شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة ست وستين وثلاثمائة
فيها كما قال في «الشذور» حجّت جميلة بنت ناصر الدولة أبي محمد بن حمدان، فاستصحبت أربعمائة جمل عليها محامل عدّة، فلم يعلم في أيّها كانت، فلما شاهدت الكعبة، نثرت عليها عشرة آلاف دينار، وأنفقت الأموال الجزيلة. انتهى [1] .
وفيها مات ملك القرامطة، الحسن بن أحمد بن أبي سعيد الجنّابي القرمطي.
والجنّابي: بفتح الجيم، وقيل: بضمها، وتشديد النون، آخره موحدة، نسبة إلى جنّابة، بلد بالبحرين.
وكان الحسن هذا قد استولى على أكثر الشام وهزم جيش المعزّ، وقتل قائدهم جعفر بن فلاح، وذهب إلى مصر وحاصرها شهورا، قبل مجيء المعزّ، وكان يظهر طاعة الطائع لله، وله شعر وفضيلة. ولد بالأحساء، ومات بالرملة. قاله في «العبر» [2] .
والقرمطي: بكسر القاف [3] وسكون الراء، وكسر الميم، وبعدها طاء مهملة.
__________
[1] وانظر الخبر برواية أخرى عند الذهبي في «العبر» (2/ 346) .
[2] (2/ 346- 347) .
[3] قلت: وضبطها ابن منظور في «لسان العرب» (قرمط) بفتح القاف فراجعه.

(4/351)


والقرمطة في اللغة تقارب الشيء بعضه من بعض، ويقال: خط مقرمط ومشي مقرمط، إذا كان كذلك، لأن أبا سعيد، والد هذا المذكور، كان قصيرا مجتمع الخلق، أسمر كريه المنظر، فلذلك قيل له: قرمطي، ونسبت إليه القرامطة.
وفيها ركن الدولة، الحسين بن بويه، أبو علي، والد عضد الدولة، ومؤيد الدولة، وأخو معز الدولة، وعماد الدولة.
كان الحسين هذا صاحب أصبهان، والرّي، وعراق العجم [1] وكان ملكا، جليلا، عاقلا، نبيلا، بقي في الملك خمسا وأربعين سنة، ووزر له ابن العميد، ووزر لولده الصاحب بن عبّاد، ومات الحسين هذا بالقولنج، وقسم الممالك على أولاده، فكلهم أقام بنوبته أحسن قيام.
وفيها المستنصر بالله [2] أبو مروان الحكم، صاحب الأندلس، وابن صاحبها الناصر لدّين الله، عبد الرحمن بن محمد الأموي المرواني، ولي ستة عشر سنة، وعاش ثلاثا وستين سنة، وكان حسن السيرة، محبّا للعلم، مشغوفا بجمع الكتب والنظر فيها، بحيث إنه جمع منها ما لم يجمعه أحد قبله ولا جمعه أحد بعده، حتّى ضاقت خزائنه عنها، وسمع من قاسم بن أصبغ وجماعة، وكان بصيرا بالأدب والشعر، وأيام الناس، وأنساب العرب، متسع الدائرة، كثير المحفوظ، ثقة فيما ينقله، توفي في صفر بالفالج.
وفيها أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن زياد النيسابوري
__________
[1] عراق العجم: إقليم واسع في الغرب الأوسط من إيران المعاصرة، منه همذان، والدّينور، وحربذقان، وأصبهان، والرّيّ، وقزوين، وما بين ذلك. انظر «المشترك وضعا والمفترق صقعا» لياقوت الحموي ص (95) .
[2] في الأصل والمطبوع: «المنتصر بالله» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» (2/ 347) و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 677) .

(4/352)


المعدّل. سمع من مسدّد بن قطن، وابن شيرويه [1] ، وفي الرحلة من الهيثم بن خلف، وهذه الطبقة. وحدّث بمسند إسحاق بن راهويه، وعاش ثلاثا وثمانين سنة.
وفيها أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي بن المرزبان، صاحب أبي الحسين بن القطّان، أحد أئمة المذهب الشافعي وأصحاب الوجوه.
قال الخطيب البغدادي [2] : كان أحد الشيوخ الأفاضل. قال: ودرس عليه الشيخ أبو حامد [الإسفراييني] أول قدومه بغداد.
وقال الشيخ أبو إسحاق [3] : وكان فقيها ورعا، حكي عنه أنه قال:
ما أعلم أنّ لأحد عليّ مظلمة، وقد كان فقيها يعرف [4] أن الغيبة من المظالم، ودرّس ببغداد، وعليه درس الشيخ أبو حامد [الإسفراييني] . توفي في رجب بعد شيخه ابن القطّان بسبع سنين.
والمرزبان: معناه كبير الفلاحين.
نقل عنه الرافعي في مواضع محصورة، منها: أن الآجرّ المعجون بالروث يطهر ظاهره بالغسل. قاله ابن قاضي شهبة.
وفيها أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن الحسن الجرجاني [5] القاضي بجرجان، ثم بالرّيّ.
ذكره الشيخ أبو إسحاق في «طبقاته» [6] فقال: كان فقيها، أديبا، شاعرا.
وذكره الثعالبي في «اليتيمة» [7] فقال: حسنة جرجان، وفرد الزمان،
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «وابن سيرويه» والتصحيح من «العبر» .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (11/ 325) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[3] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (117) .
[4] في «طبقات الفقهاء» : «يعلم» .
[5] قلت: الصواب أنه مات سنة (392) . انظر التعليق رقم (1) ص (355) .
[6] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (122) وراجع «تاريخ جرجان» ص (318) .
[7] انظر «يتيمة الدهر» (4/ 3) طبع دار الكتب العلمية ببيروت.

(4/353)


ونادرة الملك [1] ، وإنسان حدقة العلم، ودرّة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، جمع [2] خط ابن مقلة، ونثر الجاحظ، ونظم البحتري، وفيه يقول الصاحب بن عبّاد:
إذا نحن سلّمنا لك العلم كلّه ... فدع هذه الألفاظ ننظم شذورها [3]
ومن شعره [4] :
يقولون لي فيك انقباض وإنّما ... رأوا رجلا عن موقف الذّلّ أحجما
أرى النّاس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزّة النّفس أكرما
وما كلّ برق لاح لي يستفزّني ... ولا كلّ من لاقيت [5] أرضاه منعما
وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت ... أقلب كفي إثره متندما [6]
ولم أقض حقّ العلم إن كان كلّما ... بدا طمع صيّرته لي سلّما
إذا قيل هذا منهل [7] قلت قد أرى ... ولكنّ نفس الحرّ تحتمل الظّما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلّة ... إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النّفوس تعظّما
ولكن أذلوه فهان [8] ودنّسوا ... محياه بالأطماع حتّى تجهّما
__________
[1] في «يتيمة الدهر» الذي بين يدي: «ونادرة الفلك» .
[2] في «يتيمة الدهر» : «يجمع» .
[3] البيت مع الخبر في «يتيمة الدهر» و «طبقات الشافعية» للسبكي (3/ 459) .
[4] الأبيات في «معجم الأدباء» لياقوت (14/ 17- 18) و «طبقات الشافعية» للسبكي (3/ 460 461) بتحقيق الطناحي والحلو. و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 349- 350) ، وبعضها في «يتيمة الدهر» (4/ 25) مع تقديم وتأخير في أبياتها.
[5] في «معجم الأدباء» : «ولا كل أهل الأرض» .
[6] هذا البيت لم يرد في «معجم الأدباء» .
[7] في «معجم الأدباء» و «يتيمة الدهر» : «إذا قيل هذا مشرب» .
[8] كذا في الأصل والمطبوع، و «طبقات الشافعية» للسبكي: «ولكن أذلوه فهان» وفي «معجم» .

(4/354)


وطاف المذكور في صباه الأقاليم، ولقي العلماء، وصنّف كتاب «الوساطة بين المتنبي وخصومه» أبان فيه عن فضل كبير، وعلم غزير.
ذكر الحاكم في «تاريخ نيسابور» أنه مات بها في سلخ صفر سنة ست وستين وثلاثمائة [1] ، وحمل تابوته إلى جرجان. ودفن بها. قاله الإسنوي في «طبقاته» .
ومن شعره أيضا:
ما تطعّمت لذّة العيش حتّى ... صرت للبيت والكتاب جليسا
ليس شيء أعزّ عندي من العل ... م فلا تبتغي [2] سواه أنيسا
إنّما الذّلّ في مخالطة النّا ... س فدعهم وعش عزيزا رئيسا
وفيها أبو الحسن محمد بن الحسن بن أحمد بن إسماعيل النيسابوري السرّاج المقرئ، الرجل الصالح. رحل وكتب عن مطيّن، وأبي شعيب الحرّاني، وطبقتهما.
قال الحاكم: قلّ من رأيت أكثر اجتهادا وعبادة منه، وكان يقرئ القرآن، توفي يوم عاشوراء.
وفيها أبو الحسن محمد بن عبد الله بن زكريا بن حيّويه النيسابوري ثم المصري، القاضي. سمع بكر بن سهل الدمياطي، والنسائي، وطائفة. توفي في رجب وهو في عشر التسعين أو جاوزها.
__________
«الأدباء» : «ولكن أذلوه جهارا» .
[1] قلت: الصواب أنه مات سنة (392) كما ذكر العلّامة خير الدّين الزركلي رحمه الله في تعليق مطول له في «الأعلام» (4/ 300) وانظر «سير أعلام النبلاء» (17/ 21) .
[2] رواية البيت في «معجم الأدباء» (14/ 19) :
ليس شيء أعزّ عندي من العل ... م فلم أبتغي سواه أنيسا
ورواية البيت في «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 387) :
ليس شيء أعز عندي من العل ... م فما أبتغي سواه أنيسا

(4/355)


سنة سبع وستين وثلاثمائة
فيها كما قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [1] التقى عز الدولة وعضد الدولة، فظفر عضد الدولة وأخذ عز الدولة أسيرا، وقتله بعد ذلك، وخلع الطائع على عضد الدولة خلع السلطنة، وتوجه بتاج مجوهر، وطوّقه وسوّره، وقلّده سيفا، وعقد له لواءين بيده، أحدهما مفضض على رسم الأمراء، والآخر مذهّب على رسم ولاة العهود، ولم يعقد هذا اللواء الثاني لغيره قبله، وكتب له عهد [2] ، وقرئ بحضرته، [ولم يبق أحد إلا تعجّب] [3] ولم تجر العادة بذلك، إنما كان يدفع العهد إلى الولاة بحضرة أمير المؤمنين، فإذا أخذ [4] قال أمير المؤمنين: هذا عهدي إليك فاعمل به. انتهى.
وفيها هلك صاحب هجر، أبو يعقوب يوسف بن الحسن الجنّابي القرمطي.
وفيها توفي أبو القاسم النّصرآباذي- بفتح النون والراء الموحدة وسكون الصاد المهملة آخره معجمة، نسبة إلى نصراباذ محلة بنيسابور- واسمه إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمويه النيسابوري، الزاهد الواعظ،
__________
[1] ص (407) .
[2] في «تاريخ الخلفاء» للسيوطي: «وكتب له عهدا» .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «تاريخ الخلفاء» للسيوطي.
[4] في «تاريخ الخلفاء» للسيوطي: «فإذا أخذه» .

(4/356)


شيخ الصوفية والمحدّثين. سمع ابن خزيمة بخراسان، وابن صاعد ببغداد، وابن جوصا بالشام، وأحمد العسّال بمصر، وكان يرجع إلى فنون من الفقه، والحديث، والتاريخ، وسلوك الصوفية، ثم حجّ وجاور سنتين، ومات بمكة في ذي الحجة. قاله في «العبر» [1] .
وقال السخاوي: كان أوحد المشايخ في وقته علما وحالا، صحب الشّبلي، وأبا علي الرّوذباري، والمرتعش، وغيرهم. قيل له: إن بعض الناس يجالس النسوان ويقول: أنا معصوم في رؤيتهنّ، فقال: ما دامت الأشباح باقية، فإن الأمر والنهي باق، والتحليل والتحريم يخاطب [2] بهما ولن يجترئ على الشبهات إلا من يتعرض للمحرمات [3] .
وقال: الراغب في العطاء لا مقدار له، والراغب في المعطي عزيز.
وقال: العبادات إلى طلب الصّفح، والعفو عن تقصيرها، أقرب منها إلى طلب الأعواض والجزاء [بها] [4] .
وقال: جذبة من الحق تربي على أعمال الثقلين. هذا كله كلام السّلمي [5] .
وقال الحاكم [6] : الصوفي العارف أبو القاسم النّصرآباذي الواعظ، لسان أهل الحقائق، وقد كان يورّق قديما ثم تركه، غاب عن نيسابور نيّفا
__________
[1] (2/ 349) .
[2] في المطبوع و «طبقات الصوفية» للسلمي ص (487) : «مخاطب» .
[3] في الأصل: «للحرمات» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «طبقات الصوفية» للسلمي.
[4] زيادة من «طبقات الصوفية» للسلمي.
[5] انظر «طبقات الصوفية» ص (484- 488) .
[6] قلت: وقد ساق هذا النقل باختصار الذهبي في ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (16/ 265) فراجعه.

(4/357)


وعشرين سنة، ثم انصرف إلى وطنه سنة أربعين، وكان يعظ على ستر وصيانة، ثم خرج إلى مكة سنة خمس وستين وجاور بها، ولزم العبادة فوق ما كان من عادته، وكان يعظ ويذكّر، ثم توفي بها في ذي الحجة، ودفن عند تربة الفضيل بن عياض رحمهما الله تعالى ورضي عنهما. انتهى ملخصا.
وفيها أبو منصور بختيار، الملقب عز الدولة بن الملك معز الدولة، أحمد بن بويه الدّيلمي.
ولي عز الدولة مملكة أبيه بعد موته، وتزوج الإمام الطائع ابنته شاه زمان [1] على صداق مبلغه مائة ألف دينار.
وكان عز الدولة ملكا سريّا، شديد القوى، يمسك الثور العظيم بقرنيه فيصرعه، وكان متوسطا في الإخراجات والكلف والقيام بالوظائف، حكى بشر الشمعي ببغداد قال: سئلنا عند دخول عضد الدولة بن بويه، وهو ابن عم عز الدولة المذكور، إلى بغداد لما ملكها بعد قتله عزّ الدولة، عن وظيفة الشمع الموقد بين يدي عز الدولة، فقلنا: كانت وظيفة وزيره أبي طاهر محمد بن بقية ألف من في كل شهر، فلم يعاودوا التقصّي استكثارا لذلك.
وكان بين عز الدولة وابن عمه عضد الدولة منافسات في الممالك أدّت إلى التنازع، وأفضت إلى التصافّ والمحاربة، فالتقيا يوم الأربعاء ثامن عشر شوال من هذه السنة، فقتل عز الدولة في المصافّ، وكان عمره ستا وثلاثين سنة، وحمل رأسه في طست [2] ووضع بين يدي عضد الدولة، فلما رآه وضع منديله على عينيه وبكى. قاله ابن خلّكان [3] .
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «شاه زنان» وفي فهرس الأعلام منه: «شاه زمان» كما في كتابنا، وقال محققه في هامشه: وفي نسخة (هـ) : «شاه زيان» .
[2] تحرّفت في الأصل والمطبوع إلى «دست» والتصحيح من «وفيات الأعيان» والطست: آنية.
انظر «لسان العرب» (طست) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 267- 268) .

(4/358)


وفيها الغضنفر عدّة الدولة، أبو تغلب بن الملك ناصر الدولة بن حمدان، ولي الموصل بعد أبيه مدّة، ثم قصده عضد الدولة فعجز وهرب إلى الشام، واستولى عضد الدولة على مملكته، ومر الغضنفر بظاهر دمشق، وقد غلب عليها قسّام العيّار، ثم ركب [1] إلى العزيز العبيدي، وسأله أن يوليه نيابة الشام، ثم نزل الرملة في هذه السنة، فالتقاه مفرج الطائي فأسره، وقتله كهلا.
وفيها أبو الطاهر الذّهلي محمد بن أحمد بن عبد الله القاضي البغدادي، ولي قضاء واسط، ثم قضاء بعض بغداد، ثم قضاء دمشق، ثم قضاء الدّيار المصرية. حدّث عن بشر بن موسى، وأبي مسلم الكجّي وطبقتهما، وكان مالكي المذهب، فصيحا مفوّها، شاعرا، أخباريا، حاضر الجواب، غزير الحفظ. توفي وقد قارب التسعين.
وفيها عمر بن بشران بن محمد بن بشر بن مهران، أبو حفص السّكّري، الحافظ الثقة الضابط، وهو أخو جد أبي الحسين بن بشران. روى عن أحمد بن الحسن الصّوفي، والبغوي.
قال الخطيب [2] : حدّثنا عنه البرقاني، وسألته عنه، فقال: ثقة، ثقة، كان حافظا، عارفا، كثير الحديث.
وفيها ابن السّليم، قاضي الجماعة، أبو بكر محمد بن إسحاق بن منذر الأندلسي [3] ، مولى بني أميّة، وله خمس وستون سنة، وكان رأسا في الفقه، رأسا في الزهد والعبادة. سمع أحمد بن خالد، وأبا سعيد بن الأعرابي الفقيه بمكة، وتوفي في رمضان.
__________
[1] في «العبر» : «كتب» .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (11/ 256) .
[3] مترجم في «سير أعلام النبلاء» (16/ 243- 244) .

(4/359)


وفيها ابن قريعة القاضي البغدادي، أبو بكر، محمد بن عبد الرحمن. أخذ عن أبي بكر بن الأنباري وغيره، وكان ظريفا مزّاحا، صاحب نوادر وسرعة جواب، وكان نديما للوزير المهلّبي. ولي قضاء بعض الأعمال، وقد نيّف على الستين.
قال ابن خلّكان [1] : كان قاضي السّندية وغيرها من أعمال بغداد، ولّاه أبو السائب عتبة بن عبيد الله القاضي، وكان من [2] إحدى عجائب الدّنيا في سرعة البديهة في الجواب عن جميع ما يسأل عنه، في أفصح لفظ، وأملح سجع، وله مسائل وأجوبة مدوّنة في كتاب مشهور بأيدي الناس، وكان رؤساء ذلك العصر وفضلاؤه يداعبونه ويكتبون إليه المسائل الغريبة المضحكة، فيكتب الجواب من غير توقف ولا تلبث، مطابقا لما سألوه، وكان الوزير المهلبي يغري به جماعة يضعون له من الأسئلة الهزلية معان شتى من النوادر الظريفة [3] ليجيب عنها بتلك الأجوبة، فمن ذلك ما كتب إليه العبّاس بن المعلى الكاتب: ما يقول القاضي- وفقه الله تعالى- في يهودي زنى بنصرانية، فولدت ولدا جسمه للبشر ووجهه للبقر، وقد قبض عليهما، فما يرى القاضي فيهما، فكتب جوابه بديها: هذا من أعدل الشهود على [الملاعين] [4] اليهود بأنهم أشربوا العجل في صدورهم حتّى خرج من أيورهم، وأرى أن يناط برأس اليهودي رأس العجل، ويصلب على عنق النصرانية السّاق مع الرجل، ويسحبا على الأرض، وينادى عليهما ظلمات بعضها فوق بعض، والسلام.
ولما قدم الصاحب بن عبّاد إلى بغداد، حضر مجلس الوزير أبي محمد
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 382- 384) .
[2] لفظة «من» سقطت من المطبوع.
[3] في «وفيات الأعيان» : «من المسائل الطنزية» .
[4] ما بين حاصرتين زيادة من «وفيات الأعيان» .

(4/360)


المهلبي، وكان في المجلس القاضي أبو بكر المذكور، فرأى من ظرفه وسرعة أجوبته مع لطافتها ما عظم منه تعجبه، فكتب الصاحب إلى أبي الفضل بن العميد كتابا يقول فيه: وكان في المجلس شيخ خفيف الرّوح، يعرف بالقاضي ابن قريعة، جاراني في مسائل خفّتها [1] تمنع من ذكرها، إلا أني سأطرفك [2] من كلامه، وقد سأله رجل بحضرة الوزير أبي محمد عن حدّ القفا، فقال: ما اشتمل [3] عليه جربّانك [ومازحك فيه إخوانك] [4] وأدّبك فيه سلطانك، وباسطك فيه غلمانك.
وجربّان: بضم الجيم والراء، وتشديد الباء الموحدة، وبعدها ألف، ثم نون لينة، وهي الخرقة العريضة التي فوق القبّ، وهي التي تستر القفا، والجربان لفظ فارسي معرب.
وجميع مسائله على هذا الأسلوب. انتهى ما أورده ابن خلكان ملخصا.
وقال ابن حمدون في «تذكرته» [5] : كان ابن قريعة في مجلس المهلّبي، فوردت عليه رقعة فيها: ما يقول القاضي أعزّه الله، في رجل دخل الحمّام، فجلس في الأبزن لعلة كانت به، فخرجت منه ريح، فتحول الماء زيتا، فتخاصم الحمّامي والضارط، وادّعى كل واحد منهما أنه يستحق جميع الزيت لحقه فيه، فكتب القاضي في الجواب: قرأت هذه الفتيا الظريفة في
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «خسّتها» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «استظرفت» .
[3] في الأصل: «ما يشتمل» وأثبت لفظ المطبوع وهو موافق للفظ «وفيات الأعيان» .
[4] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «وفيات الأعيان» .
[5] قال العلّامة المؤرخ خير الدّين الزركلي- طيّب الله ثراه- في ترجمة ابن حمدون في «الأعلام» (6/ 85) : منها خمسة أجزاء مخطوطة، طبعت قطعة صغيرة من أحدها. وانظر «كشف الظنون» (1/ 383) .

(4/361)


هذه القصة السخيفة، وأخلق بها أن تكون عبثا باطلا وكذبا ماحلا، وإن كان ذلك كذلك فهو [من] أعاجيب الزمان وبدائع الحدثان، والجواب وبالله التوفيق، أن للضارط [1] نصف الزيت لحق وجعاته، وللحمامي نصف الزيت لحق مائه، وعليهما أن يصدقا المبتاع منهما عن خبث أصله وقبح فصله، حتّى يستعمله في مسرجته ولا يدخله في أغذيته. انتهى.
وقريعة: بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء التحتية بعدها عين مهملة وهو لقب جدّه، كذا حكاه السمعاني.
وفيها أبو بكر بن القوطيّة- بضم القاف وكسر الطاء، وتشديد الياء المثناة من [2] تحت- نسبة إلى قوط بن حام بن نوح عليه السلام، نسبت إليه جدّة أبي بكر هذا وهي أم إبراهيم بن عيسى، واسمها سارة بنت المنذر بن حطية من ملوك القوط بالأندلس، وقوط أبو السودان، والهند والسّند أيضا. واسم أبي بكر هذا محمد بن عمر بن عبد العزيز بن إبراهيم بن عيسى بن مزاحم الأندلسي الإشبيلي الأصل القرطبي المولد. كان رأسا في اللغة والنحو، حافظا للأخبار وأيام الناس، فقيها محدّثا متقنا، كثير التصانيف، صاحب عبادة ونسك. كان أبو علي القالي يبالغ في تعظيمه، توفي في شهر ربيع الأول، وقد روى عن سعيد بن جابر، وطاهر بن عبد العزيز، وطبقتهما، وسمع بإشبيلية من محمد بن عبيد الزّبيدي، وبقرطبة من أبي الوليد الأعرج، وكان من أعلم أهل زمانه باللغة والعربية، وأروى الناس للأشعار وأدركهم للآثار، لا يدرك [3] شأوه ولا يشق غباره، وكان مضطلعا بأخبار الأندلس مليئا برواية سير أمرائها وأحوال فقهائها وشعرائها عن ظهر قلب.
__________
[1] في المطبوع: «للصافع» .
[2] لفظة «من» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.
[3] في المطبوع: «ولا يدرك» .

(4/362)


قال ابن خلّكان [1] : وكانت كتب اللغة أكثر ما تقرأ عليه وتؤخذ عنه، ولم يكن بالضابط لروايته في الحديث والفقه، ولا كانت له أصول يرجع إليها، وكان ما يسمع عليه من ذلك إنما يحمل على المعنى لا على اللفظ، وكان كثيرا ما يقرأ عليه ما لا رواية له به على جهة التصحيح، وطال عمره فسمع الناس منه [2] طبقة بعد طبقة، وروى عنه الشيوخ والكهول، وكان قد لقي مشايخ عصره بالأندلس وأخذ عنهم، وأكثر من النقل من فوائدهم.
وصنّف الكتب المفيدة في اللغة، منها: كتاب «تصاريف الأفعال» وهو الذي فتح هذا الباب، فجاء من بعده ابن القطّاع [3] وتبعه، وله كتاب «المقصور والممدود» جمع فيه ما لا يحدّ ولا يوصف، ولقد أعجز من يأتي بعده وفاق من تقدّمه.
وكان مع هذه الفضائل من العبّاد النّساك، وكان جيد الشعر، صحيح الألفاظ، واضح المعاني، حسن المطالع والمقاطع، إلا أنه ترك ذلك [ورفضه] [4] .
حكى الشاعر أبو بكر [يحيى] بن هذيل التميمي أنه توجه يوما إلى ضيعة له بسفح جبل [5] قرطبة، وهي من بقاع الأرض الطيبة المؤنقة، فصادف أبا بكر بن القوطية المذكور صادرا عنها، وكانت له أيضا هناك ضيعة، قال:
فلما رآني عرّج عليّ واستبشر بلقائي، فقلت له: على البديهة [6] مداعبا له:
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 368- 371) .
[2] في الأصل والمطبوع: «عنه» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[3] هو أبو القاسم علي بن جعفر البغدادي الصقلي، المعروف بابن القطّاع، صاحب كتاب «تثقيف اللسان» المتوفى سنة (514) ، وسوف ترد ترجمته في المجلد السادس من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
[4] زيادة من «وفيات الأعيان» .
[5] لفظة «جبل» لم ترد في الأصل وأثبتها من المطبوع.
[6] تحرفت في المطبوع إلى «البهديهة» .

(4/363)


من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشّمس والدّنيا له فلك [1]
قال فتبسم وأجاب بسرعة:
من منزل تعجب النّسّاك خلوته ... وفيه ستر عن الفتّاك إن فتكوا [1]
قال: فما تمالكت أن قبّلت يده، إذ كان شيخي، ومجدته ودعوت له.
انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وفيها أبو الطاهر الوزير، نصير الدولة محمد بن محمد بن بقيّة بن علي، أحد الرؤساء والأجواد، تنقلت به الأحوال، ووزر لمعز الدولة بختيار، وقد كان أبوه فلاحا، ثم عزل وسمل، ولما تملك عضد الدولة قتله وصلبه في شوال، ورثاه محمد بن عمر الأنباري بقوله [2] :
علوّ في الحياة وفي الممات ... لحقّ أنت إحدى المعجزات
كأنّ النّاس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيّام الصّلات
كأنّك قائم فيهم خطيبا ... وكلّهم قيام للصّلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء ... كمدّكها [3] إليهم بالهبات
فلما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضمّ علاك من بعد الممات
أصاروا الجوّ قبرك واستنابوا ... عن الأكفان ثوب السّافيات
لعظمك في النّفوس تبيت ترعى ... بحفّاظ وحرّاس ثقات
وتشعل عندك النّيران ليلا ... كذلك كنت أيام الحياة
ركبت مطيّة من قبل زيد ... علاها في السّنين الماضيات
وتلك فضيلة فيها تأسّ ... تباعد عنك تعيير العداة
__________
[1] البيتان مع الخبر في «يتيمة الدهر» (2/ 84) طبع دار الكتب العلمية، و «معجم الأدباء» لياقوت (18/ 274) .
[2] الأبيات في «وفيات الأعيان» (5/ 120) و «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (8/ 690) ، و «نكت الهيمان» ص (272- 273) ، و «النجوم الزاهرة» (4/ 130- 131) مع تقديم وتأخير.
[3] في «وفيات الأعيان» و «النجوم الزاهرة» : «كمدّها» وفي «الكامل» : «كمدّهما» .

(4/364)


فلم أر قبل جذعك قطّ جذعا ... تمكن من عناق المكرمات
أسأت إلى النوائب فاستثارت ... فأنت قتيل ثأر النّائبات
وهي طويلة.
ولم يزل ابن بقيّة مصلوبا إلى أن توفي عضد الدولة، فأنزل عن الخشبة، ودفن في موضعه.
قال الحافظ ابن عساكر في «تاريخ دمشق» : لما صنع أبو الحسن المرثية التائية، كتبها ورماها في شوارع بغداد، فتداولتها الأدباء إلى أن وصل الخبر إلى عضد الدولة، فلما أنشدت بين يديه، تمنى أن يكون هو المصلوب دونه، وقال: عليّ بهذا الرجل، فطلب سنة كاملة، واتصل الخبر بالصاحب بن عبّاد وهو بالرّيّ، فكتب له الأمان، فلما سمع أبو الحسن ذلك قصد حضرته، فقال له: أنت القائل هذه الأبيات؟ قال: نعم، قال: أنشدنيها من فيك، فلما أنشد:
ولم أر قبل جذعك قطّ جذعا ... تمكن من عناق المكرمات
قام إليه الصاحب وقبّل فاه، وأنفذه إلى عضد الدولة، فلما مثل بين يديه قال: ما الذي حملك على رثاء عدوي؟ فقال: حقوق سلفت وأياد مضت، فقال: هل يحضرك شيء في الشموع؟ والشموع تزهر بين يديه، فأنشأ يقول:
كأنّ الشّموع وقد أظهرت ... من النّار في كلّ رأس سنانا
أصابع أعدائك الخائفين ... تضرّع تطلب منك الأمانا
فلما سمعها خلع عليه وأعطاه فرسا وردّه. انتهى.
وكان ابن بقيّة في أول أمره قد توصل إلى أن صار صاحب مطبخ معز الدولة والد عزّ الدولة، ثم انتقل إلى غيرها من الخدم، ولما مات معز الدولة

(4/365)


وأفضى الأمر إلى عزّ الدولة حسنت حاله عنده، ورعى له خدمته لأبيه، وكان فيه توصل وسعة صدر، وتقدم إلى أن استوزره عز الدولة يوم الاثنين سابع ذي القعدة، سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، ثم إنه قبض عليه لسبب يوم الاثنين سابع عشر ذي الحجة، سنة ست وستين بمدينة واسط، وسمل عينيه، ولزم بيته.
قال ابن الهمذاني في كتابه «عيون السير» : لما استوزر عز الدولة بن بقيّة بعد أن كان يتولى أمر المطبخ، قال الناس: من الغضارة إلى الوزارة، ولكن ستر كرمه عيوبه، وخلع يوما عشرين ألف خلعة. انتهى.
وتقدم أنه كان راتبه من الشمع في كل شهر ألف من، فكم يكون غيره مما تشتد الحاجة إليه، فسبحان المعز المذل، وعاش ابن بقيّة نيفا وخمسين سنة.
وفيها يحيى بن عبد الله بن يحيى بن الإمام يحيى بن يحيى اللّيثي القرطبي، أبو عيسى، الفقيه المالكي، راوي «الموطأ» عاليا.

(4/366)


سنة ثمان وستين وثلاثمائة
فيها كما قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [1] : أمر الطائع بأن تضرب الدبادب على باب عضد الدولة في وقت الصبح، والمغرب، والعشاء، وأن يخطب له على منابر الحضرة.
قال ابن الجوزي: وهذان أمران لم يكونا من قبله، ولا أطلقا لولاة العهود، وما حظي عضد الدولة بذلك إلا لضعف الخلافة [2] .
وفيها توفي أبو بكر القطيعي، أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك البغدادي، مسند العراق، وكان يسكن بقطيعة الدّقيق [3] ، فنسب إليها. روى عن عبد الله بن الإمام أحمد «المسند» وسمع من الكديمي، وإبراهيم الحربي والكبار، توفي في ذي الحجة، وله خمس وتسعون سنة، وكان شيخا صالحا.
وفيها السّيرافي، أبو سعيد، الحسن بن عبد الله بن المرزبان، صاحب العربية، كان أبوه مجوسيا فأسلم [4] ، وسمّي عبد الله، سمّاه به ابنه المذكور،
__________
[1] ص (407) بتحقيق الشيخ محمد محيي الدّين عبد الحميد، وقد نقل المؤلف عنه باختصار.
[2] وقد ساق الذهبي هذا الخبر في «العبر» (2/ 352) . باختصار أيضا فراجعه.
[3] كذا في الأصل والمطبوع، و «تاج العروس» (قطع) ، وفي «معجم البلدان» لياقوت (4/ 377) طبع دار صادر: «قطيعة الرّقيق» .
[4] في الأصل والمطبوع: «وأسلم» وأثبت لفظ «العبر» .

(4/367)


وكان اسمه أولا [1] بهزاد [2] ، تصدّر أبو سعيد لإقراء القراءات، والنحو، واللغة، والعروض، والفقه، والحساب، وكان رأسا في النحو، بصيرا بمذهب الإمام أبي حنيفة، قرأ القرآن على ابن مجاهد، وأخذ اللغة عن ابن دريد، والنحو عن ابن السّراج، وكان ورعا يأكل من النسخ، وكان ينسخ الكراس بعشرة دراهم لبراعة خطه، ذكر عنه الاعتزال ولم يظهر منه، ومات في رجب عن أربع وثمانين سنة.
قال ابن خلّكان [3] : أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السّيرافي النحوي المعروف بالقاضي. سكن بغداد وتولى القضاء بها نيابة عن أبي محمد بن معروف، وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، وشرح «كتاب سيبويه» فأجاد فيه، وله كتاب «ألفات الوصل والقطع» وكتاب «أخبار النحويين البصريين» وكتاب «الوقف والابتداء» وكتاب «صنعة الشعر والبلاغة» و «شرح مقصورة ابن دريد» وكان الناس يشتغلون عليه بعدة فنون، القرآن الكريم، والقراءات، وعلوم القرآن، والنحو، واللغة، والفقه، والفرائض، والحساب، والكلام، والشعر، والعروض، والقوافي، وكان نزها عفيفا، جميل الأمر، حسن الأخلاق، وكان معتزليا، ولم يظهر منه شيء، وكان كثيرا ما ينشد في مجالسه:
اسكن إلى سكن تسرّ به ... ذهب الزّمان وأنت منفرد
ترجو غدا وغد كحاملة ... في الحيّ لا يدرون ما تلد
وتوفي يوم الاثنين ثاني رجب ببغداد، وعمره أربع وثمانون سنة، ودفن بمقابر [4] الخيزران.
__________
[1] في المطبوع: «وكان أولا اسمه» .
[2] تحرّف في المطبوع إلى «بهزار» .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 78- 79) .
[4] في «وفيات الأعيان» : «بمقبرة» .

(4/368)


وقال ولده أبو محمد يوسف: أصل أبي من سيراف، ومضى إلى عسكر مكرم، وأقام عند أبي محمد بن عمر المتكلم، وكان يقدمه، ويفضله [1] على جميع أصحابه، ودخل بغداد، وخلف القاضي أبا محمد بن معروف على قضاء الجانب الشرقي [ثم] [2] في الجانبين.
والسّيرافي: بكسر السين المهملة، وبعد الراء والألف فاء، نسبة إلى سيراف، وهي من بلاد فارس، على ساحل البحر، مما يلي كرمان، خرج منها جماعة من العلماء.
وفيها أبو القاسم الآبندوني- بألف ممدودة وفتح الباء الموحدة، وسكون النون، وضم المهملة، نسبة إلى آبندون من قرى جرجان- واسمه عبد الله بن إبراهيم بن يوسف الجرجاني الحافظ. سكن بغداد، وحدّث عن أبي خليفة، والحسن بن سفيان، وطبقتهما، وهو ثقة ثبت.
قال الحاكم: كان أحد أركان الحديث.
وقال البرقاني: كان محدّثا، زاهدا، متقلّلا من الدّنيا، لم يكن يحدّث غير واحد [منفرد] [3] ، لسوء أدب الطلبة وحديثهم وقت السماع، عاش خمسا وتسعين سنة، وممّن حدّث عنه البرقاني [4] ، وأبو العلاء الواسطي.
وفيها الرّخّجيّ- بالضم وتشديد المعجمة المفتوحة وجيم، نسبة إلى الرّخّجية، قرية ببغداد- القاضي أبو الحسين عيسى بن حامد البغدادي [5]
__________
[1] في الأصل: «وفضله» وأثبت لفظ المطبوع وهو موافق لما في «وفيات الأعيان» .
[2] سقطت من الأصل والمطبوع واستدركتها من «وفيات الأعيان» .
[3] زيادة من «تاريخ بغداد» (9/ 407) و «المنتظم» لابن الجوزي (7/ 96) .
[4] في الأصل والمطبوع: «الرماني» والتصحيح من «تاريخ بغداد» (9/ 407) و «المنتظم» لابن الجوزي (7/ 96) وهو أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي البرقاني المتوفى سنة (425) هـ. انظر «طبقات الحفاظ» للسيوطي ص (418) .
[5] قال السمعاني في «الأنساب» (6/ 97) : يعرف بابن بنت القنبيطي، وانظر تتمة كلامه عنه هناك.

(4/369)


الفقيه، أحد تلامذة ابن جرير [1] . روى عن محمد بن جعفر القتّات وطبقته، ومات في ذي الحجة، عن سن عالية.
وفيها الحافظ النبيل أحمد بن موسى بن عيسى بن أحمد بن عبد الرّحمن، الوكيل الفرضي، أبو الحسن [2] بن أبي عمر الجرجاني. كان حافظا نبيها غير أنه كان يضع الحديث، نسأل الله العافية.
وفيها أبو أحمد الجلودي- بضمتين، وقيل بفتح الجيم نسبة إلى الجلود- محمد بن عيسى بن عمرويه [3] النيسابوري، راوية «صحيح مسلم» عن ابن سفيان الفقيه. سمع من جماعة، ولم يرحل.
قال الحاكم: هو من كبار عبّاد الصوفية، وكان ينسخ بالأجرة، ويعرف مذهب سفيان [4] وينتحله. توفي في ذي الحجة، وله ثمانون سنة.
وفيها أبو الحسين الحجّاجي- نسبة إلى جدّ- محمد بن محمد بن يعقوب النيسابوري، الحافظ الثقة المقرئ، العبد الصالح الصدوق، في ذي الحجة، عن ثلاث وثمانين سنة. قرأ على ابن مجاهد، وسمع عمر بن أبي غيلان، وابن خزيمة، وهذه الطبقة، بمصر، والشام، والعراق، وخراسان، وصنّف العلل، والشيوخ، والأبواب.
قال الحاكم: صحبته نيّفا وعشرين سنة، فلم [5] أعلم أن الملك كتب
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «أحد تلامذة ابن جريج» وهو خطأ، والصواب أنه أحد تلامذة محمد بن جرير الطبري كما في «الأنساب» و «العبر» (2/ 354) .
[2] في الأصل والمطبوع: «أبو الحسين» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (16/ 382) والمصادر المذكورة في حاشيته.
[3] انظر «الأنساب» (3/ 283) وحاشية محققه العلّامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني عليه ففي ذلك فائدة عزيزة.
[4] يعني سفيان الثوري. انظر «الأنساب» (3/ 284) .
[5] في «العبر» : «فما» .

(4/370)


عليه خطيئة، وسمعت أبا عليّ الحافظ يقول: ما في أصحابنا أفهم ولا أثبت منه، وأنا ألقّبه بعفّان لثبته، رحمه الله تعالى.
وفيها هفتكين التّركي الشرابي [1] ، خرج عن بغداد خوفا من عضد الدولة، ونزل الشام، فتملك دمشق بإعانة أهلها في سنة أربع وستين، وردّ الدعوة العبّاسية، ثم صار إلى صيدا، وحارب المصريين، فقدم لحربه القائد جوهر، وحاصره بدمشق سبعة أشهر، ثم ترحل عنه، فساق وراء جوهر، فالتقوا بعسقلان، فهزم جوهرا، وتحصّن جوهر بعسقلان، فحاصره هفتكين بها خمسة عشر شهرا، ثم أمّنه، فنزل وذهب إلى مصر، فصادف العزيز صاحب مصر قد جاء في نجدته، فردّ معه، فكانوا سبعين ألفا، فالتقاهم هفتكين، فأخذوه أسيرا، في أول سنة ثمان هذه، ثم من عليه العزيز، وأعطاه إمرة، فخاف منه ابن كلّس الوزير وقتله، سقاه سمّا، وكان يضرب بشجاعته المثل.
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 307- 308) .

(4/371)


سنة تسع وستين وثلاثمائة
فيها ورد رسول العزيز صاحب مصر والشام، إلى عضد الدولة، ثم ورد رسول آخر، فأجابه بما مضمونه، صدق الطّوية وحسن النيّة.
وفيها توفي أحمد بن عطاء [الرّوذباري] [1] أبو عبد الله الزاهد، شيخ الصوفية، نزيل صور [2] . روى عن أبي القاسم البغوي وطبقته.
قال القشيري: كان شيخ الشام في وقته، وضعّفه بعضهم، فإنه روى عن إسماعيل الصفّار مناكير، تفرّد بها. قاله في «العبر» [3] .
ومن كلامه: ما من قبيح إلا وأقبح منه صوفي شحيح.
وقال: الخشوع في الصلاة علامة فلاح المصلّي قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ 23: 1- 2 [المؤمنون: 1- 2] .
وقال: مجالسة الأضداد ذوبان الرّوح [4] ، ومجالسة الأشكال تلقيح العقول.
__________
[1] زيادة من «العبر» مصدر المؤلف.
[2] في الأصل: «نزيل صغد» وفي المطبوع: «نزيل صفد» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «العبر» وانظر «تاريخ بغداد» (4/ 336) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 227- 228) .
[3] (2/ 356) .
[4] قوله: «ذوبان الروح» سقط من الأصل وأثبته من المطبوع.

(4/372)


وقال الخطيب [1] : نشأ ببغداد وأقام بها دهرا طويلا [2] ، ثم انتقل فنزل صور من ساحل بلاد الشام [3] ، وتوفي في قرية يقال لها منواث من عمل عكا، وحمل إلى صفد فدفن بها.
وفيها ابن شاقلا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد البغدادي البزّاز، شيخ الحنابلة، وتلميذ أبي بكر عبد العزيز، توفي كهلا في رجب، وكان صاحب حلقة للفتيا والإشغال بجامع المنصور.
وفيها الجعل، واسمه حسين بن علي البصري الحنفي العلّامة، صاحب التصانيف، وله ثمانون سنة، وكان رأس المعتزلة. قاله أبو إسحاق في «طبقات الفقهاء» [4] .
وفيها ابن ماسي المحدّث، أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن أيوب بن ماسي البزّاز ببغداد، في رجب، وله خمس وتسعون سنة.
قال البرقاني وغيره: ثقة، ثبت. روى عن أبي مسلم الكجّي وطائفة.
وفيها الحسن بن محمد بن علي الأصفهاني أبو سعيد الحافظ المتقن. روى عن أبي قاسم البغوي، وأبي محمد بن صاعد، وهذه الطبقة.
وعنه: أبو نعيم وغيره، ووصفه أبو نعيم بالمعرفة والإتقان.
وفيها الإمام الحافظ الثبت الثقة، أبو الشيخ، وأبو محمد، عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيّان الأصبهاني، صاحب التصانيف، في سلخ المحرم، وله خمس وتسعون سنة، وأول سماعه في سنة أربع وثمانين ومائتين، من
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (4/ 336) .
[2] كانت العبارة في الأصل والمطبوع: «أقام ببغداد ونشأ بها، وأقام ببغداد دهرا طويلا» وأثبت لفظ «تاريخ بغداد» .
[3] في الأصل والمطبوع: «من ساحل بلاد الروم» وأثبت لفظ «تاريخ بغداد» .
[4] انظر «طبقات الفقهاء» للشيرازي ص (143) بتحقيق الدكتور إحسان عبّاس.

(4/373)


إبراهيم بن سعدان، وابن أبي عاصم، وطبقتهما، ورحل في حدود الثلاثمائة، وروى عن أبي خليفة وأمثاله، بالموصل، وحرّان، والحجاز، والعراق، وممّن روى عنه أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي، والماليني، وأبو نعيم، وابن مردويه.
وقال ابن مردويه: هو ثقة مأمون، وصنّف «التفسير» والكتب الكثيرة في الأحكام وغير ذلك.
وقال الخطيب [1] : كان حافظا ثبتا متقنا.
وقال غيره: كان صالحا عابدا قانتا لله، كبير القدر.
وفيها الإمام أبو سهل محمد بن سليمان العجلي الصعلوكي النيسابوري، الحنفي نسبا والشافعي مذهبا، الفقيه، شيخ الشافعية بخراسان.
قال فيه الحاكم: أبو سهل الصعلوكي الشافعي اللغوي المفسّر النحوي المتكلم المفتي الصوفي، حبر زمانه [2] وبقية أقرانه. ولد سنة تسعين ومائتين، واختلف إلى ابن خزيمة، ثم إلى أبي علي الثقفي، وناظر وبرع، وسمع من أبي العبّاس السّراج وطبقته.
وقال الصاحب بن عبّاد: ما رأى أبو سهل مثل نفسه، ولا رأينا مثله، وهو صاحب وجه في المذهب.
وسئل أبو الوليد حسّان بن محمد الفقيه، عن أبي بكر القفّال، وأبي سهل الصعلوكي أيّهما أرجح، فقال: ومن يقدر أن يكون مثل أبي سهل.
وعنه أخذ ابنه أبو الطيب وفقهاء نيسابور.
وقال أبو عبد الرحمن السّلمي: سمعته يقول ما عقدت على شيء قطّ،
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 278) .
[2] في الأصل والمطبوع: «خير زمانه» وما أثبته من «العبر» (2/ 358) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 236) .

(4/374)


وما كان لي قفل ولا مفتاح، وما حرزت [1] على فضّة ولا على ذهب قطّ.
قال: وسمعته يقول: من قال لشيخه لم؟ لا يفلح أبدا [2] .
ومن غرائبه وجوب النيّة لإزالة النجاسة، وأن من نوى غسل الجنابة والجماع [3] لا يجزئه لواحد منهما، وتوفي في ذي القعدة.
وفيها ابن أمّ شيبان، قاضي القضاة، أبو الحسن محمد بن صالح بن علي الهاشمي العبّاسي العيسوي الكوفي. روى عن عبد الله بن زيدان [4] البجلي وجماعة، وقدم بغداد مع أبيه، فقرأ على ابن مجاهد، وتزوج بابنة قاضي القضاة، أبي عمر محمد بن يوسف.
قال طلحة الشاهد: هو رجل عظيم القدر، واسع العلم، كثير الطّلب، حسن التصنيف، متوسط في مذهب مالك، متفنّن.
وقال ابن أبي الفوارس: نهاية في الصدق، نبيل فاضل، ما رأينا في معناه مثله. توفي فجأة في جمادى الأولى، وله بضع وسبعون سنة. قاله في «العبر» [5] .
وفيها النقّاش المحدّث، لا المقرئ، أبو بكر محمد بن علي بن
__________
[1] في «سير أعلام النبلاء» : «ما حررت» .
[2] علق الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط على هذا الخبر في «سير أعلام النبلاء» (16/ 237) بقوله: بلى والله يفلح إذا كان قصده معرفة الحقيقة، أو كان يرى في الشيخ خطأ لا يقرّه الشرع، وأراد أن ينبّه عليه بأدب ولطف، فكل بني آدم خطاء كما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم، وقد اتخذ هذه الكلمة المنافية لما جاء به الإسلام من لا يترسّم خطى الشرع من الشيوخ ذريعة لارتكاب ما لا يحل، وفعل ما هو محرم.
[3] في الأصل والمطبوع: «والجماعة» والتصحيح من «العبر» (2/ 358) مصدر المؤلف في نقله.
[4] في الأصل والمطبوع: «ابن بدران» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 226) .
[5] (2/ 358- 359) .

(4/375)


الحسن المصري الحافظ، نزيل تنّيس، وله سبع وثمانون سنة. روى عن شيخ النّسائي محمد بن جعفر الإمام، ورحل، فسمع من النّسائي، وأبي يعلى، وعبدان، وخلائق، ورحل إليه الدارقطني، وكان من الحفاظ والعلماء بهذا الشأن [1] .
وفيها أبو عمرو، محمد بن محمد بن صابر البخاري، المؤذّن، صاحب صالح جزرة، الحافظ مسند أهل بخارى وعالمها.
وفيها الباقرحيّ- بفتح القاف، وسكون الراء، ثم [حاء] مهملة، نسبة إلى باقرحا من قرى بغداد- أبو علي مخلد بن جعفر الفارسي الدقاق، صاحب «المشيخة» ببغداد في ذي الحجة. روى عن يوسف بن يعقوب القاضي وطبقته، ولم يكن يعرف شيئا من الحديث، فأدخلوا عليه فأفسدوه.
قاله في «العبر» [2] .
__________
[1] يعني علوم الحديث النبوي.
[2] (2/ 360) .

(4/376)


سنة سبعين وثلاثمائة
فيها رجع عضد الدولة من همذان، فلما وصل إلى بغداد، بعث إلى الطائع لله ليتلقاه، فما وسعه التخلّف، ولم تجر عادة بذلك أبدا، وأمر قبل دخوله، أن من تكلم أو دعا له قتل، فما نطق مخلوق، فأعجبه ذلك. وكان عظيم الهيبة، شديد العقوبة على الذنب الصغير.
وفيها توفي الرّازي، أبو بكر أحمد بن علي الفقيه، شيخ الحنفية ببغداد، وصاحب أبي الحسن الكرخي، في ذي الحجة، وله خمس وستون سنة. انتهت إليه رئاسة المذهب، وكان مشهورا بالزهد والدّين، عرض عليه قضاء القضاة فامتنع، وله عدة مصنفات. روى فيها عن الأصم وغيره.
وفيها اليشكري، أحمد بن منصور الدّينوري الأخباري، مؤدّب الأمير حسن بن عيسى بن المقتدر. روى عن ابن دريد وطائفة، وله أجزاء منسوبة إليه رواها الأمير حسن.
وفيها أبو سهل بشر بن أحمد الإسفراييني الدهقان المحدّث الجوّال.
روى عن إبراهيم بن علي الذّهلي، وقرأ على الحسن بن سفيان مسنده، ورحل إلى بغداد، والموصل، وأملى زمانا، وتوفي في شوال، عن نيّف وتسعين سنة.
وفيها أبو محمد السّبيعي- بفتح السين المهملة، نسبة إلى سبيع بطن

(4/377)


من همدان- وهو الحافظ الحسن [بن أحمد] [1] بن صالح الحلبي. روى عن عبد الله بن ناجية وطبقته، ومات في آخر السنة في الحمام، وكان شرس الأخلاق.
قال ابن ناصر الدّين: كان على [2] تشيّع فيه ثقة.
وفيها الحسن بن رشيق العسكري، أبو محمد المصري الحافظ، في جمادى الآخرة، وله ثمان وثمانون سنة.
قال يحيى بن الطحّان: روى عن النّسائي، وأحمد بن حمّاد زغبة، وخلق لا أستطيع ذكرهم، ما رأيت عالما أكثر حديثا منه.
وفيها ابن خالويه، الأستاذ أبو عبد الله [3] الحسين بن أحمد الهمذاني النحوي اللغوي صاحب التصانيف وشيخ أهل حلب. أخذ عن ابن مجاهد، وأبي بكر بن الأنباري، وأبي عمر الزاهد.
قال ابن الأهدل: انتقل عن بغداد إلى حلب فاستوطنها، ومات بها، وكان بنو حمدان يعظّمونه، دخل على سيف الدولة، فقال له: اقعد، ولم يقل: اجلس، فاتخذت فضيلة لسيف الدولة، وذلك لأن القائم يقال له:
اقعد، والنائم والساجد: اجلس، وله مواقف مع المتنبي في مجلس سيف الدولة، ومن شعره:
إذا لم يكن صدر المجالس سيّدا ... فلا خير فيمن صدّرته المجالس
وكم قائل: ما لي رأيتك راجلا؟ ... فقلت له: من أجل أنك فارس [4]
انتهى.
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «العبر» (2/ 361) وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 296) .
[2] لفظة «على» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع.
[3] في «العبر» : «أبو عبيد الله» وهو تحريف فيصحح فيه.
[4] البيتان في «يتيمة الدهر» (1/ 137) طبع دار الكتب العلمية ببيروت، وانظر «وفيات الأعيان» (2/ 179) .

(4/378)


وفيها القبّاب [1] وهو الذي يعمل المحابر [2] أبو بكر، عبد الله بن محمد بن محمد بن فورك بن عطاء الأصبهاني المقرئ، وله بضع وتسعون سنة. قرأ على ابن شنبوذ، وروى عن محمد بن إبراهيم الجيراني [3] ، وعبد الله بن محمد بن النّعمان، والكبار، وصار شيخ ناحيته، توفي في ذي القعدة.
وفيها الإمام الإسماعيلي، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العبّاس، أبو بكر، الجرجاني [4] ، أحد الحفاظ الأعيان. كان شيخ المحدّثين والفقهاء، وأجلّهم في المروءة والسخاء. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها العلّامة الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي اللغوي النحوي الشافعي، صاحب «تهذيب اللغة» وغيره من المصنفات الكبار، الجليلة المقدار، مات بهراة [5] ، في شهر ربيع الآخر، وله ثمان وثمانون سنة. روى عن البغوي، ونفطويه، وأبي بكر بن السرّاج، وترك الأخذ عن ابن دريد تورعا، لأنه رآه سكران، وقد بقي الأزهري في أسر القرامطة مدة طويلة. قاله في «العبر» [6] .
__________
[1] تحرّفت في الأصل والمطبوع إلى «القتاب» والتصحيح من «العبر» (2/ 362) وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 257) .
[2] كذا قال المؤلف، وقد تبع في ذلك الإمام الذهبي في «العبر» (2/ 362) . وقال الإمام الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (16/ 258) : القبّاب: هو الذي يعمل القبّة، يعني المحارة.
وقال الإمام السمعاني في «الأنساب» (10/ 38) : القبّاب: هذه النسبة إلى عمل القباب التي هي كالهوادج، والله أعلم.
[3] تحرفت في الأصل والمطبوع إلى «الحيراني» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[4] مترجم في «تاريخ جرجان» ص (108- 109) وسوف تتكرر ترجمته في حوادث سنة (371) .
[5] في الأصل: «في هراة» وأثبت ما في المطبوع وهو موافق لما في «العبر» .
[6] (2/ 362- 363) .

(4/379)


وقال ابن قاضي شهبة: ولد بهراة سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وكان فقيها صالحا، غلب عليه علم اللغة، وصنّف فيه كتابه «التهذيب» الذي جمع فيه فأوعى، في عشر مجلدات، وصنّف في التفسير كتابا سمّاه «التقريب» .
انتهى ملخصا.
وقال ابن خلّكان [1] : وحكى بعض الأفاضل أنه رأى بخطه، قال:
امتحنت بالأسر سنة عارضت القرامطة الحاجّ [2] بالهبير، وكان القوم الذي وقعت في سهمهم عربا نشؤوا في البادية يتتبعون مساقط الغيث أيام النجع، ويرجعون إلى أعداد المياه في محاضرهم زمان القيظ، ويرعون النعم ويعيشون بألبانها، وكنّا نشتّي بالدهناء، ونرتبع بالصّمّان، ونقيظ بالسّتارين، واستفدت من محاورتهم ومخاطبة بعضهم بعضا ألفاظا جمّة، ونوادر كثيرة، أوقعت أكثرها في كتابي- يعني «التهذيب» -. انتهى.
وفيها الحافظ الكبير، أبو بكر غندر، محمد بن جعفر البغدادي الورّاق الثقة. كان رحّالا جوّالا، توفي بأطراف خراسان غريبا. سمع بالشام، والعراق، ومصر، والجزيرة. وروى عن الحسن بن شبيب المعمري، ومحمد بن محمد الباغندي، وطبقتهما. وعنه: الحاكم، وأبو نعيم، وغيرهما.
قال الحاكم: دخل إلى أرض التّرك، وكتب من الحديث ما لم يتقدمه فيه أحد كثرة.
وفيها أبو زرعة اليمني الإستراباذي، محمد بن إبراهيم الحافظ [3] .
روى عن علي بن الحسين بن معدان، والسّراج، وأبي عروبة الحرّاني.
وعنه: الإدريسي، وحمزة السهمي، وهو ثقة. قاله ابن بردس.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 334- 336) .
[2] في الأصل والمطبوع «الحج» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[3] مترجم في «تذكرة الحفاظ» للذهبي (3/ 998- 999) .

(4/380)


وممّن كان بعد الستين وثلاثمائة:
الرّفّاء الشاعر، أبو الحسن السّريّ بن أحمد الكندي الموصلي، صاحب الديوان المشهور. مدح سيف الدولة، والوزير المهلّبي والكبار.
قال ابن خلّكان [1] : كان في صباه يرفو ويطرز في دكان بالموصل، وهو مع ذلك يتولع بالأدب وينظم الشعر، ولم يزل حتّى جاد شعره ومهر فيه، وقصد سيف الدولة بن حمدان بحلب، وأقام عنده مدة ثم انتقل بعد وفاته إلى بغداد، ومدح الوزير المهلّبي وجماعة من رؤسائها، ونفق شعره وراج، وكان [2] بينه وبين أبي بكر محمد، وأبي عثمان سعيد بن هاشم الخالديين الموصليين الشاعرين المشهورين معاداة، فادّعى عليهما سرقة شعره، وشعر غيره.
وكان السّريّ مغرى بنسخ «ديوان كشاجم» الشاعر المشهور، وهو إذ ذاك ريحان الأدب بتلك البلاد، والسّريّ في طريقه يذهب، فكان يدسّ فيما يكتبه من شعره أحسن شعر الخالديين ليزيد في حجم ما ينسخه، وينفق سوقه، ويعلى شعره [3] بذلك عليهما، ويغضّ منهما. فمن هذه الجهة وقفت
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 359- 363) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «وكانت» .
[3] في «وفيات الأعيان» «ويغلى سعره» .

(4/381)


في بعض النسخ من «ديوان كشاجم» على زيادات ليست في الأصول المشهورة.
وكان شاعرا مطبوعا، عذب الألفاظ، مليح المأخذ، كثير الافتتان في [التشبيهات و] الأوصاف [1] ، ولم يكن له رواء ولا منظر، ولا يحسن من العلوم غير قول الشعر.
ومن شعر السّري المذكور:
وكانت الإبرة فيما مضى ... صائنة وجهي وأشعاري
فأصبح الرزق بها ضيقا ... كأنه من ثقبها جاري
ومن محاسن شعره في المديح قوله من [2] جملة قصيدة:
يلقى الّندى برقيق وجه مسفر ... فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا
رحب المنازل ما أقام فإن سرى ... في جحفل ترك الفضاء مضيقا
وذكر له الثعالبي في كتابه «المنتحل» :
ألبستني نعما رأيت بها الدّجى ... صبحا وكنت أرى الصباح بهيما
فغدوت يحسدني الصديق وقبلها ... قد كان يلقاني العدو رحيما
ومن غرر شعره في التشبيب:
بنفسي من أجود له بنفسي ... ويبخل بالتّحية والسّلام
وحتفي كامن في مقلتيه ... كمون الموت في حدّ الحسام
وله كتاب «المحب والمحبوب والمشموم والمشروب» [3] وكانت وفاته سنة نيف وستين وثلاثمائة. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
__________
[1] ما بين حاصرتين استدركته من «وفيات الأعيان» .
[2] في الأصل: «في» وأثبت لفظ المطبوع.
[3] قام بطبعه مجمع اللغة العربية بدمشق وقد صدرت الأجزاء الثلاثة الأولى منه بتحقيق الأستاذ.

(4/382)


وفاروق بن عبد الكبير، أبو حفص الخطّابي البصري، محدّث البصرة ومسندها. روى عن الكجّي، وهشام بن [علي] [1] السّيرافي، ومحمد بن يحيى القزّاز، وكان حيّا في سنة إحدى وستين.
وابن مجاهد المتكلم، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي، صاحب الأشعري، ذو التصانيف الكثيرة في الأصول. قدم من البصرة، فسكن بغداد، وعنه أخذ القاضي أبو بكر الباقلّاني، وكان ديّنا صيّنا خيّرا.
والنّقوي [2] أبو عبد الله، محمد بن عبد الله الصنعاني، آخر من روى في الدّنيا عن إسحاق بن إبراهيم. رحل المحدّثون إليه في سنة سبع وستين وثلاثمائة.
والنّجيرمي- بفتح النون والراء، وكسر الجيم، نسبة إلى نجيرم، محلة بالبصرة- أبو يعقوب، يوسف بن يعقوب البصري. حدّث في سنة خمس وستين عن أبي مسلم، ومحمد بن حيّان المازني.
__________
مصباح غلاونجي رحمه الله، والجزء الرابع بتحقيق الأستاذ ماجد الذهبي، وهي طبعة متقنة محررة مفهرسة.
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» (2/ 363) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 140) .
[2] في الأصل والمطبوع: «التقوي» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» وانظر «سير أعلام النبلاء» (16/ 141) .

(4/383)