شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة إحدى وأربعين
ومائتين
فيها على ما قاله في «الشذور» ماجت النجوم في السماء وجعلت تطاير شرقا
وغربا كالجراد من قبل غروب الشفق إلى قريب من الفجر، ولم يكن مثل هذا
إلّا عند ظهور رسول الله- صلى الله عليه وسلم- انتهى.
وفيها توفي في ثاني عشر ربيع الأول بكرة الجمعة، شيخ الأمة وعالم أهل
العصر، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الذّهليّ الشيبانيّ المروزيّ
ثم البغداديّ، أحد الأعلام ببغداد، وقد تجاوز سبعا وسبعين سنة بأيام،
وكان أبوه جنديا فمات شابّا أول طلب أحمد للعلم، في سنة تسع وسبعين
ومائة، فسمع أحمد من هشيم، وإبراهيم بن سعد، وطبقتهما. وكان شيخا أسمر
مديد القامة، مخضوبا، عليه سكينة ووقار، وقد جمع ابن الجوزي أخباره في
مجلد، وكذلك البيهقيّ، وشيخ الإسلام الهرويّ، وكان إماما في الحديث
وضروبه، إماما في الفقه ودقائقه، إماما في السّنّة ودقائقها [1] ،،
إماما في الورع وغوامضه، إماما في الزّهد وحقائقه. قاله في «العبر» [2]
.
وقال الحافظ عبد الغني في كتابه «الكمال في أسماء الرّجال» : أحمد ابن
محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيّان بن
__________
[1] في «العبر» للذهبي: «وطرائقها» .
[2] (1/ 435) .
(3/185)
عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن
شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط
بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة [1] بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد
بن عدنان الشيباني، أبو عبد الله. خرج من مرو حملا، وولد ببغداد، ونشأ
بها ومات بها، ورحل إلى الكوفة، والبصرة، ومكّة، والمدينة، واليمن،
والشام، والجزيرة.
وسمع من سفيان بن عيينة، وإبراهيم بن سعد، ويحيى بن سعيد القطّان،
وهشيم بن بشير، ومعتمر [2] بن سليمان، وإسماعيل بن عليّة، ووكيع ابن
الجرّاح، وعبد الرّحمن بن مهدي، وخلق.
وروى عنه عبد الرّزّاق بن همّام، ويحيى بن آدم، وأبو الوليد هشام بن
عبد الملك الطّيالسي، وأبو عبد الله محمد بن إدريس [3] الشّافعي،
والأسود ابن عامر شاذان، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وأكثر عنه في
«كتاب السنن» .
وروى الترمذيّ عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه.
وروى النسائي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عنه، وعن محمد بن عبد الله
عنه.
وروى ابن ماجة عن محمد بن يحيى الذّهلي عنه.
وإبراهيم الحربي، والأثرم [4] وأبو بكر أحمد المرّوذيّ [5] ، وعثمان بن
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «جذيلة» بالذال وهو تصحيف، والتصحيح من «جمهرة
أنساب العرب» لابن حزم ص (295) . وانظر «الأعلام» للزركلي (2/ 114) .
[2] في الأصل: «ومعمر» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. انظر
«تهذيب الكمال» (1/ 439) طبع مؤسسة الرسالة.
[3] تحرف في المطبوع إلى «محمد بن دربس» .
[4] هو أبو بكر أحمد بن محمد بن هاني الأثرم الطائي. انظر «تهذيب
الكمال» (1/ 440) طبع مؤسسة الرسالة.
[5] تحرفت في الأصل، والمطبوع إلى «المروزي» ، والتصحيح من «الأنساب»
للسمعاني
(3/186)
سعيد الدّارمي [1] ومحمد بن يحيى الذّهلي
النيسابوري، وخلق لا يحصون.
قال إبراهيم الحربي: أدركت ثلاثة لن يرى مثلهم أبدا، يعجز النساء أن
يلدن مثلهم، رأيت أبا عبيد القاسم بن سلّام ما أمثله إلّا بجبل نفخ [2]
فيه روح، ورأيت بشر بن الحارث ما شبّهته إلّا برجل عجن من قرنه إلى
قدمه عقلا، ورأيت أحمد بن حنبل، كأن الله- عز وجل- جمع له علم الأولين
من كل صنف، يقول ما شاء ويمسك ما شاء.
وعن الحسن بن العبّاس قال: قلت لأبي مسهر: هل تعرف أحدا يحفظ على هذه
الأمة أمر دينها؟ قال: لا أعلم إلّا شابا بالمشرق، يعني أحمد بن حنبل.
وقال قتيبة بن سعيد: لو أدرك أحمد بن حنبل عصر الثوري، والأوزاعي،
ومالك، واللّيث بن سعد، لكان هو المقدّم.
وقيل لقتيبة: يضم أحمد بن حنبل إلى التابعين؟ قال: إلى كبار التابعين.
وقال يحيى بن معين: دخلت على أبي عبد الله أحمد بن حنبل فقلت له:
أوصني، فقال: لا تحدّث المسند إلّا من كتاب [3] .
وقال علي بن المديني: قال لي سيدي أحمد بن حنبل: لا تحدّث إلا من كتاب.
وقال يوسف بن مسلم: قال حدّث الهيثم بن جميل بحديث عن جميل بحديث عن
هشيم فوهم فيه، فقيل له: خالفوك في هذا، فقال: من خالفني؟
قالوا: أحمد بن حنبل. قال: وددت أنه نقص من عمري وزيد في عمر أحمد ابن
حنبل.
(11/ 255) ، و «تهذيب الكمال» (1/ 440) طبع مؤسسة الرسالة.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «عمر بن سعيد الدارمي» وهو خطأ. والتصحيح من
«تهذيب الكمال» للمزي (1/ 441) .
[2] في الأصل: «ينفخ» وأثبت ما في المطبوع.
[3] يعني لا تحدّث الأحاديث بالإسناد إلا من كتاب.
(3/187)
وقيل لأبي زرعة: من رأيت من المشايخ
المحدّثين أحفظ؟ قال: أحمد ابن حنبل، حزر كتبه اليوم الذي مات فيه فبلغ
اثني عشر حملا وعدلا، ما على ظهر كتاب منها حديث فلان، ولا في بطنه
حدثنا فلان، وكل ذلك كان يحفظه من ظهر قلبه.
وروي عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل إمام الحفاظ أنه قال: إذا جاء
الحديث في فضائل الأعمال وثوابها وترغيبها تساهلنا في إسناده، وإذا جاء
الحديث في الحدود، والكفّارات، والفرائض، تشددنا فيه.
وقال إبراهيم بن شمّاس: خاض النّاس فقالوا: إن وقع أمر في أمة محمد-
صلى الله عليه وسلم- فمن الحجّة على وجه الأرض، فاتفقوا كلهم على أن
أحمد بن حنبل حجّة [1] . انتهى ما قاله في «الكمال» ملخصا.
وقال ابن الأهدل: كان أحمد من خواص أصحاب الشافعي، وكان الشافعيّ يأتيه
إلى منزله، فعوتب في ذلك فأنشد:
قالوا يزورك أحمد وتزوره ... قلت الفضائل لا تفارق منزله
إن زارني فبفضله أو زرته ... فلفضله فالفضل في الحالين له [2]
رضي الله عنهما.
وكان أحمد يحفظ ألف ألف حديث.
قال الرّبيع: كتب إليه الشّافعيّ من مصر، فلما قرأ الكتاب بكى، فسألته
عن ذلك فقال: إنه يذكر أنه رأى النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- وقال:
«اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل واقرأ عليه مني السّلام وقل له:
إنك ستمتحن على القول بخلق القرآن فلا تجبهم، نرفع لك علما إلى يوم
القيامة» .
قال الربيع: فقلت له: البشارة، فخلع عليّ قميصه وأخذت جوابه، فلما
__________
[1] في المطبوع: «حجته» .
[2] البيتان في «غربال الزمان» لليافعي ص (224) ولم أجدهما في «ديوانه»
المطبوع.
(3/188)
قدمت على الشافعيّ وأخبرته بالقميص قال: لا
نفجعك فيه [1] ولكن بلّه وادفع إليّ ماءه حتّى أكون شريكا لك فيه.
وكان يخضب بالحناء خضابا [2] ليس بالقاني.
وحزر من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين
ألفا، وأسلم يوم موته عشرون ألفا من اليهود، والنصارى، والمجوس.
وحكي عن إبراهيم الحربي قال: رأيت بشرا الحافي في النوم كأنه خارج من
مسجد الرّصافة وفي كمه شيء يتحرك، فقلت: ما هذا في كمك؟
فقال: نثر علينا لقدوم روح أحمد الدّر والياقوت، فهذا ما التقطته.
انتهى ما ذكره ابن الأهدل ملخصا.
وفيها توفي جبارة بن المغلّس الحمّانيّ الكوفيّ عن سن عالية. روى عن
شبيب بن شيبة [وأبي بكر] النهشلي [3] .
قال في «المغني» [4] : جبارة بن المغلّس شيخ ابن ماجة، واه.
قال ابن نمير: صدوق، كان يوضع له الحديث، يعني فلا يدري.
وقال البخاريّ: مضطرب الحديث.
قال أبو حاتم: وقال ابن معين: كذّاب. انتهى.
وفيها الحسن بن حمّاد الإمام أبو علي الحضرميّ البغداديّ سجّادة. روى
عن أبي بكر بن عيّاش وطبقته، وكان ثقة صاحب سنة وله حلقة وأصحاب.
وفيها أبو توبة [5] الحلبيّ، واسمه الرّبيع بن نافع الحافظ. سمع
__________
[1] في المطبوع: «لا نفجعك به» .
[2] لفظة «خضابا» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.
[3] في الأصل والمطبوع: «روى عن شبيب بن أبي شيبة النهشلي» وهو خطأ،
والتصحيح من «تهذيب الكمال» (4/ 489- 490) .
[4] (1/ 127) .
[5] في الأصل، والمطبوع: «أبو ثوبة» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر»
للذهبي (1/ 436) ، و «تقريب التهذيب» ص (207) .
(3/189)
معاوية بن سلّام، وشريكا، والكبار. وروى
عنه أحمد وغيره بلا واسطة، والشيخان بواسطة. كان أحد الثقات، ونزل
طرسوس، فكان شيخها وعالمها.
وعبد الله بن منير أبو عبد الرّحمن المروزيّ الزّاهد القانت، الذي قال
البخاريّ: لم أر مثله. روى عن يزيد بن هارون وطبقته، وكان ثقة.
ويعقوب بن حميد بن كاسب المحدّث مدني مشهور. نزل مكّة وروى عن إبراهيم
بن سعد وطبقته، وكان يكنى أبا يوسف. قواه البخاري، ووثقه ابن معين،
وضعفه جماعة.
وفيها عبيد الله بن سعيد [السّرخسيّ أبو قدامة اليشكريّ] [1] المولى
الرّضي، العلّامة الثقة. روى عنه الشيخان، والنسائي، وابن خزيمة. أظهر
السّنّة بسرخس ودعا إليها وحده.
وفيها الحسن بن إسحاق بن زياد، حسنويه [2] ، أحد الثقات. روى عنه
البخاريّ، والنسائيّ، وغيرهما.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
[2] في الأصل والمطبوع: «حسنونة» وهو خطأ، والتصحيح من «تهذيب الكمال»
(7/ 56) .
(3/190)
سنة اثنتين وأربعين
ومائتين
وفيها على ما قاله في «الشذور» رجمت قرية يقال لها: السويداء بناحية
مضر [1] بخمسة أحجار، فوقع حجر منها على خيمة أعرابي فاحترقت، وزن منها
حجر فكان عشرة أرطال، فحمل منها [2] أربعة إلى الفسطاط، وواحد إلى
تنّيس. وزلزلت الرّيّ، وجرجان، وطبرستان، ونيسابور، وأصبهان، وقم،
وقاشان، كلها في وقت واحد، وتقطعت جبال، ودنا بعضها من بعض، وسمع
للسماء والأرض أصوات عالية، وسار جبل كان باليمن عليه مزارع قوم إلى
مزارع قوم آخرين فوقف عليها، وزلزلت الدّامغان، فسقط نصفها على أهلها،
فهلك بذلك خمسة وعشرون ألفا، وسقطت بلدان كثيرة على أهلها، ووقع طائر
أبيض دون الرّخمة [3] وفوق الغراب على دلبة بحلب لسبع مضين من رمضان،
فصاح: يا معشر النّاس اتقوا الله، الله، الله، حتّى صاح أربعين صوتا،
ثم طار وجاء من الغد، فصاح أربعين صوتا، وكتب صاحب البريد بذلك وأشهد
خمسمائة إنسان سمعوه، ومات رجل في بعض كور الأهواز، فسقط طائر أبيض
فصاح بالفارسية وبالحورية: إن الله قد غفر لهذا
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «بناحية مصر» وهو تصحيف والتصحيح من «معجم
البلدان» (3/ 286) .
[2] لفظة «منها» لم ترد في المطبوع.
[3] قال الدميري في «حياة الحيوان الكبرى» (1/ 470) : الرخمة: طائر
أبقع يشبه النسر في الخلقة.
(3/191)
الميت ولمن شهده. انتهى ما ذكره ابن الجوزي
في «الشذور» .
وفيها توفي أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزّهري الفقيه، قاضي المدينة
ومفتيها، في رمضان، وله اثنتان وتسعون سنة. تفقه على مالك، وسمع منه
«الموطأ» ولزمه مدة، وسمع من جماعة، وكان ثقة.
قال الزّبير بن بكّار: مات وهو فقيه المدينة غير مدافع.
وفيها القاضي أبو حسّان الزّيادي، وهو الحسن بن عثمان، في رجب ببغداد،
وكان إماما، ثقة، أخباريا، مصنفا، كثير الاطلاع. سمع حمّاد ابن زيد
وطبقته.
قيل: إن الشّافعيّ نزل عليه ببغداد.
وفيها الحافظ أبو محمد الحسن بن علي الحلوانيّ الخلّال. سمع حسين بن
علي الجعفي وطبقته. كان محدّث مكّة. ثقة مكثرا.
قال إبراهيم بن أرومة: بقي اليوم في الدّنيا ثلاثة: محمد بن يحيى
الذّهلي بخراسان، وأحمد بن الفرات بأصبهان، والحسن بن عليّ الحلواني
بمكّة.
وفيها الإمام أبو عمرو عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان المقرئ إمام
جامع دمشق، قرأ على أيوب بن تميم، وسمع من الوليد بن مسلم وطائفة.
قال أبو زرعة الدمشقي: ما في الوقت أقرأ من ابن ذكوان.
وقال أبو حاتم: صدوق.
قال في «العبر» [1] : قلت: عاش سبعين سنة. انتهى.
وفيها الإمام الرّبّانيّ محمد بن أسلم الطّوسيّ الزّاهد، صاحب
__________
[1] (1/ 437) .
(3/192)
«المسند» و «الأربعين» ، وكان يشبّه في
وقته بابن المبارك. رحل وسمع الحديث من يزيد بن هارون، وجعفر بن عون
وطبقتهما. وروى عنه إمام الأئمة ابن خزيمة، وقال: لم تر عيناي مثله.
وقال غيره: كان يعد من الأبدال، وكان يقال له: ربّانيّ هذه الأمة.
قال ابن ناصر الدّين: قيل: إنه صلى عليه لما مات ألف ألف إنسان.
وفيها أبو عبد الله محمد بن رمح التّجيبيّ مولاهم المصريّ الحافظ في
شوّال. سمع اللّيث، وابن لهيعة.
قال النسائيّ: ما أخطأ في حديث واحد.
وقال ابن يونس: ثقة ثبت. كان أعلم الناس بأخبار بلدنا.
وفيها محمد بن عبد الله بن عمّار الموصليّ الحافظ أبو جعفر، صاحب
«التاريخ» و «علل الحديث» . سمع المعافي بن عمران، وابن عيينة،
وطبقتهما، وكان عبيد العجلي يعظم أمره ويرفع قدره.
قال النسائيّ: ثقة صاحب حديث.
قال في «المغني» [1] : ثقة، أساء أبو يعلى القول فيه. انتهى.
وفيها نوح بن حبيب [2] القومسيّ الحافظ. في رجب. روى عن عبد الله بن
إدريس، ويحيى القطّان، وطبقتهما، وكان ثقة صاحب سنّة.
وفيها يحيى بن أكثم القاضي، أبو محمد المروزيّ ثم البغداديّ، أحد
الأعلام، في آخر السنة بالرّبذة، منصرفا من الحج، وله بضع وسبعون
__________
[1] (2/ 598) .
[2] كذا في الأصل، و «العبر» للذهبي: «نوح بن حبيب» وهو الصواب، وفي
المطبوع، و «تقريب التهذيب» ص (566) بتحقيق الأستاذ الفاضل محمد
عوّامة: «نوح بن أبي حبيب» وهو خطأ فيصحح فيه. انظر «الأنساب» للسمعاني
(10/ 261) ، و «تهذيب الكمال» للمزي (3/ 1425) مصوّرة دار المأمون
للتراث، و «تهذيب التهذيب» (10/ 481) .
(3/193)
سنة. سمع جرير بن عبد الحميد وطبقته، وكان
فقيها مجتهدا مصنفا.
قال طلحة الشاهد: يحيى بن أكثم أحد أعلام الدّنيا، قائم بكل معضلة، غلب
على المأمون حتّى أخذ بمجامع [1] قلبه، وقلّده القضاء وتدبير مملكته،
وكانت الوزراء لا تعمل الشيء إلّا بعد مطالعته. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن الأهدل: كان سنيّ العقيدة، غلب على المأمون فقلّده القضاء
وتدبير مملكته، ثم عزله المعتصم بابن أبي دواد، ثم رده المتوكل وعزل
ابن أبي دواد، حتّى طابت عقائد أهل السّنّة، وكان يحيى كثير المزاح،
واختلف المحدّثون في توثيقه، ولي قضاء البصرة وهو ابن ثماني عشرة سنة،
وقال له المأمون: كم سنك؟ فقال: كعتّاب بن أسيد حين أمّره النّبيّ- صلى
الله عليه وسلم- على مكّة.
وسئل أحمد عما يذكر عنه من الهنات فأنكره إنكارا شديدا.
وله الأثر المحمود والمقام التام يوم نادى المأمون بتحليل المتعة،
فردّه بصريح النقل حتّى رجع واستغفر، ولما استدعاه المأمون للقضاء، نظر
إليه، وكان دميم الخلق، فعلم أنه استحقره، فقال: يا أمير المؤمنين،
سلني إن كان القصد عليّ لا خلقي، فسأله عن المسألة المعروفة
بالمأمونية، وهي أبوان وابنتان ولم تقسم التركة حتّى ماتت إحدى
البنتين، عمن في المسألة، فقال:
الميت الأول رجل أو امرأة، فقال له: إذا سألت عن الميت الأول فقد
عرفتها. انتهى ما قاله ابن الأهدل ملخصا.
قلت: لأن الميت الأول إن كان رجلا فالأب وارث في المسألة الثانية، لأنه
أبو أب، وإلّا فلا، لأنه أبو أم.
__________
[1] في الأصل: «بجامع» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع.
[2] (1/ 439) والمؤلف ينقل عنه بتصرف.
(3/194)
وروى أبو القاسم القشيريّ [1] ، رحمه الله
تعالى، في «الرسالة» [2] قال:
حكى أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن سعيد، قال: كان القاضي يحيى بن
أكثم صديقا لي، وكان يودني وأوده، فمات، فكنت أشتهي أن أراه في المنام،
فأقول له: ما فعل الله بك، فرأيته ليلة في المنام، فقلت: ما فعل الله
بك؟ فقال: غفر لي، إلّا أنه وبخني، ثم قال لي: يا يحيى خلّطت على نفسك
في دار الدّنيا. فقلت: يا رب اتكلت على حديث حدثني به أبو معاوية
الضّرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، إنك قلت: «إني لأستحي أن أعذّب
شيبة بالنّار» . فقال: قد عفوت عنك يا يحيى، وصدق نبيي، إلا أنك خلّطت
على نفسك في دار الدّنيا. انتهى كلامه.
وأكتم بالمثناة والمثلثة: العظيم البطن.
__________
[1] هو عبد الكريم بن هوازن النيسابوري، شيخ خراسان في عصره، المتوفي
سنة (465) هـ، وسوف ترد ترجمته في المجلد الخامس من كتابنا هذا إن شاء
الله تعالى.
[2] ص (327) ، وساق هذا النقل ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (6/ 163-
164) وفيه بعض الاختلاف.
(3/195)
سنة ثلاث وأربعين
ومائتين
وفيها توفي أبو عبد الله أحمد بن سعيد الرّباطيّ [الأشقر] [1] الحافظ
بنيسابور، وقيل: في سنة خمس أو ست وأربعين. سمع [وكيعا ورحل إلى عبد
الرزاق، وحدّث عنه الأئمة سوى ابن ماجة، وكان علّامة مفيدا متقنا.
وفيها أبو عبد الله أحمد بن عيسى المصريّ، المعروف بابن التّستريّ.
سمع ضمام بن إسماعيل و] [2] ابن وهب، ونزل بغداد.
وحدّث عنه الشيخان، والنسائي، وغيرهم.
قال في «المغني» [3] : عن ابن وهب، ثقة. كذّبه ابن معين، وقال
النسائيّ: لا بأس به. انتهى.
وفيها إبراهيم بن العبّاس الصوليّ البغداديّ، أحد الشعراء المجيدين [4]
والكتّاب المنشئين. كان موصوفا بالبلاغة والبراعة، وله ديوان مشهور فيه
أشياء بديعة.
قال دعبل: لو تكسّب إبراهيم بن العبّاس بالشعر لتركنا في غير شيء.
__________
[1] لفظة «الأشقر» لم ترد في الأصل، و «العبر» للذهبي مصدر المؤلف،
وأثبتها من المطبوع، وانظر «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 207) .
[2] ما بين حاصرتين سقط من «العبر» للذهبي فيستدرك فيه.
[3] «المغني في الضعفاء» (1/ 51) .
[4] في «العبر» : «المجودين» .
(3/196)
وقال ابن خلّكان [1] : وله ديوان شعر كله
نخب، وهو صغير، ومن رقيق شعره:
دنت بأناس عن تناء زيارة ... وشطّت [2] بليلى عن دنوّ مزارها
وإنّ مقيمات بمنعرج اللّوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها [3]
وله نثر بديع، فمن ذلك ما كتبه عن أمير المؤمنين، إلى بعض البغاة
الخارجين يتهددهم ويتوعدهم، وهو:
أما بعد: فإن لأمير المؤمنين أناة، فإن لم تغن عقّب بعدها وعيدا، فإن
لم يغن أغنت عزائمه، والسلام.
وهذا الكلام مع وجازته في غاية الإبداع، فإنه ينشأ منه بيت شعر وهو:
أناة فإن لم تغن عقّب بعدها ... وعيدا فإن لم يغن أغنت عزائمه
وكان يقول: ما اتكلت في مكاتبتي [قطّ] [4] إلّا على ما يجلبه خاطري،
ويجيش به صدري. انتهى ما قاله ابن خلّكان ملخصا.
وفيها الزّاهد الناطق بالحكمة: الحارث بن أسد المحاسبيّ، صاحب المصنفات
في التصوف والأحوال. روى عن يزيد بن هارون وغيره.
قال ابن الأهدل: كان أحد الخمسة الجامعين بين العلمين في واحد:
هو، والجنيد، وأبو محمد، وأبو العبّاس بن عطاء، وعمرو بن عثمان المكي.
وله مصنفات نفيسة في السلوك والأصول، ولم يأخذ من ميراث أبيه شيئا لأن
أباه كان قدريّا.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (1/ 44) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «وشطّ» .
[3] البيتان في «وفيات الأعيان» وعزاهما محققه الأستاذ الدكتور إحسان
عبّاس إلى «ديوانه» ص (145) .
[4] زيادة من «وفيات الأعيان» .
(3/197)
ومن قوله: فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع
الصيانة، وحسن القول مع الأمانة [1] ، وحسن الإخاء مع الوفاء. وهو أحد
شيوخ الجنيد. انتهى.
وفيها الفقيه أبو حفص حرملة بن يحيى التّجيبيّ المصريّ الحافظ، مصنف
«المختصر» و «المبسوط» وغيرهما. روى عن ابن وهب مائة ألف حديث، وتفقه
بالشّافعيّ، وخرّج له مسلم، والنسائي.
قال في «المغني» [2] : هو شيخ مسلم، صدوق، يغرب.
قال أبو حاتم: لا يحتج به.
وقال عبد الله بن محمد الفرهياني [3] : ضعيف.
وقال ابن عدي: قد تبحرت في حديثه وفتشته الكثير، فلم أجد له ما يضعف من
أجله. انتهى.
وقال الإسنوي: حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة المصريّ التّجيبيّ
نسبة إلى تجيب [4] بتاء مثناة من فوق مضمومة، وقيل: مفتوحة، ثم جيم
بعدها ياء بنقطتين من تحت ثم موحدة، وهي قبيلة نزلت بمصر وأصلها اسم
امرأة.
كان حرملة إماما حافظا للحديث والفقه، صنف «المبسوط» و «المختصر»
المعروف به. ولد سنة ست وستين ومائة، وتوفي في شوال سنة ثلاث وأربعين
ومائتين. انتهى ملخصا.
__________
[1] كذا في الأصل، والمطبوع، و «مرآة الجنان» (2/ 143) : «مع الأمانة»
، وفي «غربال الزمان» ص (226) : «مع الإصابة» .
[2] «المغني في الضعفاء» (1/ 153) .
[3] ويقال: الفرهاذاني، نسبة إلى «فرهاذان» من قرى نسا بخراسان. انظر
«معجم البلدان» لياقوت (4/ 258) ، و «اللباب» لابن الأثير (2/ 427) .
[4] في المطبوع: «تجنيب» وهو خطأ، وانظر «معجم البلدان» لياقوت (2/ 16)
، و «اللباب» لابن الأثير (1/ 207) .
(3/198)
وفيها عبد الله بن معاوية الجمحيّ البصريّ
وقد نيّف على المائة.
روى عن القاسم بن الفضل الحدّانيّ، والحمّادين، وكان ثقة صاحب حديث.
وفيها عقبة بن مكرم أبو عبد الملك العمّيّ البصريّ الحافظ. روى عن غندر
[1] وطبقته، وكان ثبتا حجة.
ومات قبله بأعوام [2] عقبة بن مكرم الضّبّيّ الكوفيّ. روى عن ابن
عيينة، ويونس بن بكير، ولم تقع له رواية في شيء من الكتب الستة.
وفيها محمد بن يحيى بن أبي عمر، أبو عبد الله العدنيّ الحافظ، صاحب
«المسند» بمكة، في آخر السنة. روى عن الفضيل بن عياض، والدّراوردي،
وخلق. وكان عبدا صالحا، خيرا.
وقال مسلم، وغيره: هو حجة صدوق.
وفيها هارون بن عبد الله الحافظ أبو موسى البغداديّ البزّاز المعروف
بالحمّال. رحل وسمع عبد الله بن نمير، وابن أبي فديك، وطبقتهما.
قيل: إنه تزهد وصار يحمل بأجرة يتقوت بها.
وفيها هنّاد بن السّريّ، الحافظ الزّاهد القدوة أبو السّريّ الدّارميّ
الكوفيّ، صاحب كتاب «الزّهد» . روى عن شريك، وإسماعيل بن عيّاش،
وطبقتهما فأكثر، وجمع، وصنف.
وروى عنه [3] أصحاب الكتب الستة إلّا البخاري [3] .
__________
[1] تحرفت في «العبر» للذهبي (1/ 441) إلى «عبيد» فتصحح فيه.
[2] وجزم الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (12/ 179) بأنه مات سنة أربع
وثلاثين ومائتين.
[3] في الأصل: «وروي عن» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
قال الحافظ المزي في «تهذيب الكمال» (3/ 1450) مصورة دار المأمون
للتراث بدمشق:
روى عنه البخاري في «أفعال العباد» والباقون، يعني من أصحاب الكتب
الستة.
(3/199)
وفيها أبو همّام الوليد بن شجاع السّكونيّ
الحافظ الكوفيّ. سمع شريكا، وابن جعفر، وطبقتهما.
قال في «المغني» [1] : ثقة مشهور.
قال أبو حاتم: لا يحتج به. انتهى.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (2/ 722) .
(3/200)
سنة أربع وأربعين
ومائتين
فيها على ما قاله في «الشذور» اتفق عيد الأضحى، وعيد الفطير لليهود،
وشعانين النصارى.
وفيها توفي أحمد بن منيع الحافظ الكبير أبو جعفر البغويّ الأصم، صاحب
«المسند» ببغداد في شوال. سمع هشيما وطبقته، وهو جد أبي القاسم البغوي
لأمه.
وقد خرّج له الجماعة، لكن البخاري بواسطة واحد، وكان أحد الثقات
المشهورين.
وإبراهيم بن عبد الله الهرويّ الحافظ ببغداد في رمضان. روى عن إسماعيل
بن جعفر، وكان من أعلم الناس بحديث هشيم، وكان صوّاما، عابدا، تقيا.
قال في «المغني» [1] : إبراهيم بن عبد الله الهرويّ شيخ الترمذي.
قال النسائي: ليس بالقويّ.
وقال أبو داود: ضعيف، وقد وثق. انتهى.
وفيها إسحاق بن موسى الأنصاري الخطميّ المدنيّ ثم الكوفيّ، أبو موسى،
قاضي نيسابور. روى عن ابن عيينة وطبقته. أطنب أبو حاتم الرّازي
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (1/ 17) .
(3/201)
في الثناء عليه، وكان كثير الأسفار، فتوفي
بجوسية [1] من أعمال حمص.
والحسن بن شجاع أبو علي البلخيّ الحافظ، أحد أركان الحديث في شوال
كهلا، ولم ينتشر [2] حديثه. سمع عبيد الله بن موسى وطبقته، روى
الترمذيّ عن رجل عنه.
قال ابن ناصر الدّين: الحسن بن شجاع بن رجاء البلخيّ أبو علي.
روى عنه البخاريّ، وغيره، وكان من نظراء أبي زرعة، لكن لم يشتهر لموته
كهلا قبل أوان السماع. انتهى.
وفيها أبو عمّار الحسين بن حريث المروزيّ الحافظ. سمع جرير بن عبد
الحميد وطبقته ولم يرحل [3] .
وحمدويه، وهو حميد بن مسعدة بن المبارك السّاميّ البصريّ الثقة، قرأ
وأقرأ، وسمع وحدّث. روى عنه أصحاب الكتب الستة إلّا البخاري [4] .
وفيها عبد الحميد بن بيان الواسطيّ. روى عن خالد الطحّان، وهشيم فأكثر
[5] .
وفيها عليّ بن حجر الحافظ الإمام أبو الحسن السّعديّ المروزيّ، نزيل
نيسابور في جمادى الأولى وله نحو من تسعين سنة. روى عن إسماعيل ابن
جعفر، وشريك، وخلق، وكان من الثقات الأخيار.
ومحمد بن أبان أبو بكر المستمليّ، مستملي وكيع، لقي ابن عيينة، وابن
وهب، والكبار.
__________
[1] أنظر خبرها في «معجم البلدان» لياقوت (2/ 185) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «ولم ينشر» وما أثبته من «العبر» للذهبي مصدر
المؤلف.
[3] انظر ترجمته في «تهذيب الكمال» للمزي (6/ 358- 361) ، و «سير أعلام
النبلاء» للذهبي (11/ 400- 401) .
[4] انظر ترجمته في «تهذيب الكمال» للمزي (7/ 395- 397) .
[5] انظر ترجمته في «تهذيب الكمال» للمزي (2/ 765) مصورة دار المأمون
للتراث بدمشق.
(3/202)
وفيها أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن
أبي الشوارب الأمويّ البصريّ في جمادى الأولى. سمع أبا عوانة وطبقته،
وكان صاحب حديث.
ولي القضاء جماعة من أولاده.
وفيها يعقوب بن السّكّيت، النحويّ، أبو يوسف البغدادي، صاحب كتاب
«إصلاح المنطق» و «تفسير دواوين الشعراء» وغير ذلك. سبق أقرانه في
الأدب مع حظ وافر في السنن والدّين، وكان قد ألزمه المتوكل تأديب ابنه
المعتز، فلما جلس عنده، قال له: يا بني بأي شيء يحب الأمير أن يبتدئ من
العلوم. قال: بالانصراف، قال ابن السّكّيت: فأقوم. قال المعتز: أنا أخف
نهوضا منك، فقام المعتز مسرعا، فعثر بسراويله فسقط، فالتفت خجلا، فقال
ابن السّكّيت:
يصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرّجل
فعثرته بالقول تذهب رأسه ... وعثرته بالرّجل تبرا [1] على مهل [2]
فلما كان من الغد دخل على المتوكل، فقال له: قد بلغني البيتان، وأمر له
بخمسين ألف درهم.
وقال أحمد بن محمد بن شدّاد: شكوت إلى ابن السكيت ضائقة فقال:
هل قلت شيئا؟ قلت: لا. قال: فأقول: أنا، ثم أنشد:
نفسي تروم أمورا لست أدركها ... ما دمت أحذر ما يأتي به القدر
ليس ارتحالك في كسب الغنى سفرا ... لكن مقامك في ضرّ هو السّفر
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «تبرئ» ، والتصويب من مصادر التخريج.
[2] البيتان في «وفيات الأعيان» لابن خلّكان (6/ 399) ، و «سير أعلام
النبلاء» للذهبي (12/ 19) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 148) ، و
«غربال الزمان» للعامري ص (228) ، وفي رواية البيتين بعض الخلاف في كل
من «الوفيات» و «السير» .
(3/203)
وقال ابن السّكّيت: كتب رجل إلى صديق له:
قد عرضت لي قبلك حاجة، فإن نجحت فألفاني منها حظي والباقي حظك، وإن
تعذرت فالخير مظنون بك والعذر مقدم لك، والسلام.
وكان ابن السّكّيت يوما عند المتوكل، فدخل عليه ابناه المعتز، والمؤيد،
فقال له: يا يعقوب! أيّما أحبّ إليك، ابناي هذان، أم الحسن والحسين؟
فغض [1] من ابنيه، وذكر محاسن الحسن والحسين، فأمر المتوكل الأتراك
فداسوا بطنه، وحمل إلى داره فمات من الغد.
وروي أنه قال له: والله إن قنبرا خادم عليّ خير منك ومن ابنيك، فأمر
بسلّ لسانه من قفاه، رحمه الله ورضي عنه.
ويقال: إنه حمل ديته إلى أولاده.
__________
[1] في الأصل: «فغضب» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
(3/204)
سنة خمس وأربعين
ومائتين
فيها كما قاله في «الشذور» زلزلت بلاد المغرب حتّى تهدمت الحصون،
والمنازل، والقناطر، فأمر المتوكل بتفرقة ثلاثة آلاف ألف درهم في الذين
أصيبوا بمنازلهم، وكانت بأنطاكية زلزلة ورجفة قتلت خلقا كثيرا وسقط
منها ألف وخمسمائة دار، ووقع من سورها نيّف وتسعون برجا، وسمع أهلها
أصواتا هائلة لا يحسنون وصفها، فتركوا المنازل وهرب الناس إلى الصحراء،
وسمع أهل تنّيس [1] صيحة عالية دامت، فمات منها خلق كثير، وذهبت جبلة
بأهلها. انتهى.
وفيها توفي أحمد بن عبدة الضّبيّ بالبصرة. سمع حمّاد بن زيد، والكبار.
وروى الكثير.
وإسحاق بن أبي إسرائيل إبراهيم بن كامجرا [2] المروزيّ الحافظ، في
شوّال ببغداد وله خمس وتسعون سنة. سمع حمّاد بن زيد وطبقته، وكان من
كبار المحدّثين.
__________
[1] في «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي (2/ 319) : «بلبيس» ، وانظر
هذا الخبر فيه فإن فيه بعض الزيادة.
[2] كذا في الأصل، والمطبوع، و «العبر» للذهبي، و «تهذيب التهذيب» (1/
223) ، و «تقريب التهذيب «ص (100) : «كامجرا» ، وفي «تهذيب الكمال» (2/
398) طبع مؤسسة الرسالة، و (1/ 81) مصورة دار المأمون للتراث، و «سير
أعلام النبلاء» للذهبي (11/ 476) : «كامجر» .
(3/205)
قال ابن ناصر الدّين: هو ثقة لكن تكلّم
فيه. انتهى.
وفيها إسماعيل بن موسى الفزاريّ الكوفيّ الشيعيّ المحدّث، ابن بنت
السّدّي. روى عن مالك وطبقته، وروى عن عمر بن شاكر عن أنس بن مالك.
وخرّج له أبو داود، والترمذي، وغيرهما.
قال في «المغني» [1] : إسماعيل بن موسى الفزاريّ السّدّيّ يترفّض، وقال
أبو داود: يتشيع. انتهى.
وفيها ذو النّون المصريّ أبو الفيض ثوبان، ويقال: الفيض بن إبراهيم،
أحد رجال الطريقة، وواحد وقته. كان أبوه نوبيّا، سعي به إلى المتوكل
فسجنه، وأهدي له طعام في السجن فكرهه لكون السجان حمله بيده.
ولما أطلق اجتمع عليه الصوفية ببغداد في الجامع واستأذنوه في السماع،
وحضر حضرته القوّال، فأنشد:
صغير هواك عذّبني ... فكيف به إذا احتنكا
وأنت جمعت من قلبي ... هوى قد كان مشتركا [2]
فتواجد ذو النون، وسقط فانشج [3] رأسه، وقطر منه دم، ولم يقع على
الأرض، فقام شابّ يتواجد، فقال له ذو النّون: الذي يراك حين تقوم، فقعد
الشاب.
قال بعضهم: كان ذو النون صاحب إسراف، والشاب صاحب إنصاف.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (1/ 88) .
[2] البيتان مع الخبر في «غربال الزمان» ص (229) .
[3] في «غربال الزمان» : «وانشدخ» .
(3/206)
ومن كلامه: علامة محب الله متابعة الرّسول
في كل ما أمر به.
قال السيوطي في كتاب «حسن المحاضرة» [1] : ذو النون المصري، ثوبان بن
إبراهيم، أبو الفيض، أحد مشايخ الطريق المذكورين في رسالة القشيري، وهو
أول من عبّر عن علوم المنازلات، وأنكر عليه أهل مصر، وقالوا: أحدثت [2]
علما لم تتكلم فيه الصحابة، وسعوا به إلى الخليفة المتوكل، ورموه عنده
بالزندقة، وأحضروه من مصر على البريد، فلما دخل سرّ من رأى، وعظه، فبكى
المتوكل، وردّه مكرّما. وكان مولده بإخميم [3] .
وحدّث عن مالك، واللّيث، وابن لهيعة. وروى عنه الجنيد، وآخرون. وكان
أوحد وقته علما، وورعا، وحالا، وأدبا، مات في ذي القعدة سنة خمس
وأربعين ومائتين، وقد قارب التسعين.
قال السّلميّ: كان أهل مصر يسمونه بالزّنديق، فلما مات أظلّت الطير
الخضر جنازته ترفرف عليه إلى أن وصل إلى قبره. انتهى ما ذكره السيوطي.
وفيها سوّار بن عبد الله بن سوّار التميميّ العنبريّ البصريّ، أبو عبد
الله [قاضي الرّصافة ببغداد. روى عن يزيد بن زريع وطبقته.
قال في «المغني» [4] : سوّار بن عبد الله] [5] بن قدامة العنبريّ ليس
بشيء. انتهى.
وكان من الشعراء المجيدين.
__________
[1] (1/ 511- 512) .
[2] في المطبوع: «حدثت» وهو خطأ، وفي «حسن المحاضرة» : «أحدث» .
[3] قال ياقوت: إخميم بلد ... على شاطئ النيل بالصعيد، وفي غربيّه جبل
صغير، من أصغى إليه بأذنيه سمع خرير الماء، ولغطا شبيها بكلام
الآدميين، لا يدرى ما هو، وبإخميم عجائب كثيرة قديمة، منها البراني
وغيرها، والبراني أبنية عجيبة فيها تماثيل وصور، واختلف في بانيها.
وانظر تتمة كلامه فيه (1/ 123- 124) .
[4] «المغني في الضعفاء» (1/ 289) .
[5] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
(3/207)
ودحيم الحافظ الحجّة، أبو سعيد عبد الرّحمن
بن إبراهيم الدمشقي، قاضي فلسطين والأردن، وله خمس وسبعون سنة. سمع ابن
عيينة، والوليد ابن مسلم، وطبقتهما. وروى عنه البخاريّ وغيره.
قال أبو داود: لم يكن في زمانه مثله.
وفيها أبو تراب النّخشبيّ [1] العارف، واسمه عسكر بن الحصين، من كبار
مشايخ القوم، صحب حاتم الأصم وغيره.
قال السخاويّ في «طبقاته» : عسكر بن حصين أبو تراب النّخشبيّ، ويقال:
عسكر بن محمد بن حصين، أحد فتيان خراسان، والمذكورين بالأحوال السنية
الرفيعة، وأحد علماء هذه الطائفة، صحب حاتم الأصم حتّى مات، ثم خرج إلى
الشّام، وكتب الحديث الكثير، ونظر في كتب الشافعي، ثم نزل مكّة، ثم كان
يخرج إلى عبّادان، والثغر، ويرجع إلى مكّة، ومات بين المسجدين، ودخل
البصرة وتزوج بها، وصحب شقيقا البلخي.
قال أبو تراب: من كان غناه بماله لم يزل فقيرا، ومن كان غناه في قلبه
لم يزل غنيا، ومن كان غناه بربه فقد قطع عنه اسم الفقر والغنى، لأنه
دخل في حيز ما لا وصف له.
وقال ابن الجلاء [2] : قال أبو تراب: إذا ألفت القلوب الإعراض عن الله
صحبتها الوقيعة في الأولياء.
وقال: أشرف القلوب قلب حيّ بنور الفهم عن الله عز وجل.
وقال: ليس في العبادات شيء أنفع من إصلاح خواطر القلوب.
__________
[1] نسبة إلى نخشب من مدن ما وراء النهر بين جيحون، وسمرقند. انظر
«معجم البلدان» لياقوت (5/ 276) ، و «اللباب» لابن الأثير (3/ 303) .
[2] هو أبو عبد الله أحمد بن يحيى بن الجلاء، كان أصله من بغداد، وأقام
بالرّملة، ودمشق، وكان من جلّة مشايخ الشام. مات سنة (306) هـ. انظر
«طبقات الصوفية» للسلمي ص (176- 179) ، و «البداية والنهاية» لابن كثير
(11/ 129) .
(3/208)
وقال: إن الله ينطق العلماء في كل زمان بما
يشاكل [1] أعمال ذلك الزمان.
وقال: من أشغل مشغولا بالله عن الله، أدركه المقت من ساعته.
دخل بغداد مرّات، واجتمع بالإمام أحمد بن حنبل، فجعل الإمام أحمد يقول:
فلان ضعيف، فلان ثقة، فقال له أبو تراب: لا تغتب العلماء، فالتفت إليه
الإمام أحمد وقال له: ويحك هذا نصيحة ليس هذا غيبة. انتهى ما ذكره
السخاويّ ملخصا.
وفيها محمد بن رافع أبو عبد الله القشيريّ مولاهم النيسابوريّ الحافظ.
سمع ابن عيينة، ووكيعا، وخلائق. وروى عنه الشيخان، وغيرهما، وكان ثقة،
زاهدا، صالحا، قد أرسل إليه عبد الله بن طاهر [2] نوبة خمسة آلاف درهم،
فردّها، ولم يكن لأهله يومئذ خبز.
وفيها محمد بن هشام التميميّ السعديّ.
قال ابن الأهدل: كان ممدوحا بالحفظ وحسن الرّويّة.
قال مؤرّج [3] : أخذ منّي كتابا فحبسه ليلة ثم جاء به وقد حفظه.
وقال له سفيان بن عيينة: لا أراك تخطئ شيئا مما تسمع، ثم قال له:
حدّثني الزّهري عن عكرمة، عن ابن عبّاس أنه قال: يولد في كل سبعين سنة
__________
[1] في المطبوع: «بما يشاء كل» وهو خطأ.
[2] وكان أميرا لخراسان، ومن أشهر الولاة في العصر العباسي، مات سنة
(230) هـ. انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (4/ 93- 94) .
[3] في الأصل، والمطبوع: «مؤرخ» وهو تصحيف، وهو مؤرّج بن عمرو بن
الحارث.
السّدوسي، أبو فيد، عالم بالعربية والأنساب، من أعيان أصحاب الخليل بن
أحمد الفراهيدي، من أهل البصرة، كان له اتصال بالمأمون العباسي، ورحل
معه إلى خراسان، فسكن مدة بمرو، وانتقل إلى نيسابور. من كتبه «جماهير
القبائل» ، و «حذف من نسب قريش» و «غريب القرآن» و «كتاب الأمثال» ، و
«المعاني» . مات سنة (195) هـ. انظر «الأعلام» (7/ 318) .
(3/209)
من يحفظ كل شيء. قال: وضرب بيده على جنبي
وقال: أراك منهم.
انتهى [1] .
وفيها هشام بن عمّار الإمام أبو الوليد السّلميّ، خطيب دمشق، وقارئها،
وفقيهها، ومحدّثها في سلخ المحرم، عن سنتين وتسعين سنة. روى عن مالك
وطبقته، وقرأ على عراك، وأيوب بن تميم عن قراءتهما على يحيى الذّماري
صاحب ابن عامر.
قال في «المغني» [2] : هشام بن عمّار، خطيب دمشق ومقرئها، ثقة مكثر، له
ما ينكر.
قال أبو حاتم: صدوق وقد تغير، فكان كلما لقنه تلقّن.
وقال أبو داود: حدّث بأربعمائة حديث لا أصل لها.
وقال ابن معين: ثقة.
وقال مرّة: كيّس كيّس.
وقال النسائي: لا بأس به.
وقال الدارقطني: صدوق كبير المحل [3] .
وقال صالح جزرة: كان يأخذ على الرّواية. انتهى كلام «المغني» .
__________
[1] انظر «غربال الزمان» للعامري ص (229) .
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 711) .
[3] في الأصل: «كثير المحل» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
(3/210)
|