زبدة الحلب في تاريخ حلب
القسم الثاني والعشرون
حلب وعماد الدين
عماد الدين زنكي في حلب
وكان أتابك عماد الدين زنكي بن قسيم الدولة أقسنقر قد ملك الموصل
بتواقيع السلطان محمود، فسير إليه شهاب الدين مالك بن سالم صاحب قلعة
جعبر وأعلمه بأحوال حلب وحصارها فسير أتابك إليها
عسكراً مع الأمير سنقر، دراز والأمير الحاجب صلاح الدين حسن ودخل
الأمير صلاح الدين فأصلح الحال، ووفق بينهما على أن استدعيا أتابك زنكي
من الموصل، فتوجه بالجيوش إلى حلب، وقيل، إن بدر الدولة وختلغ سارا
إليه.
وقيل (*) : إن ختلغ أبه لم يزل بالقلعة حتى وصل أتابك فنزل إليه، وصعد
أتابك إلى القلعة يوم الاثنين سابع عشر جمادى الآخرة، من سنة اثنتين
وعشرين وخمسمائة، وارتاد موضعاً ينقل أباه قسيم الدولة إليه ويدفنه به،
وكان مدفوناً بالقبة التي على جبل قرنبيا. فعرض عليه بدر الدولة نقل
أبيه إلى المدرسة التي أنشأها بالزجاجين.
وقيل: إن أبا طالب بن العجمي طلب منه ذلك، فنقله ورفعه في الليل من سور
حلب، ودفنه في البيت الشمالي من المدرسة، واتخذه تربة لمن يموت من
أولاده
(1/301)
ووقف على المقرئين على تربة والده القرية
المعروفة بشامر.
وأما الملك إبراهيم بن رضوان فإنه هرب منه إلى نصيبين، وكانت في أقطاعه
إلى أن مات.
وأما ختلغ أبه فإنه سلمه إلى فضائل بن بديع فكحله بداره، ثم قتله أتابك
بعد ذلك.
وقيل: إن بدر الدولة هرب منه عند ذلك، وهرب فضائل بن بديع إلى قلعة ابن
مالك خوفاً من أتابك.
وولى أتابك رئاسة حلب الرئيس صفي الدين أبا الحسن علي بن عبد الرزاق
العجلاني البالسي، فسلك أجمل طريقة مع الناس.
التوقيع له بجميع البلاد الشامية
وخرج أتابك من حلب، وسار حتى نزل أرض حماة، فوصله صمصام الدين خيرخان
بن قراجا وتأكدت بينهما مودة لم تحمد عاقبتها فيما نذكره بعد وكذلك
وصله سونج ابن تاج الملوك.
ثم سار أتابك بعد ذلك، فوطىء بساط السلطان، في سنة ثلاث وعشرين
وخمسمائة، وعاد بالتواقيع السلطانية بملك الغرب كله، ودخل الموصل، ثم
فتح قلعة السن، وتوجه إلى حلب، ورعى عسكره زرع الرها.
وعبر أتابك الفرات إلى حلب بتوقيع السلطان محمود، وقد كان السلطان آثر
أن تكون البلاد لدبيس، فقبح المسترشد ذلك، وكاتب السلطان وقال له فيما
قال: إن هذا أعان الفرنج على المسلمين وكثر سواد الكفار، فبطل هذا
التدبير.
(1/302)
واستقر ملك أتابك بالموصل، والجزيرة،
والرحبة، وحلب، والتوقيع له بجميع البلاد الشامية وغيرها.
زواج وطلاق
وتزوج أتابك خاتون بنت الملك رضوان، وبنى بها في دير الزبيب، وكانت معه
إلى أن فتح الخزانة بحلب، واعتبر ما فيها، فرأى الكبر الذي كان على
أبيه أق سنقر، حين قتله تتش جدها، وهو ملوث بالدم، فهجرها من ذلك
اليوم.
وقيل: إنه هدم المشهد الذي على قبر رضوان، عند ذلك.
ودام أتابك مهاجراً لها إلى أن دخلت على القاضي أبي غانم قاضي حلب،
وشكت حالها، فصعد إليه وكان جباراً إلا أنه ينقاد إلى الحق، وإذا خوف
بالله خاف، فخرج ليركب، فلما ركب ذكر له القاضي ما ذكرته خاتون، فساق
دابته أتابك، ولم يرد عليه جواباً، فجذب القاضي أبو غانم بلجام دابته،
فوقفت، وقال له: يا مولانا، هذا الشرع لا ينبغي العدول عنه. فقال له
أتابك: اشهد علي أنها طالق. فأرسل اللجام وقال: أما الساعة فنعم.
سيف الدين سوار
واستوحش الأمير سوار بن أيتكين من تاج الملوك بوري صاحب دمشق، وكان في
خدمته، فورد إلى حلب إلى خدمة أتابك، في سنة أربع وعشرين، فأكرمه،
وشرفه، وخلع عليه، وأجرى له الإقطاعات الكثيرة، وأعطاه ولاية حلب
وأعمالها، واعتمد عليه في قتال الفرنج، وكان له بصيرة بالحرب وتدبير
الأمور وله وقعات كثيرة مع الفرنج ومواقف مشهورة أبان فيها عن شجاعة
وإقدام، وصار له بسببها الهيبة في قلوب الكفار الأغتام.
من حماة إلى حمص
__________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: من هنا إلى آخر الكتاب، الترقيم غير
موافق للمطبوع
وعز أتابك في السنة على الجهاد، وكتب إلى تاج الملوك بوري بن طغتكين
(1/303)
صاحب دمشق، يلتمس منه المساعدة، فأجابه إلى
ذلك وتحالفا على الصفاء. وكتب تاج الملوك إلى ولده بهاء الدين سونج
بحماة، يأمره بالخروج بعسكره، وجهز إليه من دمشق خمسمائة فارس، وجماعة
من الأمراء مقدمهم شمس الخواص، فخرجوا حتى وصلوا إلى مخيم أتابك على
حلب، فأكرمهم وتلقاهم، وأقاموا عنده ثلاثاً. ثم أظهروا الغارة على
عزاز، وركبوا وعطفوا على سونج، وغدر به وبأصحابه، ونهب خيامهم وأثقالهم
وكراعهم، وهرب بعضهم، وقبض على سونج والباقين، وحملهم إلى حلب،
واعتقلهم فيها.
وسار من يومه إلى حماة فأخذها يوم السبت ثامن شوال، وأقام بها أياماً،
وطلبها خير خان بن قراجا صاحب حمص، وبذل عليها مالاً، فسلمها إليه بكرة
الجمعة رابع عشر شوال، وضربت بوفاته عليها، وخطب له الخطيب على المنبر.
فلما كان وقت العصر من ذلك اليوم قبض عليه ونهب خيامه وجميع ما فيها.
وسار فنزل حمص، فقاتلها أربعين يوماً لم يظفر فيها بطائل غير الربض،
وكان يربط خير خان على غراير التبن، ويعاقبه ويعذبه أنواع العذاب،
وانتقم الله منه ببعض ظلمه في الدنيا، وهو كان يحرض أتابك على الغدر
بسونج، فكافأه الله.
وهجم الشتاء فعاد أتابك إلى حلب في ذي الحجة.
أنطاكية
وملكت أنطاكية زوجة البيمند بنت بغدوين، وحالفت جماعة من الفرنج على
(1/304)
قتال أبيها، ووقع بين الفرنج شر. وهجم
المسلمون ربض الأثارب، وربض معرة مصرين، فوصل بغدوين من البيت المقدس،
وأغار على أنطاكية وأخذ قوماً من أصحاب ابنته، فقطع أيديهم وأرجلهم.
وفتح قوم من السرجندية باب أنطاكية، فدخلها في سنة خمس وعشرين، فطرحت
ابنته نفسها عليه، فصفح عن ذنبها، وأخذ أنطاكية، ووهبها جبلة
واللاذقية. وعاد إلى القدس.
وتوجه أتابك إلى الموصل في سنة خمس وعشرين وخمسمائة، واستصحب معه سونج
بن تاج الملوك، وبعض المقدمين من عسكر دمشق، وترك الباقين بحلب، وترددت
المراسلات في إطلاقهم، فلم يفعل، والتمس عنهم خمسين ألف دينار أجاب تاج
الملوك إلى تحصيلها وحملها.
ووقع في هذه السنة وقعة جوسلين وسوار، بناحية حلب الشمالية، فكانت
الغلبة لجوسلين، وقتل من المسلمين جماعة، وخرج سوار بعد ذلك فهجم ربض
الأثارب ونهبه.
خبر دبيس ومقتله
ووصل دبيس في هذه السنة منهزماً من المسترشد، وكان قد كسره عسكر
المسترشد في هذه السنة، فانهزم وخفي خبره عن كل أحد، فظهر بعد مدة أنه
وصل إلى قلعة جعبر، وأودع ابن السلطان عند مالك صاحبها، وسار جوسلين،
واستند إلى الفرنج فلم ير ما يعجبه.
(1/305)
وكاتب تمرتاش ثم خاف من غدره، وأن يفادي به
خير خان، فسار إلى بلد دمشق، فنزل ضالاً على مكتوم بن حسان.
وقيل: كان سائراً إلى صاحبة صرخد ليتزوجها، فضل في الطريق، ولم يكن معه
دليل عارف بالمناهل.
وقيل: كان قاصداً حلة مزين، فهلك أكثر أصحابه.
وحصل في حلة حسان كالمنقطع الوحيد في نفر يسير من أصحابه، فأنهض تاج
الدولة بوري العسكر إليه حينما سمع به، فأسره، ووصلوا به إلى دمشق، لست
خلون من شعبان سنة خمس وعشرين، وأنزله في دار بقلعة ثمشق، وأكرمه
وأضافه، وحمل إليه من الملبوس والمفروش ما يليق به، واعتقله اعتقال
كرامة. وكاتب المسترشد في أمره فرد عليه الجواب بالإحتياط عليه إلى أن
يصل من يحمله إلى بغداد.
فلفا عرف أتابك زنكي ذلك، أنفذ رسوله إلى تاج الملوك يطلب تسليم دبيس
إليه، وأن يطلق له الخمسين ألف دينار المقررة عن ولده سونج وبقية
العسكر، فأجاب إلى ذلك، وتقرر الشرط عليه.
ووصل أتابك زنكي إلى قريب قارا بسونج والمعتقلين، وتوجه أصحاب تاج
الملوك بدبيس فتسلمه زنكي، وحمله في محلة مقيداً وسلم سونج بن تاج
الملوك وجماعته إلى أصحابه.
وكان يظن دبيس أن أتابك زنكي يهلكه، فلما وصل إلى حلب أطلقه وأكرمه،
وأنزله بحلب في دار لاجين، وأعطاه مائة ألف دينار، وخلع عليه خلعاً
فاخرة. وكان عرض لدبيس في طريقه وهو مكبل بالحديد شاعر امتدحه بأبيات
ولم يكن معه ما يجيزه، فكتب له في رقعة هذين البيتين، ودفعهما إليه:
الجود فعلي ولكن ليس لي مال ... وكيف يصنع من بالقرض يحتال
(1/306)
فهاك خطي إلى أيام ميسرتي ... ديناً علي
فلي في الغيب آم ال
فجاءه الشاعر بحلب، وقد خرج مسيراً في ميدان الحصا، فقال له: يا أمير
لي عليك دين! فقال: " والله ما أعرف لأحد علي ديناً فقال: بلى، وشاهده
منك، وأخرج له خطه، فلما وقف عليه قال: إي والله دين وأي دين وأمره أن
يأتي إليه إذا نزل، فأتاه فأعطاه ألف دينار والخلعة التي خلعها أتابك
زنكي عليه، وكانت جبة أطلس وعمامة شرك.
وحصل دبيس بعد ذلك عند السلطان مسعود، في سنة تسع وعشرين، حتى كسر
مسعود المسترشد وأسره على باب مراغة.
وسير السلطان إلى أتابك زنكي يستدعيه، وعزم على الفتك به، واطلع دبيس
على ذلك، فكتب إلى أتابك يعلمه ويحذره من المجيء فامتنع. وكان السلطان
قد سير دبيساً إلى الحلة، واطلع بعد ذلك على فعل دبيس، فرده. وحذره
الناس فلم يفعل فوصل. فلما وصل إلى الخيمة قام السلطان عن السرير،
وقال، هذا جزاء من يخون مولاه. وضرب رأسه فأطاره، فبلغ ذلك زنكي فقال:
فديناه بالمال وفدانا با لروح.
ووصل سديد الدولة بن الأنباري كاتب الإنشاء للمسترشد إلى تاج الملوك،
في أواخر ذي القعدة لتسليم دبيس إلى من يحمله إلى بغداد، فوجد الأمر قد
فات، فعاد فصادفته خيل أتابك زنكي بناحية الرحبة فأوقعوا به، وقبضوه،
ونهبوا ما كان معه حتى نهبوا القافلة اتتي كانت معه، وقتل بعض غلمانه،
ولقي شدة عظيمة من الاعتقال إلى أن أطلق، وعاد إلى بغداد.
وفي سنة ست وعشرين وخمسمائة، فتح الملك كليام رام حمدان، وسار أتابك
ودبيس إلى بغداد، مباينين للمسترشد، وعزما على أن يهجما بغداد، فبذل
لهما الحلة، وأن يدخل نائبهما بغداد، فأبيا فخرج إليهما المسترشد
بنفسه، والتقوا في
(1/307)
شعبان على عقرقوف فكسرهما. وعاد أتابك زنكي
إلى الموصل، وسار دبيس إلى السلطان سنجر.
بين المسلمين والفرنج
ووقع بين الفرنج، في هذه السنة، فتن. وقتل بعضهم بعضاً، وقتل صاحب
زردنا، ونزل التركمان على بلد المعرة وكفر طاب، وقسموا المغلات، فاجتمع
الفرنج وهزموهم عن البلد، وفتحوا حصن قبة ابن ملاعب، وأسروا منه بنت
سالم بن مالك وحريم ابن ملاعب، وخربوا الموضع.
وأوقع الأمير سيف الدين سوار بفرنج تل باشر، وقتل منهم خلقاً كثيراً،
ووثب قوم من أهل الجبل على حصن القدموس، فأخذوه وسلموه إلى سيف الملك
بن عمرون، فاشتراه أبو الفتح الداعي الباطني منه.
ووصل صاحب القدموس إلى أنطاكية، وجمع وخرج إلى نواز، وسار إلى قنسرين
في جموع الفرنج، والتقوا بعسكر حلب وسوار، في سنة ثمان وعشرين في ربيع
الأول، فكسروا المسلمين وقتلوا أبا القاسم التركماني، وكان شجاعاً،
وقتلوا القاضي أبا يعلى بن الخشاب، وغيرهما.
وتحول الفرنج إلى النقرة، فصالحهم سوار والعسكر، فأوقعوا بسرية منهم،
فقتلوهم، وعادوا برؤوسهم وأسرى منهم، فسر الناس بذلك بعد مساءتهم
بالأمس.
(1/308)
وأغارت خيل الرها من الفرنج ببلد الشمال،
وهي عابرة إلى عساكر الفرنج، فأوقع بهم سوار وحسان صاحب منبج وقتلوهم
بأسرهم وحملوا الرؤوس والأسرى إلى حلب.
حروب داخلية وخارجية
وفتح شمس الملوك اسماعيل ابن تاج الملوك حماة من يد نائب صلاح الدين،
وكان قد عزم على ذلك، فتحصن واليها، فانتهى ذلك إلى شمس الملوك، فخرج
في العشر الأواخر من شهر رمضان، وعزم على قصدها والناس بها غافلون.
وهجم يوم العيد على من فيها وزحف في الحال فتحضنوا منه، فعاد في ذلك
اليوم، وقد نكا أصحابه في أهلها، ثم زحف عليها زحفاً قوياً، فانهرموا
بين يديه، وهجم البلد فطلبوا الأمان فأمنهم، وحلفه والي القلعة على
أشياء اقترحها، وأجابه إليها وسلمها إليه، فسلمها إلى شمس الخواص.
وحصر المسترشد الموصل، وثارت الحروب بين السلاطين، فبلغ المسترشد ما
أزعجه، فعاد عنها، فوصل حسام الدين تمرتاش إلى خدمة أتابك زنكي، فسار
معه إلى لقاء داود بن سكمان بن أرتق، فكسره أتابك بباب آمد، وانهزم
داود وأسر ولده، وقتل جماعة من أصحابه، وذلك في يوم الجمعة سلخ جمادى
الآخرة.
ونزل على آمد وحصرها، وقطع شجرها، فصانعه صاحبها بمال، فرحل عنها إلى
قلعة الصور ففتحها، وفتح البارعية، وجبل جور، وذا القرنين، ووهب
(1/309)
ذلك كله لحسام الدين تمرتاش، وفتح طنزة
فاستبقاها لنفسه.
وتزوج أتابك صاحبة خلاط ابنة سقمان القطبي.
واستولى أتابك على العقر وشوش وغير ذلك من قلاع الأكراد، وأغار في هذه
السنة سوار على الجزر وحصن زردنا، وأوقع بالفرنج على حارم، وشحن على
بلد المعرتين، وعاد بالغنائم إلى حلب.
واستوزر زنكي في هذه السنة ضياء الدين أبا سعد الكفرتوثي، وكان مشهوراً
بحسن الظريفة والكفاية وحب الخير والمذهب الحميد، وقدم معه إلى حلب،
وعزم على قصد دمشق ومضايقتها.
وذكر العظيمي في تاريخه: أنه حصرها، في هذه السنة مدة، ثم رحل إلى حلب،
ثم شرق إلى الموصل.
والصحيح: أنه حصرها في سنة تسع وعشرين وخمسمائة.
مقتل شمس الملوك وتسلم شهاب الدين
وذلك أن صاحبها شمس الملوك أبا الفتح إسماعيل بن بوري، انهمك في
المعاصي والقبائح، وبالغ في الظلم، وأعرض عن مصالح الدين والنظر في
أمور المسلمين، بعد اهتمامه أولاً بذلك.
واستخدم بين يديه رجلاً كردياً يعرف ببدران الكافر جاءه من بلد حمص،
وكان قليل الدين متنوعاً في أبواب الظلم، ليس في قلبه لأحد رحمة، فسلطه
على ظلم المسلمين ومصادرة المتصرفين بأنواع قبيحة من الظلم، وظهر منه
بخل عظيم وسفت نفسه إلى تناول الدنايا وغير ذلك من الأفعال الذميمة.
وعزم على مصادرة كتابه وحجابه وأمرائه، فخاف منه أصحابه، واستشعروا
منه، ووقعت الوحشة بينهم.
(1/310)
وعرف عزم أتابك زنكي على قصد دمشق، وأنه
متى وصلها سلمت إليه، فكاتب أتابك زنكي وحثه على سرعة الوصول إليها
ليسلمها إليه طوعاً، وشرط عليه أن يمكنه من الإنتقام من كل من يكرهه من
المقدمين والأمراء والأعيان، وكرر المكاتبة إليه في ذلك، وقال: إن
أهلمت هذا الأمر استدعيت الفرنج وسلمت دمشق إليهم، وكان إثم المسلمين
في عنقك.
وشرع في نقل أمواله وأحواله إلى صرخد، فظهر هذا الأمر لأصحابه، فأشفقوا
من الهلاك وأعلموا والدته زمرد خاتون بذلك، فقلقت له، وحسنوا لها قتله،
وتمليك أخيه شهاب الدين محمود فرجح ذلك فى نظرها، وعزمت عليه، فانتظرت
وقت خلوته من غلمانه وسلاحيته، وأدخلت عليه من أصحابها من قتله.
وأخرجته فألقي في ناحية من الدار ليشاهده غلمانه وأصحابه فسروا بذلك.
وذلك في يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر ربيع الآخر، سنة تسع وعشرين
وخمسمائة.
وقيل: أنه اتهم يوسف بن فيروز حاجب أبيه بوالدته، فهرب منه إلى تدمر،
فأراد قتل أمه، فبلغها الخبر فقتلته خوفاً منه.
وأجلست والدته مكانه أخاه شهاب الدين محمود بن بوري، وحلف الناس له.
وتوجه أتابك زنكي من الموصل مجداً ليتسلم دمشق من شمس الملوك، فوصل إلى
الرقة وقال: أشتهي أن أدخل الحمام. فأحضر صلاح الدين مسيب بن مالك صاحب
الرقة، وقال له: أتابك يشتهي دخول الحمام، وهذه خمسمائة دينار تسلمها
واعمل له بها دعوة فلم يشك في ذلك، ودخلوها، فلما حصلوا بها أخذوها
منه، وذلك في العشرين من شهر ربيع الآخر.
وبلغه ما جرى بدمشق، فلم يقطع طمعه فيها، وسار فنزل العبيدية، وراسل
أهل دمشق، فلم يجيبوه إلى مطلوبه وردوا عليه جواباً خشناً، يتضمن أن
الكلمة قد
(1/311)
اتفقت على حفظ الدولة والذب عنها، فلم يحفل
بذلك.
وسار إلى حماة فخرج إليه شمس الخواص بعد أن توثق منه بالأيمان. ورحل
إلى دمشق، وسار إليها، فنزل على دمشق في عسكر عظيم، وزحف عليها مراراً
متعددة، فلم يظفر فيها بطائل، واشتد الغلاء في العسكر، وعدموا القوت،
وقفز جماعة من العسكر إلى دمشق، ووقعت المراسلة في حديث الصلح. وكان قد
وصل مع أتابك بعض أولاد السلطان فطلب أن يخرج شهاب الدين محمود لوطء
بساط ولد السلطان، فلم يفعل.
واتفق الأمر على خروج أخيه تاج الملوك بهرام شاه، واتفق عند ذلك وصول
بشر بن كريم بن بشر رسولاً من المسترشد إلى زنكي بخلع هيئت له، وتقدم
إليه بالرحيل عن دمشق والوصول إلى العراق، ليوليه أمره وتدبيره، وأن
يخطب للسلطان ألب أرسلان داود بن محمود المقيم بالموصل وكان قد وصل
هارباً من بين يدي عمه السلطان مسعود فأكرمه أتابك.
فدخل الرسول وبهاء الدين بن الشهرزوري إلى دمشق، وقررا هذه القاعدة
وأخمدا الفتنة، وأكدا الأيمان، وخطب يوم الجمعة الثامن والعشرين من
جمادى الأولى بجامع دمشق بحضورهما، على القاعدة التي وصل فيها الرسول.
زنكي في حماه وحلب وحمص وبغداد
وعاد أتابك من دمشق، فلما وصل حماه قبض على شمس الخواص صاحبها، وأنكر
عليه أمراً ظهر منه، وشكا أهلها من نوابه فتسلمها منه، وأطلقه فهرب،
ورد حماة إلى صلاح الدين ورحل من حماة.
وسار إلى بلد حلب، فنزل على الأثارب، ففتحها أول رجب، ثم فتح زردنا، ثم
تل أغدي، ثم فتح معرة النعمان، ومن على أهلها بأملاكهم، ثم فتح كفر طاب
ونزل على شيزر فخرج إليه أبو المغيث بن منقذ نائباً عن أبيه، ثم نزل
بارين وأظهر
(1/312)
أنه يحاصرها، ثم سار، وأهل حمص غادون، فشن
عليهم الغارة، واستاق كل ما كان في بلدها ونهبهم.
ووصل ابن الفنش الفرنجي من بيت المقدس وخرج في جموع الفرنج، فنزل
قنسرين، فسار إليهم أتابك فأحسن التدبير، وما زال بالمسلمين حولهم حتى
عادوا إلى بلادهم.
وسار زنكي إلى حمص فأحرق زرعها، وقاتلها في العشر الأواخر من شوال، ثم
سار إلى الموصل في ذي القعدة من هذه السنة.
وسار منها في المحرم من سنة ثلاثين وخمسمائة إلى بغداد، ومعه داود بن
محمود بن محمد بن ملكشاه الواصل إليه إلى الموصل، فأنزله في دار
السلطنة ببغداد، وأتابك في الجانب الغربي، والخليفة إذ ذاك الراشد بعد
قتل المسترشد. فوصل السلطان مسعود إلى بغداد فحصرهم بها فوقع الوباء في
عسكره، فسار إلى أرض واسط ليعبر إلى الجانب الغربي، فاغتنم أتابك
غيبته، وسار إلى الموصل، وسار داود إلى مراغة.
وبلغ الخبر السلطان مسعود فعاد، فهرب الراشد، ولحق أتابك بالموصل. ودخل
مسعود بغداد، فبايع محمد المقتفي، وخطب له ببغداد وأعمال السلطان،
وبقيت الخطبة بالشام والموصل على حالها إلى أن اتفق أتابك زنكي
والسلطان مسعود واصطلحا، وخطب بالشام والموصل للمقتفي ولمسعود. وفارق
الراشد إذ ذاك زنكي، وسار عن الموصل إلى خراسان في سنة إحدى وثلاثين.
توسع عماد الدين وتحرك الروم
وسار سيف الدين سوار في سنة ثلاثين وخمسمائة في جمع من التركمان يبلغ
(1/313)
ثلاثة آلاف إلى بلد اللاذقية، وأغار على
الفرنج على غرة وقلة احتراز، فعادوا ومعهم ما يزيد على سبعة آلاف أسير،
ما بين رجل وامرأة وصبي وصبية ومائة ألف رأس من البقر والغنم والخيل
والحمير، والذي نهبوه على ما ذكر مائة قرية وامتلأت حلب من الأسارى
والدواب، واستغنى المسلمون بما حصل لهم من الغنائم.
ووصل أتابك زنكي من الموصل إلى حلب، في رابع وعشرين من شهر رمضان سنة
إحدى وثلاثين، وسير صلاح الدين في مقدمته، فنزل حمص وسار أتابك إلى
حماة، وعيد عيد الفطر في الطريق، وأخذ من حلب معه خمسمائة راجل لحصار
حمص.
ورحل أتابك من حماة إلى حمص في شوال وبها أنز من قبل صاحب دمشق، فحصرها
مدة.
وخرج الفرنج نجدة لحمص وغيلة لزنكي. فرحل عن حمص، ولقيهم تحت قلعة
بارين، فكسرتهم طلائع زنكي مع سوار، فأفنوا عامتهم قتلاً وأسراً، وقتل
أكثر من ألفين من الفرنج، ونجا القليل منهم، فدخل إلى بارين مع ملكهم
كندياجور صاحب القدس، وأقام الحصار على بارين بعشر مجانيق ليلاً
ونهاراً، ثم تقرر الصلح في العشر الأواخر من ذي القعدة على التسليم بعد
خراب القلعة.
وخلع على الملك وأطلق، وخرج الفرنج منها، وتسلمها زنكي، وعاد إلى حلب.
واستقر الصلح بين أتابك وصاحب دمشق، وتزوج أتابك خاتون بنت جناح الدولة
حسين، على يد الإمام برهان الدين البلخي، ودخل عليها بحلب في هذه
السنة.
(1/314)
ووصل في هذه السنة ملك الروم كالياني من
القسطتطينية في جموعه، ووصل إلى أنطاكية فخالفه الفرنج لطفاً من الله
تعالى وأقام إلى أن وصلته مراكبه البحرية بالأثقال والميرة والمال،
فاعتمد لاون بن روبال صاحب الثغور في حقه فتحاً عظيماً.
وتخوف أهل حلب منه فشرعوا في تحصينها وحفر خنادقها، فعاد إلى بلاد لاون
فافتتحها جميعها، فدخل إليه لاون متطارحاً، فقال: أنت بين الفرنج
والأتراك لا يصلح لك المقام. فسيره إلى القسطنطينية، وأقام في عين زربة
وأذنة والثغور، مدة الشتاء.
وكان في عوده عن أنطاكية إلى ناحية بغراس في الثاني والعشرين من ذي
الحجة من سنة إحدى وثلاثين، أنفذ رسوله إلى زنكي، وظفر سوار بسرية
وافرة العدد من عسكره، فقتل وأسر، ودخل بهم إلى حلب.
ووصل الرسول إلى زنكي، وهو متوجه إلى القبلة فرده ومعه هدية إلى ملك
الروم فهود وبزاة وصقور على يد الحاجب حسن، فعاد إليه ومعه رسول منه
وأخبره بأنه يحاصر بلاد لاون، فسار إلى حماة، ورحل إلى حمص فقاتلها.
ثم سار في نصف المحرم من سنة اثنتين وثلاثين فنزل بعلبك، وأخذ منها
مالاً، وسار إلى ناحية البقاع فملك حصن المجدل من أيدي الدمشقيين، ودخل
في طاعته إبراهيم بن طرغت والي بانياس.
وشتى أتابك زنكي بأرض دمشق، وورد عليه رسول الخليفة المقتفي والسلطان
مسعود بالتشريف، ثم رحل أتابك عن دمشق في شهر ربيع الآخر، وعاد إلى
حماة، ثم رحل عنها إلى حمص، فخيم عليها، وجرد من حلب رجالاً لحصارها،
وجمع عليها جموعاً كثيرة، وهجم المدينة، وكسر أهلها ونال منهم منالاً
عظيماً.
(1/315)
ونقض الفرنج الهدنة التي كانت بينهم وبين
زنكي على حلب، وأظهروا العناد، وقبضوا على التجار بأنطاكية والسفار من
أهل حلب، في جمادى الأولى من السنة، بعد إحسانه إليهم واصطناعه
لمقدميهم، حين أظفره الله بهم، وانضافوا إلى ملك الروم كالياني.
وظهر ملك الروم بغتة من طريق مدينة البلاط، يوم الخميس الكبير من
صومهم، ونزل يوم الأحد يوم عيد النصارى، وهو الحادي والعشرون من شهر
رجب، على حصن بزاعا.
وانتشرت الخيل بغتة فلطف الله بالمسلمين، فرأوا رجلاً من كافر ترك ومعه
جماعة منهم، وقد تاهوا عن عسكر الروم، وأظهروا أنهم مستأمنة وأنذروا من
بحلب با لروم.
فتحرز الناس وتحفظوا، وكاتبوا أتابك زنكي بذلك، فوصله الخبر وهو على
حمص، فسير في الحال الأمير سيف الدين سوار والرجالة الحلبيين وخمسمائة
فارس، في أربعة من الأمراء الأصفهسلارية منهم زين الدين علي كوجك،
فقويت قلوب أهل حلب بهم، ووصلوا في سابع وعشرين من رجب.
وأما الروم فإنهم حصروا حصن بزاعا، وقاتلوها سبعة أيام، فضعفت قلوب
المسلمين، وكان الحصن في يد امرأة فسلموه إلى البروم بالأمان، بعد أن
توثقوا منهم بالعهود والأيمان، فغدروا بهم، وأسروا من بزاعا ستة آلاف
مسلم أو يزيدون، وأقام الملك بالوادي يدخن على مغاير الباب عشرة أيام،
فهلكوا بالدخان.
الروم حول حلب وشيزر
ثم رحل فنزل يوم الأربعاء الخامس من شعبان، بأرض الناعورة، ثم رحل يوم
الخميس سادس شعبان، ومعه ريمند صاحب أنطاكية وابن جوسلين، فنزل على
(1/316)
حلب ونصب خيمته من قبليها على نهر قويق،
وأرض السعدي، وقاتل حلب يوم الثلاثاء من ناحية برج الغنم، وخرج إليهم
أحداث حلب، فقاتلوهم وظهروا عليهم، وقتل من الروم مقدم كبير ورجعوا إلى
خيمهم خائبين.
ورحل يوم الأربعاء ثامن شعبان مقتبلاً إلى صلدي، فخاف من بقلعة الأثارب
من الجند المسلمين، فهربوا منها يوم الخميس تاسع شعبان، وطرحوا النار
في خزائنهم.
وعرف الروم ذلك فخفت منهم سرية وجماعة من الفرنج، ومعهم سبي بزاعا
والوادي، فملكوا القلعة، وألجأوا السبي إلى خنادقها وأحواشها، فهرب
جماعة منهم إلى حلب، وأعلموا الأمير سيف الدين سوار بن أيتكين بذلك،
وأن الروم انعزلوا عنها.
فنهض إليهم سوار في لمة من العسكر، فصابحهم وقد انتشروا بعد طلوع
الشمس، فوقع عليهم واستخلص السبي جميعه إلا اليسير منهم، وأركب الضعفاء
منهم خلف الخيالة حتى أنه أخذ بنفسه جماعة من الصبيان، وأركبهم بين
يديه ومن خلفه، ووصل بهم إلى حلب، ولم يبق من السبي إلا القليل، ووصل
بهم إلى حلب في يوم السبت الحادي عشر من شعبان، فسر أهل حلب سروراً
عظيماً. وكان أتابك قد رحل من حمص إلى حماة ثم رحل إلى سلمية، ورحل ملك
الروم إلى بلد معرة النعمان، ورحل عنها يوم الإثنين ثالث عشر شعبان إلى
جهة شيزر، ونزلوا كفر طاب ورموها بالمجانيق، فسلمها أهلها في نصف
شعبان. وهرب أهل الجسر، وتركوه خالياً فوصله الروم، وجلسوا فيه ورحلوا
عنه إلى شيزر، يوم الخميس سادس عشر شعبان، فوصلوها في مائة ألف راكب
ومائة
(1/317)
ألف راجل، ومعهم من الكراع والسلاح ما لا
يحصيه إلا الله، فنزلوا الرابية المشرفة على بلدة شيزر، وأقاموا يومهم
ويوم الجمعة إلى آخر النهار.
وركبوا وهجموا البلد، فقاتلهم الناس وجرح أبو المرهف نصر بن منقذ، ومات
في رمضان من جرحه ذلك.
ثم انهزم الروم، وخرجوا، ونزل صاحب أنطاكية في مسجد سمون، وجوسلين في
المصلى، وركب الملك يوم السبت، وطلع إلى الجبل المقابل لقلعة شيزر
المعروف بجريجس، ونصب على القلعة ثمانية عشر منجنيقاً وأربع لعب تمنع
الناس من الماء.
ودام القتال عشرة أيام، ولقي أهل قلعة شيزر بلاء عظيماً، ثم اقتصروا في
القتال على المجانيق، وأقاموا إلى يوم السبت تاسع شهر رمضان.
وبلغهم أن قرا أرسلان بن داود بن سكمان بن أرتق عبر الفرات في جموع
عظيمة تزيد عن خمسين ألفاً من التركمان وغيرهم، فأحرقوا آلات الحصار،
ورحلوا عن شيزر، وتركوا مجانيق عظاماً رفعها أتابك إلى قلعة حلب بعد
رحيلهم، وساروا بعد أن هجموا ربض شيزر دفعات عدة، ويخرجهم المسلمون
منها.
فوصل صلاح الدين من حماة يوم السبت تاسع الشهر، وبلغه أن الفرنج هربوا
من كفر طاب فسار إليها، وملكها، ووصل أتابك يوم الأحد عاشر الشهر، وسار
إلى الجسر يوم الإثنين، فوجد الفرنج قد هربوا منه نصف الليل ونزل أهله
من أبي قبيس، فمنعوهم ودخل الروم مضيق أفامية إلى أنطاكية، وطلبها من
الفرنج فلم يعطوه إياها، فرحل عنها إلى بلاده، وسير أتابك خلفهم سرية
من العسكر تتخطفهم. هذا كله وأتابك لم يستحضر قرا أرسلان بن داود، ولم
يجتمع به، بل بعث إليه يأمره بالعود إلى أبيه، وأنه مستغن عنه وانحاز
عنهم فنزل أرض حمص، وكتب إلى شهاب الدين محمود بن بوري يطلبها.
وترددت الرسل بينهم على أن يسلم إلى أتابك حمص، ويعوض أنر واليها
(1/318)
ببارين، واللكمة، والحصن الشرقي، وأن يتزوج
أتابك أمه زمرد خاتون بنت جاولي، ويتزوج محمود ابنة أتابك، وتسلم أتابك
حمص، ويسلم الدمشقيون المواضع المذكورة.
وسارت زمرد خاتون من دارها إلى عسكر زنكي مع أصحابه المندوبين لإيصالها
إليه في أواخر شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين، وقد اجتمع عنده رسول
الخليفة المقتفي، وألبسه التشريف الواصل إليه، ورسول السلطان، ورسول
مصر، والروم، ودمشق.
ورحل أتابك عن حمص، وسار إلى حلب، ثم خرج منها إلى بزاعا وفتحها
بالسيف، يوم الثلاثاء تاسع عشر محرم من سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة،
وقتل كل من كان بها على قبر شرف الدولة مسلم بن قريش، وكان ضرب عليها
بسلم في عينه فمات.
زلازل عام 533 هجرية
وعاد منها إلى حلب، وسار إلى الأثارب، ففتحها، في ثالث صفر. وفي يوم
الخميس ثالث عشر صفر، حدثت زلزلة شديدة ثم اتبعتها أخرى، وتواصلت
الزلازل، فهرب الناس من حلب إلى ظاهر البلد وخرجت الأحجار من الحيطان
إلى الطريق، وسمع الناس دوياً عظيماً، وانقلبت الأثارب فهلك فيها
ستمائة من المسلمين، وسلم الوالي ومعه نفر يسير. وهلك أكثر البلاد من
شيح، وتل عمار، وتل خالد، وزردنا، وشوهدت الأرض تموج، والأحجار عليها
تضطرب كالحنطة في الغربال.
وانهدم في حلب دور كثيرة، وتشعث السور، واضطربت جدران القلعة، وسار
أتابك مشرقاً فنزل القلعة فأخذها، وسار منها إلى القلعة، ثم إلى
الموصل. وتواترت الزلازل إلى شوال، وقيل: إن عدتها كانت ثمانين زلزلة.
(1/319)
وكان في سنة اثنتين وثلاثين قد عول أتابك
على قبض أملاك الحلبيين التي استحدثوها من أيام رضوان إلى آخر أيام
إيلغازي، ثم قرر عليهم عشرة آلاف دينار، فأدوا من ذلك ألف دينار، وجاءت
هذه الزلازل، فهرب أتابك من القلعة إلى ميدانها حافياً، وأطلق القطيعة.
وفي هذه السنة، نهض سوار الفرنج فغنم من بلادهم، ولحقوه فاستخلصوا ما
غنم، وانهزم المسلمون فغنم الفرنج، وأخذوا منهم ألفاً ومائتي فارس،
وأسروا صاحب الكهف ابن عمرون، وكان قد سلمها إلى الباطنية.
وفي شهر رمضان منها، استحكم الفساد بين أتابك وتمرتاش، فنزل أتابك زنكي
دارا، وحصرها وافتتحها في شوال، وأخذ رأس عين وجبل جور وذا القرنبن.
ومات سوتكين الكرجي بحران، فأنفذ أتابك زنكي وأخذها.
زنكي يفتح بعلبك ويحاصر دمشق
وقتل شهاب الدين محمود ابن تاج الملوك على فراشه، ليلة الجمعة الثالثة
والعشرين من شوال من السنة، قتله البغش ويوسف الخادم، وفراش، وكان قد
قربهم واصطفاهم.
وسير أنر إلى محمد أخيه صاحب بعلبك، فأجلسه في منصب أخيه وأخرج
(1/320)
أخاه بهرام شاه فمضى إلى حلب وشرق إلى
أتابك زنكي.
وعلمت والدته زمرد خاتون، فأرسلت إلى زوجها زنكي، وهو بالموصل تستدعيه
لطلب الثأر بولدها، وتحثه على الوصول، فأقبل وفي مقدمته الأمير الحاجب
صلاح الدين، فسار إلى حماة.
ووصل زنكي حتى عبر الفرات، ونزل بالناعورة، ودخل حلب، ورحل إلى حماة في
سابع ذي الحجة، ورحل إلى حمص، ثم إلى بعلبك، فحصرها أول محرم من سنة
أربع وثلاثين وخمسمائة، وضربها بالمجانيق إلى أن فتحها يوم الإثنين
رابع عشر صفر.
وفتح القلعة يوم الخميس خامس وعشرين منه، وأقام بها إلى منتصف شهر ربيع
الآخر، وكان قد حلف لأهل القلعة بالأيمان المغلظة والمصحف والطلاق،
فلما نزلوا غدر بهم، وسلخ واليها، وشنق الباقين. وكانوا سبعة وثلاثين
رجلاً، وغدر بالنساء، وأخذهم.
وسار في نصف ربيع الآخر إلى دمشق لمضايقتها، فنزل! على داريا، وزحف إلى
البلد، وراسل محمد بن بوري في تسليمها، وأخذ بعلبك وحمص، وما يقترح
معهما عوضاً عنها، وأراد إجابته إلى ذلك فمنعه أصحابه، وخوفوه الغدر
به، فمات محمد بن بوري، في ثامن شعبان، ونصب ولده عضب الدولة أبق
مكانه.
وكاتب أنر الفرنج في نجدته، وتسليم بانياس من إبراهيم بن طرغت إليهم،
(1/321)
فتجمعوا لذلك، فرحل أتابك عن دمشق، في خامس
شهر رمضان، للقاء الفرنج إن قربوا منه إلى ناحية بصرى وصرخد من حوران،
وأقام مدة، ثم عاد إلى الغوطة فنزل عذراء وأحرق عدة ضياع من الغوطة.
ووصل الفرنج فنزلوا بالميدان، فرحل أتابك إلى ناحية حمص. وأسر ريمند
صاحب أنطاكية إبراهيم بن طرغت صاحب بانياس، وقتله. ونزل معين الدين أنر
عليها فحصرها وتسلمها، وسلمها إلى الفرنج، وعادت خاتون إلى حلب في
العشرين من ربيع الأول. وعاد أتابك إلى حلب في الرابع والعشرين من
جمادى الأولى، واستقر الحال بين زنكي وأبق على أن خطب لزنكي بدمشق.
ومات قاضي حلب أبو غانم محمد بن أبي جرادة في شهر ربيع الآخر من سنة
أربع ثلاثين وخمسمائة، فولى أتابك قضاء حلب ولده أبا الفضل هبة الله بن
محمد بن أبي جرادة، ولما استحضره وولاه القضاء قال له: هذا الأمر قد
نزعته من عنقي، وقلدتك إياه، فينبغي أن تتقي الله وأن تساوي بين
الخصمين، هكذا، وجمع بين أصابعه.
وكثر عيث التركمان وفسادهم، وامتدت أيديهم إلى بلاد الفرنج، فأرسلوا
رسولاً إلى أتابك يشكونهم، فعاد الرسول متنصلاً، فلقيه قوم من التركمان
فقتلوه، فأغار الفرنج على حلب، فأخذوا من العرب والتركمان ما لا يحصى.
وعاد أتابك في سنة ست وثلاثين على الحلبيين بالقطيعة التي كان قررها
على الأملاك، وأرسل إليهم علي الفوتي العجمي، فعسف الناس في استخراج
القطيعة، وأخرف بهم، ومات ابن شقارة بحلب، وصارت أملاكه إلى بيت المال
فرد على الناس ما كان وظف على أملاكه من القطيعة وأخذه منهم.
(1/322)
غارات الفرنج
والمسلمين
وأغار الفرنج في سنة ست وثلاثين وخمسمائة على بلد سرمين، وأخربوا
ونهبوا، ثم إلى جبل السماق، وكذلك فعلوا بكفر طاب، وتفرقوا فأغار علم
الدين ابن سيف الدين سوار مع التركمان إلى باب أنطاكية، وعادوا
بالغنائم والوسيق العظيم.
وأغار لجة التركي وكان قد نزح عن دمشق إلى خدمة زنكي على بلد الفرنج،
في جمادى، فساق وسبى وقتل. وذكر أن عدة المقتولين سبعمائة رجل. واتفق
في هذه السنة خلف شديد بين أتابك زنكي وقرا أرسلان بن داود بن سكمان
بناحية بهمرد، فالتقيا فكسره أتابك، وفتح بهمرد، وعاد إلى الجزيرة، ثم
إلى الموصل فشتى بها.
وفي هذه السنة تقرر الصلح بين أتابك والأرتقية ووصل أولادهم إلى الخدمة
ثم عادوا.
وفي خامس شعبان مات وزير أتابك ضياء الدين بن الكفرتوثي ووزر موضعه أبا
الرضا بن صدقة، ثم عزله في سنة ثمان وثلاثين.
ونهض سوار في شهر رمضان إلى بلد أنطاكية، وعند الجسر جمع عظيم وخيم
مضروبة من الفرنج، فخاض التركمان إليهم العاصي، وكسروا الجميع هناك،
وقتلوا كل من كان بالخيم، ونهبوا وسبوا، وعادوا إلى حلب بالوسيق
العظيم، والأسرى والرؤوس.
وفتح أتابك قلعة أشب المشهورة بالحصانة، في ثالث وعشرين من شهر رمضان
من سنة سبع وثلاثين.
(1/323)
وخرج ملك أنطاكية إلى وادي بزاعا، فخرج
سوار فردهم إلى بلد الشمال واجتمع سوار وجوسلين بين العسكرين فاتفق
الصلح بينهما.
وفي سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، فتح أتابك قلعة انيرون، وبعدها قلعة
حيران ومما كان أيضاً بيد الفرنج جملين، والموزو وتل موزن، وغيرهما.
وخرج عسكر حلب فظفروا بفرقة كبيرة من التجار والأجناد وغيرهم خرجت من
أنطاكية تريد بلاد الفرنج، ومعها مال كثير ودواب ومتاع، فأوقعوا بهم،
وقتلوا جميع الخيالة من الفرنج الخارجين لحمايتهم، وأخذوا ما كان معهم،
وعادوا إلى حلب، وذلك قي جمادى الأولى من السنة.
وفي يوم الأربعاء خامس وعشرين من ذي القعدة، وقعت خيل تركمان نهضت من
بلد حلب، فأوقعت بخيل خارجة من باسوطا فقتلوهم، وأسروا صاحب باسوطا
وجاؤوا به إلى حلب، فسلموه إلى سوار فقيده.
وعزل أتابك وزيره جلال الدين أبا الرضا بالموصل، واستوزر أبا الغنائم
حبشي ابن محمد الحلي.
فتح الرها وسروج
وكان أتابك زنكي لا يزال يفكر في فتح الرها، ونفسه في كل حين تطالبه
بذلك، إلى أن عرف أن جوسلين صاحبها قد خرج منها في معظم عسكره، في سنة
تسع وثلاثين وخمسمائة، لأمر اقتضاه، فسارع أتابك إلى النزول عليها في
عسكر عظيم وكاتب التركمان بالوصول إليه، فوصل خلق عظيم.
(1/324)
وأحاط المسلمون بها من كل الجهات، وحالوا
بينها وبين من يدخل إليها بميرة أو غيرها، ونصب عليها المجانيق، وشرع
الحلبيون فنقبوا عدة مواضع عرفوا أمرها إلى أن وصلوا تحت أساس أبراج
السور، فعلقوه بالأخشاب، واستأذنوا أتابك في إطلاق النار فيه، فدخل إلى
النقب نفسه وشاهده ثم أذن لهم، فألقوا النار فيه، فوقع السور في الحال.
وهجم المسلمون البلد، وملكوه بالسيف يوم السبت سادس عشر جمادى الآخرة،
وشرعوا في النهب والقتل والأسر والسبي، حتى امتلأت أيديدهم من الغنائم.
ثم أمر أتابك برفع السيف عن أهلها، ومنع السبي، ورده من أيدي المسلمين،
وأوصى بأهلها خيراً، وشرع في عمارة ما انهدم منها وترميمه.
وكان جمال الدين أبو المعالي فضل الله بن ماهان رئيس حران هو الذي يحث
أتابك في جميع الأوقات على أخذها، ويسهل عليه أمرها، فوجد على عضادة
محرابها مكتوب:
أصبحت صفراً من بني الأصفر ... أختال بالأعلام والمنبر
دان من المعروف حال به ... ناء عن الفحشاء والمنكر
مطهر الرحب على أنني ... لولا جمال الدين لم أطهر
فبلغ ذلك رئيس حران، فقال: انحوا جمال الدين، واكتبوا عماد الدين.
فبلغ ذلك زنكي، فقال: صدق الشاعر لولاك ما طمعنا فيها. وأمر عماله
بتخفيف الوطأة عليهم في الخراج، وأن يأخذوه على قدر مغلاتها.
ثم رحل إلى سروج ففتحها، وهرب الفرنج منها، ثم رحل فنزل على البيرة، في
هذه السنة فحاصرها في هذه السنة.
وجاءه الخبر من الموصل أن نصير الدين جقر نائبه بالموصل قتل، فخاف
(1/325)
عليها، وترك البيرة بعد أن قارب أخذها،
وسار حتى دخل الموصل، وأخذ فرخانشاه ابن السلطال الذي قتل جقر، عزم على
تملك الموصل، فقتله بدم جقر، وولى الموصل مكانه الأمير زين الدين علي
كوجك.
ثتم شرع زنكي في الجمع والاحتشاد، والاستكثار من عمل المجانيق، وآلة
الحرب، في أوائل سنة أربعين وخمسمائة، ويظهر للناس أن ذلك لقصد الجهاد.
وبعض الناس يقول: أنه لقصد دمشق ومنازلتها. وكان ببعلبك مجانيق فحملت
إلى حمص، في شعبان من هذه السنة.
وقيل: إن عزمه انثنى عن الجهاد في هذه السنة، وأن جماعة من الأرمن
بالرها عاملوا عليها، وأرادوا الإيقاع بمن كان فيها من المسلمين واطلع
على حالهم، وتوجه أتابك من الموصل نحوها، وقوبل من عزم على الفساد
بالقتل والصلب.
نهاية عماد الدين
وسار ونزل على قلعة جعبر بالمرج الشرقي تحت القلعة، يوم الثلاثاء ثالث
ذي الحجة، فأقام عليها إلى ليلة الأحد. سادس شهر ربيع الآخر نصف الليل
من سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، فقتله يرنقش الخادم، كان يهدده في
النهار، فخاف منه فقتله في الليل في فراشه.
وقيل: إنه شرب ونام، فانتبه فوجد يرنقش الخادم وجماعة من غلمانه يشربون
فضل شرابه، فتوعدهم. ونام فأجمعوا على قتله، وجاء يرثقش إلى تحت
القلعه، فنادى أهل القلعه: شيلوني فقد قتلت أتابك. فقالوا له: اذهب إلى
لعنة الله، فقد قتلت المسلمين كلهم بقتله.
وقد كان أتابك ضايق القلعة، فقل الماء فيها جداً، والرسل من صاحبها علي
(1/326)
ابن مالك تتردد بينه وبين أتابك، فبذل علي
بن مالك له ثلاثين ألف دينار ليرحل عنها، فأجابه إلى ذلك.
ونزل الرسول، وقد جمع الذهب حتى قلع الحلق من آذان أخواته، وأحضر
الرسول، وقال لبعض خواصه: امض بفرسه وقربه إلى قدر اليخني فإن شرب منه
فأعلمني. ففعل ذلك، فشرب الفرس مرقة اليخني، فعلم أن الماء قد قل
عندهم، فغالط الرسول ودافعه، ولم يجبه إلى ملتمسه، فأسقط في يد علي بن
مالك.
وكان في القلعة عنده بقرة وحش، وقد أجهدها العطش، فصعدت في درجة
المئذنة حتى علت عليها، ورفعت رأسها إلى السماء، وصاحت صيحة عظيمة،
فأرسل الله سحابة ظللت القلعة، وأمطروا حتى رووا، فتقدم حسان البعلبكي
صاحب منبج إلى تحت القلعة، ونادى علي بن مالك، وقال له: يا أمير علي،
ايش بقى يخلصك من أتابك فقال له، يا عاقل، يخلصني الذي خلصك من حبس بلك
له. يعني حين قتل بلك على منبج وخلص حسان، فصدق فأله وكان ما ذكرناه.
وأخبرني والدي رحمه الله أن حارس أتابك كان يحرسه في الليلة التي قتل
فيها بهذين البيتين:
يا راقد الليل مسروراً بأوله، ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا!
لا تأمنن بليل طاب أوله ... فرب آخر ليل أجج النارا!
وكان أتابك جباراً عظيماً ذا هيبة وسطوة. وقيل: إن الشاووش كان يصيح
خارج باب العراق، وهو نازل من القلعة. وكان إذا ركب مشى العسكر خلفه
كأنهم بين خيطين مخافة أن يدوس العسكر شيئاً من الزرع، ولا يجسر أحد من
هيبته أن يدوس عرقاً منه، ولا يمشي فرسه فيه، ولا يجسر أحد من أجناده
أن يأخذ لفلاح علاقة تبن إلا بثمنها أو بخط من الديوان إلى رئيس
القرية، وإن تعدى أحد صلبه.
وكان يقول: ما يتفق أن يكون أكثز من ظالم واحد يعني نفسه فعمرت البلاد
في أيامه بعد خرابها وأمنت بعد خوفها. وكان لا يبقي على مفسد، وأوصى
ولاته وعماله بأهل حران، ونهى عن الكلف والسخر والتثقيل على الرعية.
هذا ما حكاه أهل حران عنه.
(1/327)
وأما فلاحو حلب فإنهم يذكرون عنه ضد ذلك.
وكانت الأسعار في السنة التي توفي فيها رخية جدا. الحنطة ست مكايك
بدينار، والشعير اثنا عشر مكوكاً بدينار والعدس أربع مكايك بدينار،
والجلبان خمسة مكايك بدينار، والقطن ستون رطلاً بدينار، والدينار هو
الذي جعله أتابك دينار الغلة، وقدره خمسون قرطيساً برساً وذلك لقلة
العالم.
ولما قتل افترقت عساكره فأخذ عسكر حلب ولده نور الدين أبا القاسم محمود
بن زنكي، وطلبوا حلب فملكوه إياها، وأخذ نور الدين خاتمه من إصبعه قبل
إلى حلب. وسار أجناد الموصل بسيف الدين غازي إلى الموصل وملكها.
وبقي أتابك وحده، فخرج أهل الرافقة فغسلوه بقحف جرة، ودفنوه على باب
مشهد علي رضي الله عنه في جوار الشهداء من الصحابة رضوان الله عليهم
وبنى بنوه عليه قبة، فهي باقية إلى الآن.
(1/328)
|