شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة ست وأربعين
وثلاثمائة
فيها قلّ المطر جدّا، ونقص البحر نحوا من ثمانين ذراعا، وظهر فيه جبال
وجزائر وأشياء لم تعهد، وكان بالرّيّ فيما نقل ابن الجوزي في «منتظمه»
[1] زلازل عظيمة، وخسف ببلد الطّالقان في ذي الحجة، ولم يفلت من أهلها
إلا نحو من ثلاثين رجلا، وخسف بخمسين ومائة قرية من قرى الرّيّ.
قال: وعلقت قرية بين السماء والأرض بمن فيها نصف يوم، ثم خسف بها [2] .
وفيها توفي أحمد بن مهران، أبو الحسن، السّيرافي المحدّث، بمصر، في
شعبان. روى عن الربيع المرادي، والقاضي بكّار، وطائفة.
وفيها أحمد بن جعفر بن أحمد بن معبد، أبو جعفر، الأصبهاني السمسار، شيخ
أبي نعيم، في رمضان. روى عن أحمد بن عصام وجماعة.
__________
[1] انظر «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (6/ 384) قلت: ولكن هذا
الخبر الطويل نقله المؤلف رحمه الله عن «العبر» للذهبي (2/ 276) ولم
ينقله عن «المنتظم» لابن الجوزي فإنه لا وجود له فيه، خلا الإشارة إلى
الزلزلة التي حصلت في الرّيّ، ولعل الذهبي قد نقلها عن نسخة أخرى من
«المنتظم» تختلف عن التي بين أيدينا، أو أنه نقلها عن كتاب «شذور
العقود في تاريخ العهود» فإنه مما أورد فيه ابن الجوزي بعض الغرائب،
والله أعلم.
[2] قلت: علّق الذهبي على كلام ابن الجوزي المتقدم في «العبر» (2/ 276)
بقوله: قلت: إنما نقلت هذا ونحوه، للفرجة لا للتصديق والحجّة، فإن مثل
هذا الحادث الجلل، لا يكفي فيه خبر الواحد الصادق، فكيف وإسناد ذلك
معدوم منقطع؟.
(4/243)
قال الذهبي في «المغني» [1] : قال ابن
الفرات: ليس بثقة. وحكى ابن طاهر أنه مشهور بالوضع.
وفيها أبو الحسن [2] أحمد بن عبدوس، العنزيّ الطرائفي- نسبة إلى بيع
الطرائف وهي الأشياء الحسنة المتخذة من الخشب- توفي بنيسابور في رمضان.
روى عن عثمان بن سعيد الدارمي وجماعة.
وفيها إبراهيم بن عثمان أبو القاسم بن الوزّان القيرواني، شيخ المغرب
في النحو واللغة، مات يوم عاشوراء، حفظ «كتاب سيبويه» و «المصنف
الغريب» و «كتاب العين» و «إصلاح المنطق» وأشياء كثيرة.
وفيها محدّث إسفرايين، أبو محمد الحسن بن محمد بن إسحاق الإسفراييني.
رحل مع خاله الحافظ أبي عوانة، فسمع أبا مسلم الكجي وطبقته. توفي في
شعبان.
وفيها محدّث الأندلس، أبو عثمان، سعيد بن مخلوق [3] في رجب، وله أربع
وتسعون سنة. روى عن بقي بن مخلد، ومحمد بن وضّاح، ولقي في الرحلة أبا
عبد الرّحمن النّسائي، وهو آخر من روى عن يوسف المغامي.
حمل عنه «الواضحة» لابن حبيب.
وفيها محدّث أصبهان، عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، الرجل الصالح،
أبو محمد، في شوال، وله ثمان وتسعون سنة. تفرد بالرّواية عن جماعة،
منهم: محمد بن عاصم الثقفي، وسمويه، وأحمد بن يونس الضّبّي.
وفيها أبو الحسين عبد الصمد بن علي الطّستي الوكيل ببغداد، في
__________
[1] (1/ 35) .
[2] في الأصل والمطبوع: «أبو محمد» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب» (8/
226) ، و «سير أعلام النبلاء» (15/ 519) و «العبر» (2/ 276) .
[3] تحرفت في المطبوع إلى «مخلوف» وانظر «تاريخ علماء الأندلس» لابن
الفرضي ص (168- 169) و «جذوة المقتبس» للحميدي ص (232- 233) و «العبر»
(2/ 277) .
(4/244)
شعبان، وله ثمانون سنة. روى عن أبي بكر بن
أبي الدّنيا وأقرانه، وله جزء معروف.
وفيها الحافظ الكبير أبو يعلى، عبد المؤمن بن خلف التميمي النّسفي [1]
الثقة، وله سبع وثمانون سنة. رحل وطوّف، وسمع أبا حاتم الرّازي وطبقته،
وعنه: عبد الملك الميداني، وأحمد بن عمّار بن عصمة، وأبو نصر
الكلاباذي، وكان عظيم القدر، عالما، زاهدا، كبيرا، وصل في رحلته إلى
اليمن، وكان مفتيا ظاهريا أثريا، أخذ عن أبي بكر بن داود الظاهري.
وفيها أبو العبّاس المحبوبي، محمد بن أحمد بن محبوب المروزي، محدّث مرو
وشيخها ورئيسها، توفي في رمضان، وله سبع وتسعون سنة.
روى «جامع الترمذي» عن مؤلفه، وروى عن سعيد بن مسعود، صاحب النّضر بن
شميل، وأمثاله.
وفيها أبو بكر بن داسة، البصري التّمّار، محمد بن بكر بن محمد بن عبد
الرزاق، راوي «السنن» عن أبي داود.
وفيها محدّث ما وراء النهر، أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله بن حمزة
البغدادي، نزيل سمرقند، في ذي الحجة، انتقى عليه أبو علي النيسابوري
أربعين جزءا. روى عن أبي بكر بن أبي الدّنيا، وأحمد بن عبيد الله
النّرسي والكبار، وكان كثير الأسفار للتجارة، ثبتا رضيا.
وفيها محدّث خراسان ومسند العصر، أبو العبّاس الأصم، محمد بن يعقوب بن
يوسف بن معقل بن سنان الأموي، مولاهم النيسابوري، المعقلي، المؤذن،
الورّاق، بنيسابور، في ربيع الآخر، وله مائة إلا سنة. حدث له الصمم بعد
الرحلة ثم استحكم به، وكان يحدّث من لفظه. حدث في الإسلام نيّفا وسبعين
سنة، وأذّن سبعين سنة، وكان حسن الأخلاق، كريما،
__________
[1] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» (15/ 480- 483) .
(4/245)
ينسخ بالأجرة، وعمّر دهرا، ورحل إليه خلق
كثير.
قال الحاكم: ما رأيت الرحّالة في بلد، أكثر منهم إليه، رأيت جماعة من
الأندلس، ومن أهل فارس على بابه.
وقال الذهبي في «العبر» [1] : قلت: سمع من جماعة من أصحاب سفيان بن
عيينة، وابن وهب، وكانت رحلته مع والده في سنة خمس وستين ومائتين، وسمع
بأصبهان، والعراق، ومصر، والشام، والحجاز، والجزيرة. انتهى.
وقال ابن بردس [2] : حدّث عن أحمد بن شيبان [3] الرّملي، وأحمد بن
يوسف، وأحمد بن الأزهر. وعنه: أبو عبد الله بن الأخرم، وأبو عمرو
الحيري، ومؤمّل بن الحسن.
قال الحاكم: حدّث في الإسلام ستا وسبعين سنة، ولم يختلف في صدقه وصحة
سماعه. انتهى.
وفيها مسند الأندلس أبو الحزم وهب بن مسرّة [4] التميمي الفقيه. كان
إماما في مذهب مالك، محقّقا له [5] ، بصيرا بالحديث وعلله، مع زهد
وورع. روى الكثير عن محمد بن وضّاح وجماعة، ومات في شعبان في عشر
التسعين.
__________
[1] (2/ 280) .
[2] في الأصل والمطبوع: «ابن برداس» وهو خطأ، والصواب ما أثبته. انظر
«الأعلام» للزركلي (1/ 324) واسم كتابه الذي نقل عنه المؤلف «نظم وفيات
تذكرة الحفاظ للذهبي» وهو مخطوط لم ينشر بعد.
[3] في الأصل والمطبوع: «أحمد بن سنان» وهو خطأ، والتصحيح من «الأنساب»
(6/ 165) و «تذكرة الحفاظ» (3/ 860) .
[4] في الأصل والمطبوع: «أبو الحرم وهب بن ميسرة» وهو خطأ، والتصحيح من
«تاريخ علماء الأندلس» (2/ 165) و «جذوة المقتبس» ص (360) و «سير أعلام
النبلاء» (15/ 556) و «العبر» (2/ 280) .
[5] لفظة «له» لم ترد في «العبر» الذي بين يدي.
(4/246)
سنة سبع وأربعين
وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» كانت زلازل، فقتلت خلقا كثيرا وخرّبت.
وفيها أقبلت الرّوم لبلاد المسلمين، وعظمت المصيبة، وقتلوا خلائق،
وأخذوا عدة حصون بنواحي آمد، وميّافارقين، ثم وصلوا إلى قنّسرين [1] ،
فالتقاهم سيف الدولة بن حمدان، فعجز عنهم، وقتلوا معظم رجاله، وأسروا
أهله، ونجا هو في عدد [2] يسير.
وفيها توفي القاضي أبو الحسن بن حذلم [3] ، وهو أحمد بن سليمان بن أيوب
الأسدي الدمشقي. روى عن بكّار بن قتيبة القاضي وطائفة،
__________
[1] قنّسرين: بين حلب وإدلب في شمال سورية، تعرف الآن ب «كالسيس» وكان
فتحها على يد أبي عبيدة بن الجراح سنة (17) هـ. قال ياقوت: قال أبو
المنذر: سميت قنسرين لأن ميسرة بن مسروق العبسي مرّ عليها، فلما نظر
إليها قال: ما هذه؟ فسميت له بالرومية، فقال: والله لكأنها قنّ نسر،
فسميت «قنسرين» وأورد أخبارا أخرى في تسميتها يحسن بالقارئ الوقوف
عليها في كتابه، وينسب إلى قنسرين جماعة من أهل العلم أثبتهم في الحديث
الحافظ أبو بكر محمد بن بركة بن الحكم بن إبراهيم بن الفرداج الحميري
اليحصبي القنسريني المعروف ببرداعس. انظر «معجم البلدان» (4/ 403- 404)
و «أطلس التاريخ العربي» للأستاذ شوقي أبو خليل ص (25) طبع دار الفكر
بدمشق.
[2] لفظة «عدد» لم ترد في «العبر» للذهبي (2/ 280) فتستدرك فيه.
[3] في الأصل والمطبوع: «خرام» وفي «العبر» : «حزلم» وهو خطأ، والتصحيح
من «تاج العروس» (حذلم) (8/ 239) طبعة بولاق، وانظر «سير أعلام
النبلاء» (15/ 514) .
(4/247)
وناب في قضاء بلده، وهو آخر من كانت له
حلقة بجامع دمشق يدرّس فيها مذهب الأوزاعي.
وفيها المحدّث أبو علي أحمد بن الفضل بن خزيمة ببغداد، في صفر، عن بضع
وثمانين سنة. سمع أبا قلابة الرقاشي وطائفة.
وفيها أبو الحسن الشّعراني، إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد بن
المسيّب النيسابوري، العابد الثقة. روى عن جدّه، ورحل، وجمع، وخرّج
لنفسه.
وفيها حمزة بن محمد بن العبّاس، أبو أحمد الدّهقان العقبي [1] بفتحتين
نسبة إلى عقبة وراء نهر عيسى ببغداد [2]- توفي ببغداد. وروى عن
العطاردي، ومحمد بن عيسى المدائني، والكبار، وهو أكبر شيخ لعبد الملك
بن بشران.
وفيها أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه الفارسي النحوي، ببغداد في
صفر، وله تسع وثمانون سنة. روى عن يعقوب الفسوي «تاريخه» و «مشيخته» ،
وقدم بغداد في صباه، فسمع من عبّاس الدّوري وطبقته، بعناية أبيه، ثم
أقبل على العربية حتّى برع فيها، وصنّف التصانيف، ولم يضعّفه أحد
بحجّة. قاله في «العبر» [3] .
وفيها أبو عبد الله الزّبير بن عبد الواحد بن محمد بن زكريا بن صالح
الهمذانيّ ثم الأسداباذيّ الثقة. روى عن الحسن بن سفيان وغيره، وعنه:
أبو عبد الله الحاكم، وابن مندة، وغيرهما.
قال الخطيب [4] : كان حافظا متقنا.
__________
[1] انظر «الأنساب» (9/ 14) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 516) .
[2] انظر «معجم البلدان» (4/ 134) .
[3] (2/ 282) وانظر «وفيات الأعيان» (3/ 44- 45) .
[4] انظر «تاريخ بغداد» (8/ 473) وفيه: وكان حافظا متقنا مكثرا.
(4/248)
وفيها أبو الميمون، عبد الرحمن بن عبد الله
بن الراشد البجلي الدمشقي، الأديب المحدّث. سمع بكّار بن قتيبة، وأبا
زرعة، وخلقا كثيرا، وبلغ خمسا وتسعين سنة.
وفيها الحافظ البارع أبو سعيد بن يونس، وهو عبد الرحمن بن أحمد بن يونس
بن عبد الأعلى الصّدفي- بفتحتين وفاء، نسبة إلى الصدف بكسر الدال
المهملة قبيلة من حمير- المصري صاحب «تاريخ مصر» . توفي في جمادى
الآخرة، وله ست وستون سنة، وأقدم شيوخه، أحمد بن حمّاد زغبة وأقرانه.
وقال ابن ناصر الدّين: كان من الأئمة الحفاظ والأثبات الأيقاظ.
انتهى.
وفيها علي بن عبد الرحمن بن عيسى بن زيد بن ماتي [1] الكوفي الكاتب،
أبو الحسين، ببغداد، وله ثمان وتسعون سنة. روى عن إبراهيم بن عبد الله
القصّار، وإبراهيم بن أبي العنبس القاضي.
وفيها محمد بن أحمد بن الحسن أبو عبد الله الكسائيّ المقرئ، بأصبهان،
روى عن عبد الله بن محمد بن النّعمان وطبقته.
وفيها أبو الحسين محمد بن عبد الله بن جعفر بن عبد الله بن الجنيد
الرّازي ثم الدمشقي، الحافظ والد الحافظ تمّام. سمع بخراسان، والعراق،
والشام، وسكن دمشق، وصنّف وجمع، وأقدم شيخ له محمد بن أيوب بن الضّريس.
وروى عنه ولده تمّام الرّازي، ووثقه عبد العزيز الكتاني. قاله ابن بردس
[2] .
__________
[1] وكذا في «الإكمال» لابن ماكولا (7/ 199) و «تبصير المنتبه» لابن
حجر (4/ 1243) ، وفي «سير أعلام النبلاء» للذهبي (15/ 566) : «مأتى»
ولكنه أشار في آخر ترجمته إلى الوجه الذي ضبطت عليه نسبته في كتابنا
والمصدرين المشار إليهما في صدر التعليق، فراجعه.
[2] في الأصل والمطبوع: «ابن درباس» والصواب ما أثبته، وانظر التعليق
على
(4/249)
فيها أبو علي محمد بن القاسم بن معروف
التميمي الدمشقي الأخباري.
قال الكتاني: حدّث عن أبي بكر أحمد بن علي المروزي بأكثر كتبه، واتّهم
في ذلك، وقيل: إن أكثرها إجازة، وكان صاحب دنيا [1] ، يحب المحدّثين
ويكرمهم، وعاش أربعا وستين سنة. قاله في «العبر» [2] .
وقال في «المغني» [3] : له جزء سمعناه اتّهم في أخباره [4] عن أبي بكر
أحمد بن علي. انتهى.
__________
الصفحة (101 102) من هذا المجلد.
[1] يعني كان غنيا صاحب مال.
[2] (2/ 283) .
[3] (2/ 625) .
[4] في «المغني في الضعفاء» : «في إكثاره» .
(4/250)
سنة ثمان وأربعين
وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» اتصلت الفتن بين الشيعة والسّنّة، وقتل بينهم
خلق كثير.
وفيها استنصرت الكلاب الرّوم على المسلمين، فظفروا بسريّة فأسروها،
وأسروا أميرها محمد بن ناصر الدولة بن حمدان، ثم أغاروا على الرّها،
وحرّان، فقتلوا وسبوا، وأخذوا حصن الهارونية، وأحرقوه، وكرّوا على ديار
بكر.
وفي هذه المدة، عمل الخطيب عبد الرحيم بن نباتة خطبه الجهاديات، يحرّض
الإسلام على الغزاة.
وفيها توفي النّجّاد أبو بكر أحمد بن سلمان [1] بن الحسن بن إسرائيل بن
يونس البغدادي الفقيه الحافظ، شيخ الحنابلة بالعراق، وصاحب التصانيف و
«السنن» . سمع أبا داود السجستاني، وإبراهيم الحربي، وعبد الله بن
الإمام أحمد، وهذه الطبقة. ومنه ابن مالك، وعمر بن شاهين، وابن بطة،
وصاحبه أبو جعفر العكبري، وابن حامد، وأبو الفضل التميمي، وغيرهم،
وكانت له حلقتان في جامع المنصور حلقة قبل الصلاة للفتوى على
__________
[1] في الأصل والمطبوع و «العبر» (2/ 284) : «ابن سليمان» وهو خطأ،
والتصحيح من كتب الرجال التي بين يدي.
(4/251)
مذهب الإمام أحمد، وبعد الصلاة لإملاء
الحديث، واتسعت رواياته وانتشرت أحاديثه ومصنفاته، وكان رأسا في الفقه،
رأسا في الحديث.
قال أبو إسحاق الطبري: كان النّجّاد يصوم الدهر، ويفطر [كل ليلة] [1]
على رغيف، ويترك منه لقمة، فإذا كان ليلة الجمعة، أكل تلك اللّقم التي
استفضلها، وتصدق بالرغيف.
وقال أبو علي بن الصوّاف: وكان أحمد بن سلمان النّجّاد يجيء معنا إلى
المحدّثين ونعله في يده، فقيل له: لم لا تلبس نعلك؟ قال: أحب أن أمشي
في طلب حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأنا حاف، فلعله ذهب إلى
قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأخفّ النّاس- يعني حسابا يوم
القيامة بين يدي الملك الجبّار- المسارع إلى الخيرات، ماشيا على قدميه
حافيا» [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم] : أخبرني جبريل أنّ الله
تعالى ناظر إلى عبد يمشي حافيا في طلب الخير [2] . وقال أبو بكر
النّجّاد: تضايقت وقتا من الزمان، فمضيت إلى إبراهيم الحربي فذكرت له
قصتي، فقال: اعلم أني تضايقت يوما حتّى لم يبق معي إلا قيراط، فقالت
الزوجة: فتش كتبك وانظر ما لا تحتاج إليه فبعه، فلما صليت عشاء الآخرة
وجلست في الدهليز أكتب، إذ طرق عليّ الباب طارق، فقلت: من هذا؟ فقال:
كلّمني، ففتحت الباب، فقال: أطفئ السراج، فطفيتها، فدخل الدهليز، فوضع
فيه كارة [3] ، وقال: اعلم أنّا أصلحنا للصبيان طعاما، فأحببنا أن يكون
لك وللصبيان فيه نصيب، وهذا أيضا شيء آخر، فوضعه إلى جانب الكارة،
وقال: تصرفه في حاجتك- وأنا لا أعرف الرجل- وتركني وانصرف، فدعوت
الزوجة وقلت لها: أسرجي، فأسرجت وجاءت،
__________
[1] زيادة من «سير أعلام النبلاء» (15/ 503) . أقول: وصيام الدهر خلاف
السّنّة. (ع) .
[2] ذكره الخطيب البغدادي ضمن ترجمة المترجم في «تاريخ بغداد» (4/ 191)
، وإسناده ضعيف جدا.
[3] الكارة: ما يجمع ويشدّ ويحمل على الظهر من طعام أو ثياب. انظر
«المعجم الوسيط» (كور) .
(4/252)
وإذا الكارة منديل له قيمة، وفيه خمسون
وسطا، في كل وسط لون من الطعام، وإذا إلى جانب الكارة كيس فيه ألف
دينار.
قال النّجّاد: فقمت من عنده، فمضيت إلى قبر أحمد فزرته، ثم انصرفت،
فبينا أنا أمشي إلى جانب الخندق، إذ لقيتني عجوز من جيراننا، فقالت لي:
أحمد، فأجبتها، فقالت: ما لك مغموم؟ فأخبرتها فقالت: اعلم أن أمك
أعطتني قبل موتها ثلاثمائة درهم، وقالت لي: أخبئي هذه عندك، فإذا رأيت
ابني مضيقا مغموما فأعطيه إيّاها، فتعال معي حتّى أعطيك إيّاها، فمضيت
معها، فدفعتها إليّ.
وقال النّجّاد: حدّثنا معاذ بن المثنى، ثنا خلّاد بن أسلم [1] ثنا محمد
بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، كلهم قال في قول الله عزّ وجل: عَسى أَنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً 17: 79 [الإسراء: 79] . قال:
يجلسه معه على العرش [2] وتوفي النّجّاد وقد كفّ بصره ليلة الثلاثاء،
لعشر بقين من ذي الحجة، ودفن صبيحة تلك الليلة عند قبر بشر بن الحارث،
وعاش خمسا وتسعين سنة.
وفيها الخلدي، أبو محمد جعفر بن محمد بن نصير البغدادي الخوّاص الزاهد،
شيخ الصوفية، ومحدّثهم.
والخلدي: بالضم والسكون ومهملة، نسبة إلى الخلد محلة ببغداد.
سمع الحارث بن أبي أسامة، وعلي بن عبد العزيز البغوي وطبقتهما.
قال السخاوي: هو جعفر بن محمد بن نصير أبو محمد الخوّاص، البغدادي
المنشأ والمولد. صحب الجنيد، وعرف بصحبته، وصحب النّوري، ورويما [3]
والجريري وغيرهم من مشايخ الوقت، وكان المرجع إليه
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «جلّاد بن أسلم» وهو خطأ، والتصحيح من «تقريب
التهذيب» ص (196) .
[2] أقول: وإسناده ضعيف، وانظر «تفسير الطبري» (15/ 98) (ع) .
[3] في الأصل والمطبوع: «ورميم» والتصحيح من «طبقات الصوفية» للسلمي ص
(434) .
(4/253)
في علوم القوم وكتبهم، وحكاياتهم وسيرهم.
قال: عندي مائة ونيّف وثلاثون ديوانا من دواوين الصوفية.
وحجّ قريبا من ستين حجّة، وتوفي ببغداد، وقبره بالشّونيزيّة، عند قبر
السّري السّقطي والجنيد.
ومن كلامه: لا يجد العبد لذّة المعاملة مع لذة النفس، لأنّ أهل الحقائق
قطعوا العلائق.
وقال: الفرق بين الرياء والإخلاص أنّ المرائي يعمل ليرى، والمخلص يعمل
ليصل.
وقال: الفتوّة احتقار النفس وتعظيم حرمة المسلمين.
وقال لرجل: كن شريف الهمّة، فإن الهمم تبلغ بالرجل لا المجاهدات.
وقال جعفر: ودعت في بعض حجّاتي المزين الكبير الصوفي، فقلت:
زودني شيئا، فقال: إن ضاع منك شيء وأردت أن يجمع الله بينك وبين إنسان،
فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، اجمع
بيني وبين كذا وكذا، فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشيء، أو ذلك
الإنسان. قال: فما دعوت الله بتلك الدعوة في شيء إلا استجبت.
توفي ليلة الأحد لتسع خلون من شهر رمضان. انتهى ملخصا.
وقال في «العبر» [1] : حجّ ستّا وخمسين حجّة، وعاش خمسا وتسعين سنة.
انتهى.
وفيها علي بن محمد بن الزّبير القرشي الكوفي المحدّث، أبو الحسن، حدّث
عن ابني عفّان، وإبراهيم بن عبد الله القصّار وجماعة. وثقه الخطيب ومات
في ذي القعدة، وله أربع وتسعون سنة.
__________
[1] (2/ 285) .
(4/254)
وفيها محمد بن أحمد بن علي بن أسد البردعي
[1] الأسدي بن حرارة، وحرارة لقب أبيه. وكان محمد هذا حافظا كبيرا،
نقّادا، مكثرا.
والبردعي: بفتح الباء والدال المهملة، وسكون الراء، نسبة إلى بردعة بلد
بأذربيجان.
وفيها أبو بكر محمد بن جعفر الأدمي القارئ بالألحان. حدّث عن أحمد بن
عبيد بن ناصح وجماعة، وقيل: إنه خلّط قبل موته.
__________
[1] كذا في الأصل والمطبوع: «البردعي» وفي «تذكرة الحفاظ» (3/ 971) و
«طبقات الحفاظ» ص (387) : «البرذعي» بالذال.
(4/255)
سنة تسع وأربعين
وثلاثمائة
قال في «الشذور» : وفي هذه السنة أسلم من التّرك مائتا ألف حزكاه [1] .
انتهى.
وفيها أوقع نجا، غلام سيف الدولة بالرّوم، فقتل وأسر، وفرح المسلمون.
وفيها تمت وقعة هائلة ببغداد، بين السّنّة والرافضة، وقويت الرافضة
ببني هاشم، وبمعز الدّولة، وعطّلت الصلوات في الجوامع، ثم رأى معز
الدولة المصلحة في القبض على جماعة من الهاشميين، فسكنت الفتنة.
وفيها حشد سيف الدولة، ودخل الرّوم، فأغار، وقتل، وسبى، فرجعت إليه [2]
جيوش الرّوم، فعجز عن لقائهم، وكرّ في ثلاثمائة، ونهبت خزانته، وقتل
جماعة من أمرائه، والله المستعان.
وفيها توفي أبو الحسين أحمد بن عثمان الأدمي العطشي- بفتحتين ومعجمة،
نسبة إلى سوق العطش ببغداد- توفي في ربيع الآخر، وله أربع وتسعون سنة.
روى عن العطاردي، وعبّاس الدّوري، والكبار.
وفيها أبو الفوارس الصّابوني.
__________
[1] يعني مشدودين بالحبال. انظر: «لسان العرب» (حزك) وفي «النجوم
الزاهرة» : «خركاه» .
[2] في «العبر» : «فزحفت إليه» .
(4/256)
قال في «حسن المحاضرة» [1] : أبو الفوارس
الصابوني أحمد بن محمد بن حسين بن السّندي، الثقة المعمّر، مسند ديار
مصر. عن يونس بن عبد الأعلى، والمزني، والكبار، وآخر من روى عنه ابن
نظيف. مات في شوال. وله مائة وخمس سنين.
وفيها العلّامة أبو الوليد حسّان بن محمد القرشي الأموي النيسابوري
الفقيه، شيخ الشافعية بخراسان، وصاحب ابن سريج. صنّف التصانيف، وكان
بصيرا بالحديث وعلله. خرّج كتابا على «صحيح مسلم» . روى عن محمد بن
إبراهيم البوشنجي وطبقته. وعنه: الحاكم وغيره، وهو ثقة. أثنى عليه غير
واحد، وهو صاحب وجه في المذهب.
وقال فيه الحاكم: هو إمام أهل الحديث بخراسان، وأزهد من رأيت من
العلماء وأعبدهم. توفي في ربيع الأول عن اثنتين وتسعين [2] سنة.
وفيها أبو علي الحافظ، الحسين بن علي بن يزيد بن داود النيسابوري
الثقة، أحد الأعلام. توفي في جمادى الأولى بنيسابور، وله اثنتان وسبعون
سنة.
قال الحاكم: هو واحد عصره، في الحفظ، والإتقان، والورع، والمذاكرة،
والتصنيف. سمع إبراهيم بن أبي طالب وطبقته، وفي الرحلة من النّسائي،
وأبي خليفة، وطبقتهما، وكان باقعة [3] في الحفظ، كان ابن عقدة يخضع
لحفظه.
وفيها عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم الخراساني، أبو محمد
__________
[1] (1/ 369) .
[2] كذا في الأصل والمطبوع، وفي «العبر» (2/ 287) و «سير أعلام
النبلاء» (15/ 495) : «عن اثنتين وسبعين» وانظر التعليق على «العبر» .
[3] في الأصل والمطبوع: «باعقة» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات الحفاظ»
للسيوطي ص (368) . قال الفيروزآبادي في «القاموس المحيط» (بقع) :
الباقعة: الرجل الداهية والذّكيّ العارف لا يفوته شيء ولا يدهى.
(4/257)
المعدّل [1] وكان ابن عم أبي القاسم
البغوي. سمع أحمد بن ملاعب، ويحيى بن أبي طالب وطبقتهما.
قال الدارقطني: ليّن.
وفيها أبو طاهر بن أبي هاشم [شيخ] [2] القرّاء بالعراق، وهو عبد الواحد
بن عمر بن محمد البغدادي، صاحب التصانيف، وتلميذ ابن مجاهد.
روى عن محمد بن جعفر القتّات وطائفة، ومات في شوال، عن سبعين سنة.
وفيها أبو أحمد العسّال القاضي، واسمه محمد بن أحمد بن إبراهيم، قاضي
أصبهان. سمع محمد بن أسد المديني، وأبا بكر بن أبي عاصم وطبقتهما، ورحل
وجمع وصنّف، وكان من أئمة هذا الشأن.
قال أبو نعيم الحافظ: كان من كبار الحفاظ.
وقال ابن مندة: كتبت عن ألف شيخ، لم أر فيهم أتقن من أبي أحمد العسّال.
وقال ابن ناصر الدّين: كان حافظا كبيرا متقنا.
وقال في «العبر» [3] : قلت: توفي في رمضان، وله نحو من ثمانين سنة أو
أكثر.
وقال ابن بردس [4] : وروى عنه أولاده أبو عامر، وأبو جعفر أحمد،
وإبراهيم، والعبّاس، وأبو بكر عبد الله، وابن مندة، وأبو نعيم الحافظ.
وهو أحد الأئمة في الحديث فهما، وإتقانا، وأمانة.
__________
[1] في «العبر» : «العدل» وانظر «ميزان الاعتدال» (2/ 392) .
[2] لفظة «شيخ» سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «العبر» (2/ 288)
.
[3] (2/ 289) .
[4] في الأصل والمطبوع: «ابن درباس» وهو خطأ والصواب ما أثبته، وانظر
التعليق على الصفحة (101- 102) من هذا المجلد.
(4/258)
وقال أبو بكر بن علي: هو ثقة مأمون.
قال أبو يعلى في «الإرشاد» له: أبو أحمد العسّال، حافظ متقن، عالم بهذا
الشأن. انتهى ما قاله ابن بردس [1] .
وفيها الحافظ ابن سعد البزّاز الحاجي، واسمه عبد الله بن أحمد بن سعد
بن منصور، أبو محمد، النيسابوري الحاجي البزّاز، الحافظ الثبت.
روى عن محمد البوشنجي، وإبراهيم بن أبي طالب، والسرّاج وطبقتهم، وعنه
أبو عبد الله الحاكم وغيره.
قال الحاكم: كتب الكثير، وجمع الشيوخ، والأبواب [2] ، والملح، ووثقه
ابن شيرويه.
وفيها ابن علم الصفّار، أبو بكر محمد بن عبد الله بن عمرويه البغدادي،
صاحب الجزء المعروف المشهور.
قال الخطيب [3] : جميع ما عنده [عنهما] [4] جزء، ولم أسمع أحدا [من
أصحابنا] [5] يقول فيه إلّا خيرا.
قال في «العبر» [6] : سمع محمد بن إسحاق الصاغاني وغيره، ومات في
شعبان، ويقال: إنه جاوز المائة. انتهى.
__________
[1] انظر «تذكرة الحفاظ» للذهبي (3/ 886- 889) .
[2] في الأصل والمطبوع: «والأموات» وهو خطأ، والتصحيح من «تذكرة
الحفاظ» (3/ 907) .
[3] في «تاريخ بغداد» (5/ 454) .
[4] يعني عن شيخيه محمد بن إسحاق الصاغاني، وأحمد بن أبي خيثمة.
[5] زيادة من «تاريخ بغداد» .
[6] (2/ 289) .
(4/259)
سنة خمسين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» وقع برد كل بردة أوقيتان وأكثر، فقتل البهائم
والطيور. انتهى.
وفيها بنى معزّ الدولة ببغداد دار السلطنة في غاية الحسن والكبر، غرم
عليها ثلاثة عشر ألف ألف درهم [1] وقد درست آثارها في حدود الستمائة،
وبقي مكانها دحلة [2] يأوي إليها الوحش، وبعض أساسها موجود، فإنه حفر
لها في الأساسات نيّفا وثلاثين ذراعا.
وفيها توفي أبو حامد، أحمد بن علي بن الحسن بن حسنويه النيسابوري
التاجر. سمع أبا عيسى الترمذي، وأبا حاتم الرّازي وطبقتهما.
قال الحاكم: كان من المجتهدين في العبادة، ولو اقتصر على سماعه الصحيح
لكان أولى به، لكنه حدّث عن جماعة أشهد بالله أنه لم يسمع منهم.
وفيها أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة، القاضي، أبو بكر، البغدادي، تلميذ
محمد بن جرير، وصاحب التصانيف في الفنون، ولي قضاء
__________
[1] كذا في كتابنا وفي «دول الإسلام» للذهبي (1/ 216) و «النجوم
الزاهرة» (3/ 327) : «ثلاثة عشر ألف ألف درهم» ، وفي «العبر» (2/ 290)
: «ثلاثة عشر ألف ألف دينار» .
[2] حفرة ضيقة الفم واسعة الجوف. انظر «لسان العرب» و «المعجم الوسيط»
(دحل) .
(4/260)
الكوفة، وحدّث عن محمد بن سعد العوفي
وطائفة، وعاش تسعين سنة.
توفي في المحرم.
قال الدارقطني: ربما حدّث من حفظه بما ليس في كتابه، أهلكه العجب، وكان
يختار لنفسه، ولم يقلّد أحدا [1] .
وقال ابن رزقويه: لم تر عيناي مثله.
وقال في «المغني» [2] : أحمد بن كامل القاضي، بغدادي حافظ. قال
الدارقطني: كان متساهلا. انتهى.
وفيها أبو سهل القطّان، أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد البغدادي،
المحدّث الأخباري الأديب، مسند وقته. روى عن العطاردي، ومحمد بن عبيد
الله المنادي، وخلق، وفيه تشيّع قليل. وكان يديم التهجّد والتلاوة
والتعبّد، وكان كثير الدّعابة.
قال البرقاني: كرهوه لمزاح فيه، وهو صدوق. توفي في شعبان، وله إحدى
وتسعون سنة.
وفيها أبو محمد الخطبيّ، إسماعيل بن علي بن إسماعيل البغدادي، الأديب
الأخباري، صاحب التصانيف. روى عن الحارث بن أبي أسامة وطائفة، وكان
يرتجل الخطب ولا يتقدّمه فيها [3] أحد، فلذا نسب إليها.
وفيها أبو علي الطبري، الحسن بن القاسم، شيخ الشافعية ببغداد، درّس
الفقه بعد شيخه أبي علي بن أبي هريرة، وصنّف التصانيف، ك «المحرّر» و
«الإفصاح» و «العدة» وهو صاحب وجه.
__________
[1] في «العبر» : «ولا يقلد أحدا» .
[2] (1/ 52) .
[3] لفظة «فيها» لم ترد في «العبر» للذهبي وكذلك ما جاء بعد لفظة «أحد»
.
(4/261)
قال الإسنوي [1] : وصنّف في الأصول، والجدل
والخلاف، وهو أول من صنّف في الخلاف المجرّد، وكتابه فيه يسمى
«المحرّر» . سكن بغداد ومات بها.
والطبريّ: نسبة إلى طبرستان، بفتح الباء الموحدة، وهو إقليم متّسع،
مجاور لخراسان، ومدينته آمل، بهمزة ممدودة وميم مضمومة، بعدها لام.
وأما الطبرانيّ: فنسبة إلى طبرية الشام. انتهى ملخصا.
وفيها أبو جعفر بن بريه الهاشمي، خطيب جامع المنصور، عبد الله بن
إسماعيل بن إبراهيم بن عيسى بن المنصور، أبي جعفر، في صفر، وله سبع
وثمانون سنة، وهو في طبقة الواثق في النسب. روى عن العطاردي، وابن أبي
الدّنيا.
وفيها توفي خليفة الأندلس، وأول من تلقب بأمير المؤمنين من أمراء
الأندلس، الناصر لدين الله، أبو المطرّف عبد الرحمن بن محمد بن عبد
الله [الأموي] [2] المرواني، وكانت دولته خمسين سنة، وقام بعده ولده
المستنصر بالله [3] ، وكان كبير القدر كثير المحاسن، أنشأ مدينته
الزهراء، وهي عديمة النظير في الحسن، غرم عليها من الأموال ما لا يحصى.
قاله في «العبر» [4] .
وقال الشيخ أحمد المقّري [5] المتأخّر في كتابه «أزهار الرياض في أخبار
عياض» [6] : وكانت سبتة مطمح همم ملوك العدوتين، وقد كان للناصر
__________
[1] في «طبقات الشافعية» (2/ 154) .
[2] زيادة من «العبر» (2/ 293) .
[3] في الأصل والمطبوع: «المنتصر» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» .
[4] (2/ 293) .
[5] قال العلّامة الزركلي في ترجمته في «الأعلام» (1/ 237) : المقّري:
نسبة إلى مقّرة، بفتح الميم وتشديد القاف المفتوحة، من قرى تلمسان.
[6] في الأصل والمطبوع: «زهر الرياض في أخبار عياض» وهو خطأ، والتصحيح
من «كشف الظنون» (1/ 72) و «الأعلام» .
(4/262)
المرواني صاحب الأندلس عناية واهتمام
بدخولها في إيالته، حتّى حصل له ذلك.
ومنها ملك المغرب، وكان تملكه إيّاها سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وبها
اشتد سلطانه وملك البحر بعدوية، وصار المجاز في يده، ومن غريب ما يحكى
أنه أراد الفصد، فقعد في المجلس الكبير المشرف بأعلى مدينته بالزهراء،
واستدعى الطبيب لذلك، وأخذ الطبيب المبضع وجسّ يد الناصر، فبينما هو
كذلك، إذ طل زر زور، فصعد على إناء من ذهب بالمجلس، وأنشد:
أيّها الفاصد مهلا ... بأمير المؤمنينا
إنما تفصد عرقا ... فيه محيا العالمينا
وجعل يكرر ذلك المرة بعد المرة، فاستظرف أمير المؤمنين الناصر ذلك غاية
الاستظراف، وسرّ به غاية السرور، وسأل من أين اهتدى إلى ذلك؟
ومن علّم الزر زور، فذكر له، أن السيدة الكبيرة مرجانة، أمّ ولي عهده
الحاكم المستنصر بالله صنعت ذلك، وأعدّته لذلك الأمر، فوهب لها ما ينوف
على ثلاثين ألف دينار.
والناصر المذكور هو الباني لمدينة الزهراء العظيمة المقدار، ولما بنى
قصر الزهراء المتناهي في الجلالة، أطبق الناس على أنه لم يبن مثله في
الإسلام البتّة، وكل من رآه قطع أنه لم ير مثله ولم يبصر له شبها، بل
لم يسمع بمثله، بل لم يتوهم كون مثله.
وذكر المؤرخ أبو مروان بن حيّان، صاحب الشرطة، أن مباني قصر الزهراء
اشتملت على أربعة آلاف سارية، ما بين كبيرة وصغيرة، حاملة ومحمولة،
ونيّف على ثلاثمائة سارية زائدة، وأن مصارع أبوابها صغارها وكبارها
كانت تنيف على خمسة عشر ألف باب، وكان عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر
ألف فتى وسبعمائة وخمسون فتى، وعدة النساء بقصر الزهراء
(4/263)
الصغار والكبار وخدم الخدمة ثلاثة آلاف
وثلاثمائة امرأة وأربع عشرة.
وذكر بعض أهل الخدمة في الزهراء أنه قدر النفقة فيها في كل يوم
بثلاثمائة ألف دينار، مدة خمسة وعشرين عاما.
قال القاضي أبو الحسن: ومن أخبار منذر بن سعيد البلوطي المحفوظة له مع
الخليفة الناصر في إنكاره عليه الإسراف في البناء، أن الناصر كان اتخذ
لسطح القبة التي كانت على الصرح الممرد المشهور شأنه بقصر الزهراء
قراميد مغشاة ذهبا وفضة، أنفق عليها مالا جسيما، وقد مدّ سقفها به،
تستلب الأبصار بأشعة أنوارها، وجلس فيها أثر تمامها يوما لأهل مملكته،
فقال لقرابته من الوزراء وأهل الخدمة، مفتخرا بما صنعه من ذلك: هل
رأيتم أو سمعتم ملكا كان قبلي فعل مثل فعلي هذا وقدر عليه؟ فقالوا: لا
يا أمير المؤمنين، وإنك لأوحد في شأنك كله، وما سبقك إلى مبتدعاتك هذه
ملك رأيناه، ولا انتهى إلينا خبره، فأبهجه قولهم وسرّه، وبينما هو كذلك
إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد واجما ناكس الرأس، فلما أخذ مجلسه،
قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف المذهب، واقتداره عليه، وعلى
إبداعه، فأقبلت دموع القاضي تنحدر على لحيته، وقال له: والله يا أمير
المؤمنين ما ظننت أن الشيطان- لعنه الله تعالى- يبلغ منك هذا المبلغ،
ولا أن تمكنه من قلبك هذا التمكين، مع ما آتاك الله من فضله ونعمته،
وفضّلك به على العالمين، حتّى ينزلك منازل الكافرين. قال: فانفعل عبد
الرحمن لقوله وقال له: انظر ما تقول، وكيف أنزلتني منزلتهم؟ فقال له:
نعم، أليس الله تعالى يقول: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً
واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ
سُقُفاً من فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ 43: 33 [الزّخرف:
33] . فوجم الخليفة، واطّردت عيناه، وأطرق مليا ودموعه تتساقط خشية
وخشوعا لله تعالى، ثم أقبل على منذر، فقال له: جزاك الله يا قاضي عنّا
وعن نفسك خيرا، وعن الدّين والمسلمين أجمل جزائه، وكثّر في الناس
أمثالك، فالذي قلت هو الحق، وقام من
(4/264)
مجلسه ذلك، وأمر بنقض سقف القبة، وأعاد
قرمدها ترابا على صفة غيرها.
وحكى غير واحد أنه وجد بخط الناصر رحمه الله تعالى أيام السرور التي
صفت له دون تكدير، يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، ويوم كذا من كذا،
وعدّت تلك الأيام، فكان فيها أربعة عشر يوما، فاعجب أيّها العاقل لهذه
الدّنيا وعدم صفائها، وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها، هذا الخليفة
الناصر حلف السعود، المضروب به المثل في الارتقاء في الدّنيا، ملكها
خمسين سنة وستة أو سبعة أشهر، وثلاثة أيام، ولم يصف له إلا أربعة عشر
يوما، فسبحان ذي العزّة العالية القائمة، والمملكة الباقية الدائمة،
تبارك اسمه وتعالى جدّه، لا إله إلّا هو. انتهى ما أورده المقّري
مختصرا.
وفيها القاضي أبو السائب، عتبة بن عبيد الله الهمذانيّ الشافعيّ
الصوفيّ تزهد أولا، وصحب الكبار، ولقي الجنيد، ثم كتب الفقه، والحديث،
والتفسير، وولي قضاء أذربيجان، ثم قضاء همذان، ثم سكن بغداد ونوّه
باسمه، إلى أن ولي قضاء القضاة، وكان أول من ولي قضاء القضاة من
الشافعية.
وفيها فاتك المجنون، أبو شجاع الرّومي الإخشيذي.
قال ابن خلّكان [1] : كان روميا، أخذ صغيرا، هو وأخوه، وأخت لهما من
بلد الرّوم، من موضع قرب حصن يعرف بذي الكلاع، فتعلّم الخطّ بفلسطين،
وهو ممّن أخذه الإخشيذ من سيده كرها بالرّملة بلا ثمن، فأعتقه صاحبه،
وكان معهم حرّا في عدة المماليك، وكان كريم النفس بعيد الهمّة شجاعا
كثير الإقدام، ولذلك قيل له «المجنون» وكان رفيق الأستاذ كافور في خدمة
الإخشيذ، فلما مات مخدومهما، وتقرر كافور في خدمة ابن الإخشيذ أنف فاتك
من الإقامة بمصر كيلا يكون كافور أعلى رتبة منه، ويحتاج أن
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 21) .
(4/265)
يركب في خدمته، وكانت الفيوم وأعمالها
إقطاعا له، فانتقل إليها واتخذها سكنا له، وهي بلاد وبيئة كثيرة الوخم،
فلم يصح له بها جسم، وكان كافور يخافه ويكرمه [فزعا منه] [1] وفي نفسه
منه ما فيها، فاستحكمت العلة في جسم فاتك، وأحوجته إلى دخول مصر
للمعالجة، فدخلها وبها أبو الطيب المتنبي ضيفا للأستاذ كافور، وكان
يسمع بكرم فاتك وكثرة سخائه، غير أنه لا يقدر على قصد خدمته خوفا من
كافور، وفاتك يسأل عنه ويراسله بالسلام، ثم التقيا بالصحراء مصادفة من
غير ميعاد، وجرى بينهما مفاوضات، فلما رجع فاتك إلى داره حمل لأبي
الطيب في ساعته هدية قيمتها ألف دينار، ثم أتبعها بهدايا بعدها،
فاستأذن المتنبي الأستاذ كافور في مدحه، فأذن له، فمدحه بقصيدته
المشهورة وهي من غرر القصائد التي أولها:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النّطق إن لم تسعد [2] الحال
وما أحسن قوله فيها:
كفاتك ودخول الكاف منقصة ... كالشمس [3] ولّت وما للشّمس أمثال
ثم توفي فاتك المذكور عشية الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة
خمسين وثلاثمائة بمصر، فرثاه المتنبي، وكان قد خرج من مصر بقصيدته التي
أولها:
الحزن يقلق والتجمّل يردع ... والدّمع بينهما عصيّ طيّع [4]
وما أرق قوله فيها:
إني لأجبن من فراق أحبّتي ... وتحسّ نفسي بالحمام فأشجع
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «يسعد» والبيت في «ديوانه» (3/ 276) بشرح
العكبري، وتحقيق السقا، والأبياري، والشلبي.
[3] في «وفيات الأعيان» : «كالشمس قلّت» .
[4] البيت في «ديوانه» بشرح العكبري (2/ 268) .
(4/266)
ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلمّ بي عتب
الصّديق فأجزع
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عمّا مضى منها وما يتوقّع
ولمن يغالط في الحقيقة نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلّف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها [1] الفناء فتتبع
وهي من المراثي الفائقة، وله فيه غيرها. انتهى ملخصا.
وفيها مسند بخارى، أبو بكر، محمد بن أحمد بن خنب [2] البغدادي الدّهقان
الفقيه المحدّث، في رجب، وله أربع وثمانون سنة. روى عن يحيى بن أبي
طالب، وابن أبي الدّنيا، والكبار، واستوطن بخارى، وصار شيخ تلك
الناحية.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» «فيدركها» ، والأبيات في «ديوانه» بشرح العكبري
(2/ 269- 270) .
[2] في الأصل والمطبوع: «ابن حبيب» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (2/
294) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 523) و «تاج العروس» (خنب) (2/ 384)
المطبوع في الكويت.
(4/267)
|