شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة ست وتسعين
فيها توفي عبد الله بن بسر المازنيّ بحمص، كذا ورّخه عبد الصّمد بن
سعيد، وقد مرّ.
وفيها قلع الله تعالى قرّة بن شريك القيسي أمير مصر، وكان عسوفا ظالما،
قيل: كان إذا انصرف الصّنّاع من بناء جامع مصر دخله فدعا بالخمر
والملاهي، ويقول: لنا الليل ولهم النّهار.
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: الوليد بالشّام، وقرّة بمصر،
والحجّاج بالعراق، وعثمان بن حيّان بالحجاز، امتلأت الأرض والله جورا.
وفيها في جمادى الآخرة توفي الخليفة أبو العبّاس الوليد بن عبد الملك
بن مروان الخليفة، وكان ذميما سائل الأنف يتبختر في مشيه وأدبه ناقص
حتى قيل: [إنه] [1] قرأ في الخطبة يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ 69:
27 [الحاقة: 27] بضم تاء ليت، ودخل عليه أعرابي فقال: من ختنك؟ قال:
المزين فقالوا [2] : إنما يريد أمير المؤمنين من ختنك؟ قال: نعم، فلان.
لكنه كان مع جوره كثير التّلاوة للقرآن، يختم في ثلاث، وفي رمضان سبع
__________
[1] لفظة: «إنه» سقطت من الأصل، واستدركناها من المطبوع.
[2] في المطبوع: «فقال» .
(1/388)
عشرة ختمة، وطاب حاله في دنياه، ورزق سعادة
عظيمة مع جانب من الدّين، فبنى جامع دمشق، وافتتح الهند، والتّرك،
والأندلس، وتصدّق كثيرا، وروي أنه قال: لولا ذكر الله آل لوط في القرآن
ما ظننت أحدا يفعله.
وفي أواخرها قتل قتيبة بن مسلم بخراسان، وقد وليها عشرين سنة، قال
خليفة: خلع سليمان بن عبد الملك فقتلوه [1] .
وكان بطلا شجاعا هزم الكفّار غير مرّة وافتتح عدّة مدائن.
__________
[1] انظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (318) ، والمؤلف ينقل عنه بتصرف.
(1/389)
سنة سبع وتسعين
فيها توفي سعيد بن مرجانة صاحب أبي هريرة رضي الله عنه.
وقاضي المدينة طلحة بن عبد الله بن عوف الزّهريّ أحد الطّلحات
الموصوفين بالجود، روى عن عثمان، وغيره.
وفيها، أو في سنة ثمان توفي قيس بن أبي حازم الأحمسيّ البجليّ الكوفيّ
وقد جاوز المائة، سمع أبا بكر، وطائفة من البدريّين، وكان أحد علماء
المدينة [1] .
وفيها، أو في سنة ست محمود بن لبيد الأنصاريّ الأشهليّ.
قال البخاريّ: له صحبة [2] .
وذكره مسلم وغيره في التّابعين، وله عدّة أحاديث، قال بعض المحدّثين
حكمها الإرسال [3] .
وفيها حجّ بالناس خليفتهم سليمان بن عبد الملك بن مروان، فتوفي معه
بوادي القرى [4] أبو عبد الرّحمن موسى بن نصير الأعرج، الأمير الذي
__________
[1] على هامش الأصل: «الكوفة» .
[2] قلت: ذكر البخاري حديثا له في «تاريخه» (7/ 402) ولم يصرح بصحبته
فراجعه.
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (3/ 485) ، و «الإصابة» لابن حجر
(9/ 139) .
[4] قال ياقوت: وادي القرى: واد بين الشام والمدينة، وهو بين تيماء
وخيبر فيه قرى كثيرة وبها سمي وادي القرى. قال أبو المنذر: سمي وادي
القرى لأن الوادي من أوله إلى آخره قرى منظومة، وكانت من أعمال البلاد،
وآثار القرى إلى الآن بها ظاهرة إلّا أنها في وقتنا هذا كلها
(1/390)
افتتح الأندلس وأكثر المغرب، ولم يهزم له
جيش قطّ، وكان من رجال العالم حزما، ورأيا، وهمّة، ونبلا وشجاعة،
وإقداما، وكان والده نصير على جيوش معاوية، وكان الوليد بن عبد الملك
أرسل إلى عمّه وعامله على مصر عبد الله بن مروان: أن أرسل موسى بن نصير
إلى إفريقية ففعل، فقدمها معه جماعة من الجند وخرج عليه [1] خارجة من
البربر، فوجّه إليهم ولده عبد الله [2] ، فسبى منهم ما لم يسمع بمثله،
بلغ الخمس ستين ألف رأس، وفي بعضها مائة وستين ألفا، ووقع قحط شديد،
فخرج بالناس مستسقيا بشروط الاستسقاء، وخطب النّاس فقال له قائل: ألا
تدعو لأمير المؤمنين الوليد؟ فقال: هذا مقام لا يذكر فيه غير الله،
فسقوا، وانتهت، فتوجّه إلى السّوس [3] الأدنى ونزل بقية البربر
بالطّاعة، وولّى عليهم واليا، وولّى على طنجة وأعمالها مولاه طارق ابن
زياد البربريّ، ومهّد البلاد، ولم يبق منازع من البربر ولا من الرّوم،
وترك خلقا كثيرا من العرب يعلّمون النّاس القرآن وفرائض الإسلام، ولما
تقرّرت القواعد كتب إلى طارق بطنجة يأمره بغزو بلاد الأندلس، فركب
البحر من سبتة إلى الجزيرة الخضراء، وصعد على جبل يعرف اليوم بجبل
طارق، ورأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم
يبشّرونه بالفتح وهم يمشون على الماء، وأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم
بالوفاء بالعهد والرّفق
__________
خراب ومياهها جارية تتدفق ضائعة لا ينتفع بها أحد. وانظر تتمة كلامه في
«معجم البلدان» (4/ 338) ، و (5/ 345) .
[1] في المطبوع: «عليها» ، وهو تحريف.
[2] في «الروض المعطار» للحميري ص (330) : أن الذي افتتحها هو عقبة بن
نافع.
[3] قال الحميري: السوس في أقصى بلاد المغرب، وهي مدينة جليلة حاضرة
جامعة لكل خير وفضل، وأهلها أخلاط، وهي بلاد السكر، ويصنع بها منه كل
شيء كثير، ويتجهز منه إلى الآفاق، ويصل فاضله إلى أقصى خراسان، ويصنع
بها من الخز العتيق كل جليلة، وبها فواكه كثيرة. «الروض المعطار» ص
(329) ، وانظر «معجم البلدان» لياقوت (3/ 280، 281) .
(1/391)
بالمسلمين [1] فجاءه ملك طليطلة في سبعين
ألفا ومعه العجل تحمل الأموال والمتاع، فأمر طارق جيش المسلمين
بالثبات، والصّبر، والصّدق، والعدوّ أمامهم، وكان النّصر للمسلمين،
وافتتحوا إلى ساحل البحر المحيط ولله الحمد.
__________
[1] قلت: إن صح هذا النقل الذي لم يذكر المؤلف قائله فيكون طارق بن
زياد رحمه الله رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة في
المنام، وإلّا فإن هذا لم يكن لمن هو أفضل من طارق بن زياد تدينا وأثرا
من القادة المسلمين الذين تقدموا عليه أو لحقوا به!!.
(1/392)
سنة ثمان وتسعين
فيها غزا المسلمون قسطنطينية [1] وعليهم مسلمة بن عبد الملك [2] .
وافتتح يزيد بن المهلّب بن أبي صفرة جرجان [3] .
وفيها توفي أبو عمرو الشيبانيّ الكوفيّ، واسمه سعد بن إياس عن مائة
وعشرين سنة، وكان يقرئ النّاس بمسجد الكوفة، وروى عن عليّ، وابن مسعود.
وفيها أبو هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفيّة [4] الهاشميّ المدنيّ،
وهو الذي أوصى إلى محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس، وصرف الشيعة
إليه، ودفع إليه كتبا، وأسرّ إليه [5] أشياء.
وفيها، أو في التي بعدها توفي أبو عبد عبد الرّحمن الأسود بن يزيد
النخعيّ الكوفيّ، الفقيه العابد، أدرك عمر، وسمع من عائشة.
__________
[1] وهي المعروفة في أيامنا ب «إستانبول» ، والتي كانت عاصمة للدولة
العثمانية، آخر الدول الإسلامية الكبرى.
[2] انظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (3/ 330، 331) ، فقد أورد الخبر
بتوسع.
[3] جرجان: مدينة في إقليم خراسان من بلاد فارس. وهي الآن في إيران.
انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (69) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير.
[4] في المطبوع: «عبد الله بن محمد بن الحنيفة» وهو خطأ.
[5] في الأصل، والمطبوع: «وأسر إليها» وهو خطأ. وما أثبتناه يقتضيه
سياق النص، وهو موافق لما عند الزركلي في «الأعلام» (4/ 116) .
(1/393)
وفيها على الصحيح توفي عبيد الله بن عبد
الله بن عتبة بن مسعود الهذليّ الضرير، أحد الفقهاء السبعة، ومؤدّب عمر
بن عبد العزيز، قال ابن الجوزيّ في كتاب «ذمّ الهوى» [1] قدمت امرأة من
هذيل المدينة فخطبها الناس وكادت تذهب بعقول أكثرهم لفرط جمالها، فقال
فيها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة:
أحبّك حبّا لو علمت ببعضه ... لجدت ولم يصعب عليك شديد
أحبّك حبّا لا يحبّك مثله ... قريب ولا في العاشقين بعيد
وحبّك [2] يا أمّ الصبيّ مدلّهي ... شهيدي أبو بكر فذاك شهيد
ويعلم وجدي قاسم بن محمّد ... وعروة ما ألقى بكم وسعيد
ويعلم ما عندي سليمان علمه ... وخارجة يبدي بنا ويعيد
متى تسألي عمّا أقول فتخبري ... فلله عندي طارف وتليد
فقال سعيد بن المسيّب: فقد أمنت أن تسألنا، ولو سألتنا ما طمعت أن نشهد
لك [3] بزور.
وهؤلاء الذين استشهد بهم، وهو معهم فقهاء المدينة السبعة: أبو بكر بن
عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر الصّدّيق،
وعروة بن الزّبير، وسعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسار، وخارجة بن زيد
بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود صاحب الترجمة.
وفيها كريب مولى ابن عبّاس، وكان كثير العلم كنزا له، كبير السنّ
والقدر.
__________
[1] ص (166- 167) . تحقيق الأستاذ مصطفى عبد الواحد، ومراجعة الشيخ
محمد الغزالي، طبع دار الكتب الحديثة بمصر.
[2] في الأصل، والمطبوع: «وحبيك» وهو خطأ، والتصحيح من «ذم الهوى» لابن
الجوزي.
[3] لفظة «لك» لم ترد عند ابن الجوزي في «ذم الهوى» .
(1/394)
قال موسى بن عقبة: وضع كريب عندنا عدل بعير
من كتب ابن عبّاس.
وفيها الفقيهة الفاضلة عمرة بنت عبد الرّحمن الأنصاريّة، نشأت في حجر
عائشة، فأكثرت الرواية عنها، وهي العدل الضابطة لما يؤخذ عنها
.
(1/395)
سنة تسع وتسعين
فيها على خلاف توفي أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤليّ.
قال ابن قتيبة [1] : هو ظالم بن عمرو بن جندل بن سفيان بن كنانة، وأمّه
من بني عبد الدّار بن قصيّ، وكان عاقلا، حازما بخيلا، وهو أول من وضع
العربيّة، وكان شاعرا مجيدا، وشهد صفّين مع عليّ بن أبي طالب رضي الله
عنه، وولي البصرة لابن عبّاس، وفلج بالبصرة ومات بها، وقد أسنّ، فولد
عطاء، وأبا حرب، وكان عطاء ويحيى [بن] [2] يعمر العدواني بعجا [3]
العربية بعد أبي الأسود، ولا عقب لعطاء، وأمّا [أبو] [4] حرب بن أبي
الأسود فكان عاقلا شاعرا، وولّاه الحجّاج جوخى [5] فلم يزل عليها حتى
مات الحجّاج.
__________
[1] «المعارف» ص (434، 435) .
[2] لفظة «ابن» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، وأثبتناها من المطبوع،
و «المعارف» لابن قتيبة.
[3] في الأصل، والمطبوع: «بعجبا» وهو خطأ، والتصحيح من «المعارف» لابن
قتيبة.
ومعنى بعجا: أي شقا العربية، وأذلاها بعد أبي الأسود الدؤلي. (ع) .
[4] لفظة: «أبو» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، والمطبوع،
واستدركناها من «المعارف» لابن قتيبة.
[5] قال البكري: جوخى بفتح أوله، وإسكان ثانيه، وبالخاء المعجمة، على
وزن فعلى: بلد بالعراق، وهو ما سقي من نهر جوخى. قال محمد بن سهل: ولم
يكن بالعراق عند الفرس كورة تعدل كورة جوخى، كان خراجها ثمانين ألف
ألف. «معجم ما استعجم» ، للبكري (1/ 403) ، وانظر «معجم البلدان»
لياقوت (2/ 179) .
(1/396)
وقد روي الحديث عن أبي حرب [وله عقب
بالبصرة، وعدد] [1] وهو القائل لولده: لا تجاودوا الله فإنه أجود وأمجد
منكم، ولو شاء أن يوسّع على النّاس كلّهم، حتى لا يكون محتاج، لفعل،
[ولا تجهدوا أنفسكم في التوسعة فتهلكوا هزالا] [2] .
وسمع رجلا يقول: من يعشّي الجائع؟ فعشّاه، ثم ذهب السائل ليخرج، فقال:
هيهات! على أن لا تؤذي المسلمين الليلة، ووضع رجله في الأدهم [3]
انتهى.
وقال ابن الأهدل [4] : هو ظالم بن عمرو الدّيلي، ويقال: الدؤلي نسبة
إلى الدّيل من كنانة، وفتح بعضهم في النسبة لئلا تتوالى الكسرات، كما
قالوا في النسبة إلى النّمر: نمري، وهي قاعدة مطوقة، وكان من خواصّ
عليّ، وشهد معه صفّين، وكان من كمل الرّجال، وهو أول من وضع النحو، حكى
ولده أبو حرب قال: أول ما وضع والدي باب التعجّب، وقيل له: من أين لك
النحو، قال: تلقّنت حدوده من عليّ رضي الله عنه. انتهى.
وباع له دارا [5] بالبصرة، فقيل له: بعت دارك، فقال: بل بعت جاري، وكان
جار سوء.
ودخل على بعض الولاة وعليه جبّة رثّة، فقال: يا أبا الأسود أما تملّ
هذه الجبّة؟. فقال: رب مملوك لا يستطاع فراقه، فأمر له بمائة ثوب فقال:
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «المعارف» لابن قتيبة.
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «المعارف» لابن قتيبة.
[3] قال ابن منظور: الدّهمة السواد. والأدهم الأسود، يكون في الخيل
والإبل وغيرهما، فرش أدهم وبعير أدهم. «لسان العرب» «دهم» (2/ 1443) .
[4] هو حسين بن عبد الرحمن بن محمد الحسيني العلوي الهاشمي، بدر الدين،
أبو محمد، مفتي الديار اليمنية، وأحد علمائها المتفننين، صاحب كتاب
«تحفة الزمن في تاريخ سادات اليمن» ، المتوفى سنة (855 هـ) . «الأعلام»
(2/ 240) .
[5] في المطبوع: «وباع دارا له» .
(1/397)
كساني ولم أستكسه فحمدته ... أخ لك يعطيك
الجزيل وناصر
وإنّ أحقّ النّاس إن كنت شاكرا ... بشكرك من يعطيك والعرض وافر
ومن شعره أيضا:
وما طلب المعيشة بالتّمنّي ... ولكن ألق دلوك في الدّلاء
تجيء بمثلها طورا وطورا ... تجيء بحمأة وقليل ماء
وكان موسرا مبخّلا [1] ، وعوتب في البخل فقال: لو أطعنا الفقراء في
مالنا أصبحنا مثلهم.
وروي أنه عشّى سائلا لجوجا [2] وقيده، فقيل له في ذلك، فقال: لئلا يؤذي
المسلمين الليلة.
وقيل له: عند الموت: أبشر بالمغفرة، فقال: وأين الحياء مما كانت منه
المغفرة، وتوفي عن خمس وثمانين سنة.
وفيها توفي محمود بن الرّبيع الأنصاريّ الخزرجيّ المدنيّ، الذي عقل
مجّة مجهّا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه من بئر في دارهم وله
أربع سنين.
وفيها نافع بن جبير بن مطعم النّوفليّ المدنيّ، وكان هو وأخوه محمد من
علماء قريش وأشرافهم، توفي قريبا من أخيه محمّد بن جبير.
وفيها توفي عبد الله بن محيريز الجمحيّ المكيّ نزيل بيت المقدس، وكان
عابد الشام في زمانه.
قال رجاء بن حيوة: إن تفخر علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر، فإنّا
نفخر عليهم بعابدنا ابن محيريز، وإن كنت لأعدّ بقاءه أمانا لأهل الأرض.
وفي عاشر صفر مات الخليفة أبو أيّوب سليمان بن عبد الملك الأمويّ
__________
[1] في المطبوع: «مبجّلا» وهو تصحيف.
[2] في المطبوع: «لحوحا» .
(1/398)
وله خمس وأربعون سنة، وكانت خلافته أقلّ من
ثلاث سنين، وكان فصيحا فهما محبّا للعدل والغزو، ذا همّة عالية، جهّز
الجيوش لحصار القسطنطينية، وقرّب ابن عمّه عمر بن عبد العزيز، وجعله
وزيره ومشيره، وعهد إليه بالخلافة، وكان أبيض مليح الوجه، يضرب شعره
منكبيه، وله محاسن.
قيل: قال له حكيم: عندي لك أن تأكل ولا تشبع، وتنكح ولا تفتر، ويسودّ
شعرك ولا يبيضّ، فقال: كلّهنّ يرغب عنهن العاقل، فمع الأكل كثرة دخول
المراحيض، وشمّ الروائح المنتنة، وفي كثرة النّكاح الشّغل بالنّساء،
وتسويد الشعر تسويد نور الله تعالى. [1] وقال في «مروج الذهب» [2] :
لما أفضى الأمر إلى سليمان صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على
رسوله [صلى الله عليه وسلم] ثم قال: الحمد لله الذي ما شاء صنع، وما
شاء أعطى، وما شاء منع، ومن شاء رفع، ومن شاء وضع، أيّها الناس الدّنيا
دار غرور وباطل، وزينة وتقلّب بأهلها، تضحك [3] باكيها، وتبكي ضاحكها،
وتخيف آمنها، وتؤمّن خائفها، وتثري فقيرها، وتفقر مثريها، عباد الله:
اتّخذوا كتاب الله إماما، وارضوا به حكما، واجعلوه لكم هاديا دليلا،
فإنه ناسخ ما قبله، ولا ينسخه ما بعده، واعلموا عباد الله أنه ينفي
عنكم كيد الشيطان ومطامعه، كما يجلو ضوء الصّبح إذا أسفر إدبار الليل
إذا عسعس، ثم نزل، وأذن للناس عليه، وأقرّ عمّال من كان قبله على
أعمالهم، وأقرّ خالد بن عبد الله [القسريّ] [4] على مكّة.
وكان سليمان صاحب أكل كثير يجوز المقدار، كان شبعه في كلّ يوم
__________
[1] (5/ 398- 414) من الطبعة الأوروبية المنشورة في تسع مجلدات في
باريس بفرنسا.
[2] في «مروج الذهب» للمسعودي: «وما شاء رفع، وما شاء وضع» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «فتضحك» ، وما أثبتناه من «مروج الذهب»
للمسعودي.
[4] لفظة «القسري» زيادة من «مروج الذهب» للمسعودي.
(1/399)
من الطّعام مائة رطل عراقيّ [1] وكان ربما
أتاه الطّبّاخون بالسّفافيد [2] التي فيها الدّجاج المشوية وعليه جبّة
[3] الوشي المثقلة [4] فلنهمه وحرصه على الطّعام يدخل يده في كمّه حتى
يقبض على الدجاجة وهي حارّة فيفصلها.
وحدّث المنقري [5] عن العتبي [6] عن إسحاق بن إبراهيم [7] بن الصّبّاح
بن مروان، وكان مولى لبني أميّة من أرض البلقاء من أعمال دمشق، وكان
حافظا لأخبار بني أميّة قال: لبس سليمان يوما في جمعة من ولايته لباسا
تشهّر به وتعطّر، ودعا بتخت فيه عمائم، وبيده مرآة، فلم يزل يعتمّ [8]
بواحدة بعد أخرى، حتى رضي منها واحدة، فأرخى من سدولها، وأخذ بيده
مخصرة [9] وعلا منبره ناظرا في عطفيه [10] ، وجمع حشمه. و [خطب] [11]
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «بالعراقي» ، وما أثبتناه من «مروج الذهب»
للمسعودي.
[2] السفافيد، مفردها سفود على وزن تنّور، وهي حديدة يشوى بها اللحم،
وتسفيد اللحم:
نظمه فيها للاشتواء. (ع) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «الجبة» وما أثبتناه من «مروج الذهب»
للمسعودي.
[4] في الأصل: «المشغلة» وهو خطأ، وما أثبتناه من المطبوع، وهو موافق
لما في «مروج الذهب» للمسعودي.
[5] هو موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي، أبو سلمة، حافظ للحديث، ثقة،
من أهل البصرة، المتوفى سنة (223 هـ) . انظر «الأعلام» للزركلي (7/
320) م، وسوف ترد ترجمته في المجلد الثالث من كتابنا هذا.
[6] هو محمد بن عبيد الله بن عمرو العتبي، أبو عبد الرحمن، أديب كثير
الأخبار، حسن الشعر، من أهل البصرة، قال ابن قتيبة: الأغلب عليه
الأخبار، وأكثر أخباره عن بني أمية، توفي سنة (228 هـ) . وهو غير
العتبي المؤرّخ المتوفى سنة (427 هـ) . انظر «الأعلام» للزركلي (6/
258، 259) ، وسوف ترد ترجمته مفصلة في المجلد الثالث من كتابنا هذا.
[7] في المطبوع: «عن إسحاق بن إبراهيم» وهو تحريف.
[8] في الأصل: «يقيم» وهو خطأ، وما أثبتناه من المطبوع، وهو موافق لما
في «مروج الذهب» للمسعودي.
[9] مخصرة، كمكنسة: ما يتوكأ عليه كالعصا ونحوه. وما يأخذه الملك إذا
خاطب، والخطيب إذا خطب. (ع) .
[10] أي ناظرا في رداءيه كبرا، لأن العطاف ككتاب والمعطف، كمنبر:
الرداء، والسيف. (ع) .
[11] لفظة «خطب» زيادة من «مروج الذهب» للمسعودي.
(1/400)
خطبته التي أرادها، التي يريد يخطب بها
الناس، فأعجبته نفسه، فقال: أنا الملك الشابّ السّيّد [1] الحجاب [2]
الكريم الوهّاب، فتمثّلت له جارية [من جواريه] [3] وكان يتحظّاها، فقال
لها: كيف ترين أمير المؤمنين، قالت: أراه منى النفس، وقرّة العين، لولا
ما قال الشاعر، قال: وما قال [الشاعر؟] [4] قالت قال:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
ليس أنّا يريبنا منك شيء ... علم الله غير أنّك فان
فدمعت عيناه، وخرج على النّاس باكيا، فلما فرغ من خطبته وصلاته دعا
بالجارية فقال لها: ما دعاك إلى ما قلت لأمير المؤمنين؟ فقالت: والله
ما رأيت أمير المؤمنين اليوم ولا دخلت عليه، فأكبر ذلك ودعا بقيّمة [5]
جواريه فصدّقتها [6] في قولها، فراع ذلك سليمان، ولم ينتفع بنفسه، ولم
يمكث بعد ذلك إلّا مدّة حتى توفي.
وكان يقول: قد أكلنا الطّيّب، ولبسنا اللّيّن، وركبنا الفاره، ولم يبق
[7] لي لذّة إلّا صديق أطرح معه فيما بيني وبينه مؤونة [8] التّحفّظ.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أنا الملك الكريم الحجاب الكريم» وما أثبتناه
من «مروج الذهب» للمسعودي.
[2] الحجاب: ما حال بين شيئين، وما طال وأشرف من الجبل، وما احتجب به.
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «مروج الذهب» للمسعودي.
[4] لفظة «الشاعر» زيادة من «مروج الذهب» للمسعودي.
[5] في الأصل: «بقية» وهو تحريف، وما أثبتناه من المطبوع، وهو موافق
لما في «مروج الذهب» للمسعودي.
[6] في الأصل: «فصدقنها» وهو تصحيف، وما أثبتناه من المطبوع، وهو موافق
لما في «مروج الذهب» للمسعودي.
[7] في المطبوع: «ولم تبق» وما جاء في الأصل موافق لما في «مروج الذهب»
للمسعودي.
[8] في «مروج الذهب» للمسعودي: «مؤنة» .
(1/401)
ووقف سليمان على قبر ولده أيّوب، وبه كان
يكنى، فقال: اللهمّ إني أرجوك له، وأخافك عليه، فحقّق رجائي، وآمن خوفي
[1] .
وبالجملة فإنّه كان من أحسن بني أميّة حالا، ولو لم يكن له إلّا [2] ما
عمر في مسجد دمشق، وعهده بالخلافة لعمر بن عبد العزيز لكفى، فرحمه الله
تعالى وتجاوز عنه.
__________
[1] انتهى نقل المؤلف عن «مروج الذهب» للمسعودي.
[2] في المطبوع: «ولو لم يكن له لا ما عمر» .
(1/402)
سنة مائة
فيها توفي أبو أمامة أسعد بن سهل بن حنيف الأنصاريّ الدّوسيّ المدنيّ،
ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر، وجماعة، وكان
من علماء المدينة.
وفيها، وقيل: في سنة عشر ومائة توفي أبو الطّفيل عامر بن واثلة بن
الأسقع الكنانيّ الليثيّ بمكة، وهو آخر من مات ممن رأى النبيّ صلى الله
عليه وسلم في الدّنيا، روي أنّه ولد عام أحد، وأدرك من النبيّ صلى الله
عليه وسلم ثمان سنين، وكان عاقلا، حاضر الجواب، يفضّل عليّا، ويثني على
الشّيخين، ويترحّم على عثمان، والعجب أنّ ابن قتيبة عدّه من غالية
الشيعة [1] ، وممن يؤمن بالرّجعة. وكان يقول الشعر، ومن قوله:
أتدعونني [2] شيخا وقد عشت حقبة ... وهنّ من الأزواج نحوي فوارع [3]
وما شاب رأسي عن سنيّ [4] تتابعت ... عليّ ولكن شيّبتني الوقائع [5]
__________
[1] «المعارف» لابن قتيبة ص (341) .
[2] في «المعارف» : «أيدعونني» ، وهي كذلك في «أسد الغابة» لابن
الأثير.
[3] في «المعارف» لابن قتيبة: «نزائع» ، وقال محققه: وفي نسخ أخرى:
«نوازع» ، وهي كذلك في «أسد الغابة» .
[4] في «المعارف» لابن قتيبة: «عن سنين» ، وهي كذلك في «أسد الغابة» .
[5] البيتان في «المعارف» لابن قتيبة ص (342) ، و «أسد الغابة» لابن
الأثير (6/ 180) .
(1/403)
وقوله:
وبقيت سهما في الكنانة واحدا ... سيرمى به أو يكسر السّهم كاسره [1]
وفيها بسر بن سعيد المدنيّ الزّاهد العابد المجاب الدّعوة، روى عن
عثمان، وزيد بن ثابت وله ولاء لبني الحضرميّ.
وفيها، وقيل: قبلها أو بعدها بعام سالم بن أبي الجعد الكوفيّ، من
مشاهير المحدّثين [2] .
وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاريّ المدنيّ المفتيّ، أحد الفقهاء
السّبعة، تفقّه على والده.
وفيها أبو عثمان النّهديّ عبد الرّحمن بن ملّ [3] بالبصرة، وهو أحد
المخضرمين، أسلم في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأدّى الزّكاة إلى
عمّاله صلى الله عليه وسلم ولم يره، وحجّ في الجاهلية، وعاش مائة
وثلاثين سنة، وصحب سلمان اثنتي عشرة سنة.
وشهر بن حوشب الأشعري الشامي، كان كثير الرواية، حسن الحديث، وقرأ
القرآن على ابن عبّاس، وكان عالما كبيرا.
وفيا حنش بن عبد الله الصّنعاني- صنعاء دمشق [4]- كان مع عليّ بالكوفة
[5] ، ثم ولي عشور إفريقية، وروى عن جماعة.
__________
[1] البيت في «المعارف» لابن قتيبة ص (341) .
[2] انظر «المعارف» لابن قتيبة، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 279) .
[3] قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (4/ 175) : وقيل: ابن قلي.
[4] قال ياقوت: صنعاء قرية على باب دمشق دون المزّة مقابل مسجد خاتون،
خربت، وهي اليوم مزرعة وبساتين ... وقد نسب إليها جماعة من المحدّثين.
«معجم البلدان» (3/ 429) .
[5] قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (4/ 493) : وهم ابن يونس، وابن
عساكر في أنه صاحب علي، لأن ذاك خنش بن ربيعة، أو ابن المعتمر الكناني
الكوفي، يروي عنه الحكم، وإسماعيل بن أبي خالد، وأهل الكوفة، وفيه لين،
مات قبل التسعين.
(1/404)
ومسلم بن يسار البصريّ، روى عن أبي عمر
وغيره، وكان من عبّاد البصرة وفقهائها.
قال ابن عون [1] كان لا يفضل عليه أحد في زمانه.
وقال ابن سعد: كان ثقة فاضلا عابدا ورعا [2] .
وعيسى بن طلحة بن عبيد الله القرشيّ التيميّ، أحد أشراف قريش وعقلائها
وعلمائها، روى عن أبيه وجماعة.
__________
[1] في المطبوع: «ابن عوف» وهو تحريف.
[2] «الطبقات الكبرى» (7/ 188) .
(1/405)
تم بعون الله تعالى وتوفيقه المجلد الأول
من كتاب «شذرات الذهب في أخبار من ذهب» للإمام ابن العماد الحنبلي،
وكان الفراغ من تحقيقه في السادس والعشرين من شهر رجب لعام (1405 هـ)
والحمد لله على ما أنعم ووفق.
ونسأله تعالى أن يعيننا على تحقيق المجلدات المتبقية من الكتاب، وأن
ينفع بعملنا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، إنه خير مسؤول.
محمود الأرناؤوط
(1/406)
|