شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة ست عشرة ومائتين
فيها عزا المأمون، فدخل الرّوم وأقام بها ثلاثة أشهر، وافتتح أخوه عدة حصون، وأغار جيشه، فغنموا وسبوا، ثم رجع إلى دمشق، ودخل الدّيار المصرية.
وفيها توفي أبو حبيب حبّان [1] بن هلال البصريّ الحافظ الثقة. روى عن شعبة وطبقته.
قال الإمام أحمد: إليه المنتهى في التثبّت بالبصرة.
توفي في رمضان، وكان قد امتنع من التحديث قبل موته بأعوام.
وفيها أبو العلاء الحسن بن سوّار البغويّ نزيل بغداد. روى عن عكرمة بن عمّار وأقرانه. وكان ثقة صاحب حديث.
وعبد الله بن نافع الأسديّ الزّبيريّ المدنيّ الفقيه. روى عن مالك وجماعة، ووصفه الزّبير بن بكّار بالفقه والعبادة والصوم.
وخرّج له مسلم، والأربعة.
قال في «المغني» [2] : عبد الله بن نافع الصائغ عن مالك، وثّق.
__________
[1] في الأصل: «حباب» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب، وانظر: «تهذيب الكمال» (5/ 328- 330) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] «المغني في الضعفاء» (1/ 360) .

(3/75)


وقال البخاري: في حفظه شيء.
وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بذاك في الحديث. انتهى.
وعبد الصّمد بن النّعمان البزّاز ببغداد. روى عن عيسى بن طهمان وطبقته، وكان أحد الثقات. ولم تقع له رواية في الكتب الستة.
وفيها العلّامة أبو سعيد عبد الملك بن قريب الباهليّ البصريّ الأصمعيّ اللغويّ الأخباريّ. سمع ابن عون والكبار، وأكثر عن أبي عمرو بن العلاء، وكانت الخلفاء تجالسه وتحب منادمته، وعاش ثمانيا وثمانين سنة، وله عدة مصنفات. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن الأهدل: تصانيفه تزيد على ثلاثين.
روي عنه أنه قال: أحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة [2] منها المائة والمئتان.
وكان الشافعيّ يقول: ما عبّر أحد بأحسن من عبارة الأصمعي.
وعنه [3] قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن ثمانية آلاف مسألة، وما مات حتّى أخذ عني ما لا يعرفه فيقبله مني ويعتقده.
وعنه [3] قال: كنت بالبادية طوّافا وأكتب ما سمعت، فقال لي أعرابي:
أنت كالحفظة تكتب لفظ اللفظة، فكتبته أيضا.
وعنه قال: رأيت شيخا بالبادية قد سقط حاجباه [على عينيه] [4] وله مائة وعشرون سنة وفيه بقية، فسألته، فقال: تركت الحسد فبقي الجسد، وأنشد:
ألا أيّها الموت الذي ليس تاركي ... أرحني فقد أفنيت كلّ خليل
__________
[1] (1/ 370) .
[2] في «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 94) : «ستة عشر ألف أرجوزة» .
[3] يعني عن الأصمعي.
[4] زيادة من «مرآة الجنان» (2/ 69) . والبيتان فيه.

(3/76)


أراك بصيرا بالّذين أحبّهم ... كأنّك تنحو نحوهم بدليل
ونوادره تحتمل مجلدات، وإعطاء الرّشيد والمأمون له واسع.
ولما صنف كتابا في الخيل مجلدا واحدا، وصنف أبو عبيدة في ذلك خمسين مجلدا، امتحنهما الرّشيد، فقرب لهما فرسا فلم يعرف أبو عبيدة أعيان الأعضاء، وأما الأصمعيّ فجعل يسمي كل عضو ويضع يده عليه، وينشد ما قالت العرب فيه. فقال له الرّشيد: خذه. قال: فكنت إذا أردت أن أغضب أبا عبيدة ركبته إليه.
ورثى أبو العالية الشّاميّ [1] الأصمعيّ فقال:
لا درّ درّ نبات [2] الأرض إذ فجعت ... بالأصمعيّ لقد أبقت لنا أسفا
عش ما بدا لك في الدّنيا فلست ترى ... في النّاس منه ولا من علمه خلفا [3]
ومن مسنده عن عائشة- رضي الله عنها- عن النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- قال: «إيّاكم ومحقّرات الذّنوب، فإنّ لها من الله طالبا» [4] . وبإسناده عن عليّ- كرم الله وجهه- أنه قال: هذا المال لا يصلحه إلّا ثلاث: أخذه من حلّه، ووضعه في حقّه، ومنعه من السّرف. وبإسناده قال: قال النّبي- صلى الله عليه وسلم- «من أنعم الله عليه، فليحمد الله، ومن
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «السّامي» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، و «مرآة الجنان» .
[2] كذا في الأصل، و «تاريخ بغداد» : «نبات الأرض» ، وفي المطبوع، و «وفيات الأعيان» :
«بنات الأرض» ، وفي «مرآة الجنان» : «باب الأرض» .
[3] البيتان في «تاريخ بغداد» للخطيب (10/ 419- 420) ، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان (3/ 176) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 76) .
[4] ورواه أيضا أحمد في «المسند» (6/ 70 و 151) والدارمي في «سننه» (2/ 303) وابن ماجة رقم (4243) في الزهد: باب ذكر الذنوب، وابن حبان رقم (5542) بترتيب ابن بلبان، والقضاعي في «مسند الشهاب» (2/ 95) عن عائشة بلفظ «إياك ... » . وله شاهدان من حديث سهل بن سعد وعبد الله بن مسعود بلفظ «إياكم» وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(3/77)


استبطأ الرّزق فليستغفر الله، ومن حزبه أمر فليقل: لا حول ولا قوّة إلّا بالله» [1] . وقد أورده الحافظ ابن حجر في «أسماء الرجال» [2] وقال فيه: صدوق سنّيّ. وجعله في الطبقة التاسعة من صغار أتباع التابعين، كالشّافعيّ، ويزيد ابن هارون، وعبد الرّزّاق، وغيرهم. انتهى.
وفيها قاضي دمشق محمّد بن بكّار بن بلال العامليّ. أخذ عن سعيد ابن عبد العزيز وطبقته، وكان من العلماء الثقات.
ومحمد بن سعيد بن سابق الرّازيّ محدّث قزوين. روى عن أبي جعفر الرّازي وطبقته.
وهود بن خليفة الثقفيّ البكراويّ البصريّ الأصمّ، وله إحدى وتسعون سنة. روى عن يونس بن عبيد، وسليمان التيمي، والكبار.
قال الإمام أحمد: ما كان أضبطه عن عوف الأعرابي.
وقال ابن معين: ضعيف.
وأبو يوسف محمد بن كثير الصنعانيّ ثم المصّيصيّ. روى عن الأوزاعي، ومعمر، وكان محدّثا حسن الحديث.
__________
[1] رواه بهذا اللفظ البيهقي في «شعب الإيمان» من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
انظر «كنز العمال» (3/ 259) و «الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير» (3/ 173) وإسناده ضعيف، ولكن لفقراته شواهد بالمعنى.
[2] يقصد كتابه «تقريب التهذيب» ، وقد نقل عنه (1/ 522) .

(3/78)


سنة سبع عشرة ومائتين
في وسطها دخل المأمون بلاد الرّوم، فنازل لؤلؤة [1] مائة يوم، ولم يظفر بها، فترك [2] على حصارها عجيفا [3] فخدعه أهلها وأسروه ثم أطلقوه بعد جمعة، ثمّ أقبل عظيم الرّوم توفيل فأحاط بالمسلمين، فجهّز المأمون نجدة وغضب، وهمّ بغزو قسطنطينيّة، ثم فتر لشدة الشتاء.
وفيها كان الحريق العظيم [4] بالبصرة، حتّى أتى على أكثرها كما قيل [5] .
وفيها، وقيل في التي مضت، توفي الحجّاج بن منهال البصريّ أبو
__________
[1] قلعة قرب طرسوس تقع الآن في الجنوب الأوسط من تركيا المعاصرة. انظر: «معجم البلدان» لياقوت (5/ 26) ، و «أطلس التاريخ العربي» للأستاذ شوقي أبو خليل ص (57) طبع دار الفكر بدمشق.
قلت: ولكن ما جاء في «تاريخ الطبري» (8/ 628) و «معجم البلدان» يشير إلى فتح القلعة آخر الأمر.
[2] في الأصل والمطبوع: «فنزّل» وما أثبته من «العبر» للذهبي (1/ 371) ، وفي «تاريخ الطبري» : «فخلّف» .
[3] هو عجيف بن عنبسة. انظر: «تاريخ الطبري» (8/ 628) .
[4] في «العبر» للذهبي: «الفناء العظيم» .
[5] في المطبوع، و «العبر» : «فيما قيل» .

(3/79)


محمد الأنماطيّ السّمسار [1] كان سمسارا بأنماط [2] وكان يأخذ من كل دينار حبة إذا باع بالسّمسرة. حدّث عنه البخاريّ وغيره. وسمع شعبة وطائفة.
وكان ثقة صاحب سنّة.
وفيها شريح بن النّعمان البغداديّ الجوهريّ الحافظ يوم الأضحى.
روى عن حمّاد بن سلمة وطبقته، وكان ثقة مبرّزا.
وفيها موسى بن داود الضبّيّ أبو عبد الله الكوفيّ الحافظ. سمع شعبة وخلقا.
[قال الدارقطنيّ] [3] : كان مصنّفا مكثرا مأمونا.
وقال ابن عمّار: كان ثقة زاهدا صاحب حديث، وولي قضاء طرسوس حتّى مات.
وهشام بن إسماعيل الدّمشقيّ العطّار، أبو عبد الملك، الخزاعيّ القدوة. روى عن إسماعيل بن عيّاش، وكان ثقة.
__________
[1] قال ابن منظور: السمسار: الذي يبيع البرّ للناس ... والسّمسار فارسية معربة، والجمع السّماسرة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سماهم التّجار، بعد ما كانوا يعرفون بالسماسرة، والمصدر السّمسرة، وهو أن يتوكل الرجل من الحاضرة للبادية فيبيع لهم ما يجلبونه ... وهو في البيع اسم للذي يدخل بين البائع والمشتري متوسطا لإمضاء البيع. وانظر تتمة كلامه في «لسان العرب» (سمسر) .
[2] في «العبر» : «في الأنماط» .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 372) مصدر المؤلف.

(3/80)


سنة ثماني عشرة ومائتين
فيها احتفل المأمون لبناء مدينة طوانة من أرض الرّوم [1] وحشد لها الصنّاع من البلاد، وأمر ببنائها ميلا في ميل [2] وولّى ولده العبّاس أمر بنائها.
وفيها امتحن المأمون العلماء بخلق القرآن، وكتب في ذلك إلى نائبه على بغداد، وبالغ في ذلك، وقام في هذه البدعة قيام متعبّد بها، فأجاب أكثر العلماء على سبيل الإكراه، وتوقف طائفة ثم أجابوا وناظروا فلم يلتفت إلى قولهم، وعظمت المصيبة بذلك وتهدّد على ذلك بالقتل، ولم يصب [أحد] [3] من علماء العراق إلّا أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، فقيّدا وأرسلا إلى المأمون وهو بطرسوس. فلما بلغا الرّقّة جاءهم الفرج بموت المأمون.
قال ابن الأهدل: ومرض محمد بن نوح ومات بالطريق، وهو الذي كان يشدّ أزر أحمد ويشجّعه.
ولما مات المأمون عهد إلى أخيه المعتصم، فامتحن الإمام أيضا وضرب
__________
[1] قلت: وتقع الآن في الجنوب الأوسط من تركيا المعاصرة. وانظر «معجم البلدان» (45- 46) .
[2] قال ابن منظور: الميل من الأرض: قدر منتهى مدّ البصر، والجمع أميال وميول. «لسان العرب» : (ميل) .
قلت: ومساحة الميل المربع في أيامنا تساوي ألفا وخمسمئة متر مربع تقريبا.
[3] في الأصل، والمطبوع: «ولم يصف» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 373) ، ولفظة: «أحد» التي بين حاصرتين زيادة منه.

(3/81)


بين يديه بالسّياط، حتّى غشي، ثم أطلقه وندم على ضربه، ولحق من تولى ضربه عقوبات ظاهرة.
وكان المأمون يكنى بأبي العبّاس ويسمّى بعبد الله، وكان أبيض ربعة، حسن الوجه، أعين، أديبا، شجاعا، له همّة عالية في الجهاد، ومشاركته في علوم كثيرة. وكان في اعتقاده معتزليا شيعيا. استقل بالخلافة عشرين سنة، ومات وله ثمان وأربعون سنة. انتهى كلام ابن الأهدل.
وقال ابن الفرات: روى يحيى بن حمّاد الموكبيّ عن أبيه قال:
وصفت للمأمون- رحمه الله- جارية بكل ما توصف به امرأة من الجمال والكمال، فبعث في شرائها، فأتي بها في وقت خروجه إلى بلاد الرّوم، فلما همّ بلبس درعه خطرت بباله، فأمر بإخراجها فأخرجت إليه، فلما نظر إليها أعجب بها وأعجبت به، فقالت: ما هذا؟ قال: أريد الخروج إلى بلاد الرّوم، فقالت: يا سيدي قتلتني والله، وتحدّرت دموعها وأنشأت:
سأدعو دعوة المضطرّ ربّا ... يثيب على الدّعاء ويستجيب
لعلّ الله أن يكفيك حربا [1] ... ويجمعنا كما تهوى القلوب [2]
فضمّها المأمون إلى صدره وأنشد:
فيا حسنها إذ يغسل الدّمع كحلها ... وإذ هي تذري دمعها بالأنامل [3]
صبيحة قالت في الوداع [4] قتلتني ... وقتلي بما قالت بتلك المحافل
ثم قال للخادم: احتفظ بها وأصلح لها ما تحتاج إليه من المقاصير
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «أن يكفيك حزنا» ، والتصحيح من «الجليس والأنيس» للنهرواني (1/ 426) المطبوع في بيروت بتحقيق الدكتور محمد مرسي الخولي رحمه الله تعالى.
[2] البيتان في «الجليس والأنيس» للنهرواني (1/ 426) .
[3] في «الجليس والأنيس» : وإذا هي تذري الدمع منها الأنامل.
[4] في «الجليس والأنيس» : «في العتاب» والبيتان فيه (1/ 426) .

(3/82)


والجواري إلى وقت رجوعي، فلولا ما قال الأخطل:
قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم ... دون النّساء ولو باتت بأطهار [1]
لأقمت.
قال [2] : فلما دخلت الجارية إلى منزلها وخرج المأمون اعتلّت علّة شديدة، وورد نعي المأمون- رحمه الله تعالى- فلما بلغها ذلك تنفّست الصعداء وقالت- وهي تجود بنفسها-:
إنّ الزّمان سقانا من مرارته ... بعد الحلاوة كاسات فأروانا
أبدى لنا تارة منه فأضحكنا ... ثمّ انثنى تارة أخرى فأبكانا [3]
ثم شهقت شهقة واحدة فماتت. انتهى.
وحكي أن المأمون أتي بجارية فائقة الجمال بارعة الكمال، وكان في رجلها عرج، فلما نظر إليها المأمون أعجبه جمالها وساءه عرجها، فقال للنخّاس [4] : خذ بيد جاريتك، فلولا عرجها لاشتريتها. فقالت: يا أمير المؤمنين إني وقت حاجتك إليّ تكون رجلي بحيث لا تراها، فأعجبه جوابها وأمر بشرائها، وأن يعطى مولاها ما احتكم، وحظيت عنده.
وكان له حلم شديد، كان يقول: والله إني لأخشى أن لا أثاب على الحلم والعفو لما أرى فيهما من اللّذة، ولو علم النّاس ذلك لتقرّبوا إليّ بالجناية.
وكان حسن المحاضرة، لطيف المسامرة. فمن ذلك ما ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني» [5] قال: لمّا تواتر النقل عند المأمون عن
__________
[1] البيت في «ديوانه» ص (120) المطبوع في قطر على نفقة الشيخ على آل ثاني حاكم قطر الأسبق رحمه الله تعالى، و «الجليس الأنيس» (1/ 426) .
[2] القائل ابن الفرات في «تاريخه» .
[3] البيتان في «الجليس والأنيس» (1/ 426- 427) .
[4] يعني لبائع الرقيق. انظر: «لسان العرب» (نخس) .
[5] الخبر في «الأغاني» (20/ 255) وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف.

(3/83)


يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن [1] بن سمعان التميميّ الأسديّ [2] المروزيّ القاضي بأنه يلوط أراد امتحانه، استدعاه وأوصى مملوكا له بأن يقف عندهما وحده، وإذا خرج المأمون يقف المملوك عند يحيى ولا ينصرف، وكان المملوك في غاية الحسن، فلما اجتمعا في المجلس وتحادثا ساعة قام المأمون كأنه يقضي حاجة، فوقف المملوك وتجسس المأمون عليهما، وكان أمره أن يعبث بيحيى، فلما عبث به المملوك، سمعه المأمون وهو يقول: لولا أنتم لكنا مؤمنين، فدخل المأمون وهو ينشد:
وكنّا نرجّي أن نرى العدل ظاهرا ... فأعقبنا بعد الرّجاء قنوط
متى تصلح الدّنيا ويصلح أهلها ... وقاضي قضاة المسلمين يلوط! [3]
وهذان البيتان لأبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب [4] وله فيه مقاطيع كثيرة. انتهى كلام صاحب «الأغاني» .
وروى الحافظ أبو بكر أحمد صاحب «تاريخ بغداد» في «تاريخه» [5] أن المأمون قال ليحيى بن أكثم من الذي يقول؟:
قاض يرى الحدّ في الزّناء ولا ... يرى على من يلوط من باس
قال: أما تعرف يا أمير المؤمنين من قاله؟ قال: لا. قال: يقوله الفاجر أحمد بن أبي نعيم الذي يقول:
لا أحسب الجور ينقضي وعلى ال ... أمّة وال من آل عبّاس
قال: فأفحم المأمون خجلا وقال: ينبغي أن ينفى أحمد بن أبي نعيم
__________
[1] في الأصل: «ابن وطن» ، وأثبت ما في المطبوع، وهو موافق لما في «تاريخ بغداد» للخطيب (14/ 191) ، و «الأعلام» للزركلي (8/ 138) .
[2] في «الأعلام» للزركلي: «الأسيدي» .
[3] والبيتان في «الأغاني» (20/ 255) ، وفي «وفيات الأعيان» (6/ 155) أيضا.
[4] انظر ترجمته ومصادرها في «فوات الوفيات» لابن شاكر الكتبي (2/ 15- 19) .
[5] (14/ 196) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.

(3/84)


إلى السّند، وهذان البيتان من أبيات أولها [1] :
أنطقني الدّهر بعد إخراس ... لنائبات أطلن وسواسي
يا بؤس للدّهر لا يزال كما ... يرفع ناسا يحطّ من ناس
لا أفلحت أمّة وحقّ لها ... بطول نكس وطول إعكاس
ترضى بيحيى يكون سائسها ... وليس يحيى لها بسوّاس
قاض يرى الحدّ في الزّناء ولا ... يرى على من يلوط من باس
يحكم للأمرد الغرير على ... مثل جرير ومثل عبّاس
فالحمد لله كيف قد ذهب ال ... عدل وقلّ الوفاء في النّاس
أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والرّاس شرّ ما راس
لو صلح الدّين واستقام لقد ... قام على النّاس كلّ مقياس
لا أحسب الجور [2] ينقضي وعلى ال ... أمّة وال من آل عبّاس
انتهى.
وحكى أبو الفرج معافى بن زكريا النهرواني [3] في كتاب «الجليس والأنيس» [4] عن محمد [بن مسلم] [5] السّعدي قال: وجّه إليّ القاضي يحيى ابن أكثم قاضي المأمون- رحمهما الله- فصرت إليه، فإذا عن يمينه قمطرة [6] مجلّدة، فجلست، فقال [لي] : افتح هذه القمطرة [7] ففتحتها فإذا بشيء [8]
__________
[1] وهي في «تاريخ بغداد» (14/ 196) و «وفيات الأعيان» (6/ 154) مع بعض الخلاف.
[2] في المطبوع: «لا أحسب الدهر» .
[3] سترد ترجمته في حوادث سنة (390) من المجلد الرابع إن شاء الله تعالى.
[4] (2/ 71- 72) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف يسير.
[5] زيادة من «الجليس والأنيس» .
[6] في «الجليس والأنيس» : «قمطر» . والقمطرة: ما يصان فيه الكتب. انظر: «مختار الصحاح» ص (551) .
[7] في «الجليس والأنيس» : «القمطر» .
[8] في «الجليس والأنيس» : «فإذا شيء» .

(3/85)


قد خرج إليّ [1] منها، رأسه رأس إنسان، وهو من أسفله إلى سرّته زاغ [2] في [ظهره، و] [3] صدره سلعتان [4] فكبّرت وهلّلت وفزعت، ويحيى يضحك، فقال بلسان فصيح [طلق] [5] ذلق [6] :
أنا الزّاغ أبو عجوة ... أنا ابن اللّيث واللّبوه
أحبّ الرّاح والرّيحا ... ن والنّشوة والقهوه
فلا عدوى يدي تخشى ... ولا تحذر لي سطوة [7]
ولي أشياء تستظرف ... بيوم [8] العرس والدّعوة
فمنها سلعة في الظّه ... ر لا تسترها الفروة
وأمّا السّلعة الأخرى ... فلو كان لها عروه
لما شكّ [9] جميع النّا ... س فيها أنّها ركوة [10]
ثم قال: يا كهل! أنشدني شعرا غزلا، فقال يحيى: قد أنشدك
__________
[1] لفظة: «إليّ» لم ترد في المطبوع، و «الجليس والأنيس» .
[2] قال الفيروزآبادي: الزاغ: غراب صغير إلى البياض. «القاموس المحيط» (3/ 111) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «الجليس والأنيس» للنهرواني.
[4] السلعة: ورم غليظ غير ملتزق باللحم يتحرك عند تحريكه، وله غلاف، ويقبل الزيادة لأنه خارج عن اللحم ... وزيادة تحدث في الجسد في العنق وغيره، تكون قدر الحمّصة إلى البطيخة. انظر: «القاموس المحيط» (3/ 41) ، و «المعجم الوسيط» (1/ 443) .
[5] زيادة مستدركة من «الجليس والأنيس» .
[6] في الأصل، والمطبوع: «زلق» وهو تحريف، والتصحيح من «الجليس والأنيس» . قال في «مختار الصحاح» ص (223) : ذلق اللسان، أي صار حادا، ويقال أيضا ذلق اللسان بالضم ذلقا بوزن ضرب فهو ذليق بيّن الذّلاقة.
[7] لفظ البيت في الأصل، والمطبوع:
فلا غدري بدا يخسى ... ولا يحذر لي سطوة
وأثبت ما جاء في «الجليس والأنيس» مصدر المؤلف.
[8] في الأصل، والمطبوع: «يوم» ، والتصحيح من «الجليس والأنيس» .
[9] في الأصل، والمطبوع: «لما شكّت» وأثبت ما في «الجليس والأنيس» .
[10] الأبيات في «الجليس والأنيس» (2/ 72) و «حياة الحيوان الكبرى» (الزاغ) .

(3/86)


[الزّاغ] [1] فأنشدته:
أغرّك أن أذنبت ثمّ تتابعت ... ذنوب فلم أهجرك ثمّ ذنوب
وأكثرت حتّى قلت ليس بصارمي ... وقد يصرم الإنسان وهو حبيب [2]
فصاح: زاغ زاغ زاغ، ثم طار، وسقط في القمطرة [3] ، فقلت ليحيى:
أعزّ الله القاضي، وعاشق أيضا؟! فضحك، فقلت: أيها القاضي ما هذا؟
فقال: هو ما ترى [4] ، وجّه به صاحب اليمن إلى أمير المؤمنين، وما رآه بعد، وكتب كتابا لم أفضضه وأظنه ذكر فيه [5] شأنه وحاله. انتهى.
وقال ابن خلّكان [6]- رحمه الله-: رأيت في بعض الكتب أن المأمون رحمه الله كان يقول: لو وصفت الدّنيا نفسها لما وصفت بمثل قول أبي نواس:
ألا كلّ حيّ هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق [7]
انتهى.
وقال المأمون: الإخوان ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه أبدا، وهم إخوان الصفا، وإخوان كالدواء يحتاج إليهم في بعض الأوقات، وهم الفقهاء. وإخوان كالداء لا يحتاج إليهم أبدا، وهم المنافقون.
وكان سبب وفاة المأمون- رحمه الله تعالى- أنه جلس على شاطئ نهر
__________
[1] سقطت من الأصل، والمطبوع واستدركتها من «الجليس والأنيس» .
[2] البيتان في «سير أعلام النبلاء» (12/ 12- 13) ، ولفظ البيت الثاني منهما فيه:
وأكثرت حتى قلت ليس بصارمي ... وقد يصدم الإنسان وهو حبيب
وقد ساق الذهبي فيه هذه القصة باختصار في ترجمة يحيى بن أكثم.
[3] في المطبوع، و «الجليس والأنيس» : «في القمطر» .
[4] في «الجليس والأنيس» : «قال: هو ما تراه» .
[5] في «الجليس والأنيس» : «وأظن أنه ذكر في الكتاب» .
[6] في «وفيات الأعيان» (2/ 97) .
[7] البيتان في «ديوانه» ص (465) طبع دار صادر، ورواية الأول منهما فيه:
أرى كل حي هالكا وابن هالك ... وذا نسب في الهالكين عريق

(3/87)


السّدون ودلّى رجليه في مائه، فأعجبه برد مائه وصفاؤه، فقال: لو أكلنا رطبا وشربنا من هذا الماء البارد لكان حسنا، فلم يخرج الكلام من فيه إلّا ومواقع حوافر خيل البريد أقبلت من آزاد [1] وعليها حقائب الرّطب، فحمد الله تعالى على ذلك وأكل منه، فحمّ وتحركت عليه مادة في حلقه فبطت [2] قبل بلوغها غايتها، فكانت سبب وفاته.
وحال وفاته كتب وصية: هذا ما أشهد به عليه عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، أنه يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له في ملكه، ولا مدبّر غيره، وأنه خالق وما سواه مخلوق، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الموت حق، والبعث والحساب حقّ، والجنّة والنّار حق، وأن محمدا- صلى الله عليه وسلم- بلّغ عن ربه شرائع [3] دينه، وأدّى النصيحة إلى أمته حتّى توفاه الله إليه، فصلى الله عليه أفضل صلاة صلاها على أحد من ملائكته المقربين وأنبيائه والمرسلين، وإني مقرّ بذنبي أخاف وأرجو، إلّا أني إذا ذكرت عفو الله رجوت، فإذا أنا متّ فوجّهوني وغمّضوني، وأسبغوا وضوئي، وأجيدوا كفني، وليصل عليّ أقربكم مني نسبا وأكبركم سنا، وليكبّر خمسا [4] ، ولينزل في حفرتي أقربكم مني قرابة، وضعوني في لحدي، وسدّوا عليّ باللبن، ثم احثوا التراب عليّ وخلّوني وعملي، فكلكم لا يغني عني شيئا، ولا يدفع عني مكروها، ثم قفوا بأجمعكم فقولوا خيرا إن علمتم، وأمسكوا عن ذكر شر إن عرفتم. ثم قال: يا ليت عبد الله لم يكن شيئا، يا ليته لم يخلق. ثم قال لأخيه وولي عهده المعتصم: يا أبا إسحاق ادن مني واتّعظ بما ترى، وخذ
__________
[1] لم أقف على ذكر لها فيما بين يدي من كتب البلدان والأنساب ومعجمات اللغة، ولعلّ الصواب «من آزاذوار» بليدة من أعمال نيسابور، أو «أرّان» والله أعلم. انظر «معجم البلدان» (1/ 167) .
[2] أي انشقّت. انظر «لسان العرب» (بطط) .
[3] في الأصل: «شعائر» وأثبت لفظ المطبوع.
[4] أقول: ثبت في السنة أن التكبير على الجنازة ما بين أربع إلى تسع، وقد كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة تسع تكبيرات. (ع) .

(3/88)


بسيرة أخيك، واعمل في الخلافة إذا طوّقكها الله عمل المريد لله الخائف من عقابه، ولا تغترّ بالله وإمهاله، فكأن قد نزل بك الموت، ولا تغفل عن أمر الرعية، فإنما الملك يقوم بهم [1] . ولا يتبين لك أمر فيه صلاح المسلمين إلّا وقدّمه على غيره وإن خالف هواك، وخذ من قويّهم لضعيفهم، واتق الله في أمرك كله، والسلام.
ثم قال: هؤلاء بنو عمك لا تغفل عن صلاتهم فإنها واجبة عليك، ثم تلا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 3: 102 [آل عمران: 102] . وكانت وفاته يوم الخميس لاثنتي عشرة [2] ليلة بقيت من شهر رجب سنة ثماني عشرة ومائتين، ونقله ابنه العبّاس إلى طرسوس فدفنه بها، ووكل بقبره مائة من الحرس، وأجرى على كل رجل منهم تسعين درهما في كل شهر، وكان له عدة أولاد، لم يشتهر منهم سوى العبّاس، وعليّ، فأما العبّاس فكان مغرما بشراء الضياع والعقار، وكان المعتصم مغرى [3] بجمع المال واقتناء الغلمان والعدة والرجال. قاله ابن الفرات.
وفي هذه السنة عهد المأمون بالخلافة إلى أخيه المعتصم، فأمر بهدم طوانة، وبنقل ما فيها، وبصرف أهلها إلى بلادهم.
وفيها دخل خلق من أهل بلاد همذان [4] في دين الخرّمية المجوس الباطنية، وعسكروا، فندب المعتصم لهم أمير بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فالتقاهم في ذي الحجّة بأرض همذان فكسرهم وقتل منهم ستّين ألفا وانهزم من بقي إلى ناحية الرّوم.
__________
[1] في الأصل: «فإنما الملك إنما يقوم بهم» ، وأثبت لفظ المطبوع.
[2] في الأصل: «لاثني عشرة» .
[3] أي مولعا. انظر «لسان العرب» (غرا) .
[4] في الأصل: «همدان» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب، فهمدان اسم لقبيلة من قبائل العرب، وهمذان إقليم من أقاليم إيران في أيامنا.

(3/89)


وفيها توفي بمصر إسحاق بن بكر بن مضر الفقيه، وكان يجلس في حلقة اللّيث فيفتي ويحدّث.
قال في «العبر» [1] : لا أعلمه يروي عن غير أبيه.
وفيها بشر المريسيّ الفقيه المتكلم، وكان داعية للقول بخلق القرآن. هلك في آخر السنة ولم يشيعه أحد من العلماء، وحكم بكفره طائفة من الأئمة. روى عن حمّاد بن سلمة، وعاش نيفا وسبعين سنة. قاله في «العبر» [2] .
قال ابن الأهدل: كان مرجئا داعية إلى الإرجاء، وإليه تنسب طائفة المريسيّة المرجئة. كان أبوه يهوديا صباغا في الكوفة، وكان يناظر الشّافعيّ وهو لا يعرف النحو [3] فيلحن لحنا فاحشا. انتهى.
وفيها عبد الله بن يوسف التّنّيسيّ الحافظ أحد الأثبات، أصله دمشقي، وسمع من سعيد بن عبد العزيز، ومالك، واللّيث.
وفيها عالم أهل الشّام أبو مسهر الغسانيّ الدمشقيّ عبد الأعلى بن مسهر، في حبس المأمون ببغداد في رجب لمحنة القرآن. سمع سعيد بن عبد العزيز، وتفقه عليه، وولد سنة أربعين ومائة، وكان علّامة بالمغازي والأثر، كثير العلم، رفيع الذّكر.
قال يحيى بن معين: منذ خرجت من باب الأنبار إلى أن رجعت لم أر مثل أبي مسهر.
وقال أبو حاتم: ما رأيت أفصح منه، وما رأيت أحدا في كورة من الكور أعظم قدرا ولا أجل عند أهلها من أبي مسهر بدمشق، إذا خرج اصطفّ النّاس يقبّلون يده.
__________
[1] «العبر في خبر من عبر» (1/ 373) .
[2] (1/ 373) .
[3] في الأصل: «وهو لا يعرف اللحن» وهو خطأ، وأثبت ما جاء في المطبوع، وهو الصواب.

(3/90)


وقال ابن ناصر الدّين: هو ثقة.
وفيها عبد الملك بن هشام البصريّ، النحويّ صاحب المغازي.
هذّب السّيرة ونقلها عن البكّائيّ [1] صاحب ابن إسحاق. وكان أديبا أخباريا نسّابة. سكن مصر وبها توفي.
ومحمد بن نوح العجليّ، ناصر السّنّة. حمل مقيّدا مع الإمام أحمد ابن حنبل متزاملين، فمرض ومات بغابة في الطريق، فوليه أحمد ودفنه، وكان في الطريق يثبّت أحمد ويشجّعه.
قال أحمد: ما رأيت أقوم بأمر الله منه.
روى عن إسحاق الأزرق، ومات شابا رحمه الله. قاله في «العبر» [2] .
ومعلّى بن أسد البصريّ، أخو بهز بن أسد. روى عن وهيب بن أسد وطبقته، وكان ثقة مؤدّبا.
ويحيى [بن عبد الله] [3] البابلتّي الحرّاني [أبو سعيد] [3] . روى عن الأوزاعيّ، وابن أبي ذئب، وطائفة، وليس بالقويّ في الحديث.
__________
[1] هو أبو محمد زياد بن عبد الله بن طفيل بن عامر القيسيّ العامريّ من بني صعصعة ثم من بني البكّاء، روى «سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم» عن محمد بن إسحاق، ورواها عنه عبد الملك بن هشام الذي رتبها ونسبت إليه. وكان صدوقا، ثقة، خرّج عنه البخاري في كتاب الجهاد، ومسلم في مواضع من كتابه، وذكر البخاري في «تاريخه» عن وكيع قال: زياد أشرف من أن يكذب في الحديث. وروى عن الأعمش، وروى عنه أحمد بن حنبل، وغيره. وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين. مات سنة (183) هـ. انظر: ترجمته في «تهذيب الكمال» للمزي (1/ 442- 443) مصورة دار المأمون للتراث، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان» (2/ 338- 339) ، و «ميزان الاعتدال» للذهبي (2/ 91) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 268) ، و «الأعلام» للزركلي (3/ 54) .
[2] (1/ 375- 376) .
[3] زيادة من «الأنساب» للسمعاني (2/ 14) ، و «العبر» للذهبي (1/ 376) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 351) ، و «معجم البلدان» لياقوت (1/ 309) .
ونسبته إلى باب لت قرية بالجزيرة بين حران والرّقة. ذكر ذلك ياقوت.

(3/91)


سنة تسع عشرة ومائتين
فيها، وقيل: في التي بعدها، امتحن المعتصم الإمام أحمد بن حنبل، وضرب بين يديه بالسّياط حتّى غشي عليه، فلما صمم ولم يجب أطلقه وندم على ضربه. قاله في «العبر» [1] .
وفيها توفي علي بن عيّاش الألهانيّ [2] الحمصيّ الحافظ. محدّث حمص وعابدها. سمع من حريز بن عثمان [3] وطبقته، وذكر فيمن يصلح لقضاء حمص.
وفيها أبو أيوب سليمان بن داود بن علي الهاشميّ العباسيّ. سمع إسماعيل بن جعفر وطبقته، وكان إماما حجّة فاضلا شريفا. روي أن أحمد بن حنبل أثنى عليه، وقال: يصلح للخلافة.
وعالم أهل مكّة الحافظ أبو بكر عبد الله بن الزّبير القرشيّ الحميديّ. روى عن فضيل بن عياض وطبقته، وكان إماما حجّة.
قال أحمد بن حنبل: الحميديّ، والشّافعيّ، وابن راهويه، كل كان [4]
__________
[1] (1/ 376) .
[2] لفظة: «الألهاني» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[3] في الأصل: «حرير بن عثمان» ، وفي المطبوع: «جرير بن عثمان» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 159) .
[4] لفظة: «كان» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.

(3/92)


إماما، أو كلاما هذا معناه. وصحب الحميديّ الشّافعيّ، ووالاه بعد أن كان نافرا عنه، وصحبه في رحلته إلى مصر.
قال ابن ناصر الدّين: حدّث عنه البخاريّ وغيره من كبار الأئمة.
وفيها أبو نعيم الفضل بن دكين الملائيّ الحافظ محدّث الكوفة.
روى عن الأعمش، وزكريا بن أبي زائدة، والكبار.
قال ابن معين: ما رأيت أثبت من أبي نعيم، وعفّان.
وقال أحمد: كان يقظان في الحديث عارفا، وقام في أمر الامتحان بما لم يقم غيره- عافاه الله- وكان أعلم من وكيع بالرّجال وأنسابهم، ووكيع أفقه منه.
وقال غيره: لما امتحنوه، قال: والله عنقي أهون من زرّي هذا، ثم قطع زرّه ورماه.
وقال ابن ناصر الدّين: الفضل بن دكين، هو عمرو بن حمّاد [1] التيميّ مولاهم الكوفيّ الملائيّ التاجر. حدّث عنه أحمد، وإسحاق، والبخاري، وغيرهم. وكان حافظا ثبتا فقيها واسع المجال. شارك الثّوريّ [2] في أكثر من مائة من الرّواة، وكان غاية في إتقان ما حفظه ووعاه. انتهى.
وفيها أبو غسّان مالك بن إسماعيل النّهديّ الكوفيّ الحافظ. روى عن إسرائيل وطبقته.
قال ابن معين: ليس بالكوفة أتقن منه.
وقال ابن ناصر الدّين: مالك بن إسماعيل النّهديّ مولاهم الكوفيّ،
__________
[1] في الأصل: «عمر بن حمّاد» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع، وانظر: «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (159) .
[2] في الأصل: «شارك النووي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.

(3/93)


ثقة، متقن، ذو فضل وأمانة وعبادة [واستقامة، على تشيع فيه. كما كان أبو داود يحكيه. انتهى.
وقال أبو حاتم الرّازيّ: كان ذا فضل وصلاح وعبادة] [1] . كنت إذا نظرت إليه كأنه خرج من قبر، ولم أر بالكوفة أتقن منه، لا أبو نعيم ولا غيره.
وقال أبو داود: كان شديد التشيع.
وفيها أبو الأسود، النّضر بن عبد الجبّار المراديّ المصريّ الزّاهد.
روى عن اللّيث وطبقته.
قال أبو حاتم: صدوق عابد، شبّهته بالقعنبيّ [2] رحمهما الله.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
[2] في الأصل: «العقنبي» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.

(3/94)


سنة عشرين ومائتين
وفيها اتخذ المعتصم سرّ من رأى [1] مسكنا.
وفيها عقد المعتصم للأفشين [2] على حرب بابك الخرّميّ الذي هزم الجيوش وخرّب البلاد منذ عشرين سنة.
ثم جهز محمد بن يوسف الأمين ليبني الحصون التي خرّبها بابك، فالتقى الأفشين [3] ببابك فهزمه وقتل من الخرّمية نحو ألف وهرب بابك إلى موقان [4] ثم جرت لهما أمور يطول شرحها.
وفيها غضب المعتصم على وزيره الفضل بن مروان وأخذ منه عشرة آلاف ألف دينار، ثم نفاه واستوزر محمد بن عبد الملك بن الزّيّات.
وفيها توفي آدم بن أبي إياس الخراسانيّ ثم البغداديّ، نزيل عسقلان. روى عن ابن أبي ذئب، وشعبة، وكان صالحا ثقة قانتا لله. لما احتضر قرأ الختمة ثم قال: لا إله إلا الله، ثم فارق.
__________
[1] مدينة على شاطئ دجلة في العراق. انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (3/ 215) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «للأقشين» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي مصدر المؤلف، وانظر: «تاريخ الطبري» (8/ 625) ، و «الكامل» لابن الأثير (6/ 420) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «الأقشين» وهو تصحيف، والتصحيح من المصادر المذكورة في التعليق السابق.
[4] بلدة تقع في أراضي إيران الآن. انظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (5/ 225- 226) .

(3/95)


قال أبو حاتم: ثقة، مأمون، متعبّد.
وخلّاد بن خالد الصّيرفيّ الكوفيّ قارئ الكوفة وتلميذ سليمان. تصدّر للإقراء، وحمل عنه طائفة، وحدّث عن الحسن بن صالح بن حيّ وجماعة.
قال أبو حاتم: صدوق.
وعاصم بن يوسف اليربوعيّ الكوفيّ الخياط. روى عن إسرائيل وجماعة. وروى البخاريّ عن أصحابه.
. وعبد الله بن جعفر الرّقّيّ الحافظ. روى عن عبيد الله بن عمرو الرّقّي وطبقته، وقد تغير حفظه قبل موته بسنتين.
وفيها أبو عمرو عبد الله بن رجاء الغدانيّ [1] بالبصرة يوم آخر السنة.
وكان ثقة حجة، روى عن عكرمة بن عمّار [2] وطبقته.
وعثمان بن الهيثم مؤذّن جامع البصرة في رجب. روى عن هشام بن حسّان [3] وابن جريج، والكبار.
قال أبو حاتم [4] : كان بآخرة [يتلقن ما] يلقن.
وعفّان بن مسلم الأنصاريّ مولاهم البصريّ الصّفّار أبو عثمان أحد أركان الحديث. نزل بغداد ونشر بها علمه، وحدّث عن شعبة وأقرانه.
قال ابن معين [5] : أصحاب الحديث خمسة: ابن جريج، ومالك، والثّوري، وشعبة، وعفّان.
__________
[1] في الأصل: «العداني» وهو خطأ وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. وانظر: «تقريب التهذيب» (1/ 414) .
[2] في المطبوع: «عكرمة بن حمّاد» وهو خطأ. وأنظر: «تهذيب الكمال» (2/ 680) مصورة دار المأمون للتراث بدمشق.
[3] في «العبر» للذهبي (1/ 380) : «هشام بن حبان» وهو خطأ، فيصحح فيه.
[4] انظر: «الجرح والتعديل» (6/ 172) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[5] في المطبوع: «قال يحيى بن معين» .

(3/96)


وقال أحمد بن حنبل: كتب المأمون إلى متولّي بغداد يمتحن النّاس، فامتحن عفّان، وكتب المأمون: فإن لم يجب عفّان فاقطع رزقه. وكان له في الشهر خمسمائة درهم. فلم يجبهم، وقال: وَفي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ 51: 22 [الذاريات: 22] .
وقال ابن ناصر الدّين: جعل له عشرة آلاف دينار على أن يقف عن تعديل رجل وعن جرحه، فأبى وقال: لا أبطل حقا من الحقوق.
. وفيها أبو عمر حفص بن عمر الضرير البصريّ، صدوق.
. وقالون القارئ، قارئ أهل المدينة، صاحب نافع، وهو أبو موسى عيسى بن مينا [1] الزهريّ مولاهم المدني.
قال الذهبي في «المغني» [2] : حجة في القراءة لا في الحديث. سئل عنه أحمد بن صالح، فضحك وقال: يكتبون [3] عن كل أحد. انتهى.
. وفيها الشريف أبو جعفر محمد بن علي الرضا بن موسى [4] الحسيني، أحد الاثني عشر إماما الذين تدّعي فيهم الرافضة العصمة، وله خمس وعشرون سنة. وكان المأمون قد نوّه بذكره، وزوّجه بابنته، وسكن بها بالمدينة، فكان المأمون ينفذ إليه في السنة ألف ألف درهم وأكثر، ثم وفد على المعتصم فأكرم مورده، وتوفي ببغداد آخر السنة، ودفن عند جده موسى، ومشهدهما ينتابه العامة بالزيارة.
__________
[1] انظر: «سير أعلام النبلاء» (10/ 326) ، و «معرفة القرّاء الكبار» (1/ 155) ، و «الأعلام» (5/ 110) .
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 502) .
[3] في «المغني في الضعفاء» : «تكتبون» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «محمد الجواد بن علي بن موسى الرضا» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 380) ، و «الأعلام» للزركلي (6/ 271) .

(3/97)


وفيها أبو حذيفة النّهديّ موسى بن مسعود البصريّ المؤدّب في جمادى الآخرة. سمع أيمن بن بابك وطبقته.
قال أبو حاتم: روى عن سفيان الثّوري بضعة عشر ألف حديث، وكان يصحّف.
قال في «المغني» [1] : موسى بن مسعود أبو حذيفة النّهديّ، صدوق مشهور، من مشيخة البخاري. تكلم فيه أحمد وليّنه.
وقال ابن خزيمة: لا أحدّث عنه.
وقال أبو حفص الفلّاس: لا يروي عنه من يبصر [2] الحديث. انتهى.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (1/ 687) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «يصنف» وأثبت لفظ «المغني في الضعفاء» .

(3/98)