوم إعطاء القياد على قسر
وأخسر من تلقاه في الناس صفقة ... فتى عند مجد لا يريش ولا يبري
فلا تحتقر ذنباً جنيت على الوفا ... ولا تعتذر ومنه فما لك من عذر
فقال منيع بن مقلد وأبو العلوان ثمال لما وصلت هذه القصيدة: من أن لمحمود هذه الفصاحة؟ ومن له بالشعر؟.. فقيل: " إن هذا شعر أبي العلاء بن سمان النصراني. فقال منيع بن المقلد: لقد ألبسني هذا النصراني من العار طوقاً لا يبلى، ولئن عشت لأقابلنه بما يكون له أهلاً.

وساطة ومصالحة
وترددت الرسل بين ثمال ومحمود، في تسليم حلب، وتوسط بينهما مشايخ

(1/161)


العشيرة، وقالوا: هذا بمنزلة والدك، فتأخذ من الأعمال ما شئت. فأجابهم محمود: بأن هذا صحيح، ولكنه ضيع مملكتنا وإرثنا، وقد استعدتها بسيفي، وبذلت فيها مهجتي. فاعترف له معز الدولة بذلك، وضمن له معيشة بخمسين ألف دينار، وثلاثين ألف مكوك غلة. وشهد مشايخ العشيرة بها.
وعاد محمود إلى حلب في آخر ربيع الأول وقد استقر الصلح بينهما يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. وفتحت أبواب البلد عند دخوله، ثم خرج إلى عمله إلى المخيم، واستركبه يوم الإثنين مستهل ربيع الآخر من سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، وداخله القلعة، وسلمها إليه، وسار محمود ليحضر أهله من الحلة.
ولما استقر معز الدولة بالقلعة، نفى من الحلبين الأحداث العتق جماعة، وصلب منهم خمسة عشر رجلاً. وكاتب المستنصر بظفره بحلب، فسير إليه الخلع مع ظفر المستفادي، ولأخيه ولأولاده، ولحسام الدولة منيع بن مقلد. ولما وصل ظفر رأى المصلبين من الأحداث فسأل فيهم فدفنوا.
ولما ملك معز الدولة حلب جاء أبو العلاء بن سمان ليسلم عليه، فحمل عليه ليطعنه، فطرح نفسه من بغلته، وغيب شخصه عنه، وسار إلى أنطاكية، وصار بها أسقفاً إلى أن مات.
وفسد ما بين منيع بن وثاب وبين ثمال. وكان منيع بالرحبة، فسير ثمال أخاه أسد الدولة عطية بن صالح، في شعبان من سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، لدفع منيع عنها، فأخذها عطية، وأقام بها، وعصى على أخيه ثمال، وعاد محمود إلى حلب من الحلة بأمه السيدة، واجتمع بعمه معز الدولة، وسارت السيدة، وأصلحت ما بين أخيها منيع وبين زوجها معز الدولة.

حرب الروم
وفي المحرم من سنة أربع وخمسين وأربعمائة، عمر الروم حصن قسطون

(1/162)


وحصن عين التمر، فسار معز الدولة في جمادى الأولى لغزوهم،
ففتح حصن أرتاح، فراسلوه في الصلح، فأرسل إليهم شافع بن الصوفي يقول: لا أجيب إلى الصلح إلا على أن تهدموا الحصنين المجددين، وأن يكون ليلون للمسلمين، لا علقة لهم فيه، ويحملون عن حصن أرتاح مالاً ويرده عليهم. فضمنوا ذلك.
فرحل في الثاني من جمادى الآخرة، ودخل إلى حلب، ولم يف الروم إلا بعض ما ضمنوا له من الشروط.
وبلغ معز الدولة أن قوماً من أحداث حلب مضوا إلى أنطاكية، وتحدثوا مع واليها في تسليم معرة مصرين، والتدرج منها إلى غيرها، وقالوا له: " حزبنا في حلب وأصحابنا تحت أوامرنا. فلما صح عند معز الدولة ذلك، طلبهم وأحضر منهم قوماً وقتلهم. وهم: ابن أبي الريحان، وابن نطر، وابن الشاكري، وبهلول، وصلبهم، وترك باقيهم، وذلك في شهر رمضان من سنة أربع وخمسين.
وكبس الروم في شوال مريمين العقبة، وأحرقوها، ونهبوها، وأدركهم الأمير منصور بن جابر، والأمير حارثة بن عبد الله، وظفروا بالروم على كثرتهم وقلة المسلمين، فقتلوا من الروم مقدار آلف وخمسمائة.
وسار معز الذولة، في العشر الثاني من شوال، للغزو فنزل قيبار، وفتحها، ونهبها، وقتل الرجال، وسبى النساء والصبيان.
ثم مرض معز الدولة في العشر الأول من ذي القعدة، من سنة أربع وخمسين وأربعمائة، واضطرب البلد، فبلغه ذلك، فاستدعى أخاه أبا ذؤابة عطية بن صالح، ووصى له بحلب، وولاه الأمر.
وتوفي يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة سنة أربع وخمسين وأربعمائة ودفن في مقام إبراهيم الفوقاني بالقلعة، داخل الباب الغربي، وعمل عليه ضريح، وبقي إلى أيام الملك رضوان، وقلع وبلط عليه.

(1/163)