شذرات الذهب في أخبار من ذهب
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سنة إحدى وخمسمائة
فيها كانت وقعة كبيرة بالعراق، بين سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس،
أمير العرب، وبين السلطان محمّد، فالتقيا، فقتل صدقة يوم الجمعة، سلخ
جمادى الآخرة، وقتل معه ثلاثة آلاف فارس، وأسر ابنه دبيس، وصاحب جيشه
سعيد بن حميد، وكان صدقة شيعيّا له محاسن، ومكارم، وحلم، وجود، ملك
العرب بعد أبيه اثنتين وعشرين سنة، وهو الذي اختطّ الحلّة السيفية [1]
سنة خمس وتسعين وأربعمائة، ومات جده دبيس سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.
وفيها توفي تميم بن المعزّ بن باديس، السلطان أبو يحيى الحميري، صاحب
القيروان، ملك بعد أبيه، وكان حسن السّيرة، محبا للعلماء، مقصدا
للشعراء، كامل الشجاعة، وافر الهيبة، عاش تسعا وسبعين سنة، وامتدت
أيّامه، وكانت دولته ستا وخمسين سنة، وخلّف أكثر من مائة ولد، وتملّك
بعده ابنه يحيى. قاله في «العبر» [2] .
وساق العماد الكاتب في «الخريدة» [3] نسبه إلى نوح عليه السّلام.
__________
[1] أي مدينة الحلّة وقد نسبت إليه لأنه كان أول من عمرها. انظر خبرها
في «معجم البلدان» (2/ 294- 295) .
[2] انظر «العبر» (4/ 1) .
[3] (1/ 141- 142) (قسم شعراء المغرب) . قلت: ونقله عنه ابن خلّكان في
«وفيات الأعيان» (1/ 304) فراجعه.
(6/5)
وقال ابن خلّكان [1] : ملك إفريقية وما
والاها بعد أبيه المعزّ، وكان حسن السيرة، محمود الآثار.
ومن شعره:
إن نظرت مقلتي لمقلتها ... تعلم ممّا أريد نجواه
كأنّها في الفؤاد ناظرة ... تكشف أسراره وفحواه
[1] وله أيضا:
سل المطر العام الذي عمّ أرضكم ... أجاء بمقدار الذي فاض من دمعي
[2]
إذا كنت مطبوعا على الصدّ والجفا ... فمن أين لي صبر فأجعله طبعي
وله:
فكّرت في نار الجحيم وحرّها ... يا ويلتاه ولات حين مناص
فدعوت ربّي أنّ خير وسيلتي ... يوم المعاد شهادة الإخلاص
وأشعاره وفضائله كثيرة، وكان يجيز الجوائز السنية، ويعطي العطاء الجزل
[3] ، وكانت ولادته بالمنصورية، التي تسمى صبرة [4] من بلاد إفريقية،
يوم الاثنين ثالث عشر رجب، سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وفوّض إليه
أبوه ولاية المهديّة في صفر، سنة خمس وأربعين، ولم يزل بها إلى أن توفي
والده في شعبان، سنة خمس وأربعين، فاستبد بالملك، ولم يزل إلى أن توفي
ليلة السبت، منتصف رجب، وخلّف من البنين أكثر من مائة، ومن البنات
ستين، على ما ذكره حفيده عبد العزيز بن شدّاد في كتاب «أخبار القيروان»
.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 304) وانظر رواية البيتين في «الخريدة»
(1/ 159) .
[2] في «آ» : «مدمعي» ولا يستوي بها الوزن وأثبت لفظ «ط» وهو موافق لما
في «وفيات الأعيان» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «الجزيل» .
[4] بلد قريب من مدينة القيروان. انظر «معجم البلدان» (3/ 391) .
(6/6)
وفيها أبو علي التّككيّ، الحسن بن محمد بن
عبد العزيز البغدادي، في رمضان. روى عن أبي علي بن شاذان.
وفيها أبو محمد الدّوني- بضم المهملة، نسبة إلى دون قرية بهمذان [1]-
عبد الرحمن بن حمد [2] الصوفي، الرجل الصالح، راوي «السنن» [3] عن أبي
نصر الكسّار. كان زاهدا عابدا، سفيانيّ المذهب، توفي في رجب.
وفيها أبو سعد الأسديّ، محمد بن عبد الملك بن عبد القاهر بن أسد
البغدادي المؤدّب. روى عن أبي علي بن شاذان، وضعّفه ابن ناصر.
وفيها أبو الفرج القزويني، محمد ابن العلّامة أبي حاتم محمود بن حسن
الأنصاري، فقيه صالح، استملى عليه السّلفي مجلسا مشهورا، وتوفي في
المحرم.
__________
[1] انظر «اللباب في تهذيب الأنساب» لابن الأثير (1/ 517) و «معجم
البلدان» (2/ 490) وترجمته فيه.
[2] في «آ» و «ط» و «معجم البلدان» (2/ 490) : «ابن محمد» وما أثبتناه
من «اللباب في تهذيب الأنساب» (1/ 517) و «سير أعلام النبلاء» (19/
239) . (ع) .
[3] يعني «سنن النسائي» كما صرح بذلك ابن الأثير في «اللباب» وقال
الذهبي في «سير أعلام النبلاء» : كان آخر من روى كتاب «المجتبى من سنن
النسائي» .
(6/7)
سنة اثنتين وخمسمائة
فيها قتلت الباطنية بهمذان قاضي قضاة أصبهان عبيد الله بن علي الخطيبي.
وقتلت بأصبهان يوم عيد الفطر أبا العلاء صاعد بن محمد البخاري، وقيل:
النيسابوري الحنفي المفتي، أحد الأئمة عن خمس وخمسين سنة.
وقتلت بجامع آمل يوم الجمعة في المحرم فخر الإسلام القاضي أبا المحاسن
عبد الواحد بن إسماعيل الرّوياني، شيخ الشافعية، وصاحب التصانيف،
وشافعيّ الوقت. أملى مجالس عن أبي غانم الكراعي، وأبي حفص بن مسرور،
وطبقتهما، وعاش سبعا وثمانين سنة.
قال ابن قاضي شهبة [1] : كانت له الوجاهة والرئاسة والقبول التام عند
الملوك فمن دونها. أخذ عن والده وجدّه، وبميّافارقين عن محمد بن بيان
[الكازروني] ، وبرع في المذهب، حتّى كان يقول: لو احترقت كتب الشافعيّ
لأمليتها من حفظي، ولهذا كان يقال له: شافعي زمانه. ولي قضاء طبرستان،
وبنى مدرسة بآمل، وكان فيه إيثار للقاصدين إليه.
ولد في ذي الحجة سنة خمس عشرة وأربعمائة، واستشهد بجامع آمل
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 318- 319) وما بين
الحاصرتين زيادة منه.
(6/8)
عند ارتفاع النهار بعد فراغه من الإملاء
يوم الجمعة حادي عشر المحرم، ومن تصانيفه «البحر» وهو بحر كاسمه، و
«الكافي» و «الحلية» مجلد متوسط، فيه اختيارات كثيرة، وكثير منها يوافق
[1] مذهب مالك، وكتاب «المبتدي» - بكسر الدال- وكتاب «القولين
والوجهين» مجلدان. انتهى ملخصا.
وعظم الخطب بهؤلاء الملاعين، وخافهم كل أمير وعالم، لهجومهم على الناس.
وفيها أبو القاسم الرّيفي علي بن الحسين الفقيه الشافعي المعتزلي،
ببغداد. روى عن أبي الحسن بن مخلد، وابن بشران، وتوفي في رجب عن ثمان
وثمانين سنة.
وفيها محمد بن عبد الكريم بن خشيش أبو سعد البغدادي، في ذي القعدة، عن
تسع وثمانين سنة. روى عن ابن شاذان.
وفيها أبو زكريا التّبريزيّ الخطيب، صاحب اللغة، يحيى بن علي ابن محمد
الشيباني، صاحب التصانيف. أخذ اللغة عن أبي العلاء المعرّي، وسمع من
سليم بن أيوب بصور، وكان شيخ بغداد في الأدب. توفي في جمادي الآخرة عن
إحدى وثمانين سنة.
وقال ابن خلّكان [2] : سمع الحديث من سليم الرّازي وغيره من الأعيان،
وروى عنه الخطيب الحافظ البغدادي، صاحب «تاريخ بغداد» والحافظ ابن
ناصر، وغيرهما من الأعيان، وتخرّج عليه خلق كثير وتلمذوا له.
ذكره الحافظ أبو سعد السمعاني في كتاب «الذيل» وكتاب «الأنساب» وعدّد
فضائله، ثم قال: سمعت أبا منصور محمد بن عبد الملك بن الحسن بن خيرون
المقرئ يقول: أبو زكريا يحيى بن علي التّبريزي ما كان بمرضيّ
__________
[1] في «آ» و «ط» : «موافق» وأثبت لفظ «طبقات الشافعية» لابن قاضي
شهبة.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (6/ 191- 196) .
(6/9)
الطريقة، وذكر عنه أشياء، ثم قال: وتذاكرت
[1] أنا مع أبي الفضل محمد بن ناصر الحافظ بما ذكره ابن خيرون المقرئ،
فسكت وكأنه ما أنكر ما قال، ثم قال: ولكن كان ثقة في اللغة، وما كان
ينقله. وصنّف في الأدب كتبا مفيدة، منها: «شرح الحماسة» و «شرح ديوان
المتنبي» و «شرح سقط الزّند» و «شرح اللّمع» لابن جني، و «شرح مقصورة
ابن دريد» [2] و «شرح المعلقات السبع» وله «تهذيب غريب الحديث» و
«تهذيب الإصلاح» و «الملخص في إعراب القرآن» في أربع مجلدات، وغير ذلك
من الكتب الحسنة المفيدة.
وكان، قد دخل مصر في عنفوان شبابه، فقرأ عليه بها ابن بابشاذ النحوي
شيئا من اللغة، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها إلى الممات، وكان يروي عن
أبي الحسن محمد بن المظفر بن نحرير [3] البغدادي جملة من شعره، فمن ذلك
قوله- وهي من أشهر أشعاره-:
خليليّ ما أحلى صبوحي بدجلة ... وأطيب منه بالصّراة غبوقي
شربت على الماءين من ماء كرمة ... فكانا كدرّ ذائب وعقيق
على قمري أفق وأرض تقابلا ... فمن شائق حلو الهوى ومشوق
فما زلت أسقيه وأشرب ريقه ... وما زال يسقيني ويشرب ريقي
وقلت لبدر التّمّ تعرف ذا الفتى؟ ... فقال: نعم هذا أخي وشقيقي.
وهذه الأبيات من أملح الشعر وأظرفه.
وكانت ولادة يحيى هذا سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وتوفي فجاءة [4] يوم
الثلاثاء ثامن عشري جمادى الآخرة ببغداد.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «وذاكرت» .
[2] قوله: «وشرح اللمع» لابن جنّي، و «شرح مقصورة ابن دريد» لم يرد في
«وفيات الأعيان» الذي بين يدي.
[3] كذا في «آ» : «ابن نحرير» و «وفيات الأعيان» ، وفي «ط» : «ابن
محيريز» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «فجأة» وكلاهما بمعنى. انظر «مختار الصحاح»
(فجأ) .
(6/10)
سنة ثلاث وخمسمائة
فيها أخذت الفرنج طرابلس [1] بعد حصار سبع سنين.
وفيها توفي أحمد بن علي بن أحمد العلثي [2] أبو بكر الزاهد الحنبلي.
قال ابن الجوزي في «طبقاته» [3] : هو أحد المشهورين بالزهد والصلاح،
سمع الحديث على القاضي أبي يعلى، وقرأ عليه شيئا من المذهب. وكان يعمل
بيده تجصيص [4] الحيطان، ثم ترك ذلك، ولازم المسجد يقرئ القرآن ويؤم
الناس، وكان عفيفا لا يقبل من أحد شيئا، ولا يسأل أحدا حاجة لنفسه من
أمر الدّنيا، مقبلا على شأنه ونفسه، مشتغلا بعبادة
__________
[1] يعني طرابلس الشام كما هو مبين في «الكامل في التاريخ» (10/ 475) .
[2] في «آ» و «ط» : «العلبي» والتصحيح من «طبقات الحنابلة» لابن أبي
يعلى (2/ 255) و «المنتظم» لابن الجوزي (9/ 163) و «المنهج الأحمد» (2/
222) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 104) .
[3] ذكر ابن الجوزي في هذا الكتاب- أي «الطبقات» - مناقب الصحابة
والتابعين والأكابر من الزهاد والصالحين، طبقة بعد طبقة، وهو مخطوط لم
يطبع بعد فيما أعلم، ويقع في (293) ورقة، وهو محفوظ بدار الكتب الوطنية
بتونس برقم (2434) ويحتفظ معهد المخطوطات العربية في الكويت بمصورة عنه
برقم (226) وانظر «طبقات الحنابلة» (2/ 255- 257) .
و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 104- 105) .
[4] كذا في «آ» و «ط» : «تجصيص» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» : «يجصص» .
(6/11)
ربّه، كثير الصوم والصلاة، مسارعا إلى قضاء
حوائج المسلمين، مكرّما عند الناس أجمعين.
وكان يذهب بنفسه كل ليلة إلى دجلة، فيأخذ في كوز له ماء يفطر عليه.
وكان يمشي بنفسه في حوائجه ولا يستعين بأحد، وكان إذا حجّ يزور القبور
بمكّة، ويجيء إلى قبر الفضيل بن عياض، ويخطّ بعصاه، ويقول:
يا ربّ هاهنا، يا ربّ ها هنا، فاتفق أنه خرج في سنة ثلاث وخمسمائة إلى
الحجّ، وكان قد وقع من الجمل في الطريق دفعتين، فشهد عرفة محرما ومعه
بقية من ألم الوقوع.
وتوفي عشية ذلك اليوم- يوم الأربعاء، يوم عرفة- في أرض عرفات، فحمل إلى
مكّة، فطيف به البيت، ودفن يوم النحر إلى جنب قبر الفضيل بن عياض، رضي
الله عنهما.
وممن روى عنه ابن ناصر، والسّلفي. قاله ابن رجب [1] .
وفيها أبو بكر أحمد بن المظفّر بن سوسن التمّار، ببغداد. روى عن الحرفي
[2] ، وابن شاذان، وضعفه شجاع الذّهلي، وتوفي في صفر عن اثنتين وتسعين
سنة.
وفيها أبو الفتيان عمر بن عبد الكريم الدّهستاني- بكسر الدال المهملة
والهاء وسكون المهملة وفوقية، نسبة إلى دهستان مدينة عند مازندران [3]-
الحافظ الرّوّاسي.
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 104- 105) .
[2] في «آ» و «ط» : «الحرقي» وهو تصحيف، والتصحيح من «الأنساب» (4/
112) وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الله الحرفي.
[3] تحرفت في «آ» إلى «مازندران» وأثبت ما جاء في «ط» وهو الصواب. انظر
«الأنساب» (5/ 379) و «معجم البلدان» (5/ 41) .
(6/12)
طوّف خراسان، والعراق، والشام، ومصر، وكتب
ما لا يوصف، وروى عن أبي عثمان الصّابوني وطبقته، وتوفي بسرخس.
قال ابن ناصر الدّين [1] : كان ثقة في نقله، لكنه حدّث بطوس ب «صحيح
مسلم» من غير أصله.
وفيها أبو سعد المطرّز محمد بن محمد بن محمد الأصبهاني [2] ، في شوال،
عن نيف وتسعين سنة. سمع الحسين بن إبراهيم الحمّال، وأبا علي غلام
محسن، وابن عبد كويه، وهو أكبر شيخ للحافظ أبي موسى المديني.
سمع منه حضورا.
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (157/ آ) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 254- 255) .
(6/13)
سنة أربع وخمسمائة
فيها أخذت الفرنج بيروت بالسيف، ثم أخذوا صيدا بالأمان.
وفيها توفي إسماعيل بن أبي الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي ثم
النيسابوري أبو عبد الله. روى عن أبي حسّان [1] المزكّي، وعبد الرحمن
ابن حمدان النّصروي، وطبقتهما، ورحل فأدرك أبا محمد الجوهريّ ببغداد.
توفي في ذي القعدة عن إحدى وثمانين سنة.
وفيها أبو يعلى حمزة بن محمّد بن علي البغداديّ، أخو طراد الزّينبي،
توفي في رجب، وله سبع وتسعون سنة، والعجب كيف لم يسمع من هلال الحفّار.
روى عن أبي العلاء محمد بن علي الواسطي وجماعة.
قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو الحسن إلكيا الهرّاسي- وإلكيا بهمزة مكسورة ولام ساكنة، ثم
كاف مكسورة، بعدها ياء مثناة من تحت، معناه الكبير بلغة الفرس.
والهرّاسي: براء مشدّدة وسين مهملة، لا تعلم نسبته لأي شيء-.
علي بن محمد بن علي الطبرستاني الشافعي عماد الدّين، شيخ
__________
[1] في «آ» و «ط» : «عن أبي حيّان» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و
«سير أعلام النبلاء» (19/ 262) .
[2] (4/ 8) .
(6/14)
الشافعية ببغداد، تفقه على إمام الحرمين،
وكان فصيحا، مليحا، مهيبا، نبيلا، قدم بغداد، ودرّس بالنّظاميّة وتخرّج
به الأصحاب، وعاش أربعا وخمسين سنة.
قال ابن خلّكان [1] : ذكره الحافظ عبد الغافر في «تاريخ نيسابور» فقال:
كان من رؤوس معيدي إمام الحرمين في الدرس، وكان ثاني أبي حامد الغزالي،
بل أفضل وأصلح وأطيب في الصوت والنظر، ثم اتصل بخدمة مجد الملك [2]
بركياروق بن ملكشاه السلجوقي، وحظي عنده بالمال والجاه، وارتفع شأنه،
وتولى القضاء بتلك الدولة، وكان محدّثا يستعمل الأحاديث في مناظراته
ومجالسته.
ومن كلامه: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس
المقاييس في مهابّ الرياح.
وحدّث الحافظ أبو طاهر السّلفي [قال] : استفتيت شيخنا إلكيا الهرّاسي
ما يقول الإمام- وفقه الله تعالى- في رجل أوصى بثلث ماله للعلماء
والفقهاء، أتدخل كتبة الحديث تحت هذه الوصية أم لا؟ فكتب الشيخ تحت
السؤال:
نعم، كيف لا، وقد قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم: «من حفظ على أمتي
أربعين حديثا من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما» [3] .
وسئل إلكيا أيضا عن يزيد بن معاوية فقال: إنه لم يكن من الصحابة، لأنه
ولد في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأما قول السّلف، فقيه
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 286- 288) .
[2] في «آ» و «ط» : «محمد الملك» وهو تصحيف، والتصحيح من «وفيات
الأعيان» .
[3] رواه جماعة من الأئمة الحفّاظ من رواية عدد من الصحابة رضوان الله
عليهم، وقال الإمام النووي: اتفق الحفّاظ على أنه حديث ضعيف وإن كثرت
طرقه. انظر «شرح الأربعين النووية» ص (12- 13) طبع دار ابن كثير، وانظر
كلام الحافظ السخاوي عليه في «المقاصد الحسنة» ص (411) .
(6/15)
لأحمد قولان، تلويح وتصريح، ولمالك فيه
قولان، تلويح وتصريح، ولأبي حنيفة قولان، تلويح وتصريح، ولنا قول واحد،
تصريح دون التلويح، وكيف لا يكون كذلك، وهو اللاعب بالنرد، والمتصيد
بالفهود، ومدمن الخمر، وشعره في الخمر معلوم ومنه قوله:
أقول لصحب ضمّت الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنّم
خذوا بنصيب من نعيم ولذة ... وكلّ وإن طال المدى يتصرّم
وكتب فصلا طويلا ثم قلب الورقة وكتب: لو مددت ببياض لمددت العنان في
مخازي هذا الرجل، وقد أفتى الإمام أبو حامد الغزالي في مثل هذه المسألة
بخلاف ذلك.
قال ابن الأهدل: أفتى الغزالي بخلاف جواب إلكيا، وتضمن جوابه، أنه وإن
غلب الظن بقرائن حاله أنه رضي قتل الحسين، أو أمر به، فلا يجوز لعنه،
ويجعل كمن فعل كبيرة.
وأفتى ابن الصلاح بنحوه، وأقرهما اليافعي.
قلت: الحاصل من ذلك أن يزيد إن صحّ عنه ما جرى منه على الحسين وآله من
المثلة وتقلّب [1] الرأس الكريم بين يديه، وإنشاده الشعر في ذلك
مفتخرا، فذلك دليل الزندقة والانحلال من الدّين، فإنّ مثل هذا لا يصدر
من قلب سليم، وقد كفّره بعض المحدّثين، وذلك موقوف على استحلاله لذلك،
والله أعلم.
وقال الإمام التّفتازاني: أمّا رضا يزيد بقتل الحسين وإهانته أهل بيت
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمما يقطع به، وإن كان تفصيله آحادا
فلا يتوقف في كفره، لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه. انتهى كلام
ابن الأهدل.
__________
[1] في «ط» : «وتقليب» .
(6/16)
وقال ابن خلّكان: كانت ولادة إلكيا في ذي
القعدة، سنة خمسين وأربعمائة، وتوفي يوم الخميس وقت العصر، مستهل
المحرم، سنة أربع وخمسمائة ببغداد، ودفن في تربة الشيخ أبي إسحاق
الشيرازي، وحضر دفنه الشريف أبو طالب الزّينبي، وقاضي القضاة أبو الحسن
بن الدامغاني، وكانا مقدّمي الطائفة الحنفية، وكان بينه وبينهما في حال
الحياة منافسة، فوقف أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال ابن
الدامغانيّ متمثلا:
وما تغني النّوادب والبواكي ... وقد أصبحت مثل حديث أمس
وأنشد الزّينبيّ متمثلا:
عقم النساء فلم [1] يلدن شبيهه ... إنّ النّساء بمثله عقم
انتهى ملخصا.
وقال السبكي [2] : له كتاب «شفاء المسترشدين» و «نقض مفردات [الإمام]
أحمد» وكتب [3] في أصول الفقه.
وفيها أبو الحسين الخشّاب، يحيى بن علي بن الفرح المصري، شيخ [الإقراء]
[4] . قرأ بالروايات على ابن نفيس، وأبي الطاهر إسماعيل بن خلف، وأبي
الحسين الشيرازي، وتصدر للإقراء.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «فما» .
[2] انظر «طبقات الشافعية الكبرى» (7/ 232) .
[3] في «طبقات الشافعية الكبرى» : «وكتاب» وجاء في حاشية التحقيق فيه
ما نصه: «وفي الطبقات الوسطى: «كتابان» .
[4] مستدركة من «العبر» (4/ 8) مصدر المؤلف.
(6/17)
سنة خمس وخمسمائة
فيها توفي أبو محمد بن الآبنوسي، عبد الله بن علي البغدادي، الوكيل
المحدّث، أخو الفقيه أحمد بن علي. سمع من أبي القاسم التّنوخي،
والجوهري، وتوفي في جمادى الأولى.
وفيها أبو الحسن العلّاف، علي بن محمد بن علي بن محمد البغدادي،
الحاجب، مسند العراق، وآخر من روى عن الحمّامي، وكان يقول: ولدت في
المحرم سنة ست وأربعمائة، وسمعت من أبي الحسين بن بشران، وتوفي في
المحرم عن مائة إلّا سنة، وكان أبوه واعظا مشهورا.
وفيها الإمام [الغزّالي] [1] زين الدّين، حجّة الإسلام، أبو حامد محمد
بن محمد بن محمد بن أحمد الطّوسي [2] الشافعي، أحد الأعلام. تلمذ لإمام
الحرمين، ثم ولّاه نظام الملك تدريس مدرسته ببغداد، وخرج له أصحاب،
وصنّف التصانيف، مع التصوّن والذكاء المفرط والاستبحار في
__________
[1] ما بين حاصرتين زيادة من «العبر» مصدر المؤلف.
قال ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (1/ 98) : الغزّالي: بفتح الغين
المعجمة وتشديد الزاي المعجمة وبعد الألف لام، هذه النسبة إلى الغزّال،
على عادة أهل خوارزم وجرجان، فإنهم ينسبون إلى القصار القصّاري، وإلى
العطار العطّاري، وقيل: إن الزاي مخففة، نسبة إلى غزالة وهي قرية من
قرى طوس، وهو خلاف المشهور، لكن هكذا قاله السمعاني في كتاب «الأنساب»
والله أعلم. قلت: ولم أقف على نسبة الغزّالي في «الأنساب» المطبوع
واستدركها المحقق في الحاشية (9/ 140) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 322- 346) و «الأمصار ذوات الآثار»
ص (79) طبع دار ابن كثير.
(6/18)
العلم، وبالجملة ما رأى الرجل مثل نفسه.
توفي في رابع عشر جمادى الآخرة بالطّابران، قصبة بلاد طوس، وله خمس
وخمسون سنة.
والغزّالي: هو الغزّال، وكذا العطّاري والخبّازي [1] ، على لغة أهل
خراسان. قاله في «العبر» [2] .
وقال الإسنوي في «طبقاته» [3] : الغزّالي إمام باسمه تنشرح الصدور،
وتحيا النفوس، وبرسمه تفتخر المحابر وتهتزّ الطّروس، وبسماعه تخشع
الأصوات وتخضع الرؤوس.
ولد بطوس، سنة خمسين وأربعمائة، وكان والده يغزل الصّوف ويبيعه في
حانوته، فلما احتضر أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له صوفي صالح،
فعلمهما الخطّ وأدبهما، ثم نفد منه ما خلّفه أبوهما، وتعذّر عليه
القوت، فقال: لكما أن تلجئا إلى المدرسة، قال الغزالي: فصرنا إلى
المدرسة نطلب الفقه لتحصيل القوت، فاشتغل بها مدة ثم ارتحل إلى أبي نصر
الإسماعيلي بجرجان، ثم إلى إمام الحرمين بنيسابور، فاشتغل عليه ولازمه،
حتّى صار أنظر أهل زمانه، وجلس للإقراء في حياة إمامه، وصنّف. وكان
الإمام في الظاهر يظهر التبجح به، وفي الباطن عنده منه شيء لما يصدر
منه من سرعة العبارة وقوة الطبع. وينسب إليه تصنيفان ليسا له بل وضعا
عليه، وهما «السرّ المكتوم» و «المضنون به على غير أهله» وينسب إليه
شعر، فمن ذلك ما نسبه إليه ابن السمعاني في «الذيل» والعماد الأصبهاني
في «الخريدة» :
حلّت عقارب صدغه في خدّه ... قمرا فجلّ به عن التّشبيه
ولقد عهدناه يحلّ ببرجها ... فمن العجائب كيف حلّت فيه
__________
[1] تصحفت في «آ» إلى «الجنازي» وأثبت لفظ «ط» .
[2] (4/ 10) .
[3] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 242- 245) .
(6/19)
وأنشد العماد له أيضا:
هبني صبوت كما ترون بزعمكم ... وحظيت منه بلثم ثغر أزهر
إني اعتزلت فلا تلوموا أنّه ... أضحى يقابلني بوجه أشعري
فلما مات إمامه خرج إلى العسكر وحضر مجلس نظام الملك [وكان مجلسه محطّ
رحال العلماء، ومقصد الأئمة والفصحاء، فوقع للغزّاليّ أمور تقتضي علو
شأنه من ملاقاة الأئمة ومجاراة الخصوم اللّد، ومناظرة الفحول، ومناطحة
الكبار، فأقبل عليه نظام الملك وحلّ منه] [1] محلا عظيما، فعظمت
منزلته، وطار اسمه في الآفاق، وندب للتدريس بنظاميّة بغداد، سنة أربع
وثمانين، فقدمها في تجمل كبير، وتلقاه النّاس، ونفذت كلمته، وعظمت
حشمته، حتّى غلبت على حشمة الأمراء والوزراء، وضرب به المثل، وشدت إليه
الرّحال، إلى أن شرفت نفسه عن رذائل الدّنيا فرفضها واطّرحها، وأقبل
على العبادة والسياحة، فخرج إلى الحجاز في سنة ثمان وثمانين، فحجّ ورجع
إلى دمشق واستوطنها عشر سنين بمنارة الجامع، وصنّف فيها كتبا، يقال إن
«الأحياء» منها، ثم صار إلى القدس والإسكندرية، ثم عاد إلى وطنه بطوس،
مقبلا على التصنيف والعبادة، وملازمة التّلاوة، ونشر العلم، وعدم
مخالطة الناس.
ثم إن الوزير فخر الدّين بن نظام الملك حضر إليه وخطبه إلى نظامية
نيسابور، وألحّ عليه كل الإلحاح، فأجاب إلى ذلك، وأقام عليه مدة، ثم
تركه وعاد إلى وطنه، على ما كان عليه، وابتنى إلى جواره خانقاه
للصوفية، ومدرسة للمشتغلين، ولزم الانقطاع، ووظف أوقاته على وظائف
الخير، بحيث لا يمضي لحظة منها إلّا في طاعة من التلاوة، والتدريس،
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «طبقات الشافعية»
للإسنوي.
(6/20)
والنظر في الأحاديث، خصوصا البخاري، وإدامة
الصيام، والتهجّد، ومجالسة أهل القلوب، إلى أن انتقل إلى رحمة الله
تعالى، وهو قطب الوجود، والبركة الشاملة لكل موجود، وروح خلاصة أهل
الإيمان، والطريق الموصلة إلى رضا الرحمن، يتقرب إلى الله تعالى به كل
صديق، ولا يبغضه إلّا ملحد أو زنديق، قد انفرد في ذلك العصر عن أعلام
الزمان كما انفرد في هذا الفصل، فلم يترجم فيه معه في الأصل لإنسان.
انتهى كلام الإسنوي [1] .
وقال ابن قاضي شهبة [2] : ومن تصانيفه «البسيط» وهو كالمختصر للنهاية،
و «الوسيط» ملخص منه، وزاد فيه أمورا من «الإبانة» للفوراني، ومنها أخذ
هذا الترتيب الحسن الواقع في كتبه، وتعليق القاضي حسين، و «المهذّب»
واستمداده منه كثير، كما نبّه عليه في المطلب، ومن تصانيفه أيضا
«الوجيز» و «الخلاصة» مجلد دون «التنبيه» وكتاب «الفتاوى» له مشتمل على
مائة وتسعين مسألة، وهي غير مرتبة وله فتاوى أخرى غير مشهورة، أقل من
تلك، وصنّف في الخلاف المآخذ جمع مأخذ [3] ، ثم صنّف كتابا آخر في
الخلاف سماه «تحصيل المأخذ» [4] وصنّف في المسألة السريجية مصنفين،
اختار في أحدهما عدم وقوع الطلاق وفي الآخر الوقوع، وكتاب «الإحياء»
وهو الأعجوبة العظيم الشأن، و «بداية الهداية» في التصوف، و «المستصفى»
في أصول الفقه، و «إلجام العوام عن علم الكلام» ، و «الرد على
الباطنية» ، و «مقاصد الفلاسفة» ، و «تهافت الفلاسفة» و «جواهر القرآن»
و «شرح الأسماء
__________
[1] أقول: كلام الإسنوي في مدح الإمام الغزالي فيه مبالغات لا يرضاها
الشرع، ولا يقرها الغزالي نفسه. (ع) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 327- 328) .
[3] في «آ» : «المآجد جمع ماجد» وأثبت لفظ «ط» وهو موافق لما في «طبقات
الشافعية» لابن قاضي شهبة.
[4] في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة: «تحصين المأخذ» .
(6/21)
الحسنى» ، و «مشكاة الأنوار» و «المنقذ من
الضلال» وغير ذلك. انتهى.
وذكر الشيخ علاء الدّين علي بن الصيرفي في كتابه «زاد السالكين» أن
القاضي أبا بكر بن العربي قال: رأيت الإمام الغزالي في البريّة وبيده
عكازة، وعليه مرقعة، وعلى عاتقه ركوة، وقد كنت رأيته ببغداد يحضر مجلس
درسه نحو أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم، يأخذون عنه العلم.
قال:
فدنوت منه وسلّمت عليه، وقلت له: يا إمام! أليس تدريس العلم ببغداد خير
من هذا؟ قال: فنظر إلي شزرا [1] وقال: لما طلع بدر السعادة في فلك
الإرادة- أو قال سماء الإرادة- وجنحت شمس الوصول في مغارب الأصول:
تركت هوى ليلى وسعدى [2] بمعزل ... وعدت إلى تصحيح أول منزل
ونادت بي الأشواق مهلا فهذه ... منازل من تهوى رويدك فانزل
غزلت لهم غزلا دقيقا فلم أجد ... لغزلي نسّاجا فكسّرت مغزلي
انتهى.
__________
[1] قال في «مختار الصحاح» (شزر) : نظر إليه شزرا، وهو نظر الغضبان
بمؤخر عينيه.
[2] في «آ» : «وشعري» ..
(6/22)
|