زبدة الحلب في تاريخ حلب

القسم العشرون
حلب وإيلغازي
استدعاء إيلغازي إلى حلب
ويئس أهل حلب من نجدة تصلهم من أحد من الملوك، فاتفق رأيهم
على أن سيروا الأعيان والمقدمين إلى إيلغازي بن أرتق، واستدعوه ليدفع الفرنج عنهم وظنوا أنه يصل في عسكر يفرج به عنهم، وضمنوا له مالاً يقسطونه على حلب يصرفه إلى العساكر فوصل في جند يسير والمدبر لحلب جماعة من الخدم، والقاضي أبو الفضل ابن الخشاب هو المرجوع إليه في حفظ المدينة والنظر في مصالحها فامتنع عليه البلد، واختلفت الآراء في دخوله، فعاد فلحقه القاضي أبو الفضل بن الخشاب وجماعة من المقدمين، وتلطفوا به ولم يزالوا به حتى رجع.
ووصل إلى حلب، ودخلها، وتسلم القلعة، وأخرج منها سائر الجند وأصحاب رضوان وأنزل سلطان شاه بن رضوان وبنات رضوان في دار من دور حلب.
وقبض على جماعة ممن كان يتعلق بالخدم ويخدمهم، وأخذ منهم ما كان صار إليهم من مال رضوان ومال الخدم الذين استولوا على حلب بعده.
وراسل الفرنج في مال يحمله عن عزاز ليرحلوا عنها، فلم يلتفتوا لقوة أطماعهم في أمر الإسلام، وكان إيلغازي يعجز بحلب عن قوت الدواب، وحلب على حد التلف.
فلما عرف من بعزاز ذلك ويئسوا من دفع الفرنج سلموها إلى الفرنج، وراسلهم من بحلب في صلح يستأنفونه معهم، فأجابوا إلى ذلك لطفاً من
الله بهم، على أن يسلموا إلى الفرنج تل هراق ويؤدون القطيعة المستقرة على حلب

(1/269)


عن أربعة أشهر، وهي ألف دينار، ويكون لهم من حلب شمالاً وغرباً.
وزرعوا أعمال عزاز وقووا فلاحها وعادوا إلى أنطاكية وصار يدخل إلى حلب ما يتبلغون به القوت.
وسار إيلغازي إلى الشرق ليجمع العساكر ويعود بها إلى حلب، فسار إليه أتابك طغتكين، والتقاه بقلعة دوسر، ووافقه على ذلك، وسارت الرسل إلى ملوك الشرق والتركمان يستنجدونهم.
وكان ابن بديع رئيس حلب عند ابن مالك بقلعة دوسر، فنزل إلى إيلغازي ليطلب منه العود إلى حلب، فلما صار عند الزورق ليقطع الماء إلى العسكر وثب عليه اثنان من الباطنية فضرباه عدة سكاكين، ووقع ولداه عليهما فقتلاهما، وقتل ابن بديع وأحد ولديه وجرح الآخر، وحمل إلى القلعة فوثب آخر من الباطنية وقتله، وحمل الباطني ليقتل فرمى بنفسه في الماء وغرق.

وقعة تل عفرين
وتوجه إيلغازي إلى ماردين ومعه أتابك، وراسلا من بعد وقرب من عساكر المسلمين والتركمان، فجمعا عسكراً عظيما، وتوجه إيلغازي في عسكر يزيد عن أربعين ألفاً في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وقطع الفرات من عبر بدايا وسنجة.
وامتدت عساكره في أرض تل باشر وتل خالد وما يقاربهما، يقتل
وينهب ويأسر، وغنموا كل ما قدروا عليه. ووصل من رسل حلب من يستحثه على الوصول لتواصل غارات الفرنج من جهة الأثارب وأياس أهلها من أتفسهم، فسار إلى مرج دابق ثم إلى المسلمية، ثم إلى قنسرين في أواخر صفر من سنة ثلاث عشرة وخمسمائة.
وسارت سراياه في أعمال الروج والفرنج يقتلون ويأسرون، وأخذوا حصن قسطون في الروج، وجمع سرجال صاحب أنطاكية الفرنج والأرمن وغيرهم، وخرج إلى جسر الحديد، ثم رحلوا ونزلوا بالبلاط بين جبلين، مما يلي درب سرمداً،

(1/270)


شمالي الأثارب، وذلك في يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الأول.
وضجر الأمراء من طول المقام، وإيلغازي ينتظر أتابك طغتكين ليصل إليه ويتفقا على ما يفعلانه، فاجتمعوا وحتوا إيلغازي على مناجزة العدو فجدد إيلغازي الأيمان على الأمراء والمقدمين أن يناصحوا في حربهم، ويصابروا في قتال العدو، وأنهم لا ينكلون ويبذلون مهجهم في الجهاد، فحلفوا على ذلك بنفوس طيبة.
وسار المسلمون جرايد، وخلفوا الخيام بقنسرين، وذلك في يوم الجمعة السادس عشر من شهر ربيع الأول، فباتوا قريباً من الفرنج وقد شرعوا في عمارة حصن مطل على تل عفرين والفرنج يتوهمون أن المسلمين ينازلون الأثارب أو زردنا، فما شعروا عند الصبح إلا ورايات المسلمين قد أقبلت، وأحاطوا بهم من كل جانب.
وأقبل القاضي أبو الفضل بن الخشاب يحرض الناس على القتال، وهو راكب على حجر وبيده رمح، فرآه بعض العسكر فازدراه وقال: إنما جئنا من بلادنا تبعاً لهذا المعمم! فأقبل على الناس، وخطبهم خطبة بليغة استنهض فيها عزائمهم، واسترهف هممهم بين الصفين، فأبكى الناس وعظم في أعينهم.
ودار طغان أرسلان بن دملاج من ورائهم ونزل في خيامهم، وقتل من فيها ونهبها، وألقى الله النصر على المسلمين، وصار من انهزم من الفرنج وقصد الخيام قتل.
وحمل الترك بأسرهم حملة واحدة من جميع الجهات صدقوهم فيها، وكانت السهام كالجراد، ولكثرة ما وقع في الخيل والسواد من السهام عادت منهزمة وغلبت فرسانها، وطحنت الرجالة والأتباع والغلمان بالسهام، وأخذوهم بأسرهم أسرى. وقتل سرجال في الحرب، وفقد من المسلمين عشرون نفراً منهم سليمان بن مبارك بن شبل، وسلم من الفرنج مقدار عشرين نفراً لا غير، وانهزم جماعة من أعيانهم.

(1/271)


وقتل في المعركة ما يقارب خمسة عشر ألفاً من الفرنج، وكانت الوقعة يوم السبت وقت الظهر، فوصل البشير إلى حلب بالنصر، والمصاف قائم،
والناس يصلون صلاة الظهر بجامع حلب، سمعوا صيحة عظيمة بذلك من نحو الغرب، ولم يصل أحد من العسكر إلى نحو صلاة العصر.
وأحرق أهل القرى القتلى من الفرنج، فوجد في رماد فارس واحد أربعون نصل نشاب، ونزل إيلغاوي في خيمة سرجال، وحمل إليه المسلمون ما غنموه، فلم يأخذ منهم إلا سلاحاً يهديه لملوك الإسلام، ورد عليهم ما حملوه بأسره.
ولما حضر الأسرى بين يدي إيلغازي، كان فيهم رجل عظيم الخلقة مشتهراً بالقوة، وأسره رجل ضعيف قصير قليل السلاح، فلما حضر بين يدي إيلغازي قال له التركمان: أما تستحي يأسرك مثل هذا الضعيف وعليك مثل هذا الحديد. فقال. والله ما أخذني هذا، ولا هو مولاي وإنما أخذني رجل عظيم أعظم مني وأقوى، وسلمني إلى هذا وكان عليه ثوب أخضر وتحته فرس أخضر.
وتفرقت عساكر المسلمين في بلد أنطاكية والسويدية وغيرهما يقتلون ويأسرون وينهبون، وكانت البلاد مطمئنة لم يبلغهم خبر هذه الوقعة، فأخذ المسلمون من السبي والغنائم والدواب ما يفوت الإحصاء. ولم يبق أحد من الترك إلا امتلأ صدره ويداه بالغنائم والسبي.
ولقي بعض السرايا بغدوين الرويس وابن صنجيل في خيلهما بالقرب من جبلة، وقد توجها لنصرة سرجال صاحب أنطاكية، فأوقع بهم الترك،
وقتلوا جماعة وغنموا ما قدروا عليه، وانهزم بغدوين وابن صنجيل، وتعلقوا بالحبال.
ورحل إيلغازي إلى أرتاح، وبادر بغدوين فدخل أنطاكية، وسلمت إليه أخته زوجة سرجال خزائنه وأمواله، وقبض على أموال القتلى ودورهم، وأخذها وزوج نساء القتلى بمن بقي، وأثبت الخيل، وجمع وحشد واستولى على أنطاكية، ولو سبقه إيلغازي إلى أنطاكية لما امتنعت عليه.

فتح الأثارب وزردنا وانتصار دانيث
ووصل أتابك إلى نجم الدين بأرتاح، فعاد ونزل الأثارب وهجم الربض

(1/272)


ونهبه، وقتل من قدر عليه، وخرج أحداث من حلب ونهبوا حصنها فطلبوا الأمان منهم بعد أن استأخذت، وسيرهم إلى مأمنهم.
ورحل منها إلى زردنا وكانوا قد حصنوها وأحكموا عمارتها، وقاتلها فطلبوا الأمان فأمنهم، وسيرهم إلى أنطاكية فلقيهم بعض التركمان، فنهبوهم وقتلوا بعضهم ومضوا إلى أهلهم.
وكان صاحب ززدنا لما بلغه منازلتها حمل بغدوين والفرنج على الخروج لاستنقاذها، وقد عرفوا تفرق التركمان وعودهم إلى أهليهم، وأن إيلغازي في عدة قليلة، فبلغه ذلك فجد في قتالها حتى أخذها كما ذكرناه ورتب أصحابه بها، وتوجه بمن بقي معه واستصحب معه عسكر أتابك وطغان أرسلان بن دملاج جرايد إلى دانيث بعد أن رد الأثقال والخيام إلى قنسرين.
ووصل إلى دانيث في يومه، فوجد الفرنج قد نزلوها يوم فتحه زردنا في
مائتي خيمة وراجل كثير، وقيل إنهم كانوا يزيدون على أربعمائة فارس سوى الرجالة، وذلك في رابع جمادى الأولى، والتقوا فحمل صاحب زردنا وأكثر خيل الفرنج على عسكر دمشق وحمص وبعض التركمان، فكشفوهم وانهزموا بين أيديهم، وسار ليتدارك أمر زردنا، ويكبس الأثقال والخيام فعرف أخذها وتسيير الأثقال إلى قنسرين فعاد.
وحمل بقية المسلمين على بغدوين ومن كان معه، فقتلوهم وردوهم على أعقابهم، فحينئذ حمل إيلغازي وطغتكين وطغان أرسلان فيمن بقي من الخواص على الفرنج، فكسروهم وقتلوا أكثر الرجالة وبعض الخيالة، وتبعوهم إلى أن دخلوا إلى حصن هاب، وغنموا أكثر ما كان معهم.
وعاد نجم الدين وطغتكين وطغان أرسلان إلى دانيث، فوجدوا صاحب زردنا والفرنج قد عادوا بعد أن هزموا من كان بين أيديهم من المسلمين ومعرفة أخذ المسلمين زردنا فلقوهم وقتلوا منهم جماعة كثيرة، وانهزم الباقون إلى هاب، وعاد الترك بالظفر والغنيمة.

(1/273)


وحين بلغ من بقنسرين مع الأثقال هزيمة من كان في مقابلة صاحب زردنا رحلوا إلى حلب، وانزعج أهل حلب غاية الإنزعاج، فوصلهم البشير بعد ساعتين بما بدل غمهم سروراً وهمهم حبوراً.
وكان البشير من الفرنج قد مضى إلى بلادهم وأخبر بكسرة صاحب زردنا للمسلمين، فزينوا بلادهم، وأظهروا فيها الجذل والمسرة فوصل ابن
صنجيل من الكسرة بعد ذلك، فانقلب سرورهم حزناً وراحتهم تعباً وعناء.
وكان صاحب زردنا، وهو القومصى الأبرص واسمه روبارد، قد سقط عن فرسه، فأدركه قوم من أهل جبل السماق من أهل مريمين، فقبضوه وحملوه إلى إيلغازي بظاهر حلب، فأنفذه إلى أتابك طغتكين، فقتله صبراً.
ثم دخل إيلغازي إلى حلب، وأحضر الأسرى فأفرد أصحاب القلاع والمقدمين وابن بيمند صاحب أنطاكية ورسول ملك الروم ونفراً يسيراً ممن كان معه مال فأخذه وأطلقهم، وبقي من الأسرى نيف وثلاثون رجلاً بذلوا من المال ما رغب عنه، فقتلهم بأسرهم.
وتوجه من حلب إلى ماردين في جمادى الأولى من سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، ليجمع من التركمان من يعود به إلى بلد حلب، وكانت حلب ضعيفة عن مقامه فيها، فخرج الفرنج إلى بلد المعرة، فسبوا جماعة، وأدركهم جماعة من الترك فرجعوا.

غارات بغدوين وجوسلين
ثم خرج بغدوين من أنطاكية في عسكره ونزل على زور، غربي البارة وهو حصن كان لابن منقذ وسلمه إليهم ولما جرت الوقعة الأولى
على البلاط عاد وأخذه، فقاتله بغدوين، وأخذه في جمادى الأولى، وأطلق من كان فيه.
ورحل إلى كفر روما فأخذ حصنها بالسيف، وقتل جميع من كان فيه، ووصلوا إلى كفر طاب، وقد أحرق ابن منقذ حصنها، وأخذ رجاله منه خوفاً منهم، فرمموه، ورتبوا رحالهم فيه، وساروا إلى سرمين ومعرة مصرين فتسلموها بالأمان، ثم نزلوا زردنا، ورحلوا عنها إلى أنطاكية.

(1/274)


ومع هذا فغارات عسكر حلب متواصلة على ما يقرب منهم، وتعود بالظفر والغنيمة.
ووصل جوسلين إلى بغدوين خاله وقت أخذه سرمين، فأقطعه الرها وتل باشر، وسيره إليهما، فأسرى إلى وادي بطنان دفعتين، وإلى ما يلي الفرات من جهة الشام، وقتل وسبى ما يقارب ألف نفس. وأغار جوسلين على منبج والنقرة وأعمال حلب الشرقية، وأخذ كل ما وجده من دواب، وأسر رجالاً ونساء، وأسرى إلى الراوندان يتبع طائفة من التركمان كانت قطعت الفرات، فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منهم جماعة.
وفي صفر من سنة أربع عشرة وخمسمائة، وقعت مشاحنة بين والي الأثارب بلاق بن اسحاق صاحب نجم الدين إيلغازي وبين الفرنج فأسرى ومعه جماعة من عسكر حلب إلى أنطاكية، فلقيهم عسكر أنطاكية
فكسرهم، وعاد فتبعه الفرنج والتقوا ما بين ترمانين وتل اغدي، من فرضة ليلون.
ووصل في هذه السنة إيلغازي بجمع كثير من التركمان، وقطع الفرات في الخامس والعشرين من صفر، وتوجه إلى تل باشر، وأقام أياماً ولم يقاتلها، ورحل إلى عزاز يريد أخذها، ولم يمكن أحداً من التركمان من تشعيث ضياعها، ورحل إلى أنطاكية وأقام عليها يوماً واحداً، وأقام في أعمال الروم أياماً يسيرة.
ثم خرج إلى قنسرين فتشوشت قلوب التركمان لأنهم أملوا من الغنائم مثل السنة الخالية، ولم يقاتل بهم حصناً، ولا غنموا شيئاً، وباع الأسرى الذين أسرهم في الوقعة الأولى، فعادوا إلى بلادهم، وبالغوا في التشقي من المسلمين والقتل والسبي.
وجرى من نجم الدين إساءة إلى بعض التركمان على شيء أنكره عليهم، فبالغ في هوانهم وحلق لحى بعضهم، وقطع أعصابهم، فتفرق عسكره وبقي نفر يسير متفرقين في أعمال حلب.
فطمع الفرنج وخرجوا إلى دانيث، فوصل طغتكين وعسكر دمشق، واجتمعوا مع إيلغازي في عسكر يقاوم الفرنج، فساروا إلى الفرنج، وهم في ألف فارس وراجل كثير، فدار الترك حولهم فلم يخرج منهم أحد، وكرهوا
أن يعودوا على

(1/275)


أعقابهم فتكون هزيمة، فساروا نحو معرة مصرين لا ينفرد منهم فارس ولا راجل. وأشرف الترك على أخذهم، ومن خرج منهم قتل، ومن وقفت دابته تركها وأخذت، ولا يقدرون على الماء وهم على حالة الهلاك، وإيلغازي وطغتكين يردان الناس عنهم بالعصا، فنزلوا بقرب معرة مصرين، وعاد الترك عنهم إلى حلب، وعادوا إلى أنطاكية.
وصالحهم إيلغازي إلى آخر سنة أربع عشرة، على أن لهم المعرة وكفر طاب والجبل والبارة، وضياعاً من جبل السماق برسم هاب، وضياعاً من لبلون برسم تل أغدي، وضياعاً من بلد عزاز برسم عزاز.
وسار نجم الدين إيلغازي إلى ماردين ليجمع العساكر. وهم إيلغازي زردنا في شهر ربيع الأول. وكان أهل حلب قد شكوا إليه تجديد رسوم جددت عليهم في أيام رضوان، لم تجر بها عادة، في دولة العرب. ولا دولة المصريين ولا في أيام أق سنقر، فأمر بكشف مقدارها، فأخبر أنها مبلغ اثني عشر ألف دينار في كل سنة، فرسم بحذفها، ووقع لهم بذلك، وكتب لوحاً بذلك، وسمره على باب الجامع وذلك في هذه السنة.
وخرج الفرنج فقبضوا على الفلاحين الذين تحت أيديهم في هذه الأعمال من المسلمين وعاقبوهم وصادروهم، وأخذوا منهم من الأموال والغلات ما تقووا به، وكانت الضياع التي في أيدي المسلمين قد عمرت، واطمأنوا بالصلح، فغدر اللعين جوسلين، وخرج فأغار على النقرة والأحص، واحتج بأنه أسر له والي منبج أسيراً، وأنه كاتب في ذلك فلم ينصف، وذلك في شوال، وقتل وسبى وأحرق كل ما في النقرة والأحص، ونزل الوادي وعاث فيه.
ثم سار إلى تل باشر، ثم عاد وحشد وخرج وعمل كفعله الأول، وأخذ في غارته الأولى المشايخ والعجايز والضعفاء، فنزع عنهم ثيابهم وتركهم في البرد عراة، فهلكوا بأجمعهم.
فأنفذ والي حلب إلى بغدوين في ذلك، وقال: إن نجم الدين لم يترك هذه البلاد خالية من العساكر إلا ثقة بالصلح فقال: ما لي على جوسلين يد. وتتابعت من جوسلين غارات متعددة.

(1/276)


ثم خرج الفرنج من أنطاكية عقيب ذلك، وأغاروا على بلد شيزر وأخذوا ما لا يحصى، وأسروا جمعاً، وطلبوا المقاطعة التي جرت عادتهم قبل الوقعة بأخذها، فبذل لهم ابن منقذ ذلك على أن يردوا ما أخذوه، فلم يجيبوه إلى ذلك، فجعل لهم مالاً حمله، وصالحهم إلى آخر السنة.
وهرب ملك العرب دبيس بن صدقة الأسدي من المسترشد والسلطان محمود، فوصل إلى قلعة جعبر، فأكرمه نجم الدولة مالك، وأضافه، ثم
سار إلى إيلغازي إلى ماردين، وتزوج ابنته فاستد به وأجاره، ووصل معه الأموال العظيمة والنعمة الوافرة، وحمل إليه إيلغازي ما يفوت الإحصاء.
فاشتغل إيلغازي بدبيس عن العبور إلى الشام، فخرب بلد حلب، واستولى الفرنج على معظمه، وأغار جوسلين إلى صفين، وسبى العرب والتركمان، ونزل بزاعا وقاتلها، وأحرق بعض جدارها، وصونع على شيء ودخل بلده.
ثم هجم الفرنج، في صفر من سنة خمس عشرة وخمسمائة، الأثارب، وقتلوا جماعة وأحرقوها وأسروا من لم يعتصم بالقلعة.
ثئم إنهم في ربيع الآخر من السنة، نزلوا نواز، زحفوا إلى الأثارب ثانية، وأحرقوا الدور والغلة. وسار بغدوين، وأغار على حلب، وأخذ الناس والدواب من حاضر حلب ومن الفنادق، وأخذ ما يجل قدره من الماشية، وأسر نحواً من خمسين أسيراً.
وصاح الصائح فخرج نفز يسير من العسكر فظفروا بالفرنج وخلصوا المواشي، وعاد الفرنج إلى أعمالهم.

نائب حلب سليمان بن إيلغازي وعصيانه
وكان النائب بحلب شمس الدولة سليمان بن نجم إيلغازي. وكان إيلغازي قد

(1/277)


ولى رئاسة حلب، في سنة أربع عشرة في رجب، مكي بن
قرناص الحموي، وجعله بين يديه، فكتب إلى ولده ونوابه يأمرهم بصلح الفرنج على ما يريدون، فصالحوهم على سرمين والجزر وليلون وأعمال الشمال على أنها للفرنج، وما حول حلب للفرنج منه النصف، حتى أنهم ناصفوهم في رحى العربية، وعلى أن يهدم تل هراق بحيث لا يبقى للفئتين فيه حكم، وطلبوا الأثارب فأجاب إيلغازي إلى ذلك، فامتنع من كان فيها من التسليم فبقيت في أيدي المسلمين.
وكان الذي تولى الصلح جوسلين وجفري، وكان بغدوين في القدس، فلما وصل رضي بذلك، وشرع في عمارة دير خراب قديم، بالقرب من سرمدا، وحصنه ثم أطلقه لصاحب الأثارب سيرألان دمسخين.
وأمر إيلغازي ولده باخراب قلعة الشريف المجددة بحلب وإخراج من كان فيها من جند رضوان، فأخرجهم شمس الدولة وابن قرناص بعذر الإغارة على أعمال الفرنج، وأغلقت أبواب حلب في وجوههم، وتولى الرئيس مكي بن قرناص خرابها في جمادى الآخرة.
واستنجد الملك طغرل بإيلغازي بن أرتق على الكرج وملكهم داود، فسار إليه في عالم عظيم ومعه دبيس بن صدقة، فكسرهم المسلمون، ودخلوا وراءهم في الدرب، فكر الكرج عليهم في الدرب، فانهزم المسلمون
وتبعهم الكرج قتلاً وأسراً. ونهب لدبيس ما مقداره ثلاثمائة ألف دينار، ووصل مع نجم الدين إيلغازي إلى ماردين سالماً.
وأنفذ إيلغازي إلى ابنه سليمان بحلب يلتمس منه أشياء، فقبح ذلك عنده، وقيل له أشياء أوجبت عصيانه على والده، فعصى وأخرج الملوك سلطان شاه وابراهيم وغيرهما من حلب، فمضوا إلى قلعة جعبر، ومد يده في مصادرة أهل حلب وظلمهم والفساد.
وقيل: إن دبيس بن صدقة لما سار مع إيلغازي إلى الكرج سأل إيلغازي في الطريق أن يهب له حلب وأن يحمل إليه دبيس مائة ألف دينار يجمع بها التركمان

(1/278)


ويعاضده حتى يفتح أنطاكية، فأجابه إيلغازي إلى ذلك، وأخذ يده على ذلك.
فلما وقعت كسرة الكرج بدا له من ذلك، فأنفذ إلى ولده سليمان وكان خفيفاً، وقال له: أظهر أنك قد عصيت علي حتى يبطل ما بيني وبين دبيس. فحمله الجهل على أن عصى ونابذ أباه، ووافقه مكي بن قرناص والحاجب ناصر، وهو شحنة حلب وغيرها.
وقبض سليمان حجاب أبيه فصفعهم وحلق لحاهم، ومد يده إلى أموال الناس وظلمهم، فطمع الفرنج وقربهم سليمان، فنزلوا زردنا وعمروها لابن صاحبها كليام بن الأبرص.
ثم سار الفرنج إلى باب حلب، فكبسوا في طريقهم حاضر طيء وغيرها، فخرج إليهم الحاجب ناصر والعسكر فكسروهم وقتلوا منهم جماعة.
وخرج بغدوين في جمادى الآخرة، فنازل خناصرة، وأخذها وخربها، وحمل باب حصنها إلى أنطاكية، ونزل برج سينا ففعل به كذلك، وكذلك فعل بغيرهما من حصون النقرة والأحمق، وسبى وأحرق ونهب.
وعاد فنزل صلدع على نهر قويق، وخرج إليه اتزر بن ترك طالباً منه الصلح مع سليمان، فقال: على شرط أن يعطيني سليمان الأثارب حتى أحفظه، وأنا أذب عنه وأقاتل دونه. فقال له: " ما يجوز أن نسلم ثغراً من ثغور حلب في بدو مملكته، بل التمس غير هذا مما يمكن ليوافقك عليه فقال له: الأثارب لا يقدر صاحب حلب على حفظها، فإني قد عمرت عليها الحصون بما دارت، وأنا أعلمكم أنها اليوم تشبه فرساً لفارس قد عطبت يداها، وللفارس هري شعير يعلفها رجاء أن تبرأ ويكسب عليها، فنفد هري الشعير، وعطبت الفرس، وفاته الكسب. ثم رحل نحوها، فحصرها ثلاثة أيام، واتصل به ما أوجب رحيله إلى أنطاكية.
ولما بلغ إيلغازي إصرار ولده على العصيان ضاقت عليه الأرض، وأعمل في الوصول إليه وأخذ حلب منه، فكاتبه أقوام وعرفوه أن ما بحلب من يدفعه عنها، فسار حتى وصل إلى قلعة جعبر فضعفت نفس ابنه سليمان
على العصيان على أبيه،

(1/279)


فأنفذ إليه من استحلفه على الصفح عنه والإحسان إليه وإلى من حسن له العصيان مثل ابن قرناص وناصر الحاجب، واكد الأيمان على ذلك.
ودخل حلب في أول شهر رمضان فخرج الناس للقائه، ودخل إلى القصر، وأحسن إلى أهل حلب، وسامحهم بشيء من المكوس، وصرف الشحنة الذي كان يؤذي الناس في البلد.
وقبض على الرئيس مكي بن قرناص وعلى أهله، وشق لسانه وكحله وأخذ ما وجد له، وسلم أخاه إلى من يعذبه ويستصفي ماله.
وكحل ناصر الحاجب، فعني به من تولى أمره فسملت إحدى عينيه، وعرقب طاهر بن الزائر، وكان من أعوان الرئيس مكي.
وأعاد الملوك أولاد رضوان من قلعة جعبر إلى حلب، وخطب بنت الملك رضوان، وتزوج بها، ودخل بها بحلب. وولى رئاسة حلب سلمان بن عبد الرزاق العجلاني البالسي، وولى ابن أخيه بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار نيابته في حلب، وصالح الفرنج مدة سنة كاملة، وأعطاهم من الضياع ما كان في أيديهم أيام مملكتهم الأثارب وزردنا.
وسار في محرم من سنة ست عشرة وخمسمائة إلى الشرق ليجمع العساكر، فمات وزيره بحلب أبو الفضل بن الموصول في صفر وولي الوزارة أبو الرجاء بن السرطان.

مناورات إيلغازي والفرنج
وعبر إيلغازي وبلك في سابع عشر شهر ربيع الآخر الفرات وكان بلك غازي ابن أخيه بهرام بن أرتق، واستدعاه من أعمال الروم وبيده عدة قلاع بالقرب من ملطية وصحبتهما عدة من التركمان دون ما جرت عادته باستصحابه، فعزل أبا الرجاء بن السرطان عن الوزارة، وقبض عليه لسعاية سعي به إليه عليه.

(1/280)


ونزل إيلغازي زردنا، نزل عليها في العشرين من جمادى الأولى، وحصرها أياماً وأخذ حوشها. وكان صاحبها قد سمع حين عبر إيلغازي الفرات أنه ينزلها، فجمع أصحابه واستحلفهم على المصابرة من وقت نزولهم عليها مدة خمسة عشر يوماً، وحلف هو لهم على أن ينجدهم، ومضى على أن يستجيش، فإن جازت هذه المدة ولم يصلهم فإنه يبتاع دماءهم بكل ما يملكه. وقال لهم: والله لكم علي من الشاهدين، لئن لم يخلصكم إلا إسلامي إن قبله أسلمت على يديه لخلاصكم.
وخرج حتى وصل إلى بغدوين صاحب أنطاكية، وهو بأكناف طرابلس في حكومة بينه وبين صاحبها، فأخبره بعبور إيلغازي وبما بلغه من قصده زردنا، فقال: مذ حلفنا له وحلف لنا ما نكثنا، وحفظنا بلده في غيبته ونحن شيوخ، وما أظنه يقدر، بل ربما قصد طرابلس أو قصدني في القدس، لأنني ما صالحته إلا على أنطاكية وأعمالها، بل يجب أن تعود إلى أفامية وكفر طاب وتكشف ما يتجدد. فعاد وكشف الأمر.
وسير إلى بغدوين فأعلمه بنزوله على زردنا، فصالح صاحب
طرابلس، وشرط عليه الوصول إليه. ووصل أنطاكية، واستدعى جوسلين، ونصب المسلمون مجانيق أربعة على زردنا، وأخذوا الفصيل الأول، فوصل الفرنج بعد أربعة عشر يوماً من منازلة المسلمين لها، فنزلوا تحت الدير.
وبلغ الخبر إيلغازي، فترك زردنا وتوجه نحوهم، فنزل نواز، وطلب أن يخرج الفرنج من المضيق إلى السعة فلم يخرجوا، فرحل إلى تل السلطان، وأتابك طغتكين في صحبته، فخرج الفرنج فنزلوا على نواز وهجموا ربض الأثارب وأحرقوا البيدر والجدار.
ودخل صاحبها يوسف بن ميرخان قلعتها، ونزلوا أبين، ورحلوا منها فنزلوا دانيث، وأقاموا عليها فلم يصلهم أحد، فعادوا إلى بلادهم، فعاد إيلغازي فنزل زردنا، وهجم الحوش الثاني، وقتل جماعة من الفرنج.
فعاد الفرنج ونزلوا تحت الدير، فرحل إيلغازي إلى نواز، وأقام ثلاثة أيام يزاحف الفرنج وهم لا يخرجون إلى الصحراء.

(1/281)


مرض إيلغازي وموته
فاتفق أن أكل إيلغازي لحم قديد كثيراً وجوزاً أخضر وبطيخاً وفواكه، فانتفخ جوفه وضاق نفسه، واشتد به الأمر، فرحل إلى حلب، وتزايد به المرض، فسار طغتكين إلى دمشق وبلك غازي إلى بلاده.
ودخل إيلغازي ليتدواى بحلب، فنزل القصر، ولم يخلص من علته. وخرج عسكر حلب في ألف فارس إلى تبل من عمل عزاز، ومعهم
أمراء منهم دولب بن قتلمش، فنهبوا وعادوا فوقع عليهم عند حربل كليام في أربعين فارساً، فانهزم المسملون وقتل منهم جماعة.
وفي شهر رجب من هذه السنة، ظفر بلك غازي باللعين جوسلين وابن خالته قلران بالقرب من سروج، فأسرهما وأسر ابن أخت طنكريد، وقد كان أسره في وقعة ليلون، واشترى نفسه بألف دينار وأسر ستين فارساً.
وطلب من جوسلين وقلران أن يسلما ما بأيديهما من المعاقل فلم يفعلا، وقالا: نحن والبلاد كالجمال والحدج، متى عقر بعير حول رحله إلى آخرة والذي بأيدينا قد صار بيد غيرنا. فأخذهما ومضى إلى بلده.
ووصل الفرنج بعد ذلك من تل باشر في شعبان، وكبسوا تل قباسين، فخرج النائب ببزاعا مع أهلها فالتقوا، وانهزم المسلمون وقتل منهم تسعون رجلاً.
وأما إيلغازي فأقام أياماً، وصلح من مرضه، وسار إلى ماردين، ثم خرج منها يريد ميافارقين، فاشتد مرضه في الطريق، وتوفي بالقرب من ميافارقين بقرية يقال لها: عجولين، في أول شهر رمضان من سنة ست عشرة وخمسمائة.

(1/282)