شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة
فيها تمّ أمور هائلة، وكان أبو نصر الذي ولي مملكة بغداد شابا حزما [1] والطائع لله ضعيفا، ولّاه السلطنة، ولقّبه بهاء الدولة، فلما كان في شعبان، وأمر الخليفة الطائع بحبس أبي الحسين بن المعلّم، وكان من خواصّ بهاء الدولة، فعظم على بهاء الدولة ذلك، ثم دخل على الطائع للخدمة، فلما قرب، قبّل الأرض، وجلس على كرسي فتقدم أصحابه، فشحطوا الطائع من السرير بحمائل سيفه، ولفّوه في كساء، وحمل إلى دار المملكة، وكتب عليه بخلعه نفسه وتسليم الأمر إلى القادر، فاختبطت بغداد، وظن الأجناد أن القبض على بهاء الدولة من جهة الطائع، فوقعوا في النهب، ثم إن بهاء الدولة أمر بالنداء بخلافة القادر بالله وأنفذ إلى القادر بالله سجل بخلع الطائع لله وهو بالبطائح، وأخذوا جميع ما في دار الخلافة، حتّى الرخام والأبواب، ثم أبيحت للرعاع، فقلعوا الشبابيك، وأقبل القادر بالله، أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر [بالله] وله يومئذ أربع وأربعون سنة، وكان أبيض، كثّ اللحية، كثير التهجد والخير والبر، صاحب سنّة وجماعة.
وكان من جملة من حضر إهانة الطائع وخلعه الشريف الرضي، فأنشد:
أمسيت أرحم من قد كنت أغبطه ... لقد تقارب بين العزّ والهون
__________
[1] في «العبر» : «جريئا» .

(4/423)


ومنظر كان بالسرّاء يضحكني ... يا قرب ما عاد بالضرّاء يبكيني
وفيها توفي أحمد بن الحسين بن مهران الأستاذ، أبو بكر الأصبهاني، ثم النيسابوري، المقرئ، العبد الصالح، مجاب الدعوة، ومصنّف كتاب «الغاية في القراءات» [1] قرأ بدمشق على أبي النّضر الأخرم، وببغداد على النقّاش، وأبي الحسن بن بويان [2] وطائفة، وسمع من السرّاج، وابن خزيمة، وطبقتهما.
قال الحاكم: كان إمام عصره في القراءات، وأعبد الناس ممّن رأينا في الدّنيا، وكان مجاب الدعوة، توفي في شوال، وله ست وثمانون سنة، وله كتاب «الشامل في القراءات» وهو كتاب كبير.
وفيها جوهر القائد، أبو الحسن الرّومي، مولى المعزّ بالله، ومقدّم جيشه، وظهيره ومؤيد دولته، وموطّد [3] الممالك له، وكان عاقلا سائسا، حسن السيرة في الرعية، على دين مواليه، ولم يزل عالي الرتبة، نافذ الكلمة، إلى أن مات. وجرت له فصول في أخذ مصر يطول ذكرها، من ذلك، ما ذكره ابن خلّكان [4] أن القائد جوهر وصل إلى الجيزة، وابتدئ في القتال في الحادي عشر من شعبان، سنة ثمان وخمسين فأسرت رجال، وأخذت خيل، ومضى جوهر إلى منية الصيادين [5] وأخذ المخاضة بمنية شلقان، واستمال [6] إلى جوهر جماعة من العسكر في مراكب، وجعل أهل
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «الغاية في القراءة» والتصحيح من «العبر» و «النجوم الزاهرة» (4/ 160) .
[2] تحرّف في «العبر» في طبعتيه إلى: «الحسن بن ثوبان» فيصحح فيهما.
[3] في «العبر» طبع الكويت: «وموطئ» .
[4] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 378- 380) .
[5] في الأصل والمطبوع: «مينة الصيادين» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[6] في «وفيات الأعيان» : «واستأمن» وهو أصوب.

(4/424)


مصر على المخاضة من يحفظها، فلما رأى ذلك جوهر، قال لجعفر بن فلاح: لهذا اليوم أرادك المعز، فعبر عريانا في سراويل وهو في مركب، ومعه الرجال خوضا، حتّى خرجوا إليهم، ووقع القتال، فقتل خلق من الإخشيذية، وأتباعهم، وانهزمت الجماعة في الليل، ودخلوا مصر، وأخذوا ما قدروا عليه من دورهم [وانهزموا] [1] وخرج حرمهم مشاة ودخلن على الشريف أبي جعفر في مكاتبة القائد بإعادة الأمان، فكتب إليه يهنئه بالفتح، وسأله إعادة الأمان، وجلس الناس عنده ينتظرون الجواب، فعاد إليهم بأمانه وحضور رسوله. ومعه بند أبيض، وطاف على الناس يؤمنهم ويمنع من النهب، فهدأ البلد وفتحت الأسواق، وسكن الناس، كأن لم تكن فتنة.
فلما كان آخر النهار ورد رسوله إلى أبي جعفر بأن تعمل على لقائي يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من شعبان بجماعة الأشراف والعلماء ووجوه البلد، فانصرفوا متأهبين لذلك، ثم خرجوا ومعهم الوزير جعفر وجماعة من الأعيان إلى الجيزة، والتقوا القائد، ونادى مناد: ينزل الناس كلهم إلّا الشريف والوزير، فنزلوا وسلّموا عليه واحدا واحدا، والوزير عن شماله والشريف عن يمينه، ولما فرغوا من السلام ابتدأوا في دخول البلد، فدخلوا من زوال الشمس وعليهم السلاح والعدد، ودخل جوهر بعد العصر وطبوله وبنوده بين يديه، وعليه ثوب ديباج مثقل، وتحته فرس أصفر، وشقّ في مصر، ونزل في مناخه موضع القاهرة اليوم، واختطّ موضع القاهرة.
ولما أصبح المصريون حضروا إلى القائد للهناء، فوجدوه قد حفر أساس القصر بالليل، وكان فيه زورات جاءت غير معتدلة فلم تعجبه، ثم قال: حفرت في ساعة سعيدة فلا أغيّرها، وأقام عسكره يدخل [إلى] البلد سبعة أيام أولها الثلاثاء المذكور، وبادر جوهر بالكتاب إلى مولاه [المعز]
__________
[1] زيادة من «وفيات الأعيان» .

(4/425)


يبشره بالفتح وأنفذ إليه رؤوس القتلى في الوقعة، وقطع خطبة بني العبّاس عن منابر الدّيار المصرية، وكذلك اسمهم من على السكة، وعوّض عن ذلك باسم مولاه المعز، وأزال الشعار الأسود، وألبس الخطباء الثياب البيض، وجعل يجلس بنفسه في كل يوم سبت للمظالم يحضره الوزير والقاضي وجماعة من أكابر الفقهاء.
وفي يوم الجمعة ثامن ذي القعدة أمر جوهر بالزيادة عقيب الخطبة:
اللهمّ صلّ على محمد المصطفى، وعلى عليّ المرتضى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. اللهمّ وصلّ على الأئمة الطاهرين آباء أمير المؤمنين.
وفي يوم الجمعة ثامن عشر شهر ربيع الآخر، سنة تسع وخمسين، صلى القائد في جامع [ابن] طولون بعسكر كثير، وخطب عبد السميع بن عمر العبّاسي الخطيب، وذكر أهل البيت وفضائلهم، رضي الله عنهم، ودعا للقائد جوهر، وجهر القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ سورة الجمعة والمنافقين في الصلاة، وأذن بحيّ على خير العمل، وهو أول ما أذن به بمصر، ثم أذن به في سائر المساجد، وقنت الخطيب في صلاة الجمعة.
وفي جمادى الأولى من السنة المذكورة أذّنوا في جامع مصر العتيق بحيّ على خير العمل، وسرّ القائد جوهر بذلك، وكتب إلى المعز يبشره بذلك، ولما دعا الخطيب على المنبر للقائد جوهر، أنكر عليه، وقال: ليس هذا رسم موالينا.
وشرع في عمارة الجامع بالقاهرة، وفرغ من بنائه في سابع شهر رمضان سنة إحدى وستين، وجمع فيه الجمعة، وأظن [1] هذا الجامع المعروف بالأزهر. انتهى ملخصا.
__________
[1] القائل ابن خلّكان.

(4/426)


وفيها سعد الدولة، أبو المعالي [1] شريف بن سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان التغلبي، صاحب حلب، توفي في رمضان، وقد نيّف على الأربعين، وولي بعده ابنه سعد، فلما مات ابنه، انقرض ملك سيف الدولة من ذريته.
وفيها عبد الله بن أحمد بن حمّويه بن يوسف بن أعين أبو محمد السّرخسي، المحدّث الثقة. روى عن الفربري «صحيح البخاري» وروى عن عيسى بن عمر السمرقندي «كتاب الدارمي» وروى عن إبراهيم بن خريم «مسند عبد بن حميد» و «تفسيره» وتوفي في ذي الحجة، وله ثمان وثمانون سنة.
وفيها الجوهري، أبو القاسم، عبد الرحمن بن عبد الله المصري المالكي، الذي صنّف «مسند الموطّأ» توفي في رمضان.
وفيها أبو عدي، عبد العزيز بن علي بن محمد بن إسحاق المصري، المقرئ الحاذق، المعروف بابن الإمام. قرأ على أبي بكر بن سيف، صاحب أبي يعقوب الأزرق، وكان محققا ضابطا لقراءة ورش، وحدّث عن محمد بن زبّان، وابن قديد، وتوفي في شهر ربيع الأول.
وفيها أبو محمد بن معروف، قاضي القضاة، عبيد الله [2] بن أحمد بن معروف البغدادي.
قال الخطيب [3] : كان من أجلّاء [4] الرجال وألبائهم، مع تجربة وحنكة، وفطنة وعزيمة ماضية، وكان يجمع وسامة في منظره، وظرفا في
__________
[1] في «العبر» : «أبو العباس» وانظر «النجوم الزاهرة» (4/ 161) و «الأعلام» (3/ 162) .
[2] في الأصل والمطبوع: «عبد الله» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ بغداد» و «العبر» .
[3] انظر «تاريخ بغداد» (10/ 366) .
[4] في الأصل والمطبوع: «من أجلاد» وفي «العبر» : «من أجواد» وما أثبته من «تاريخ بغداد» .

(4/427)


ملبسه، وطلاقة في مجلسه، وبلاغة في خطابه، ونهضة بأعباء الأحكام، وهيبة في القلوب.
وقال العتيقي: كان مجردا في الاعتزال. انتهى.
قال في «العبر» [1] : قلت: ولد سنة ست وثلاثمائة، وسمع من يحيى بن صاعد، وأبي حامد الحضرمي، وجماعة، وتوفي في صفر. انتهى.
وفيها أبو الفضل، عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزّهري العوفي البغدادي. سمع إبراهيم بن شريك الأسدي، والفريابي، وعبد الله بن إسحاق المدائني وطائفة، ومات في أحد الربيعين، وله إحدى وتسعون سنة.
قال عبد العزيز الأزجي: هو شيخ ثقة، مجاب الدعاء.
وفيها ابن المقرئ، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي الأصبهاني، الحافظ الثقة، صاحب الرحلة الواسعة، أول سماعه بعد الثلاثمائة، فأدرك محمد بن نصير المديني، ومحمد بن علي الفرقدي صاحبي إسماعيل بن عمرو البجلي، ثم رحل، ولقي أبا يعلى، وعبدان، وطبقتهما.
قال أبو نعيم الحافظ: كان محدّثا كبيرا ثقة صاحب مسانيد سمع ما لا يحصى كثرة [2] .
وقال ابن ناصر الدّين: كان محدّثا ثقة كبيرا، من المكثرين، وله «المعجم الكبير» و «كتاب الأربعين» . انتهى.
توفي في شوال، عن ست وتسعين سنة.
__________
[1] (3/ 20) .
[2] كذا في الأصل والمطبوع و «سير أعلام النبلاء» (16/ 400) ونص النقل في «ذكر أخبار أصبهان» (2/ 297) : «محدّث كبير، ثقة أمين، صاحب مسانيد وأصول، سمع بالعراق والشام ومصر ما لا يحصى كثرة» .

(4/428)


وفيها قاضي الجماعة، أبو بكر محمد بن يبقى بن زرب القرطبي المالكي، صاحب التصانيف، وأحفظ أهل زمانه لمذهب مالك. سمع قاسم بن أصبغ وجماعة، وولي القضاء سنة سبع وستين وثلاثمائة، وإلى أن مات، وكان المنصور بن أبي عامر يعظّمه ويجلسه معه.
وفيها ابن دوست، أبو [بكر] محمد بن يوسف [1] العلّاف، ببغداد.
روى عن البغوي وجماعة.
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «أبو محمد بن يوسف» وهو خطأ، والتصحيح من «تاريخ بغداد» (3/ 409) و «العبر» (3/ 21) .

(4/429)


سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة
كان أبو الحسن بن المعلّم الكوكبي، قد استولى على أمور السلطان بهاء الدولة كلها، فمنع الرافضة من عمل المأتم، يوم عاشوراء، الذي كان يعمل نحوا من ثلاثين سنة، وغلت الأسعار بالكرخ، حتّى بيع رطل من الخبز بأربعين درهما، والجوزة بدرهم.
وفيها شغبت الجند وعسكروا، وبعثوا يطلبون من بهاء الدولة أن يسلم إليهم ابن المعلّم، وصمّموا على ذلك، إلى أن قال له رسولهم: أيها الملك، اختر بقاءه أو بقاءك، فقبض حينئذ عليه وعلى أصحابه، فما زالوا به، حتّى قتله، رحمه الله، وكذلك قتلت بقية أصحابه.
وفيها توفي أبو أحمد العسكري- بفتح العين المهملة وسكون السين المهملة، وفتح الكاف، بعدها راء، نسبة إلى عسكر مكرم، مدينة من كور الأهواز- الحسن بن عبد الله بن سعيد، الأديب الأخباري العلّامة، صاحب التصانيف. روى عن عبدان الأهوازي، وأبي القاسم البغوي وطبقتهما.
قال ابن خلّكان [1] : وهو صاحب أخبار ونوادر، وله رواية متسعة، وله التصانيف المفيدة، منها: كتاب «التصحيف» [2] وكتاب «المختلف والمؤتلف»
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 83- 84) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[2] نشر المجلد الأول منه في مجمع اللغة العربية بدمشق بعنوان «شرح ما يقع فيه التصحيف.

(4/430)


وكتاب «علم المنطق» وكتاب «الحكم والأمثال» وكتاب «الزواجر» وغير ذلك، وكان الصاحب بن عبّاد يودّ الاجتماع به ولا يجد إليه سبيلا، فقال لمخدومه مؤيد الدولة بن بويه: إن عسكر مكرم قد اختلف أحوالها، وأحتاج إلى كشفها بنفسي، فأذن له في ذلك، فلما أتاها توقع أن يزوره أبو أحمد المذكور، فلم يزره، فكتب الصاحب إليه:
ولمّا أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فلم نقدر على الوخدان [1]
أتيناكم من بعد أرض نزوركم ... وكم منزل بكر لنا وعوان
نسائلكم هل من قرى لنزيلكم ... بملء جفون لا بملء جفان
وكتب مع هذه الأبيات شيئا من النثر، فجاوبه أبو محمد عن النثر بنثر مثله، وعن هذه الأبيات بالبيت المشهور:
أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان
فلما وقف الصاحب على الجواب عجب من اتفاق هذا البيت له، وقال: والله لو علمت أنه يقع له هذا البيت لما كتبت [2] له على هذا الروي، وهذا البيت لصخر بن عمرو الشّريد في [أخي] الخنساء، وهو من جملة أبيات مشهورة [3] ، وكانت ولادة أبي أحمد المذكور يوم الخميس لست عشرة ليلة خلت من شوّال، وتوفي يوم الجمعة سابع ذي الحجة. انتهى ملخصا.
وفيها أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمد النّسائي، الفقيه الشافعي، الذي روى عن الحسن بن سفيان «مسنده» وعن عبد الله بن شيرويه «مسند إسحاق» .
__________
«والتحريف» وقام بتحقيقه الأستاذ الدكتور السيد محمد يوسف رحمه الله، وتولى مراجعته الأستاذ المحقّق أحمد راتب النّفّاخ.
[1] في الأصل والمطبوع: «الوجدان» وأثبت لفظ «الوفيات» .
[2] في المطبوع: «ما كتبت» .
[3] انظرها في «الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني (15/ 78- 79) نشر مؤسسة جمال في بيروت.

(4/431)


قال الحاكم: كان شيخ العدالة والعلم بنسإ، وبه ختمت الرواية عن الحسن بن سفيان. عاش بضعا وتسعين سنة.
وفيها أبو سعيد عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب القرشي الرّازي الصوفي، الراوي عن محمد بن أيوب بن الضريس، خرج في آخر عمره إلى بخارى، فتوفي بها، وله أربع وتسعون سنة.
قال الحاكم: ولم يزل كالريحانة عند مشايخ التصوّف ببلدنا.
وفيها أبو العبّاس أحمد بن منصور بن ثابت الشيرازي. كان أحد الحفّاظ الرحّالين، كما ذكره ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو عمر [1] بن حيّويه، المحدّث الحجة، محمد بن العبّاس بن محمد بن زكريا البغدادي الخزّاز، في ربيع الآخر، وله سبع وثمانون سنة.
روى عن الباغندي، وعبد الله بن إسحاق المدائني، وطبقتهما.
قال الخطيب [2] : ثقة [سمع الكثير، و] كتب طول عمره، وروى المصنفات الكبار.
وفيها محمد بن محمد بن سمعان أبو منصور النيسابوري المذكّر، نزيل هراة، وشيخ أبي عمر المليحي. روى عن السرّاج، ومحمد بن أحمد بن عبد الجبار الريّاني [3] .
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «أبو عمرو» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» والمصادر التي بين يدي.
[2] انظر «تاريخ بغداد» (3/ 121) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[3] في الأصل: «الربّاني» وهو تصحيف وأثبت ما في المطبوع، وانظر «الأنساب» (6/ 203) .

(4/432)


سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة
فيها كما قال في «شذور العقود» تزوج القادر سكينة بنت بهاء الدولة، بصداق مبلغه مائة ألف دينار، وغلا السعر، فبلغ الكرّ [من] الحنطة ستة آلاف وستمائة درهم، وابتاع سابور بن أزدشير وزير بهاء الدولة دارا في الكرخ بين السورين، وعمّرها، وسمّاها دار العلم، ووقفها، ونقل إليها كتبا كثيرة، وردّ النظر في أمرها إلى أبي الحسين بن السنية، وأبي عبد الله الضبّي القاضي.
انتهى.
وفيها توفي أبو بكر بن شاذان، والد أبي علي، وهو أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان البغدادي البزّاز، المحدّث المتقن، وكان يتجر في البزّ إلى مصر وغيرها، وتوفي في شوال، عن ست وثمانين سنة [1] . وروى عن البغوي وطبقته.
وفيها إسحاق بن حمشاد الزاهد الواعظ، شيخ الكرامية ورأسهم بنيسابور.
قال الحاكم: كان من العبّاد المجتهدين، يقال: أسلم على يديه أكثر من خمسة آلاف، ولم أر بنيسابور جمعا مثل جنازته. انتهى.
__________
[1] لفظة «سنة» سقطت من المطبوع.

(4/433)


وفيها جعفر بن عبد الله بن فناكي أبو القاسم الرّازي الرّاوي، عن محمد بن هارون الرّوياني «مسنده» . انتهى.
وفيها أبو محمد بن حزم القلعي الأندلسي الزاهد، واسمه عبد الله بن محمد بن القاسم بن حزم. رحل إلى الشام، والعراق، وسمع أبا القاسم بن [أبي] العقب، وإبراهيم بن علي الهجيمي، وطبقتهما.
قال ابن الفرضي [1] : كان جليلا، زاهدا، شجاعا، مجاهدا، ولّاه المستنصر القضاء، فاستعفاه فأعفاه، وكان فقيها صلبا ورعا، كانوا يشبهونه بسفيان الثوري في زمانه، سمعت عليه علما كثيرا [2] ، وعاش ثلاثا وستين سنة. انتهى.
وفيها علي بن حسّان، أبو الحسن الجدلي الدّممي- ودممّا قرية دون الفرات [3]-. روى عن مطين، وبه ختم حديثه.
وفيها أبو بكر محمد بن العبّاس الخوارزمي [4] ، الشاعر المشهور، ويقال له: الطبرخي، لأن أباه كان من خوارزم، وأمه من طبرستان، فركب له من الاسمين نسبة، وهو ابن أخت أبي جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب «التاريخ» وأبو بكر المذكور أحد الشعراء المجيدين الكبار المشاهير، كان إماما في اللغة والأنساب، أقام بالشام مدة وسكن بنواحي حلب، وكان مشارا إليه في عصره.
ويحكى أنه قصد حضرة الصاحب بن عبّاد وهو بأرجان، فلما وصل
__________
[1] انظر «تاريخ علماء الأندلس» ص (244- 245) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[2] في الأصل والمطبوع و «العبر» : «علماء كثير» والتصحيح من «تاريخ علماء الأندلس» ونص كلامه فيه: «وقرأت عليه علما كثيرا» .
[3] انظر «معجم البلدان» (2/ 471) .
[4] لفظة «الخوارزمي» سقطت من الأصل واستدركتها من المطبوع.

(4/434)


لبابه قال لأحد حجّابه: قل للصاحب على الباب أحد الأدباء، وهو يستأذن في الدخول، فدخل الحاجب وأعلمه، فقال الصاحب: قل له: قد ألزمت نفسي أنه لا يدخل عليّ من الأدباء إلّا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فخرج إليه الحاجب وأعلمه بذلك، فقال له أبو بكر: ارجع إليه وقل له: هذا القدر من شعر الرجال أم من شعر النساء؟ فدخل عليه الحاجب فأعاد عليه ما قال، فقال الصاحب: هذا يؤيد أن يكون أبا بكر الخوارزمي، فأذن له في الدخول عليه، فعرفه وانبسط معه، ولكنه لم يجزل له العطاء، ففارقه غير راض، وعمل فيه:
لا تحمدنّ ابن عبّاد وإن هطلت ... يداه بالجود حتّى أخجل الدّيما
فإنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
فبلغ ذلك ابن عبّاد، فلما بلغه خبر موته أنشد:
أقول لركب من خوارزم [1] قافل ... أمات خوارزميّكم؟ قيل لي: نعم
فقلت: اكتبوا بالجصّ من فوق قبره ... ألا لعن الرّحمن من كفر النعم
ولأبي بكر المذكور ديوان رسائل وديوان شعر.
وقد ذكره الثعالبي في «اليتيمة» [2] وذكر قطعة من نثره، ثم أعقبها بشيء من نظمه، فمن ذلك قوله:
رأيتك إن أيسرت خيّمت عندنا ... مقيما وإن أعسرت زرت لماما
فما أنت إلّا البدر إن قلّ ضوؤه ... أغبّ وإن زاد الضياء أقاما [3]
وملحه ونوادره كثيرة، ولما رجع من الشام سكن نيسابور، ومات بها في منتصف رمضان من هذه السنة.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (4/ 402) : «من خراسان» .
[2] انظر «يتيمة الدهر» (4/ 223) طبع دار الكتب العلمية ببيروت.
[3] البيتان في «يتيمة الدهر» (4/ 273- 274) .

(4/435)


وقال ابن الأثير في «تاريخه» [1] : مات سنة ثلاث وتسعين، والله أعلم.
وفيها أبو الفضل نصر بن محمد [بن] أحمد بن يعقوب العطار بن أبي نصر الطّوسي [2] . كان حافظا ناقدا ثقة وكان رأسا في علم الصوفية. قاله ابن ناصر الدّين.
__________
[1] انظر «الكامل في التاريخ» (9/ 101) .
[2] انظر «التبيان شرح بديعة البيان» (136/ ب) و «تذكرة الحفاظ» للذهبي (3/ 1016) .

(4/436)


سنة أربع وثمانين وثلاثمائة
فيها اشتد البلاء بالعيّارين ببغداد، وقووا على الدولة، وكان رأسهم عزيز البابصري، التفّ [1] عليه خلق من المؤذين، وطالبوا بضرائب الأمتعة، وجبوا الأموال، فنهض السلطان، وتفرّغ لهم، فهربوا في الظاهر، ولم يحج أحد إلا الرّكب المصري فقط.
وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصّابئ المشرك الحرّاني الأديب، صاحب التّرسّل، وكاتب الإنشاء للملك عز الدولة بختيار، ألحّ عليه عز الدولة أن يسلم فامتنع، وكان يصوم رمضان، ويحفظ القرآن، وله النظم والنثر والتّرسّل الفحل، ولما مات عضد الدولة، همّ بقتله لأجل المكاتبات الفجّة التي كان يرسلها عز الدولة بإنشائه إلى عضد الدولة، ثم تركه لشفاعة، وأمره أن يضع له كتابا في أخبار الدولة الديلمية، فعمل «الكتاب التاجي» فقيل لعضد الدولة: إن صديقا للصابىء دخل عليه فرآه في شغل شاغل من التعليق والتسويد والتبييض، فسأله عمّا يعمل؟ فقال: أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها، فحركت ساكنه وأهاجت حقده، ولم يزل مبعدا في أيامه، وكان له عبد أسود اسمه يمن، وكان يهواه، وله فيه المعاني البديعة فمن جملة ما ذكره له الثعالبي في كتاب «الغلمان» قوله:
__________
[1] في الأصل والمطبوع: «التفت» وأثبت ما في «العبر» وهو الصواب.

(4/437)


قد قال يمن وهو أسود للذي ... ببياضه استعلى علوّ الخاتن
ما فخر وجهك بالبياض وهل ترى ... أن قد أفدت به مزيد محاسن
ولو ان مني فيه خالا زانه ... ولو ان منه في خالا شانني
وذكر له فيه الثعالبي أيضا:
لك وجه كأن يمناي خطت ... هـ بلفظ تمله آمالي
فيه معنى من البدور ولكن ... نفضت صبغها عليه اللّيالي
لم يشنك السواد بل زدت حسنا ... إنما يلبس السواد الموالي
فبمالي أفديك إن لم تكن لي ... وبروحي أفديك إن كنت مالي
وله أيضا وهو معنى بديع:
أيّها اللائم الذي يتصدى ... بقبيح يقوله لجوابي
لا تؤمل إني أقول لك اخسأ ... لست أسخو بها لكل الكلاب
وتوفي الصابئ يوم الاثنين، وقيل: الخميس، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال هذه السنة ببغداد، وقيل: سنة ثمانين وثلاثمائة، وعمره إحدى وسبعون سنة، ودفن بالشّونيزيّة، ورثاه الشريف الرضي بقصيدته الدالية المشهورة، التي أولها:
أرأيت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النادي [1]
وعاتبه الناس لكونه شريفا يرثي صابئيا، فقال: إنما رثيت فضله.
وبالجملة فإنه كان أعجوبة من الأعاجيب، لكن أضلّه الله على علم، نعوذ برضاه من سخطه، ونسأله العافية.
والصابئ: بهمز آخره، قيل: نسبة إلى صابئ بن متوشلخ [2] بن إدريس
__________
[1] انظر «ديوانه» (1/ 381) .
[2] في «وفيات الأعيان» (1/ 54) : «متوشلح» بالحاء المهملة، وقال محققه: في «د» :

(4/438)


عليه السلام، وكان على الحنيفية [1] الأولى، وقيل: [إلى] الصابئ بن ماري، وكان في عصره الخليل عليه السلام، وقيل: الصابئ عند العرب من خرج عن دين قومه وهو الأصح، ولذلك كانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم صابئا لخروجه عن دين قومه.
قال حسن چلبي في حاشيته على «المطول» : والصابئون بالهمز وبدونها، أي الخارجون، من صبأ إذا خرج، وهم قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى، وعبدوا الملائكة. انتهى.
والصابئة ملّة إدريس عليه السلام.
قال السيوطي في كتابه «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة» [2] ما لفظه: ذكر أئمة التاريخ، أن آدم عليه الصلاة والسلام، أوصى لابنه شيث، وكان فيه وفي بنيه النبوّة والدّين، وأنزل عليه تسع وعشرون صحيفة، وأنه جاء إلى أرض مصر، وكانت تدعى بابليون [3] ، فنزلها هو وأولاد أخيه، فسكن شيث فوق الجبل، وسكن أولاد قابيل أسفل الوادي، واستخلف شيث ابنه أنوش، واستخلف أنوش ابنه قينان [4] واستخلف قينان [4] ابنه مهلائيل [5] واستخلف مهلائيل ابنه يرد، ودفع الوصية إليه، وعلّمه جميع العلوم، وأخبره بما يحدث
__________
«متوشلخ» .
[1] في الأصل والمطبوع: «على الحنفية» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[2] انظره (1/ 30) .
[3] في الأصل والمطبوع: «بايلون» وفي «حسن المحاضرة» : «باب لون» والتصحيح من «معجم البلدان» (1/ 311) وانظر «تاريخ الطبري» (6/ 145) قال ياقوت: وهو اسم عامّ لديار مصر بلغة القدماء، وقيل: اسم لموضع الفسطاط خاصة، وانظر تتمة كلامه فيه فهو غاية في الفائدة.
[4] في الأصل والمطبوع: «قونان» والتصحيح من «حسن المحاضرة» وهو قينان أبو مهلائيل.
انظر «تاريخ الطبري» (1/ 154) .
[5] تحرّفت في «حسن المحاضرة» إلى «مهليائيل» .

(4/439)


في العالم، ونظر في النجوم وفي الكتاب الذي أنزل على آدم عليه السلام، وولده، ليرد أخنوخ، وهو هرمس، وهو إدريس عليه السلام، وكان الملك في ذلك الوقت محويل بن أخنوخ [1] بن قابيل، وتنبأ إدريس، وهو ابن أربعين سنة، وأراده الملك بسوء، فعصمه الله، وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، ودفع إليه أبوه وصية جدّه، والعلوم التي عنده، وولد بمصر، وخرج منها، وطاف الأرض كلها، ورجع فدعا الخلق إلى الله [عزّ وجل] فأجابوه، حتى عمّت ملّته الأرض [2] ، وكانت ملّته الصابئة، وهي توحيد الله، والطهارة، والصلاة، والصوم، وغير ذلك من رسوم التعبدات. وكان في رحلته إلى المشرق أطاعه جميع ملوكها، وابتنى مائة وأربعين مدينة أصغرها الرّها، ثم عاد إلى مصر، فأطاعه [3] ملكها وآمن به، فنظر في تدبير أمرها، وكان النّيل يأتيهم سيحا، فينحازون عن سيله إلى أعالي الجبال [4] والأرض العالية حتّى ينقص، فينزلون ويزرعون حيث [5] وجدوا الأرض بريّة [6] ، وكان يأتي في وقت الزراعة وفي غير وقتها، فلما عاد إدريس، جمع أهل مصر، وصعد بهم إلى أوّل مسيل النيل إليها، ودبّر وزن الأرض، ووزن الماء على الأرض، وأمرهم بإصلاح ما أراد [7] من إصلاح [من خفض] [8] المرتفع ورفع المنخفض، وغير ذلك مما
__________
[1] كذا في الأصل والمطبوع: «محويل بن أخنوخ» وفي «حسن المحاضرة» (1/ 30) ذكر مرة باسم «محويل بن أخنوخ» كما في كتابنا، ومرة باسم «محويل بن خنوخ» وهو كذلك في «تاريخ الطبري» (1/ 165) .
[2] قوله: «ورجع فدعا الخلق إلى الله عزّ وجل، فأجابوه، حتى عمّت ملّته الأرض» لم يرد في «حسن المحاضرة» الذي بين يدي.
[3] في الأصل والمطبوع: «وأطاعه» وأثبت لفظ «حسن المحاضرة» .
[4] في «حسن المحاضرة» : «من مساله إلى أعاله الجبل» .
[5] في «حسن المحاضرة» : «حيثما» .
[6] في «حسن المحاضرة» ، «نديّة» .
[7] في «حسن المحاضرة» : «ما أرادوا» .
[8] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «حسن المحاضرة» .

(4/440)


رأى [1] في [علم] النجوم، والهندسة، والهيئة.
وكان أول من تكلم في هذه العلوم وأخرجها من القوّة إلى الفعل، ووضع فيها الكتب، ورسم فيها التعليم [2] ثم سار إلى بلاد الحبشة، والنوبة، وغيرها، وجمع أهلها، وزاد في جري النيل ونقصه [3] بحسب [4] بطئه وسرعته في طريقه، حتّى عمل على [5] حساب جريه ووصوله إلى أرض مصر في زمن الزراعة على ما هو عليه الآن، فهو أول من دبّر جري النيل إلى مصر، ومات إدريس بمصر، والصابئة تزعم أن هرمي مصر، أحدهما قبر شيث، والآخر قبر إدريس، والأصح أنه ليس إدريس، إنما هو مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. هذا كله كلام التّيفاشي [6] . انتهى ما قاله السيوطي بحروفه.
وفيها صبح بن أحمد [7] الحافظ أبو الفضل التميمي الأحنفي الهمذاني السّمسار ويعرف أيضا بابن الكوملاذي [8] محدّث همذان. روى عن عبد الرّحمن بن أبي حاتم وطبقته، وهو الذي لما أملى الحديث باع طاحونا له بسبعمائة دينار ونثرها على المحدّثين.
__________
[1] في «حسن المحاضرة» : «مما رآه» .
[2] في «حسن المحاضرة» : «ورسم فيها العلوم» .
[3] في الأصل والمطبوع: «ونقص» والتصحيح من «حسن المحاضرة» .
[4] في الأصل والمطبوع: «بحيث» والتصحيح من «حسن المحاضرة» .
[5] لفظة «على» لم ترد في «حسن المحاضرة» .
[6] تحرّف في الأصل والمطبوع إلى «التيغاشي» وهو خطأ، والتصحيح من «حسن المحاضرة» وهو أحمد بن يوسف بن أحمد بن أبي بكر بن حمدون، شرف الدين القيسي التيفاشي، عالم بالحجارة الكريمة، غزير العلم بالأدب وغيره، مات سنة (651) هـ. انظر ترجمته ومصادرها في «الأعلام» (1/ 273- 274) .
[7] كذا الأصل والمطبوع: «صبح بن أحمد» وفي «العبر» (3/ 27) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 518) : «صالح بن أحمد» وكذلك سيذكره المؤلف بعد قليل، ويبدو أنه كان يعرف ب «صالح» وب «صبح» .
[8] في الأصل والمطبوع «اللوملاذ» وفي «العبر» : «الكوملاذ» والتصحيح «سير أعلام النبلاء» (16/ 518) ، والكوملاذي: نسبة إلى «كوملاذ» من قرى همذان. انظر «معجم البلدان»

(4/441)


قال شيرويه [1] : كان ركنا من أركان الحديث، [ثقة، حافظا] ديّنا ورعا [صدوقا] ، ولا يخاف في الله لومة لائم، وله عدة مصنفات، توفي في شعبان، والدعاء عند قبره مستجاب! ولد سنة ثلاث وثلاثمائة.
وفيها الرّمّاني، شيخ العربية، أبو الحسن علي بن عيسى النحوي [2] ببغداد، وله ثمان وثمانون سنة، وكانت ولادته أيضا ببغداد في سنة ست وتسعين ومائتين، وتوفي ليلة الأحد حادي عشر جمادى الأولى من هذه السنة على الصحيح، وقيل: سنة اثنتين وثمانين، وأصله من سرّ من رأى، وهو أحد الأئمة المشاهير، جمع بين علم الكلام والعربية، وله قريب من مائة مصنف، منها «تفسير القرآن العظيم» وكان متقنا لعلوم كثيرة، منها القراءات، والفقه، والنحو، والكلام على مذهب المعتزلة، والتفسير، واللغة، وأخذ عن ابن دريد، وأبي بكر بن السرّاج، وغيرهما.
وفيها صالح بن أحمد بن محمد بن أحمد بن صالح التميمي الأحنفي، من ولد الأحنف بن قيس، وهو المترجم بصبح قبل أسطر، وكان حافظا ثقة ديّنا، من الأبرار. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن حشيش الأصبهاني العدل، مسند أصبهان في عصره. روى عن إسحاق بن إبراهيم بن جميل، ويحيى بن صاعد، وطبقتهما.
__________
(4/ 495) ، أما السمعاني فقال: «الكوملاباذي» نسبة إلى «كوملاباذ» انظر «الأنساب» (10/ 502- 503) .
[1] في الأصل والمطبوع: «سيرويه» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» وما بين حاصرتين زيادة منه.
[2] انظر ترجمته ومصادرها في «سير أعلام النبلاء» (16/ 533- 534) وانظر كتاب «الرّمّاني النحوي في ضوء شرحه لكتاب سيبويه» للعالم الجليل الدكتور مازن المبارك، أستاذ العربية في جامعة دمشق حفظه الله، فإنك ستقف فيه على فوائد عزيزة إن شاء الله تعالى.

(4/442)


وفيها محدّث الكوفة، أبو الحسن، محمد بن أحمد بن حمّاد بن سفيان الكوفي الحافظ، كان أحد المعمرين المشهورين، أدرك أصحاب أبي كريب، وأبي سعيد الأشج، وجمع وألّف.
وفيها أبو الحسن محمد بن العبّاس بن أحمد بن الفرات البغدادي الحافظ. سمع من أبي عبد الله المحاملي وطبقته، وجمع ما لم يجمعه أحد في وقته.
قال الخطيب [1] : بلغني أنه كان عنده عن علي بن محمد المصري وحده [2] . ألف جزء، وأنه كتب مائة «تفسير» ومائة «تاريخ» كبير، وهو حجة ثقة.
وفيها شيخ الشافعية، أبو الحسن، الماسرجسي، محمد بن علي بن سهل النيسابوري، سبط الحسن بن عيسى بن ماسرجس- بفتح السين المهملة وسكون الراء وكسر الجيم- روى عن أبي حامد بن الشرقي وطبقته، ورحل بعد الثلاثين، وكتب الكثير بالعراق، والحجاز، ومصر.
قال الحاكم: كان أعرف الأصحاب بالمذهب وترتيبه، صحب أبا إسحاق المروزي مدة، وصار ببغداد معيدا لأبي علي بن أبي هريرة، وعاش ستا وسبعين سنة.
قال الإسنوي: أخذ عن أبي إسحاق وصحبه إلى مصر، ولازمه إلى أن توفي، فانصرف إلى بغداد، ودرّس بها، وكان المجلس له بعد قيام ابن أبي هريرة، وكان معيد درسه، ثم انصرف إلى خراسان سنة أربع وأربعين، وتوفي بها عشية الأربعاء ودفن عشية الخميس، السادس من جمادى الآخرة، وهو
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (3/ 122) .
[2] تحرفت في الأصل والمطبوع إلى «وجده» والتصحيح من «تاريخ بغداد» .

(4/443)


ابن ست وسبعين سنة. نقل عنه الرافعي استحباب تطويل الركعة الأولى على الثانية، وحكى عنه في باب الدّيات، أنه قال: رأيت صيادا يرمي الصيد على فرسخين.
وكان له ولد اسمه محمد، ويكنى أبا بكر، درس الفقه على أبيه، وسمع الحديث ببلاد كثيرة، وتوفي في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة عن أربع وثلاثين سنة ودفن بداره. انتهى ملخصا.
وفيها أبو عبيد الله [1] المرزباني محمد بن عمران بن موسى بن سعيد بن عبيد الله الكاتب، الأخباري العلّامة المعتزلي، صنّف أخبار المعتزلة وأخبار الشعراء، وغير ذلك، وحدّث عن البغوي [2] ، وابن دريد، ومات في شوال، وله ثمان وثمانون سنة.
قال ابن خلّكان [3] : الخراساني الأصل، البغدادي المولد، صاحب التصانيف المشهورة والمجاميع الغريبة، وكان راوية للآداب صاحب أخبار، وتآليفه كثيرة، وكان ثقة في الحديث ومائلا إلى التشيع في المذهب، وهو أول من جمع «ديوان يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي» واعتنى به وهو صغير الحجم، يدخل في مقدار ثلاث كراريس، وقد جمعه من بعده جماعات وزادوا فيه أشياء ليست له [4] ، وشعر يزيد مع قلته في غاية الحسن، ومن لطيف شعره الأبيات العينية التي منها:
إذا رمت من ليلى على البعد نظرة ... تطفّي [5] جوى بين الحشا والأضالع
__________
[1] في «العبر» : «أبو عبد الله» وهو خطأ فيصحح فيه.
[2] يعني عن أبي القاسم عبد الله بن محمد البغوي.
[3] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 354- 356) .
[4] قلت: وقد جمع بعض شعره وبعض ما ينسب إليه من الشعر من المعاصرين الدكتور صلاح الدّين المنجد، ونشره في دار الكتاب الجديد ببيروت عام 1402 هـ.
[5] في الأصل والمطبوع: «فتطفي» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» و «شعر يزيد بن معاوية» للمنجد.

(4/444)


تقول نساء الحيّ تطمع أن ترى ... محاسن ليلى؟ مت بداء المطامع
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها؟ وما طهّرتها بالمدامع
وتلتذّ منها بالحديث وقد جرى ... حديث سواها في خروق المسامع
أجلّك يا ليلى عن العين إنّما ... أراك بقلب خاشع لك خاضع [1]
وكانت ولادة المرزباني المذكور في جمادى الآخرة، سنة سبع وتسعين ومائتين، وتوفي يوم الجمعة ثاني شوال، سنة أربع وثمانين، وقيل: ثمان وسبعين، والأول أصح، ودفن بداره بشارع عمرو [2] الرّومي ببغداد، في الجانب الشرقي، وروى عنه [أبو] عبد الله [3] الصّيمري، وأبو القاسم التنوخي، وأبو محمد الجوهري، وغيرهم.
والمرزباني: بفتح الميم وسكون الراء، وضم الزاي، وفتح الباء الموحدة، وبعد الألف نون، نسبة إلى بعض أجداده، كان اسمه المرزبان، وهذا الاسم لا يطلق عند العجم إلّا على الرجل المقدّم العظيم القدر، وتفسيره بالعربية حافظ الحدّ. انتهى ما قاله ابن خلّكان ملخصا [4] .
وجزم الذهبي في «العبر» [5] أنه كان معتزليا.
وقال ابن الأهدل: المرزباني البغدادي، صاحب التصانيف المشهورة، كان راوية في الأدب، ثقة في الرواية. انتهى.
__________
[1] الأبيات في «وفيات الأعيان» (4/ 354- 355) و «شعر يزيد بن معاوية» للمنجد ص (20- 21) .
[2] في الأصل والمطبوع: «عمر» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» و «إنباه الرواة» (3/ 182) .
[3] في الأصل والمطبوع: «عبد الله» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» وهو الحسين بن علي بن محمد بن جعفر الصيمري القاضي أبو عبد الله. انظر «تاريخ بغداد» (8/ 78- 79) .
[4] وانظر «المعرب» للجواليقي ص (365) بتحقيق العلّامة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله.
[5] انظر «العبر» (3/ 29) .

(4/445)


وفيها القاضي التّنوخي، أبو علي المحسن [1] بن علي بن محمد بن داود بن إبراهيم بن تميم الأديب الأخباري، صاحب التصانيف. ولد بالبصرة، وسمع بها من أبي العبّاس الأثرم، وطائفة، وببغداد من الصّولي وغيره، وعاش سبعا وخمسين سنة. وذكره الثعالبي وأباه [2] في باب واحد، وقدم ذكر أبيه، ثم قال في حق أبي علي المذكور [3] هلال ذاك القمر، وغصن هاتيك الشجر، والشاهد العدل بمجد أبيه وفضله، والفرع المسند لأصله، والنائب عنه في حياته، والقائم مقامه بعد مماته، وله كتاب «الفرج بعد الشدة» ذكر في أوائل هذا الكتاب [4] أنه كان على المعيار [5] بدار الضرب بسوق الأهواز في سنة ست وأربعين وثلاثمائة، وذكر بعد ذلك بقليل [6] أنه كان على القضاء بجزيرة ابن عمر.
وله ديوان شعر أكبر من ديوان أبيه، وكتاب «نشوان المحاضرة» [7] وله كتاب «المستجاد من فعلات الأجواد» ونزل ببغداد وأقام بها، وحدّث إلى حين وفاته، وكان سماعه صحيحا، وكان أول سماعه الحديث في سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وأول ما تقلد القضاء من قبل أبي السائب عتبة بن عبيد الله بالقصر، وبابل، وما والاها، سنة تسع وأربعين، ثم ولّاه الإمام المطيع لله
__________
[1] تحرّف في «العبر» إلى «الحسن» فيصحح فيه.
[2] انظر «يتيمة الدهر» (2/ 393- 404) طبع دار الكتب العلمية.
[3] انظر «يتيمة الدهر» (2/ 405) .
[4] انظر «الفرج بعد الشدة» (1/ 107) بتحقيق الأستاذ عبود السالجي، طبع دار صادر.
[5] المعيار: من المكاييل. انظر «لسان العرب» (عير) .
[6] انظر «الفرج بعد الشدة» (1/ 134) .
[7] كذا في الأصل والمطبوع وإحدى نسخ «وفيات الأعيان» كما ذكر محققه في حاشيته (4/ 159) و «كشف الظنون» (2/ 1953) : «نشوان المحاضرة» ، وفي معظم المصادر التي بين يدي: «نشوار المحاضرة» وهو الاسم الذي اشتهر به.

(4/446)


القضاء بعسكر مكرم، [وإيذج] [1] ورامهرمز، وتقلد بعد ذلك أعمالا كثيرة في نواح مختلفة.
ومن شعره في بعض المشايخ وقد خرج ليستسقي وكان في السماء سحاب، فلما دعا أصحت السماء، فقال التنوخي:
خرجنا لنستسقي بفضل [2] دعائه ... وقد كاد هدب الغيم أن يبلغ [3] الأرضا
فلما ابتدا يدعو تقشعت [4] السما ... فما تمّ إلّا والغمام قد انفضّا
ومن المنسوب إليه أيضا [5] :
قل للمليحة في الخمار المذّهب ... أفسدت نسك أخي التّقى المترهب
نور الخمار ونور خدك تحته ... عجبا لوجهك كيف لم يتلهّب
وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن ذهبيهما من مذهب
فإذا أتت عيني [6] لتسرق نظرة ... قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي
وأما ولده أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التّنوخي، فكان أديبا فاضلا شاعرا، راوية للشعر الكثير، وكان يصحب أبا العلاء المعري، وأخذ عنه كثيرا، وكان من أهل بيت كلهم فضلاء، أدباء، ظرفاء، وكانت ولادة الولد المذكور في منتصف شعبان، سنة خمس وستين وثلاثمائة بالبصرة،
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل والمطبوع واستدركته من «وفيات الأعيان» وقد تصحفت فيه «إيذج» إلى «إيدج» فتصحح، وإيذج: كورة وبلد بين خوزستان وأصبهان، وهي أجل مدن هذه الكورة. قاله ياقوت، وانظر تتمة كلامه عنها في «معجم البلدان» (1/ 288- 289) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «بيمن» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «أن يلحف» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «تكشفت» .
[5] يعني للمترجم.
[6] في «وفيات الأعيان» : «عين» .

(4/447)


وتوفي يوم الأحد مستهل المحرم، سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وكان بينه [1] وبين الخطيب أبي زكريا التبريزي مؤانسة واتحاد بطريق أبي العلاء المعري.
وقال الخطيب البغدادي [2] : وكان قد قبلت شهادته عند الحكام في حداثته، ولم يزل على ذلك مقبولا إلى آخر عمره، وكان مستحفظا في الشهادة، محتاطا صدوقا في الحديث ونقله، وتقلد قضاء نواح عدّة، منها المدائن وأعمالها، وأذربيجان، وإفريقية، وغير ذلك، وإليه كتب أبو العلاء قصيدته التي أولها:
هات الحديث عن الزّوراء أوهيتا [3]
__________
[1] لفظة «بينه» سقطت من الأصل وأثبتها من المطبوع و «وفيات الأعيان» .
[2] انظر «تاريخ بغداد» (12/ 115) .
[3] صدر بيت من قصيدة مطولة عجزه:
وموقد النّار لا تكرى بتكريتا
وانظر «شرح سقط الزند» (4/ 1553- 1555) .

(4/448)


سنة خمس وثمانين وثلاثمائة
فيها توفي أبو بكر بن المهندس، أحمد بن محمد بن إسماعيل محدّث ديار مصر. كان ثقة تقيا، روى عن البغوي [1] ، ومحمد بن محمد الباهلي، وطبقتهما.
وفيها أبو القاسم، الصاحب بن عبّاد إسماعيل بن عبّاد بن العبّاس بن عبّاد بن أحمد بن إدريس الطالقاني، وزير مؤيد الدولة أبي منصور بن بويه، وفخر الدولة، وصحب أبا الفضل الوزير ابن العميد، وأخذ عنه الأدب، والشعر، والترسل، وبصحبته لقب بالصاحب، وكان من رجال الدهر، حزما، وعزما، وسؤددا، ونبلا، وسخاء، وحشمة، وإفضالا وعدلا.
قال الثعالبي في «اليتيمة» [2] في حقه: ليست تحضرني عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب، وجلالة شأنه في الجود والكرم، وتفرده بالغايات [3] في المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، لأن همة قولي تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه، وجهد وصفي يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه.
ثم شرع في وصف بعض محاسنه وطرف من أحواله.
__________
[1] يعني عن أبي القاسم البغوي الإمام الكبير، وقد تقدمت ترجمته.
[2] انظر «يتيمة الدهر» (3/ 225) وما بعدها.
[3] في «يتيمة الدهر» التي بين يدي: «بغايات» .

(4/449)


وقال أبو بكر الخوارزمي في حقه [1] : الصاحب نشأ من الوزارة في حجرها، ودب ودرج من وكرها [2] ورضع أفاويق درها، وورثها عن آبائه [3] كما قال أبو سعيد الرّستمي في حقه:
ورث الوزارة كابرا عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد
يروي عن العبّاس عبّاد وزا ... رته وإسماعيل عن عبّاد
وأنشده أبو القاسم الزعفراني يوما أبياتا نونية من جملتها:
أيا من عطاياه تهدي الغنى ... إلى راحتي من نأى أو دنا
كسوت المقيمين والزائرين ... كسا لم نخل مثلها ممكنا
وحاشية الدار يمشون في ... صنوف [4] من الخزّ إلا أنا
فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة الشيباني، أن رجلا قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة، وفرس، وبغل، وحمار، وجارية، ثم قال: لو علمت أن الله تعالى خلق مركوبا غير هذا لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخزّ بجبة، وقميص، وعمامة، ودرّاعة، وسراويل، ومنديل، ومطرف، ورداء، وكساء، وجورب، وكيس، ولو علمنا لباسا آخر يتخذ من الخزّ لأعطيناكه.
واجتمع عنده من الشعراء ما لم يجتمع عند غيره، ومدحوه بغرر المدائح، وكان حسن الأجوبة.
كتب إليه بعضهم رقعة أغار فيها على رسائله، وسرق جملة من ألفاظه، فوقّع فيها: هذه بضاعتنا ردت إلينا.
وصنّف في اللغة كتابا سمّاه «المحيط» في سبع مجلدات [5] ، وكتاب
__________
[1] لا زال المؤلف ينقل عن «يتيمة الدهر» .
[2] في «يتيمة الدهر» الذي بين يدي: «في وكرها» .
[3] في «يتيمة الدهر» : «وورثها من أبيه» .
[4] في «يتيمة الدهر» : «ضروب» .
[5] قال ابن خلكان: رتبه على حروف المعجم، كثّر فيه الألفاظ، وقلّل الشواهد، فاشتمل من

(4/450)


«الكافي» في الرسائل، وكتاب «الأعياد وفضائل النيروز» وكتاب «الإمامة» يذكر فيه فضائل عليّ رضي الله عنه، ويثبت إمامته على من تقدمه، لأنه كان شيعيا، وله غير ذلك، وله رسائل بديعة ونظم جيد، فمنه قوله:
وشادن جماله ... تقصر عنه صفتي
أهوى لتقبيل يدي ... فقلت قبّل شفتي
وله في رقة الخمر:
رقّ الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وحكى أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي، أن نوح بن منصور، أحد ملوك بني سامان [1] ، كتب إليه ورقة في السر يستدعيه ليفوّض إليه وزارته وتدبير مملكته، وكان من جملة أعذاره إليه، أنه يحتاج في نقل كتبه خاصة إلى أربعمائة جمل، فما الظن بما يليق بها من التجمل؟! وكان مولده لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، سنة ست وعشرين وثلاثمائة بإصطخر، وقيل: بالطّالقان، وتوفي ليلة الجمعة رابع عشري صفر بالرّيّ، ثم نقل إلى أصبهان.
ومن أخباره أنه لم يسعد أحد بعد وفاته كما كان في حياته غير الصّاحب، فإنه لما توفي أغلقت له مدينة الرّيّ، واجتمع الناس على باب القصر [2] ينتظرون خروج جنازته، وحضر مخدومه فخر الدولة وسائر القواد وقد غيّروا لباسهم، فلما خرج نعشه من الباب، صاح الناس بأجمعهم صيحة
__________
اللغة على جزء متوفر.
[1] في الأصل والمطبوع: «ساسان» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» . قال في «القاموس المحيط» (سمن) : والملوك السامانيّة تنسب إلى سامان بن حيّا.
[2] في «وفيات الأعيان» : «على باب قصره» .

(4/451)


واحدة وقبّلوا الأرض، ومشى فخر الدولة أمام الجنازة مع الناس، وقعد للعزاء أياما.
ورثاه أبو سعيد الرّستمي بقوله:
أبعد ابن عبّاد يهشّ إلى السرى ... أخو أمل أو يستماح جواد
أبى الله إلّا أن يموتا بموته ... فما لهما حتّى المعاد معاد [1]
قال ابن الأهدل: ومن كلامه في وصف الأئمة الثلاثة المتعاصرين، أصحاب أبي الحسن الأشعري: الباقلاني نار محرق، وابن فورك صل مطرق، والإسفراييني بحر مغرق.
قال ابن عساكر: كأن روح القدس نفث في روعه بحقيقة حالهم.
انتهى.
وفيها أبو الحسن الأذني- بفتحتين، نسبة إلى أذنة [2] بلد بساحل الشام عند طرسوس- القاضي علي بن الحسين بن بندار المحدّث، نزيل مصر. روى الكثير عن ابن فيل، وأبي عروبة، ومحمد بن الفيض الدمشقي، وعلي الغضائري، وتوفي في شهر ربيع الأول.
وفيها الدّارقطني- بفتح الراء وضم القاف، وسكون الطاء، نسبة إلى دار القطن، محلة ببغداد- وهو أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود البغدادي، الإمام الحافظ الكبير، شيخ الإسلام، إليه النهاية في معرفة الحديث وعلومه، وكان يدعى فيه أمير المؤمنين.
وقال في «العبر» [3] : الحافظ المشهور، صاحب التصانيف، توفي في ذي القعدة، وله ثمانون سنة. روى عن البغوي وطبقته.
__________
[1] تنبيه: نقل المؤلف ترجمة الصاحب بن عبّاد عن «وفيات الأعيان» (1/ 228- 232) باختصار.
[2] سبق التعريف بها، وتعرف الآن ب «أضنة» ، وتقع في الجنوب الأوسط من تركيا المعاصرة.
[3] (3/ 30- 31) .

(4/452)


ذكره الحاكم فقال: صار أوحد عصره في الحفظ، والفهم، والورع، إماما في القراءات، والنحو، صادفته فوق ما وصف لي، وله مصنفات يطول ذكرها.
وقال الخطيب [1] : كان فريد عصره، وقريع دهره، ونسيج وحده، وإمام وقته. انتهى إليه علم الأثر [2] والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال [وأحوال الرواة] ، مع الصدق [والأمانة، والفقه، والعدالة، وقبول الشهادة] وصحة الاعتقاد [وسلامة المذهب] ، والاضطلاع من علوم سوى علم الحديث، منها القراءات، وقد صنّف فيها مصنفا، ومنها المعرفة بمذاهب الفقهاء، وبلغني أنه درس فقه الشافعي على أبي سعيد الإصطخري، ومنها المعرفة بالأدب والشعر، فقيل: إنه كان يحفظ دواوين جماعة.
وقال أبو ذر الهروي: قلت للحاكم: هل رأيت مثل الدارقطني؟ فقال:
هو لم ير مثل نفسه فكيف أنا؟! وقال البرقاني: كان الدارقطني يملي عليّ العلل من حفظه.
وقال القاضي أبو الطيب الطبري: الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث. انتهى كلام «العبر» .
وقال ابن قاضي شهبة: قال الحاكم: صار أوحد أهل عصره في الحفظ، والفهم، والورع، وإماما في النحو، والقراءة، وأشهد أنه لم يخلف على أديم الأرض مثله، توفي ببغداد ودفن قريبا من معروف الكرخي.
قال ابن ماكولا: رأيت في المنام كأني أسأل عن حال الدارقطني في الآخرة، فقيل لي: ذاك يدعى في الجنة بالإمام. انتهى ملخصا.
__________
[1] انظر «تاريخ بغداد» (12/ 34- 35) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[2] في «سير أعلام النبلاء» (16/ 452) : «علو الأثر» .

(4/453)


وفيها أبو حفص بن شاهين، عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن محمد بن أيوب البغدادي، الواعظ المفسّر الحافظ، صاحب التصانيف وأحد أوعية العلم، توفي بعد الدارقطني [بشهر، وكان أكبر من الدارقطني] [1] بتسع سنين. سمع من الباغندي، ومحمد بن المجدّر، والكبار، ورحل إلى الشام، والبصرة، وفارس.
قال أبو الحسين بن المهتدي بالله: قال لنا ابن شاهين: صنّفت ثلاثمائة وثلاثين مصنفا، منها «التفسير الكبير» ألف جزء، و «المسند» ألف وثلاثمائة جزء، و «التاريخ» مائة وخمسون جزءا.
قال ابن أبي الفوارس: ابن شاهين ثقة مأمون، جمع وصنّف ما لم يصنفه أحد.
وقال محمد بن عمر الداودي: كان ثقة بحّاثا، وكان لا يعرف الفقه، ويقول: أنا محمديّ المذهب. انتهى.
وممّن أخذ عنه الماليني، والبرقاني، وخلق كثير.
وقال السيوطي في كتابه «مشتهى العقول ومنتهى النقول» : منتهى التفاسير لابن شاهين ألف مجلد، والمسند له ألف وخمسمائة مجلد، ومداد تصانيفه انتهى إلى ثمانية وعشرين قنطارا.
قال ابن الجوزي: قلت: هذا من طي الزمان. انتهى كلام السيوطي.
وفيها أبو بكر الكسائي [2] ، محمد بن إبراهيم النيسابوري، الأديب الذي روى «صحيح مسلم» عن إبراهيم بن سفيان الفقيه، توفي ليلة عيد
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من المطبوع و «العبر» .
[2] في الأصل والمطبوع: «الكبشاني» وهو خطأ، والتصحيح من «المغني في الضعفاء» و «سير أعلام النبلاء» (16/ 465) .

(4/454)


النحر، ضعفه الحاكم لتسميعه الكتاب بقوله: من غير أصل.
وقال في «المغني» [1] : غمزه الحاكم، روى «الصحيح» من غير أصل.
انتهى.
وفيها أبو الحسن بن سكّرة، محمد بن عبد الله بن محمد الهاشمي البغدادي، الشاعر المشهور، العبّاسي المفلق، ولا سيّما في المجون والمزاح، وكان هو وابن حجّاج يشبّهان في وقتهما بجرير والفرزدق، ويقال:
إن «ديوان ابن سكّرة» يزيد على خمسين ألف بيت.
قال الثعالبي في ترجمته [2] : هو شاعر متسع الباع، في أنواع الإبداع، فائق في قول الظرف والملح [3] ، على الفحول والأفراد، جار في ميدان المجون والسخف ما أراد، وكان يقال: إن زمانا جاد بمثل ابن سكّرة، وابن حجّاج لسخيّ جدا.
ومن بديع تشبيهه ما قاله في غلام في يده غصن مزهر:
غصن بان بدا وفي اليد منه ... غصن فيه لؤلؤ منظوم
فتحيّرت بين غصنين في ذا ... قمر طالع وفي ذا نجوم
وله في غلام أعرج:
قالوا بليت بأعرج فأجبتهم ... العيب يحدث في غصون البان
إني أحب حديثه وأريده ... للنوم لا للجري في الميدان
وله أيضا:
أنا والله هالك ... آيس من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
__________
[1] (2/ 545) .
[2] انظر «يتيمة الدهر» (3/ 3- 34) .
[3] في «يتيمة الدهر» : «الملح والظرف» .

(4/455)


وله:
قيل ما أعددت للبر ... د فقد جاء بشدّه
قلت دراعة عري ... تحتها جبة رعده
وله البيتان اللذان ذكرهما الحريري في مقاماته [1] وهما:
جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا
كنّ وكيسّ وكانون وكاس طلا ... بعد [2] الكباب وكس ناعم وكسا
ومحاسن شعره كثيرة، وتوفي يوم الأربعاء حادي عشر شهر ربيع الآخر.
وفيها الفقيه العلّامة الورع الزاهد الخاشع البكّاء المتواضع أبو بكر الأودني- بالضم وفتح المهملة والنون، نسبة إلى أودنة، قرية من قرى بخارى- شيخ الشافعية ببخارى وما وراء النهر، أبو بكر، محمد بن عبد الله بن محمد بن بصير [3] ، كان علّامة زاهدا، ورعا خاشعا، ومن غرائب وجوهه في المذهب، أن الربا حرام في كل شيء، فلا يجوز بيع شيء بجنسه. روى عن الهيثم بن كليب الشّاشي، وطائفة، ومات في شهر ربيع الآخر، وقد دخل في سن الشيخوخة، ومن تلامذته المستغفري.
قال ابن قاضي شهبة: قال الحاكم: كان من أزهد الفقهاء، وأورعهم، وأعبدهم، وأبكاهم على تقصيره، وأشدهم تواضعا وإنابة.
وقال الإمام في «النهاية» [4] : وكان من دأبه أن يضنّ بالفقه على من لا
__________
[1] انظر «مقامات الحريري» ص (257) طبعة البابي الحلبي.
[2] في الأصل والمطبوع: «مع» والتصحيح من «مقامات الحريري» و «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.
[3] في الأصل والمطبوع و «العبر» : «ابن نصير» وهو تصحيف، والتصحيح من «الإكمال» (1/ 320) و «الأنساب» (1/ 380) و «سير أعلام النبلاء» (16/ 465) .
[4] هو «نهاية المطلب في دراية المذهب» للجويني. انظر «كشف الظنون» (2/ 1990) .

(4/456)


يستحقه، وإن ظهر بسببه أثر الانقطاع عليه في المناظرة، توفي ببخارى.
انتهى ملخصا.
وفيها أبو الفتح القوّاس، يوسف بن عمر بن مسرور البغدادي الزاهد، المجاب الدعوة في ربيع الآخر، وله خمس وثمانون سنة، روى عن البغوي وطبقته.
قال البرقاني: كان من الأبدال.

(4/457)