زبدة الحلب في تاريخ حلب
القسم الحادي والعشرون
حلب وبقية الأرتقيين
أولاً سليمان بن عبد الجبار بن أرتق
وملك ابنه سليمان ميافارقين، وابنه تمرتاش ماردين، وابن أخيه بدر
الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق حلب. ولما سمع صاحب أنطاكية
بوفاته حشد عسكره وجماعة من الأرمن، ونزل وادي بزاعا، وعاث فيه وأفسد
ما قدر عليه، وحمل إليه أهل الباب من الوادي مالاً وخدموه.
فرحل إلى بالس وقاتلها بالمنجنيقات، وقرروا على بالس مع ابن مالك مالاً
يحمل إليه، فأسرف في الطلب وكان ببالس جماعة من التركمان ومن خيل حلب،
فخرج أهلها والخيل التي عندهم واقتتلوا، فقتل من الفرنج جماعة من
المقدمين، وظفر المسلمون أحسن ظفر.
فرحل بغدوين إلى الوادي وقد وصل سليمان بن إيلغازي فحصر البيرة، وتسلم
حصنها على أن يؤمن أهلها على أنفسهم، فأخذهم وسار بهم إلى أنطاكية،
وتتابعت غارات الفرنج حول حلب إلى آخر سنة ست عشرة وخمسمائة.
وولى بدر الدولة سليمان الوزارة بحلب أبا بالرجاء سعد الله بن هبة الله
بن السرطان، في صفر، بعد ما قبض عليه إيلغازي كما تقدم ذكره.
وجدد بدر الدولة المدرسة التي بالزجاجين بحلب، المعروفة ببني
العجمي، بإشارة أبي طالب بن العجمي. وذكر لي أنه عزم على أن يقفها على
الفرق الأربع، ونقل آلتها من كنيسة داثرة كانت بالطحانين بحلب.
وفي العاشر من شهر صفر من سنة سبع عشرة وخمسمائة، استقر الصلح بين بدر
الدولة صاحب حلب وبين بغدوين صاحب أنطاكية، على أن يسلم بدر الدولة
(1/283)
إليه قلعة الأثارب فتسلموها، وصارت لصاحبها
أولاً سيرألان دمسخين، وبقيت في يده إلى أن مات، وكانت في يد الحاجب
جبريل بن برق، فعوضه بدر الدولة عنها شحنكية حلب.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشر صفر، سار بغدوين صاحب أنطاكية ليقاتل نور
الدولة بلك بن بهرام بن أرتق، وكان محاصراً قلعة كركر، فالتقيا على
موضع اسمه اورش بالقرب من قنطرة سنجة، فكسره نور الدولة بلك، وأسره،
وقتل معظم عسكره ومقدميه ونهب خيمه، وفتح الكركر بعد جمعه، وكان في دون
عدة الفرنج. وجعل بغدوين في خرتبرت مع جوسلين وقلران.
ثتم إن نور الدولة بلك عبر الفرات ونزل على حلب وضايقها، ونزل
من قبلها، ثم انتقل إلى بانقوسا، وأقام أياماً، ورحل إلى أرض التيرب،
وجبرين، وأمر بحرق الغلة وأخذ الدواب.
ومضى قطعة من عسكره إلى حدادين، فأخذ أحدهما عنزاً، فرماه بعض فلاحي
الضيعة بسهم فقتله فحصرت مغارتها وأخذت بعد أن امتنع أهلها من التسليم،
فدخنوا على المغارة فاختنق بها مائة وخمسون.
وخنق في مغارة تل عبود وتعجين جماعة وسبوا نساء عفر تنور وأولادها
(1/284)
وباعوا بعضهم واستعبدوا بعضاً وأخذ لأهل
حلب جشير خيل ثلاثمائة رأس، وكان حريق الزرع من رهقات بلك وكان سبباغً
للغلاء العظيم.
ثانيا بلك بن بهرام بن أرتق
وفي صباح يوم الثلاثاء، غزة جمادى الأولى من سنة سبع عشرة وخمسمائة،
تسلم مدينة حلب سلمها إليه مقلد بن سقويق بالأمان ومفرج بن الفضل،
ونودي بشعار بلك من عدة جهات، وكسر باب أنطاكية، وأخربت ثلمة من غربي
باب اليهود.
وفي يوم الجمعة رابع الشهر تسلم القلعة وجلس بها بعد ما نزل بدر الدولة
منها بيوم، وقرر حالها، وأخرج سلطان شاه بن رضوان، وسيره إلى حران،
وكان في فتحها في شهر ربيع الآخر خوفاً منه.
ثم أنه سار إلى البارة وهجمها، وأسر الأسقف الذي بها وقيده، ووكل به،
ورحل إلى كفر طاب فغفل الموكل به فهرب إلى كفر طاب، فعزم على قتال
حصنها، واسترجاع الأسقف في يوم الثلاثاء الثاني عشر من جمادى الآخرة.
فوصله من أخره أن بغدوين الرويس وجوسلين وقلران وابن اخت طنكريد وابن
أخت بغدوين وغيرهم من الأسرى الذين كانوا مسجونين بجب خرتبرت عاملوا
قوماً من أهل حصن خرتبرت فأطلقوهم، ووثبوا على الحصن فملكوه، وأخذوا كل
ما كان لنور الدولة فيه وكان جملة عظيمة، فقال جوسلين: كنا قد أشرفنا
على الهلاك والآن فقد خلصنا، والصواب أن نمضي ونحمل ما قدرنا عليه. فما
سمحت نفس بغدوين بترك الحصن والخروج منه.
فاتفق رأيهم على خروج جوسلين، وحلفوا على أنه لا يغير ثيابه ولا يأكل
لحماً ولا يشرب إلا وقت القربان إلى أن يجمع جموع الفرنجة ويصل بهم إلى
خرتبرت ويخلصهم.
(1/285)
وأما بلك فإنه سار حتى نزل على خرتبرت
ففتحه بالسيف في ثالث وعشرين من رجب، وقتل كل من كان به من من من كان
به من أصحابه الذين كفروا نعمته
ومن كان فيه من الفرنج، ولم يستبق سوى بغدوين الملك وقلران وابن أخت
بغدوين، وسيرهم إلى حران وحبسهم بها.
واما جوسلين فمضى إلى القدس، واستنجد بالفرنج، ووصلوا تل باشر، فسمعوا
خبر فتح خرتبرت بالسيف فسار إلى الوادي وقاتل بزاعا وأحرق بضع جدارها
ثم أحرق الباب وقطع شجره، وأحرق الباب وقطع شجره، وأحرق ما سواه من
الوادي.
ثم نزل حيلان ثم حلب من ناحية مشهد الجف من الشمال، وخرب المشاهد
والبساتين، وكسر الناس عند مشهد طرود بالقرب من بستان النقر، وقتل وسبى
مقدار عشرين نفراً.
ثم رحل ونزل الجانب الغربي في البقعة السوداء، وخرب مشاهد الجانب
القبلي وبساتينه، ونبش الضريح الذي بمشهد الدكة فلم يجد فيه شيئاً
فألقى فيه النار، والحلبيون في كل يوم يقاتلونه أشد قتال، ويخسر معهم
في كل حركة.
ثم رحل يوم الثلاثاء مستهل شهر رمضان، ونزل السعدي، وقطع شجره،
وافترقوا منه وسار كل إلى بلده، ووجد في منازلهم التي نزلوها نيف
وأربعون حصاناً موتى، ونبش الناس منهم موتى جماعة.
فأمر القاضي ابن الخشاب بموافقة من مقدمي حلب أن تهدم محاريب الكنائس
التي للنصارى بحلب، وأن يعمل لها محاريب إلى جهة القبلة وتغير أبوابها،
وتتخذ مساجد: ففعل ذلك بكنيستهم العظمى، وسمي مسجد السراجين: وهو مدرسة
الحلاويين الآن، وكنيسة الحدادين. وهي مدرسة الحدادين الآن، وكنيسة
بدرب الحراف: وهي مكان مدرسة ابن المقدم. ولم يترك للنصارى بحلب سوى
كنيستين لا غير، وهي الآن باقية.
(1/286)
هذا كله ونور الدولة بلك غائب عن مدينة حلب
في بلاده.
ثم إن جوسلين خرج في تاسع عشر شهر رمضان إلى الوادي والنقرة والأحص،
وأخذ ما يزيد عن خمسمائة فرس كانت في الغريب، حتى لم يبق بحلب من
الخيالة خمسون وفارساً لم خيل، وأخذ من الدوب البقر والغنم والجمال ما
لايحصى، وقتل وسبى وخرب ما أمكنه وعاد إلى تل باشر.
وخرج سير ألان في عسكر أنطاكية من الأثارب حتى وصل الحانوتة وحلفا،
وأخذ ما كان بقي من خيل في الغريب في الجانب القبلي، وذلك مقدار ثلاثه
صخرس ة وأخذ قافلة كانت واصلة من شيزر بغلة.
ثم عبر جوسلين من الفرات إلى شبختان وأغار على تركمان وأكراد، فأخذ ص
الغنم والخيل ما يزيد على عشرة الاف وسبى وقتل، ومن سلم له فرس من عسكر
حلب يخرجون مع الحرامية ولا يقطعون الغارات على بلادهم، ويحضرون
الأسارى مرة.
بعد أخرى.
ثم أغار جوسلين على الجبول، وما حولها، وأخذ دواب كثيرة وتوجه، إلىدير
حافر، فخنق أهلها بالذخان في المغاير، وفتح المقابر، وسلب الموتى
أكفانهم وفي يوم الأربعاء سادس عشرين من ذي القعدة، عبر بلك إلى الشام
وقبض على نائب بهرام داعي الباطنية بحلب، وأمر بإخراجهم من حلب فباعوا
أموالهم ورحالهم وخرجوا منها.
ثم إن الأمير نور الذولة بلك جمع العساكر، ووصله أتابك طغتكين بعسكر
دمشق عسكر أق سنقر - البرسقي، وعبروا حتى نزلوا على عزاز، وضايقوها
بالحصار، وأخذوا عليها نقوبا إلى أن سهل أمرها، فتجمع الفرنج وقصدوا
ترحيل المسلمين عنها فالتقىالجيشان، وهزم المسلمون، وتفرقوا بعد قتل من
قتل وأسر من أسر.
وعمر بلك حصن الناعورة بالئقرة وحصن المغارة - على شط الفرات - وتزويج
فرخنده خاتون بنت رضوان، وعرس بها في ثالث وعشرين ذي الحجة من سنة سبع
عشرة وخمسمائة.
(1/287)
وفي المحرم من سنة ثماني عشرة وخمسمائة،
تنكر بلك على رئيس حلب
سلمان العجلاني وجعل عليها رجلاً من أهل حران اسمه محمد بن سعدان،
ويعرف بابن سعدانة، وكثر الأمن من الذعار وقطاع الطريق عند قدوم بلك
حلب، وأقام الهيبة العظيمة، وتقدم بفتح أبواب حلب ليلاً ونهاراً، وحسم
مادة أرباب الفساد. وقال للحارس: إن عدت سمعتك تصيح ضربت عنقك.
ونقل بغدوين ومن كان معه من حبس حران، فحبسه في قلعة حلب.
وتوجه في شهر صفر فرقة من أصحابه الأتراك إلى ناحية عزاز، فوقع بينهم
وبين الفرنج وقعة عند مشحلا، وظفر بهم الأتراك، وقتلوا منهم أربعين
رجلاً من الخيالة والرجالة وأخذوا أسلابهم، ووصل الباقون عزاز وما فيهم
إلا من جرح جراحاً عدة.
وانقطع المطر في كانونين ونصف شباط، ثم تدارك فأخصب الزرع واستغل
الناس، وكان بحلب غلاء شديد.
وفي صفر من سنة ثماني عشرة وخمسمائة، تنكر نور الدولة بلك على حسان بن
كمشتكين صاحب منبج لشيء بلغه عنه، فأنفذ قطعة من عسكره مع ابن عمه
تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق، وتقدم إليهم أن يمروا على منبج، ويطلبوا من
حسان أن يخرج معهم للإغارة على تل باشر فإذا خرج
قبضوه، ففعلوا ذلك، ودخلوا منبج، وعصى عليهم الحصن ودخله عيسى أخو
حسان.
وسير حسان فحبس في حصن بالو بعد أن عوقب وعري، وسحب على الشوك فلم
يسلمها أخوه.
وكتب عيسى إلى جوسلين: إن وصلتني وكشفت عني عسكر بلك سلمت
(1/288)
إليك منبج. وقيل: إنه نادى بشعار جوسلين
بمنبج، فمضى إلى بيت المقدس وطرابلس وجميع بلاد الفرنج، وحشد ما يزيد
على عشرة آلاف فارس وراجل، ووصل نحو منبج ليرحل بلك عن منبج.
فسار إليه بلك لما قرب من منبج، والتقيا يوم الإثنين ثامن عشر شهر ربيع
الأول، واقتتل العسكران، وانهزم الفرنج، وتبعهم المسلمون يقتلون
ويأسرون إلى آخر النهار.
وحمل فيهم بلك ذلك اليوم خمسين حملة يفتك فيهم ويخرج سالماً، يضرب
بالسيوف ويطعن بالرماح ولا يكلم، وعاد إلى منبج فبات مصلياً مبتهلاً
إلى الله تعالى لما جدده على يده الظفر بالفرنج.
وأصبح يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الأول قتل كل أسير أسره في الوقعة،
ثم زحف نحو الحصن ليختار موضعاً ينصب فيه المنجنيق، وعليه بيضة وبيده
ترس.
وكان قد عزم على أن يستخلف ابن عمه تمرتاش بن إيلغازي على حصار منبج،
ويطلع منجداً لأهل صولا، فإن الفرنج كانوا في مضايقتها. وفي تلك
المضايقة أخذوها، فبينا كان بلك قائماً يأمر وينهى إذ جاءه سهم من
الحصن. وقيل أنه كان من يد عيسى، فوقع في ترقوته اليسرى فانتزعه وبصق
عليه، وقال: هذا قتل المسلمين كلهم. ومات لوقته.
وقيل: بقي ساعات وقضى نحبه رحمه الله وحمل إلى حلب، ودفن بها قبلي مقام
إبراهيم عليه السلام.
ثالثاً تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق
ووصل حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي إلى حلب يوم الأربعاء العشرين من
شهر ربيع الأول، ودخل القلعة ونصب علمه، ونادى الناس بشعاره.
وسار سليمان بن إيلغازي من ميافارقين إلى خرتبرت وحصون بلك، وهي نيف
وخمسون موضعاً فتسلمها.
(1/289)
وسار داود بن سكمان، فأخذ حصن بالو وأطلق
حسان بن كمشتكين فعاد إلى منبج.
فأما تمرتاش فإنه لما ملك حلب ألهاه الصبا واللعب عن التشمير والجد
والنظر في أمور الملك، ففسدت الأحوال، وضعف أمر المسلمين بذلك،
واستوزر أبا محمد بن الموصول، ثم عزله وصادره في رجب من سنة ثماني عشرة
واستوزر أبا الرجاء بن السرطان، وولى الرئاسة بحلب فضائل بن صاعد بن
بديع.
وسير إلى حران فحمل منها سلطان شاه بن رضوان، وكان بلك أسكنه بها
فاعتقله في دار بقلعة ماردين وكان فيها طاقة فتدلى منها بحبل وهرب إلى
دارا، ثم رحل منها إلى حصن كيفا إلى داود بن سكمان.
وفي العشر الأواخر من ربيع الأول سار نائب جوسلين من الرها وأغار على
ناحية شبختان ونهبها فسار إليه نائب تمرتاش عمر الخاص وكان نائبه وربيب
أبيه إيلغازي وركب خلفه في ثلاثمائة فارس فلحقه على مرج اكساس، فقاتله
وهزمه وقتله، وقتل أكثر من كان معه من الفرنج، وعاد غانماً، وأنفذ
رؤوسهم وما غنمه إلى تمرتاش إلى حلب.
وولاه تمرتاش شحنكية حلب وهو المدفون في القبة التي مقابل باب مشهد
إبراهيم عليه السلام واسمه مكتوب على جهاتها الأربع.
وولى قلعة حلب رجلاً يقال له عبد الكريم.
اطلاق سراح بغدوين
وفي غزة جمادى الأولى من هذه السنة استقر الأمر بين الملك بغدوين صاحب
أنطاكية وكان في سجن بلك بحلب وبين تمرتاش بن إيلغازي على تسليم
الأثارب
(1/290)
وزردنا والجزر وكفر طاب وعلى تسليم عزار
وثمانين ألف دينار وقدم منها عشرين ألف دينار.
وحلف على ذلك وعلى أن يخرج دبيس بن صدقة من الناس، وكان قد وصل دبيس
منهزماً من المسترشد بعد أن كسره المسترشد، وقتل خلقاً من عسكره فترك
بلاده، وحمل ما قدر عليه من العين والعروض على ظهور المطايا ووفد على
ابن سالم بن مالك بن بدران إلى قلعة دوسر، واستجار به فأجاره، وغاضب
المسترشد والسلطان محموداً في أمره.
وكاتب دبيس قوماً من أهل حلب، وأنفذ لهم جملة دنانير، وسامهم تسليمها
إليه، وكشف ذلك رئيسها فضائل بن صاعد بن بديع، فأطلع على ذلك تمرتالش
بن إيلغازي، فأخذهم وعذبهم وشنق بعضهبم، وصادر بعضاً، وأحرق بعضاً.
وكان المتوسط حديث بغدوين مع تمرتاش الأمير أبو العساكر سلطان بن منقذ،
وسير أولاده وأولاد إخوته رهناً عن بغدوين إلى حلب.
وفكت قيود بغدوين وأحضر إلى مجلس تمرتاش، وتواكلا وتشاربا وخلع عليه
قباء ملكياً وقلنسوة ذهب وخفافاً وراناً، وأعيد عليه الحصان الذي كان
أخذه منه بلك يوم أسره، فركبه، وسار إلى شيزر يوم الأربعاء رابع جمادى،
فبقي عند أبي العساكر حتى أحضر جماعة رهناً على الوفاء بما شرطه
لتمرتاش وهم: ابنته، وابن جوسلين، وغيرهما من أولاد الفرنج، وعدتهم
اثنا عشر نفراً. وحمل العشرين ألف دينار التي عجلها.
وقبض صاحب شيزر الرهائن، وأطلق بغدوين من سجن شيزر، في يوم الجمعة سابع
عشر شهر رجب، فخرج لعنه الله وغدر بتمرتاش وأنفذ إليه يقول: البطريرك
الذي لا يمكن خلافه سألني عما بذلت، وما الذي استقر، فحين سمع حديث
عزاز وتسليم حصنها مني أبى، وأمرني بالدفع عنها وقال إن خطيئتك تلزمني،
ولا أقدر على خلافه. فترددت الرسل بينهما فلم يستقر على قاعدة.
وخالط دبيس جوسلين وبغدوين، وصافاهم وصافوه بوساطة الأمير مالك بن سالم
صاحب قلعة جعبر، واتفق دبيس والفرنج على قواعد تعاهدوا عليها منها أن
(1/291)
تكون حلب لدبيس والأموال والأرواح للفرنج
مع مواضع في بلد حلب تكون للفرنج، وتقدم دبيس إلى مرج دابق فخرج إليه
حسام الدين تمرتاش فكسره.
وسار تمرتاش من حلب عندما علم بغدر الفرنج به إلى ماردين، في الخامس
والعشرين من شهر رجب، ليستنجد بأخيه سليمان بن إيلغازي وبجمع العساكر،
وبقي بنو منقذ رهائن بقلعة حلب عند تمرتاش، وأولاد الفرنج رهائن عند
أبي العساكر بن منقذ بشيزر.
والرسل مع هذا تتردد بين تمرتاش وبغدوين إلى أن عادت الرسل في ثامن عشر
شعبان مخبرة بنقض الهدنة، وبخروج بغدوين إلى أرتاح قاصداً النزول على
حلب.
أعمال الفرنج حول حلب وحصارها
ورحل بغدوين من أرتاح حتى نزل على نهر قويق وأفسد كل ما كان
عليه، ثم رحل فنزل على باب حلب، في يوم الاثنين السادس والعشرين من
شعبان، وهو السادس من تشرين الأول.
وخرج دبيس وجوسلين من تل باشر، وقصدا ناحية الوادي، وأفسدا القطن
والدخن، وسائر ما كان به وقوم ذلك بمائة ألف دينار، ورحلا ونزلا مع
بغدوين على حلب، ووصل إليهم الملك سلطان شاه بن رضوان.
ونزل بغدوين مقدم الفرنج من الجانب الغربي من حلب في الحلبة، ونزل
جوسلين على طريق عزاز وما يجاوره يمنة ويسرة. ونزل دبيس وسلطان شاه بن
رضوان مما يلي جوسلين من الشرق، وفي صحبة دبيس عيسى بن سالم بن مالك.
ونزل يغي سيان بن عبد الجبار بن أرتق صاحب بالس مما يلي دبيس من الشرق،
وكانت عدة الخيم ثلاثمائة، للفرنج مائتا خيمة وللمسلمين مائة خيمة.
وأقاموا على حلب يزاحفونها، وقطعوا الشجر وخربوا مشاهد كثيرة، ونبشوا
قبور موتى المسلمين، وأخذوا توابيتهم إلى الخيم وجعلوها أوعية لطعامهم،
وسلبوا الأكفان، وعمدوا إلى من كان من الموتى لم تنقطع أوصاله، فربطوا
في
(1/292)
أرجلهم الحبال، وسحبوهم مقابل المسلمين.
وجعلوا يقولون: هذا نبيكم محمد! وآخر يقول: هذا عليكم! وأخذوا مصحفاً
من بعض المشاهد بظاهر حلب وقالوا: يا مسلم أبصر
كتابكم. وثقبه الفرنجي بيده، وشده بخيطين، وعمله ثفراً لبرذونه، فظل
البرذون يروث عليه، وكلما أبصر الروث على المصحف صفق بيديه وضحك عجباً
وزهواً.
وأقاموا كلما ظفروا بمسلم قطعوا يديه ومذاكيره ودفعوه إلى المسلمين،
والمسلمون يفعلون بمن يأسرونه من الفرنج كذلك.
وربما شنق المسلمون بعضهم، ويخرج الغزاة من باب العراف، ويسرقونهم من
المخيم، ويقطعون عليهم الطرق، ويقتلون ويأسرون. ويصيح المسلمون على
دبيس من الأسوار: دبيس، يا نحيس! والرسل تتردد بينهم في الصلح، ولا
يستتب إلى أن ضاق الأمر بالمسلمين جداً.
وكان بحلب بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار والحاجب عمر الخاص، ومعهما
مقدار خمسمائة فارس، والذي يتولى تدبيرها وهو في مقام الرئاسة القاضي
أبو الفضل بن الخشاب وتولى حفظ المكان وبذل المال والغلال.
فاتفقوا على أن سيروا جد أبي قاضي حلب القاضي أبا غانم محمد بن هبة
الله ابن أبي جرادة ونقيب الأشراف وأبا عبد الله بن الجلي فخرجوا
ليلاً، ومضوا إلى تمرتاش إلى ماردين مستصرخين إليه ومستغيثين به فوجدوه
وقد مات أخوه سليمان ابن إيلغازي صاحب ميافارقين في شهر رمضان، وسار
تمرتاش إلى بلاده ليملكها، واشتغل بملك تلك البلاد عن حلب.
وكانت الرسل مترددة بينه وبين أق سنقر البرسقي صاحب الموصل في اتفاق
الكلمة على قصد الفرنج وكشفهم عن حلب، فاشتغل بهذا الأمر عن هذا
التقرير، والحلبيون عنده يفنيهم ويمطلهم. ولما خرج الحلبيون من حلب بلغ
الفرنج ذلك فسيروا خلفهم من يلحقهم، فلم يدركهم وأصبحوا في صباح تلك
الليلة وصاحوا إلى أهل حلب: أين قاضيكم؟ وأين شريفكم؟. فأسقط في أيديهم
إلى أن وصل منهم كتاب بخبر سلامتهم.
(1/293)
وبقي الحلبيون عند تمرتاش يحثونه على
التوجه إلى حلب، وهو يعدهم ولا يفعل، وهم يقولون له: نريد منك أن تصل
بنفسك، والحلبيون يكفونك أمرهم.
فضاق الأمر بالحلبيين إلى حد أكلوا فيه الكلاب والميتات، وقلت الأقوات،
ونفد ما عندهم، وفشا المرض فيهم، فكان المرضى يئنون لشدة المرض، فإذا
ضرب البوق لزحف الفرنج قام المرضى كأنما أنشطوا من عقال، وزحفوا إلى
الفرنج وردوهم إلى خيامهم، ثم يعودون إلى مضاجعهم.
فكتب جدي أبو الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم كتاباً إلى والده
يخبره بما آل أمر حلب إليه من الجوع وأكل الميتات والمرض، فوقع كتابه
في يد تمرتاش فغضب وقال: انظروا إلى هولاء يتجلدون علي، ويقولون إذا
وصلت فأهل حلب يكفونك أمرهم، ويغررون بي حتى أصل في قلة، وقد
بلغ بهم الضعف إلى هذه الحالة.
رابعاً أق سنقر البرسقي
ثم أمر بالتوكيل والتضييق عليهم، فشرعوا في إعمال الحيلة والهرب إلى أق
سنقر البرسقي، ليستصرخوا به فاحتالوا على الموكلين بهم، حتى ناموا
وخرجوا هاربين، فأصبحوا بدارا.
وساروا حتى أتوا الموصل، فوجدوا البرسقي مريضاً مدنفاً، والناس قد
منعوا من الدخول عليه إلا الأطباء، والفروج يدق له لشدة الضعف. ووصل
إلى دبيس من أخبره بذلك، فضرب البشارة في عسكره، وارتفع عنده التكبير
والتهليل، ونادى بعض أصحابه أهل حلب: قد مات من أملتم نصره. فكادت أنفس
الحلبيين تزهق.
واستؤذن للحلبيين على البرسقي فأذن لهم، فدخلوا إليه، واستغاثوا به،
وذكروا له ما أهل حلب فيه من الضر، فأكرمهم رحمه الله وقال لهم: ترون
ما أنا فيه الآن من المرض، ولكن قد جعلت لله علي نذراً إن عافاني من
مرضي هذا لأبذلن جهدي في أمركم، والذب عن بلدكم، وقتال أعدائكم.
قال القاضي أبو غانم قاضي حلب: فما مضى ثلاثة أيام بعد ذلك حتى فارقته
الحمى، فأخرج خيمته، ونادى في العساكر بالتأهب للجهاد إلى حلب.
وبقي أياماً وعمل العسكر أشغاله وخرج رحمه الله في عسكر قوي، فوصل
(1/294)
إلى الرحبة، وكاتب أتابك طغتكين صاحب دمشق،
وصمصام الدين خيرخان بن قراجا صاحب حمص.
ورحل إلى بالس، وسار منها إلى حلب فوصلها يوم الخميس لثمان بقين من ذي
الحجة من سنة ثماني عشرة.
ولما قرب من حلب رحل دبيس ناشراً أعلامه البيض إلى الفرنج عند قرية من
حلب، وتحولوا إلى جبل جوشن كلهم. وخرج الحلبيون إلى خيامهم فنهبوها
ونالوا منها ما أرادوا.
وخرج أهل حلب والتقوا قسيم الدولة عند وصوله. وسار نحو الفرنج فانهزموا
بين يديه من جبل جوشن، وهو يسير وراءهم على مهل حتى أبعدوا عن البلد.
فأرسل الشالشية، وأمرهم أن يردوا العسكر، فجعل القاضي ابن الخشاب يقول
له: يا مولانا لو ساق العسكر خلفهم أخذناهم، فإنهم منهزمون والعسكر
محيطة بهم. فقال له: يا قاضي تعلم أن في بلدكم ما يقوم بكم وبعسكري لو
قدر علينا والعياذ بالله كسرة؟ فقال: لا. فقال: ما يؤمننا أن يرجعوا
علينا ويكسرونا، ويهلك المسلمون، ولكن قد كفى الله شرهم وندخل إلى
البلد ونقويه وننظر في مصالحه، ونجمع لهم إن شاء الله، ونخرج إليهم بعد
ذلك.
ورجع ودخل البلد وتسلم قلعتها، ونظر في مصالح البلد وقواه، وأزال الظلم
والمكوس وعدل فيهم عدلاً شاملاً وأحسن إليهم إحساناً كاملاً.
وكتب لأهل حلب توقيعاً بإطلاق المظالم والمكوس، نسخته موجودة، بعدما
كان الحلبيون منوا به من الطلم والمصادرة من عبد الكريم والي القلعة،
وعمر الخاص والي البلد، وتسليطهما الجند والأتراك على مصادرة الناس
بحيث أنهم استصفوا أموال جماعة من الأكابر والصدور وغيرهم في حالة
الحصار.
(1/295)
وأما الفرنج فإنهم توجهوا إلى الأثارب
ودخلوا أنطاكية.
وشرع الناس في الزرع ببلد حلب في الثاني عشر من شباط وجعلوا يبلون
الغلة بالماء، ويزرعونها فنبتت وتداركت عليها الأمطار فأخصبت، وجاءت
الغلة من أجود الغلاء وأزكاها.
وأطلق البرسقي بني منقذ من الاعتقال بقلعة حلب، ورحل إلى تل السلطان في
سنة تسع عشرة وخمسمائة، في أواخر المحرم، وأقام به ثلاثة أيام، ورحل
إلى أن وصل إلى شيزر في سابع صفر، وتسلم أولاد الفرنج من ابن منقذ،
وباعهم بثمانين ألف دينار حملت إليه.
وأقام بأرض حماة أياماً حتى وصل إليه أتابك طغتكين، فرحل في عساكره
التي لا تحد كثرة، ونزل كفر طاب فسلمت إليه يوم الجمعة ثالث شهر ربيع
الآخر، وسلمها إلى صمصام الدين خيرخان بن قراجا، وكان قد
وصل إليه من حمص والتقاه بتل السلطان.
وسار إلى عزاز وقاتلها، ونقبت قلعتها فقصدهم الفرنج، فالتقوا سادس عشر
ربيع الآخر، وكسر البرسقي كسرة عظيمة، واستشهد جماعة من المسلمين من
السوقة والعامة، ولم يقتل من الأمراء والمقدمين أحد.
ووصل أق سنقر البرسقي سالماً إلى حلب، وأقام على قنسرين أياماً، وتفرقت
العساكر إلى بلادهم، ووصل أمير حاجب صارم الدين بابك بن طلماس، فولاه
البرسقي حلب وبلدها، وعزل عنها سوتكين والياً كان ولاه.
ووقعت الهدنة بين البرسقي والفرنج على أن يناصفهم في جبل السماق وغيره
مما كان بأيدي الفرنج، وسار البرسقي إلى الموصل فلم يزل الفرنج يعللون
الشحن والمقطعين بالمحال في مغل ما وقعت الهدنة عليه إلى العشرين من
شعبان من السنة.
وسار بغدوين إلى بيت المقدس والرسول خلفه يعلمه بأن الفرنج لا يمكنون
(1/296)
أحداً من رفع شيء من الصيافي، وأخذ بعض
متصرفي المسلمين بعض الارتفاع من بعض الأماكن والهدنة على حالها، فتجمع
الفرنج ونزلوا رفنية.
وخرج شمس الخواص صاحبها طالباً أق سنقر البرسقي مستصرخاً به، وسلمها
إليهم ولده المستخلف فيها في آخر صفر من سنة عشرين وخمسمائة، وقصدوا
بلد حمص فشعثوه.
فجمع البرسقي العساكر وحشد، وسار نحو الشام لحربهم حتى وصل الرقة في
أواخر شهر ربيع الآخر، وسار إلى أن نزل بالنقرة على الناعورة في الشهر
المذكور، وأقام به أياماً والفرنج يراسلونه، فراسله جوسلين على أن تكون
الضياع ما بين عزاز وحلب مناصفة وأن يكون الحرب بينهما على غير ذلك،
فاستقر هذا الأمر. وكان بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار وشهريار بك
ابن عمه، قد توجها مع جماعة من التركمان إلى المعرة فأوقعوا بعسكر
الفرنج، وقتل المسلمون منهم مائة وخمسين، وأسروا جفري بلنك، صاحب
بسرفوث، من جبل بني عليم، وأودع في سجن حلب.
وكان قد سير البرسقي ولده عز الدين مسعوداً منجداً لصاحب حمص، فاندفع
الفرنج عنها فعاد عز الدين إلى والده، فتركه بحلب، وعزل بابك، عن
ولايتها وولاها كافور الخادم إلى أن ينظر فيمن يوليه إياها ولاية
مستقلة.
ورحل قسيم الدولة إلى الأثارب في الثامن من جمادى الآخرة من سنة عشرين،
وسير بابك بن طلماس في جماعة من العسكر والنقابين إلى حصن الدير المجدد
فرق سرمداً ففتحه سلماً.
وقتل من الخيالة بعد ذلك خمسون فارساً، ونهب العساكر الغلال والفلاحين
في سائر البلد الذي وصلت الغارات إليه، ورفعوا الغلة جميعها إلى حلب،
وزحفوا إلى قلعة الأثارب، وخربوا الحوشين، ولم يتيسر فتحها.
ووصل بغدوين من القدس في جموع الفرنج، ووصل إليه جوسلين، ونزلوا عم
وأرتاح، وسيروا إلى البرسقي: ترحل عن هذا الموضع، ونتفق على ما كنا
عليه
(1/297)
في العام الخالي، ونعيد رفينة عليك. فتجنب
الحرب، وخشى أن يتم على المسلمين ما تم على عزاز فصالحهم إلى أن فرج
الخناق عن الأثارب، وخرج صاحبها بماله ورجاله.
فغدر الفرنج وقالوا: ما نصالح إلا على أن تكون الأماكن التي ناصفنا
فيها في العام الماضي لنا دون المسلمين. فامتنع من ذلك وأقام على حلب
أياماً والرسل تتردد بينهم، فلما لم تتفق حال عاد أق سنقر، ونزل
قنسرين، ورحل إلى سرمين، وامتدت العساكر إلى الفوعة ودانيث.
ونزل الفرنج على حوض معرة مصرين، فأقاموا كذلك إلى نصف رجب، ونفدت
أزواد الفرنج، فعادوا إلى بلادهم، ثم عاد البرسقي وفي صحبته أتابك
طغتكين، وكان وصل إليه وهو على قنسرين فدخلوا من العسكر ونزلوا باب
حلب. ومرض أتابك فعملت له المحفات، وأوصى إلى البرسقي، وتوجه إلى دمشق،
وسلم البرسقي حلب وتدبيرها إلى ولده عز الدين مسعود، فدخل حلب، وأجمل
السيرة وتحلى بفعل الخير.
مقتل البرسقي
وسار أبوه إلى الموصل، فدخلها في ذي القعدة سنة عشرين
وخمسمائة، وقصد الجامع بها ليصلي فيه يوم الجمعة تاسع ذي القعدة، وقصد
المنبر، فلما قرب منه وثب عليه ثمانية نفر في زي الزهاد، فاخترطوا
خناجر وقصدوه وعليه درع من الحديد، وحوله جمع عظيم وهو متحقظ منهم،
فسبقبوا أصحابه إليه، فضربوه حتى أثخنوه وحمل جريحاً فمات من يومه.
وقتل من كان وثب عليه من الباطنية غير شاب واحد كان من كفر ناصح ضيعة
من عمل عزاز فإنه سلم، وكان له أم عجوز فلما سمعت بقتل البرسقي وقتل من
وثب عليه وكانت قد علمت أن ابنها معهم فرحت واكتحلت وجلست مسرورة
فوصلها ابنها بعد أيام سالماً فأحزنها ذلك، وجزت شعرها وسودت وجهها.
(1/298)
وقيل: إن البرسقي قتل بيده منهم ثلاثة،
وكان البرسقي رحمه الله قد رأى تلك الليلة في منامه عدة من الكلاب
ثاروا به فقتل بعضها، ونال منه الباقون أذى شديداً، فقصق رؤياه على
أصحابه، فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدة أيام، فقال: لا أترك
الجمعة لشيء أبداً. وكان من عادته أن يحضر الجمعة مع العامة رحمه الله
وكان وزير البرسقي المؤيد بن عبد الخالق وكان قدم معه حلب حين قدمها.
خامساً عز الدين مسعود ووفاته
وملك عز الدين مسعود حلب عند ورود الخبر عليه بقتل أبيه في سنة
عشرين، واستوزر المؤيد وزير أبيه وولى فيها من قبله الأمير تومان.
وسار من حلب في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة إلى السلطان محمود وهو
ببغداد، فسأله أن ينعم عليه ببلاد أبيه، فكتب له منشوراً بذلك، فوصل
إلى الموصل وملكها، ثم نزل إلى الرحبة قاصداً إلى الشام، وكان يظن أن
قاتل أبيه قوم من أهل حماة، فأضمر للشام وأهله شراً عظيماً.
ورجع عما كان عليه من الأفعال المحمودة والإقبال على مجاهدة الفرنج،
وبلغ طغتكين عنه أنه يقصده، فتأهب له فلما نزل بظاهر الرحبة امتنع
واليها من تسليمها، فحاصرها أياماً فسلمها الوالي إليه، ونزل فوجده قد
مات فجأة، وقيل: سقي سماً فمات.
وندم الوالي على تسليم الرحبة، وكان قد وصلت قطعة من العسكر لتقوية حلب
فمنعهم تومان من الدخول إليها. فوقع الشر بينه وبين رئيس حلب فضائل بن
بديع، وداخلهم إلى حلب.
(1/299)
فوصل إلى حلب ختلغ أبه السلطاني غلام
السلطان محمود، ومعه توقيع مسعود بن البرسقي بحلب، كتبه قبل وصوله إلى
الرحبة فلم يقبله تومان والي حلب فعاد ختلغ أبه إلى الرحبة وقد جرى
فيها ما ذكرناه من موت مسعود.
فعاد ختلغ أبه على فوره إلى حلب فتسلمها من يد تومان، آخر جمادى
الآخرة، وصعد إلى قلعتها بطالع اختاره له المنجمون، فأخذه الطمع في
أموال الناس، وصادر جماعة من أهل حلب، واتهمهم بودائع المجن الفوعي،
رئيس حلب المقتول في أيام رضوان.
وقبض على شرف الدين أبي طالب بن العجمي وعمه أبي عبد الله، واعتقلهما
بحلب. وثقب كعاب أبي طالب وصادره، فعاد فعله القبيح عليه بالبوار، وضل
رأي منجمه في ذلك الاختيار.
وقام أهل حلب عليه فحصروه، وقدموا عليهم بدر الدولة سليمان بن عبد
الجبار، ونادى أهل حلب بشعار بدر الدولة، وساعده على ذلك رئيس حلب
فضائل ابن صاعد بن بديع، وقبض على أصحاب ختلغ أبه، وذلك في الثاني من
شوال.
وقصد حلب في تلك الحال ملك أنطاكية وجوسلين فصانعوه على مال حتى رحل،
وضايقوا القلعة وأحرقوا القصر، ودخل إليهم إلى المدينة الملك إبراهيم
بن رضوان، ووصل إليهم حسان صاحب منبج، وصاحب بزاعا، ودام الحصار إلى
النصف من ذي الحجة.
(1/300)
|