شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة إحدى وتسعين
فيها عزل الوليد عمّه محمّدا عن الجزيرة، وأذربيجان، وإرمينية، وولّى
عليها أخاه مسلمة، فغزا مسلمة في هذا العام إلى أن بلغ الباب الحديد
[1] وافتتح حصونا ومدائن.
وافتتح فيها قتيبة عدّة مدائن بما وراء النهر، وأوطأ الكفّار ذلّا
وخوفا، وحمل إليه طرخون القطيعة [2] .
وفيها، وقيل: في سنة ثمان وثمانين توفي السّائب بن يزيد الكندي ابن أخت
نمر [3] ، قال: حجّ بي أبي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع،
وأنا ابن سبع
__________
[1] كذا في الأصل، والمطبوع: «الباب الحديد» ، وفي «دول الإسلام»
للذهبي (1/ 63) :
فغزا مسلمة، وافتتح مدائن وحصونا عند دربند، ودان له من وراء باب
الأبواب، ودربند هو باب الأبواب كما في «معجم البلدان» لياقوت (1/ 303)
، ولعله هو الباب الحديد.
[2] الخبر في «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 323 و 344) : «وفيها فتح
قتيبة أمير خراسان شومان، وكس، ونسف، وامتنع عليه أهل فرياب، فأحرقها،
وجهز أخاه عبد الرحمن بن مسلم إلى السّغد، إلى طرخان ملك تلك الديار،
فجرت له حروب ومواقف، وصالحه عبد الرحمن، وأعطاه طرخون أموالا، وتقهقر
إلى أخيه إلى بخارى، فانصرفوا حتى قدموا مرو، فقالت السّغد لطرخون: إنك
قد رضيت بالذل، وأديت الجزية، وأنت شيخ كبير، فلا حاجة لنا فيك، ثم
عزلوه وولّوا عليهم غوزك، فقتل طرخون نفسه، ثم إنهم عصوا ونقضوا العهد.
[3] في المطبوع: «ابن أخت النمر» .
(1/360)
سنين [1] ، ورأيت خاتم النّبوة بين كتفيه
[2] .
وفيها مات أبو العبّاس سهل بن سعد الساعدي الأنصاري، وقد قارب المائة،
وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة [3] .
__________
[1] رواه الترمذي رقم (925) في الحج: باب ما جاء في حج الصّبي، وأحمد
في «المسند» (3/ 449) ، وأخرجه البخاري مختصرا رقم (1858) في جزاء
الصيد: باب حج الصبيان، ولفظه عنده «حجّ بي مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأنا ابن سبع سنين» . وانظر «الإصابة» لابن حجر (4/ 117) .
[2] انظر «أسد الغابة» (2/ 321) و «الإصابة» (4/ 117) .
[3] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 422- 424)
.
(1/361)
سنة اثنتين وتسعين
فيها افتتح إقليم الأندلس على يد طارق [1] مولى موسى بن نصير، وتمم
موسى فتحه في سنة ثلاث.
وفيها توفي مالك [2] بن أوس بن الحدثان النّصري [3] المدني، وكان أدرك
الجاهلية [4] ورأى أبا [5] بكر.
وفيها قتل الحجّاج إبراهيم بن يزيد التيميّ الكوفيّ، العابد المشهور،
ولم يبلغ أربعين سنة، روى عن عمرو بن ميمون الأوديّ، وجماعة.
وطويس [6] المغنّي [7] مولى أروى بنت كريز أمّ عثمان بن عفّان، وكان
__________
[1] أي طارق بن زياد الفاتح المشهور.
[2] في المطبوع: «ملك» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «النضري» وهو خطأ، والتصحيح من «اللباب» لابن
الأثير (3/ 311) ، ومن كتب الرجال.
[4] انظر «الإصابة» لابن حجر (9/ 35 و 36) .
[5] في الأصل: «أبي» وهو خطأ، والمثبت من المطبوع.
[6] قال أبو الفرج الأصفهاني: طويس لقب غلب عليه، واسمه عيسى بن عبد
الله، وكنيته أبو عبد المنعم، وغيرها المخنثون فجعلوها أبا عبد النعيم.
«الأغاني» (3/ 27) ، وانظر «الأعلام» للزركلي (5/ 105) .
[7] قال الذهبي: كان ممن يضرب به المثل في الحذق بالغناء. «تاريخ
الإسلام» (4/ 16) ، وانظر «سير أعلام النبلاء» (4/ 364) .
(1/362)
اسمه طاووسا فلما تخنّث سمّي طويسا [1]
وكان مجوّدا في المغني، وإياه عنى الشاعر في مدح معبد [2]
تغنّى طويس والسّريجيّ [3] بعده ... وما قصبات السبق إلّا لمعبد [4]
وضرب المثل بشؤمه [5] ، وقيل: لأنه ولد يوم مات النبيّ صلى الله عليه
وسلم، وفطم يوم مات الصّدّيق، وختن [6] يوم قتل عمر، وقيل: بلغ الحلم
في ذلك اليوم [7] وتزوج يوم قتل عثمان، وقيل: ولد له ولد يوم قتل عليّ،
وقيل يوم مات الحسن بن عليّ رضي الله عنهم، وهذا من عجائب الاتفاقات.
وكان مفرطا في طوله، مضطربا في خلقه، أحول العين، انتقل [8] عن المدينة
إلى السّويداء على مرحلتين منها في طريق الشام، وتوفي هناك.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» لابن خلّكان (3/ 506) والتعليق عليه.
[2] هو معبد بن وهب المغنّي، أبو عبّاد المدني، نابغة الغناء في العصر
الأموي، نشأ في المدينة يرعى الغنم، وربما اشتغل في التجارة، ولما ظهر
نبوغه في الغناء أقبل عليه كبراء المدينة، ثم رحل إلى الشام فاتصل
بأمرائها، وارتفع شأنه، وكان أديبا فصيحا، مات سنة (126 هـ) .
«الأعلام» للزركلي (7/ 264) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «الشريحي» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات
الأعيان» لابن خلّكان (3/ 506) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (4/ 16) .
والسّريجي هذا هو عبيد الله بن سريج، مولى بني نوفل ابن عبد مناف، أبو
يحيى، من أشهر المغنين وأصحاب هذه الصناعة في صدر الإسلام، كان يغني
مرتجلا فيأتي باللحن المبتكر، وهو من أهل مكة، وأول من ضرب على العود
بالغناء العربي، مات سنة (98 هـ) . «الأعلام» للزركلي (4/ 194) .
[4] البيت في «وفيات الأعيان» (3/ 506) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (4/
16) .
[5] قال العسكري في «الأوائل» (2/ 161) : وطويس أول مشؤوم في الإسلام.
وقال ابن خلّكان في «الوفيات» (3/ 506) : وهو الذي يضرب به المثل في
الشؤم، فيقال:
أشأم من طويس. وانظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 364) ، و «تاريخ
الإسلام» للذهبي (4/ 16) .
[6] وهو ما ذكره صاحب «الأغاني» ، وابن خلّكان في «وفيات الأعيان» ،
والزركلي في «الأعلام» .
[7] وهو ما ذكره العسكري في «الأوائل» ، وابن خلّكان في «وفيات
الأعيان» ولم يجزم به، والذهبي في «تاريخ الإسلام» و «سير أعلام
النبلاء» .
[8] تحرفت لفظة «انتقل» في الأصل إلى لفظة «إلى» وأثبتنا ما جاء في
المطبوع، وهو الصواب.
(1/363)
سنة ثلاث وتسعين
فيها افتتح قتيبة بن مسلم عدّة فتوح، وهزم التّرك، ونازل سمرقند في جيش
عظيم، ونصب المجانيق [1] عليها، فجاءت نجدة التّرك، فأكمن لهم كمينا،
فالتقوا في نصف الليل، فاقتتلوا قتالا عظيما، ولم يفلت من الترك إلّا
اليسير، وافتتحها صلحا، وبنى بها الجامع والمنبر، وقيل: صالحهم على
مائة ألف رأس [2] وعلى بيوت النار وعلى حلية [3] الأصنام، فسلبت [4] ثم
وضعت الأصنام بين يديه، فكانت كالقصر العظيم، فأحرقها، ثم جمعوا ما بقي
منها من مسامير الذّهب والفضة، فكانت خمسين ألف مثقال، واستعمل على
البلد ابنه عبد الله [5] ، ورد إلى مرو [6] .
__________
[1] جمع منجنيق.
[2] في الأصل، والمطبوع: «مائة ألف فارس» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ
الإسلام» للذهبي (3/ 327) ، وهو موافق لما في «تاريخ الطبري» (6/ 473)
، و «الكامل» لابن الأثير (4/ 571) .
[3] قال ابن منظور: الحلية: الصّفة والصّورة. «لسان العرب» «حلا» (2/
985) .
[4] أي قشرت. قال ابن منظور: سلب القصبة والشجرة: قشرها. وعليه فإن
قتيبة اشترط أن تقشر صور الأصنام الخشبية، وأن تحرق تلك الأصنام فيما
بعد، وهو ما ذكره المؤلف في تتمة الخبر. انظر «لسان العرب» «سلب» (3/
2058) .
[5] وقال له: لا تدعنّ مشركا يدخل من باب المدينة إلّا ويده مختومة،
ومن وجدت معه حديدة أو سكينا فاقتله، ولا تدعن أحدا منهم يبيت فيها.
«تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 327) .
[6] في «تاريخ الإسلام» للذهبي: «وانصرف قتيبة إلى مرو» .
(1/364)
وفيها كانت الفتوح بأرض المغرب، والأندلس،
وبأرض الروم، وبأرض الهند، ولم يفتح المسلمون منذ خلافة عثمان مثل هذه
[1] الفتوح التي جرت بعد التسعين شرقا وغربا، فلله الحمد والمنّة.
وفيها توفي من سادات الصحابة خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو
حمزة أنس بن مالك الأنصاريّ النّجاريّ، وقيل: توفي سنة تسعين، أو إحدى
أو اثنتين وتسعين، قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة وله عشر
سنين، فخدمه، ودعا له بكثرة المال والولد والبركة فيهما، وفيما أوتي،
فدفن لصلبه إلى مقدم الحجّاج البصرة مائة وعشرين، وكان نخله يثمر في
العام مرتين [2] .
وبلال بن أبي الدّرداء، روى عن أبيه، ووليّ إمرة دمشق [3] .
وأبو الشّعثاء جابر بن زيد، الذي قال فيه ابن عبّاس: لو أنّ أهل البصرة
نزلوا على [4] قول أبي الشّعثاء لأوسعهم علما عمّا في كتاب الله عزّ
وجلّ.
وأبو الخطّاب عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة القرشيّ المخزوميّ، الشاعر
المشهور، قيل: لم يكن في قريش أشعر منه، وهو كثير المجون والتغزّل
بالثّريّا ابنة علي بن عبد الله بن الحارث بن أميّة بن عبد شمس
الأموية، التي جدّتها قتيلة بالتصغير ابنة النّضر بن الحارث المنشدة في
قتل [5]
__________
[1] في الأصل: «هذا» وهو خطأ، والمثبت من المطبوع.
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 395- 406) ، و «تاريخ
الإسلام» للذهبي (3/ 339- 344) . و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (5/
64- 76) ، و «الأعلام» للزركلي (2/ 24- 25) .
[3] انظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 345، 346) ، و «سير أعلام
النبلاء» للذهبي (4/ 285) .
[4] في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 482) : «نزلوا عند» وهو أصوب.
[5] في المطبوع: «في قتيل» .
(1/365)
أبيها يوم بدر الأبيات [1] وقال النبيّ صلى
الله عليه وسلم: «لو سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته» [2] . واستدلّ
بهذا القول الصحيح أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد في
الأحكام.
وكانت الثّريّا موصوفة بارعة الجمال، وتزوّجها سهيل بن عبد الرّحمن بن
عوف، ونقلها إلى مصر، وفيهما يقول عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة:
أيّها المنكح الثّريّا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
__________
[1] وهي:
يا راكبا إنّ الأثيل مظنّة ... من صبح خامسة وأنت موفّق
أبلغ بها ميتا بأنّ تحيّة ... ما إن تزال بها النّجائب تخفق
مني إليه وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها وأخرى تحنق
هل يسمعنّ النّضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميّت لا ينطق
أمحمّد ولأنت ضنء كريمة ... في قومها والفحل مخل معرق
ما كان ضرّك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
أو كنت قابل فدية فلينفقن ... بأعزّ ما يغلو به ما ينفق
فالنّضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقّهم إن كان عتق يعتق
ظلّت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشفّق
صبرا يقاد إلى المنيّة متعبا ... رسف المقيّد وهو عان موثق
قلت: قال ابن إسحاق في «السيرة» طبعة السقا، والأبياري، والشلبي: قتيلة
بنت الحارث أخت النضر، وفي «الإصابة» لابن حجر (13/ 95) ، و «شرح أبيات
المغني» للبغدادي (5/ 54) قتيلة بنت النّضر.
[2] قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» بعد أن سرد الأبيات: فلما بلغ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بكى حتى اخضلّت لحيته، وقال:
«لو بلغني شعرها قبل أن أقتله ما قتلته» - وهو ما ذكره المؤلف ابن
العماد-، وأضاف: قال أبو عمر: هذا لفظ عبد الله بن إدريس، وفي رواية
الزّبير بن بكار: فرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دمعت
عيناه، وقال لأبي بكر: يا أبا بكر، لو سمعت شعرها لم أقتل أباها، وقال
الزّبير: سمعت بعض أهل العلم يغمز هذه الأبيات، ويقول: إنها مصنوعة.
قلت (القائل ابن حجر) : ولم أر التصريح بإسلامها، لكن إن كانت عاشت إلى
الفتح فهي من جملة الصحابيات، ورأيت في آخر كتاب «البيان» للجاحظ أن
اسمها ليلى، وذكر أنها جذبت رداء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو
يطوف.
(1/366)
هي شاميّة إذا ما استقلّت ... وسهيل إذا
استقلّ يماني [1]
وهو القائل:
إنّ من أكبر الكبائر عندي ... قتل بيضاء خودة عطبول
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذّيول [2]
ولد عمر هذا في ليلة قتل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وذلك ليلة
الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجّة سنة ثلاث وعشرين، وكان الحسن البصري
يقول فيها: أيّ حق رفع؟ وأيّ باطل وضع؟ يعني مقتل عمر [3] ووضع عمر [4]
وكان جدّه أبو ربيعة يلقّب بذي الرمحين، وأبوه عبد الله [أخو أبي جهل
بن هشام لأمه، توفي في سفينة غرقا، وعمره سبعون سنة أو ثمانون.
وفيها على الصحيح] [5] وقيل: سنة تسعين توفي أبو العالية رفيع بن مهران
الرّياحي [6] مولاهم البصري المقرئ المفسّر، دخل على أبي بكر، وقرأ
القرآن على أبيّ، وكان ابن عبّاس يرفعه على السرير وقريش أسفل.
وقال أبو بكر بن أبي داود [7] : ليس بعد الصحابة أحد أعلم، بالقرآن من
أبي العالية، وبعده سعيد بن جبير.
__________
[1] البيتان في «الأغاني» للأصفهاني (1/ 122 و 234) ، و «شرح أبيات
المغني» للبغدادي (1/ 43) و (5/ 54) . [2) ]
[3] يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[4] يعني عمر بن أبي ربيعة.
[5] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبتناه من المطبوع.
[6] في الأصل، والمطبوع: «الرباحي» وهو تصحيف، والتصحيح من «دول
الإسلام» (1/ 64) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 207) .
[7] هو عبد الله بن داود سليمان بن الأشعث (صاحب السنن) ، أبو بكر،
حافظ، محدّث، مات سنة (316 هـ) . انظر ترجمته في المجلد الرابع من
كتابنا هذا.
(1/367)
قال ابن قتيبة: حجّ أبو العالية ستين حجّة
[1] .
وقال الأصمعي [2] : كان أبو العالية، ومكحول جميلين،- يعني مكحول
الأزدي- وكان مزّاحا.
قال مسلم بن إبراهيم: سألت أبا العالية عن قتل الذّرّ [3] فجمع منهن
شيئا كثيرا وقال: مساكين ما أكيسهن، ثم قتلهن وضحك [4] .
__________
[1] «المعارف» ص (454) وبقية خبره فيه فراجعه.
[2] هو عبد الملك بن قرب الباهلي البصري الأصمعي، أبو سعيد، اللغوي،
الأخباري، المتوفى سنة (216 هـ) . وسوف ترد ترجمته في المجلد الثالث من
كتابنا هذا، فراجعها.
[3] قال ابن منظور: الذّرّ: صغار النمل، واحدته ذرّة، قال ثعلب: إن
مائة منها وزن حبّة من شعير، فكأنها جزء من مائة. «لسان العرب» «ذرر»
(3/ 1494) .
[4] قلت: إن صح أن أبا العالية قتل مجموعة كبيرة من النمل من غير سبب،
فقد ارتكب إثما، فإن الله عزّ وجلّ حرم قتل النمل من غير سبب كما أخبر
رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث الصحيحة، فقد روى
البخاري رقم (3019) في الجهاد: باب رقم (153) ، ومسلم رقم (2241) في
السلام: باب النهي عن قتل النمل، وأبو داود رقم (2526) في الأدب: باب
في قتل الذر، وأحمد في «المسند» (2/ 402، 403) من حديث أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن نملة قرصت نبيا من الأنبياء،
فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت
أمة من الأمم تسبح؟» . وروى البخاري رقم (3319) في بدء الخلق: باب ...
خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، ومسلم رقم (2241) و (149) و (150)
في السلام: باب النهي عن قتل النمل، وأبو داود رقم (5265) في الأدب:
باب في قتل الذر، وأحمد في «المسند» (2/ 313 و 449) من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزل نبيّ من
الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، ثم أمر
ببيتها فأحرق بالنار، فأوحى الله إليه: فهلا نملة واحدة» . قال الحافظ
ابن حجر في «فتح الباري» (6/ 358) : قوله [تعالى] : فهلا نملة واحدة:
يجوز فيه النصب على تقدير عامل محذوف تقديره: فهلا أحرقت نملة واحدة،
وهي التي آذتك بخلاف غيرها فلم يصدر منها جناية؟.
وروى الإمام أحمد في «المسند» (1/ 332 و 347) ، وأبو داود رقم (2567)
في الأدب: باب في قتل الذر، والدارمي (2/ 89) في الأضاحي: باب النهي عن
قتل الضفدع، والنحلة، وابن ماجة رقم (3224) في الصيد: باب ما ينهي عن
قتله من حديث عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحل،
(1/368)
وفيها توفي السيد الجليل زرارة بن أوفى
العامريّ أبو حاجب، قاضي البصرة، قرئ في صلاة الصبح فَإِذا نُقِرَ في
النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ 74: 8- 9 [المدثر: 8-
9] فخرّ ميتا [1] .
وفيها عبد الرّحمن بن يزيد بن جارية الأنصاري المدني، ولد في عهد
النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن الصحابة، وولى قضاء المدينة، وعن
الأعرج [2] قال:
ما رأيت بعد الصحابة أفضل منه.
__________
والهدهد، والصرد. وهو حديث صحيح.
قلت: وإن أبا العالية رحمه الله كان من أعلم أهل زمانه بالقرآن
والسّنة، الأمر الذي يجعلني أشك بعدم صحة هذا الخبر عنه رحمه الله.
[1] انظر «أخبار القضاة» لوكيع (1/ 294) .
[2] هو عبد الرحمن بن هرمز المدني، أبو داود، صاحب أبي هريرة، المتوفى
سنة (117 هـ) .
وسوف ترد ترجمته في المجلد الثاني من كتابنا هذا فراجعها هناك.
(1/369)
سنة أربع وتسعين
فيها غزا قتيبة بن مسلم فرغانة [1] فافتتحها بعد قتال عظيم، وبعث جيشا
فافتتحوا الشّاش [2] .
وفيها افتتح مسلمة سدرة [3] من أرض الروم.
وتوفي الإمام السّيّد الجليل أبو محمّد سعيد بن المسيّب المخزوميّ
المدنيّ، أحد أعلام الدّنيا، [و] سيّد التابعين.
قال ابن عمر: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لسرّه.
وقال مكحول، وقتادة، والزّهري، وغيرهم: ما رأينا أعلم من ابن المسيّب.
__________
[1] فرغانة: مدينة وكورة واسعة بما وراء النهر، متاخمة لبلاد تركستان:
انظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 253) .
قلت: وهي الآن في جنوب غرب الاتحاد السوفييتي.
[2] الشاش: بلدة بما وراء النهر. انظر «معجم البلدان» لياقوت (3/ 308)
، و «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (94) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير.
قلت: وهي الآن في الاتحاد السوفييتي، وتعرف بطشقند.
[3] كذا في الأصل، والمطبوع: «سدرة» ، وفي «تاريخ خليفة بن خياط» ص
(306) ، و «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 327) : «سندرة» ، ولم أقف على
اسم «سدرة» و «سندرة» في المراجع التي تتحدث عن البلدان، وجاء في
«الكامل» لابن الأثير (5/ 228) : أن سندرة فتحت سنة (120) على يد
سليمان بن هشام بن عبد الملك.
قلت: ولعلها فتحت مرتين، الأولى على يد قتيبة بن مسلم، والثانية على يد
سليمان بن هشام بن عبد الملك، والله تعالى أعلم.
(1/370)
قال عليّ بن المديني: لا أعلم في التّابعين
أوسع علما منه، وهو عندي أجلّ التابعين.
وقال أحمد العجليّ: كان لا يأخذ العطاء، وله أربعمائة دينار يتّجر بها
في الزّيت.
وقال مسعر [1] : عن سعد ابن إبراهيم قال: سمعت سعيد بن المسيّب يقول:
ما أحد أعلم بقضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر،
ولا عمر مني، سمع من الصحابة، وجلّ روايته عن أبي هريرة، وكان تزوّج
ابنته.
قال قتادة: ما جمعت علم الحسن [2] إلى علم أحد إلّا وجدت له عليه فضلا،
غير أنّه كان إذا أشكل عليه شيء، كتب إلى ابن المسيّب، يسأله.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة: عبد الله بن
عبّاس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزّبير، وعبد الله بن عمرو بن
العاص، صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي، فقيه مكّة عطاء، وفقيه
اليمن طاووس، وفقيه اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه البصرة الحسن
البصريّ، وفقيه الكوفة إبراهيم النّخعيّ، وفقيه الشّام مكحول، وفقيه
خراسان عطاء الخراسانيّ، إلّا المدينة، فإن الله تعالى حرسها بقرشيّ
فقيه غير مدافع سعيد بن المسيّب، وهو من فقهاء المدينة، جمع بين
الحديث، والتفسير، والفقه، والورع، والعبادة.
وعنه [3] قال: حججت أربعين حجّة، وما فاتني التكبيرة الأولى [4] منذ
__________
[1] هو مسعر بن كدام الهلالي، الكوفي، أبو سلمة. وسوف ترد ترجمته في
المجلد الثاني من كتابنا هذا، فراجعها فيه.
[2] يعني الحسن البصري رحمه الله.
[3] أي عن ابن المسيب رحمه الله.
[4] يعني خلف الإمام في الصلاة.
(1/371)
خمسين سنة، وما نظرت إلى قفا رجل في
الصلاة.
وعطّل المسجد النّبويّ أيام الحرّة [1] ولم يبق فيه غيره، وكان لا يعرف
أوقات الصلاة إلّا بهمهمة يسمعها داخل الحجرة المقدّسة، وخطب ابنته بعض
ملوك بني أمية، فزوّجها فقيرا من الطّلبة، وسيّرها إلى بيته، ثم زارها
بعد ذلك ووصلها بشيء من عنده، وكانت ابنة أبي هريرة تحته، وكان جابر بن
الأسود على المدينة دعاه إلى بيعة ابن الزّبير فأبى، فضربه ستين سوطا،
وضرب أيضا هشام بن إسماعيل ستين سوطا، وطاف به [2] في المدينة في تبّان
[3] من شعر، وذلك أنه دعاه إلى البيعة لسليمان، والوليد بالعهد فلم
يفعل.
وكان مولده لسنتين مضتا من خلافة عمر، ووفاته بالمدينة.
وولد لسعيد محمّد، وكان نسّابة، فنفى قوما من المخزومين، فرفع ذلك إلى
الوالي، فجلده الحدّ.
وكان لسعيد غيره من الولد، وبرد مولاه، قال له: يا برد، إياك أن تكذب
عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عبّاس.
وقال: كل حديث حدثكموه برد ليس مع غيره مما تنكرونه فهو كذب.
وبالجملة فمناقبه ومآثره تفوت الحصر، وقد صنّف فيها.
وفيها أيضا توفي أحد فقهاء المدينة السبعة [4] أبو محمّد عروة ابن
__________
[1] تقدم كلام المؤلف عن هذه الوقعة الأليمة في ص () من هذا المجلد
فراجعها.
[2] لفظة «به» سقطت من المطبوع.
[3] قال ابن منظور: التّبان، بالضم، والتشديد: سراويل صغير مقدار شبر
يستر العورة المغلظة فقط، يكون للملاحين. «لسان العرب» «تبن» (1/ 420)
.
[4] قال الإمام النووي: فقهاء المدينة السبعة: سعيد بن المسيّب، وعروة
بن الزّبير، والقاسم بن محمد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن
مسعود، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وفي السابع ثلاثة أقوال، فقيل:
سالم بن عبد الله بن عمر، وقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقيل: أبو بكر
بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 172) .
(1/372)
الزّبير بن العوّام الأسديّ المدنيّ،
الفقيه، الحافظ، جمع العلم، والسيادة، والعبادة.
ولد في سنة تسع وعشرين، وحفظ عن والده، وكان يصوم الدّهر [1] ومات
صائما، واشتهر أنه قطعت رجله وهو في الصلاة لأكلة [2] وقعت فيها، ولم
يتحرّك حتى لم يشعر الوليد بن عبد الملك بذلك وهو عنده، حتى كويت، فوجد
رائحة الكيّ.
قال الزّهريّ: رأيته بحرا لا تكدّره الدّلاء.
ودخل على عبد الملك بعد قتل أخيه [3] وسأله سيف الزّبير، فأخرجوا له
السيوف، فأخذ منها سيفا مفلّلا فعرفه، وبئره أعذب بئر في المدينة اليوم
[4] .
توفي في قرية له دون الفرع بضم الفاء وتسكين الراء من ناحية الرّبذة
على أربع ليال من المدينة، ذات نخل ومياه.
وهو شقيق عبد الله، أمهما أسماء بنت أبي بكر، بخلاف مصعب، فإنّ أمّه
أخرى، وكان عبد الملك بن مروان يقول: من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل
الجنة، فلينظر إلى عروة بن الزّبير، وسبب ذلك أنهم اجتمعوا في المسجد
الحرام وتمنّوا، وكان أمنية [5] عروة الزّهد في الدّنيا، والفوز
بالجنة، فلما نال كلّ امرئ منهم أمنيته، كان في ذلك دليل على نيل أمنية
عروة.
__________
[1] انظر «عمدة الأحكام» للمقدسي ص (139- 140) بتحقيقي، فإن صيام الدهر
نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبّ الصيام إلى الله تعالى
صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوما ويفطر يوما، وليس وراء ذلك صيام.
[2] قال ابن منظور: الأكلة، مقصورة: داء يقع في العضو فيأتكل منه.
«لسان العرب» «أكل» (1/ 102) .
[3] يعني عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه.
[4] ويسمى بئر عروة، وهي بطرف حرة الوبرة الغربي بالنسبة للمدينة، عن
يمين الطريق لمن يسافر إلى مكة.
[5] في المطبوع: «منية» وهو خطأ.
(1/373)
وقد نظم بعض الفضلاء فقهاء المدينة السبع
فقال:
ألا كلّ من لا يقتدي بأئمّة ... فقسمته ضيزى عن الحقّ خارجة
فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجة [1]
وفيها مات أيضا أحد الفقهاء السبعة، أبو بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث
بن هشام بن المغيرة المخزوميّ، الملقّب براهب قريش لعبادته وفضله،
استصغر يوم الجمل فردّ هو وعروة، وكان مكفوفا وأبوه الحارث من الصحابة،
وهو أخو أبي جهل لأمه.
وهذه السّنة تسمّى سنة الفقهاء، لأنها مات فيها جماعة منهم، وإنما قيل:
الفقهاء السبعة، لأنهم كانوا بالمدينة في عصر واحد ينشر عنهم العلم
والفتوى [2] وكان في عصرهم جماعة من فقهاء التابعين مثل: سالم بن عبد
الله بن عمر، وغيره، فلم يكن لهم مثل مالهم.
وفيها زين العابدين عليّ بن الحسين الهاشميّ، وولد سنة ثمان وثلاثين
بالكوفة، أو سنة سبع، سمّي زين العابدين لفرط عبادته، وكان ورده في
اليوم والليلة ألف ركعة إلى أن مات.
وكان يوم استشهد والده مريضا فلم يتعرّضوا له.
وكان عبد الملك يحترمه ويجلّه، وأمّه سلّامة [3] ، وقيل: غزالة بنت
يزدجرد ملك فارس [4] سبيت [5] ثالثة ثلاث من بناته في خلافة عمر، أمر
عمر
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: « ... سعيد سليمان أبو بكر خارجة» .
[2] في المطبوع: «الفتيا» .
[3] في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/ 386) : «سلّامة سلافة بنت ملك
الفرس يزدجرد، وقيل: غزالة» .
[4] مات سنة (31 هـ) . الموافقة لسنة (651) ميلادية. انظر «التوفيقات
الإلهامية» للواء محمد مختار باشا المصري ص (16) ، و «المنجد في
الأعلام» ص (749) .
[5] في المطبوع: «سميت» . وهو خطأ.
(1/374)
ببيعهنّ، فأشار عليّ، بتقويمهن، ويأخذهنّ
من اختارهنّ، فأخذهنّ عليّ فدفع واحدة لعبد الله بن عمر، وأخرى لولده
الحسين، وأخرى لمحمّد بن أبي بكر الصّدّيق فولدن [1] سالما، وزين
العابدين، والقاسم بن محمّد، فهم بنو خالة، وكان أهل المدينة يكرهون
السراري حتى نشأ فيهم هؤلاء الثلاثة، وفاقوا فقهاء المدينة ورعا، فرغبت
النّاس في السّراري.
ومن برّ زين العابدين لأمه، أنّه كان لا يأكل معها في صحفة [2] ويقول:
أخشى أن تسبق يدي إلى ما سبقت عينها إليه. ومن قوله: إن لله عبّادا
عبدوه رهبة، فتلك عبادة العبيد، وآخرين عبدوه رغبة، فتلك عبادة
التّجار، وآخرين عبدوه شكرا، فتلك عبادة الأحرار، وتكلم فيه رجل وافترى
عليه، فقال له: إن كنت كما قلت فأستغفر الله، وإن لم أكن كما قلت،
فالله يغفر لك، فقبّل رأسه وقال: جعلت فداك، لست كما قلت، فاغفر، قال:
غفر الله لك، فقال له الرجل: الله أعلم حيث يجعل رسالته [3] .
وقصّته مع هشام والفرزدق، ومدح الفرزدق له مشهورة نذكر شيئا منها عند
ذكر الفرزدق إن شاء الله تعالى [4] .
قال الزّهري: ما رأيت أحدا أفقه من زين العابدين، لكنّه قليل الحديث.
وقال أبو حازم الأعرج: ما رأيت هاشميّا أفضل منه.
وعن سعيد بن المسيّب قال: ما رأيت أورع منه.
__________
[1] في المطبوع: «فولدت» .
[2] الصحفة: القصعة. انظر «مختار الصحاح» للرازي ص (357) .
[3] في المطبوع: «رسالاته» ، يعني أنه من أحفاد رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
[4] سترد القصة التي أشار إليها المؤلف رحمه الله في المجلد الثاني.
(1/375)
وقال مالك: بلغني أن عليّ بن الحسين كان
يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة إلى أن مات.
وكان يسمّى زين العابدين لعبادته.
وفيها، وقيل: سنة أربع ومائة، أبو سلمة [1] بن عبد الرّحمن بن عوف
الزّهريّ المدنيّ، أحد الأئمة الكبار، قال الزّهري: أربعة وجدتهم
بحورا:
عروة، وابن المسيّب، وأبو سلمة، وعبيد الله.
وفيها تميم بن طرفة الطّائي الكوفي، ثقة له عدة أحاديث [2] .
__________
[1] قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته. انظر
«مشاهير علماء الأمصار» لابن حبان ص (64) ، و «سير أعلام النبلاء»
للذهبي (4/ 287) ، و «تهذيب التهذيب» (12/ 115) .
[2] انظر «تهذيب الكمال» للمزّي (4/ 331) بتحقيق الدكتور بشار عواد
معروف، طبع مؤسسة الرسالة.
وقال الذهبي في «الكاشف» (1/ 114) طبع دار الكتب العلمية في بيروت: مات
سنة (94) .
وكتب المعلق عليه: «أي ومائة. (194) !!! وهو خطأ، وما في متن «الكاشف»
هو الصواب.
(1/376)
سنة خمس وتسعين
فيها أراح الله العباد والبلاد بموت الحجّاج بن يوسف بن أبي عقيل
الثقفيّ الطائفيّ، في ليلة مباركة على الأمّة، ليلة سبع وعشرين من
رمضان، وله ثلاث، وقيل: أربع أو خمس وخمسون سنة، أو دونها، وكان شجاعا
مقداما [مهيبا] [1] مفوّها، فصيحا، سفّاكا، ولي الحجاز سنين [2] ثم
العراق، وخراسان عشرين سنة، وأقره الوليد على عمله بعد أبيه، وقيل لابن
سيرين [3] : رأيت حمامة بيضاء حسنة على سرادقات المسجد، فجاء صقر
فاختطفها، فقال ابن سيرين إن صدقت رؤياك تزوّج الحجّاج ابنة جعفر
الطّيّار، فلما تزوّجها قيل لابن سيرين: من أين أخذت ذلك، فقال:
الحمامة امرأة، وبياضها حسنها، والسّرادقات شرفها، فلم أر بالمدينة
أنقى حسنا ولا أشرف من ابنة جعفر، والصّقر سلطان غشوم، فلم أر أغشم من
الحجّاج.
وقال ابن قتيبة في «المعارف» : يكنى الحجّاج أبا محمّد، وكان
__________
[1] لفظة: «مهيبا» سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع.
[2] في الأصل: «سنتين» وأثبتنا ما في المطبوع وهو الصواب، لأن الحجاج
ولي الحجاز ثلاث سنين.
[3] هو محمد بن سيرين، أبو بكر، إمام المعبرين، المتوفى سنة (110 هـ) .
وسوف ترد ترجمته مفصلة في المجلد الثاني.
(1/377)
أخفش [1] دقيق الصوت، وأول ولاية وليها
تبالة [2] فلما رآها احتقرها وانصرف، فقيل في المثل: «أحقر من تبالة
على الحجّاج» [3] وولي شرطة أبان بن مروان في بعض ولايات أبان، فلما
خرج ابن الزّبير، وقوتل زمانا، قال الحجّاج لعبد الملك: إني رأيت في
المنام [4] كأني أسلخ عبد الله بن الزّبير، فوجّهني إليه، فوجّهه في
ألف رجل، وأمره أن ينزل الطائف حتى يأتيه أمره [5] ففعل، ثم كتب إليه
بقتاله، وأمدّه، فحاصره حتى قتله، ثم أخرجه فصلبه، وذلك في سنة ثلاث
وسبعين، فولاه عبد الملك الحجاز ثلاث سنين، فكان يصلّي بالموسم كلّ
سنة، ثم ولّاه العراق وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فوليها عشرين سنة،
وأصلحها، وذلّل أهلها، وحدثني أبو اليمان [6] عن حريز [7] بن عثمان، عن
عبد الرّحمن بن ميسرة، عن أبي عذبة الحضرمي قال:
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أخفض» وهو تحريف، والتصحيح من «المعارف» لابن
قتيبة ص (396) بتحقيق الدكتور ثروت عكاشة، الطبعة الثانية، دار المعارف
بمصر.
قال ابن منظور في «لسان العرب» «خفش» (2/ 1210) : الخفش: ضعف في البصر
وضيق في العين، وقيل: صغر في العين خلقة، هو فساد في جفن العين واحمرار
تضيق له العيون من غير وجع ولا قرح، خفش خفشا، فهو خفش وأخفش.
[2] قال البكري: تبالة: بفتح أوله وباللام، على وزن فعالة: بقرب
الطائف، على طريق اليمن من مكة، وهي لبني مازن ... وهي التي يضرب بها
المثل، فيقال: أهون من تبالة على الحجاج» . وانظر تتمة كلامه في «معجم
ما استعجم» (1/ 301) .
[3] كذا في الأصل، والمطبوع: «أحقر من تبالة على الحجّاج» ، والذي في
«المعارف» لابن قتيبة- الذي ينقل عنه المؤلف- و «معجم ما استعجم»
للبكري، و «لسان العرب» لابن منظور «تبل» : «أهون من تبالة على
الحجّاج» .
[4] في «المعارف» لابن قتيبة: «رأيت في منامي» .
[5] في «المعارف» لابن قتيبة: «حتى يأتيه رأيه» .
[6] هو الحكم بن نافع البهراني الحمصي، محدّث راوية من شيوخ البخاري،
وابن حنبل، توفي سنة (122 هـ) . وسوف ترد ترجمته في المجلد الثالث من
كتابنا هذا.
[7] في الأصل، والمطبوع: «جرير بن عثمان» ، وهو خطأ، والتصحيح من
«المعارف» لابن قتيبة، و «تذكرة الحفاظ» للذهبي (1/ 412) ، و «تهذيب
التهذيب» لابن حجر (2/ 441) .
(1/378)
قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه رابع
أربعة من أهل الشام، ونحن حجّاج، فبينا [1] نحن عنده إذ أتاه خبر من
العراق بأنهم قد حصبوا إمامهم فخرج إلى الصلاة، ثم قال: من ها هنا من
أهل الشام؟ فقمت أنا وأصحابي. فقال: يا أهل الشام تجهّزوا لأهل العراق
فإن الشيطان قد باض فيهم وفرّخ، ثم قال: اللهم قد لبّسوا عليّ، فلبّس
عليهم، اللهمّ عجّل لهم بالغلام الثّقفيّ، الذي يحكم فيهم بحكم
الجاهلية، لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم انتهى [2] .
وأمّ الحجّاج الفارعة بنت همام [3] بن عروة بن مسعود الثقفي، ولدت
الحجّاج مشوّها لا دبر له، فنقب عن دبره، وأبى أن يقبل ثديّ أمه أو
غيرها [4] [فأعياهم أمره] [5] فيقال: إن الشيطان تصور لهم في صورة
الحارث بن كلدة، وكان تزوج الفارعة قبل أبي الحجّاج، وكان حكيم العرب
فقال لهم:
ألعقوه دم جدي [6] يومين، واليوم الثالث ألعقوه دم تيس أسود ثم دم
ثعبان [7] سالخ أسود، واطلوا به وجهه، وأخبرهم أنه يقبل الثدي في اليوم
الرابع، فلذلك كان لا يصبر عن سفك الدماء، ويخبر أنه أكبر لذّاته.
وله مقحمات عظائم وأخبار مهولة وكان معلّما.
__________
[1] في الأصل: «فبينما» وما أثبتناه موافق لما في «المعارف» لابن قتيبة
الذي نقل عنه المؤلف.
[2] «المعارف» لابن قتيبة ص (396- 397) .
[3] في «العقد الفريد» لابن عبد ربه (5/ 276) بعناية الدكتور عبد
المجيد الترحيني، طبع دار الكتب العلمية: «الفارعة بنت هبّار» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وغيرها» ، وما أثبتناه من «وفيات الأعيان»
لابن خلكان الذي نقل عنه المؤلف.
[5] الزيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلّكان.
[6] في «وفيات الأعيان» لابن خلكان: «اذبحوا جديا أسود وأولغوه دمه،
فإذا كان في اليوم الثاني فافعلوا به كذلك، فإذا كان اليوم الثالث
فاذبحوا له تيسا أسود وأولغوه دمه» .
[7] لفظة «ثعبان» سقطت من «وفيات الأعيان» فتستدرك فيه. وانظر «لسان
العرب» «سلخ» (2062) .
(1/379)
قال ابن قتيبة: كان يعلّم [الصبيان] [1]
بالطائف واسمه كليب، وأبوه أيضا يوسف كان معلّما [2] .
وقال مالك [3] بن الرّيب [4] في الحجّاج:
فماذا عسى الحجّاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير [5] زياد
فلولا بنو مروان كان ابن يوسف ... كما كان عبدا من عبيد إياد
زمان هو العبد المقرّ بذلّه ... يراوح غلمان القرى ويغادي
وقال آخر:
أينسى كليب زمان الهزال ... وتعليمه سورة الكوثر
رغيف له فلكه ما يرى ... وآخر كالقمر الأزهر
يريد أن خبز المعلّمين مختلف.
ولما حضرته الوفاة قال للمنجّم: هل ترى ملكا يموت؟ قال: بلى، ولست به،
أرى ملكا يموت يسمى كليبا، قال: أنا والله كليب كانت أمي سمّتني.
انتهى.
وتمثّل حينئذ بقول عبيد بن سفيان العكليّ:
يا ربّ قد حلف الأعداء واجتهدوا ... أيمانهم أنّني من ساكني النّار
__________
[1] لفظة: «الصبيان» ليست في الأصل، والمطبوع، وإنما أثبتناها من
«العقد الفريد» لابن عبد ربه.
[2] لم أر هذا النقل عند ابن قتيبة في «المعارف» في النسخة التي بين
يدي، وإنما هو في «العقد الفريد» لابن عبد ربه (5/ 275) ، وقد نسبه
لابن قتيبة.
[3] في المطبوع: «ملك» .
[4] في الأصل: «مالك بن أبي يزيد» ، وفي المطبوع: «ملك بن أبي يزيد» ،
وكلاهما خطأ، والتصحيح من «العقد الفريد» لابن عبد ربه (5/ 275) ، و
«الشعر والشعراء» لابن قتيبة ص (221) بتحقيق الدكتور مفيد قميحة،
ومراجعة الأستاذ نعيم زرزور، طبع دار الكتب العلمية، و «شرح أبيات
المغني» للبغدادي (5/ 14) ، و «الأعلام» للزركلي (5/ 261) .
[5] كذا في الأصل، والمطبوع: و «العقد الفريد» ، وفي «الشعر والشعراء»
لابن قتيبة: «قناة» .
(1/380)
أيحلفون على عمياء ويحهم ... ما علمهم
بعظيم العفو غفّار [1]
وكان موته بالأكلة [2] في بطنه، سوّغه الطبيب لحما في خيط فخرج مملوءا
دودا وسلط عليه أيضا [3] البرد، فكان يوقد النّار تحته وتأجّج حتى تحرق
ثيابه [4] وهو لا يحسّ بها، فشكا [ما يجده] [5] إلى الحسن البصريّ فقال
[له] [6] ألم أكن نهيتك أن تتعرّض للصالحين [فلججت، فقال له:
يا حسن، لا أسألك أن تسأل الله أن يفرج عني، ولكني أسألك أن تسأله أن
يعجل قبض روحي ولا يطيل عذابي، فبكى الحسن بكاء شديدا، وأقام الحجّاج
على هذه الحال بهذه العلة خمسة عشر يوما] [7] فلما أخبر الحسن بموته
سجد شكرا، وقال: اللهمّ كما أمته أمت [8] سنّته [9] .
وكان [10] قد رأى أن عينيه قلعتا: وكان تحته هند بنت المهلّب، وهند بنت
أسماء بن خارجة فطلّقهما [11] ليتأوّل رؤياه بهما، فمات ابنه محمّد،
وجاءه نعي أخيه محمّد من اليمن، فقال: هذا والله تأويل رؤياي محمّد
__________
[1] البيتان في «وفيات الأعيان» ، و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (6/
231) مع بعض الاختلاف في ألفاظهما.
[2] سبق أن أشرنا إلى أن الأكلة داء يقع في العضو فيأتكل منه. انظر ص
(373) .
[3] في المطبوع: «وسلط أيضا عليه» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «حتى تحرق جلده» .
[5] لفظة «ما يجده» التي بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» لابن
خلكان، الذي ينقل عنه المؤلف.
[6] زيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلكان.
[7] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلّكان.
[8] في المطبوع: «فأمت» .
[9] في «وفيات الأعيان» لابن خلكان: «اللهمّ إنك قد أمته فأمت سنته» .
[10] يعني الحجّاج.
[11] في الأصل: «فطلقها» وما أثبتناه من المطبوع.
(1/381)
ومحمّد في يوم واحد، إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، 2: 156 ثم قال من: يقول شعرا فيسلّيني
[به؟] [1] فقال: الفرزدق:
إن الرّزيّة لا رزيّة بعدها ... فقد [ان] [2] مثل محمّد ومحمّد
ملكان قد خلت المنابر منهما ... أخذ الحمام عليهما بالمرصد [3]
قيل: قتل مائة ألف وعشرين ألفا، ووجد في سجونه بعد موته ثلاثة وثلاثون
ألفا لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب، ويقال: إن زياد ابن أبيه أراد
[أن] يتشبّه بعمر في ضبطه وسياسته، فتجاوز الحدّ ولم يصب، وأراد
الحجّاج أن يتشبّه بزياد فدمّر وأهلك [4] .
وفي شعبان من السنة المذكورة قتل الحجّاج- قاتله الله- سعيد بن جبير
الوالبيّ مولاهم الكوفيّ المقرئ، المفسّر، الفقيه، المحدّث، أحد
الأعلام، وله نحو من خمسين سنة، أكثر روايته عن ابن عبّاس، وحدّث في
حياته بإذنه، وكان لا يكتب الفتاوى مع ابن عبّاس، فلما عمي ابن عبّاس
كتب، وروي أنه قرأ القرآن في ركعة في البيت الحرام، وكان يؤمّ النّاس
في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت،
وأخرى بقراءة غيرهما، وهكذا أبدا، وقيل: كان أعلم التّابعين بالطّلاق
سعيد بن جبير، وبالحجّ عطاء [5] ، وبالحلال والحرام طاووس [6]
وبالتفسير
__________
[1] زيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلكان.
[2] زيادة من المطبوع، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان.
[3] البيتان في
[4] قال الذهبي في آخر ترجمته للحجّاج في «تاريخ الإسلام» (3/ 355) :
وعندي مجلد في أخبار الحجاج فيه عجائب، لكن لا أعرف صحتها.
[5] يعني عطاء بن أبي رباح، الإمام، الفقيه، الواعظ، الحجة، المتوفى
سنة (114) ، وسترد ترجمته في المجلد الثاني من كتابنا هذا.
[6] يعني طاووس بن كيسان اليماني الجندي الخولاني، أحد الأئمة الأعلام
في عصره،
(1/382)
مجاهد [1] ، وأجمعهم لذلك سعيد بن جبير،
وقتله الحجّاج وما على وجه الأرض أحد إلّا وهو مفتقر إلى علمه.
وقال الحسن [2] يوم قتله: اللهمّ أعن على فاسق ثقيف، والله لو أنّ أهل
الأرض اشتركوا في قتله لأكبّهم [3] الله في النار. وقال أبو اليقظان
[4] :
هو- أي سعيد- مولى لبني والبة من بني أسد، ويكنى أبا [5] عبد الله،
وكان أسود، وكتب لعبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم كتب لأبي بردة وهو على
القضاء وبيت المال، وكان سعيد مع عبد الرّحمن بن محمّد بن الأشعث بن
قيس، لما خرج على عبد الملك بن مروان، فلما قتل عبد الرّحمن وانهزم
أصحابه من دير الجماجم [6] هرب فلحق بمكّة، وكان واليها يومئذ خالد بن
__________
المتوفى سنة (106) ، وسوف ترد ترجمته في المجلد الثاني من كتابنا هذا.
وانظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (48) بتحقيقنا، طبع دار ابن
كثير.
[1] يعني مجاهد بن جبر، شيخ القرّاء، والمفسرين في عصره، المتوفى سنة
(103 هـ) . انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (17) ، وسوف ترد
ترجمته في المجلد الثاني من كتابنا هذا.
[2] يعني الحسن البصري، إمام أهل البصرة، وخير أهل زمانه، المتوفى سنة
(110 هـ) . وسترد ترجمته مفصلة في المجلد الثاني من كتابنا هذا.
[3] في المطبوع: «لكبهم» .
[4] هو عامر بن حفص، عالم بالأنساب، يلقب بسحيم، توفي سنة (190 هـ) .
انظر «الأعلام» للزركلي (3/ 250) .
[5] في الأصل: «أبو» وأثبتنا ما في المطبوع وهو الصواب.
[6] قال ياقوت: دير الجماجم بظاهر الكوفة على سبعة فراسخ منها على طرف
البر للسالك إلى البصرة، قال أبو عبيدة: الجمجمة القدح من الخشب، وبذلك
سمي دير الجماجم، لأنه كان يعمل فيه الأقداح من الخشب. والجمجمة أيضا:
البئر تحفر في سبخة، فيجوز أن يكون الموضع سمي بذلك، قال ابن الكلبي:
إنما سمي دير الجماجم لأن بني تميم وذبيان لما واقعت بني عامر وانتصرت
بنو عامر وكثر القتلى في بني تميم بنوا بجماجمهم هذا الدير شكرا على
ظفرهم، وهذا عندي بعيد من الصواب، وهو مقول على ابن الكلبي وليس يصح
عنه، فإنه كان أهدى إلى الصواب من غيره في هذا الباب، لأن وقعة بني
عامر وبني تميم وذبيان كانت بشعب جبلة وهو بأرض نجد وليس بالكوفة، ولعل
الصواب ما حكاه البلاذري عن ابن
(1/383)
عبد الله القسري، فأخذه وبعث به إلى
الحجّاج مع إسماعيل بن أوسط البجلّي، فقال له الحجّاج: يا شقيّ بن كسير
أما قدمت الكوفة وليس يؤمّ بها إلّا عربي فجعلتك إماما؟ فقال: بلى،
قال: أما ولّيتك القضاء، فضجّ أهل الكوفة وقالوا: لا يصلح للقضاء إلّا
عربيّ، فاستقضيت أبا بردة بن أبي موسى الأشعري، وأمرته أن لا يقطع أمرا
دونك؟ قال: بلى، قال أما جعلتك من سمّاري وكلهم رؤوس [1] العرب؟ قال:
بلى، قال: أما أعطيتك مائة ألف درهم تفرّقها على أهل الحاجة في أول ما
رأيتك ثم لم أسألك عن شيء منها؟ قال:
بلى، قال: فما أخرجك عليّ؟ قال: بيعة كانت في عنقي لابن الأشعث، فغضب
الحجّاج ثم قال: أما كانت بيعة أمير المؤمنين عبد الملك في عنقك من
قبل؟ والله لأقتلنّك؟. وقال أبو بكر الهذليّ [2] : لما دخل سعيد بن
جبير على الحجّاج قام بين يديه، فقال له: أعوذ منك بما استعاذت به مريم
بنت عمران حيث قالت: [إِنِّي] أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ
تَقِيًّا 19: 18 [مريم: 18] ، فقال له الحجّاج: ما اسمك قال: سعيد بن
جبير، قال:
شقيّ بن كسير، قال: أمّي أعلم باسمي، قال: شقيت وشقيت أمّك، قال:
الغيب يعلمه غيرك، قال: لأوردنّك حياض الموت، قال: أصابت إذا أمّي،
قال: فما تقول في محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نبيّ ختم الله تعالى
به الرّسل وصدّق به الوحي، وأنقذ به من الهلكة إمام هدي ونبيّ رحمة،
قال: فما تقول في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل، إنما استحفظت أمر
ديني، قال: فأيّهم
__________
الكلبي أن بلادا الرماح، وبعضهم يقول بلال الرماح، وهو أثبت، ابن محرز
الإيادي قتل قوما من الفرس ونصب رؤوسهم عند الدير فسمي دير الجماجم.
«معجم البلدان» (2/ 504) ، وانظر «معجم ما استعجم» (2/ 573، 574) م.
[1] في المطبوع: «رؤس» .
[2] هو سلميّ بن عبد الله بن سلمي. انظر «جمهرة الأنساب» لابن حزم ص
(198) .
(1/384)
أحبّ إليك؟ قال: أحسنهم خلقا وأرضاهم
لخالقه، وأشدّهم فرقا [1] قال: فما تقول في عليّ وعثمان، أفي الجنة هما
أو في النار؟ قال: لو دخلتهما فرأيت أهلهما إذا لأخبرتك، فما سؤالك عن
أمر غيّب عنك؟ قال: فما تقول في عبد الملك بن مروان؟ قال: مالك تسألني
عن امرئ أنت واحدة من ذنوبه؟ قال:
فمالك لم تضحك قطّ؟ قال: لم أر ما يضحكني [2] ، كيف يضحك من خلق من
تراب وإلى التراب يعود؟ قال: فإني أضحك من اللهو [3] قال ليست القلوب
سواء، قال: فهل رأيت من اللهو [4] شيئا، ودعا بالنّاي والعود، فلما نفخ
بالنّاي بكى، قال: ما يبكيك؟ قال: ذكّرني يوم ينفخ في الصّور، فأمّا
هذا العود فمن نبات الأرض، وعسى أن يكون قد قطع من غير حقّه، وأمّا هذه
المغاش والأوتار [5] فإنها سيبعثها الله معك يوم القيامة، قال: إني
قاتلك، قال: إن الله عزّ وجلّ قد وقّت لي وقتا أنا بالغه، فإن يكن أجلي
قد حضر فهو أمر قد فرغ منه، ولا محيص ساعة، وإن تكن العافية، فالله
تعالى أولى بها، قال: اذهبوا به فاقتلوه، قال: أشهد أن لا إله إلّا
الله وحده لا شريك له [وأن محمدا عبده ورسوله] [6] استحفظكها يا حجّاج
حتى ألقاك يوم القيامة، فلما تولّوا به ليقتلوه ضحك، قال له الحجّاج:
ما أضحكك؟ قال: عجبت من جرأتك على الله، وحلم الله جلّ وعلا عليك [7]
ثم استقبل القبلة فقال:
__________
[1] قال ابن منظور: الفرق بالتحريك: الخوف، وفرق منه بالكسر فرقا جزع.
«لسان العرب» «فرق» (5/ 3400) .
[2] في المطبوع: «لم أر ما يضحك» .
[3] في الأصل: «الهوا» وأثبتنا ما في المطبوع لأنه يتفق مع ما جاء في
سياق النص.
[4] في الأصل: «الهوا» وما أثبتناه من المطبوع لأنه يتفق مع ما جاء في
سياق النص.
[5] في «سير أعلام النبلاء» (4/ 331) : «وأما الأوتار فأمعاء شاة يبعث
بها معك يوم القيامة» ، وفي حاشية «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/ 373)
: «وأما الأوتار فمن الشاء تبعث معك يوم القيامة» . وأما العبارة التي
في كتابنا فلا أرى لها وجها، ولعلها محرفة فيه، والله أعلم.
[6] ما بين حاصرتين زيادة من «سير أعلام النبلاء» للذهبي، وحاشية
«وفيات الأعيان» .
[7] في الأصل، والمطبوع: «وحلم الله جل وعلا عنك» ، وما أثبته من حاشية
«وفيات الأعيان» ،
(1/385)
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا من الْمُشْرِكِينَ 6: 79
[الأنعام: 79] قال:
اقتلوه عن القبلة، قال: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله
إِنَّ الله واسِعٌ عَلِيمٌ 2: 115 [البقرة: 115] قال: اضربوا به الأرض،
قال: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ
تارَةً أُخْرى 20: 55 [طه: 55] قال: اضربوا عنقه، قال:
اللهمّ لا تحل له دمي ولا تمهله من بعدي [1] فلما قتله لم يزل دمه يجري
حتى علا وفاض حتى دخل تحت سرير الحجّاج، فلما رأى ذلك هاله وأفزعه،
فبعث إلى صادق [2] المتطبّب فسأله عن ذلك، قال: لأنك قتلته ولم يهله،
ففاض دمه ولم يجمد في جسده، ولم يخلق الله عزّ وجلّ شيئا أكثر دما من
الإنسان، فلم يزل به ذلك الفزع حتى منع النّوم، وجعل يقول: مالي ولك يا
سعيد بن جبير، وكان في جملة مرضه كلما نام رآه آخذا بمجامع ثوبه يقول:
يا عدوّ الله فيم قتلتني، فيستيقظ مذعورا ويقول: مالي ولابن جبير، وقتل
ابن جبير، وله تسع وأربعون سنة، وقبره بواسط يتبرك به [3] .
وفيها توفي مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير العامريّ البصريّ، الفقيه
العابد المجاب الدّعوة، روى عن عليّ، وعمّار [4] .
وحميد بن عبد الرّحمن بن عوف الزّهريّ، سمع من خاله عثمان [5]
__________
وما جاء في هذه الحاشية ما هو إلّا نص لابن خلكان في «وفيات الأعيان»
سقط من النسخة الخطية التي اعتمدها الدكتور إحسان عباس في تحقيقه
للكتاب، وهو موجود في نسخ أخرى من الكتاب، والدليل على ذلك أن ابن
العماد ينقل عنه في كتابنا هنا.
[1] في حاشية «وفيات الأعيان» ، و «سير أعلام النبلاء» : «اللهمّ لا
تسلطه على أحد يقتله بعدي» .
[2] في المطبوع: «صادوق» .
[3] قلت: التبرك بالقبور من الأمور التي نهى عنها شرعنا الحنيف، ولكن
صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «زوروا القبور فإنها تذكركم
الآخرة» .
[4] يعني عمار بن ياسر رضي الله عنه.
[5] يعني أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
(1/386)
وهو صغير، وكان عالما فاضلا مشهورا.
والإمام الجليل، فقيه العراق بالاتفاق أبو عمران إبراهيم بن يزيد
النّخعيّ، أخذ عن مسروق، والأسود، وعلقمة، ورأى عائشة وهو صغير،
والنّخع من مذحج، وقد عدّه ابن قتيبة في «المعارف» من الشيعة [1] ،
وقال عنه: وكان مزّاحا، قيل له: إن سعيد بن جبير يقول: كذا، قال: قل له
يسلك وادي النّوكى [2] ، وقيل لسعيد: إنه يقول كذا، قال قل له: يقعد في
ماء بارد، ومات وهو ابن ستّ وأربعين سنة، وقال ابن عون: كنت في جنازة
إبراهيم، فما كان فيها إلّا سبعة أنفس، وصلّى عليه عبد الرّحمن بن
الأسود بن يزيد، وهو ابن خاله. انتهى ملخصا [3] .
وفيها أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوف الزّهريّ.
__________
[1] انظر «المعارف» لابن قتيبة ص (624) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «وادي الترك» وهو خطأ، والتصحيح من «المعارف»
لابن قتيبة ص (463) . والنوكى جمع أنوك، وهو الأحمق. انظر «لسان العرب»
لابن منظور «نوك» (6/ 4582) .
[3] «المعارف» ص (463، 464) .
(1/387)
|