شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة ست وأربعين
ومائتين
فيها كما قاله في «الشذور» مطرت سكّة ببلخ دما عبيطا [1] .
وفيها توفي أحمد بن إبراهيم بن كثير أبو عبد الله العبديّ البغداديّ
الدّورقيّ [2] الحافظ الثقة. سمع جرير بن عبد الحميد وطبقته، وصنف
التصانيف الحسنة المفيدة.
وفيها أحمد بن أبي الحواري الزّاهد الكبير، أبو الحسن الدّمشقيّ [3] .
سمع أبا معاوية وطبقته، وكان من كبار المحدّثين والصوفية، وأجلّ أصحاب
أبي سليمان الدّاراني، وله كلام في الحقائق، منه: ما ابتلى الله عبدا
بشيء أشد من القسوة والغفلة.
وقالت له زوجته رابعة الشامية: أحبك حب الإخوان لا حب الأزواج.
وكانت زوجته أيضا من كبار الصالحات الذاكرات، وكانت تطعمه الطيّب
وتطيّبه وتقول: اذهب بنشاطك إلى أهلك، وتقول عند تقريبها الطعام إليه:
كل فما نضج إلّا بالتسبيح. وتقول إذا قامت من الليل:
__________
[1] ذكر ابن تغري بردي هذا الخبر في «النجوم الزاهرة» (2/ 322) برواية
أخرى.
[2] انظر «تهذيب الكمال» للمزي (1/ 249- 251) طبع مؤسسة الرسالة.
[3] انظر «طبقات الصوفية» ص (98- 102) ، و «تهذيب الكمال» للمزي (1/
369- 375) .
(3/211)
قام المحبّ إلى المؤمّل قومة ... كاد
الفؤاد من السّرور يطير [1]
وقال السخاويّ في «طبقات الأولياء» : أحمد بن أبي الحواري، كنيته أبو
الحسن، وأبو الحواري، اسمه ميمون من أهل دمشق، صحب أبا سليمان
الدّاراني، وسفيان بن عيينة، وأبا عبد الله النياحي، وغيرهم، وله أخ
يقال له:
محمد، يجري مجراه في الزّهد والوّرع، وابنه عبد الله بن أحمد بن أبي
الحواري من الزّهاد، وأبو أيضا كان من العارفين والورعين، فبيتهم بيت
الوّرع والزّهد، ومن كلامه: من عمل بلا اتّباع سنة فعمله باطل.
وقال: إني لأقرأ القرآن فأنظر في آية آية، فيحار عقلي وأعجب من حفّاظ
القرآن كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بتدبير الدّنيا وهم يتلون
كلام الرّحمن، أما لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه، وتلذذوا به،
واستحلوا المناجاة به، لذهب عنهم النوم فرحا بما رزقوا ووفّقوا.
وقال الحافظ الذّهبيّ في «التهذيب» [2] : قال محمد بن عوف الحمصي:
رأيت أحمد بن أبي الحواري صلى العتمة ثم قام يصلي، فاستفتح ب الْحَمْدُ
1: 2 إلى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 1: 5 [الفاتحة: 5-
1] فطفت الحائط كله ثم رجعت، فإذا هو لا يجاوز إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 1: 5 ثم نمت ومررت به سحرا، وهو يقرأ [3] :
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 1: 5 فلم يزل يردّدها إلى
الصبح. انتهى ملخصا.
وفيها أبو عبد الله الحسين بن الحسن المروزيّ الحافظ، صاحب ابن المبارك
بمكة، وقد سمع من هشيم والكبار.
وفيها أبو عمر الدّوري القارئ [4] شيخ المقرئين في عصره، وله
__________
[1] البيت في «غربال الزمان» ص (230) .
[2] (1/ 17) (مخطوط) وقفت عليه في مكتب الشركة المتحدة للتوزيع بدمشق.
[3] في الأصل، والمطبوع: «وهو يقول» وما أثبته من مخطوطة «التذهيب» .
[4] لفظة «القارئ» لم ترد في المطبوع، و «العبر» للذهبي مصدر المؤلف.
(3/212)
ستّ وتسعون سنة.
وهو حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبان المقرئ قرأ على الكسائي،
وإسماعيل بن جعفر، ويحيى اليزيدي، وحدّث عن طائفة، وصنف في القراءات،
وكان صدوقا. قرأ عليه خلق كثير.
قال: أدركت حياة نافع، ولو كان عندي شيء لرحلت إليه.
وفيها دعبل بن علي الخزاعيّ [1] الشاعر المشهور الرافضيّ، مدح الخلفاء
والملوك، وكان يحب الهجاء [2] . وقد أجازه عبد الله بن طاهر على أبيات
ستين ألف درهم.
قال ابن خلّكان [3] : قيل: إن دعبلا لقب، واسمه الحسن. وقيل:
عبد الرحمن، وقيل: محمد، وكنيته أبو جعفر، وقيل [4] : إنه كان أطروشا
[5] وفي قفاه سلعة [6] .
كان شاعرا مجيدا، إلا أنه بذيء اللسان مولعا بالهجاء [7] والحطّ من
أقدار النّاس، وهجاء الخلفاء ومن دونهم، وطال عمره، فكان يقول: لي
خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي، أدور على من يصلبني عليها فما أجد من
يفعل ذلك.
وكان بين دعبل، ومسلم بن الوليد الأنصاري اتحاد كثير، وعليه تخرج
__________
[1] انظر ترجمته ومصادرها في «وفيات الأعيان» (2/ 266- 270) ، و
«الأعلام» (2/ 339) .
[2] في «العبر» للذهبي: «وكان خبيث الهجاء» .
[3] في «وفيات الأعيان» (2/ 266) .
[4] في «وفيات الأعيان» : و «يقال» .
[5] قال ابن منظور: الأطروش: الأصم. «لسان العرب» (طرش) .
[6] قال ابن منظور: السّلعة بكسر السين: الضّواة، وهي زيادة تحدث في
الجسد مثل الغدة، وقال الأزهري: هي الجحدرة تخرج بالرأس وسائر الجسد
تمور بين الجلد واللحم إذا حركتها، وقد تكون لسائر البدن، في العنق
وغيره، وقد تكون من حمصة إلى بطيخة. «لسان العرب» (سلع) .
[7] في «وفيات الأعيان» : «مولعا بالهجو» .
(3/213)
دعبل في الشعر، فاتفق أن ولي مسلم جهة في
بعض بلاد خراسان، وهي جرجان، فقصده دعبل لما يعلمه من الصحبة التي
بينهما، فلم يلتفت مسلم إليه، ففارقه وقال:
غششت الهوى حتّى تداعت أصوله ... بنا وابتدلت الوصل حتّى تقطّعا
وأنزلت من بين الجوانح والحشا ... ذخيرة ودّ طالما قد تمنّعا
فلا تعذلنّي ليس لي فيك مطمع ... تخرّقت حتّى لم أجد لك مرقعا
وهبك يميني استأكلت فقطعتها ... وصبّرت قلبي بعدها فتشجّعا [1]
ومن شعره في الغزل:
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
يا ليت شعري كيف نومكما [2] ... يا صاحبيّ إذا دمي سفكا
لا تأخذا بظلامتي أحدا ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا [3]
ولما مات دعبل- وكان صديقا للبحتريّ، وكان أبو تمام قد مات قبله-
رثاهما البحتريّ فقال:
قد زاد في كلفي وأوقد لوعتي ... مثوى حبيب يوم مات ودعبل [4]
في أبيات. انتهى ملخصا.
__________
[1] الأبيات في «وفيات الأعيان» (2/ 268) ، وهي في «ديوانه» ص (182-
183) صنعة الدكتور عبد الكريم الأشتر، طبع مجمع اللغة العربية بدمشق،
ورواية البيت الأخير منها فيه:
فهبك يميني استأكلت فاحتسبتها ... وجشّمت قلبي قطعها فتشجّعا
[2] في الأصل، والمطبوع: «كيف نومكم» والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، و
«ديوانه» .
[3] الأبيات في «وفيات الأعيان» (2/ 268- 269) وهي الأبيات الثاني،
والسابع، والثامن من قصيدة في «ديوانه» ص (204- 205) .
[4] البيت في «ديوان البحتري» (3/ 1790) بتحقيق الأستاذ حسن كامل
الصيرفي، طبع دار المعارف بمصر.
(3/214)
وفيها العبّاس بن عبد العظيم، أبو الفضل
العنبريّ البصريّ الحافظ، أحد علماء السّنّة. سمع يحيى القطّان وطبقته،
وتوفي في رمضان، وكان من الثقات الأخيار.
ولوين، واسمه محمد بن سليمان، أبو جعفر الأسديّ البغداديّ ثم
المصّيصيّ. سمع مالكا، وحمّاد بن زيد، والكبار، وعمّر دهرا طويلا وجاوز
المائة، وكان كثير الحديث ثقة. قاله في «العبر» [1] .
وفيها محمد بن يحيى بن فيّاض الزّمّانيّ البصريّ. روى عن عبد الوهّاب
الثقفي وطبقته فأكثر، وحدّث في آخر عمره بدمشق، وبأصبهان.
والمسيّب بن واضح الحمصيّ. روى عن إسماعيل بن عيّاش والكبار، وتوفي في
آخر السنة.
قال أبو حاتم: صدوق يخطئ.
وفيها المفضّل [2] بن غسّان الغلابي ببغداد. روى عن عبد الرّحمن ابن
مهدي وطبقته، وله «تاريخ» مفيد [3] .
__________
[1] (1/ 447) .
[2] في الأصل، والمطبوع: «الفضل» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» للذهبي
(1/ 448) ، وانظر «اللباب» لابن الأثير (2/ 395) .
[3] قلت: وفيها مات محمد بن مصفّى الحمصيّ، أبو عبد الله. انظر ترجمته
ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» (12/ 94- 96) .
(3/215)
سنة سبع وأربعين
ومائتين
فيها توفي إبراهيم بن سعيد الجوهريّ أبو إسحاق البغداديّ الحافظ، مصنف
«المسند» . روى عن هشيم وخلق كثير. مات مرابطا بعين زربة [1] وكان من
أركان الحديث. خرّج «مسند أبي بكر الصّدّيق» في نيف وعشرين جزءا.
وفيها أبو عثمان المازنيّ النحويّ، صاحب التصانيف، واسمه بكر بن محمد.
قال تلميذه المبرّد: لم يكن بعد سيبويه أعلم من أبي عثمان المازني
بالنحو.
قال ابن خلّكان [2] : كان في غاية الورع.
ومما رواه المبرّد، أن بعض أهل الذّمّة قصده ليقرأ عليه «كتاب سيبويه»
وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه، فامتنع أبو عثمان من ذلك. قال:
فقلت له: جعلت فداك أتردّ هذه المنفعة مع فاقتك وشدة إضاقتك؟ فقال: إن
هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله- عزّ وجل-
ولست
__________
[1] قال الزبيدي في «تاج العروس» (زرب) : عين زربة بالضم، أو زربي،
كسكرى، وعلى الأول اقتصر ابن العديم في «تاريخ حلب» ، ثغر مشهور قرب
المصيصة من الثغور الشامية، وانظر «معجم البلدان» لياقوت (4/ 177- 178)
، و «الروض المعطار» للحميري ص (422) .
[2] في «وفيات الأعيان» (1/ 284- 285) .
(3/216)
أرى أن أمكّن منها ذمّيا غيرة على كتاب
الله- عزّ وجلّ- وخشية له [1] .
قال: فاتفق أن غنّت جارية بحضرة الواثق بقول العرجيّ:
أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السّلام تحية ظلم [2]
فاختلف من بالحضرة في إعراب رجلا [3] فمنهم من نصبه وجعله اسم «إن»
ومنهم من رفعه على أنه خبرها، والجارية مصرّة على أن شيخها أبا عثمان
المازني لقنها إياه بالنصب، فأمر الواثق بإشخاصه.
قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه قال: ممن الرجل؟ قلت: من بني مازن.
قال: أيّ الموازن؟ أمازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة؟ فقلت:
من مازن ربيعة، فكلمني بكلام قومي، وقال باسمك [4] ، لأنهم يقلبون
الميم باء والباء ميما، فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلا أواجهه
بالمكر، فقلت: بكر يا أمير المؤمنين، ففطن لما قصدته، وأعجب [5] به ثم
قال: ما تقول في قول الشاعر:
أظلوم إن مصابكم رجلا»
البيت.
أترفع رجلا أم تنصبه؟ فقلت: بل الوجه النصب يا أمير المؤمنين، فقال:
ولم ذلك [6] ؟ فقلت: هو بمنزلة قولك: إن ضربك زيدا ظلم، فالرجل مفعول
مصابكم وهو منصوب به، والدليل عليه أن الكلام معلق إلى أن تقول [7] :
ظلم، فاستحسنه الواثق وقال: هل لك من ولد؟ قلت: نعم يا أمير
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «وحميّة له» .
[2] البيت في «ديوان العرجي» ص (193) . كما ذكر الدكتور إحسان عباس في
تعليقه على «الوفيات» .
[3] في الأصل: «رجل» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «وفيات
الأعيان» .
[4] في الأصل، والمطبوع: «باأسبك» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[5] في الأصل: «وتعجب» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[6] في المطبوع: «ولما ذاك» ، وفي الأصل: «ولما ذلك» وما أثبته من
«وفيات الأعيان» .
[7] في الأصل، والمطبوع: «إلى أن يقول» ، والتصحيح من «وفيات الأعيان»
.
(3/217)
المؤمنين بنيّة، قال: ما قالت لك عند
مسيرك؟ قلت: أنشدت قول الأعشى [1] :
أيا أبتا لا ترم عندنا ... فإنّا بخير إذا لم ترم
أرانا إذا اضمرتك البلا ... د، نجفى وتقطع منّا الرّحم [2]
قال: فما قلت لها؟ قال: قلت قول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنّجاح [3]
قال: على النجاح إن شاء الله تعالى، ثم أمر لي بألف دينار، وردّني
مكرما.
قال المبرّد: فلما عاد إلى البصرة قال لي: كيف رأيت يا أبا العبّاس؟
رددنا لله مائة فعوّضنا ألفا. انتهى ما ذكره ابن خلّكان ملخصا.
وفيها في شوال، قتل المتوكل على الله أبو الفضل جعفر بن المعتصم محمد
بن الرشيد العباسي، فتكوا به في مجلس لهوه بأمر ابنه المنتصر، وعاش
أربعين سنة، وكان أسمر نحيفا، مليح العينين، خفيف العارضين، ليس
بالطويل، وهو الذي أحيا السّنّة، وأمات التجهّم، ولكنه كان فيه نصب
ظاهر، وانهماك على اللذّات والمكاره، وفيه كرم وتبذير، وكان قد عزم على
ابنه المنتصر وتقدم إليه بتقديم المعتز عليه لفرط محبته لأمه، وبقي
يؤذيه ويتهدده إن لم ينزل عن العهد، واتفق مصادرة المتوكل لوصيف،
فتعاملوا عليه، ودخل عليه خمسة
__________
[1] هو ميمون بن قيس بن جندل، من بني قيس بن ثعلبة الوائلي، أبو بصير،
المعروف بأعشى قيس، ويقال له: أعشى بكر، والأعشى الكبير، من شعراء
الطبقة الأولى في الجاهلية أحد أصحاب المعلقات. مات سنة (7) هـ. انظر
ترجمته ومصادرها في «الأعلام» للزركلي (7/ 341) .
[2] البيتان في «ديوانه» ص (41) بتحقيق الدكتور م. محمد حسين، طبع
مكتبة الآداب، ورواية البيت الأول منهما فيه:
ويا أبتا لا تزل عندنا ... فإنا نخاف بأن تخترم
[3] البيت في «ديوانه» بشرح الصاوي ص (98) .
(3/218)
في جوف الليل فنزلوا عليه بالسيوف، فقتلوه
وقتلوا وزيره الفتح بن خاقان معه، ولما قتلا أصبح النّاس يقولون: قتل
المتوكل والفتح بن خاقان دبّر عليهما المنتصر ولد المتوكل، وكان النّاس
على لسان واحد يقولون: والله لا عاش المنتصر إلا ستة أشهر كما عاش
شيرويه بن كسرى حيث قتل أباه، فكان الأمر كذلك، وكان قتله ليلة
الأربعاء لثلاث خلون من شوال.
وكان للمتوكل خمسمائة وصيفة للفراش، ولم يكن فيهن أحظى من صبيحة أم
ولده المعتز، وبسبب ميله إليها أراد يقدم ولدها بالعهد، وكان أصغر من
المنتصر، وكان تقدم منه العهد للمنتصر، ثم لأخويه من بعده، وفي ذلك
يقول السّلميّ:
لقد شدّ ركن الدّين بالبيعة الرّضا ... وسار بسعد جعفر بن محمّد
لمنتصر بالله أثبت عهده ... وأكّد بالمعتز ثم المؤيّد [1]
ورزق المتوكل من الحظ من العامة لتركه الهزل واللهو إلا أنه كان يتشبه
في الغضب بخلق الجبابرة، وبلغ المتوكل أن صالح بن أحمد بن حنبل رأى في
نومه قائلا يقول:
ملك يقاد إلى مليك عادل ... متفضّل بالعفو ليس بحائر [2]
فصدقه بذلك.
وروى علي بن الجهم قال: لما أفضت الخلافة إلى المتوكل، أهدى له الناس
على أقدارهم، فأهدى له محمد بن عبد الله بن طاهر ثلاثمائة جارية من
أصناف الجواري، وكان فيهن جارية يقال لها: محبوبة، وقد نشأت بالطائف،
فوقعت من قلب المتوكل موقعا عظيما، وحلّت من نفسه محلا جسيما، وكانت
تسامره ولا تفارقه، فغاضبها يوما وأمرها بلزوم مقصورتها، وأمر أن لا
يدخل الجواري عليها.
__________
[1] البيتان في «غربال الزمان» للعامري ص (230) ، وفيه «سدّ ركن
الدّين» .
[2] البيت في «غربال الزمان» ص (230) .
(3/219)
قال علي بن الجهم: فبينا أنا عنده جالس
يوما إذ قال لي: يا علي، رأيت البارحة كأنني صالحت محبوبة، فقلت: أقر
الله عينك وجعله حقيقة في اليقظة، وإنا لفي ذلك، إذ أقبلت وصيفة كانت
تقف على رأسه، فقالت: يا أمير المؤمنين، سمعت الساعة في منزل محبوبة
غناء، فقال لي: يا علي، قم بنا الساعة، فإنا سنرد على بوادر ظريفة،
فأخذ بيدي وجعلنا نمشي رويدا لئلا يسمع حسنا، فوقف على باب المقصورة،
وإذا بها تضرب بالعود وتغني:
أدور في القصر لا أرى أحدا ... أشكو إليه ولا يكلّمني
حتّى كأنّي جنيت معصية ... ليست لها توبة تخلّصني
فهل شفيع لنا إلى ملك ... قد زارني في الكرى وصالحني
حتّى إذا ما الصباح لاح لنا ... عاد إلى هجره فصارمني [1]
فنفر المتوكل طربا ونفرت معه لنفيره، فأحست بنا، فخرجت حافية ثم أكبت
على رجلي أمير المؤمنين ويديه ورأسه، ثم قالت: يا أمير المؤمنين، رأيت
البارحة في النوم كأني قد صالحتك. قال لها: وأنا والله رأيت مثل ذلك.
قالت:
فإن رأى أمير المؤمنين أن يتمم المنة فهو المنعم على كل حال، فقال:
ادخل فإنا سنرد على ما نحب. قال: فمكثنا ثلاثة أيام ونحن كأننا في بعض
رياض الجنة، ووصلني بعد ذلك ببدرة، فأخذتها وانصرفت.
قيل: قرئ على المتوكل كتاب فيه ملاحم، فمر القارئ فيه على موضع فيه: إن
الإمام العاشر من بني العبّاس يقتل في مجلسه على فراشه، فقال: ليت شعري
من الشقي الذي يقتله، ثم وجم، فقيل له: أنت الحادي عشر، وعدوا إبراهيم
بن المهدي من جملة الخلفاء فسرّي عنه.
وقيل: رأى المتوكل في منامه كأن دابّة تكلّمه، فقال لبعض جلسائه:
ما تفسره، ففسره له بشيء آخر، ثم قال لبعض من حضر سرا: حان رحيله لقوله
__________
[1] الأبيات في «مروج الذهب» للمسعودي (4/ 126) مع شيء من الخلاف في
روايتها.
(3/220)
تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ
أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً من الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ 27: 82 [النمل:
82] .
وقيل: رأى المتوكل في منامه رؤيا، فقصها على الفتح بن خاقان وزيره،
فقال: يا أمير المؤمنين أضغاث أحلام، ولو تشاغلت بالشرب والغناء لسرّي
عنك هذا، فقطع عامة نهاره بالتشاغل، فلما جاءه الليل أمر بإحضار
الندماء والمغنين، وجلس بقصره المعروف بالجعفري وعنده الفتح، فقال
للمغنّين:
غنّوا، فغنّوا، ثم قام ولده محمد المنتصر ومعه الحاجب يشيعه، فخلا
الموضع، فدخل عليه خمسة من الأتراك، فقتلوه وقتلوا الفتح أيضا.
وفيها توفي سلمة [1] بن شبيب أبو عبد الرّحمن النيسابوريّ، الحافظ
الموثق في رمضان بمكة. روى عن يزيد بن هارون وطبقته، وقد روى عنه من
الكبار أحمد بن حنبل، وأصحاب الكتب الستة إلّا البخاري.
وفيها، أو بعدها، محمد بن مسعود الحافظ، ابن العجميّ [2] . سمع عيسى بن
يونس، ويحيى بن سعيد القطّان، وطبقتهما، ورابط بطرسوس.
قال محمد بن وضاح القرطبي: هو رفيع الشأن، فاضل، ليس بدون أحمد بن
حنبل، يعني في العمل لا في العلم، والله أعلم. قاله في «العبر» [3] .
__________
[1] في الأصل، و «العبر» للذهبي (1/ 449) : «مسلمة» وهو خطأ، وأثبت ما
في المطبوع وهو الصواب.
[2] انظر «تهذيب الكمال» للمزي. (3/ 1267) مصورة دار المأمون للتراث
بدمشق، و «سير أعلام النبلاء» (12/ 249- 250) ، و «تقريب التهذيب» ص
(506) .
[3] (1/ 449- 450) .
(3/221)
سنة ثمان وأربعين
ومائتين
فيها، بل في التي قبلها كما جزم به في «الشذور» ، توفيت شجاع أمّ
المتوكل، وكانت خيّرة كثيرة الرغبة في الخير، وخلّفت من العين خمسة
آلاف ألف دينار وخمسين ألف دينار، ومن الجوهر قيمته ألف ألف دينار، ولا
يعرف امرأة رأت ابنها وهو جدّ وثلاثة أولاد ولاة عهود إلّا هي. قاله في
«الشذور» .
وفيها توفي الإمام العلم أبو جعفر أحمد بن صالح الطبريّ ثم المصريّ
الحافظ. سمع ابن عيينة، وابن وهب، وخلقا. وكان ثقة.
قال محمد بن عبد الله بن نمير: إذا جاوزت الفرات فليس أحد مثل أحمد ابن
صالح.
وقال ابن وارة الحافظ: أحمد بن حنبل ببغداد، وأحمد بن صالح بمصر، وابن
نمير بالكوفة، والنفيليّ بحرّان، هؤلاء أركان الدّين.
وقال يعقوب الفسويّ: كتبت عن ألف شيخ حجتي فيما بيني وبين الله رجلان:
أحمد بن صالح، وأحمد بن حنبل.
وفيها الحسين بن علي الكرابيسيّ الفقيه المتكلم أبو علي ببغداد، وقيل
مات في سنة خمس وأربعين. تفقه على الشافعيّ، وسمع من إسحاق الأزرق
وجماعة، وصنف التصانيف، وكان متضلّعا من الفقه والحديث والأصول ومعرفة
الرّجال.
(3/222)
والكرابيس الثياب الغلاظ.
وفيها بغا الكبير أبو موسى التركيّ، مقدّم قوّاد المتوكل، عن سنّ
عالية، وكان بطلا شجاعا مقداما، له عدة فتوح ووقائع، باشر الكثير من
الحروب فما جرح قطّ، وخلّف أموالا عظيمة.
وفيها أمير خراسان وابن أميرها، طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين
الخزاعيّ، في رجب، ولي إمرة خراسان بعد أبيه ثمان عشرة سنة. ووليها
بعده ولده محمد بن طاهر عشرين سنة [1] . وقد حدّث طاهر عن سليمان بن
حرب.
وفيها عبد الجبّار بن العلاء بن عبد الجبّار، أبو بكر البصريّ ثم
المكيّ العطّار. روى عن سفيان بن عيينة وطبقته، وكان ثقة صاحب حديث.
وعبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد المصريّ: سمع أباه، وابن وهب، وكان
أحد الفقهاء.
وعيسى بن حمّاد زغبة التجيبيّ، مولاهم، المصريّ، راوية اللّيث بن سعد
[2] .
والقاسم بن عثمان الدمشقيّ الزّاهد المعروف بالجوعي [3] ، من كبار
الصوفية والعارفين، صحب أبا سليمان الدّاراني، وروى عنه سفيان بن عيينة
وجماعة.
قال أبو حاتم [4] : صدوق.
وفيها محمد بن حيمد الرّازيّ، أبو عبد الله، الحافظ. روى عن جرير
__________
[1] كذا في الأصل، والمطبوع، وفي «العبر» ، و «دول الإسلام» للذهبي ص
(134) طبعة مؤسسة الأعلمي: «عشر سنين» .
[2] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (11/ 506-
507) .
[3] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 77- 79)
.
[4] في «الجرح والتعديل» (7/ 144) .
(3/223)
ابن عبد الحميد، ويعقوب القمّي، وخلق، وكان
من أوعية العلم، لكن لا يحتجّ به، وله ترجمة طويلة.
أثني عليه أحمد بن حنبل.
وقال ابن خزيمة: لو عرفه أحمد لما أثنى عليه.
وقد خرّج له أبو داود، والترمذي وغيرهما.
قال الذهبيّ في «المغني» [1] : محمد بن حميد الرّازي الحافظ، عن يعقوب
القمّي [2] وجرير، وابن المبارك، ضعّف لا من قبل الحفظ.
قال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير.
وقال البخاريّ: فيه نظر.
وقال أبو زرعة: يكذب.
وقال النسائيّ: ليس بثقة.
وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب منه، ومن ابن الشاذكوني.
انتهى ما قاله في «المغني» .
وفي ربيع الآخر المنتصر بالله أبو جعفر محمد بن المتوكل على الله جعفر
ابن المعتصم محمد بن الرّشيد [العبّاسي] [3] بالخوانيق، وكانت خلافته
سبعة أشهر [4] وعاش ستا وعشرين سنة، وأمه رومية تسمى حبشيّة [5] ، وكان
ربعة جسيما، أعين، أقنى، بطينا، مليح الصورة، مهيبا، وكان كامل العقل
محبا للخير، محسنا إلى آل عليّ، بارّا بهم.
__________
[1] «المغني في الضعفاء» (2/ 573) .
[2] في الأصل، و «المغني في الضعفاء» : «العمي» وهو خطأ، وأثبت لفظ
المطبوع وهو الصواب.
[3] زيادة من «العبر» للذهبي.
[4] كذا في الأصل، والمطبوع: «سبعة أشهر» ، وفي «العبر» مصدر المؤلف:
«ستة أشهر» ، وفي «سير أعلام النبلاء» : «ستة أشهر وأياما» .
[5] في الأصل، والمطبوع: «حبشة» والتصحيح من «العبر» (1/ 452) ، و «سير
أعلام النبلاء» (12/ 42) .
(3/224)
وقيل: إن أمراء الترك خافوه، فلما حمّ دسوا
إلى طبيبه ابن الطيفوري [1] ثلاثين ألف دينار ففصده بريشة مسمومة،
وقيل: سم في كمثرى. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن الأهدل: قيل: إن أمه جاءته عائدة فبكى وقال: يا أماه! عاجلت
أبي فعوجلت، ثم أنشأ يقول:
فما فرحت نفسي بدنيا أخذتها ... ولكن إلى الملك القدير أصير
وما لي شيء غير أنّي مسلم ... بتوحيد ربّي مؤمن [3] وخبير [4]
وبايع التّرك بعده لأحمد بن محمد بن المعتصم، خوفا منهم أن يبايعوا
لأحد من أولاد المتوكل فيقتلهم بأبيه، وسمّوه المستعين. انتهى ما ذكره
ابن الأهدل.
وقال ابن الفرات: قيل: رأى المنتصر بالله أباه المتوكل على الله في
منامه، فقال له: ويحك يا محمد ظلمتني وقتلتني، والله لا متّعت بالدّنيا
بعدي.
وقد أجمعوا على أن المنتصر بالله مات مسموما، وكان سبب ذلك أنه رأى
باغر التركي في حفدته الأتراك، فقال: قتلني الله إن لم أقتلكم جميعا،
فبلغهم
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «ابن طيفور» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ
الطبري» (9/ 252) ، و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (7/ 114- 115) ،
و «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» ص (225) ، وهو إسرائيل بن زكريا
الطيفوري، كان مقدما في صناعة الطب، جليل القدر عند الخلفاء والملوك.
وكان المنتصر قد وجد حرارة فأمر ابن الطيفوري بفصده، ففصده بمبضع
مسموم، فكان فيه منيته، وأن ابن الطيفوري لما انصرف إلى منزله وجد
حرارة، فدعا تلميذا له وأمره بفصده ووضع مباضعه بين يديه ليتخيّر
أجودها، وفيها المبضع المسموم الذي فصد به المنتصر، وقد نسبه، فلم يجد
التلميذ في المباضع التي وضعت بين يديه مبضعا أجود من المبضع المسموم،
ففصد به أستاذه وهو لا يعلم أمره، فلما فصده به نظر إليه صاحبه فعلم
أنه هالك، فأوصى من ساعته، وهلك من يومه.
[2] (1/ 452- 453) .
[3] في «غربال الزمان» : «موقن» .
[4] البيتان في «غربال الزمان» للعامري ص (231) .
(3/225)
الخبر، فسمّوه في ريشة الفاصد، ومات وله من
العمر خمس وعشرون سنة.
وفيها محمد بن زنبور أبو صالح المكيّ. روى عن حمّاد بن زيد، وإسماعيل
بن جعفر، وكان صدوقا.
وفيها [محدّث الكوفة] [1] أبو كريب محمد بن العلاء الهمدانيّ الحافظ في
جمادى الآخرة. سمع ابن المبارك، وعبد الله بن إدريس، وخلائق، وكان ثقة
مكثرا.
وفيها أبو هشام الرّفاعيّ محمد بن يزيد الكوفي القاضي، أحد أعلام
القرآن، قرأ على سليم، وسمع من أبي خالد الأحمر، وابن فضيل وطبقتهما،
وكان إماما مصنفا في القراءات. ولي القضاء ببغداد.
قال في «المغني» [2] : محمد بن يزيد أبو هشام الرّفاعي.
قال أحمد العجلي: لا بأس به.
وقال غيره: صدوق.
وأما البخاريّ فقال: رأيتهم مجمعين على ضعفه.
وروى ابن عقدة عن مطين، عن ابن نمير، كان يسرق الحديث. انتهى.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع.
[2] «المغني في الضعفاء» (2/ 644) .
(3/226)
سنة تسع وأربعين
ومائتين
فيها توفي الحسن بن الصّبّاح، الإمام أبو عليّ البزّار. سمع سفيان بن
عيينة، وأبا معاوية وطبقتهما، وكان أحمد بن حنبل يرفع قدره، ويجلّه،
ويحترمه.
وروى عنه البخاريّ، وقال: أبو حاتم صدوق. كانت له جلالة عجيبة ببغداد،
رحمه الله تعالى.
والبزّار بالراء آخره، لعله منسوب إلى بيع البزر، وكذلك محمد بن السّكن
البزّار، وبشر بن ثابت البزّار، وخلف بن هشام البزّار المقرئ، وكل من
في البخاريّ ومسلم سوى هؤلاء الأربعة فهو البزّاز بزايين.
وفيها رجاء بن مرّحي [1] أبو محمد السّمرقنديّ الحافظ ببغداد. روى عن
النّضر بن شميل فمن بعده.
قال الخطيب [2] : كان ثقة، ثبتا، إماما في الحفظ والمعرفة.
وعبد بن حميد الحافظ، أبو محمد الكشّي، صاحب «المسند» و «التفسير»
واسمه عبد الحميد، فخفف. سمع يزيد بن هارون، وابن أبي فديك، وطبقتهما،
وكان ثقة ثبتا.
__________
[1] في الأصل، والمطبوع: «رجاء بن مرجاء «وهو خطأ، والتصحيح من «العبر»
، و «سير أعلام النبلاء» (12/ 98) ، و «تقريب التهذيب» ص (208) .
[2] في «تاريخ بغداد» (8/ 411) ولفظ النقل فيه: «وكان ثقة، ثبتا، إماما
في علم الحديث وحفظه، والمعرفة به» .
(3/227)
وفيها أبو حفص عمرو بن علي الباهليّ
البصريّ الصيرفيّ الفلّاس الحافظ، أحد الأعلام. سمع معتمر بن سليمان
وطبقته، وصنف، وعني بهذا الشأن [1] .
قال النسائيّ: ثقة، حافظ.
وقال أبو زرعة: ذاك من فرسان الحديث.
وقال أبو حاتم: كان أوثق من علي بن المديني.
وفيها محمد بن عبد الله بن عبد الرّحيم بن سعيه [2] بن أبي زرعة
الزّهريّ، مولاهم، المصريّ، أبو عبيد الله بن البرقيّ. حدّث عنه أبو
داود، والنسائي، وغيرهما، وهو صاحب «كتاب الضعفاء» . قاله ابن ناصر
الدّين.
__________
[1] يعني بعلوم الحديث النبوي الشريف.
[2] كذا في الأصل، والمطبوع و «تهذيب التهذيب» (9/ 263) : «ابن سعيه» ،
وفي «تذكرة الحفاظ» للذهبي (1/ 569) ، و «الرسالة المستطرفة» للكتاني ص
(144) «ابن سعيد» .
(3/228)
سنة خمسين ومائتين
فيها توفي العلّامة أبو الطاهر، أحمد بن عمرو بن السّرح [1] المصريّ
الفقيه، مولى بني أميّة.
روى عن ابن عيينة، وابن وهب، وشرح «الموطأ» .
وروى عنه مسلم، وأبو داود، والنسائي وابن ماجة، وغيرهم.
وفيها أبو الحسن أحمد بن محمد البزّيّ المقرئ [2] مؤذن المسجد الحرام،
وشيخ الإقراء. ولد سنة سبعين ومائة، وقرأ على عكرمة بن سليمان، وأبي
الإخريط [3] . وقرأ عليه جماعة، وكان لين الحديث حجة في القرآن.
قال الذهبيّ في «المغني» [4] : أحمد بن محمد بن عبد الله البزّيّ مقرئ
مكّة. ثقة في القراءة، وأما في الحديث، فقال أبو جعفر العقيلي:
منكر الحديث، يوصل الأحاديث، ثم ساق له حديثا متنه: «الدّيك الأبيض
الأفرق حبيبي وحبيب حبيبي» [5] .
__________
[1] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 62- 63)
.
[2] في «الضعفاء الكبير» : «أحمد بن محمد بن أبي بزة المقرئ» .
[3] هو وهب بن واضح، أبو الإخريط، ويقال: أبو القاسم، المكي. انتهت
إليه رئاسة الإقراء بمكة. مات سنة (190) هـ. انظر «غاية النهاية في
طبقات القراء» لابن الجزري (2/ 361) .
[4] «المغني في الضعفاء» (1/ 55) .
[5] ذكره العقيلي في «الضعفاء الكبير» (1/ 127) بتحقيق الدكتور عبد
المعطي قلعجي، طبع دار الكتب العلمية ببيروت، وتمامه فيه: حدثنا أبو
سعيد عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني
(3/229)
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، سمعت منه ولا
أحدث عنه.
وقال ابن أبي حاتم: روى حديثا منكرا. انتهى ما أورده الذهبي في
«المغني» .
وفيها الحارث بن مسكين، الإمام أبو عمرو، قاضي الدّيار المصرية وله ست
وتسعون سنة. سأل اللّيث بن سعد [1] . وسمع الكثير من ابن عيينة، وابن
وهب، وأخذ في المحنة فحبس دهرا حتّى أخرجه المتوكل وولاه قضاء مصر،
وكان من كبار أئمة السّنّة الثقات.
قال السيوطيّ في «حسن المحاضرة» [2] : الحارث بن مسكين بن محمد ابن
يوسف الأموي أبو عمرو المصريّ الحافظ الفقيه العلّامة. روى عنه أبو
داود، والنسائي.
قال الخطيب: كان فقيها على مذهب مالك، ثقة في الحديث، ثبتا، وله
تصانيف. ولد سنة أربع وخمسين ومائة، ومات ليلة الأحد لثلاث بقين من
ربيع الأول سنة خمسين ومائتين. انتهى.
وفيها، ويقال في سنة خمس وخمسين، الإمام أبو حاتم السّجستانيّ [3] سهل
بن محمد، النحويّ المقرئ اللغويّ، صاحب المصنفات، حمل العربية عن أبي
عبيدة، والأصمعي، وقرأ القرآن على يعقوب [4] وكتب الحديث عن طائفة.
قوّمت كتبه يوم مات بأربعة عشر ألف دينار، واشتراها ابن السّكّيت بدون
ذلك محاباة.
__________
هاشم، قال: حدثنا الربيع بن صبيح، عن الحسن، عن أنس، قال: قال رسول
الله- صلى الله عليه وسلم-: «الديك الأبيض الأفرق حبيبي، وحبيب حبيبي
جبرائيل، يحرس بيته وستة عشر بيتا من جيرته:
أربعة عن اليمين، وأربعة عن الشمال، وأربعة من قدّام، وأربعة من خلف» ،
ورواه أيضا أبو الشيخ في «العظمة» وهو حديث موضوع.
[1] لفظة «سعد» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2] (1/ 308) .
[3] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (12/ 268-
270) .
[4] هو يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي البصري، البصري، أبو محمد، أحد
القراء
(3/230)
وفيها عبّاد بن يعقوب الأسديّ الرّواجنيّ
[1] الكوفيّ الحافظ. سمع من شريك، والوليد بن أبي ثور، والكبار.
قال ابن حبّان: كان داعية إلى الرفض [2] .
وقال ابن خزيمة: حدثنا الصدّوق في روايته، المتهم في دينه، عبّاد بن
يعقوب.
وروى عنه البخاريّ مقرونا بآخر.
وفيها عمرو بن بحر الجاحظ، أبو عثمان البصريّ المعتزليّ، وإليه تنسب
الفرقة الجاحظية من المعتزلة، صنّف الكثير من الفنون. كان بحرا من بحور
العلم، رأسا في الكلام والاعتزال، وعاش تسعين سنة، وقيل: بقي إلى سنة
خمس وخمسين. أخذ عن القاضي أبي يوسف، وثمامة بن أشرس، وأبي إسحاق
النّظّام.
قال في «المغني» [3] : عمرو بن بحر الجاحظ المتكلم، صاحب الكتب.
قال ثعلب: ليس بثقة ولا مأمون. انتهى.
وقال غيره: أحسن تآليفه وأوسعها فائدة «كتاب الحيوان» و «كتاب البيان
والتبيين» وكان مشوّه الخلق. استدعاه المتوكل لتأديب ولده، فلما رآه
ردّه وأجازه، وفلج في آخر عمره، فكان يطلي نصفه بالصّندل [4] والكافور
لفرط
__________
العشرة، المتوفى سنة (205) هـ. وقد تقدمت ترجمته في ص (29) من هذا
المجلد فراجعها.
[1] قال السمعاني في «الأنساب» (6/ 170) : هذه النسبة سألت عنها أستاذي
أبا القاسم إسماعيل ابن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان فقال: هذا نسب
أبي سعيد عباد بن يعقوب شيخ البخاري، وأصل هذه النسبة الدواجن بالدال
المهملة، وهي جمع داجن، وهي الشاة التي تسمّن في الدار، فجعلها الناس
الرواجن بالراء، ونسب عباد إلى ذلك هكذا، قال: ولم يسند الحكاية إلى
أحد، وظني أن الرواجن بطن من بطون القبائل، والله أعلم.
[2] هكذا نسب هذا القول في الأصل، والمطبوع، و «تهذيب التهذيب» (5/
110) إلى ابن حبان، ونسب في «العبر» للذهبي إلى الإمام أحمد بن حنبل.
[3] «المغني في الضعفاء» (2/ 481) .
[4] قال ابن منظور: الصّندل خشب أحمر، ومنه الأصفر، وقيل: الصندل شجر
طيب الريح.
(3/231)
الحرارة، ونصفه الآخر لو قرض بالمقاريض ما
أحسّ به لفرط البرودة، وسمي جاحظا لجحوظ عينيه، أي نتوئهما، وكان موته
بسقوط مجلدات العلم عليه [1] .
وفيها الفضل بن مروان بن ماسرجس، كان وزير المعتصم، وهو الذي أخذ له
البيعة ببغداد، وكان المعتصم يومئذ ببلاد الرّوم صحبة أخيه المأمون،
فاتفق موت المأمون هناك، وتولى بعده واعتدّ له المعتصم [2] بها يدا
عنده، وفوّض إليه الوزارة يوم دخوله بغداد، وهو يوم السبت مستهل شهر
رمضان سنة ثماني عشرة ومائتين، وخلع عليه، ورد أموره كلها إليه، فغلب
عليه لطول خدمته وتربيته إياه، فاستقل بالأمور، وكذلك كان في أواخر
دولة المأمون، وكان نصراني الأصل، قليل المعرفة بالعلم، حسن المعرفة
بخدمة الخلفاء، وله ديوان رسائل، وكتاب «المشاهدات والأخبار» التي
شاهدها.
ومن كلامه: مثل الكاتب كالدولاب، إذا تعطل انكسر، وكان قد جلس يوما
لقضاء أشغال الناس، ورفعت إليه قصص العامة، فرأى في جملتها ورقة مكتوب
فيها:
تفرعنت [3] يا فضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك كان الفضل والفضل والفضل
ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... أبادتهم الأقياد والحبس والقتل
__________
«لسان العرب» (صندل) .
[1] قلت: جزم ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (3/ 474) بأن وفاته كانت
سنة خمس وخمسين ومائتين. وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (11/ 527)
: قال ابن زبر: مات سنة خمسين ومائتين، وقال الصّولي: مات سنة خمس
وخمسين، وأرخ الزركلي وفاته في «الأعلام» (5/ 74) سنة (255) ، وقد تبع
المؤلف العامري صاحب «غربال الزمان» ص (232- 233) في تأريخ وفاته.
[2] سقطت لفظة «المعتصم» من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[3] في الأصل: «تفرغت» وهو خطأ وأثبت ما في المطبوع.
(3/232)
وإنك قد أصبحت في النّاس ظالما ... ستودي
كما أودى الثلاثة من قبل [1]
أراد بالفضول الثلاثة: الفضل بن يحيى البرمكي، والفضل بن سهل، والفضل
بن الرّبيع.
وذكر المرزبانيّ، والزمخشري في «ربيع الأبرار» أن هذه الأبيات للهيثم
ابن فراس السامي، من سامة بن لؤي.
وقال الصولي: أخذ المعتصم من داره لما نكبه ألف ألف دينار، وأخذ أثاثا
وآنية بألف ألف دينار، وحبسه خمسة أشهر ثم أطلقه وألزمه بيته، واستوزر
أحمد بن عمّار.
ومن كلام الفضل هذا أيضا: لا تتعرض لعدوك وهو مقبل، فإن إقباله يعينه
عليك، ولا تتعرض له وهو مدبر، فإن إدباره يكفيك أمره [2] .
وفيها كثير من عبيد المذحجيّ الحذّاء، إمام جامع حمص، أمّه مدة ستين
سنة، قيل: إنه ما سها في صلاة مدة ما أمّ. حدّث عن ابن عيينة، وبقيّة،
وطائفة، وكان عبدا صالحا.
وأبو عمرو نصر بن علي الجهضميّ، وقيل: علي بن نصر الجهضميّ الصغير،
البصريّ الحافظ الثقة، أحد أوعية العلم. روى عن يزيد ابن زريع وطبقته،
وعنه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم.
قال أبو بكر بن أبي داود: كان المستعين طلب نصر بن علي ليوليه القضاء،
فقال لأمير البصرة: حتّى أرجع فأستخير الله، فرجع وصلى ركعتين، وقال:
اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك، ثم نام فنبّهوه، فإذا هو ميت،
رحمه الله تعالى. مات في ربيع الآخر.
__________
[1] الأبيات في «وفيات الأعيان» (4/ 45) .
[2] نقل المؤلف ترجمة الفضل عن «وفيات الأعيان» لابن خلكان (4/ 45- 46)
بتصرف.
(3/233)
|