شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة ست وستين ومائة
وفيها قبض المهديّ على وزيره يعقوب بن داود لكونه أعطاه هاشميا من ولد فاطمة [- رضي الله عنها-] [1] ليقتله، فاصطنعه، وهرّبه، فظفر به الأعوان، وكان يعقوب شيعيّا يميل إلى الزّيديّة ويقرّبهم.
وفيها استقضى المهديّ أبا يوسف، وأخذ البيعة لهارون بعد موسى، وسمّاه الرّشيد. قاله ابن الجوزي في «الشذور» .
وفيها توفي أبو معاوية صدقة بن عبد الله السّمين من كبار محدّثي دمشق. روى عن القاسم أبي عبد الرّحمن [2] وطائفة.
وخرّج له الترمذيّ، والنّسائيّ، والعقيليّ.
قال في «المغني» [3] : ضعّفه أحمد، والبخاريّ وغيرهما. انتهى.
وفيها معقل بن عبيد الله الجزريّ، من كبار علماء الجزيرة [4] . روى
__________
[1] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 247) وقد تحرّفت لفظة «عنها» فيه إلى «عنه» فتصحّح.
[2] هو القاسم بن عبد الرحمن الشامي، أبو عبد الرحمن الدمشقي صاحب أبي أمامة رضي الله عنه. (ع) .
[3] (1/ 307) .
[4] يعني جزيرة أقور التي بين دجلة والفرات.

(2/294)


عن عطاء بن أبي رباح، وميمون بن مهران، والكبار.
قال في «المغني» [1] : صدوق مشهور ضعّفه ابن معين وحده. انتهى.
وفيها أبو بكر النّهشليّ الكوفيّ، وفي اسمه أقوال [2] .
قال في «المغني» [3] : أبو بكر النّهشليّ الكوفيّ، صدوق، تكلم فيه ابن حبّان. اسمه عبد الله على الصحيح، وقد وثّقه أحمد، وابن معين، والعجليّ. انتهى.
قال في «العبر» [4] : روى عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري وجماعة، وآخر أصحابه موتا جبارة بن المغلّس. انتهى.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (2/ 669) .
[2] انظرها في «تهذيب الكمال» للمزّي (3/ 1589) مصوّرة دار المأمون للتراث بدمشق.
[3] (2/ 773) .
[4] (1/ 247) .

(2/295)


سنة سبع وستين ومائة
فيها جدّ المهديّ في طلب الزّنادقة في الآفاق، وأكثر الفحص عنهم، وقتل طائفة.
وفيها أمر بالزيادة في المسجد الحرام، وغرّم عليها [1] أموالا عظيمة، وأدخلت فيه دور كثيرة [2] .
وفيها كان الوباء العظيم بالعراق.
وفيها توفي حمّاد بن سلمة بن دينار البصريّ الحافظ في آخر السّنة.
سمع قتادة، وأبا جمرة [3] الضّبعي، وطبقتهما، وكان سيّد أهل وقته.
قال وهيب بن خالد: حمّاد بن سلمة سيّدنا وأعلمنا.
وقال ابن المديني: كان عند يحيى بن ضريس [4] عن حمّاد بن سلمة عشرة آلاف حديث.
وقال عبد الرّحمن بن مهدي: لو قيل لحمّاد بن سلمة: إنك تموت غدا ما قدر أن يزيد في العمل شيئا.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «وغرم عليه» وأثبت ما في «العبر» للذهبي (1/ 248) .
[2] في «العبر» : «دور كبيرة» .
[3] في الأصل: «وأبا حمزة» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[4] في الأصل: «حريش» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.

(2/296)


وقال شهاب البلخيّ: كان حمّاد بن سلمة يعدّ من الأبدال [1] .
وقال غيره: كان فصيحا، مفوّها، إماما في العربية، صاحب سنّة.
له تصانيف في الحديث، وكان بطاينيا، فروى سوّار بن عبد الله، عن أبيه قال: كنت آتي حمّاد بن سلمة في سوقه، فإذا ربح في ثوب [2] حبّة، أو حبّتين، شدّ جونته [3] وقام.
وقال موسى بن إسماعيل: لو قلت: إني ما رأيت حمّاد بن سلمة ضاحكا لصدقت. كان يحدّث، أو يسبّح، أو يقرأ، أو يصلّي، قد قسم النهار على ذلك [4] .
قلت: وهو أحد الحمّادين وأجلّهما، صاحبي المذهبين، أحدهما هذا، والثاني حمّاد بن زيد بن درهم، وتأخر موته عن هذا، وسنتكلم عليه- إن شاء الله تعالى-.
قال صاحب «الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية» في آخرها [5] :
فائدة، الحمّادان: حمّاد بن زيد بن درهم، وحمّاد بن سلمة بن دينار، ولقد ألطف عبد الله بن معاوية [الجهميّ] حيث قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة بن دينار، وحمّاد بن زيد بن درهم، وفضل ابن سلمة على ابن زيد كفضل الدّينار على الدّرهم. انتهى والله أعلم.
__________
[1] قال ابن الأثير: الأبدال: هم الأولياء، والعبّاد، الواحد بدل كحمل وأحمال، وبدل كجمل، سمّوا بذلك لأنهم كلما مات واحد منهم أبدل بآخر. انظر «النهاية في غريب الحديث والأثر» (1/ 107) .
[2] قوله: «في ثوب» سقط من «العبر» للذهبي (1/ 248) فيستدرك فيه.
[3] في الأصل، والمطبوع: «شد جيوبه» وهو خطأ، وفي «العبر» للذهبي: «جونته» . وفي «سير أعلام النبلاء» (7/ 448) أيضا «جونته» وهو ما أثبته، والجونة: سليلة مستديرة مغشاة بالجلد، يحفظ العطار فيها الطيب. يعني: اكتفى بذلك. وانظر «لسان العرب» (جون) .
[4] في «العبر» : «على ذاك» .
[5] هي للإمام محيي الدين عبد القادر بن أبي الوفاء محمد القرشي المصري الحنفي المتوفى سنة (775) هـ. والمؤلف ينقل عن الجزء الثاني منها ص (425) طبع حيد أباد الدكن.

(2/297)


وفيها الحسن بن صالح بن حيّ الهمدانيّ، فقيه الكوفة وعابدها. روى عن سماك بن حرب وطبقته.
وقال أبو نعيم: ما رأيت أفضل منه.
وقال أبو حاتم: ثقة، حافظ، متقن.
وقال ابن معين: يكتب رأي الحسن بن صالح. يكتب رأي الأوزاعي، هؤلاء ثقات.
وقال وكيع: الحسن بن صالح يشبّه بسعيد [1] بن جبير، كان هو وأخوه علي وأمهما قد جزّءوا [2] الليل ثلاثة أجزاء. فماتت، فقسّما الليل سهمين [3] فمات عليّ، فقام الحسن الليل كلّه.
قال في «العبر» [4] : قلت: مات عليّ [5] سنة أربع وخمسين وهما توأم [6] أخرج لهما مسلم. انتهى.
وقال في «المعارف» [7] : يكنّى الحسن أبا عبد الله، وكان يتشيع، وزوّج عيسى بن زيد بن علي ابنته، واستخفى معه في مكان واحد حتّى مات عيسى بن زيد، وكان طلبهما المهديّ فلم يقدر عليهما. ومات الحسن بعد عيسى بستة أشهر. انتهى.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «يشبه سعيد» .
[2] في «العبر» : «جزءا» .
[3] في «العبر» : «فقسما الليل بينهما» .
[4] (1/ 249) .
[5] لفظة «علي» لم ترد في «العبر» .
[6] كذا في الأصل، والمطبوع، و «العبر» . والصواب أن يقال: «توأمان» . وانظر «مختار الصحاح» ص (74) .
[7] ص (509) .

(2/298)


وفيها الرّبيع بن مسلم الجمحيّ مولاهم البصريّ، وكان من بقايا أصحاب الحسن.
ومفضّل بن مهلهل السعديّ الكوفيّ صاحب منصور.
قال أحمد العجليّ: كان ثقة صاحب سنّة وفضل وفقه. لما مات الثّوريّ، جاء أصحابه إلى مفضّل فقالوا: تجلس لنا مكانه. قال: ما رأيت صاحبكم يحمد مجلسه.
وفيها فقيه الشّام بعد الأوزاعيّ أبو محمّد سعيد بن عبد العزيز التّنوخيّ، عن نحو ثمانين سنة. أخذ عن مكحول، وربيعة القصير، ونافع مولى ابن عمر، وخلق، وكان صالحا، قانتا، خاشعا.
قال: ما قمت إلى صلاة إلّا مثلت لي جهنم.
وقال الحاكم: هو لأهل الشّام كمالك لأهل المدينة.
وفيها أبو روح سلّام بن مسكين البصريّ. روى عن الحسن والكبار.
وقال أبو سلمة التّبوذكيّ: كان من أعبد أهل زمانه.
وأبو شريح عبد الرّحمن بن شريح المعافريّ بالاسكندرية. روى عن أبي قبيل وطبقته، وكان ذا عبادة وفضل وجلالة.
قال السيوطيّ في «حسن المحاضرة» [1] : ذكره ابن حبّان في الثقات.
انتهى.
وأبو عقيل يحيى بن المتوكل المدنيّ ببغداد. روى عن بهيّة [2] وابن
__________
[1] قلت: ذكر السيوطي أبا شريح عبد الرحمن بن شريح في «حسن المحاضرة» (1/ 281 و 300) ولم يرد في المطبوع منه قوله: «ذكره ابن حبّان في «الثقات» الذي ذكره المؤلف رحمه الله.
[2] في «العبر» : «عن بقية» وهو خطأ فيصحّح فيه. وانظر «تهذيب الكمال» للمزّي (3/ 1156) مصوّرة دار المأمون للتراث.

(2/299)


المنكدر، وليس بالقوي عندهم. قاله في «العبر» [1] .
وعبد العزيز بن مسلم بالبصرة. روى عن مطر الورّاق، وطائفة، وكان عابدا قدوة. روى عن يحيى السّيلحيني، وقال: كان من الأبدال.
والقاسم بن الفضل الحدّانيّ بالبصرة. روى عن ابن سيرين والكبار، وكان كثير الحديث.
قال ابن مهدي: هو من مشايخنا الثقات. وقد خرّج له مسلم والأربعة.
قال في «المغني» [2] : القاسم بن الفضل الحدّاني. عن أبي نضرة وغيره. صدوق. وثّقه ابن معين [3] وأورده العقيليّ في «الضعفاء» فما تكلم فيه بما يضعفه قطّ. انتهى.
وأبو هلال محمّد بن سليم الرّاسبيّ بالبصرة. روى عن الحسن والكبار.
وثّقه أبو داود وغيره، وهو حسن الحديث. قاله في «العبر» [4] .
ومحمّد بن طلحة بن مصرّف الياميّ الكوفيّ أحد المكثرين الثقات.
يروى عن أبيه وطبقته.
وفيها أبو حمزة محمّد بن ميمون المروزيّ السّكّريّ. ارتحل وأخذ عن زياد بن علاقة ونحوه، وكان شيخ بلده في الحديث، والفضل، والعبادة.
قال ابن ناصر الدّين: هو شيخ خراسان. كان ثقة ثبتا، كريما يقري الضيف ويبالغ في إكرامه، ولقّب بالسّكّريّ لحلاوة كلامه. انتهى.
وفيها أبو بكر الهذليّ البصريّ الأخباريّ أحد الضعفاء، واسمه سلمى.
__________
[1] (1/ 251) .
[2] (2/ 520) .
[3] في «المغني» : «وثّقه ابن مهدي» .
[4] (1/ 251) .

(2/300)


روى عن الشّعبيّ، ومعاذة العدويّة، والقدماء.
وفيها قتل في الزّندقة بشّار بن برد البصريّ الأعمى، شاعر العصر.
قال ابن الأهدل: بشّار بن برد العقيليّ مولاهم الشّاعر المشهور، كان أكمه، جاحظ العينين، فصيحا، مفوّها، وكان يمدح المهديّ فرمي عنده بالزّندقة، فضربه حتّى مات، وقد نيّف على السبعين.
قيل: كان يفضّل النار على الطين، ويصوّب رأي إبليس في امتناعه من السجود لآدم، وينسب إليه هذا البيت.
الأرض مظلمة والنّار مشرقة ... والنّار معبودة مذ كانت النّار [1]
قيل: وفتّشت كتبه فلم يوجد فيها شيء مما رمي به.
وقيل: إنه هجا صالح بن داود أخا يعقوب الوزير فقال:
هم حملوا فوق المنابر صالحا ... أخاك فضجّت [2] من أخيك المنابر [3]
فقال يعقوب للمهديّ: إن بشّارا هجاك بقوله:
خليفة يزني بعمّاته ... يلعب بالدّبّوق [4] والصّولجان [5]
أبدلنا الله به غيره ... ودسّ موسى في حر الخيزران [6]
__________
[1] البيت في «الأغاني» (3/ 145) ، و «وفيات الأعيان» (1/ 273) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «فصمت» وهو خطأ، والتصحيح من «الأغاني» و «تاريخ الطبري» و «وفيات الأعيان» .
[3] البيت في «الأغاني» (3/ 244) و «تاريخ الطبري» (8/ 181) و «وفيات الأعيان» (1/ 273) .
[4] في الأصل، والمطبوع: «بالدفّ» وهو خطأ، والتصحيح من «الأغاني» و «تاريخ الطبري» و «وفيات الأعيان» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «وبالصولجان» وأثبت لفظ «الأغاني» و «تاريخ الطبري» و «وفيات الأعيان» .
[6] البيتان في «الأغاني» (3/ 243) و «تاريخ الطبري» (8/ 181) و «وفيات الأعيان» (1/ 273) .

(2/301)


والخيزران امرأة المهديّ، وإليها تنسب دار الخيزران بمكّة، فقتله المهديّ. انتهى.
وقال ابن قاضي شهبة: زنادقة الدّنيا أربع: بشّار بن برد، وابن الرّاوندي [1] ، وأبو حيّان التّوحيدي، وأبو العلاء المعرّي. انتهى.
__________
[1] سترد ترجمته في أول المجلد الرابع من طبعتنا هذه إن شاء الله.

(2/302)


سنة ثمان وستين ومائة
فيها غزا المسلمون الرّوم لنقضهم الهدنة.
وفيها سار سعيد الجرشيّ في سبعين ألفا إلى طبرستان.
وفيها مات السيّد الأمير أبو محمد الحسن بن زيد بن السيّد الحسن بن علي بن أبي طالب، شيخ بني هاشم في زمانه، وأمير المدينة للمنصور، ووالد السيّدة نفيسة.
وخافه المنصور فحبسه، ثمّ أخرجه المهديّ وقرّبه، ولم يزل معه حتّى مات معه بطريق مكّة عن خمس وثمانين سنة. روى عن أبيه. وخرّج له النّسائيّ.
قال في «المغني» [1] : ضعّفه ابن معين، وقوّاه غيره. انتهى.
وفيها أبو الحجّاج خارجة بن مصعب السّرخسيّ من كبار المحدّثين بخراسان. رحل، وأخذ عن زيد بن أسلم وطبقته، وهو صدوق كثير الغلط، لا يحتجّ به. قاله في «العبر» [2] .
وسعيد بن بشير البصريّ ثم الدّمشقيّ المحدّث المشهور، أكثر عن قتادة وطبقته.
قال أبو مسهر: لم يكن في بلدنا أحفظ منه.
__________
[1] (1/ 159) .
[2] (1/ 252- 253) .

(2/303)


وقال أبو حاتم: محلّه الصّدق.
وضعفه غيره.
قال البخاريّ: يتكلمون في حفظه.
وقيس بن الرّبيع أبو محمّد الأسديّ الكوفيّ، أحد علماء الحديث مع ضعفه، على أنّ ابن عديّ قال فيه: عامّة رواياته مستقيمة، والقول فيه ما قال شعبة، وأنه لا بأس به.
وقال عفّان: ثقة.
وقال أبو الوليد: حضر شريك القاضي جنازة قيس بن الرّبيع فقال:
ما ترك بعده مثله.
روى عن محارب بن دثار [1] وطبقته.
وفيها الأمير عيسى بن موسى بن محمّد بن علي بن عبد الله بن عبّاس العبّاسيّ وليّ عهد السّفّاح بعد أخيه المنصور، وقد ذكرنا أن المهديّ خلعه، وقد توفي أبوه شابا سنة ثمان ومائة.
وفليح بن سليمان المدنيّ مولى الخطّاب. روى عن نافع وطبقته، واحتجّ به الشيخان، وكان ثقة مشهورا [2] كثير العلم، ليّنه ابن معين.
وفيها مندل بن عليّ العنزيّ الكوفيّ. روى عن عبد الملك بن عمير وطبقته وكان صدوقا مكثرا، في حديثه لين.
ونافع بن يزيد المصريّ. عن جعفر بن ربيعة وطبقته، وكان أحد الثقات.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «محارب بن زياد» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 253) وهو مصدر المؤلف في الترجمة.
[2] في «العبر» (1/ 254) «مشهودا» .

(2/304)


سنة تسع وستين ومائة
فيها عزم المهديّ على أن يقدّم هارون في العهد، ويؤخّر موسى الهادي، فطلبه وهو بجرجان ففهمها ولم يقدم. فهمّ بالمسير [1] إلى جرجان لذلك.
وفيها لثمان بقين من المحرّم ساق المهديّ- واسمه محمّد أبو عبد الله بن أبي جعفر عبد الله بن محمّد بن علي بن عبد الله بن عبّاس العبّاسي- خلف صيد، فدخل الوحش خربة، فدخل الكلاب خلفه، وتبعهم المهديّ، فدق ظهره في باب الخربة لشدّة سوقه، فتلف لساعته. وقيل: بل أكل طعاما سمّته جارية لضرّتها، فلما وضع يده فيه ما جسرت أن تقول: هيّأته لضرّتي. فيقال: كان إنجاصا، فأكل واحدة، وصاح من جوفه، ومات من الغد عن ثلاث وأربعين سنة.
كانت خلافته عشر سنين وشهرا.
وكان جوادا، ممدّحا، محبّبا إلى النّاس، وصولا لأقاربه، حسن الأخلاق، حليما، قصّاما [2] للزنادقة، وكان طويلا أبيض مليحا.
__________
[1] لفظة «المسير» تحرّفت في «العبر» إلى «المصير» فتصحّح فيه.
[2] في الأصل، والمطبوع: «قضابا» ، وفي «العبر» للذهبي (1/ 255) : «قصابا» وكلاهما خطأ،

(2/305)


يقال: إن المنصور خلّف في الخزائن مائة ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ففرّقها المهديّ ولم يل الخلافة أحد أكرم منه، ولا أبخل من أبيه.
ويقال: إنه أعطى شاعرا مرّة خمسين ألف دينار.
ويقال: إنه استضاف أعرابيا وقد انفرد عن جيشه في طلب صيد حتّى جهد وعطش، فسقاه لبنا مشوبا، فكتب له بخمسمائة ألف، فأيسر ذلك الأعرابيّ وكثرت مواشيه، وبقي مرصدا للحاج، وسمي مضيف أمير المؤمنين.
وقال في «مروج الذهب» [1] : حدّث الفضل بن الرّبيع قال: خرج المهديّ يوما متنزّها ومعه [2] عمرو بن ربيع مولاه، وكان شاعرا، فانقطع عن المعسكر، والنّاس في الصيد، وأصاب المهديّ جوع شديد، فقال لعمرو:
ويحك ارتد إنسانا نجد عنده ما نأكل، قال: فما زال عمرو يطوف إلى أن وجد صاحب مبقلة وإلى جانبها كوخ له، فصعد إليه، فقال له عمرو: أما عندك شيء يؤكل؟ قال: نعم، رقاق من [خبز] [3] شعير ورثيئة [4] وهذا البقل، والكراث [5] فقال له المهديّ: إن كان عندك زيت فقد أكملت، قال: نعم، عندي فضلة منه، فقدّم إليهما ذلك، فأكلا أكلا كثيرا، وجعل المهدي يستطيب أكله ويمعن فيه، حتّى لم يكن فيه فضل، فقال لعمرو: قل شيئا
__________
والتصحيح من «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 371) .
[1] (3/ 320- 321) وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف.
[2] في الأصل: «وعنده» ، وأثبت ما في المطبوع.
[3] زيادة من «مروج الذهب» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «ورثيت» ، وفي «مروج الذهب» : «ورثيثة» ، والتصحيح من «لسان العرب» (رثأ) . قال ابن منظور: الرّثيئة: اللبن الحامض يحلب عليه فيخثر. ويعود الفضل في وقوفي على وجه الصواب في هذه اللفظة إلى العالم الفاضل الدكتور مازن المبارك حفظه الله ذخرا لطلبة العلم في هذه الديار.
[5] في الأصل: «والكراس» بالسين وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.

(2/306)


تصف فيه ما نحن فيه، فقال عمرو:
إنّ من يطعم الرّثيئة [1] بالزّي ... ت وخبز الشّعير بالكرّاث
لحقيق بصفعة أو بثنتي ... ن لسوء الصّنيع أو بثلاث [2]
فقال له المهديّ: بئس والله ما قلت، ولكن أحسن من ذلك أن تقول:
لحقيق ببدرة [3] أو بثنتي ... ن لحسن الصّنيع أو بثلاث
ووافى المعسكر، ولحقته الخزائن، والخدم، والمواكب، فأمر لصاحب المبقلة [4] بثلاث بدر دراهم.
وعار [5] فرس المهديّ مرّة أخرى، وقد خرج للصيد فدفع [6] إلى خباء [7] أعرابي وهو جائع، فقال: يا أعرابيّ هل عندك من قرى فإني ضيفك، وأنا جائع، فقال: أراك طريرا سمينا [8] ، جسيما، عميما، فإن احتملت الموجود قرّبنا لك ما يحضر [9] قال: هات ما عندك، فأخرج له خبز ملّة [10] فأكلها، وقال: طيبة، هات ما عندك، فأخرج له [11] لبنا فسقاه، فقال طيب،
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «الرثيث» ، والتصحيح من «لسان العرب» (رثأ) .
[2] البيتان في «مروج الذهب» (2/ 320) .
[3] قال في «مختار الصحاح» ص (43) : البدرة: عشرة آلاف درهم.
[4] في الأصل: «البقلة» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[5] في الأصل، والمطبوع: «وغار» وهو تصحيف، والتصحيح من «مروج الذهب» .
قال في «مختار الصحاح» ص (464) : عار الفرس انفلت وذهب هاهنا وهاهنا من مرحه.
[6] في الأصل، والمطبوع: «فوقع» وما أثبته من «مروج الذهب» (2/ 321) .
قال ابن منظور: دفع إلى المكان ودفع، كلاهما: انتهى، ويقال: هذا طريق يدفع إلى مكان كذا، أي ينتهي إليه «لسان العرب» (دفع) .
[7] قال ابن منظور: الخباء من الأبنية. انظر «لسان العرب» (خبأ) .
[8] لفظة «سمينا» لم ترد في «مروج الذهب» الذي بين يدي.
[9] في «مروج الذهب» : «ما يحضرنا» .
[10] قال ابن منظور: الملّة: الرماد الحار والجمر. يقال: أكلنا خبز ملّة، ولا يقال: أكلنا ملّة.
«لسان العرب» (ملل) . المعنى: فأخرج له خبزا مشويا في الملّة.
[11] في «مروج الذهب» : «فأخرج إليه» .

(2/307)


هات ما عندك، فأخرج له فضلة نبيذ في زكرة [1] فشرب الأعرابيّ وسقاه، فلما شرب قال له المهديّ: أتدري [2] من أنا؟ قال: لا والله. قال: أنا من خدم الخاصّة، قال: بارك الله لك [3] في موضعك وحيّاك [4] من كنت، ثم شرب الأعرابيّ قدحا وسقاه، فلما شرب قال [له] [5] : يا أعرابيّ أتدري من أنا؟ قال:
نعم ذكرت لي [6] أنك من خدم الخاصة. قال: لست كذلك. قال فمن [7] أنت؟ قال: أنا أحد قوّاد المهديّ. قال: رحبت دارك وطاب مزارك، ثم شرب الأعرابيّ قدحا وسقاه، فلما شرب الثالث قال: يا أعرابيّ، أتدري من أنا؟
قال: نعم زعمت أنك أحد قوّاد المهديّ. قال: فلست كذلك، أنا أمير المؤمنين بنفسه، فأخذ الأعرابيّ زكرته [8] فوكأها [9] فقال له المهديّ:
اسقنا. قال: لا والله لا تشرب [10] منها جرعة فما فوقها، قال: ولم؟ قال:
سقيتك واحدا، فزعمت أنك من خدم الخاصة، فاحتملناها لك، ثم سقيناك آخر [11] فزعمت أنك من قوّاد المهديّ، فاحتملناها لك، ثم سقيناك الثالث [12] فزعمت أنك أمير المؤمنين، ولا والله ما آمن أن أسقيك الرابع [13] فتقول
__________
[1] الزكرة: زقيق للشراب، وفي «مروج الذهب» «ركوة» . (ع) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «تدري» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[3] لفظة «لك» لم ترد في «مروج الذهب» .
[4] في «مروج الذهب» : «حباك» وهو تصحيف.
[5] زيادة من «مروج الذهب» .
[6] لفظة «لي» لم ترد في «مروج الذهب» .
[7] في الأصل، والمطبوع: «فممّن» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[8] في «مروج الذهب» : «ركوته» .
[9] قال في «مختار الصحاح» ص (735) : الوكاء ما يشدّ به رأس القربة.
[10] في الأصل، والمطبوع: «لا شربت» وما أثبته من «مروج الذهب» .
[11] في الأصل، والمطبوع: «أخرى» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[12] في الأصل، والمطبوع: «ثم سقيناك أخرى» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[13] في الأصل، والمطبوع: «الرابعة» وأثبت ما في «مروج الذهب» .

(2/308)


إنك [1] رسول الله، فضحك المهديّ، وأحاطت به الخيل، ونزل إليه [2] أبناء الملوك والأشراف، فطار قلب الأعرابيّ، ولم يكن همّه إلا النجاة [بنفسه] [3] فجعل يشتد في عدوه، فردّ إليه [4] فقال له المهديّ [5] : لا بأس عليك، وأمر له بصلة جزيلة من مال، وكسوة، فقال له: أشهد أنك الآن صادق ولو ادّعيت الرابعة والخامسة، وضمّه في خواصّه، وأجرى له رزقا.
انتهى كلام المسعودي.
وأول من هنّأه، وعزّاه، وأجازه، أبو دلامة حيث يقول:
عيناي واحدة ترى مسرورة ... بأميرها جذلى [6] وأخرى تذرف
تبكي وتضحك تارة ويسوؤها ... ما أنكرت ويسرّها ما تعرف
فيسوؤها موت الخليفة محرما ... ويسرّها أن قام هذا الأرأف
هلك الخليفة يال أمّة أحمد ... وأتاكم من بعده من يخلف [7]
وقال عليّ بن يقطين: كنّا مع المهديّ بما سبذان [8] فقال لي يوما:
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أنا» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ونزل به» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[3] زيادة من «مروج الذهب» .
[4] قوله «فرد إليه» لم يرد في «مروج الذهب» .
[5] زيادة من «مروج الذهب» .
[6] في الأصل، والمطبوع: «بأمانها جذلا» وأثبت ما في «تاريخ بغداد» .
[7] الأبيات في «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (5/ 392) من قطعة شعرية من ستة أبيات.
[8] في الأصل: «بما سندان» وهو تصحيف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
قال القزويني في «آثار البلاد وأخبار العباد» ص (260) : ما سبذان مدينة مشهورة بقرب السيروان، كثيرة الشجرة، كثيرة الحمامات والكباريت والزاجات والبوارق والأملاح. بها عين عجيبة، من شرب منها قذف أخلاطا كثيرة، لكنه يضرّ بأعصاب الرأس، وإن احتقن بمائها أسهل إسهالا عظيما. وانظر «معجم البلدان» لياقوت (5/ 41) .

(2/309)


أصبحت جائعا فأتني [1] بأرغفة ولحم بارد [مطبوخ بالخلّ] [2] ففعلت، ثم دخل البهو فنام، ثم نمنا نحن [في الدّار] [3] في الرّواق، فانتبهنا لبكائه، فبادرنا إليه مسرعين، فقال: أما رأيتم [4] ما رأيت؟ قلنا: ما رأينا شيئا. قال:
وقف على [الباب] [5] رجل لو أنه في ألف رجل ما خفي عليّ صوته ولا صورته فقال:
كأنّي بهذا القصر قد باد آهله ... وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجة ... وملك إلى قبر عليه جنادله
فلم يبق إلّا ذكره وحديثه ... تنادي عليه معولات حلائله
قال عليّ: فما أتت على المهديّ بعد رؤياه هذه إلّا عشرة أيام حتّى توفي رحمه الله [6] .
وفيها لما مات المهديّ، أرسلوا بالخاتم، والقضيب، إلى الهاديّ، فأسرع إلى البريد ودخل بغداد وبالغ [7] في طلب الزنادقة، وقتل منهم عدّة.
وفيها خرج الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن الحسن بن علي [8] بن أبي طالب الحسنيّ [9] بالمدينة وبايعه [10] عدد كثير، وحارب العسكر
__________
[1] في «تاريخ الطبري» : «فأتي» .
[2] زيادة من «تاريخ الطبري» .
[3] زيادة من «تاريخ الطبري» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «ما رأيتم» وأثبت ما في «تاريخ الطبري» .
[5] زيادة من «تاريخ الطبري» .
[6] القصة في «تاريخ الطبري» (8/ 171) بسياق مقارب.
[7] في «العبر» (1/ 55) : «وبلغ» وهو تحريف فيصحّح فيه.
[8] في المطبوع: «الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن علي» . وانظر «تاريخ خليفة بن خياط» ص (445) .
[9] في «العبر» (1/ 256) : «الحسيني» .
[10] في «العبر» : «وتابعه» .

(2/310)


الذي [1] بالمدينة، وقتل مقدّمهم خالد البربري [2] ثم تأهّب وخرج في جمع إلى مكّة، فالتفّ عليه خلق كثير، فأقبل ركب العراق معهم جماعة من أمراء بني العبّاس في عدّة وخيل، فالتقوا بفخّ [3] فقتل الحسين في مائة من أصحابه.
وقتل الحسن بن محمّد بن عبد الله بن حسن الذي خرج أبوه زمان المنصور.
وهرب إدريس بن عبد الله بن حسن إلى المغرب، فقام معه أهل طنجة، وهو جدّ الشرفاء الإدريسيّين. ثم تحيّل الرّشيد وبعث من سمّ إدريس، فقام بعده ابنه إدريس بن إدريس، وتملّك مدّة.
وفيها توفي أبو السّليل عبيد الله بن إياد بن لقيط الكوفيّ، وله عن أبيه نسخة، وكان عريف قومه بني سدوس.
قال في «المغني» [4] : عبيد الله بن إياد بن لقيط، ثقة.
قيل: إن بعض روايته صحيحة [5] . قاله ابن قانع.
وفيها- كما قال ابن ناصر الدّين- نافع بن عمر الجمحيّ القرشيّ المكيّ.
كان محدّث مكّة، حافظا، ثبتا.
قال عبد الرّحمن بن مهدي: كان من أثبت النّاس.
قال في «المغني» [6] : نافع بن عمر الجمحيّ، حجّة.
__________
[1] في «العبر» : «العساكر التي» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «البربذي» وهو تحريف، والتصحيح من «العبر» للذهبي مصدر المؤلف، وانظر «تاريخ الطبري» (8/ 192- 204) .
[3] قال ياقوت: فخ واد بمكة. وانظر تتمة كلامه في «معجم البلدان» (4/ 237- 238) .
[4] «المغني في الضعفاء» (2/ 414) .
[5] تحرّفت لفظة «صحيحة» في «المغني» إلى «صحيفة» فتصحّح فيه.
[6] (2/ 693) .

(2/311)


قال أحمد: ثقة ثبت.
وقال ابن سعد: ثقة فيه شيء. انتهى [1] .
ومحمد بن مطرّف المدنيّ، ثقة عمدة.
ومعاوية بن سلّام بن أبي سلّام- ممطور الحبشيّ الشّاميّ الدّمشقيّ- كان ثقة متقنا.
وجرير بن حازم الأزديّ البصريّ، أحد فصحاء البصرة ومحدّثيها، عمّر دهرا، واختلط بآخرة، فحجبه ابنه وهب، فلم يرو شيئا في اختلاطه. روى عن الحسن والكبار، وحضر جنازة أبي الطّفيل بمكّة.
وقيل: توفي جرير هذا سنة سبعين. جزم به في «العبر» [2] .
وفيها أبو سعيد المؤدّب ببغداد، واسمه محمّد [بن مسلم] [3] وهو جزريّ. روى عن عبد الكريم الجزريّ، وحمّاد بن أبي سليمان، [وجماعة] [3] وهو مؤدّب موسى الهادي.
وفيها نافع بن أبي نعيم [4] أبو عبد الرّحمن، وقيل: أبو رويم اللّيثيّ، مولاهم، قارئ أهل المدينة، وأحد السّبعة.
قال موسى بن طارق: سمعته يقول: قرأت على سبعين من التابعين.
وقال اللّيث: حججت سنة ثلاث عشرة ومائة، وإمام النّاس في القراءة
__________
[1] قلت: وقال الذهبيّ في «العبر» (1/ 257) : وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان من أثبت الناس.
[2] (1/ 258) .
[3] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 256) وهو مصدر المؤلف في كلامه.
[4] في «معرفة القرّاء الكبار» للذهبي (1/ 107) طبع مؤسسة الرسالة: «نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم ... وقيل: يكني أبا الحسن، وقيل: أبا عبد الرحمن، وقيل: أبو عبد الله، وقيل أبو نعيم، وأشهرها أبو رويم.

(2/312)


نافع بن أبي نعيم.
وقال مالك: نافع إمام النّاس في القراءة.
قال في «المغني» [1] : وثّقه ابن معين [2] وقال أحمد: كانت تؤخذ عنه القراءة [3] وليس بشيء في الحديث. انتهى.
وكان إذا قرأ يشمّ من فيه ريح المسك، ولذا قال في «الشاطبية» :
فأما الكريم السرّ في الطيب نافع وفيها ثابت بن يزيد الأحول البصريّ، له عن هلال بن خبّاب [4] وجماعة، وكان من ثقات الشيوخ.
__________
[1] (2/ 693) .
[2] في «المغني» المطبوع: «وثّقه أحمد» .
[3] في «المغني» : «كان يؤخذ عنه القرآن» .
[4] في «العبر» للذهبي (1/ 257) : «ابن حباب» وهو تصحيف فيصحح فيه.

(2/313)


سنة سبعين ومائة
في أحد ربيعيها [1] توفي الخليفة أبو محمّد موسى الهادي بن المهديّ، وكان طويلا، أبيض، جسيما، مات من قرحة أصابته، وقيل: قتلته أمّه الخيزران لمّا همّ بقتل أخيه الرّشيد، فعمدت لما وعك إلى أن غمّته [2] وعاش بضعا وعشرين سنة، فالله يسامحه، فلقد كان جبّارا ظالم النفس. قاله في «العبر» [3] .
وقال في «مروج الذّهب» [4] : كان موسى قاسي القلب، شرس الأخلاق، صعب المرام، كثير الأدب، محبّا له، وكان شديدا، شجاعا بطلان، جوادا، سمحا [5] .
حدّث يوسف بن إبراهيم، الكاتب صاحب إبراهيم بن المهدي، عن إبراهيم، أنه كان واقفا بين يديه وهو على حمار له ببستانه المعروف [6] ببغداد، إذ قيل له: قد ظفر برجل من الخوارج، فأمر بإدخاله
__________
[1] في الأصل: «في أحد ربيعها» ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[2] أي غطّته. انظر «مختار الصحاح» ص (482) .
[3] (1/ 258) .
[4] (3/ 335- 346) والمؤلف ينقل عنه بتصرف.
[5] في «مروج الذهب» : «سخيا» .
[6] في الأصل، والمطبوع: «المعروفة» وأثبت ما في «مروج الذهب» .

(2/314)


إليه، فلما قرّب الخارجيّ إليه، أخذ الخارجيّ السيف من بعض الحرس، وأقبل يريد موسى، فتنحّت وكلّ من كان معي، وإنه [1] لواقف على حماره ما يتحلحل، فلما أن قرب منه [الخارجيّ] [2] صاح موسى: اضربا عنقه، وليس وراءه أحد منّا، فأوهمه، فالتفت الخارجيّ [لينظر] [3] وجمع موسى نفسه ثم طفر عليه [4] فصرعه، وأخذ السيف من يده فضرب به عنقه.
قال [5] . فكان خوفنا منه أكثر من الخارجي، فو الله ما أنكر علينا تنحّينا، ولا عذلنا [على ذلك] [6] ولم يركب حمارا بعد ذلك اليوم، ولا فارقه سيف [7] . انتهى.
وحدّث عبد الله بن الضّحّاك عن الهيثم بن عدي، قال: وهب المهديّ لموسى الهادي سيف عمرو بن معدي كرب الصّمصامة، فدعا به موسى بعد ما ولي الخلافة، فوضعه بين يديه، ودعا بمكتل [8] دنانير، وقال لحاجبه: ائذن للشعراء، فلما دخلوا، أمرهم أن يقولوا في السيف، فبدأهم ابن يامين البصري فقال:
__________
[1] يعني موسى الهادي.
[2] زيادة من «مروج الذهب» .
[3] زيادة من «مروج الذهب» .
[4] في «مروج الذهب» : «ظهر عليه» .
قال ابن منظور: الطّفر: وثبه في ارتفاع، كما يطفر الإنسان حائطا، أي يثبه ... وقد طفر يطفر طفرا: وثب في ارتفاع. «لسان العرب» (طفر) .
[5] القائل إبراهيم بن المهدي.
[6] زيادة من «مروج الذهب» .
[7] في «مروج الذهب» : «ولا فارقه سيفه» .
[8] قال ابن منظور: المكتل والمكتلة: الزّبيل الذي يحمل فيه التمر أو العنب إلى الجرين، وقيل: المكتل شبه الزّبيل يسع خمسة عشر صاعا. «لسان العرب» (كتل) .

(2/315)


حاز صمصامة الزّبيديّ عمرو ... من جميع الأنام موسى الأمين
سيف عمرو وكان فيما سمعنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون
أوقدت فوقه الصّواعق نارا ... ثمّ شابت به الذّعاف المنون
وإذا ما شهرته تبهر الشّم ... - س ضياء فلم تكد تستبين
وكأنّ الفرند [1] والجوهر الجا ... ري في صفحتيه ماء معين
ما يبالي إذا الضّريبة حانت ... أشمال سطت به أم يمين [2]
فقال [له] الهادي: لك السيف والمكتل، فخذهما، ففرّق المكتل على الشعراء، وقال: دخلتم معي وحرمتم من أجلي، وفي السيف عوض، ثم بعث إليه الهادي، فاشترى منه السيف بخمسين ألفا. انتهى.
وكان عيسى بن دأب من أهل الحجاز، وكان أكثر أهل عصره أدبا، وعلما، ومعرفة بأخبار النّاس وأيامهم، وكان الهادي كلفا به، يقول له:
يا عيسى ما استطلت [3] بك يوما ولا ليلة ولا غبت عنّي إلّا ظننت أني لا أرى غيرك [4] .
وذكر [5] عيسى هذا أنه رفع إلى الهادي، أن رجلا من أرض المنصورة [6]
__________
[1] الفرند: السيف. انظر «مختار الصحاح» ص (501) .
[2] الأبيات في «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 345- 346) ، و «زهر الآداب» للقيروني (2/ 781) ، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان (6/ 109) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «ما استطاعت» ، والتصحيح من «مروج الذهب» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «غيرى» والتصحيح من «مروج الذهب» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «فذكر» وما أثبته من «مروج الذهب» .
[6] في الأصل: «المنصور» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
قال ياقوت في «معجم البلدان» (5/ 211) : المنصورة: مفعولة من النصر في عدة مواضع، فيها المنصورة بأرض السند وهي قصبتها، مدينة كبيرة كثيرة الخيرات ذات جامع كبير. وانظر تتمة كلامه هناك.

(2/316)


من بلاد السّند من أشرافهم وأهل الرياسة منهم من آل المهلّب بن أبي صفرة ربى غلاما سنديا، أو هنديا، أن الغلام هوي مولاته، فراودها عن نفسها، فأجابته، فدخل السيد فأصابه معها، فجبّ ذكر الغلام وخصاه، ثم عالجه إلى أن برأ فأقام مدّة، وكان لمولاه ابنان أحدهما طفل والآخر يافع، فغاب الرجل عن منزله، وعاود وقد أخذ السّنديّ الصبيين وصعد بهما إلى أعالي سور الدّار، إذ دخل مولاه، فرفع رأسه فإذا هو بابنيه مع الغلام على اسور، فقال:
يا فلان عرّضت ابنيّ للهلاك، فقال: دع ذا عنك، والله إن لم تجبّ نفسك بحضرتي لأرمينّ بهما، فقال له: الله الله في وفي ابنيّ، قال: دع ذا عنك، فو الله ما هي إلا نفسي، وإني لأسمح بها من شربة ماء، وأهوى ليرمي بهما، فأسرع مولاه فأخذ مدية وجبّ نفسه، فلما رأى الغلام أنه قد فعل، رمى بالصبيين فتقطّعا، وقال: ذلك الذي فعلت، فعلت بفعلك بي، وقتلي هذين زيادة، فأمر الهادي بالكتاب إلى صاحب السّند بقتل الغلام، وتعذيبه بأفظع ما يكون من العذاب، وأمر بإخراج كل سنديّ في مملكته، فرخص السّنديّ في أيامه حتّى كانوا يتداولون بالثمن اليسير.
وقال ابن دأب: قال لي الهادي: هلمّ بنا إلى ذكر فضائل البصرة، والكوفة وما زادت به كل واحدة منهما على الأخرى. قال: قلت: ذكر عن عبد الملك بن عمير أنه قال: قدم علينا الأحنف بن قيس الكوفة مع مصعب بن الزّبير، فما رأيت شيخا [قبيحا] [1] إلّا وقد رأيت في وجه الأحنف منه شبها [2] كان صعل الرأس، أعصف [3] الأذن، باخق
__________
[1] لفظة «قبيحا» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2] في الأصل، والمطبوع: «شيئا» وأثبت ما في «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 340) .
[3] في المطبوع: «أغصف» وهو تصحيف.

(2/317)


العين، ناتئ الوجه، مائل الشّدّق، متراكب الأسنان، [ضعيف العارضين أحنف الرّجل] [1] ولكنه كان إذا تكلم جلّى عن نفسه، فجعل يفاخرنا ذات يوم بالبصرة، ونفاخره بالكوفة، فقلنا: الكوفة أغذى، وأمرأ، وأفسح، وأثيب، فقال له رجل: والله ما أشبه الكوفة إلا بشبابة صبيحة [2] الوجه، كريمة الحسب، لا مال لها، فإذا ذكرت حاجتها كفّ النّاس عنها، وما أشبّه البصرة إلّا بعجوز ذات عوارض موسرة، فإذا ذكرت ذكر يسارها وذكرت عوارضها فكفّ عنها طالبها، فقال الأحنف: أما البصرة فإنّ أسفلها قصب، وأوسطها خشب، وأعلاها رطب، نحن أكثر ساجا، وعاجا، وديباجا، ونحن أكثر قيدا [3] ونقدا، والله ما آتي البصرة إلّا طائعا ولا أخرج منها إلّا كارها. قال: فقام إليه شابّ من بكر بن وائل فقال: يا أبا بحر، بم [4] بلغت في النّاس ما بلغت؟ فو الله ما أنت بأجملهم، ولا بأشرفهم، ولا بأشجعهم، قال: يا ابن أخي، بخلاف ما أنت فيه، قال: وما ذاك؟ قال بتركي ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا [ينبغي أن] [5] يعنيك. انتهى.
وحدّث عدة [من الأخباريين] [6] من ذوي المعرفة بأخبار الدولة، أن موسى قال لهارون أخيه: كأني بك تحدّث نفسك بتمام الرّؤيا، وتؤمّل ما أنت منه [7] بعيد، ومن دون ذلك خرط القتاد [8] فقال هارون: يا أمير المؤمنين
__________
[1] زيادة من «مروج الذهب» .
[2] في الأصل: «بإنسانة صبيحة» ، وفي المطبوع: «بإنسانية قبيحة» ، وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[3] في «مروج الذهب» : «قندا» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «بما» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[5] ما بين حاصرتين زيادة من «مروج الذهب» .
[6] زيادة من «مروج الذهب» .
[7] في «مروج الذهب» : «ما أنت عنه» .
[8] في «مروج الذهب» : «خرط القناد» وهو تصحيف. وانظر «لسان العرب» (قتد) .

(2/318)


من تكبّر وضع، ومن تواضع رفع، ومن ظلم خذل، وإن وصل الأمر إليّ وصلت من قطعت، وبررت من حرمت، وصيّرت أولادك أعلى من أولادي، وزوّجتهم بناتي، وقضيت بذلك حقّ الإمام المهديّ، فانجلى عن موسى الغضب، وبان السّرور في وجهه، وقال: ذلك الظن بك يا أبا جعفر، أدن منّي، فقام هارون فقبّل يده، ثم ذهب ليعود إلى مجلسه، فقال له موسى:
والشيخ الجليل، والملك النبيل، لا جلست إلّا معي في صدر المجلس، ثم قال يا خزائني! احمل إليه [1] الساعة ألف ألف دينار، فإذا فتح الخراج فاحمل إليه نصفه [2] فلما أراد هارون الرّشيد الانصراف، قدّمت دابته إلى البساط.
قال عمرو الرّوميّ: فسألت الرّشيد عن الرؤيا، فقال: قال المهديّ:
رأيت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيبا، وإلى هارون قضيبا، فأما قضيب موسى فأورق أعلاه قليلا، وأما قضيب هارون فأورق من أوله إلى آخره، فقصّ الرؤيا على الحكيم [3] ابن إسحاق الصّيمريّ [4] فكان يعبرها، فقال له: يملكان جميعا، فأما موسى فتقلّ أيامه، وأما هارون فيبلغ آخر ما عاش خليفة، وتكون أيامه أحسن الأيام، ودهره أحسن الدهور.
وقال عمرو الرّوميّ: فلما أفضت الخلافة إلى هارون زوّج ابنته حمدونة من جعفر بن موسى، وفاطمة من إسماعيل بن موسى، ووفى له بكل ما وعده.
وفيها بويع الرّشيد، ومن الاتفاق العجيب أنّ الرّشيد سلّم عليه بالخلافة
__________
[1] في «مروج الذهب» : «يا خزّاني! احمل إلى أخي» .
[2] في الأصل والمطبوع: «نصفها» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «الحكم» والتصحيح من «مروج الذهب» .
[4] لم أقف على ذكر له فيما بين يدي من كتب الرجال.

(2/319)


عمّه سليمان بن المنصور، وعمّ أبيه المهدي- وهو العبّاس بن محمد- وعمّ جدّه المنصور- وهو عبد الصمد بن علي- ذكره ابن الجوزي في «الشذور» .
وفيها توفي الرّبيع بن يونس أبو الفضل حاجب المنصور، والمهدي، وله مع المنصور أمور، منها أن المنصور قال له يوما: سلني حاجتك، قال: أن تحبّ ابني. قال: [ويحك!] [1] إن المحبة تقع بأسباب، وقال: قد أمكنك الله من إيقاع [2] سببها، قال: كيف؟ قال: تفضل عليه فيحبك. قال: والله قد أحببته [وقد حبّبته إليّ] [3] قبل إيقاع السبب، ولكن كيف اخترت له المحبّة دون كل شيء؟ قال: لتكون ذنوبه عندك كذنوب الصبيان، وشفاعته كشفاعة العريان، وأشار إلى قول الفرزدق [4] :
ليس الشّفيع الّذي يأتيك متّزرا ... مثل الشّفيع الّذي يأتيك عريانا [5]
وقال له [المنصور] يوما: [ويحك] [6] يا ربيع! ما أطيب الحياة [7] لولا الموت، فقال ما طيّبها إلّا الموت [8] ، يعني بموت من قبلك وصلت إليك الخلافة.
__________
[1] زيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/ 294) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 374) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «من أنواع» والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، و «مرآة الجنان» .
[3] زيادة من «مرآة الجنان» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وأشار إلى قول الورد» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، و «مرآة الجنان» .
[5] البيت في «ديوانه» (2/ 873) بعناية الصاوي، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/ 294) و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 374) وقد ساق كلاهما قصة البيت فليرجع إليهما من شاء وفي «ديوانه» : «مؤتزرا» بدل «متزرا» .
[6] زيادة من «وفيات الأعيان» (2/ 295) ، و «مرآة الجنان» (1/ 375) .
[7] في «وفيات الأعيان» و «مرآة الجنان» : «ما أطيب الدّنيا» .
[8] في «وفيات الأعيان» ، و «مرآة الجنان» : «ما طابت إلا بالموت» .

(2/320)


وفيها يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب بن أبي صفرة الأزديّ، وكان أرسله المنصور لحرب الخوارج، واستمر واليا على إفريقية خمس عشرة سنة، وكان من الممدّحين الأجواد.
وكذلك أخوه روح بن حاتم، وكان روح متواليا على السّند، وتولى لخمسة من الخلفاء: السّفّاح، والمنصور، والمهدي، والهادي، والرّشيد، ولم يتفق مثل هذا إلّا لأبي موسى الأشعري، عمل للنّبيّ- صلى الله عليه وسلّم- والخلفاء الأربعة بعده.
وكان يتعجب النّاس من بعد ما بين ابني حاتم يزيد، وروح، فاتفق أنّ الرّشيد عزل روحا عن السّند، فلحق بأخيه بإفريقية فدفنا في قبر واحد بإفريقية.
وفي يزيد بن حاتم يقول الشاعر:
وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشتري
وإذا تخيّل من سحابك لامع ... صدقت مخيلته لدى المستمطر
وإذا الفوارس عدّدت أبطالها ... عدوّك في أبطالهم بالخنصر
ووفد عليه أشعب صاحب النوادر في الطمع، فمدحه ببيتين، فأجزل عطيته.
وفيها مات إمام اللغة، والعروض، والنحو، الخليل بن أحمد الفراهيديّ الأزديّ [1] وقيل: سنة خمس وسبعين ومائة، وهو الذي استنبط علم العروض، وحصر أقسامه في خمس دوائر، واستخرج منها خمسة عشر بحرا، وزاد فيها الأخفش بحرا سمّاه الخبب.
قيل: إن الخليل دعا بمكّة أن يرزقه الله علما لم يسبق إليه، وهو في
__________
[1] انظر الخبر بطوله في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 377- 381) .

(2/321)


اختراعه بديهة كاختراع أرسطاطاليس [1] علم المنطق، ومن تأسيس بناء «كتاب العين» الذي يحصر لغة أمة من الأمم، وهو أول من جمع حروف المعجم في بيت واحد فقال:
صف خلق خود كمثل الشّمس إذ بزغت ... يحظى الضّجيع بها نجلاء معطار
وقال تلميذه النّضر بن شميل: جاءه رجل من أصحاب يونس يسأله عن مسألة، فأطرق الخليل يفكّر، وأطال حتّى انصرف الرّجل فعاتبناه، فقال:
ما كنتم قائلين فيها؟ قلنا: كذا وكذا. قال: فإن قال: كذا وكذا. قلنا: نقول:
كذا وكذا. فلم يزل يغوص حتّى انقطعنا وجلسنا نفكّر، فقال: إن المجيب يفكّر قبل الجواب، وقبيح أن يفكّر بعده. وقال: ما أجيب بجواب حتّى أعرف ما عليّ فيه من الاعتراضات والمؤاخذات. وكان مع ذلك صالحا قانعا.
قال النضر: أقام في خصّ [2] بالبصرة لا يقدر على فلس، وعلمه قد انتشر، وكسب به أصحابه الأموال.
قال: وسمعته يقول: إني لأغلق عليّ بابي مما يجاوزه همّي.
وقيل للخليل- وقد اجتمع مع ابن المقفّع-: كيف رأيته؟ فقال: علمه أكثر من عقله.
وقيل لابن المقفّع: كيف رأيت الخليل؟ قال: عقله أكثر من علمه.
__________
[1] كذا في الأصل، والمطبوع، و «مرآة الجنان» : «أرسطاطاليس» ، وفي «الفهرست» لابن النديم ص (307) طبعة طهران: «أرسطاليس» ، وفي «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» ص (21) :
«أرسطوطاليس» ، وفي «المنجد في الأعلام» ص (34) : «أرسطو، أو أرسطاطاليس» ، وفيه أنه مات سنة (322) ق. م. ومن أراد المزيد من المعلومات عنه فليرجع إلى المراجع التي ذكرتها.
[2] في الأصل: «حصن» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. والخص: البيت من القصب. انظر «مختار الصحاح» ص (177) .

(2/322)


وقرأ عليه رجل في العروض فلم يفهم، فقال له الخليل: قطّع هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
قال الخليل: فشرع الرجل في تقطيعه على مبلغ علمه، ثم قام فلم يرجع إليّ، فعجبت من فطنته لما قصدته في [هذا] [1] البيت مع بعد فهمه.
ويقال: إن أباه أول من سمّي أحمد بعد النّبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- وكان شاعرا مفلقا مطبوعا، ومن شعره:
وما هي إلّا ليلة ثمّ يومها [2] ... وحول إلى حول وشهر إلى شهر
مطايا يقرّبن الجديد إلى البلى ... ويدنين أشلاء الكرام إلى القبر
ويتركن أزواج الغيور لغيره ... ويقسمن ما يحوي الشّحيح من الوفر
وكان من الزّهد في طبقة لا تدرك، حتّى قيل: إن بعض الملوك طلبه ليؤدّب له أولاده، فأتاه الرّسول وبين يديه كسر يابسة يأكلها، فقال له: قل لمرسلك ما دام يلقى مثل هذه لا حاجة به إليك، ولم يأت الملك.
وسأله الأخفش: لم سمّيت بحر الطويل طويلا؟ قال: لأنه تمّت أجزاؤه.
والبسيط؟ لأنه انبسط على حدّ الطويل. والمديد؟ لتمدّد سباعيه حول خماسيه.
والكامل؟ لكمال أجزائه السباعية ليس فيه غيرها. والوافر؟ لوفور أجزائه، لأن فيه ثلاثين حركة لا تجتمع في غيره. والرجز؟ لاضطرابه كاضطراب قوائم الناقة الرجزاء. والرمل؟ لأنه يشبه رمل الحصير يضمّ بعضه إلى بعض. والهزج؟ لأنه يتصرف شبه هزج الصوت. والسريع؟ لسرعته على اللسان. والمنسرح؟
لانسراحه وسهولته. والخفيف؟ لأنه أخفّ السباعيات. والمقتضب؟ لأنه القتضب
__________
[1] زيادة من «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 380) .
[2] في «مرآة الجنان» : «بعد نومها» .

(2/323)


من الشعر لقلّته. والمضارع؟ لأنه ضارع المقتضب. والمجتثّ؟ لأنه اجتثّ- أي قطع- من طول دائرته. والمتقارب؟ لتقارب أجزائه، وأنها خماسية كلها يشبه بعضها بعضا. انتهى.
قيل: لما دخل الخليل البصرة لمناظرة أبي عمرو بن العلاء، جلس إليه ولم يتكلم بشيء، فسئل عن ذلك، فقال: هو رئيس منذ خمسين سنة، فخفت أن ينقطع فيفتضح في البلد.
وقال الواحديّ في «تفسيره» : الإجماع منعقد على أنه لم يكن أحد أعلم بالنحو من الخليل. قاله ابن الأهدل.
وقال في «العبر» [1] : الخليل بن أحمد الأزديّ البصريّ أبو عبد الرّحمن صاحب العربية والعروض، روى عن أيوب السّختيانيّ وطائفة، وكان إماما كبير القدر، خيّرا متواضعا، فيه زهد وتعفّف [2] ، صنّف «كتاب العين» في اللغة. انتهى.
وفيها مجنون ليلى قيس بن الملوّح بن مزاحم، اشتهر بعشق ليلي في الدّنيا، وهو أحد بني كعب بن عامر بن صعصعة، وقد أنكر قوم وجوده قائلين: هو كالعنقاء، وهذا غلط، فإنّ اشتهار عشقه لليلى أشهر من أن يخفى، وأثبته علماء السّير، وأما ليلى فإنها بنت مهدي، وقيل: بنت ورد من بني ربيعة، كانت من أجمل النساء شكلا وأدبا.
وابتداء أمرهما أنهما كانا صغيرين يرعيان أغنما لقومهما، فعلق كل منهما بصاحبه، ولم يزالا على ذلك حتّى كبرا واشتهر أمرهما، فحجبت ليلى عنه، فزال عقله، وقال:
تعلّقت ليلى وهي ذات ذؤابة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
__________
[1] «العبر في خبر من عبر» (1/ 268) .
[2] في المطبوع: «وتعطف» وهو خطأ.

(2/324)


صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم [1]
ثم كان يأتي الحيّ على غفلة من أهله، فلما كثر ذلك، خرج أبو ليلى ومعه نفر من قومه إلى مروان بن الحكم فشكوا إليه ما أصابهم من قيس بن الملوّح، وسألوه الكتاب إلى عامله يمنعه من كلام ليلى، وإن وجده أهلى ليلى عندها يكون دمه هدرا، فلما بلغ قيسا ذلك قال:
ألا حجبت ليلى وآلى أميرها ... عليّ يمينا جاهدا لا أزورها
وواعدني [2] فيها رجال أبوهم ... أبي وأبوها خشّنت [3] لي صدورها
على غير شيء [4] غير أنّي أحبّها ... وأنّ فؤادي عند ليلى أسيرها [5]
فلما يئس منها، ذهب عقله بالكلية، ولعب بالتراب والحصى، وضنيت ليلى أيضا من فراقه، ثم تزوجت ليلى، فصار المجنون يدور في الفلوات عريانا ينشد الأشعار ويأنس بالوحوش، ثم وجد بعد حين ملقى بين الأحجار ميتا، فاحتملوه إلى الحيّ، وغسلوه، ودفنوه، وبكوا عليه، وكان أبو ليلى أشدّ القوم جزعا وبكاء، وقال: ما علمت أن الأمر يبلغ إلى هذا، ولكني كنت امرأة عربيا أخاف العار، ولو علمت أن الأمر يفضي إلى هذا ما أخرجتها عن يده، ويقال: إنها أيضا ضنيت عليه وماتت أسفا، ودفنت قريبا منه، وأمرهما أشهر من أن يذكر، والله أعلم.
وفيها توفي عبد الله بن جعفر المخرميّ [6] المدنيّ. روى عن عمّة أبيه أمّ بكر بنت المسور بن مخرمة، وجماعة من التابعين، وخرّج له مسلم،
__________
[1] البيتان في «الأغاني» (2/ 11) .
[2] في «الأغاني» : «وأوعدني» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «وأبوهم حشيت» وأثبت ما في «الأغاني» .
[4] في «الأغاني» : «على غير جرم» .
[5] في «الأغاني» : «وأن فؤادي رهنها وأسيرها» ، والأبيات فيه (2/ 68) .
[6] في «العبر» للذهبي (1/ 258) : «المخزومي» وهو خطأ فيصحّح فيه.

(2/325)


والأربعة، وكان قصيرا ذميما.
قال الواقديّ: كان عالما بالمغازي، والفتوى.
وقال الذّهبيّ في «المغني» [1] : عبد الله بن جعفر المخروميّ المدنيّ، ثقة، وهاه ابن حبّان فقط. انتهى.
وفيها محمّد بن مهاجر الحمصيّ. روى عن نافع وطبقته، وآخر من حدّث عنه أبو توبة [2] الحلبيّ.
وأبو معشر السّنديّ- واسمه نجيح بن عبد الرّحمن المدنيّ- صاحب المغازي، والأخبار. مشهور عن أصحاب أبي هريرة، ليس بالعمدة.
قال ابن معين: كان أميّا يتّقى من حديثه المسند.
وقال صاحب «العبر» [3] : روى عن محمد بن كعب القرظيّ والكبار، واستصحبه المهديّ معه لما حجّ إلى بغداد. وقال: يكون بحضرتنا ويفقّه من حولنا، ووصله [4] بألف دينار، وكان أبيض، أزرق، سمينا. وقيل له: السّنديّ من قبيل اللقب بالضد. انتهى.
وفيها الوزير أبو عبد الله معاوية بن عبيد الله بن يسار الأشعريّ، مولاهم، كاتب المهدي ووزيره. وكان من خيار الوزراء، صاحب علم، وفضل، ورواية [5] وعبادة [6] وصدقات. روى عن منصور بن المعتمر.
__________
[1] (1/ 334) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «أبو ثوبة» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 258) .
قلت: وأبو توبة هو الربيع بن نافع الحلبي. انظر «تهذيب التهذيب» (3/ 251) ، و «تقريب التهذيب» (1/ 246) .
[3] (1/ 258) .
[4] في المطبوع، و «العبر» : «وصله» .
[5] قوله: «وفضل ورواية» لم يرد في «العبر» للذهبي.
[6] لفظة «وعبادة» تحرّفت في «العبر» إلى «وعبارة» فتصحّح فيه.

(2/326)


وفيها، أو في حدودها، محمّد بن جعفر بن أبي كثير المدنيّ مولى الأنصار [1] . أخذ عن زيد بن أسلم وطبقته. وكان ثقة كثير العلم.
وأسباط بن نصر الهمدانيّ [2] الكوفيّ المفسّر، صاحب إسماعيل السّدّيّ، والله أعلم.
قال في «المغني» [3] : وثّقه ابن معين، وضعفه أبو نعيم.
[و] قال النّسائيّ: ليس بالقويّ، توقف فيه أحمد. انتهى.
وقد خرّج له البخاريّ في «التاريخ» ومسلم، والأربعة.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «مولى الأنصاري» وأثبت ما في «العبر» للذهبي.
[2] في الأصل، والمطبوع: «الهمذاني» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[3] (1/ 66) .

(2/327)