شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة
فيها بدت من القاهر شهامة وإقدام، فتحيّل حتّى قبض على مؤنس الخادم وبليق، وابنه علي بن بليق، ثم أمر بذبحهم، وطيف برؤوسهم ببغداد، ثم أمر بذبح يمن، وابن زيرك [1] فاستقامت بغداد، وأطلقت أرزاق الجند، وعظمت هيبة القاهر في النفوس، ثم أمر بتحريم القيان والخمر، وقبض على المغنّين، ونفى المخانيث، وكسر آلات الطرب، إلا أنه كان لا يكاد يصحو [2] من السّكر ويسمع [3] القينات. قاله في «العبر» [4] .
وفيها توفي أبو حامد، ويقال: أبو تراب، أحمد بن حمدون بن أحمد بن عمارة بن رستم الأعمشي النيسابوري [5] الحافظ، وأبوه حمدون القصّار كان أعمى من الموثقين، وكان قد جمع حديث الأعمش كله وحفظه، فلقب بذلك.
سمع محمد بن رافع، وأبا سعيد الأشج، وطبقتهما. ومنه: أبو الوليد الفقيه [6] وأبو علي الحافظ، و [أبو أحمد] الحاكم.
__________
[1] في الأصل: «ابن برك» وفي المطبوع: «زبرك» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 191) وانظر «دول الإسلام» (1/ 195) .
[2] في «دول الإسلام» للذهبي: «لا يكاد يصبر» .
[3] في «العبر» : «وسماع» وما جاء في الأصل والمطبوع موافق لما في «دول الإسلام» .
[4] (2/ 191) .
[5] «العبر» (2/ 191) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 553- 555) .
[6] في الأصل والمطبوع: «أبو الوليد الثقة» وهو خطأ والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» و «تذكرة الحفّاظ» (3/ 806) .

(4/104)


قال ابن بردس [1] : لا بأس به، وكان صاحب بسط ودعابة.
وفيها أحمد بن عبد الوارث بن جرير الأسواني العسّال [2] في جمادى الآخرة، وهو آخر من حدّث عن محمد بن رمح، ووثّقه ابن يونس.
وفيها أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطّحاويّ الحنفي [3] الأزديّ الحجريّ المصري [4] شيخ الحنفية، الثقة الثبت. سمع هارون بن سعيد الأيلي، وطائفة من أصحاب ابن عيينة، وابن وهب، ومنه: أحمد بن القاسم الخشّاب [5] ، والطبراني [6] ، وصنّف التصانيف، منها «العقيدة السّنيّة السّنيّة» [7] ، وبرع في الفقه والحديث. توفي في ذي القعدة وله اثنتان وثمانون سنة.
قال ابن يونس: كان ثقة ثبتا لم يخلف مثله.
وقال الشيخ أبو إسحاق [8] : انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، وقرأ أولا على المزني.
قيل: وكان ابن أخته، فقال له يوما: والله لا جاء منك شيء. فغضب وانتقل إلى جعفر بن عمران الحنفي، ففاق أهل عصره، وكان يقول بعد:
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «ابن برداس» وهو خطأ.
[2] «العبر» (2/ 191) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 24) .
[3] لفظة «الحنفي» لم ترد في المطبوع و «العبر» .
[4] «العبر» (2/ 192) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 27- 33) .
[5] في الأصل والمطبوع: «الحساب» وهو خطأ، والتصحيح من «تذكرة الحفاظ» للذهبي (3/ 809) و «النجوم الزاهرة» (3/ 240) .
[6] قوله: «ومنه أحمد بن القاسم الخشاب والطبراني» لم يرد في «العبر» .
[7] وقد شرحها شرحا وافيا نافعا الإمام القاضي محمد بن علي بن أبي العز الحنفي الصالحي المتوفى سنة (792) هـ وسمى شرحه «شرح العقيدة الطحاوية» وقد طبع هذا الشرح عدة مرات في عدة بلدان إسلامية، ويعدّ هذا «الشرح» من خيرة المصنفات التي تحدثت عن العقيدة الإسلامية عند أتباع أهل السّنّة والجماعة.
[8] يعني الشيرازي. انظر «طبقات الفقهاء» ص (142) .

(4/105)


رحم الله أبا إبراهيم- يعني المزني- لو كان حيّا لكفّر عن يمينه. وصنّف كثيرا. ونسبته إلى طحا، قرية بصعيد مصر [1] .
وفيها أبو علي أحمد [بن محمد] بن علي بن رزين الباشاني [2] بهراة. روى عن علي بن خشرم، وسفيان بن وكيع، وطائفة من الثقات.
وفيها الأمير تكين الخاصة [3] ولي دمشق ثم مصر وبها مات، ونقل إلى بيت المقدس.
وفيها أبو يزيد، حاتم بن محبوب الشامي [4] بهراة. حج وسمع محمد بن زنبور، وسلمة بن شبيب وكان ثقة.
والحسن بن محمد بن النّضر [5] أبو علي بن أبي هريرة [6] بأصبهان.
روى عن إسماعيل بن يزيد القطان، وأحمد بن الفرات. وعنه: ابن مندة وهو من أكبر شيوخه [7] .
وفيها أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب البصري الجبّائي [8] شيخ المعتزلة وابن شيخهم. توفي في شعبان ببغداد.
وفيها أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية الأزدي البصري [9] اللغوي العلّامة، صاحب التصانيف. أخذ عن الرّياشي، وأبي حاتم
__________
[1] انظر «معجم البلدان» (4/ 22) .
[2] «العبر» (2/ 192) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 523) وما بين حاصرتين مستدرك منهما.
[3] «العبر» (2/ 192) وانظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 273) .
[4] «العبر» (2/ 193) وانظر «تهذيب الكمال» (1/ 524) مصوّرة دار المأمون للتراث (ضمن ترجمة سلمة بن شبيب) .
[5] في «العبر» : «الحسن بن محمد البصري، أبو علي» .
[6] «العبر» (2/ 193) و «ذكر أخبار أصبهان» لأبي نعيم (1/ 270) .
[7] في «العبر» : «وهو من كبار شيوخ ابن مندة» .
[8] «العبر» (2/ 193) وانظر «النجوم الزاهرة» (3/ 242) و «غربال الزمان» ص (281) .
[9] «العبر» (2/ 193) وانظر «النجوم الزاهرة» (3/ 240- 241) .

(4/106)


السّجستاني، وابن أخي الأصمعي. وعاش ثمانيا وتسعين سنة.
قال أحمد بن يوسف الأزرق: ما رأيت أحفظ من ابن دريد، ما رأيته قرئ عليه ديوان إلّا وهو يسابق في قراءته.
وقال الدّارقطني: تكلموا فيه. قاله في «العبر» .
وقال ابن خلّكان [1] : إمام عصره في اللغة، والآداب، والشعر الفائق.
قال المسعوديّ في كتاب «مروج الذهب» [2] في حقه: كان ابن دريد ببغداد ممّن برع في زماننا هذا في الشعر، وانتهى في اللغة، لم يوجد مثله في فهم كتب المتقدمين، وقام مقام الخليل بن أحمد فيها، وكان يذهب بالشعر كل مذهب، فطورا يجزل، وطورا يرق، وشعره أكثر من أن نحصيه، فمن جيّد شعره قصيدته المقصورة التي أولها:
إمّا تري رأسي حاكى لونه ... طرّة صبح تحت أذيال الدّجى
واشتعل المبيضّ في مسودّه ... مثل اشتعال النّار في جمر [3] الغضا
وكان من تقدم من العلماء يقول: إن ابن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء.
ومن مليح شعره قوله:
غرّاء لو جلت الخدور [4] شعاعها ... للشمس عند شروقها [5] لم تشرق
غصن على دعص تأوّد فوقه ... قمر تألّق تحت ليل مطبق
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (4/ 323) .
[2] (3/ 320- 321) .
[3] في «مروج الذهب» و «وفيات الأعيان» : «في جزل» . والجزل ما عظم من الخطب ويبس.
انظر «مختار الصحاح» (جزل) .
[4] في الأصل والمطبوع: «عزراء لو جلت الخدور» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[5] في «وفيات الأعيان» : «طلوعها» .

(4/107)


لو قيل للحسن احتكم لم يعدها ... أو قيل خاطب غيرها لم ينطق
فكأننا من فرعها في مغرب ... وكأننا من وجهها في مشرق
تبدو فيهتف بالعيون ضياؤها ... الويل حلّ بمقلة لم تطبق
وكانت ولادته بالبصرة في سكة صالح سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ونشأ بها وتعلم فيها، وسكن عمان وأقام بها ثنتي عشرة سنة، ثم عاد إلى البصرة وسكنها زمانا، ثم خرج إلى نواحي فارس، وصحب ابني ميكال، وكانا يومئذ على عمالة فارس، وعمل لهما كتاب «الجمهرة» وقلداه ديوان فارس، فكانت تصدر كتب فارس عن رأيه، ولا ينفذ أمر إلا بعد توقيعه، فأفاد معهما أموالا عظيمة، وكان لا يمسك درهما سخاء وكرما، ومدحهما بقصيدته المقصورة، فوصلاه بعشرة آلاف درهم، ثم انتقل إلى بغداد، وعرف الإمام المقتدر بالله خبره ومكانه من العلم [1] ، فأمر أن يجرى عليه خمسون دينارا في كل شهر، ولم تزل جارية عليه إلى حين وفاته.
وكان واسع الرواية، لم ير أحفظ منه. وسئل عنه الدارقطني أثقة هو أم لا؟ فقال: تكلموا فيه.
وقيل: إنه كان يتسامح في الرواية فيسند إلى كل واحد ما يخطر له.
وقال أبو منصور الأزهري [2] : دخلت عليه فرأيته سكران، فلم أعد إليه.
وقال ابن شاهين: كنّا ندخل عليه فنستحي [3] [مما نرى] من العيدان المعلّقة والشراب المصفّى. وذكر أن سائلا سأله شيئا فلم يكن عنده غير دنّ [4]
__________
[1] في المطبوع: «بالعلم» .
[2] في الأصل والمطبوع: «البغوي» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» (4/ 326) وقد نقل ابن خلكان كلام الأزهري باختصار وتصرف. انظر «تهذيب اللغة» (1/ 31) بتحقيق العلّامة الأستاذ عبد السلام هارون.
[3] في «وفيات الأعيان» : «ونستحي» وما بين حاصرتين زيادة منه.
[4] الدّنّ: وعاء شبيه بالجرّة. انظر «لسان العرب» (دنن) و (حبب) .

(4/108)


من نبيذ فوهبه له، فأنكر عليه أحد غلمانه، وقال: تتصدق بالنبيذ؟ فقال: لم يكن عندي شيء سواه، ثم أهدي له بعد ذلك عشر دنان من النبيذ، فقال لغلامه: أخرجنا دنّا فجاءنا عشرة. وينسب إليه من هذه الأمور شيء كثير.
وعرض له فالج، فسقي الترياق فشفي [منه] ثم عاوده الفالج بعد حول لغذاء ضارّ تناوله، فبطل من محزمه إلى قدميه، وكان مع هذا الحال ثابت العقل صحيح الذهن [1] يردّ فيما يسأل ردّا صحيحا.
وقال المرزباني: قال لي ابن دريد: سقطت من منزلي بفارس، فانكسرت ترقوتي، فسهرت ليلتي، فلما كان آخر الليل غمضت عيني فرأيت رجلا طويلا أصفر الوجه كوسجا [2] دخل عليّ وأخذ بعضادتي الباب وقال:
أنشدني أحسن ما قلت في الخمر، فقلت: ما ترك أبو نواس لأحد شيئا، فقال: أنا أشعر منه، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا أبو ناجية من أهل الشام، وأنشدني:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق صرفا فسلّطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق
فقلت له: أسأت. فقال: ولم؟ قلت: لأنك قلت: «حمراء» فقدمت الحمرة، ثم قلت: «بين ثوبي نرجس وشقائق» فقدمت الصفرة، فهلّا قدّمتها على الأخرى. فقال: وما هذا الاستقصاء يا بغيض؟.
وتوفي يوم الأربعاء لثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان.
ودريد: بضم الدال المهملة، وفتح الراء، وسكون الياء المثناة من تحتها، وبعدها دال مهملة، وهو تصغير أدرد، والأدرد: الذي ليس فيه سن،
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «ثابت الذهن كامل العقل» .
[2] قال ابن منظور: الكوسج: الأثطّ، وفي «المحكم» : الذي لا شعر على عارضيه. «لسان العرب» (كسج) .

(4/109)


وهو تصغير ترخيم لحذف الهمزة من أوله، كما تقول في تصغير أسود: سويد، و [تصغير] أزهر زهير. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها محمد بن هارون أبو حامد الحضرمي [1] محدّث بغداد في وقته، وله نيّف وتسعون سنة. روى عن إسحاق بن أبي إسرائيل، وأبي همّام السّكوني.
وفيها محمد بن مكحول البيروتي [2] وهو أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن عبد السلام الحافظ الثقة الثبت. سمع محمد بن هاشم البعلبكي، وأبا عمير بن النّحّاس، وطبقتهما بمصر، والشام، والجزيرة، وعنه: أبو سليمان بن زين، وأبو محمد بن ذكوان البعلبكي، والحاكم.
وفيها محمد بن نوح الحافظ أبو الحسن الجنديسابوري [3] الثقة.
روى عن الحسن بن عرفة وغيره، وعنه: الدارقطني وغيره.
وفيها مؤنس الخادم [4] الملقب بالمظفّر، عن نحو تسعين سنة. وكان أميرا معظّما شجاعا منصورا، لم يبلغ أحد من الخدّام منزلته، إلا كافور صاحب مصر.
__________
[1] «العبر» (2/ 194) وانظر «النجوم الزاهرة» (3/ 242) .
[2] «العبر» (2/ 193- 194) وانظر «النجوم الزاهرة» (3/ 242) .
[3] «تذكرة الحفاظ» (3/ 826- 827) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 34- 35) ، وقد تحرفت نسبته في الأصل إلى «الجند النيسابوري» وأثبت ما في المطبوع.
[4] «العبر» (2/ 194) وانظر «النجوم الزاهرة» (3/ 242) .

(4/110)


سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة
فيها انفرد عن مرداويج الدّيلمي أحد قواده، الأمير علي بن بويه، والتقى هو ومحمد بن ياقوت أمير فارس، فهزم محمدا واستوى على مملكة فارس، وهذا أول ظهور بني بويه، وكان بويه من أوساط الناس، يصيد السمك بين الدّيلم، فملك أولاده الدّنيا، وكنية بويه أبو شجاع، ونسبه متصل إلى أزدشير بن بابك [1] من الأكاسرة، وكان له ثلاثة أولاد شجعان في خدمة ابن كالي الدّيلمي، وأسماؤهم: عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة الحسن، ومعزّ الدولة الحسين.
وفيها قتل القاهر الأمير أبا السّرايا نصر بن حمدان، والرئيس إسحاق بن إسماعيل النّوبختي- بالضم، نسبة إلى نوبخت جد- وقيل: قتلهما ابن أخيه أبو أحمد بن المكتفي بلا ذنب، وتفرعن وطغى، وأخذ أبو علي بن مقلة وهو مختف يراسل الخواصّ من المماليك ويجسّرهم [2] على القاهر، ويوحشهم منه، فما برح على أن اجتمعوا على الفتك به، فركبوا إلى الدار والقاهر سكران نائم، وقد طلعت الشمس، فهرب الوزير في إزار، وسلامة
__________
[1] كذا في الأصل والمطبوع: «أزدشير بن بابك» وفي «تاريخ الطبري» و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير، و «وفيات الأعيان» (2/ 457) و «أردشير» بالراء، وكلاهما صواب، انظر «تاج العروس» (أرد) (7/ 382) طبع الكويت.
[2] في الأصل والمطبوع: «ويحشدهم» وأثبت لفظ «العبر» مصدر المؤلف، والجسارة: الجرأة.
انظر «لسان العرب» (جسر) .

(4/111)


الحاجب، فوثبوا على القاهر، فقام مرعوبا وهرب، فتبعوه إلى السّطح، وبيده سيف، فقالوا: انزل، فأبى، فقالوا: نحن عبيدك، فلم تستوحش منّا، فلم ينزل، ففوّق واحد منهم سهما وقال: انزل وإلا قتلتك، فنزل، فقبضوا عليه في جمادى الآخرة، وأخرجوا محمد بن المقتدر ولقّبوه الراضي بالله ووزر ابن مقلة.
قال الصولي: كان القاهر أهوج سفّاكا للدماء، قبيح السيرة، كثير الاستحالة، مدمن الخمر، كان له حربة يحملها، فلا يضعها حتّى يقتل إنسانا، ولولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل، وستأتي بقية ترجمته عند ذكر وفاته في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة [1] إن شاء الله تعالى.
وفيها هلك مرداويج الدّيلمي بأصبهان، وكان قد عظم سلطانه، وتحدثوا أنه يريد قصد بغداد، وكان له ميل إلى المجوس، وأساء إلى أصحابه، فتواطؤا على قتله في الحمام، وبعث الراضي بالعهد إلى علي بن بويه على البلاد التي استولى عليها، والتزم بحمل ثمانية آلاف ألف درهم في العام.
وفيها اشتهر محمد بن علي الشّلمغاني ببغداد، وشاع أنه يدّعي الإلهية، وأنه يحيي الموتى، وكثر أتباعه، فأحضره ابن مقلة عند الراضي بالله، فسمع كلامه، وأنكر الإلهيّة، وقال: إن لم تنزل العقوبة بعد ثلاثة أيام وأكثره تسعة أيام، وإلّا فدمي حلال، وكان هذا الشقي قد أظهر الرفض، ثم قال بالتناسخ والحلول، ومخرق على الجهّال، وضلّ به طائفة، وأظهر شأنه الحسين بن روح زعيم الرافضة، فلما طلب هرب إلى الموصل، وغاب سنين ثم عاد وادعى الإلهيّة، فتبعه فيما قيل الذي وزر للمقتدر، الحسين بن الوزير القاسم ابن الوزير عبيد الله بن وهب، وابنا بسطام، وإبراهيم بن أبي عون، فلما قبض عليه ابن مقلة كبس بيته فوجد فيه رقاعا وكتبا مما قيل عنه يخاطبونه في
__________
[1] انظر ص (208- 209) من هذا المجلد.

(4/112)


الرّقاع بما لا يخاطب به البشر، وأحضر فأصرّ على الإنكار فصفعه ابن عبدوس، وأما ابن أبي عون فقال: إلهي وسيدي ورازقي. فقال الراضي للشّلمغاني: أنت زعمت أنك لا تدّعي الربوبية، فما هذا؟ فقال: وما عليّ من قول ابن أبي عون، ثم أحضروا غير مرّة، وجرت لهم فصول، وأحضرت الفقهاء والقضاة، ثم أفتى الأئمة بإباحة دمه، فأحرق في ذي القعدة، وضربت عنق ابن أبي عون، ثم أحرق، وهو فاضل مشهور صاحب تصانيف أدبية، وكان أعني ابن أبي عون- من رؤساء الكتّاب.
وشلمغان: بالشين والغين المعجمتين من أعمال واسط.
وقتل الحسين بن القاسم الوزير [1] ، وكان في نفس الراضي منه.
ولم يحج أحد من بغداد إلى سنة سبع وعشرين خوفا من القرامطة.
وفيها توفي أبو عمر أحمد بن خالد بن الجبّاب [2] القرطبي [3] حافظ الأندلس، وكان أبوه يبيع الجباب [4] . روى عن بقي بن مخلد وطائفة. وعنه:
ولده محمد، ومحمد بن أبي دليم [5] .
قال القاضي عياض: كان إماما في فقه مالك، وكان في الحديث لا ينازع، وارتحل إلى اليمن فأخذ عن إسحاق الدّبري، وعاش بضعا وسبعين سنة، وصنّف التصانيف.
وفيها قاضي مصر، أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة [6] .
__________
[1] «العبر» (2/ 198) وانظر «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 294) .
[2] في الأصل والمطبوع: «ابن الحبّاب» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[3] «العبر» (2/ 198- 199) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 240) و «غربان الزمان» ص (282) .
[4] في الأصل والمطبوع: «الحباب» وهو تصحيف والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[5] في الأصل والمطبوع: «محمد بن أبي وليم» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» .
[6] «العبر» (2/ 199) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 565- 566) .

(4/113)


حدّث بكتب أبيه كلّها من حفظه بمصر، ولم يكن معه كتاب، وهي أحد وعشرون مصنّفا، وولي قضاء مصر شهرا ونصفا [1] .
وفيها العارف الزاهد القدوة خير النّسّاج [2] أبو الحسن البغدادي، وكانت له حلقة يتكلم فيها، وعمّر دهرا، فقيل: إنه لقي سريّا السقطي، وله أحوال وكرامات.
وفيها المهديّ عبيد الله [3] والد الخلفاء الباطنيّة العبيدية الفاطمية.
افترى أنه من ولد جعفر الصادق، وكان بسلميّة [4] فبعث دعاته إلى اليمن، والمغرب، وحاصل الأمر أنه استولى على مملكة المغرب، وامتدت دولته بضعا وعشرين سنة، ومات في ربيع الأول بالمهدية التي بناها، وكان يظهر الرّفض ويبطن الزندقة.
قال أبو الحسن القابسي صاحب «الملخّص» [5] : الذي قتله عبيد الله
__________
[1] في «العبر» و «حسن المحاضرة» (1/ 368) : «شهرين ونصف شهر» .
[2] «العبر» (2/ 199) وانظر «طبقات الصوفية» للسلمي ص (322- 325) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 269- 270) .
قلت: وقد ذكر السّلميّ أن اسمه الصحيح هو محمد بن إسماعيل السّامري، وأنه إنما سمّي خيرا النّسّاج لأنه خرج إلى الحج، فأخذه رجل على باب الكوفة، فقال: أنت عبدي، واسمك خير- وكان أسود- فلم يخالفه، فأخذه الرجل، واستعمله في نسج الخزّ سنين، وكان يقول له: يا خير! فيقول: لبّيك!. ثم قال له الرجل- بعد سنين-: أنا غلطت!. لا أنت عبدي، ولا اسمك خير، فلذلك سمّي خير النساج. وكان يقول: لا أغيّر اسما سمّاني به رجل مسلم، وعاش مائة وعشرين سنة.
[3] «العبر» (2/ 199- 200) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 141- 151) و «غربان الزمان» ص (282) .
[4] بلدة كبيرة بين حمص وحماة من جهة المشرق وتتبع محافظة حماة إداريا في أيامنا. أنجبت فيما مضى جمهرة من العلماء الأفاضل. انظر خبرها في «معجم البلدان» (3/ 240- 241) .
[5] قلت: جمع فيه ما اتصل به إسناده من حديث الإمام مالك في «الموطأ» . قال أبو عمرو الداني: وهو خمسمائة حديث وعشرون حديثا، وهو مخطوط لم ينشر بعد. انظر «كشف الظنون» (2/ 1818) .

(4/114)


وبنوه بعده، في دار النّحر التي يعذب فيها في العذاب، ما بين عالم وعابد، ليردّهم عن الترضّي على [1] الصحابة، فاختار الموت أربعة آلاف رجل، وفي ذلك يقول بعضهم من قصيدة:
وأحلّ دار النّحر في أغلاله ... من كان ذا تقوى وذا صلوات
وقال ابن خلّكان [2] : أبو محمد عبيد الله، الملقب بالمهدي، وجدت في نسبه اختلافا كثيرا.
قال صاحب «تاريخ القيروان» : هو عبيد الله بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
وقال غيره: هو عبيد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر المذكور.
وقيل: هو عبيد الله بن التقي، وفيه اختلاف كثير، وأهل العلم بالأنساب المحقّقون ينكرون دعواه في النسب.
وقيل: إن المهدي لما وصل إلى سجلماسة [3] ونما خبره إلى اليسع، وهو مالكها، وهو آخر ملوك بني مدرار، وقيل له: إن هذا الفتى يدعو إلى بيعة أبي عبد الله الشيعي بإفريقية، أخذه اليسع واعتقله، فلما سمع أبو عبد الله الشيعي باعتقاله حشد جمعا كثيرا من كتامة [4] وغيرها، وقصد سجلماسة لاستنقاذه، فلما بلغ اليسع خبر وصولهم قتل المهديّ في السجن، فلما دنت العساكر من البلد، هرب اليسع، فدخل أبو عبد الله إلى السجن فوجد المهديّ مقتولا وعنده رجل من أصحابه كان يخدمه، فخاف أبو عبد الله أن
__________
[1] في الأصل: «عن» وأثبت ما في المطبوع.
[2] في «وفيات الأعيان» (3/ 117- 119) .
[3] قال ياقوت: سجلماسة: مدينة في جنوبي المغرب بينها وبين فاس عشرة أيام تلقاء الجنوب.
انظر «معجم البلدان» (3/ 192- 193) .
[4] في الأصل: «جمفا عفيرا من كتابه» وهو خطأ وأثبت لفظ المطبوع و «وفيات الأعيان» .

(4/115)


ينتقض عليه ما دبّره من الأمر إن عرفت العساكر بقتل المهدي، فأخرج هذا الرجل وقال: [هذا] هو المهدي.
وهو أول من قام بهذا الأمر من بيتهم، وادّعى الخلافة بالمغرب، وكان داعية أبا عبد الله الشيعي. ولما استتبّ [1] له الأمر قتله وقتل أخاه، وبنى المهدية بإفريقية ولما فرغ من بنائها في شوال سنة ثمان وثلاثمائة بنى سور تونس وأحكم عمارتها وجدّد فيها مواضع، فنسبت إليه.
وملك بعده ولده القائم، ثم المنصور ولد القائم، ثم المعز بن المنصور، وهو الذي سيّر القائد جوهرا وملك الديار المصرية وبنى القاهرة، واستمرت دولتهم حتى انقرضت على يد السلطان صلاح الدّين رحمه الله تعالى.
وكانت ولادته في سنة تسع وخمسين، وقيل: ستين ومائتين [وقيل:
ست وستين ومائتين] [2] بمدينة سلميّة، وقيل: بالكوفة، ودعي له بالخلافة على منابر رقّادة [3] والقيروان يوم الجمعة لتسع بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين، بعد رجوعه من سجلماسة وكان ظهوره بسجلماسة يوم الأحد لسبع خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائتين، وخرجت بلاد المغرب عن ولاية بني العبّاس. انتهى ما قاله ابن خلّكان ملخصا.
وفيها أبو جعفر محمد بن إبراهيم الدّيبلي [4] محدّث مكّة، نسبة إلى ديبل [5]- بفتح أوله وضم الباء مدينة قرب السّند- وتوفي في جمادى الأولى.
روى عن محمد بن زنبور وطائفة.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «استثبت» وهو خطأ والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «وفيات الأعيان» .
[3] في الأصل والمطبوع: «زقادة» وهو تصحيف، والتصحيح من «وفيات الأعيان» . وانظر «معجم البلدان» (3/ 55- 56) .
[4] «العبر» (2/ 200) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 9- 10) .
[5] قلت: وتعرف في أيامنا ب «كراتشي» وهي عاصمة باكستان الإسلامية. وكانت قد أنجبت

(4/116)


وفيها أبو جعفر محمد بن عمرو [العقيلي] [1] الحافظ صاحب «الجرح والتعديل» عداده في أهل الحجاز. روى عن: إسحاق الدّبري، وأبي إسماعيل الترمذي [2] وخلق. وعنه: أبو الحسن محمد بن نافع الخزاعي، وأبو بكر بن المقرئ.
قال الحافظ أبو الحسن القطّان: أبو جعفر ثقة جليل القدر، عالم بالحديث، مقدّم بالحفظ، وتوفي بمكّة في شهر ربيع الأول.
وفيها الزاهد أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكتّانيّ [3] شيخ الصوفية المجاور بمكّة. أخذ عن أبي سعيد الخرّاز وغيره، وهو مشهور.
قال السخاوي في «طبقاته» [4] : قال المرتعش: الكتّانيّ سراج الحرم.
صحب الجنيد. والخرّاز، والنّوري، وأقام بمكّة مجاورا إلى أن مات بها.
ومن كلامه: روعة عند انتباه عن غفلة وانقطاع عن حظ من الحظوظ النفسانيّة، وارتعاد من خوف القطيعة [5] أفضل من عبادة الثقلين.
وقال: وجود العطاء من الحقّ شهود الحقّ بالحقّ، لأن الحقّ دليل على كل شيء، ولا يكون شي دونه دليل عليه.
__________
عددا من أفاضل العلماء فيما مضى ولا زالت تنجب هي وسواها من مدن هذه الدولة الإسلامية العريقة أعدادا كبيرة من العلماء في مختلف العلوم بارك الله فيهم. وانظر خبرها في «معجم البلدان» (2/ 495) و «أطلس التاريخ العربي» للأستاذ شوقي أبو خليل ص (50)
[1] «العبر» (2/ 200) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 236- 239) .
[2] هو أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل بن محمد بن يوسف السلمي الترمذي من أهل بغداد، ترمذي الأصل. فقيه عالم صدوق، مكثر من الحديث، مشهور بالطلب. مات في شهر رمضان من سنة (280) هـ. انظر ترجمته في «الأنساب» للسمعاني (3/ 47- 48) .
[3] «العبر» (2/ 200- 201) و «طبقات الصوفية» ص (373- 377) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 533- 535) .
[4] انظر هذه النقول في «طبقات الصوفية» للسلمي.
[5] في «طبقات الصوفية» : «من خوف قطيعة» .

(4/117)


وقال: إذا صحّ الافتقار إلى الله صحّ الغنى [1] به، لأنهما حالان لا يتم أحدهما إلا بصاحبه.
وقال: الشهوة زمام الشيطان فمن [2] أخذ بزمامه كان عبده.
وقال: العارف من يوافق معروفه في أوامره، ولا يخالفه في شيء من أحواله، ويتحبّب إليه بصحبة [3] أوليائه، ولا يفتر عن ذكره طرفة عين.
وقال: الصوفيّ من عزفت نفسه عن الدّنيا تطرّفا، وعلت همّته عن الآخرة، وسخت نفسه بالكلّ طلبا وشوقا لمن له الكلّ.
وقال: من طلب الراحة عدم الراحة [4] . انتهى ملخصا.
وفيها أبو علي محمد بن أحمد بن القاسم الرّوذباري البغدادي [5] الزاهد المشهور، الشافعي.
قال الإسنويّ: وهو براء مضمومة وواو ساكنة ثم ذال معجمة مفتوحة، ثم باء موحدة وبعد [6] الألف راء مهملة وياء النسب.
كان فقيها نحويا حافظا للأحاديث، عارفا بالطريقة، له تصانيف كثيرة، وأصله من بغداد، من أبناء الوزراء والكبار، يتصل نسبه بكسرى، فصحب الجنيد حتّى صار أحد أئمة الوقت وشيخ الصوفية، وكان يقول: أستاذي في التصوّف الجنيد، وفي الحديث إبراهيم الحربي، وفي الفقه ابن سريج، وفي النحو ثعلب. ومن شعره:
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «الغناء» وما أثبته من «طبقات الصوفية» .
[2] في الأصل والمطبوع: «من» وما أثبته من «طبقات الصوفية» .
[3] في «طبقات الصوفية» : «بمحبة» .
[4] هذا النقل الأخير لا يوجد في «طبقات الصوفية» .
[5] «العبر» (2/ 201) و «طبقات الصوفية» ، ص (354) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 535- 536) .
[6] في الأصل والمطبوع: «بعد» وما أثبته هو الصواب.

(4/118)


ولو مضى الكلّ منّي لم يكن عجبا ... وإنما عجبي للبعض كيف بقي
أدرك بقية روح فيك قد تلفت ... قبل الفراق فهذا آخر الرّمق
[1] سكن مصر وتوفي بها، وقد اختلف في اسمه فقال الخطيب وابن السمعاني [2] : إنه محمد، وقال ابن الصلاح في «الطبقات» : أحمد، وقيل:
الحسن. انتهى ملخصا.
__________
[1] البيتان في «الأنساب» (6/ 181) وهما في «البداية والنهاية» (11/ 181) مع بعض الخلاف.
[2] انظر «تاريخ بغداد» (1/ 329) و «الأنساب» (6/ 180) .

(4/119)


سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة
فيها تمكّن الرّاضي بالله، بحيث أنه قلّد ولديه وهما صغيران [1] إمرة المشرق والمغرب.
وفيها محنة ابن شنبوذ القارئ، كان يقرأ في المحراب بالشواذ، فطلبه الوزير ابن مقلة، وأحضر القاضي والقرّاء، وفيهم ابن مجاهد، فناظروه [2] فأغلظ للحاضرين في الخطاب، ونسبهم إلى الجهل، فأمر الوزير بضربه لكي يرجع، فضرب سبع درر [3] ودعا على الوزير بقطع اليد، فقطعت، وسيأتي تمام القصة عند ذكر وفاته إن شاء الله تعالى [4] .
وفيها هاشت الجند وطلبوا أرزاقهم، وأغلظوا لمحمد بن ياقوت، وأخرجوا المحبوسين، ووقع القتال والجد، ونهبت الأسواق، وبقي البلاء أياما، ثم أرضاهم ابن ياقوت، وبعد أيام قبض الراضي بالله على ابن ياقوت وأخيه المظفر، وعظم شأن الوزير ابن مقلة، وتفرد بالأمر [5] ، ثم هاجت عليه الجند، فأرضاهم بالمال.
__________
[1] في «العبر» : «صبيان» .
[2] في الأصل والمطبوع و «غربال الزمان» ص (283) : «فناظره» وأثبت لفظ «العبر» .
[3] الدّرّة: بالكسر التي يضرب بها. «مختار الصحاح» (درر) .
[4] انظر ص (148- 150) من هذا المجلد.
[5] في «العبر» : «بالأمور» .

(4/120)


وفيها استولت بنو عبيد الرافضة على مدينة جنوة بالسيف.
وفيها فتنة البربهاري [1] ، شيخ الحنابلة، فنودي أن لا يجتمع اثنان من أصحابه، وحبس جماعة منهم، وهرب هو.
وفيها وثب ناصر الدولة، الحسن بن عبد الله بن حمدان أمير الموصل على عمّه سعيد بن حمدان، فقتله لكونه أراد أن يأخذ منه الموصل، فسار لذلك ابن مقلة في الجيش، فلما قرب من الموصل، نزح عنها ناصر الدولة، ودخلها ابن مقلة، فجمع منها نحو أربعمائة ألف دينار، ثم أسرع إلى بغداد لتشويش الحال، ثم هزم ناصر الدولة جيش الخليفة ودخل الموصل.
وفيها أخذ أبو طاهر القرمطي- لعنه الله- الركب العراقي، وانهزم الأمير لؤلؤ، وبه ضربات، وقتل خلق من الوفد، وسبيت الحريم، وهلك محمد بن ياقوت في السجن، وسلّم إلى أهله، وأخذ الراضي بالله ماله وأملاكه ومعاملاته، وأطلق أخاه المظفّر بن ياقوت بشفاعة الوزير ابن مقلة، بعد أن حلف له أن يواليه بخير ولا ينحرف عنه، ولا يسعى له، ولا لولده بمكروه، ثم غدر به، وقبض عليه بعد أن جمع عليه الحجرية، فاجتمعوا مع المظفّر بن ياقوت، وقبضوا على ابن مقلة في سنة أربع وثلاثين، وسعوا في عزله من الوزارة وقطع يده كما يأتي إن شاء الله تعالى [2] .
وفيها جمع محمد بن رائق أمير واسط، وحشد وتمكن، وأضمر الخروج.
وفيها توفي الحافظ أبو بشر أحمد بن محمد بن عمرو بن مصعب الكندي المصعبي المروزي. روى عن محمود بن آدم وطائفة، وهو أحد
__________
[1] سترد ترجمته في ص (158- 164) من هذا المجلد.
[2] انظر ص (144) من هذا المجلد.

(4/121)


الوضّاعين الكذّابين، مع كونه كان محدّثا إماما في السّنّة والرد على المبتدعة.
قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن ناصر الدّين في «بديعته» :
كالواضع الموهن المكذّب ... ذاك الفقيه أحمد بن مصعب
وفيها الحافظ أبو طالب أحمد بن نصر البغدادي [2] . روى عن عبّاس الدّوري وطبقته، ورحل إلى أصحاب عبد الرزاق، وكان الدارقطني يقول: هو أستاذي.
قال ابن ناصر الدّين: هو ثقة مأمون.
وفيها نفطويه النحوي، أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة العتكيّ الواسطي [3] ، صاحب التصانيف. روى عن شعيب بن أيوب الصّريفيني وطبقته، وعاش ثمانين سنة. وكان كثير العلم، واسع الرواية، صاحب فنون.
ولد سنة أربع وأربعين أو سنة خمسين ومائتين بواسط، وسكن بغداد، ومات بها يوم الأربعاء لست خلون من صفر بعد طلوع الشمس بساعة، ودفن ثاني يوم بباب الكوفة.
قال ابن خالويه: ليس في العلماء من اسمه إبراهيم وكنيته أبو عبد الله سوى نفطويه.
ومن شعره ما ذكره أبو علي القالي في كتاب «الأمالي» وهو:
قلبي أرقّ عليك [4] من خدّيكا ... وقواي أوهى من قوى جفنيكا
__________
[1] (2/ 203- 204) وانظر «الأنساب» (11/ 346)
[2] «العبر» (2/ 204) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 68) .
[3] «وفيات الأعيان» (1/ 47- 49) و «العبر» (2/ 204) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 75 77) .
[4] في «الأمالي» (1/ 209) و «وفيات الأعيان» : «قلبي عليك أرق» .

(4/122)


لم لا ترقّ لمن يعذّب [1] نفسه ... ظلما ويعطفه هواه عليكا
وفيه يقول أبو عبد الله محمد بن زيد بن علي بن الحسين الواسطي المتكلم المشهور، صاحب كتاب «الإمامة» وكتاب «إعجاز القرآن الكريم» وغيرهما:
من سرّه أن لا يرى فاسقا ... فليجتهد أن لا يرى نفطويه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصيّر الباقي صراخا عليه
وتوفي أبو عبد الله محمد المذكور سنة سبع، وقيل: ست وثلاثمائة.
ونفطويه: بكسر النون وفتحها، والكسر أفصح.
قال الثعالبي [2] : لقب نفطويه لدمامته وأدمته تشبيها [له] بالنّفط. وزيد ويه نسبة إلى سيبويه لأنه كان يجري على طريقته ويدرّس كتابه.
وفيها الحافظ أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني [3] الحافظ، الجوّال، الفقيه، الإستراباذي. سمع علي بن حرب، وعمر بن شبّة وطبقتهما.
قال الحاكم: كان من أئمة المسلمين، سمعت أبا الوليد الفقيه يقول:
لم يكن في عصرنا من الفقهاء أحفظ للفقهيات وأقوال الصحابة بخراسان من أبي نعيم الجرجاني، ولا بالعراق من أبي بكر بن زياد.
وقال أبو علي النيسابوري: ما رأيت بخراسان بعد ابن خزيمة مثل أبي نعيم، كان يحفظ الموقوفات والمراسيل كلها [4] كما نحفظ نحن المسانيد.
انتهى.
__________
[1] في «الأمالي» : «لمن تعذّب» .
[2] انظر كتابه «لطائف المعارف» ص (48) بتحقيق الأستاذين محمد أبو الفضل إبراهيم، وحسن كامل الصيرفي.
[3] «العبر» (2/ 204- 205) وانظر «سير أعلام النبلاء» (14/ 541- 547) .
[4] لفظة «كلها» لم ترد في «العبر» .

(4/123)


وله «كتاب الضعفاء» في عشرة أجزاء، وممّن أخذ عنه ابن صاعد مع تقدمه، وأبو علي الحافظ، وأبو سعيد الأزدي.
قال الخطيب [1] : كان أحد الأئمة من الحفّاظ لشرائع الدّين، مع صدق وتيقظ وورع [2] . انتهى.
وفيها قاضي الكوفة، أبو الحسن، علي بن محمد بن هارون الحميري [3] الكوفي الفقيه. روى عن أبي كريب، والأشج، وكان [ثقة] [4] يحفظ عامة حديثه.
وفيها علي بن الفضل بن طاهر بن نصر أبو الحسن البلخي [5] الحافظ، الثقة، الجوّال. روى عن أحمد بن سيّار المروزي، وأبي حاتم الرّازي، وهذه الطبقة، وعنه: الدارقطني وقال: ثقة حافظ، وابن شاهين.
قال الخطيب [6] : كان ثقة، حافظا، جوّالا في الحديث، صاحب غرائب.
وفيها أبو عبيد المحاملي، القاسم بن إسماعيل بن محمد الضبيّ [7] القاضي الإمام العلّامة الحافظ البحر. ولد سنة خمس وثلاثين ومائتين وأخذ عن الفلّاس، والدّورقي وغيرهما، وعنه: دعلج، والدارقطني، وابن جميع.
وأثنى عليه الخطيب [8] .
__________
[1] في «تاريخ بغداد» (10/ 428) .
[2] في «تاريخ بغداد» : «مع صدق وتورع، وضبط وتيقظ» .
[3] «العبر» (2/ 205) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 13- 14) و «غربال الزمان» ص (284) .
[4] زيادة من «العبر» مصدر المؤلف.
[5] «تذكرة الحفاظ» (3/ 871- 872) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 69- 70) .
[6] في «تاريخ بغداد» (12/ 47) وقد نقل المؤلف كلامه بتصرف.
[7] «العبر» (2/ 205) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 258- 263) .
[8] قلت: وذلك في قوله عنه في «تاريخ بغداد» (8/ 20) : وكان فاضلا، صادقا، ديّنا.

(4/124)


وفيها موسى بن العبّاس، أبو عمران الجويني [1] . حدّث عن جماعة وعنه جماعة، صنّف على «صحيح مسلم» مصنفا صار له عديلا، وكان حافظا، مجوّدا، ثقة، نبيلا، وكان يقوم الليل يصلي ويبكي طويلا. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو الحسن محمد بن أحمد بن عمارة الدمشقي العطار [2] وله ست وتسعون سنة. روى عن أبي هشام [3] الرفاعي وطبقته.
وفيها الحافظ محمد بن أحمد بن أسد الهروي الأصل السلامي البغدادي أبو بكر بن البستنبان [4]- نسبة إلى حفظ البستان- كان إماما، ثقة، ثبتا.
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 235- 236) .
[2] «العبر» (2/ 205) و «تهذيب الكمال» (3/ 1290) مصوّرة دار المأمون للتراث، ضمن ترجمة (أبو هشام محمد بن يزيد بن محمد بن كبير بن رفاعة العجلي الرفاعي) .
[3] في الأصل والمطبوع: «روى عن أبي هاشم الرفاعي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «تهذيب الكمال» .
[4] انظر «البداية والنهاية» (11/ 183) .

(4/125)


سنة أربع وعشرين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» اشتد الجوع وكثر الموت، فمات بأصبهان نحو مائتي ألف.
وفيها ثارت الغلمان الحجرية، وتحالفوا واتّفقوا، ثم قبضوا على الوزير ابن مقلة وأحرقوا داره، ثم سلّم إلى الوزير عبد الرحمن [بن عيسى] [1] فضربه وأخذ خطه بألف ألف دينار، وجرى [2] له عجائب من الضرب والتعليق، ثم عزل عبد الرحمن ووزر أبو جعفر محمد بن القاسم الكرخي.
وكان ياقوت والد محمد والمظفر بعسكر مكرم يحارب عليّ بن بويه لعصيانه، فتمت له أمور طويلة، ثم قتل وقد شاخ، وتغلب ابن رائق وابن بويه على الممالك، وقلّت الأموال على الكرخي، فعزل بسليمان بن الحسن، فدعت الضرورة الراضي بالله إلى أن كاتب محمد بن رائق ليقدم، فقدم في جيشه إلى بغداد، وبطل حينئذ أمر الوزارة والدواوين، فاستولى ابن رائق على الأمور، وتحكم في الأموال، وضعف أمر الخلافة، وبقي الراضي معه صورة. قاله في «العبر» [3] .
__________
[1] زيادة من «العبر» .
[2] في «العبر» : «وجرت» .
[3] (2/ 206) .

(4/126)


وفيها توفي أحمد بن بقيّ بن مخلد، أبو عمر الأندلسي [1] قاضي الجماعة [في أيام] [2] الناصر لدين الله. ولي عشرة أعوام، وروى الكتب عن أبيه.
وفيها أبو الحسن جحظة البرمكي النديم، وهو أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك [3] الأديب الأخباري، صاحب الغناء والألحان والنوادر.
قال ابن خلّكان [4] : كان فاضلا، صاحب فنون وأخبار، ونجوم ونوادر.
وكان من ظرفاء عصره، وهو من ذرية البرامكة، وله الأشعار الرائقة، فمن شعره:
أنا ابن أناس نوّل [5] الناس جودهم ... فأضحوا حديثا للنّوال المشهّر
فلم يخل من إحسانهم لفظ مخبر ... ولم يخل من تقريضهم [6] بطن دفتر
وله أيضا:
فقلت لها بخلت عليّ يقظى ... فجودي في المنام لمستهام
فقالت لي وصرت تنام أيضا ... وتطمع أن أزورك في المنام
وله أيضا:
أصبحت بين معاشر هجروا النّدى ... وتقبّلوا [7] الأخلاق من أسلافهم
قوم أحاول نيلهم فكأنّما ... حاولت نتف الشعر من آنافهم
__________
[1] «العبر» (2/ 206- 207) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 83- 84 و 241) .
[2] زيادة من «العبر» .
[3] «العبر» (2/ 207) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 221- 222) .
[4] في «وفيات الأعيان» (1/ 133) .
[5] في «ذيل الأمالي» للقالي ص (99) و «وفيات الأعيان» و «سير أعلام النبلاء» «موّل» .
[6] في الأصل والمطبوع: «تقريضهم» في المصادر الأخرى: «تقريظهم» وكلاهما صواب، وهو المدح.
[7] في «وفيات الأعيان» : «وتقيلوا» .

(4/127)


هات اسقينيها بالكبير وغنّني ... ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وله:
يا أيّها الركب الذي ... ن فراقهم إحدى البليّه
يوصيكم الصّبّ المقي ... م بقلبه خير الوصيّه
ومن أبياته السائرة قوله:
ورقّ الجو حتّى قيل هذا ... عتاب بين جحظة والزمان
ولابن الرّومي فيه، وكان مشوّه الخلق:
نبّئت جحظة يستعير جحوظه ... من فيل شطرنج ومن سرطان
وا رحمتا لمنادميه تحمّلوا ... ألم العيون للذّة الآذان
وتوفي بواسط، وقيل: حمل تابوته من واسط إلى بغداد.
وجحظة: بفتح الجيم، لقب عليه، لقبه به عبد الله بن المعتز. انتهى ملخصا.
وفيها ابن مجاهد مقرئ العراق، أبو بكر أحمد بن موسى بن العبّاس بن مجاهد [1] . روى عن سعدان بن نصر، والرّمادي [2] وخلق. وقرأ على قنبل، وأبي الزّعراء، وجماعة، وكان ثقة بصيرا بالقراءات وعللها، عديم النظير. توفي في شعبان عن ثمانين سنة.
وفيها ابن المغلّس الداودي [3] ، وهو العلّامة أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلّس البغدادي الفقيه، أحد علماء الظاهر. له مصنفات كثيرة، وخرج له عدة أصحاب. تفقه على محمد بن داود الظاهري.
__________
[1] «العبر» (2/ 207) وانظر «معرفة القراء الكبار» للذهبي (1/ 269- 271) ، وانظر ص (16- 20) من مقدمة العالم الكبير الدكتور شوقي ضيف ل «كتاب السبعة في القراءات» للمترجم.
[2] تحرف في «العبر» إلى «الزيادي» فيصحّح فيه.
[3] «العبر» (2/ 207) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 77- 78) .

(4/128)


وفيها ابن زياد النيسابوري، أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل [1] الفقيه الشافعي الحافظ. صاحب التصانيف والرحلة الواسعة. سمع محمد بن يحيى الذّهلي، ويونس [بن عبد الأعلى] الصّدفي، وغيرهما.
ومنه: ابن عقدة، والدارقطني.
قال الدارقطني: ما رأيت أحفظ من ابن زياد، كان يعرف زيادات الألفاظ، وأثنى عليه الحاكم، وهو ثقة.
قال الإسنوي: ولد في أول سنة ثمان وثمانين ومائتين، ورحل في طلب العلم إلى العراق، والشام، ومصر. وقرأ على المزني، وبرع في العلم، وسكن بغداد، وصار إماما للشافعية بالعراق. وسمع من جماعة كثيرة، وروى عنه جماعة، منهم الدارقطني، وقال: إنه أفقه المشايخ، وإنه لم ير مثله.
أقام أربعين سنة لا ينام الليل ويصلي الصبح بوضوء العشاء. وصنّف كتبا، منها «كتاب الرّبا» . انتهى ملخصا.
وفيها قاضي حمص، أبو القاسم عبد الصمد بن سعيد الكندي [2] .
روى عن محمد بن عوف الحافظ، وعمران بن بكّار، وطائفة. وجمع «التاريخ» [3] .
وفيها الإمام العلّامة، البحر الفهّامة، أبو الحسن الأشعري [4] علي بن إسماعيل بن أبي بشر المتكلم البصري، صاحب المصنفات، وله بضع وستون سنة. أخذ [الحديث] عن زكريا السّاجي، وعلم الجدل والنظر عن أبي علي الجبّائي، ثم ردّ على المعتزلة.
__________
[1] «العبر» (2/ 207- 208) وما بين حاصرتين منه وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 65- 68) .
[2] «العبر» (2/ 208) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 266- 267) .
[3] وقد خصصه لذكر من نزل حمص من الصحابة. قاله الذهبي في «سير أعلام النبلاء» .
[4] «العبر» (2/ 208- 209) وما بين حاصرتين منه وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 85- 90) .

(4/129)


ذكر ابن حزم، أن للأشعري خمسة وخمسين تصنيفا، وأنه توفي في هذا العام.
وقال غيره: توفي سنة ثلاثين، وقيل: بعد الثلاثين، وكان قانعا متعفّفا.
قاله في «العبر» .
قلت: ومما بيّض به وجوه أهل السّنّة النبوية، وسوّد به رايات أهل الاعتزال والجهمية، فأبان به وجه الحق الأبلج ولصدور أهل الإيمان والعرفان أثلج، مناظرته مع شيخه الجبّائي، التي بها قصم ظهر كل مبتدع ومرائي [1] ، وهي كما قال ابن خلّكان [2] : سأل أبو الحسن المذكور أستاذه أبا علي الجبائي عن ثلاثة إخوة، كان أحدهم مؤمنا برّا تقيا، والثاني كان كافرا فاسقا شقيا، والثالث كان صغيرا فماتوا، فكيف حالهم؟ فقال الجبّائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات، وأما الصغير فمن أهل السلامة. فقال الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟ فقال:
الجبائي: لا، لأنه يقال له: أخوك إنما وصل إلى هذه الدرجات بسبب طاعاته [3] الكثيرة، وليس لك تلك الطاعات، فقال الأشعري: فإن قال: ذلك التقصير [4] ليس منّي، فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة، فقال الجبّائي: يقول الباري جلّ وعلا: كنت أعلم لو بقيت لعصيت وصرت مستحقا للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك. فقال الأشعري: فلو قال الأخ الأكبر: يا إله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلم راعيت مصلحته دوني؟ فانقطع الجبائي. ولهذه المناظرة دلالة على أن الله تعالى خصّ من شاء برحمته، وخصّ آخر بعذابه. وإلى أبي الحسن انتهت رياسة
__________
[1] في المطبوع: «مرائي» .
[2] في «وفيات الأعيان» (4/ 267- 268) ضمن ترجمة شيخه الجبّائي
[3] في الأصل والمطبوع: «طاعته» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[4] في الأصل: «الصغير» وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.

(4/130)


الدّنيا في الكلام، وكان في ذلك المقدّم المقتدى الإمام.
قال في كتابه «الإبانة في أصول الديانة» [1]- وهو آخر كتاب صنّفه وعليه يعتمد أصحابه في الذّبّ عنه عند من يطعن عليه-: فصل في إبانة قول أهل الحق والسّنّة: فإن قال [لنا] قائل، قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة، فعرّفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكلام ربنا [عزّ وجلّ] وسنّة نبينا [صلى الله عليه وسلم] ، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول [به] أبو عبد الله أحمد بن حنبل- نضّر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال، وأوضح المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشكّ الشاكّين [2] ، فرحمة الله عليه من إمام مقدّم، وجليل معظّم، وكبير مفخّم [3] [وعلى جميع أئمة المسلمين] .
وجملة قولنا: أنا نقرّ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبما جاء من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله، عزّ وجل، إله واحد [4] لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق. وأن الجنّة حق، وأن النّار حق. وأن الساعة آتية لا ريب فيها. وأن الله يبعث من في القبور. وأن
__________
[1] ص (17- 26) قرأه وقدّم له وحكم على الأحاديث الواردة فيه والدي الأستاذ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله تعالى، وقد نقل المؤلف عنه بتصرّف واختصار، وما بين حاصرتين في سياق النقل زيادة منه.
[2] في المطبوع: «المشاكين» وهو خطأ.
[3] في الأصل والمطبوع: «مفهم» وأثبت لفظ «الإبانة» .
[4] في الأصل والمطبوع: «وأنه إله واحد» وأثبت لفظ «الإبانة» .

(4/131)


الله مستو على عرشه كما قال: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى 20: 5 [طه: 5] وأن له وجها [بلا كيف] [1] كما قال: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ 55: 27 [الرحمن: 27] وأن له يدين بلا كيف كما قال: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ 38: 75 [ص: 75] وكما قال: [2] بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ 5: 64 [المائدة: 64] وأن له عينين بلا كيف كما قال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا 54: 14 [القمر: 14] . وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا.
وندين بأن الله يقلّب القلوب [وأن القلوب] بين أصبعين من أصابع الله، عزّ وجل، [وأنه سبحانه] ، يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، كما جاءت الرواية عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم [3] [من غير تكييف] .
وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلّم الروايات الصحيحة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، التي رواها الثقات عدلا عن عدل.
ونصدّق بجميع الروايات التي رواها وأثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدّنيا، وأن الرّبّ، عزّ وجل، يقول: هل من سائل، هل من مستغفر، وسائر ما نقلوه وأثبتوه، خلافا لأهل الزيغ والتضليل.
ونقول: إن الله [عزّ وجل] يجيء يوم القيامة كما قال: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا 89: 22 [الفجر: 22] وأن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ من حَبْلِ الْوَرِيدِ 50: 16 [ق: 160] وكما قال: ثُمَّ دَنا 53: 8
__________
[1] زيادة من «الإبانة» .
[2] زيادة من «الإبانة» قلت: وذلك فيما رواه البخاري رقم (7414) في التوحيد: باب قول الله تعالى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ 38: 75
[3] رواه مسلم رقم (2786) في صفات المنافقين: باب صفة القيامة والجنة والنار، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ونصه عنده أن حبرا من أحبار اليهود جاء إلى النبيّ، صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أو يا أبا القاسم! إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزّهنّ، فيقول: أنا الملك، أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعجبا مما قال الحبر، تصديقا له، ثم قرأ وَما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ 39: 67 [الزمر: 67] .

(4/132)


فَتَدَلَّى [1] فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى 53: 8- 9 [النجم: 8- 9] . انتهى ملخصا.
وقد ذكر ابن عساكر في كتابه «الذبّ عن أبي الحسن الأشعري» [2] ما يقرب من ذلك إن لم يكن بلفظه، ولعمري إن هذا الاعتقاد هو ما ينبغي أن يعتقد ولا يخرج عن شيء منه إلّا من في قلبه غش ونكد، وأنا أشهد الله على أنني أعتقده جميعه وأسأل الله الثبات عليه، وأستودعه عند من لا تضيع عنده وديعة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد معلّم الخيرات.
وفيها علي بن عبد الله بن مبشّر أبو الحسن الواسطي [3] المحدّث.
سمع عبد الحميد بن بيان، وأحمد بن سنان [القطّان] .
__________
[1] أقول: انظر التعليق على قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى 53: 8 في «زاد المسير في علم التفسير» للحافظ ابن الجوزي (8/ 65) الذي حققته بالاشتراك مع زميلي الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، وطبعه المكتب الإسلامي. (ع) .
[2] وهو المعروف ب «تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري» انظر ص (157- 163) منه، طبعة مكتبة القدسي بالقاهرة.
[3] «العبر» (2/ 209) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 25- 26) وما بين حاصرتين زيادة منهما.

(4/133)


سنة خمس وعشرين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» صارت فارس في يد علي بن بويه، والرّيّ، وأصبهان، والجبل، في يد الحسن بن بويه، وديار بكر، ومضر، والجزيرة في يد بني حمدان. ومصر، والشام في يد محمد بن طغج، والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمد الأموي، وخراسان في يد نصر بن أحمد، واليمامة وهجر، وأعمال البحرين في يد أبي طاهر القرمطي، وطبرستان، وجرجان في يد الدّيلم، ولم يبق في يد الخليفة غير مدينة السلام، وبعض السّواد [1] .
وفيها أشار محمد بن رائق على الرّاضي بأن ينحدر معه إلى واسط ففعل، ولم تمكنه المخالفة، فدخلها يوم عاشوراء المحرم، وكانت الحجّاب أربعمائة وثمانين نفسا، فقرر ستين وأبطل عامّتهم، وقلّل أرزاق الحشم، فخرجوا عليه وعسكروا فالتقاهم ابن رائق فهزمهم، وضعفوا، وتمزقت الساجية والحجرية، فأشار حينئذ على الراضي بالتقدم إلى الأهواز وبها [أبو] عبد الله البريدي ناظرها، وكان شهما مهيبا حازما، فتسحب إليه خلف من المماليك والجند، فأكرمهم وأنفق فيهم الأموال ومنع الخراج، ولم يبق مع الراضي غير بغداد والسواد، مع كون ابن رائق يحكم عليه، ثم رجع إلى
__________
[1] انظر الخبر في «صلة تاريخ الطبري» للقرطبي ص (307) .

(4/134)


بغداد ووقعت الوحشة بين ابن رائق وأبي عبد الله البريدي، وجاء القرمطي فدخل إلى الكوفة، فعاث ورجع، وأذن ابن رائق للراضي أن يستوزر أبا الفتح الفضل بن الفرات، فطلبه من الشام وولّاه، والتقى أصحاب ابن رائق وأصحاب البريدي غير مرة، وينهزم أصحاب ابن رائق، وجرت لهم أمور طويلة، ثم إن البريدي دخل إلى فارس فأجاره علي بن بويه، وجهز معه أخاه أحمد لفتح الأهواز، ودام أهل البصرة على عصيان ابن رائق لظلمه، فحلف إن ظفر بها ليجعلنها رمادا، فجدّوا في مخالفته، وقلّت الأموال على محمد بن رائق، فساق إلى دمشق، وزعم أن الخليفة ولّاه إياها، ولم يجسر أحد أن يحجّ خوفا من القرمطي.
وفيها توفي وكيل أبي صخرة أبو بكر أحمد بن عبد الله البغدادي النّحّاس [1] وقد قارب التسعين. روى عن الفلّاس وجماعة.
وفيها أبو حامد بن الشّرقي [2] الحافظ البارع، الثقة، المصنّف، أحمد بن محمد بن الحسن، تلميذ مسلم. روى عن الذّهلي، وأحمد بن الأزهر، وأبي حاتم وخلق. وعنه ابن عقدة، والعسّال، وأبو علي. وكان حجّة، وحيد عصره حفظا، وإتقانا، ومعرفة. وحجّ مرات، وقد نظر إليه ابن خزيمة فقال: حياة أبي حامد [3] تحجز بين الناس وبين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي في رمضان عن خمس وثمانين سنة.
وفيها إبراهيم بن عبد الصمد بن موسى بن محمد أبو علي الأمير أبو إسحاق الهاشمي [4] في المحرم، وهو آخر من روى «الموطأ» عن أبي مصعب.
__________
[1] «العبر» (2/ 210) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 70) .
[2] «العبر» (2/ 210- 211) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 37- 39) .
[3] في الأصل والمطبوع: «أبي محمد» وهو خطأ.
[4] «العبر» (2/ 211) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 71- 73) .

(4/135)


وفيها أبو العبّاس الدّغولي محمد بن عبد الرحمن [1] الحافظ الثبت الفقيه. روى عن عبد الرحمن بن بشر بن الحكم [2] ، ومحمد بن إسماعيل الأحمسي، وطبقتهما. وعنه أبو علي الحافظ، والجوزقي، وكان من أئمة هذا الشأن ومن كبار الحفّاظ، أثنى عليه أبو أحمد بن عدي، وابن خزيمة، وغيرهما.
وفيها مكّي بن عبدان أبو حاتم التميمي النيسابوري [3] الثقة الحجة.
روى عن عبد الله بن هاشم، والذّهلي، وطائفة، ولم يرحل.
وفيها أبو مزاحم الخاقاني، موسى بن الوزير عبد الله بن يحيى بن خاقان البغدادي [4] المقرئ المحدّث السّنّي. وفد على أبي بكر المروزي، وعبّاس الدّوري، وطائفة.
وفيها الحافظ الثقة، أبو حفص عمر بن أحمد بن علي بن علّك المروزي والجوهري [5] . روى عن سعيد بن مسعود، والدّوري. وعنه ابن المظفر، والدارقطني وابنه [أحفظ منه.
وفيها الحافظ الثقة العدل، ممّوس، وهو إبراهيم بن محمد بن يعقوب الهمذاني [6]] [7] البزّاز، من كبار أئمة هذا الشأن.
__________
[1] «العبر» (2/ 211) وانظر «الأنساب» (5/ 322) و «طبقات الحفاظ» ص (343) .
[2] في الأصل والمطبوع: «روى عن عبد الرحمن بن بشر بن عبد الحكم» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «تذكرة الحفاظ» للذهبي (3/ 823) .
[3] «العبر» (2/ 211) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 70 71) .
[4] «العبر» (2/ 211) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 94- 95) .
[5] انظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 243- 245) .
[6] انظر «تذكرة الحفاظ» (3/ 838- 839) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 389- 390) ، وقد تصحفت «الهمذاني» إلى «الهمداني» و «البزاز» إلى «البزار» في المطبوع.
[7] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.

(4/136)