شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة ست وثلاثين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» ظهر كوكب عظيم ذو ذنب منتشر، طوله نحو ذراعين، فبقي ثلاثة عشر يوما، ثم اضمحل. انتهى.
وفيها ظفر المنصور العبيدي بمخلد بن كيداد، وقتل قوّاده، ومزّق جيشه.
وفيها توفي الحافظ العلم الثقة، أبو الحسين، أحمد بن المنادي، واسم المنادي جعفر بن محمد بن جعفر بن أبي داود عبيد الله البغدادي، وله ثمانون سنة، صنّف، وجمع، وسمع من [جدّه] [1] ، وغيره. ومنه: أحمد بن نصر الشّذائي، وغيره.
قال الخطيب [2] : كان صلب الدّين [خشنا] ، شرس الأخلاق، مع كونه ثقة.
وفيها حاجب بن أحمد بن يرحم، أبو محمد، الطّوسي، وهو معمّر، ضعيف الحديث. زعم أنه ابن مائة وثمان سنين، وحدّث عن محمد بن رافع، والذهلي، والكبار.
__________
[1] لفظة «جدّه» سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «العبر» (2/ 248) .
[2] في «تاريخ بغداد» (4/ 69) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف، وما بين حاصرتين زيادة منه.

(4/197)


قاله في «العبر» [1] .
وقال في «المغني» [2] : حاجب بن أحمد الطّوسي، شيخ مشهور، لقيه ابن مندة، ضعفه الحاكم وغيره في اللّقي [3] . انتهى.
وفيها أبو العبّاس الأثرم، محمد بن أحمد بن حمّاد المقرئ البغدادي، وله ست وتسعون سنة. روى عن الحسن بن عرفة، وعمر بن شبّة [4] والكبار، وتوفي بالبصرة.
وفيها الحكيمي- مكبّرا نسبة إلى حكيم جد- محمد بن أحمد بن إبراهيم الكاتب ببغداد في ذي الحجة. روى عن زكريا بن يحيى المروزي وطبقته.
وفيها الميداني، أبو علي [محمد بن أحمد] [5] بن محمد بن معقل النيسابوري، في رجب فجأة، وكان عنده جزء عن الذّهلي، وهو الذي تفرّد به سبط السّلفي.
وفيها أبو طاهر المحمّد أباذي- نسبة إلى محمّد أباذ محلة خارج نيسابور [6]- محمد بن الحسن بن محمد النيسابوري، أحد [أئمة] [7] اللسان.
روى عن أحمد بن يوسف السّلمي وطائفة، وببغداد عن عبّاس الدّوري وذويه، وكان إمام الأئمة ابن خزيمة إذا شكّ في لغة سأله [8] .
__________
[1] (2/ 249) .
[2] «المغني في الضعفاء» (1/ 140) .
[3] أي في لقاء الشيوخ.
[4] في الأصل: «ابن شيبة» وهو خطأ وأثبت ما في المطبوع.
[5] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.
[6] قال ياقوت في «معجم البلدان» (5/ 64) : قرية على باب نيسابور، بينهما فرسخ.
[7] سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «العبر» (2/ 250) .
[8] في الأصل: «يسأله» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما عند الذهبي في «العبر» .

(4/198)


سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة
فيها كان الغرق ببغداد، وبلغت دجلة أحدا وعشرين ذراعا، وهلك خلق تحت الهدم.
وفيها قوي معزّ الدولة على صاحب الموصل ابن حمدان، وقصده، ففرّ ابن حمدان إلى نصيبين، ثم صالحه على حمل ثمانية آلاف ألف في السنة.
وفيها خرجت الرّوم- لعنهم الله- وهزمهم سيف الدولة على مرعش [1] ، وملك مرعش.
وفيها توفي أبو إسحاق القرميسيني- نسبة إلى قرميسين مدينة بالعراق [2]- إبراهيم بن شيبان، شيخ الصوفية ببلاد الجبل. صحب إبراهيم الخوّاص، وساح بالشام.
ومن كلامه: علم الفناء والبقاء، يدور على إخلاص الوحدانية، وصحة العبوديّة، وما كان غير هذا، فهو من المغاليط والزندقة.
قال السخاوي [3] : له مقامات في الورع والتقوى، يعجز عنها الخلق،
__________
[1] مدينة تقع الآن في الجنوب الأوسط من تركية المعاصرة. على مقربة من الحدود السورية، وتعرف الآن هناك ب «مركاسي» . انظر «معجم البلدان» (5/ 107) ، و «أطلس التاريخ العربي» للأستاذ شوقي أبو خليل ص (17) طبع دار الفكر بدمشق.
[2] انظر «معجم البلدان» (4/ 330- 331) .
[3] وله ترجمة مفصلة في «طبقات الصوفية» للسلمي ص (402- 405) فراجعها.

(4/199)


وكان متمسكا بالكتاب والسّنّة، لازما لطريقة المشايخ والأئمة المتقدمين.
قال عبد الله بن منازل [1]- وقد سئل عنه-: هو حجّة الله على الفقراء، وأهل الآداب والمعاملات.
ومن كلامه: من أراد أن يتعطّل ويتبطّل، فليلزم الرّخص.
والذي ذكره اليافعي في «نشر المحاسن» عنه: من أراد أن يتعطل، أو يتبطل، أو يتنطل، فليلزم الرّخص.
ومعنى يتنطل من قول العرب: فلان ناطل، يعنون ليس بجيد، بل ساقط، ويقولون: نطل الخبز من التنور: إذا سقط منه ووقع في الرماد.
ومن كلامه: إذا سكن الخوف القلب أحرق محلّ الشهوات فيه، وطرد عنه رغبة الدّنيا، وحال بينه وبين النوم، وبعّده [2] [عنها] فإن الذي قطعهم وأهلكهم، محبة الراكنين إلى الدّنيا.
وقال: يا بني! تعلّم العلم لأدب الظاهر، واستعمل الورع لأدب الباطن، وإياك أن يشغلك عن الله شاغل، فقلّ من أعرض عنه، فأقبل عليه.
وقال: الخلق محل الآفات، وأكثر منهم آفة من يأنس بهم أو يسكن إليهم.
وقال: صحبت أبا عبد الله المغربي ثلاثين سنة، فدخلت عليه يوما وهو يأكل، فقال لي: أدن وكل معي، فقلت له: إني قد صحبتك منذ ثلاثين سنة لم تدعني إلى طعامك إلّا اليوم، فما بالك دعوتني اليوم؟ فقال: لأن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يأكل طعامك إلّا تقيّ» [3] ولم يظهر لي تقاك إلّا اليوم.
__________
[1] في الأصل: «أبو عبد الله بن منازل» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. وانظر «طبقات الصوفية» للسلمي ص (366- 369) وص (402) .
[2] في الأصل والمطبوع: «وبعد» والتصحيح من «طبقات الصوفية» وفي بعض الخبر فيه سقط، والله أعلم، ولفظة «عنها» زيادة منه.
[3] قطعة من حديث رواه أبو داود رقم (4832) في الأدب: باب من يؤمر أن يجالس، والترمذي.

(4/200)


وفيها محمد بن علي بن عمر، أبو علي النيسابوري، المذكّر، أحد الضعفاء. سمع من أحمد بن الأزهر وأقرانه، ولو اقتصر عليهم لكان مسند خراسان [1] ولكنه حدّث عن محمد بن رافع والكبار، [فترك] . قاله في «العبر» [2] .
وقال في «المغني» [3] : محمد بن علي بن عمر المذكّر النيسابوري، شيخ الحاكم، لا ثقة، ولا مأمون. انتهى.
وفيها إسحاق بن إبراهيم بن محمد الجرجاني البحري، أبو يعقوب، حافظ ثقة.
قال ابن ناصر الدّين:
إسحاق البحريّ ذا الجرجاني ... شيخ زكا لحفظه المعاني
__________
رقم (2395) في الزهد: باب ما جاء في صحبة المؤمن، وأحمد في «المسند» (3/ 38) وابن حبان في «صحيحه» رقم (554) و (555) من «الإحسان» طبع مؤسسة الرسالة، والحاكم في «المستدرك» (4/ 128) ، وهو حديث صحيح، لفظه بتمامه: «لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي» .
[1] في «العبر» : «لكان منه خير» ولفظة «فترك» زيادة منه.
[2] (2/ 251) .
[3] (2/ 616) .

(4/201)


سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» وقعت فتنة بين أهل [1] السّنّة والشيعة، ونهبت الكرخ.
وفيها ولي قضاء القضاة، أبو السائب عتبة بن عبد الله، ولم يحجّ ركب العراق.
وفيها توفي المستكفي بالله، أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بالله علي بن المعتضد أحمد العبّاسي، الذي استخلف وسمل في سنة أربع وثلاثين كما ذكرنا، وحبس حتّى مات، وله ست وأربعون سنة. وكان أبيض، جميلا، ربعة، أكحل، أقنى، خفيف العارضين، وأمه أمة، وكانت مدة خلافته سنة واحدة وأربعة أشهر، وما زال مغلوبا على أمره مدة خلافته، والله أعلم.
وفيها أحمد بن سليمان بن زبّان [2] ، أبو بكر الكندي الدمشقي الضرير. ذكر أنه ولد سنة خمس وعشرين ومائتين، وأنه قرأ على أحمد بن يزيد الحلواني، وأنه سمع من هشام بن عمّار، وابن أبي الحواري. وروى
__________
[1] لفظة «أهل» لم ترد في المطبوع.
[2] في الأصل والمطبوع: «ابن ريّان» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 252) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 378) .

(4/202)


عنه تمّام الرّازي، وعبد الرحمن بن أبي نصر، ثم تركا الرواية عنه، لما تبيّن أمره.
قال الحافظ عبد الغني الأزدي: كان غير ثقة.
وقال عبد العزيز الكتاني: كان يعرف بابن زبّان [1] العابد، لزهده وورعه.
وفيها أبو جعفر النّحاس، أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي المصري النحوي، كان ينظّر بابن الأنباري، ونفطويه، وله تصانيف كثيرة، وكان مقتّرا على نفسه، في لباسه وطعامه. توفي في ذي الحجة.
قال السيوطي في «حسن المحاضرة» [2] : وقد أخذ عن الأخفش الصغير وغيره، وروى الحديث عن النسائي، ومن مصنفاته «تفسير القرآن» و «الناسخ والمنسوخ» و «شرح أبيات سيبويه» و «شرح المعلقات» . غرق تحت المقياس [3] ، ولم يدر أين ذهب. انتهى.
وفيها إبراهيم بن عبد الرزاق الأنطاكي المقرئ، مقرئ أهل الشام في زمانه. قرأ على قنبل، وهارون الأخفش، وعثمان بن خرّزاذ، وصنّف كتابا في القراءات الثمان، وروى الحديث عن أبي أميّة الطّرسوسي، وقيل: توفي في السنة الآتية.
وفيها أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي ثابت السّامرّي القاضي، نزيل دمشق، ونائب الحكم بها، وصاحب الجزء المشهور. روى عن الحسن بن عرفة، وسعدان بن نصر، وطائفة من العراقيين، والشاميين، والمصريين، وثّقه الخطيب، وتوفي في ربيع الآخر.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «بابن ريان» وهو خطأ، وانظر التعليق السابق.
[2] (1/ 531) .
[3] عمود رخام كان في وسط بركة على شاطئ النيل بمصر. انظر «معجم البلدان» (5/ 178) .

(4/203)


والسّامرّي: بفتح الميم وتشديد الراء، نسبة إلى سرّ من رأى، مدينة فوق بغداد.
وفيها أبو علي الحصائري [1] الحسن بن حبيب الدمشقي الفقيه الشافعي. روى عن الربيع بن سليمان، وابن عبد الحكم، وحدّث بكتاب «الأم» للشافعي، رضي الله عنه.
قال الكتّاني: هو ثقة، نبيل، حافظ لمذهب الشافعي، مات في ذي القعدة.
وفيها عماد الدولة، أبو الحسن، علي بن بويه بن فناخسرو الديلمي، صاحب بلاد فارس، وهو أول من ملك من إخوته، وكان الملك معز الدولة أحمد أخوه، يتأدّب معه، ويقدّمه على نفسه، عاش بضعا وخمسين سنة، وكانت أيامه ست عشرة سنة، وملك فارس بعده ابن أخيه عضد الدولة بن ركن الدولة.
وذكر أبو محمد هارون بن العبّاس المأموني [2] في «تاريخه» أن عماد الدولة المذكور اتفقت له أسباب عجيبة، كانت سببا لثبات ملكه، منها: أنه لما ملك شيراز في أول ملكه، اجتمع أصحابه وطالبوه بالأموال، ولم يكن معه ما يرضيهم، به وأشرف أمره على الانحلال، فاغتمّ لذلك، فبينا هو مفكر، وقد استلقى على ظهره في مجلس قد خلا فيه للتفكّر والتدبير، إذ رأى حيّة خرجت من موضع من سقف ذلك المجلس ودخلت موضعا آخر منه،
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «الخضايري» وفي «العبر» : «الحضائري» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (15/ 383) و «تبصير المنتبه» (2/ 506) .
[2] هو هارون بن العباس بن محمد العباسي المأموني البغدادي، جمع «تاريخا» على السنين في أخبار الأوائل والحوادث والدول، في مجلدين- وهو الذي نقل المؤلف عنه- وصنّف شرحا ل «مقامات الحريري» مختصرا. مات سنة (573) هـ وسوف ترد ترجمته في المجلد السادس إن شاء الله تعالى، وانظر «الأعلام» للزركلي (8/ 61) .

(4/204)


فخاف أن تسقط عليه، فدعا بالفرّاشين وأمرهم بإحضار سلّم، وأن تخرج الحيّة، فلما صعدوا وبحثوا عن الحيّة، وجدوا ذلك السقف يفضي إلى غرفة بين سقفين، فعرّفوه ذلك، فأمرهم بفتحها، ففتحت فوجد فيها عدّة صناديق من المال والمصاغات، قدر خمسمائة ألف دينار، فحمل المال إلى بين يديه وسرّ به، وأنفقه في رجاله، وثبت أمره بعد أن كان أشفى على الانخرام، ثم إنه قطع ثيابا وسأل عن خيّاط حاذق، فوصف له خياط كان لصاحب البلد قبله، فأمر بإحضاره، وكان أطروشا، فوقع له أنه قد سعي به إليه في وديعة كانت عنده لصاحبه، وأنه طالبه بهذا السبب، فلما خاطبه حلف أنه ليس عنده إلا اثنا عشر صندوقا لا يدري ما فيها، فعجب عماد الدولة من جوابه، ووجّه معه من حملها، فوجد فيها أموالا وثيابا بجملة عظيمة، فكانت هذه الأسباب من أقوى دلائل سعادته، ثم تمكنت حاله واستقرت قواعده، وكانت وفاته يوم الأحد سادس جمادى الأولى بشيراز، ودفن بدار المملكة، وأقام في الملك ستة وعشرين سنة، وقيل: إنه ملك في جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ولم يعقب، وأتاه في مرضه أخوه ركن الدولة، واتفقا على تسليم بلاد فارس إلى عضد الدولة فتسلمها.
وفيها علي بن محمد أبو الحسن الواعظ المصري، وهو بغدادي، أقام بمصر مدة. روى عن أحمد بن عبيد بن ناصح، وأبي يزيد القراطيسي، وطبقتهما، وكان صاحب حديث، له مصنفات كثيرة في الحديث والزهد، وكان مقدّم زمانه في الوعظ.
قال السيوطي في «حسن المحاضرة» [1] : قال ابن كثير: ارتحل إلى مصر، فأقام بها حتّى عرف بالمصري. روى عنه الدارقطني، وغيره، وكان له مجلس وعظ عظيم. مات في ذي القعدة، وله سبع وثمانون سنة. انتهى ملخصا.
__________
[1] (1/ 551) .

(4/205)


وفيها علي بن محمد بن سختونة بن حمشاذ [1] ، أبو الحسن، النيسابوري الحافظ العدل الثقة، أحد الأئمة. سمع الفضل بن محمد الشّعراني، وإبراهيم [بن] ديزيل، وطبقتهما، ورحل، وطوّف، وصنّف، وله مسند كبير في أربعمائة جزء، وأحكام في مائتين وستين جزءا. توفي فجأة في الحمام وله ثمانون سنة.
قال أحمد بن إسحاق الضّبعي: صحبت علي بن حمشاذ [1] في الحضر والسفر، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة.
وفيها محمد بن عبد الله بن دينار، أبو عبد الله، النيسابوري الفقيه، الرجل الصالح. سمع السّريّ بن خزيمة، وأقرانه.
قال الحاكم: كان يصوم النهار، ويقوم الليل، ويصبر على الفقر، ما رأيت في مشايخنا أصحاب الرأي أعبد منه.
__________
[1] تصحف في الأصل والمطبوع إلى «خمشاذ» والتصحيح من «العبر» (2/ 254) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 398) وما بين حاصرتين مستدرك منهما.

(4/206)


سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة
فيها دخل سيف الدولة بن حمدان بلاد الرّوم، في ثلاثين ألفا، فافتتح حصونا، وسبى وغنم، فأخذت الرّوم عليه الدروب، فاستولوا على عسكره قتلا وأسرا، ونجا هو في عدد قليل، ووصل من سلم في أسوأ حال.
وفيها أعادت القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه، وكان بجكم [1] [قد] بذل لهم في ردّه خمسين ألف دينار فلم يردّوه، وقالوا: أخذناه بأمر وإذا ورد أمر رددناه، فردّوه، وقالوا: رددناه بأمر من أخذناه بأمره، لتتمّ مناسك الناس.
قاله في «الشذور» .
وفيها توفي الحافظ أبو محمد، أحمد بن محمد بن إبراهيم الطّوسي البلاذريّ الصغير، روى عن ابن الضّريس وطبقته.
قال الحاكم: كان واحد عصره في الحفظ والوعظ، خرّج «صحيحا» على وضع مسلم، وهو ثقة.
وفيها حفص بن عمر الأردبيلي، أبو القاسم الحافظ، محدّث أذربيجان، وصاحب التصانيف. روى عن أبي حاتم الرّازي، ويحيى بن أبي طالب وطبقتهما. وعنه ابن لال وغيره، وكان رحّالا مصنفا.
والأردبيلي: بالفتح وسكون الراء وضم الدال المهملة، وكسر الموحدة،
__________
[1] تصحف في الأصل والمطبوع إلى «بحكم» والتصحيح من «العبر» وما بين حاصرتين زيادة منه.

(4/207)


وسكون التحتية، نسبة إلى أردبيل من بلاد أذربيجان.
وفيها قاضي الإسكندرية، علي بن عبد الله بن أبي مطر المعافري نسبة إلى المعافر بطن من قحطان- الإسكندراني، الفقيه، أبو الحسن، المالكي وله مائة سنة. روى عن محمد بن عبد الله بن ميمون، صاحب الوليد بن مسلم، وغيره.
وفيها القاضي ابن الأشناني، أبو الحسين، عمر بن الحسن ببغداد.
روى عن محمد بن عيسى بن حيّان المدائني، وابن أبي الدّنيا، وعدّة، وضعفه الدارقطني.
وفيها أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني الصفّار.
روى عن أسيد بن أبي عاصم [وابن أبي الدّنيا] [1] وطبقتهما [2] ، وصنّف في الزهد وغيره، وصحب العبّاد، وكان من أكثر الحفّاظ حديثا.
قال الحاكم: هو محدّث عصره، مجاب الدعوة، لم يرفع رأسه إلى السماء- كما بلغنا-[3] نيفا وأربعين سنة، توفي في ذي القعدة، وله ثمان وتسعون سنة.
وفيها القاهر بالله، أبو منصور، محمد بن المعتضد بالله أحمد بن طلحة بن جعفر العبّاسي، سملت عيناه، وخلع في سنة اثنتين وعشرين، وكانت خلافته سنة وسبعة أشهر، وكان ربعة، أسمر، أصهب الشعر، طويل الأنف، فاتكا ظالما، سيء السيرة، كان بعد الكحل والعمى، يحبس تارة ويترك أخرى، فوقف يوما بجامع المنصور بين الصفوف، وعليه مبطنة بيضاء، وقال: تصدقوا عليّ فأنا من عرفتم، فقام أبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي، فأعطاه خمسمائة درهم، ثم منع لذلك من الخروج، فقيل: إنه
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «العبر» (2/ 256) .
[2] في المطبوع: «وطبقته» .
[3] زيادة من «العبر» .

(4/208)


أراد أن يشنّع بذلك على المستكفي، ولعله فعل ذلك في أيام القحط. توفي في جمادى الأولى، وله ثلاث وخمسون سنة.
وفيها محدّث بغداد، أبو جعفر، محمد بن عمرو بن البختري الرّزّاز، وله ثمان وثمانون سنة. روى عن سعدان بن نصر، ومحمد بن عبد الملك الدقيقي، وطائفة.
وفيها أبو نصر الفارابي، صاحب الفلسفة، محمد بن محمد بن طرخان التركي، ذو المصنفات المشهورة في الحكمة، والمنطق، والموسيقا، التي من ابتغى الهدى فيها أضلّه الله، وكان مفرط الذكاء. قدم دمشق ورتّب له سيف الدولة كل يوم أربعة دراهم إلى أن مات، وله نحو من ثمانين سنة. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن الأهدل: قيل هو أكبر فلاسفة المسلمين، لم يكن فيهم من بلغ رتبته، وبه- أي بتآليفه- تخرّج أبو علي بن سينا، وكان يحقّق كتاب أرسطاطاليس، وكتب عنه في شرحه سبعون سفرا، ولم يكن في وقته مثله، ولم يكن في هذا الفن أبصر من الفارابي، وسئل من أعلم أنت أو أرسطاطاليس؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامذته.
ويقال: أن آلة الصابون من وضعه.
قال الفقيه حسين: هؤلاء الثلاثة متّهمون في دينهم، يعني الفارابي، والكندي، وابن سينا، فلا تغتر بالسكوت عنهم. انتهى ما أورده ابن الأهدل ملخصا.
وقال ابن خلّكان [2] : هو أكبر فلاسفة المسلمين، لم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي بن سينا بكتبه تخرّج، وبه انتفع في
__________
[1] (2/ 257) .
[2] في «وفيات الأعيان» (5/ 153- 157) .

(4/209)


تصانيفه، وكان الفارابيّ رجلا تركيا، ولد في بلده ونشأ بها، ثم خرج من بلده وتنقلت به الأسفار إلى أن وصل إلى بغداد، وهو يعرف اللسان التركي وعدة لغات غير العربي، فشرع في اللسان العربي، فتعلمه وأتقنه غاية الإتقان، ثم اشتغل بعلوم الحكمة.
ولما دخل بغداد كان بها أبو بشر، متّى بن يونس الحكيم المشهور، وهو شيخ كبير، وكان يعلّم الناس فن المنطق، وله إذ ذاك صيت عظيم وشهرة وافية، ويجتمع في حلقته خلق كثير من المشتغلين، وهو يقرأ كتاب أرسطاطاليس في المنطق، ويملي على تلامذته شرحه، فكتب عنه في شرحه سبعون سفرا، ولم يكن في ذلك الوقت مثله أحد في فنه، وكان حسن العبارة في تأليفه، وكان يستعمل في تصانيفه البسط والتذييل، حتّى قال بعض علماء هذا الفن: ما أرى أبا نصر الفارابي أخذ طريق [1] تفهيم المعاني الجزلة بالألفاظ السهلة إلّا من بشر، يعني المذكور، وكان أبو نصر يحضر حلقته في غمار تلامذته.
فأقام أبو نصر برهة، ثم ارتحل إلى مدينة حرّان، وفيها يوحنا بن جيلان، الحكيم النصراني، فأخذ عنه طرفا من المنطق أيضا، ثم إنه قفل إلى بغداد راجعا، وقرأ بها علوم الفلسفة، وتناول جميع كتب أرسطاطاليس، وتمهر في استخراج معانيها، والوقوف على أغراضه فيها، ويقال: إنه وجد «كتاب النفس» لأرسطاطاليس وعليه مكتوب بخط أبي نصر الفارابي: قرأت «السماع الطبيعي» لأرسطاطاليس أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودة قراءته.
ورأيت في بعض المجاميع، أن أبا نصر لما ورد على سيف الدولة، وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف، وكان سلطان الشام يومئذ،
__________
[1] لفظة «طريق» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع و «وفيات الأعيان» (5/ 154) .

(4/210)


فدخل عليه [1] وهو بزيّ الأتراك، وكان ذلك زيّه دائما، فقال له سيف الدولة:
اقعد [2] ، فقال: حيث أنا، أم حيث أنت؟ ثم تخطى رقاب الناس حتّى انتهى إلى مسند سيف الدولة وزاحمه فيه، حتّى أخرجه عنه، وكان على رأس سيف الدولة مماليك، وله معهم لسان خاص يسارهم به، قلّ أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني مسائله عن أشياء إن لم يعرفها فاخرقوا به، فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير، اصبر فإن الأمور بعواقبها، فعجب سيف الدولة منه، وقال له: أتحسن هذا اللسان؟
قال: نعم، أحسن أكثر من سبعين لسانا، فعظم عنده، ثم أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس في كل فن، فلم يزل كلامه يعلو وكلامهم يسفل، حتّى صمت الكلّ، وبقي يتكلم وحده، ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، فصرفهم سيف الدولة وخلا به، فقال له: هل لك [في] أن تأكل شيئا؟ قال:
لا، قال: فهل تشرب؟ قال: لا، قال: فهل تسمع؟ فقال: نعم، فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل ماهر في هذا الفن بأنواع الملاهي، فلم يحرّك أحد منهم آلة إلا وعابه أبو نصر، وقال: أخطأت، فقال سيف الدولة:
وهل تحسن في هذه [3] الصناعة شيئا؟ قال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة، ففتحها وأخرج منها عيدانا فركبها، ثم لعب بها فضحك [منها] كل من في المجلس، ثم فكها وغيّر تركيبها وركبها تركيبا آخر وضرب بها، فبكى كلّ من في المجلس، ثم فكّها وغيّر تركيبها وحرّكها، فنام كلّ من في المجلس، حتّى البوّاب، فتركهم نياما وخرج.
ويحكى أن الآلة المسمّاة بالقانون من وضعه، وهو أول من ركّبها هذا التركيب.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «فأدخل عليه» .
[2] لفظة «اقعد» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.
[3] لفظة «هذه» سقطت من المطبوع.

(4/211)


وكان منفردا بنفسه، لا يجالس الناس، وكان مدة مقامه بدمشق لا يكون غالبا إلا في مجتمع المياه ومشتبك الرياض [1] ويؤلف هناك كتبه، ويأتيه المشتغلون عليه. وكان أكثر تصانيفه فصولا وتعاليق، ويوجد بعضها ناقصا مبتورا، وكان أزهد الناس في الدّنيا، لا يحتفل بأمر مكسب ولا مسكن، وأجرى عليه سيف الدولة من بيت المال كل يوم أربعة دراهم، وهو الذي اقتصر على القناعة [2] . ولم يزل على ذلك إلى أن توفي بدمشق، وصلى عليه سيف الدولة في أربعة من خواصه، وقد ناهز ثمانين سنة، ودفن بظاهر دمشق، خارج باب الصغير.
وتوفي متّى بن يونس ببغداد في خلافة الراضي، هكذا حكاه ابن صاعد القرطبي في «طبقات الأطباء» .
والفارابيّ: بفتح الفاء والراء، وبينهما ألف، وبعد الألف الثانية [3] باء موحدة، نسبة إلى فاراب، وتسمى في هذا الزمان أترار [4] ، وهي مدينة فوق الشّاش، قريبة من مدينة بلاساغون، وجميع أهلها على مذهب الشافعي، رضي الله عنه، وهي قاعدة من قواعد مدن التّرك، ويقال لها: فاراب الداخلة، ولهم فاراب الخارجة، وهي في أطراف بلاد فارس. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وبالجملة فأخباره وعلومه وتصانيفه كثيرة شهيرة، ولكن أكثر العلماء على كفره وزندقته، حتّى قال الإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال» [5] : لا نشك في كفرهما، أي الفارابي وابن سينا.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (5/ 156) : «إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «وهو الذي اقتصر عليها لقناعته» .
[3] لفظة «الثانية» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.
[4] في «وفيات الأعيان» : «أطرار» وكلاهما صواب. انظر «معجم البلدان» (1/ 218) .
[5] انظر صفحة (47) من طبعة الدار التونسية للنشر، والمؤسسة الوطنية للكتاب في الجزائر، بتحقيق الأستاذ عبد الكريم المراق، وقد نقل المؤلف عنه باختصار وتصرف.

(4/212)


وقال فيه أيضا [1] : وأما الإلهيات ففيها أكثر أغاليطهم، وما قدروا على الوفاء بالبرهان على ما شرطوا [2] في المنطق، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيه.
ولقد قرب [3] مذهب أرسطاطاليس فيها من مذهب الإسلاميين [على ما نقله] [4] الفارابي وابن سينا، ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلا، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها، وتبديعهم في سبعة عشر.
ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين، صنفنا كتاب «التهافت» .
أما المسائل الثلاث فقد خالفوا فيها كافة الإسلاميين [5] ، وذلك قولهم:
إن الأجسام [6] لا تحشر، وإن [7] المثاب والمعاقب هي الروح [8] [المجردة، والعقوبات] [9] روحانية لا جسمانية، ولقد صدقوا في إثبات الروحانية، فإنها كائنة أيضا، ولكن كذبوا في إنكار الجسمانية، وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به.
ومن ذلك قولهم: إن الله يعلم الكليّات دون الجزئيات. وهذا أيضا كفر صريح، بل الحق أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض [10] .
__________
[1] انظر صفحة (55- 60) من المصدر السابق.
[2] في «المنقذ من الضلال» : «على ما شرطوه» .
[3] في «المنقذ من الضلال» : «يقرب» .
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «المنقذ من الضلال» .
[5] في «المنقذ من الضلال» الذي بين يدي: «كافة المسلمين» وذكر محققه بأنها جاءت في طبعة الدكتورين جميل صليبا، وكامل عياد كما في كتابنا.
[6] في «المنقذ من الضلال» : «الأجساد» .
[7] في «المنقذ من الضلال» : «وإنما» .
[8] في «المنقذ من الضلال» : «الأرواح» .
[9] ما بين حاصرتين سقط من المطبوع.
[10] اقتباس من الآية (61) من سورة يونس، التي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى:

(4/213)


ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته، ولم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل.
وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات، وقولهم إنه عالم الذات، لا بعلم زائد [على الذات] [1] وما يجري مجراه، فمذهبهم فيه قريب من مذهب المعتزلة، ولا يجب تكفير المعتزلة [بمثل ذلك] [1] .
وقال فيه [2] أيضا: القسم الثالث الإلهيون، وهم المتأخرون، مثل سقراط، وهو أستاذ أفلاطون [3] وأفلاطون [3] أستاذ أرسطاطاليس، وهو الذي رتب لهم المنطق، وهذّب [لهم] العلوم وحرر لهم ما لم يكن محررا [4] من قبل، وأوضح لهم ما كان انمحى من علومهم [5] .
وهم بجملتهم ردّوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية، وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم، وكفى الله المؤمن القتال بتقابلهم.
ثم ردّ أرسطاطاليس على أفلاطون، وسقراط، ومن كان قبله من الإلهيين ردّا لم يقصر فيه، حتّى تبرأ عن جميعهم، إلا أنه استبقى أيضا من رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا، لم يوفّق للنزوع عنها، فوجب تكفيرهم وتكفير شيعهم من الإسلاميين، كابن سينا، والفارابي، وأمثالهما.
__________
وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ من مِثْقالِ ذَرَّةٍ في الْأَرْضِ وَلا في السَّماءِ 10: 61 ولقد ظن محقق «المنقذ من الضلال» الذي بين يدي كلام الإمام الغزالي الآية التي سبقت الإشارة إليها من سورة يونس، فقام بترقيمها في الحاشية، وذلك من الخطأ الفاحش.
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «المنقذ من الضلال» ص (60) .
[2] يعني في «المنقذ من الضلال» ص (46- 48) .
[3] تحرف في الأصل والمطبوع إلى «أفلاطن» والتصحيح من «المنقذ من الضلال» وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[4] في الأصل والمطبوع: «وخمر لهم ما لم يكن مخمرا من قبل» وهو خطأ، والتصحيح من «المنقذ من الضلال» .
[5] في «المنقذ من الضلال» : «وأنضج لهم ما كان فجّا من علومه» .

(4/214)


على أنه لم يقم بعلم أرسطاطاليس أحد من المتفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين، وما نقله غيرهم ليس يخلو عن تخبيط وتخليط، يتشوش فيه قلب المطالع، حتّى لا يفهم، وما لا يفهم كيف يرد أو يقبل، ومجموع ما صحّ عندنا من فلسفة أرسطاطاليس، بحسب نقل هذين الرجلين ينحصر في ثلاثة أقسام: قسم يجب التكفير به، وقسم يجب التبديع به، وقسم لا يجب إنكاره أصلا. انتهى ما قاله حجة الإسلام الغزالي، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.
فانظر ما يجرّ إليه علم المنطق وما يترتب عليه للمتوغل فيه، ولهذا حرّمه أعيان الأجلّاء، كابن الصلاح، والنواوي، والسيوطي، وابن نجيم في «أشباهه» وابن تيمية، وتلميذه ابن القيّم، وغيرهم، وإن كان أكثر الحنابلة على كراهته.
قال الشيخ مرعي في «غاية المنتهى» : ما لم يخف فساد عقيدة. أي فيحرم، والله تعالى أعلم بالصواب.

(4/215)


سنة أربعين وثلاثمائة
فيها سار الوزير أبو محمد، الحسن بن محمد المهلّبي بالجيوش، وقد استوزر عام أول، فالتقى القرامطة، فهزمهم واستباح عسكرهم، وعاد بالأسارى.
وفيها جمع سيف الدولة جيشا عظيما، ووغل في بلاد الرّوم، فغنم وسبى شيئا كثيرا، وعاد سالما، وأمن الوقت، وذلّت القرامطة، وحجّ الركب.
وفيها توفي ابن الأعرابي، المحدّث الصوفي القدوة، أبو سعيد، أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم البصري، نزيل مكة، في ذي القعدة، وله أربع وتسعون سنة. روى عن الحسن الزعفراني، وسعدان بن نصر [1] وخلق كثير. وعنه ابن المقرئ، وابن مندة، وابن جميع، وخلق [2] .
وكان ثقة، نبيلا، عارفا، عابدا، ربانيا، كبير القدر، بعيد الصيت، وجمع، وصنّف ورحلوا إليه.
قال السخاوي: وصنّف للقوم كتبا كثيرة، وصحب الجنيد، وعمرو بن عثمان المكّي، والنوري، وغيرهم.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «وسعد بن نصر» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 258) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 408) .
[2] في المطبوع: «وخلائق» وكلاهما بمعنى.

(4/216)


قال السّلمي [1] : سمعت أبا بكر الرّازي يقول: سمعت أبا سعيد بن الأعرابي يقول بمكة: ثبت الوعد والوعيد عن الله تعالى. فإذا كان الوعد قبل الوعيد، فالوعيد تهديد، وإذا كان الوعيد قبل الوعد، فالوعيد منسوخ، وإذا اجتمعا معا، فالغلبة والثبات للوعد، فالوعد حقّ العبد، والوعيد حق الله تعالى، والكريم يتغافل عن حقه ولا يهمل ولا يترك ما عليه.
وقال: إن الله تعالى طيّب الدّنيا للعارفين بالخروج منها، وطيب الجنة لأهلها بالخلود فيها، فلو قيل للعارف: إنك تبقى في الدّنيا لمات كمدا، ولو قيل لأهل الجنة: إنكم تخرجون منها لماتوا كمدا، فطابت الدّنيا بذكر الخروج، وطابت الآخرة بذكر الخلود [فيها] .
وقال: اشتغالك بنفسك يقطعك عن عبادة ربّك، واشتغالك بهموم الدّنيا يقطعك عن هموم الآخرة، واشتغالك بمداراة الخلق يقطعك عن الخالق، ولا عبد أعجز من عبد نسي فضل ربه، وعدّ عليه تسبيحه وتكبيره، الذي هو [2] إلى الحياء منه أقرب من طلب ثواب عليه، أو افتخار به.
وقال الذهبي: وكان شيخ الحرم في وقته، سندا، وعلما، وزهدا، وعبادة، وتسليكا، وجمع كتاب «طبقات النّسّاك» وكتاب «تاريخ البصرة» وصنّف في شرف الفقر، وفي التصوف.
ومن كلامه: أخسر الخاسرين، من أبدى للناس صالح أعماله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد. انتهى ما أورده السخاوي ملخصا.
وفيها أبو إسحاق المروزي، إبراهيم بن أحمد، شيخ الشافعية، وصاحب ابن سريج، وذو التصانيف. انتهت إليه رئاسة مذهب الشافعي ببغداد، وانتقل في آخر عمره إلى مصر، فمات في رجب، ودفن عند ضريح الشافعي رضي الله عنهما.
__________
[1] انظر «طبقات الصوفية» للسلمي (428- 429) .
[2] في الأصل والمطبوع: «التي هي» والتصحيح من «طبقات الصوفية» .

(4/217)


قال الإسنوي: كان إماما جليلا، غوّاصا على المعاني، ورعا زاهدا.
أخذ عن ابن سريج، وانتهت إليه رياسة العلم ببغداد، وانتشر الفقه عن أصحابه في البلاد.
قال العبّادي [1] : وخرج من مجلسه إلى البلاد سبعون إماما، وحكي عنه حكاية غريبة متعلقة بالقافة [2] ، فقال: حكى الصيدلاني وغيره، عن القفّال، عن الشيخ أبي زيد، عن أبي إسحاق قال: كان لي جار ببغداد وله مال ويسار، وكان له ابن يضرب إلى سواد، ولون الرجل لا يشبهه، وكان يعرّض بأنه ليس منه، قال: فأتاني وقال: عزمت على الحجّ، وأكثر قصدي أن أستصحب ابني وأريه بعض القافة، فنهيته، وقلت: لعل القائف يقول ما تكره، وليس لك ابن غيره، فلم ينته، وخرج، فلما رجع، قال: إني استحضرت مجلسا وأمرت بعرضه عليه في عدة رجال، كان فيهم الذي يرمى بأنه منه، وكان معنا في الرفقة، وغيبت عن المجلس، فنظر القائف فيهم فلم يلحقه بأحد منهم، فأخبرت بذلك، وقيل لي: احضر فلعله يلحقه بك، فأقبلت على ناقة يقودها عبد لنا أسود كبير، فلما رفع بصره علينا، قال: الله أكبر، ذاك الراكب أبو هذا الغلام، والقائد الأسود أبو الراكب، فغشي عليّ من صعوبة ما سمعت، فلما رجعت، ألححت على والدتي، فأخبرتني أن أبي طلقها ثلاثا ثم ندم، فأمر هذا الغلام بنكاحها للتحليل، ففعل، فعلقت منه، وكان ذا مال كثير، وقد بلغ الكبر وليس له ولد، فاستلحقتك، ونكحني مرة ثانية. انتهى كلام الإسنوي.
قال ابن خلّكان [3] : وتوفي لتسع خلون من رجب.
والمروزيّ: بفتح الميم وسكون الراء، وفتح الواو، وبعدها زاي، هذه
__________
[1] في «طبقات الشافعيين» وهو مطبوع كما ذكر الزركلي رحمه الله في «الأعلام» (5/ 314) ولكن الكتاب غير متوفر لدينا.
[2] القافة: جمع قائف، وهو الذي يعرف الآثار. انظر «لسان العرب» (قوف) .
[3] في «وفيات الأعيان» (1/ 27) .

(4/218)


النسبة إلى مرو الشّاهجان، [وهي إحدى كراسي خراسان، وهم أربع مدن، هذه، ونيسابور، وهراة، وبلخ، وإنما قيل لها مرو الشاهجان] [1] لتتميز عن مرو الرّوذ، والشاهجان: لفظ عجمي، تفسيره روح الملك. انتهى ملخصا.
وفيها أبو عبد الله، الحسين بن الحسن بن أيوب الطّوسي الأديب.
ثقة رحّال مكثر، أقام على أبي حاتم مدة، وجاور لأجل [أبي] يحيى بن أبي ميسرة [2] .
وفيها أبو علي، الحسين بن صفوان البردعي- بالمهملة، نسبة إلى بردعة، بلد بأذربيجان- صاحب أبي بكر بن أبي الدّنيا. توفي ببغداد في شعبان.
وفيها العلّامة، أبو محمد، عبد الله بن محمد بن يعقوب بن الحارث البخاري الفقيه، شيخ الحنفية بما وراء النهر، ويعرف بعبد الله الأستاذ، وكان محدّثا، جوّالا، رأسا في الفقه، وصنّف التصانيف، وعمّر اثنتين وثمانين سنة. وروى عن عبد الصمد بن الفضل، وعبيد الله بن واصل وطبقتهما.
قال أبو زرعة: أحمد بن الحسين الحافظ، ضعيف هو [3] .
وقال الحاكم: هو صاحب عجائب [وأفراد] ، عن الثقات. قاله في «العبر» [4] .
وفيها أبو القاسم الزجّاجي- نسبة إلى الزجّاج [5]- النحوي عبد الرحمن بن إسحاق النّهاوندي، صاحب التصانيف. أخذ عن أبي إسحاق
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.
[2] في الأصل والمطبوع: «لأجل يحيى بن أبي مسرة» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 259) وانظر «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» للفاسي (8/ 112) .
[3] في المطبوع و «العبر» : «هو ضعيف» .
[4] (2/ 259) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[5] وهو شيخه أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجّاج، لأنه كان يخرط الزجاج، ثم تعلم الأدب وترك ذلك. انظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 475) .

(4/219)


الزجّاج، وابن دريد، وعلي بن سليمان الأخفش، وقد انتفع بكتابه «الجمل» خلق لا يحصون، فقيل: إنه جاور مدة بمكّة وصنّفه فيها، وكان إذا فرغ من الباب طاف أسبوعا، ودعا الله بالمغفرة، وأن ينفع الله بكتابه وقراءته.
قال بعض المغاربة: لكتابه عندنا مائة وعشرون شرحا، اشتغل ببغداد ثم بحلب، ثم بدمشق، ومات بطبرية في رمضان.
وفيها قاسم بن أصبغ، الحافظ الإمام، محدّث الأندلس، أبو محمد القرطبي، مولى بني أميّة، ويقال له البيّاني- وبيّانة محلّة بقرطبة- وهو ثقة.
انتهى إليه التقدم في الحديث معرفة، وحفظا، وعلو إسناد. سمع بقي بن مخلد، وأقرانه، ومنه حفيده قاسم بن محمد، وعبد الله بن محمد الباجي، والقاسم بن محمد بن غسلون وغيرهم، ورحل سنة أربع وسبعين ومائتين، فسمع محمد بن إسماعيل بمكة، وأبا بكر بن أبي الدّنيا، وأبا محمد بن قتيبة، ومحمد بن الجهم، وطبقتهم ببغداد، وإبراهيم القصّار بالكوفة. وصنّف كتابا على وضع «سنن أبي داود» لكونه فاته لقيه، وكان إماما في العربية، مشاورا في الأحكام، عاش ثلاثا وستين سنة، وتغير ذهنه يسيرا قبل موته بثلاثة أعوام، ومات في جمادى الأولى.
وفيها أبو جعفر محمد بن يحيى بن عمر بن علي بن حرب الطائي الموصلي. قدم بغداد، وحدّث بها عن جدّه، وعن جدّ أبيه. وثّقه أبو حازم العبدوي، ومات في رمضان.
وفيها أبو الحسن الكرخي، شيخ الحنفية بالعراق، واسمه عبيد الله [1] بن حسين بن دلّال. روى عن إسماعيل القاضي، وغيره، وعاش ثمانين سنة. انتهت إليه رئاسة المذهب، وخرج له أصحاب أئمة، وكان قانعا، متعفّفا، عابدا، صوّاما، قوّاما، كبير القدر.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «عبد الله» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/ 261) وانظر «سير أعلام النبلاء» (15/ 426) .

(4/220)