شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وثلاثين ومائتين
فيها ورد كتاب الواثق على أمير البصرة يأمره بامتحان الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن، وكان قد تبع أباه في امتحان الناس.
وفيها قتل أحمد بن نصر الخزاعيّ الشهيد، كان من أولاد الأمراء فنشأ في علم وصلاح، وكتب عن مالك وجماعة، وحمل عن هشيم مصنفاته وما كان يحدّث. و [كان] يزري على نفسه، قتله الواثق بيده لامتناعه من القول بخلق القرآن، ولكونه أغلظ للواثق في الخطاب، وقال له: يا صبي.
وكان رأسا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقام معه خلق من المطوّعة واستفحل أمرهم، فخافت الدولة من فتق يتمّ بذلك.
قال ابن الأهدل: روي أنه صلب فاسودّ وجهه، فتغيرت قلوب الناس، ثم ابيض سريعا فرؤي في النوم فقال: لما صلبت رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأعرض عني بوجهه فاسود وجهي غضبا، فسألته- صلى الله عليه وسلم- عن سبب إعراضه، فقال: «حياء منك، إذ قتلك واحد من أهل بيتي» فابيضّ وجهي [1] . انتهى.
وفيها إبراهيم بن محمد بن عرعرة الشاميّ البصريّ، أبو إسحاق الحافظ، ببغداد، في رمضان. سمع جعفر بن سليمان الضّبعي.
__________
[1] ذكره اليافعي في «مرآة الجنان» (2/ 101) وقال في آخره: هذا معنى ما قيل في ذلك والله أعلم، ولم أره في غيره من المصادر.

(3/140)


وعبد الوهّاب الثقفي، وطائفة.
قال عثمان بن خرّزاذ: ما رأيت أحفص من أربعة، فذكر منهم إبراهيم هذا.
وفيها أميّة بن بسطام أبو بكر العيشيّ البصريّ، أحد الأثبات. روى عن ابن عمه يزيد بن زريع وطبقته.
وفيها عبد الله بن محمد بن أسماء الضّبعيّ البصريّ أحد الأئمة.
روى عن عمه جويرية بن أسماء وجماعة.
قال أحمد الدّورقي: لم أر بالبصرة أحفظ منه [1] .
وذكر لعلي بن المديني فعظّمه.
وقال ابن ناصر الدّين: كنيته أبو عبد الرّحمن، وهو حجة ثقة.
وفيها كامل بن طلحة [الجحدريّ، البصريّ] [2] وله ست وثمانون سنة. روى عن مبارك بن فضالة وجماعة.
قال أبو حاتم: لا بأس به.
وقال في «المغني» [3] : قال أبو داود: رميت بكتبه.
وقال أحمد: ما أعلم أحدا يدفعه بحجة.
وقال ابن معين: ليس بشيء.
وقال أبو حاتم، وغيره: لا بأس به.
وقال الدّارقطنيّ: ثقة. انتهى.
وفيها ابن الأعرابي صاحب اللغة، وهو أبو عبد الله محمد بن زياد، توفي بسامرّاء وله ثمانون سنة، وكان إليه المنتهى في معرفة لسان العرب.
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «لم أر بالبصرة أفضل منه» .
[2] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 409) .
[3] «المغني في الضعفاء» (2/ 529) .

(3/141)


قال ابن الأهدل: هو مولى بني العبّاس. أخذ عن أبي معاوية الضرير، والكسائي، وأخذ عنه الحربيّ، وثعلب، وابن السّكّيت. واستدرك على من قبله. وله بضعة عشرة مصنفا، منها: «كتاب النوادر» و «كتاب الخيل» و «كتاب تفسير الأمثال» و «كتاب معاني الشعر» وكان يحضر مجلسه مائة مستفيد. انتهى.
وفيها محمد بن سلّام الجمحيّ البصريّ الأخباريّ الحافظ أبو عبد الله. روى عن حمّاد بن سلمة. وجماعة، وصنف كتبا منها «كتاب الشعراء» [1] وكان صدوقا.
وفيها أبو جعفر محمد بن المنهال البصريّ الضرير الحافظ. روى عن أبي عوانة، ويزيد بن زريع، وجماعة. وكان أبو يعلى الموصلي يفخّم أمره ويقول: كان أحفظ من بالبصرة وأثبتهم في وقته.
وهو من الثقات.
قال في «العبر» [2] : قلت: ومات قبله بيسير أو بعده، محمد بن المنهال [البصريّ] [3] العطّار، أخو حجّاج بن منهال. روى عن يزيد بن زريع وجماعة، وكان صدوقا. روى عن [الرجلين] [3] أبو يعلى الموصلي. انتهى.
وفيها منجاب بن الحارث الكوفيّ. روى عن شريك وأقرانه.
وفيها أبو علي هارون بن معروف [4] الضرير ببغداد. روى عن
__________
[1] وهو المنشور في مصر في مجلدين كبيرين بعنوان «طبقات فحول الشعراء» بتحقيق المحقق الكبير الأستاذ محمود محمد شاكر حفظه الله تعالى.
[2] (1/ 410) .
[3] زيادة من «العبر» للذهبي، ويعني بالرجلين محمد بن المنهال البصري الضرير، ومحمد بن المنهال البصري العطّار.
[4] في الأصل، والمطبوع: «هارون بن معرف» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» للذهبي، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 312) .

(3/142)


عبد العزيز الدّراوردي وطبقته، وكان من حفاظ الوقت، صاحب سنة.
وفيها الحافظ أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن بكير المخزوميّ مولاهم المصريّ في صفر. سمع مالكا، واللّيث، وخلقا كثيرا، وصنف التصانيف.
وسمع «الموطأ» من مالك سبع عشرة مرّة.
قال ابن ناصر الدّين: هو صاحب مالك والليث، ثقة، وإن كان أبو حاتم والنسائي تكلما فيه، فقد احتج البخاريّ ومسلم في «صحيحهما» بما يرويه. انتهى.
وفيها العلّامة أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطيّ الفقيه صاحب الشافعي، ببغداد في السجن والقيد ممتحنا بخلق القرآن، وكان عابدا مجتهدا دائم الذّكر كبير القدر.
قال الشافعيّ: ليس في أصحابي أعلم من البويطي.
وقال أحمد العجلي: ثقة صاحب سنة. وسمع أيضا من [1] ابن وهب.
وقال الإسنويّ في «طبقاته» : كان ابن أبي اللّيث الحنفي يحسده، فسعى به إلى الواثق بالله أيام المحنة بالقول بخلق القرآن، فأمر بحمله إلى بغداد مع جماعة من العلماء، فحمل إليها على بغل مغلولا مقيّدا مسلسلا في أربعين رطلا من حديد، وأريد منه القول بذلك فامتنع، فحبس ببغداد على تلك الحالة إلى أن مات يوم الجمعة قبل الصلاة. وكان في كل جمعة يغسل ثيابه، ويتنظف، ويغتسل، ويتطيب، ثم يمشي إذا سمع النداء إلى باب السجن، فيقول له السجّان: ارجع رحمك الله، فيقول البويطي: اللهم إني أجبت داعيك فمنعوني. انتهى ملخصا.
وفيها أبو تمام الطائيّ حبيب بن أوس الحورانيّ، مقدّم شعراء العصر، توفي في آخر السنة [بالموصل] [2] كهلا.
سئل الشريف الرضي عن أبي تمام، والبختري، والمتنبي، فقال: أما
__________
[1] لفظة «من» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.
[2] زيادة من «العبر» للذهبي (1/ 411) .

(3/143)


أبو تمام فخطيب منبر، وأما البحتري فواصف جؤذر [1] وأما المتنبي فقائد عسكر.
وقال أبو الفتح بن الأثير في كتاب «المثل السائر» [2] يصف الثلاثة:
[وهؤلاء الثلاثة] [3] هم لات الشعر، وعزّاه، ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين، وفصاحة القدماء، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء [4] .
أما أبو تمّام فربّ معان وصيقل ألباب وأذهان، وقد شهد له بكل معنى مبتكر لم يمش فيه على أثر، فهو غير مدافع عن مقام الإغراب الذي يبرز فيه على الأضراب، ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير، ولم أقل ما أقول فيه إلّا عن تنقيب وتنقير، فمن حفظ شعر الرّجل وكشف عن غامضه وراض فكره برائضه أطاعته أعنة الكلام، وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام: فخذ مني في ذلك قول حكيم، وتعلّم ففوق كل ذي علم عليم.
وأما البحتريّ، فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنّى، ولقد حاز طرفي الرّقّة والجزالة على الإطلاق، فبينا يكون في شظف، نجد، حتّى يتشبّب [5] بريف العراق.
وسئل أبو الطيب عنه، وعن أبي تمّام، وعن نفسه، فقال: أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري.
قال [6] : ولعمري لقد أنصف في حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قربه من
__________
[1] الجؤذر: ولد البقرة الوحشية. انظر «مختار الصحاح» ص (90) .
[2] (2/ 368- 370) بتحقيق الشيخ محمد محيي الدّين عبد الحميد رحمه الله تعالى.
[3] ما بين حاصرتين لم يرد في الأصل، وأثبته من المطبوع، و «المثل السائر» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «وكلمة الحكماء» وأثبت ما في «المثل السائر» .
[5] في «المثل السائر» : «يتشبث» .
[6] القائل ابن الأثير في «المثل السائر» .

(3/144)


الأفهام، وما أقول إلّا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية، ورقي في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية.
وأما أبو الطيب المتنبي فأراد أن يسلك مسلك أبي تمّام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر [من قياده] ما أعطاه، لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختصّ بالإبداع في وصف مواقف القتال.
قال [1] : وأنا أقول قولا لست فيه متأثّما، ولا منه متلثّما [2] ، وذلك أنه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتّى تظن الفريقين فيه تقابلا، والسلاحين فيه تواصلا، وطريقه في ذلك يضل بسالكه، ويقوم بعذر تاركه، ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة ابن حمدان، فيصف لسانه، وما أدّى إليه عيانه. ومع هذا فإني رأيت النّاس عادلين فيه عن سنن التوسط، فإما مفرط فيه وإما مفرّط، وهو وإن انفرد في طريق وصار أبا عذره، فإن سعادة الرجل كانت أكبر من شعره، وعلى الحقيقة فإنه كان خاتم الشعراء، ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء، ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة:
لا تطلبنّ كريما بعد رؤيته ... إنّ الكرام بأسخاهم يدا ختموا
ولا تبال بشعر بعد شاعره ... قد أفسد القول حتّى أحمد الصّم
انتهى ما قاله ابن الأثير.
وقال ابن الأهدل: ألّف أبو تمّام كتاب «الحماسة» وكتاب «فحول الشعراء» جمع فيه بين الجاهليين، والمخضرمين، والإسلاميين، وكتاب
__________
[1] القائل ابن الأثير في «المثل السائر» .
[2] في الأصل، والمطبوع: «متثلما» والتصحيح من «المثل السائر» .

(3/145)


«الاختيارات من شعر الشعراء» وكان يحفظ أربعة آلاف أرجوزة غير القصائد والمقاطيع. وجاب البلاد، ومدح الخلفاء وغيرهم، وكان قصد البصرة في جماعة من أتباعه وبها شاعرها عبد الصّمد بن المعذّل [1] فخاف عبد الصمد أن يميل النّاس إليه فكتب إليه قبل قدومه:
أنت بين اثنتين تبرز للنّا ... س وكلتاهما بوجه مذال
أيّ ماء يبقى بوجهك هذا [2] ... بين ذلّ الهوى وذلّ السؤال [3]
فلما وقف عليه رجع، وكتب على ظهر ورقته:
أفيّ تنظم قول الزّور والفند ... وأنت أنقض [4] من لا شيء في العدد
أسرجت قلبك من غيظ على حنق [5] ... كأنّها حركات الرّوح في الجسد
أقدمت ويحك من هجوي على خطر ... كالعير يقدم من خوف على الأسد
قيل: إن العير إذا شمّ رائحة الأسد وثب عليه فزعا.
ومدح أبو تمّام الخليفة بحضرة أبي يوسف الفيلسوف الكنديّ [6] فقال:
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «ابن المعدل» بالدال وهو تصحيف، والتصحيح من «فوات الوفيات» لابن شاكر (2/ 330) ، و «الأعلام» للزركلي (3/ 11) .
[2] في «الأغاني» : «أي ماء لحرّ وجهك يبقى» .
[3] البيتان في «الأغاني» (13/ 253) وبينهما بيت آخر هو:
لست تنفكّ طالبا لوصل ... من حبيب أو طالبا لنوال
[4] في «الأغاني» : «وأنت أبرز» .
[5] في «الأغاني» : «أشرجت قلبك من بغضي على حرق» .
[6] هو يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكنديّ، أبو يوسف، فيلسوف العرب والإسلام في عصره، وأحد أبناء الملوك من كندة. نشأ في البصرة، وانتقل إلى بغداد، فتعلم واشتهر بالطب والفلسفة والموسيقا، والهندسة والفلك، وألف وترجم وشرح كتبا كثيرة يزيد عددها عن ثلاثمائة، ولقي في حياته ما يلقاه أمثاله من فلاسفة الأمم، فوشي به إلى المتوكل العباسي، فضرب وأخذت كتبه، ثم ردّت إليه. وأصاب عند المأمون والمعتصم منزلة عظيمة وإكراما.
قال ابن جلجل: ولم يكن في الإسلام غيره احتذى حذو أرسطاطاليس. من كتبه «اختيارات

(3/146)


إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس [1]
فقال له الفيلسوف: أتشبّه الخليفة بأجلاف العرب؟ فقال: نور الله سبحانه شبّه بمصباح في مشكاة للتقريب [2] فقال للخليفة: أعطاه ما سأل فإنه لا يعيش أكثر من أربعين يوما، لأنه قد ظهر في عينيه الدم من شدة الفكر.
وقيل: قال: إنه يموت قريبا أو شابا. فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال:
رأيت فيه من الذكاء والفطنة ما علمت أن النفس الروحاني تأكل جسمه كما يأكل السيف المهنّد غمده. فقال له الخليفة: ما تشتهي؟ قال: الموصل فأعطاه إياها، فمات سريعا وقد نيّف على الثلاثين، وبين عليه أبو نهشل بن حميد [3] قبّة، ورثاه جماعة منهم: أبو نهشل بن حميد، الذي ولاه الموصل فقال:
فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضتها حبيب الطّائي
ماتا معا فتجاورا في حفرة ... وكذاك كانا قبل في الأحياء
ورثاه محمد بن عبد الملك الزّيّات وزير المعتصم فقال:
نبأ أتى من أعظم الأنباء ... لمّا ألمّ مقلقل الأحشاء
قالوا حبيب قد ثوى فأجبتهم ... ناشدتكم لا تجعلوه الطائي
انتهى ما قاله ابن الأهدل.
__________
الأيام» و «تحاويل السنتين» و «رسم المعمور» ، و «القول في النفس» و «رسائل الكندي» و «حوادث الجو» . مات سنة (260) هـ. عن «الأعلام» للزركلي (8/ 195) .
[1] البيت في «ديوانه» بشرح الخطيب التبريزي (2/ 249) طبع دار المعارف بمصر.
[2] يريد قوله تعالى: الله نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ في زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ من شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ من يَشاءُ وَيَضْرِبُ الله الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 24: 35 [النّور: 35] .
[3] هو محمد بن حميد بن عبد الحميد الطائيّ الطوسيّ. انظر «معجم الشعراء» المرزباني ص (368) .

(3/147)


قلت: ومن شعر أبي تمّام هذه الأبيات الثلاثة وتطلب المناسبة بينها وهي:
لولا العيون وتفّاح الخدود [1] إذا ... ما كان يحسد أعمى من له بصر [2]
قالوا أتبكي على رسم فقلت لهم ... من فاته العين يذكي شوقه [3] الأثر
إنّ الكرام كثير في البلاد وإن ... قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا [4]
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «وتفاح النهود» وأثبت لفظ «ديوانه» بشرح الخطيب التبريزي.
[2] البيت في «ديوانه» بشرح الخطيب التبريزي (2/ 185) .
[3] في «ديوانه» : «هدّى شوقه» .
[4] البيتان في «ديوانه» (2/ 186) .

(3/148)


سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
. وفيها توفي الحكم بن موسى أبو صالح القنطريّ البغداديّ الحافظ أحد العبّاد في شوال. سمع إسماعيل بن عيّاش وطبقته.
وفيها عبد الله بن عون الخرّاز الزّاهد، أبو محمد البغداديّ المحدّث، وكان يقال: إنه من الأبدال. وروى عن مالك وطبقته. توفي في رمضان.
قال السخاويّ في «طبقاته» : عبد الله الخرّاز من كبار مشايخ الرّيّ ومن كبار فتيانهم.
قال عبد الله بن عبد الوهّاب: كان عبد الله الخرّاز إذا دخل مكّة يقول المجاورون: طلعت شمس الحرم.
وقال الجنيد: لا يأتينا من هذه الناحية مثل عبد الله الخرّاز.
وقال يوسف بن الحسين: لم أر مثل عبد الله الخرّاز، ولا رأى عبد الله مثل نفسه. انتهى.
وفيها عمرو بن محمّد النّاقد الحافظ أبو عثمان البغداديّ نزيل الرّقّة وفقيهها ومحدّثها. سمع هشيما وطبقته. توفي في ذي الحجّة ببغداد.
وفيها أبو يحيى هارون بن عبد الله الزّهريّ العوفيّ المكيّ المالكيّ، الإمام القاضي نزيل بغداد. تفقه بأصحاب مالك.
قال أبو إسحاق الشيرازيّ [1] : هو أعلم من صنّف الكتب في مختلف قول مالك.
__________
[1] في «طبقات الفقهاء» ص (153) بتحقيق الدكتور إحسان عبّاس.

(3/149)


وقال الخطيب [1] : إنه سمع من مالك، وإنه ولي قضاء العسكر [2] ثم قضاء مصر.
وفيها يوسف بن عديّ الكوفيّ نزيل مصر، أخو زكريا بن عدي.
حدّث عن مالك، وشريك. وكان محدّثا تاجرا.
وفي ذي الحجّة توفي الواثق بالله أبو جعفر، وقيل: أبو القاسم هارون ابن المعتصم محمد بن الرّشيد بن المهدي العبّاسي عن بضع وثلاثين سنة.
وكانت أيامه خمس سنين وأشهرا. ولّي بعهد من أبيه، وكان أديبا شاعرا، أبيض، تعالوه صفرة، حسن اللّحية، في عيينة نكتة. دخل في القول بخلق القرآن وامتحن النّاس. وقوّى عزمه ابن أبي داود [3] القاضي، ولما احتضر ألصق خده بالأرض وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه. واستخلف بعده أخوه المتوكل، فأظهر السّنّة، ورفع المحنة، وأمر بنشر أحاديث الرؤية والصّفات. قاله في «العبر» [4] .
قال ابن الجوزي في «الشذور» : وسلّم على المتوكل بالخلافة ثمانية كلهم أولاد خليفة، المنتصر ابنه، ومحمد بن الواثق، وأحمد بن المعتصم، وموسى بن المأمون، وعبد الله بن الأمين، وأبو أحمد بن الرّشيد، والعبّاس ابن الهادي، ومنصور بن المهدي، وكانت عدة كل نوبة من نوب الفرّاشين في دار المتوكل أربعة آلاف فرّاش. انتهى.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (14/ 13) .
[2] يعني ولي قضاء عسكر المهدي ببغداد أيام المأمون. وهو ما ذكره الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» .
[3] في الأصل: «ابن أبي داود» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. انظر:
«العبر» للذهبي (1/ 412) ، و «غربال الزمان» ص (218) وقد ذكر العامري فيه بأن اسمه «أحمد بن أبي دؤاد» .
[4] (1/ 412- 413) .

(3/150)


قال ابن الفرات: كان الواثق مشغوفا بحب الجواري، واتخاذ السراري، والتمتع بالأنكحة. روي أنه كان يحب جارية حملت إليه من مصر هدية، فغضبت يوما من شيء جرى بينه وبينها، فجلست مع صاحبات لها، فقالت لهن: لقد هجرته منذ أمس وهو يروم أن أكلّمه فلم أفعل، فخرج من مرقده على غفلة فسمع هذا القول منها، فأنشأ يقول:
يا ذا الذي بعذابي ظلّ مفتخرا ... هل أنت إلّا مليك جار إذ قدرا
لولا الهوى لتجارينا على قدر ... وإن أفق منه يوما ما فسوف ترى
فاصطلحا، ولحّنته وجعلت تغنيه به بقية يومه ذلك.
وقيل: كان مع جارية فظنها نامت، فقام إلى أخرى فشعرت به التي كان معها. فقامت مغضبة، فبعث إلى الخليع البصري [1] وأخبره بقصته فقال:
غضبت إذ زرت [2] أخرى خلسة ... فلها العتبى لدينا والرّضا
يا فدتك النفس كانت هفوة ... فاغفريها واصفحي عمّا مضى
واتركي العذل على من قاله ... وانسبي جوري إلى حكم القضا
فلقد نبّهتني من رقدتي ... وعلى قلبي كنيران الغضا [3]
__________
[1] هو الحسين بن الضحاك بن ياسر البصري الباهلي، أبو علي، شاعر من ندماء الخلفاء، قيل أصله من خراسان. ولد ونشأ في البصرة، وتوفي ببغداد. اتصل بالأمين العباسي ونادمه ومدحه. ولما ظفر المأمون خافه الخليع فانصرف إلى البصرة حتى صارت الخلافة للمعتصم.
فعاد ومدحه ومدح الواثق، ولم يزل مع الخلفاء إلى أيام المستعين. وهو شاعر ماجن مطبوع حسن الافتتان في ضروب الشعر وأنواعه. وبلغ سنا عالية يقال: إنه ولد في سنة (162) هـ ومات في سنة (250) . انظر «الأغاني» (7/ 146- 226) و «تاريخ بغداد» (8/ 54- 55) و «الأعلام» (2/ 239) .
[2] في «الأغاني» : «غضبت أن زرت أخرى» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «وعلى قلبي كيزان الفضا» والتصحيح من «الأغاني» والأبيات فيه (7/ 161) .

(3/151)


فاصطلحا وأجازه.
وكان الواثق شديد الاعتزال، وقام في أيام المحنة بخلق القرآن القيام الكلّي، وشدد على النّاس في ذلك، وكان سبب موته أن طبيبه ميخائيل [1] عبر عليه ذات يوم فقال له: يا ميخائيل ابغ لي دواء للباه. فقال يا أمير المؤمنين خف الله في نفسك، النكاح يهد البدن. فقال: لا بد من ذلك.
فقال: إذا كان ولا بد، فعليك بلحم السبع، اغله بالخلّ سبع غليات، وخذ منه ثلاثة دراهم على الشراب، وإيّاك أن تكثر منه تقع في الاستسقاء. ففعل الواثق ذلك، وأخذ منه فأكثر لمحبته في الجماع، فاستسقى بطنه فأجمع الأطباء أن لا دواء له إلّا أن يسجر له تنّور [2] بحطب الزيتون، وإذا ملئ جمرا نحى ما في جوفه وألقي فيه على ظهره، ويجعل تحته وفوقه الأشياء الرطب، ويودع فيه ثلاث ساعات، وإذا طلب ماء لم يسق، فإن سقي كان تلفه فيه. فأمر الواثق فصنع به كذلك، وأخرج من التّنّور وهو في رأي العين أنه احترق، فلما أصاب جسمه روح الهواء اشتد عليه، فجعل يخور كما يخور الثور، ويصيح: ردّوني إلى [3] التنور. فاجتمعت جواريه ووزيره محمد بن الزّيّات، فردوه إلى التّنّور، فلما ردوه إليه سكن صياحه وأخرج ميتا.
وقد عدت ميتته هذه من فضائل الإمام أحمد بن حنبل- رضي الله عنه- فإن المعتصم لما امتحنه للمقالة بخلق القرآن كان الواثق يقول له: لم لا تقول بمقالة أمير المؤمنين؟ قال: لأنها باطلة. قال: لئن كان ما تقوله أنت حقا أحرقني الله بالنّار، فما مات حتّى حرق بالنّار. انتهى ما قاله ابن الفرات ملخصا.
__________
[1] لم أقف على ذكر له فيما بين يدي من المصادر والمراجع.
[2] سجر التنور: أحماه. انظر «مختار الصحاح» ص (287) .
[3] لفظة «إلى» لم ترد في الأصل، وأثبتها من المطبوع.

(3/152)


سنة ثلاث وثلاثين ومائتين
فيها كما قال ابن الجوزي في «الشذور» رجفت دمشق رجفة شديدة من ارتفاع الضحى، أي إلى ثلاث ساعات كما قاله في «العبر» [1] فانتقضت منها البيوت وزالت الحجارة العظيمة، وسقطت عدة طاقات من الأسواق على من فيها فقتلت خلقا كثيرا، وسقط بعض شرفات الجامع، وانقطع ربع منارته، وانكفأت قرية من عمل الغوطة على أهلها فلم ينج منهم إلّا رجل واحد، واشتدت الزلازل على أنطاكية، والموصل، ووقع أكثر من ألفي دار على أهلها فقتلتهم، ومات من أهلها عشرون ألفا، وفقد من بستان أكثر من مائتي نخلة من أصولها فلم يبق لها أثر. انتهى.
وفيها توفي إبراهيم بن الحجّاج الشّاميّ المحدّث بالبصرة. روى عن الحمّادين وجماعة، وخرّج له النسائيّ.
وفيها حبّان بن موسى المروزيّ. سمع أبا حمزة السّكري، وأكثر عن ابن المبارك، وكان ثقة مشهورا.
وسليمان بن عبد الرحمن بن بنت شرحبيل، أبو أيوب التميميّ الشاميّ الحافظ، محدّث دمشق في صفر وله ثمانون سنة. سمع إسماعيل بن عيّاش ويحيى بن حمزة وطبقتهما، وعني بهذا الشأن، وكتب عمّن دبّ ودرج.
__________
[1] (1/ 413) والمؤلف ينقل عنه بتصرف.

(3/153)


وسهل بن عثمان العسكريّ الحافظ أحد الأئمة، توفي فيها أو في حدودها. روى عن شريك وطبقته.
وفيها القاضي أبو عبد الله محمد بن سماعة الفقيه ببغداد وقد جاوز المائة وتفقه على أبي يوسف، ومحمد، وروى عن اللّيث بن سعد، وله مصنفات واختيارات في المذهب، وكان ورده في اليوم والليلة مائتي ركعة.
وفيها الحافظ أبو عبد الله محمد بن عائذ الدمشقيّ الكاتب، صاحب المغازي والفتوح وغير ذلك من المصنفات المفيدة. روى عن إسماعيل بن عيّاش، والوليد بن مسلم، وخلق، وكان ناظر خراج الغوطة.
وفيها الوزير أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن الزّيّات وزر [1] للمعتصم، والواثق، والمتوكل. ثم قبض عليه المتوكل وعذّبه وسجنه حتّى هلك.
كان أديبا بليغا وشاعرا محسنا كامل الأدوات، جهميا.
قال ابن الأهدل: كان أول أمره كاتبا، فاتفق أنّ المعتصم سأل وزيره أحمد بن عمّار البصري عن الكلأ ما هو؟ فقال: لا أدري. فقال المعتصم:
خليفة أميّ ووزير عاميّ. انظروا من بالباب من الكتّاب؟ فوجدوا ابن الزّيّات، فسأله عن الكلأ، فقال: العشب على الإطلاق. فإن كان رطبا فهو الخلى، وإن كان يابسا فهو الحشيش، وشرع في تقسيم النبات. فاستوزره وارتفع شأنه.
وظلم واتخذ تنورا من حديد يحبس فيه المصادرين، فإذا سئل الرّحمة، قال:
الرّحمة خور [2] في الطبيعة. فأمسكه المتوكل في خلافته وأدخله التنور وقيّده بخمسة عشر رطلا من حديد، فافتقده بعد حين فوجده ميتا فيه.
__________
[1] في الأصل: «وزير» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[2] في الأصل، والمطبوع: «قال: الرحمة جور» وهو خطأ، والتصحيح من «غربال الزمان» للعامري ص (220) . قال ابن منظور: الخور، بالتحريك: الضعف ... ورجل خوّار:
ضعيف. «لسان العرب» (خور) .

(3/154)


وله ديوان شعر رائق. انتهى ملخصا.
وقال ابن الفرات: قال صالح بن سليمان العبديّ: كان ابن الزّيّات يتعشّق جارية فبيعت من رجل من أهل خراسان وأخرجها. قال: فذهل عقل محمد بن الزّيّات حتّى خشي عليه ثم أنشأ يقول:
يا طول ساعات ليل العاشق الدّنف ... وطول رعيته للنجم في السّدف
ماذا تواري ثيابي من أخي حرق ... كأنّما الجسم منه دقّة الألف
ما قال يا أسفي يعقوب من كمد ... إلا لطول الذي لاقى من الأسف
من سرّه أن يرى ميت الهوى دنفا ... فليستدلّ على الزّيّات وليقف [1]
وفيها يحيى بن أيوب المقابريّ [2] أبو زكريا البغداديّ العابد. أحد أئمة الحديث والسّنّة. روى عن إسماعيل بن جعفر وطبقته. توفي في ربيع الأول وله ست وسبعون سنة.
وفيها الإمام أبو زكريا يحيى بن معين البغداديّ الحافظ. أحد الأعلام وحجّة الإسلام في ذي القعدة بمدينة النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- متوجها إلى الحجّ، وغسل على الأعواد التي غسل عليها النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- وعاش خمسا وسبعين سنة. سمع هشيما، ويحيى بن أبي زائدة، وخلائق. وحدّث عنه الإمام أحمد، والشيخان.
وجاء عنه أنه قال: كتبت بيدي هذه ستمائة ألف حديث يعني بالمكرر.
وقال أحمد بن حنبل: كلّ حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس بحديث.
وقال ابن المديني: انتهى علم النّاس إلى يحيى بن معين.
__________
[1] الأبيات في «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (2/ 343) .
[2] نسبة إلى المقابر. انظر «اللباب» لابن الأثير (3/ 244) .

(3/155)


قال في «العبر» [1] : حديثه في الكتب الستة.
وقال ابن الأهدل: كان بينه وبين أحمد مودّة، واشتراك في طلب الحديث ورجاله، وقيل: لما خرج من المدينة إلى مكّة سمع هاتفا في النوم يقول: يا أبا زكريا أترغب عن جواري؟ فرجع وأقام بالمدينة ثلاثا ومات رحمه الله، وكان ينشد:
المال يذهب حلّه وحرامه ... طوعا [2] وتبقى في غد آثامه
ليس التّقيّ بمتّق لإلهه ... حتّى يطيب شرابه وطعامه
ويطيب ما تحوي [3] وتكسب كفّه ... ويكون في حسن الحديث كلامه
نطق النّبيّ لنا به عن ربّه ... فعلى النّبيّ صلاته وسلامه
__________
[1] (1/ 415) .
[2] كذا في الأصل، والمطبوع: «طوعا» وفي «تاريخ بغداد» (14/ 185) ، و «مرآة الجنان» (2/ 108) : «طرا» وفي «سير أعلام النبلاء» (11/ 94) ، و «غربال الزمان» . ص (218) :
«يوما» .
[3] في «سير أعلام النبلاء» ، و «مرآة الجنان» : «ما يحوي» .

(3/156)


سنة أربع وثلاثين ومائتين
قال في «الشذور» : هبّت ريح شديدة لم يعهد مثلها، فاتصلت نيفا وخمسين يوما وشملت بغداد، والبصرة، والكوفة، وواسط، وعبّادان، والأهواز، ثم إلى همذان، فأحرقت الزرع، ثم ذهبت إلى الموصل، فمنعت النّاس من الانتشار، وعطلت الأسواق. وزلزلت هراة حتّى سقطت الدور. انتهى.
وفيها توفي أحمد بن حرب النيسابوري الزّاهد الذي قال فيه يحيى بن يحيى: إن لم يكن من الأبدال فلا أدري من هم؟. رحل وسمع من ابن عيينة وجماعة، وكان صاحب غزو، وجهاد، ومواعظ، ومصنفات، في العلم.
وخرّج له النسائيّ.
قال في المغني [1] : عن ابن عيينة، له مناكير.
قال أبو حاتم: وكان صدوقا. انتهى.
وفيها الأمير إيتاخ [2] التّركيّ مقدّم الجيوش وكبير الدولة. خافه المتوكّل وعمل عليه بكلّ حيلة حتّى قبض له عليه نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم، وأميت عطشا، وأخذ له المتوكل من الذهب ألف ألف دينار.
وفيها الإمام أبو خيثمة زهير بن حرب النسائي [3] الحافظ ببغداد، في شعبان، وله أربع وسبعون سنة. رحل وكتب الكثير عن هشيم وطبقته،
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (1/ 36) .
[2] في الأصل: «انباخ» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3] تحرفت في الأصل والمطبوع إلى «الشيباني» والتصحيح من «الأنساب» (12/ 79) .

(3/157)


وصنف. وهو والد صاحب «التاريخ» أحمد بن أبي خيثمة.
قال ابن ناصر الدّين: زهير بن حرب بن شدّاد الحرشي [1] مولاهم النسائي أبو خيثمة، ثقة. انتهى.
وفيها أبو أيوب سليمان بن داود الشّاذكونيّ البصريّ الحافظ، الذي قال فيه صالح بن محمد: ما رأيت أحفظ منه. سمع حمّاد بن زيد وطبقته.
وكان آية في كثرة الحديث وحفظه ينظّر بعلي بن المديني، ولكنه متروك الحديث. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن ناصر الدّين: سليمان بن داود الشّاذكونيّ المنقريّ أبو أيوب، كان من كبار الحفاظ، لكنه اتهم بالكذب.
وقال البخاريّ: فيه نظر.
وقال ابن عدي: سألت عبدان عنه فقال: معاذ الله أن يتّهم، إنما كان قد ذهبت كتبه، وكان يحدّث حفظا. انتهى.
وفيها أبو جعفر النّفيليّ الحافظ، أحد الأعلام، عبد الله بن محمد بن عليّ بن نفيل الحرّانيّ، في ربيع الآخر، عن سن عالية. روى عن زهير بن معاوية والكبار.
قال أبو داود: لم أر أحفظ منه. قال: وكان الشّاذكوني لا يقر لأحد بالحفظ إلا للنّفيليّ.
وقال أبو حاتم: ثقة مأمون.
وقال محمد بن عبد الله بن نمير: كان النفيليّ رابع أربعة: وكيع، وابن المهدي، وأبو نعيم، وهو.
وفيها أبو الحسن بن بحر بن برّي القطّان البغداديّ الحافظ بناحية الأهواز. كتب الكثير عن عبد العزيز الدراوردي وطبقته.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «الحرثي» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (11/ 489) .
[2] (1/ 416- 417) .

(3/158)


وقال ابن ناصر الدّين: هو علي بن بحر بن برّي الفارسيّ البغداديّ.
روى عنه أحمد وغيره، ووثق. انتهى.
وفيها علي بن المديني، وهو الإمام أحد الأعلام، أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعديّ مولاهم البصريّ الحافظ، صاحب التصانيف. سمع من حمّاد بن زيد، وعبد الوارث، وطبقتهما.
قال البخاريّ: ما استصغرت نفسي عند أحد إلّا عند ابن المديني.
وقال أبو داود: ابن المديني أعلم باختلاف الحديث من أحمد بن حنبل.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخاصة بحديث سفيان بن عيينة.
توفي في ذي القعدة وله ثلاث وسبعون سنة.
وفيها محمد بن عبد الله بن نمير الحافظ أبو عبد الرّحمن الهمذانيّ الكوفيّ، أحد الأئمة، في شعبان. سمع أباه، وسفيان بن عيينة، وخلقا.
قال أبو إسماعيل الترمذي [1] : كان أحمد بن حنبل يعظّم محمد بن عبد الله بن نمير تعظيما عجيبا [2] .
__________
[1] في «العبر» : «القرمزي» وهو خطأ فيصحح فيه. وهو محمد بن إسماعيل بن محمد بن يوسف السلمي الترمذي أبو إسماعيل، من أهل بغداد، ترمذي الأصل، فقيه عالم ثقة صدوق مكثر من الحديث، مشهور بالطلب. رحل إلى الحجاز، ومصر. سمع محمد بن عبد الله الأنصاري، وأبا نعيم الفضل بن دكين، وقبيصة بن عقبة، وإسحاق بن محمد الفروي، وأيوب ابن سليمان بن بلال، وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وعارم ابن الفضل، وأبا صالح كاتب الليث، ويحيى بن عبد الله بن بكير، وأبا بكر عبد الله بن الزّبير الحميدي. وروى عنه أبو بكر بن أبي الدنيا، وموسى بن هارون، وجعفر بن محمد الفريابي، وأبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي وأخرجا عنه في كتابيهما، وأثنى عليه النسائي. وقال: محمد بن إسماعيل الترمذي خراساني ثقة. وقال غيره: كان فهما، متقنا، مشهورا بمذهب السنة، ومات في شهر رمضان سنة ثمانين ومائتين ودفن عند قبر الإمام أحمد ابن حنبل. عن «الأنساب» للسمعاني (3/ 47- 48) .
[2] في الأصل: «عجبا» وأثبت ما في المطبوع.

(3/159)


وقال علي بن الحسين بن الجنيد الحافظ: ما رأيت بالكوفة مثله، قد جمع العلم، والسّنّة، والزّهد، وكان فقيرا يلبس في الشتاء [1] لبّادة.
وقال ابن صالح المصري: ما رأيت بالعراق مثله ومثل أحمد بن حنبل جامعين، لم أر مثلهما بالعراق [2] .
وفيها محمد بن أبي بكر [3] بن علي بن عطاء بن مقدّم مولى ثقيف، الحافظ أبو عبد الله المقدّميّ البصريّ. توفي في أول السنة. روى عن حمّاد ابن زيد وطبقته.
وفيها المعافى بن سليمان الرّسعنيّ، محدّث رأس العين. روى عن فليح بن سليمان، وزهير بن معاوية، وكان صدوقا.
وفيها شيخ الأندلس يحيى بن يحيى بن كثير الفقيه، أبو محمد اللّيثيّ، مولاهم، الأندلسيّ في رجب. وله اثنتان وثمانون سنة. روى «الموطأ» عن مالك سوى فوت من الاعتكاف. وانتهت إليه رياسة الفتوى ببلده. وخرج له عدة أصحاب. وبه انتشر مذهب مالك بناحيته، وكان إماما كثير العلم، كبير القدر، وافر الحرمة، كامل العقل، خيّر النفس [4] كثير العبادة والفضل. كان يوما عند مالك فقدم فيل وخرج النّاس ينظرون إليه ولم يخرج، فقال له مالك: لم لا تخرج تنظره فإنه ليس ببلدك فيل؟ فقال: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم هديك وعلمك، فقال له: أنت عاقل الأندلس، رحمه الله تعالى.
__________
[1] في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (11/ 456) : «في الشتاء الشاتي» وانظر تتمة الخبر فيه.
[2] في المطبوع: «في العراق» .
[3] في الأصل، والمطبوع: «محمد بن بكير» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 419) وانظر «اللباب» لابن الأثير (3/ 247) ، و «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (203) .
[4] قوله: «خير النفس» لم يرد في «العبر» للذهبي المطبوع.

(3/160)


سنة خمس وثلاثين ومائتين
فيها كما قاله في «الشذور» : أمر المتوكل بأخذ أهل الذّمّة بلبس الطيالس العسلية والزنانير، وترك ركوب السروج، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين، وأن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين، ولا يعلّمهم مسلم.
وفي ذي الحجّة تغير ماء دجلة إلى الصفرة فبقي ثلاثة أيام، ففزع النّاس لذلك ثم صار في لون الورد. انتهى.
وفيها توفي إسحاق بن إبراهيم الموصليّ النديم، أبو محمد. كان رأسا في صناعة الطرب والموسيقا [1] أديبا، عالما، أخباريا، شاعرا، محسنا، كثير الفضائل. سمع من مالك وهشيم وجماعة، وعاش خمسا وثمانين سنة، وكان نافق السوق عند الخلفاء إلى الغاية، يعدّ من الأجواد. وثقه إبراهيم الحربي. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن الأهدل: كان المأمون يقول: لولا ما سبق لإسحاق من الشهرة بالغناء لوليته القضاء، فإنه أولى، وأعفّ، وأصدق، وأكثر دينا وأمانة من هؤلاء القضاة، لكن طعن فيه الخطابيّ كما نقله النواوي عنه وقال: إنه معروف بالسخف، والخلاعة، وإنه لما وضع كتابه في الأغاني وأمعن في تلك الأباطيل، لم يرض بما تزود من إثمها حتّى صدّر كتابه بذم أصحاب الحديث، وزعم أنهم يروون ما لا يدرون. انتهى.
__________
[1] في «العبر» للذهبي (1/ 420) : «كان رأسا في صناعة الأدب والموسيقى» .
[2] (1/ 420) .

(3/161)


وقال ابن الفرات: كان إسحاق- رحمه الله- من العلماء باللغة، والفقه، والكلام، والأشعار، وأخبار الشعراء، وأيام النّاس، وكان كثير الكتب، حتّى قال ثعلب: رأيت لإسحاق الموصلي ألف جزء من لغات العرب كلها سماعه، وما رأيت اللغة في منزل أحد أكثر منها في منزل إسحاق ثم منزل ابن الأعرابي، وهو صاحب كتاب «الأغاني» الذي يرويه عنه ابنه حمّاد، وقد روى عنه أيضا الزّبير بن بكّار، ومصعب بن عبيد الزّبيري، وأبو العيناء، وميمون بن هارون، وغيرهم.
وقال عون بن محمد الكلبي: حدثنا محمد بن عطية العطويّ الشاعر، أنه كان عند يحيى بن أكثم في مجلس له يجتمع النّاس فيه، فرآني إسحاق بن إبراهيم، فأخذ يناظر أهل الكلام حتّى انتصف منهم، ثم تكلم في الفقه فأحسن، وقاس، واحتج، وتكلم في الشعر واللغة، ففاق من حضر، فأقبل على يحيى وقال: أعزّ الله القاضي، أفي شيء مما ناظرت فيه وحكيته نقص أو مطعن؟ قال: لا.
وكان إسحاق قد عمي قبل وفاته بسنتين.
حدّث أبو عبد الله النديم قال: لقيت إسحاق بن إبراهيم الموصلي بعد ما كفّ بصره، فسألني عن أخبار النّاس والسلطان، فأخبرته.
ومن أخباره ما روي عنه أنه قال: أخبرني رجل من بني تميم أنه خرج في طلب ناقة له، قال: فوردت على ماء من مياه طيء فإذا خباءان أحدهما قريب من الآخر، وإذا في أحد الخباءين شاب كأنه الشّنّ [1] البالي، فدنوت منه فرأيت من حاله ما رثيت له، فسألته عن خبره؟ فأعلمني أنه عاشق لابنة عمّ له. وقد كان يأتيها فيتحدث معها، وقد منع من لقائها [2] فنحل لذلك جسمه وطال همّه، وأنشأ يقول:
__________
[1] قال ابن منظور: الشّنّ والشّنّة: الخلق من كل آنية صنعت من جلد. «لسان العرب» (شنن) .
[2] في المطبوع: «لقياها» .

(3/162)


ألا ما للخليلة [1] لا تعود ... أبخل بالخليلة [2] أم صدود
مرضت فعادني أهلي جميعا ... فما لك لم أر فيمن يعود
وما استبطأت غيرك فاعلميه ... وحولي من بني عمّي عديد
فلو كنت السقيمة جئت أسعى ... إليك ولم ينهنهني [3] الوعيد
قال: فسمعت كلامه الذي عناها به، فخرجت من ذلك الخباء كالبدر ليلة تمّه وهي تقول:
وعاق لأن أزورك يا خليلي ... معاشر كلّهم واش حسود
أشاعوا ما علمت من الدّواهي ... وعابونا وما فيهم رشيد
فلا يا حبّ ما طابت حياتي ... وأنت ممرّض فرد وحيد [4]
فتبادر النساء إليها وتعلقن بها، وأحس بها فوثب إليها، فتبادر الرجال نحوه فتعلقوا به، فجعلت تجذب نفسها والشاب يجذب نفسه حتّى تخلصا، فالتقيا واعتنقا، ثم شهقا شهقة واحدة وخرّا من قامتيهما متعانقين ميتين، فخرج شيخ من تلك الأخبية فوقف عليهما وقال: رحمكما الله، أما والله لئن لم أجمع بينكما في حياتكما لأجمعن بينكما بعد وفاتكما، ثم أمر بهما فغسلا وكفنا في كفن واحد، وحفر لهما قبرا واحدا ودفنهما فيه، فسألته عنهما؟
فقال: ابنتي وابن أخي، بلغ بهما الحب إلى ما رأيت، ففارقته وانصرفت.
ومن شعر إسحاق النديم- رحمه الله- ما كتبه إلى هارون الرشيد رحمه الله من أبيات:
أرى النّاس خلّان الجواد [5] ولا أرى ... بخيلا له في العالمين خليل
__________
[1] في المطبوع: «ما للحليلة» وهو تصحيف.
[2] في المطبوع: «بالحليلة» وهو تصحيف.
[3] في الأصل: «ولم ينهني» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. قال في «مختار الصحاح» ص (682) : نهنهه عن الشيء فتنهنه، أي كفّه وزجره فكفّ. والأبيات في «عيون الأخبار» (4/ 128) .
[4] الأبيات في «عيون الأخبار» (4/ 129) .
[5] في «الأغاني» : «خلان الكرام» .

(3/163)


وإني رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن يقال بخيل
ومن خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال شيئا [1] أن يكون ينيل [2]
عطائي عطاء المكثرين تكرّما ... ومالي كما قد تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل [3]
انتهى ما أورده ابن الفرات ملخصا.
وفيها الأمير إسحاق بن إبراهيم بن مصعب الخزاعيّ، ابن عم طاهر ابن الحسين. ولي بغداد أكثر من عشرين سنة، وكان يسمى صاحب الجسر، وكان صارما سايسا حازما، وهو الذي كان يطلب العلماء ويمتحنهم بأمر المأمون، مات في آخر السنة.
وفيها سريج بن يونس البغداديّ أبو الحارث، الجمّال [4] العابد، أحد أئمة أصحاب الحديث.
سمع إسماعيل بن جعفر وطبقته، وهو الذي رأى ربّ العزّة في المنام [5] . وهو جدّ أبي العبّاس بن سريج.
وفيها شيبان بن فروخ الأبلّي [6] وهو من كبار الشيوخ وثقاتهم. روى عن جرير بن حازم وطبقته.
قال عبدان: كان عنده خمسون ألف حديث.
__________
[1] في «الأغاني» : «إذا نال خيرا» .
[2] في الأصل: «نبيل» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «الأغاني» .
[3] في الأصل: «جليل» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني (5/ 322) والأبيات فيه عدا البيت الرابع. وانظر «وفيات الأعيان» (1/ 204) .
[4] كذا نعته المؤلف بالجمّال تبعا للذهبي في «العبر» وهو خطأ، فإن الجمّال لقب لسريع بن عبد الله الوسطي. انظر «الكاشف» للذهبي (1/ 275) طبع دار الكتب العلمية، و «تهذيب التهذيب» (3/ 459) .
[5] انظر قصة منامه في «سير أعلام النبلاء» (11/ 146) .
[6] في الأصل، والمطبوع: «الإيلي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 421) مصدر المؤلف. وانظر «الأنساب» (1/ 121) ، و «تقريب التهذيب» لابن حجر ص (269) .

(3/164)


وفيها أبو بكر بن أبي شيبة، وهو الإمام أحد الأعلام، عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ الكوفيّ، صاحب التصانيف الكبار، توفي في المحرم وله بضع وسبعون سنة. سمع من شريك فمن بعده.
قال أبو زرعة: ما رأيت أحفظ منه.
وقال أبو عبيد: انتهى علم الحديث إلى أربعة: أبي بكر بن أبي شيبة، أسردهم له، وابن معين، وهو أجمعهم له، وابن المديني، وهو أعلمهم به، وأحمد بن حنبل، وهو أفقههم فيه.
وقال صالح جزرة: أحفظ من رأيت عند المذاكرة أبو بكر بن أبي شيبة.
وقال نفطويه: لما قدم أبو بكر بن أبي شيبة بغداد في أيام المتوكل حزروا مجلسه بثلاثين ألفا.
قال ابن ناصر الدّين: كان ثقة عديم النظير.
وخرّج له الشيخان.
وفيها عبد الله بن عمر القواريريّ البصريّ الحافظ أبو سعيد ببغداد في ذي الحجة. روى عن حمّاد بن زيد وطبقته فأكثر.
وقال صالح جزرة: هو أعلم من رأيت بحديث أهل البصرة.
وقال ابن ناصر الدّين: هو عبيد الله [1] بن عمر بن ميسرة، ثقة.
وفيها، وقيل سنة ست وعشرين، أبو الهذيل العلّاف، محمّد بن هذيل بن عبيد الله البصريّ، شيخ المعتزلة، ورأس البدعة، وله نحو من مائة سنة. قاله في «العبر» [2] .
وكان يقول بفناء أهل النّار.
__________
[1] في الأصل: «عبد الله» وهو خطأ وأثبت ما في المطبوع.
[2] (1/ 422) .

(3/165)