زبدة الحلب في تاريخ حلب
القسم التاسع عشر
حلب وابنا رضوان
ألب أرسلان وسلطان شاه
ألب أرسلان من أخويه إلى الباطنية
وملك حلب بعده ابنه ألب أرسلان، ويعرف بالأخرس، وعمره ست عشرة سنة.
وأمه بنت يغي سيان صاحب أنطاكية، وكان في كلامه حبسة وتمتمة، لذلك عرف
بالأخرس، وكان متهوراً قليل العقل، ووضع عن أهل حلب ما كان والده جدده
عليهم من الرسوم والمكوس.
وقبض على أخويه ملك شاه ومبارك، وكان مبارك من جارية وملك
شاه من أمه، فقتلهما. وكذلك فعل أبوه رضوان بأخويه، فانظر إلى هذه
المقابلة العجيبة. وقبض جماعة من خواص والده فقتل بعضهم، وأخذ أموال
الآخرين.
وكان المتولي لتدبير أموره خادم لأبيه يقال له لؤلؤ اليايا، وهو الذي
أنشأ خانكاه البلاط بحلب. وكان قبل وصوله إلى رضوان خادماً لتاج
الروساء ابن الخلال، فدبر أسوأ تدبير مع سوء تدبيره في نفسه.
وكان أمر الباطنية قد قوي بحلب في أيام أبيه، وتابعهم خلق كثير على
مذهبهم طلباً لجاههم، وصار كل من أراد أن يحمي نفسه من قتل أو ضيم
التجأ إليهم.
(1/259)
وكان حسام الدين بن دملاج وقت وفاة رضوان
بحلب، فصاروا معه، وصار إبراهيم العجمي الداعي من نوابه في حفظ المليحة
بظاهر بالس.
فكتب السلطان محمد بن ملك شاه إلى ألب أرسلان وقال له: كان والدك
يخالفني في الباطنية، وأنت ولدي فأحب أن تقتلهم ".
وشرع الرئيس ابن بديع متقدم الأحداث في الحديث مع ألب أرسلان في أمرهم،
وقرر الأمر معه على الإيقاع بهم، والنكاية فيهم، فساعده على ذلك.
فقبض على أبي طاهر الصائغ وقتله، وقتل إسماعيل الداعي وأخا الحكيم
المنجم والأعيان من أهل هذا المذهب بحلب، وقبض على زهاء مائتي نفس
منهم.
وحبس بعضهم واستصفى أموالهم، وشفع في بعضهبم فمنهم من أطلق ومنهم من
رمي من أعلى القلعة، ومنهم من قتل. وأفلت جماعة منهم فتفرقوا في
البلاد، وهرب إبراهيم الداعي من القليعة إلى شيزر، وخرج حسام الدولة بن
دملاج عند القبض عليهم فمات في الرقة، وطلب الفرنج من ألب أرسلان
المقاطعة التي لهم بحلب، فدفعها إليهم من ماله ولم يكلف أحداً من أهل
حلب شيئاً منها.
ألب أرسلان وطغتكين
ثم إن ألب أرسلان رأى أن المملكة تحتاج إلى من يدبرها أحسن تدبير،
وأشار خدمه وأصحابه عليه بأن كاتب أتابك طغتكين أمير دمشق، ورغب في
استعطافه، وسأله الوصول إليه ليدبر حلب والعسكر، وينظر في مصالح دولته،
فأجابه إلى ذلك، ورأى موافقته لكونه صبياً لا يخافه الكفار ولا رأي له،
فدعا له على منبر دمشق بعد الدعوة للسلطان وضربت السكة باسمه، وذلك في
شهر رمضان.
وأوجبت الصورة أن خرج ألب أرسلان بنفسه في خواصه، وقصد أتابك إلى
(1/260)
دمشق ليجتمع معه، ويوكد الأمر بينه وبينه،
فلقيه أتابك على مرحلتين، وأكرمه ووصل معه وأنزله بقلعة دمشق.
وبالغ في إكرامه وخدمته والوقوف على رأسه. وحمل إليه دست ذهب
وطيراً مرصعاً وعدة قطع ثمينة، وعدة من الخيل، وأكرم من كان في صحبته.
وأقام بدمشق أياماً وسار في أول شوال عائداً إلى حلب، ومعه أتابك
وعسكره، فأقام عنده أياماً واستخلص كمشتكين البعلبكي مقدم عسكره، وكان
قد أشار عليه بعض أصحابه بقبضه، وقبض جماعة من أعيان عسكره وقبض الوزير
أبي الفضل بن الموصول ففعل ذلك، فاستوهب أتابك منه كمشتكين فوهبه إياه.
وقبض على رئيس حلب صاعد بن بديع، وكان وجيهاً عند أبيه رضوان، فصادره
بعد التضييق عليه حتى ضرب نفسه في السجن بسكين ليقتل نفسه، ثم أطلقه
بعد أن قرر عليه مالاً، وأخرجه وأهله من حلب، فتوجه إلى مالك بن سالم
إلى قلعة جعبر.
رئاسة حلب وأمرها ومقتل ألب أرسلان
وسلم رئاسة حلب إلى إبراهيم الفراتي فتمكن ولقب ونوه باسمه، وإليه تنسب
عرصة ابن الفراتي بالقرب من باب العراق بحلب. ثم رأى أتابك من سوء
السيرة وفساد التدبير مع التقصير في حقه والإعراض عن مشورته ما أنكره،
فعاد من حلب إلى دمشق، وخرجت معه أم الملك رضوان هرباً منه.
وساءت سيرة ألب أرسلان، وانهمك في المعاصي واغتصاب الحرم
والقتل. وبلغنا أنه خرج يوماً إلى عين المباركة متنزهاً، وأخذ معه
أربعين جارية، ونصب خيمة، ووطئهن كلهن.
واستولى لؤلؤ اليايا على الأمر، فصادر جماعة من المتصرفين، وأعاد
الوزارة إلى أبي الفضل بن الموصول. وجمع ألب أرسلان جماعة من الأمراء،
وأدخلهم إلى موضع بالقلعة شبيه بالسرداب لينظروه، فلما دخلوا إليه قال
لهم. ايش تقولون
(1/261)
في من يضرب رقابكم كلكم ههنا. فقالوا: "
نحن مماليكك وبحكمك ". وأخذوا ذلك منه بطريق المزاح، وتضرعوا له حتى
أخرجهم.
وكان فيهم مالك بن سالم صاحب قلعة جعبر فلما نزل سار عن حلب وتركها
خوفاً على نفسه.
وخاف منه لؤلؤ اليايا فقتله بفراشه بالمركز بقلعة حلب، في شهر ربيع
الآخر من سنة ثمان وخمسمائة، وساعده على ذلك قراجا التركي وغيره.
سلطان شاه
ولزم لؤلؤ اليايا قلعة حلب وشمس الخواص في العسكر، ونصب لؤلؤ أخاً له
صغيراً عمره ست سنين، واسمه سلطان شاه بن رضوان، وتولى لؤلؤ تدبير
مملكته، وجرى على قاعدته في سوء التدبير.
وكاتب لؤلؤ ومقدمو حلب أتابك طغتكين وغيره يستدعونهم إلى حلب لدفع
الفرنج عنهاً فلم يجب أحد منهم إلى ذلك.
ومن العجائب أن يخطب الملوك لحلب فلا يوجد من يرغب فيها، ولا يمكنه ذب
الفرنج عنها، وكان السبب في ذلك أن المقدمين كانوا يريدون بقاء الفرنج
ليثبت عليهم ما هم فيه.
وقل الربيع ببلد حلب لاستيلاء الفرنج على أكثر بلدها والخوف على باقيه،
وقلت الأموال واحتيج إليها لصرفها إلى الجند، فباع لؤلؤ قرى كثيرة من
بلد حلب، وكان المتولي بيعها القاضي أبا غانم محمد بن هبة الله بن أبي
جرادة قاضي حلب، ولولو يتولى صرف أثمانها في مصالح القلعة والجند
والبلد.
حلب بين لؤلؤ والزلازل
وقبض لؤلؤ على الوزير أبي الفضل بن الموصول، واستأصل ماله، وسار إلى
القلعة فأقام عند مالك بن سالم، واستوزر أبا الرجاء بن السرطان الرحبي
مدة، ثم صادره وضربه، وطلب أبا الفضل بن الموصول فأعاده إلى الوزارة
بحلب.
(1/262)
وجاءت زلزلة عظيمة ليلة الأحد ثامن وعشرين
من جمادى الآخرة من سنة ثمان بحلب وحران وأنطاكية ومرعش والثغور
الشامية، وسقط برج باب أنطاكية الشمالي وبعض دور العقبة وقتلت جماعة.
وخربت قلعة عزاز، وهرب واليها إلى حلب، وكان بينه وبين لؤلؤ مواحشة،
فحين وصل إلى حلب قتله وأنفذ إليها من تداركها بالعمارة والترميم، وخرب
شيء يسير في قلعة حلب، وخرب أكثر قلعة الأثارب وززدنا.
وقيل: إن مؤذن مسجد عزاز كان حارساً بالقلعة، فحرس ونام على برج المسجد
بالقلعة، فلما جاءت الزلزلة ألقته على كتف الخندق وهو نائم لم يعلم
بها، فاجتاز به جماعة فظنوه ميتاً، فأخذوا عنه اللحاف فانتبه وسألهم
فأخبروه بما جرى. وصار شمس الخواص مقدم عسكر حلب، ومتولي أقطاع الجند،
وكانت سيرته إذ ذاك صالحة، وكان لؤلؤ في أول أمره مقيماً بقلعة حلب لا
ينزل منها ويدبر الأمور، فكتب إلى السلطان على سبيل المغالطة يبذل له
تسليم حلب والخزائن التي خلفها رضوان وولده ألب أرسلان، ويطلب إنفاذ
العساكر إليه.
فوصل برسق بن برسق مقدم الجيوش وبكربسن وغيرهم من أمراء السلطان في سنة
تسع وخمسمائة، فتغيرت نية لؤلؤ الخادم عما كان كتب به إلى السلطان،
وكتب إلى أتابك طغتكين يستصرخه ويستجده، ووعده تسليم حلب إليه، وأن
يعوضه طغتكين من أعمال دمشق، فبادر إلى ذلك.
ووصل حلب، والعساكر السلطانية ببالس متوجهين إلى حلب فرحلوا
منها إلى المعرة، ووصلهم الخبر أن ذلك اليوم وصل أتابك إلى حلب فأعرضوا
عن حلب، وساروا إلى حماة فتسلموها.
وتسلموا رفنية من أولاد علي كرد، وسلموها إلى خير خان بن قراجا،
(1/263)
فخاف طغتكين من عساكر السلطان أن يقصد
دمشق، فأخذ عسكر حلب، وشمس الخواص، وإيلغازي بن أرتق، واستنجد بصاحب
أنطاكية روجار وغيره من ملوك الفرنج ونزلوا أجمعين أفامية.
خسارة المسلمين أمام الفرنج
ونزلت العساكر السلطانية أرض شيزر، وجعل أتابك يريث الفرنج عن اللقاء
خوفاً من الفرنج أن يكسروا العساكر السلطانية فيأخذوا الشام جميعه، أو
ينكسروا فتستولي العساكر السلطانية على ما في يده.
وخاف الفرنج وضاقت صدور أمراء عسكر السلطان من المصابرة، فرحلوا ونزلوا
حصن الأكراد وأشرف على الأخذ، فاتفق أتابك والفرنج على عود كل قوم إلى
بلادهم، ففعلوا ذلك.
وتوجه أتابك إلى دمشق، وعاد عسكر حلب وشمس الخواص إلى حلب، فقبض عليه
لؤلؤ الخادم واعتقله فعادت عساكر السلطان حينئذ عن حصن الأكراد، وساروا
إلى كفر طاب، وحصروا حصناً كان الفرنج عمروه بجامعها وأحكموه، فأخذوه
وقتلوا من فيه، ورحلوا إلى معرة النعمان.
وأمن الترك وانتشروا في أعمال المعرة واشتغلوا بالشرب والنهب ووقع
التحاسد فيما بينهم، ووصل رسول من بزاعا من جهة شمس الخواص يستدعيهم
لتسليم بزاعا، ويقول إن شمس الخواص مقبوض عليه عند لؤلؤ الخادم، ولؤلؤ
يكشف أخبار العساكر ويطالع بها الفرنج. ورحل برسق وجامدار صاحب الرحبة
نحو دانيث يطلبون حلب، فنزل جامدار في بعض الضياع.
ووصل برسق بالعسكر إلى دانيث بكرة الثلاثاء العشرين من شهر ربيع الآخر،
والفرنج يعرفون أخبارهم ساعة فساعة، فوصلهم الفرنج، وقصدوا العسكر
(1/264)
من ناحية جبل السماق، والعسكر على الحال
التى ذكرناها من الانتشار والتفرق، فلم يكن لهم بالفرنج طاقة، فانهزموا
من دانيث إلى تل السلطان.
واستتر قوم في الضياع من العسكر فنهبهم الفلاحون وأطلقوهم، وغنم أهل
الضياع مما طرحوه وقت هزيمتهم ما يفوت الإحصاء، وأخذ الكفار من هذا ما
يفوت الوصف، وغنموا من الكراع والسلاح والخيام والدواب وأصناف الآلات
والأمتعة ما لا يحصى، ولم يقتل مقدم ولا مذكور.
وقتل من المسلمين نحو خمسمائة وأسر نحوها واجتمع العسكر على تل
السلطان، ورحلوا إلى النقرة مخذولين مختلفين، ونزلوا النقرة، وكان
أونبا قد طلع أصحابه إلى حصن بزاعا، وكان قد تقدم العسكر إليها، فلما
بلغهم ذلك نزلوا ووصلوا إلى العسكر.
وتوجهت العساكر إلى السلطان وإلى بلادهم، ووصل طغتكين من دمشق فتسلم
رفنية فمن كانوا بها، وأطلق لؤلؤ شمس الخواص من الاعتقال، وسلم إليه ما
كان أقطعه من بزاعا وغيرها، فوصل إلى طغتكين فرد عليه رفنية، وعاد إلى
دمشق واستصحبه معه.
نهاية لؤلؤ الخادم
وأما لؤلؤ الخادم فأنه صار بعد ملازمة القلعة ينزل منها في الأحيان
ويركب، فاتفق أنه خرج في سنة عشر وخمسمائة بعسكر حلب والكتاب إلى بالس،
وهو في صورة متصيد، فلما وصل إلى تحت قلعة نادر قتله الجند.
واختلف في خروجه، فقيل: أنه كان حمل مالاً إلى قلعة دوسر، وأودعه عند
(1/265)
ابن مالك فيها، وأراد ارتجاعه منه والعود
إلى حلب، وكان السلطان قد أقطع حلب والرحبة أق سنقر البرسقي، فواطأ
جماعة من
أصحابه على أن أظهروا مفارقته، وخدموا لؤلؤاً وصاروا من خواصه، وواطأهم
على قتل لؤلؤ، وأمل أنهم إذا قتلوه تصح له أقطاع حلب فقتلوه.
وسار بعضهم إلى الرحبة فأعلمه، فأسرع أق سنقر البرسقي المسير إلى حلب
من الرحبة، وانضاف بعض عسكره إلى بقية القوم الذين قتلوه، وطمعوا في
أخذ حلب لأنفسهم، وساروا إليها فسبقهم ياروقتاش الخادم، أخذ خدم الملك
رضوان، ودخل حلب.
وقيل: إن لؤلؤاً كان قد خاف فأخذ أمواله، وخرج طالباً بلاد الشرق
للنجاة بأمواله، فلما وصل إلى قلعة نادر قال سنقر الجكرمشي: تتركونه
يقتل تاج الدولة ويأخذ الأموال ويمضي، وصاح بالتركية: أرنب أرنب،
فضربوه بالسهام فقتلوه.
ياروقتاش أتابك في حلب
ولما خرج عن حلب أقامت القلعة في يد آمنة خاتون بنت رضوان يومين إلى أن
وصل ياروقتاش الخادم مبادراً فدخل حلب ونزل بالقصر، وأخرج بعض عسكر
حلب، وأوقع بالذين قتلوا لؤلؤاً، وارتجع ما كان أخذوه من عسكر حلب.
وانهزم بعض من كان في التوبة فالتقوا أق سنقر في بالس في أول محرم سنة
إحدى عشرة وخمسمائة.
ولم يتسهل للبرسقي ما أمل وراسل أهل حلب ومن بها في التسليم إليه فلم
يجيبوه إلى ذلك.
وكاتب ياروقتاش الخادم نجم الدين إيلغازي بن أرتق ليصل من ماردين ويدفع
أق سنقر، وكاتب روجار صاحب أنطاكية أيضاً فوصل إلى بلد حلب، وأخذ ما
قدر عليه من أعمال الشرقية، فحينئذ أيس البرسقي من حلب، وانصرف من أرض
بالس إلى حمص فأكرمه خير خان صاحبها، وسار معه إلى طغتكين إلى دمشق
فأكرمه، ووعده بإنجاده على حلب.
وهادن ياروقتاش صاحب أنطاكية روجار، وحمل إليه مالاً وسلم إليه حصن
(1/266)
القبة، ورتب مسير القوافل من حلب إلى
القبلة عليه، وأن يؤخذ المكس منهم له.
ثم إن ياروقتاش طلع إلى قلعة حلب، وعزم على أن يعمل حيلة يوقها
بالمقدمين ويملكها مثل لؤلؤ، فقبض عليه مقدمو القلعه بأمر بنات رضوان
بعد تمام شهر من ولايته، وأخرجوه من حلب وولوا في القلعه خادماً من خدم
رضوان.
ورد أمر سلطان شاه وتقدمة العسكر وتدبير الأمور إلى عارض الجيش العميد
أبي المعالي المحسن بن الملحى، فدبر الأمور وساسها، وضعفت حلب وقل
ارتفاعها وخربت أعمالها.
إيلغازي من حلب إلى ماردين
ووصل إيلغازي بن أرتق إلى حلب فأنزلوه في قلعة الشريف، ومنعوه من
القلعة الكبيرة، واستولى على تدبير الأمور وتربيه سلطان شاه في سنة
إحدى عشرة وخمسمائة، وسلموا إليه بالس والقليعة.
وقبض على أبي المعالي بن الملحى، وقصر ارتفاع حلب عما يحتاج إليه
إيلغازي والتركمان الذين معه، ولم ينتظم له حال. واستوحش من أهل حلب
وجندها فخرج عنها إلى ماردين. وبقيت بالس والقليعة في يده، وأخرج ابن
الملحى من الإعتقال وأعيد إلى تدبير الأمور.
وأفسد الجند الذين ببالس في أعمال حلب فاستدعوا الفرنج، وخرج بعض عسكر
حلب ومعهم قطعة من الفرنج وحصروها، فوصل إيلغازي في جمع من التركمان
إليها، فعاد عسكر حلب والفرنج عن بالس وباعها لابن مالك، وعاد إلى
ماردين، وبقي تمرتاش ولده رهينة في حلب.
ووصل في هذه السنة أتابك طغتكين وأق سنقر البرسقي إلى حلب، وراسل أهلها
في تسليمها فامتنعوا من إجابته، وقالوا: ما نريد أحداً من الشرق
وأنفذوا واستدعوا الفرنج من أنطاكية لدفعه عنهم، فعاد أق سنقر إلى
الرحبة وأتابك إلى دمشق.
(1/267)
بلد حلب بين الغلاء
والفرنج
واشتد الغلاء بأنطاكية وحلب، لأن الزرع عرق ولحقه هواء عند إدراكه
أتلفه، وهرب الفلاحون للخوف، واستدعى أهل حلب ابن قراجا من حمص، فرتب
الأمور بها، وحصنها، وسار إلى حلب، ونزل في القصر خوفاً من إيلغازي لما
كان بينهما. وخرج أتابك إلى حمص، ونهب أعمالها وشعثها، وأقام عليها
مدة، وعاد إلى
دمشق لحركة الفرنج. وخرجت قافلة من حلب إلى دمشق فيها تجار وغيرهم،
وحملوا ذخائرهم وأموالهم لما قد أشرف عليه أهل حلب. فلما وصلوا إلى
القبة نزل الفرنج إليه، وأخذوا منهم المكس، ثم عادوا وقبضوهم وما معهم
بأسرهم، ورفعوهم إلى القبة، وحملوا الرجال والنساء بعد ذلك إلى أفامية،
ومعرة النعمان، وحبسوهم ليقروا عليهم مالاً.
فراسلهم أبو المعالي بن الملحى ورغبهم في البقاء على الهدنة وأن لا
ينقضوا العهد، وحمل إلى صاحب أنطاكية مالاً وهدية، فرد عليهم الأحمال
والأثقال وغير ذلك، ولم يعدم منه شيء.
وقوي طمع الفرنج في حلب لعدم النجد وضعفها، وغدروا ونقضوا الهدنة،
وأغاروا على بلد حلب، وأخذوا مالاً لا يحصيه إلا الله، فراسل أهل حلب
أتابك طغتكين، فوعدهم بالإنجاد، فكسره جوسلين وعساكر الفرنج، وراسلوا
صاحب الموصل وكان أمره مضطرباً بعد عوده من بغداد.
ونزل الفرنج بعد عودهم من كسرة أتابك على عزاز، وضايقوها، وأشرفت على
الأخذ، وانقطعت قلوب أهل حلب إذ لم يكن بقي لحلب معونة إلا من عزاز
وبلدها وبقية بلد حلب في أيدي الفرنج، والشرقي خراب مجدب، والقوت في
حلب قليل جداً، ومكوك الحنطة بدينار، وكان إذ ذاك لا يبلغ نصف مكوك
بمكوك حلب الآن، وما سوى ذلك مناسب له.
(1/268)
|