شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة ست عشرة وخمسمائة
فيها توفي إيل غازي بن أرتق [1] بن أكسب نجم الدّين التركماني، صاحب ماردين، وليها بعد أخيه سقمان، وكانا من أمراء تتش صاحب الشام، وكان إيل غازي قد استولى على حلب بعد موت أولاد تتش، واستولى على ميّافارقين، وكان فارسا شجاعا كثير الغزو كثير العطاء، ولّى بعده بماردين ابنه حسام الدّين تمرتاش.
وفيها الباقرحي- بفتح القاف وسكون الراء، ثم مهملة، نسبة إلى باقرحا من قرى بغداد- أبو علي الحسن بن محمد بن إسحاق. روى عن أبي الحسن القزويني، والبرمكي، وخلق، وتوفي في رجب.
وفيها البغوي محيي السّنّة أبو محمد. الحسين بن مسعود بن محمد ابن الفراء، ويعرف تارة بالفراء [2] ، الشافعي المحدّث المفسّر، صاحب التصانيف، وعالم أهل خراسان. روى عن أبي عمر المليحي، وأبي الحسن الداودي، وطبقتهما. وكان سيدا، زاهدا، قانعا يأكل الخبز وحده، فليم [3] في ذلك، فصار يأكله بالزيت. وكان أبوه يصنع الفراء. وتوفي ركن الدّين محيي السّنّة بمرو الرّوذ في شوال، ودفن عند شيخه القاضي حسين. قاله في «العبر» [4] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «رائق» والتصحيح من «دول الإسلام» للحافظ الذهبي. (ع) .
[2] انظر «العبر» (4/ 37) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 439- 443) والتعليق عليه.
[3] في «المنتخب» (106/ ب) : «فلاموه» .
[4] (4/ 37) .

(6/79)


وقال ابن الأهدل هو صاحب الفنون الجامعة، والمصنّفات النافعة، مع الزهد، والورع، والقناعة، وتفقّه بالقاضي حسين ولازمه، وسمع الحديث على جماعة، ثم برع، فصنّف التصانيف النافعة، منها «معالم التنزيل» [1] و «الجمع بين الصحيحين» و «المصابيح» [2] وغيرها. وصنّف في الفقه «التهذيب» و «شرح السّنّة» [3] وكان لا يلقي الدرس إلّا على طهارة.
ونسبته إلى بغ [4] قرية بقرب هراة. انتهى.
وقال السبكي في «تكملة شرح المهذب» : قلّ أن رأيناه يختار شيئا إلّا وإذا بحث عنه وجد أقوى من غيره. هذا مع اختصار كلامه، وهو يدل على نبل كثير، وهو حري بذلك، فإنه جامع لعلوم القرآن، والسّنّة، والفقه.
انتهى.
قال الذهبي: ولم يحج، وأظنه جاوز الثمانين، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو محمد السمرقندي الحافظ، عبد الله بن أحمد بن عمر بن أبي الأشعث، أخو إسماعيل. ولد بدمشق، وسمع بها من أبي بكر الخطيب، وابن طلّاب، وجماعة. وببغداد من أبي الحسين بن النّقور، ودخل إلى نيسابور، وأصبهان، وعني بالحديث، وخرّج لنفسه «معجما» في مجلد،
__________
[1] طبع في بيروت بعناية الأستاذين خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار، وصدر عن دار المعرفة في أربع مجلدات كبار.
[2] طبع عدة مرات أفضلها التي صدرت عن دار المعرفة ببيروت في ثلاث مجلدات بتحقيق الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
[3] طبع أول مرة في المكتب الإسلامي بدمشق بين عامي (1390- 1399) هـ، وانفرد بتحقيقه وتخريج أحاديثه والتعليق عليه الأستاذ المحقّق الشيخ شعيب الأرناؤوط، وصدر في خمسة عشر جزءا، ثم أتبع بجزء فهرست فيه أحاديث الكتاب تمّ إعداده وطبعه في المكتب الإسلامي ببيروت.
[4] قلت: ويقال لها أيضا «بغشور» . انظر «معجم البلدان» (1/ 467- 468) .

(6/80)


وعاش اثنتين وسبعين سنة.
قال ابن ناصر الدّين [1] : كان من الثقات النّقاد.
وفيها أبو القاسم بن الفحّام الصقلي، عبد الرحمن بن أبي بكر، عتيق بن خلف، مصنف «التجريد في القراءات» كان أسند من بقي بالدّيار المصرية في القراءات. قرأ على ابن نفيس وطبقته، ونيّف على التسعين، وتوفي في ذي القعدة.
وفيها أبو طالب اليوسفي، عبد القادر بن محمد بن عبد القادر البغدادي، في ذي الحجة، وهو في عشر التسعين. روى الكتب الكبار عن ابن المذهب، والبرمكي، وكان ثقة، عدلا، رضيا، عابدا. قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو طالب السّميرمي [3] ، علي بن أحمد الوزير، وزر ببغداد للسلطان محمود، وظلم، وفسق، وتجبّر، ومرق، حتّى قتل على يدي الباطنية. قاله في «العبر» أيضا [4] .
وفيها أبو محمد الحريري، صاحب «المقامات» القاسم بن علي بن محمد بن عثمان البصري، الأديب، حامل لواء البلاغة، وفارس النظم والنثر، وكان من رؤساء بلده. روى الحديث عن أبي تمّام محمد بن الحسين وغيره، وعاش سبعين سنة، وتوفي في رجب، وخلّف ولدين: النجم عبد الله، وضياء الإسلام عبيد الله، قاضي البصرة. قاله في «العبر» [5] .
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (160/ آ) .
[2] (4/ 37- 38) .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «السّمناني» والتصحيح من «العبر» (4/ 38) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 432) .
[4] (4/ 38) وانظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 386- 387) .
[5] (4/ 38) .

(6/81)


وقال ابن خلّكان [1] : كان أحد أئمة عصره، ورزق الحظوة التامة في عمل المقامات، واشتملت على شيء كثير من كلام العرب، من لغاتها، وأمثالها، ورموز أسرار كلامها، ومن عرفها حقّ معرفتها، استدل بها على فضل هذا الرجل، وكثرة اطلاعه، وغزارة مادته، وكان سبب وضعها ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله، قال: كان أبي جالسا في مسجد بني حرام، فدخل شيخ ذو طمرين، عليه أهبة السفر، رثّ الحال، فصيح الكلام، حسن العبارة، فسألته الجماعة: من أين الشيخ؟ فقال: من سروج، فاستخبروه عن كنيته فقال: أبو زيد، فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور، واشتهرت عنه [2] فبلغ خبرها الوزير شرف الدّين أنو شروان بن خالد بن محمد القاشاني، وزير الإمام المسترشد بالله، فلما وقف عليها أعجبته، فأشار إلى والدي أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين، وإلى الوزير المذكور أشار الحريري في خطبة المقامات بقوله: فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع، وإن لم يدرك الظالع شأو الضليع. فهذا كان مستنده في نسبها إلى أبي زيد السروجي.
وذكر القاضي جمال الدّين بن الحسن بن علي الشيباني القفطي وزير حلب، في كتابه المسمى «إنباه الرواة على أنباء [3] النحاة» [4] أن أبا زيد المذكور اسمه المطهّر بن سلّار كان [5] بصريا [6] ، نحويا، لغويا، صحب
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 63- 68) .
[2] لفظة «عنه» لم ترد في «وفيات الأعيان» الذي بين يدي.
[3] في «آ» و «ط» : «ألباب» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[4] انظر «إنباه الرواة على أنباء النحاة» (3/ 276) ترجمة المطهر بن سلار.
[5] لفظة «كان» لم ترد في «آ» .
[6] في «آ» و «ط» : «بصيرا» وما أثبتناه من «إنباه الرواة» و «وفيات الأعيان» .

(6/82)


الحريري المذكور، واشتغل عليه بالبصرة وتخرّج به، وروى عنه القاضي أبو الفتح محمد بن أحمد بن المندائيّ [1] الواسطي ملحة الإعراب وذكر أنه سمعها منه عن الحريري، وقال: قدم علينا واسط سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، فسمعنا منه، وتوجه منها مصعدا إلى بغداد، فوصلها وأقام بها مدة يسيرة، وتوفي بها، وكذا ذكره السمعاني في «الذيل» والعماد في «الخريدة» وأما تسميته الراوي [لها] بالحارث بن همّام، فإنما عنى به نفسه وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: «كلّكم حارث وكلّكم همّام» [2] فالحارث الكاسب، والهمّام الكثير الاهتمام، وما من شخص إلّا وهو حارث وهمّام، لأنّ كل أحد كاسب ومهتم بأموره.
وقد اعتنى بشرحها خلق كثير، فمنهم: من طوّل ومنهم من اختصر.
ورأيت في بعض المجاميع أن الحريري لما عمل «المقامات» عملها أربعين مقامة، وحملها من البصرة إلى بغداد، وادعاها فلم يصدقه جماعة من أدباء بغداد، وقالوا: إنها ليست من تعليقه [3] بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة، مات بالبصرة، ووقعت أوراقه إليه فادعاها، فاستدعاه الوزير إلى الديوان، وسأله عن صناعته، فقال: أنا رجل منشئ، فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عيّنها، فانفرد في ناحية من الديوان، وأخذ الدواة والورقة،
__________
[1] في «آ» و «ط» : «المندالي» وهو خطأ، والتصحيح من «إنباه الرواة» و «وفيات الأعيان» .
[2] لا يعرف بهذا اللفظ، ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» رقم (1945) وقال: قال- يعني ابن الدّيبع- في «التمييز» : ليس بحديث، ويقرب منه «أصدق الأسماء حارث وهمّام» وقال النجم تبعا ل «المقاصد» : ذكره الحريري في صدر «مقاماته» وجعله مقولة، والوارد ما عند البخاري في «الأدب المفرد» وأبي داود، والنسائي عن أبي وهب الجشمي، وكانت له صحبة: «تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمّام، وأقبحها حرب ومرة» : وإنما كان «حارث وهمّام» أصدق الأسماء لأن الحارث الكاسب، والهمّام الذي يهيم مرة بعد أخرى، وكل الناس لا ينفك عن هذين، والله أعلم.
[3] في «وفيات الأعيان» : «إنها ليست من تصنيعه» .

(6/83)


ومكث زمانا فلم يفتح الله عليه بشيء من ذلك، فقام وهو خجلان، وكان في جملة من أنكر دعواه في عملها أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر، فلما لم يعمل الحريري الرسالة التي اقترحها الوزير أنشد ابن أفلح:
شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان كما ... رماه وسط الديوان بالخرس
وكان الحريري يزعم أنه من ربيعة الفرس، وكان مولعا بنتف لحيته عند الفكرة، وكان يسكن في مشان البصرة، فلما رجع إلى بلده عمل عشر مقامات أخر وسيّرها [1] ، واعتذر من عيه وحصره بالديوان، مما لحقه من المهابة.
وللحريري تآليف حسان، منها: «درة الغواص في أوهام الخواص» ومنها «ملحة الإعراب» وشرحها، وله ديوان رسائل، وشعر كثير، غير شعره الذي في «المقامات» فمن ذلك قوله وهو معنى حسن:
قال العواذل ما هذا الغرام به ... أما ترى الشّعر في خدّيه قد نبتا
فقلت والله لو أن المفنّد لي ... تأمّل الرشد في عينيه ما ثبتا
ومن أقام بأرض وهي مجدبة ... فكيف يرحل عنها والرّبيع أتى
وذكر له العماد الكاتب في «الخريدة» :
كم ظباء بحاجر ... فتنت بالمحاجر
ونفوس نفائس ... خدرت بالمخادر
وتثنّ لخاطر ... هاج وجدا لخاطري
وعذار لأجله ... عاذلي فيه [2] عاذري
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «وسيرهن» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «عاد» .

(6/84)


وشجون تضافرت [1] ... عند كشف الضّفائر
ويحكى أنه كان ذميما قبيح المنظر، فجاءه شخص غريب يزوره ويأخذ عنه شيئا، فلما رآه استزرى شكله، ففهم الحريري ذلك منه، فلما التمس منه أن يملي عليه، قال له: اكتب:
ما أنت أول سار غرّه قمر ... ورائد أعجبته خضرة الدّمن
فانظر [2] لنفسك غيري إنني رجل ... مثل المعيديّ فاسمع بي ولا ترني
فخجل الرجل منه وانصرف عنه.
وكانت ولادة الحريري في سنة ست وأربعين وأربعمائة. وتوفي بالبصرة في سكة بني حرام، وخلّف ولدين.
قال أبو منصور الجواليقي: أجازني «المقامات» نجم الدّين عبد الله، وقاضي قضاة البصرة ضياء الإسلام عبيد الله، عن أبيهما منشئها.
والمشان: بليدة فوق البصرة، كثيرة النخل، موصوفة بشدة الوخم [3] ، وكان أهل الحريري منها، ويقال: إنه كان له بها ثمانية عشر ألف نخلة، وأنه كان من ذوي اليسار. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
ويحكى أن الحريريّ جاءه رجل يقرأ عليه «مقاماته» فلما وصل إلى قوله:
يا أهل ذا المغني وقيتم شرّا ... ولا لقيتم ما بقيتم ضرّا
قد دفع اللّيل الذي اكفهرّا ... إلى حماكم [4] شعثا مغبرّا
[5]
__________
[1] في «آ» و «ط» : «تظافرت» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «فاختر» .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الرخم» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[4] في نسخة «المقامات المطبوعة التي بين يدي» : «ذراكم» .
[5] البيتان في «مقامات الحريري» ص (32- 33) طبعة البابي الحلبي.

(6/85)


فصحفها «سغبا معترّا» فقال له الحريري الرواية: «شعثا مغبرّا» ولكن والله لولا أني كتبت خطي على أكثر من خمسمائة نسخة، وطارت في الآفاق لأصلحت البيت، وجعلته كما أنشدته أنت، فإن الطارق ليلا المناسب له أن يكون «سبغا معترّا» لا «شعثا مغبرّا» وعكسه الآتي نهارا.
وبالجملة فالشيخ- رحمه الله تعالى- كان أعجوبة الدّهر ونادرة الزمان، فرحمه الله تعالى وأجزل له الغفران، آمين.
وفيها الدّقّاق أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد الأصبهاني الحافظ الرحّال، عن ثمانين سنة. روى عن عبد الله بن شبيب الخطيب، والباطرقاني، وعبد الرحمن بن أحمد الرّازي [1] ، وعني بهذا الفن، وكتب عمّن دبّ ودرج، وكان محدّثا، أثريا، فقيرا، متقللا. توفي في شوال.
__________
[1] تحرفت في «آ» إلى «المرارة» وفي «ط» إلى «المراري» والتصحيح من «العبر» (4/ 39) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 474) .

(6/86)


سنة سبع عشرة وخمسمائة
في أولها التقى الخليفة المسترشد بالله، ودبيس الأسدي، وكان دبيس قد طغى وتمرّد، ووعد عسكره بنهب بغداد، فجرد المسترشد يومئذ سيفه، ووقف على تلّ، فانهزم جمع دبيس، وقتل خلق منهم، وقتل من جيش الخليفة نحو العشرين، وعاد مؤيدا منصورا. وذهب دبيس فعاث ونهب، وقتل بنواحي البصرة.
وفيها توفي ابن الطّيوري أبو سعد، أحمد بن عبد الجبّار الصيرفي، ببغداد، في رجب، عن ثلاث وثمانين سنة، وكان صالحا أكثر بإفادة أخيه المبارك، وروى عن ابن غيلان، والخلّال، وأجاز له الصّوري، وأبو علي الأهوازي.
وفيها ابن الخيّاط الشاعر المشهور أبو عبد الله أحمد بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة التّغلبي [1] الدمشقي الكاتب، كان من الشعراء المجيدين، طاف البلاد، وامتدح الناس، ودخل بلاد العجم، وامتدح بها، ولما اجتمع بأبي الفتيان بن حيّوس، الشاعر بحلب، وعرض عليه شعره، قال: قد نعاني هذا الشاب إلى نفسي، فقلما نشأ ذو صناعة مهر فيها إلا وكان دليلا على موت الشيخ من أبناء جنسه.
__________
[1] تصحفت في في «آ» و «ط» و «المنتخب» إلى «الثعلبي» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (1/ 145) و «العبر» (4/ 39) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 476) .

(6/87)


وشعره في الذّروة العليا، ولو لم يكن له إلّا قصيدته البائية لكفاه، فكيف وأكثر قصائده غرر، وهي:
خذا من صبا نجد أمانا لقلبه ... فقد كاد ريّاها يطير بلبّه
وإياكما ذاك النّسيم فإنه ... متى هبّ كان الوجد أيسر خطبه
خليليّ لو أحببتما لعلمتما ... محلّ الهوى من مغرم القلب صبّه
تذكّر والذّكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحبّ يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه
وفي الرّكب مطويّ الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي الغرام يلبّه
إذا خطرت من جانب الرمل نفحة ... تضمّن منها داءه دون صحبه
ومحتجب بين الأسنّة معرض ... وفي القلب من إعراضه مثل حجبه
أغار إذا آنست في الحيّ أنّة ... حذارا وخوفا أن تكون لحبّه
وهي طويلة.
وله بيتان من قصيدة:
وبالجزع حيّ كلما عنّ ذكرهم ... أمات الهوى مني فؤادا وأحياه
تمنّيتهم [1] بالرقمتين ودارهم ... بوادي الغضا يا بعد ما أتمنّاه
قال صاحب «العبر» [2] : يعرف ابن الخياط بابن سني الدولة [3] الطرابلسي، عاش سبعا وستين سنة، وكتب أولا لبعض الأمراء، ثم مدح الملوك والكبار، وبلغ في النظم الذّروة العليا. أخذ يحدّث عن أبي الفتيان محمد بن حيّوس، وأخذ عنه ابن القيسراني.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «تمنيهم» والتصحيح من «المنتخب» و «وفيات الأعيان» .
[2] (4/ 39- 40) .
[3] في «آ» و «ط» و «المنتخب» (107/ آ) : «سناء الدولة» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .

(6/88)


قال السّلفي: كان شاعر الشام في زمانه، قد اخترت من شعره مجلّدة لطيفة فسمعتها منه.
قال ابن القيسراني: وقّع الوزير هبة الله بن بديع لابن الخيّاط مرّة بألف دينار، توفي في رمضان بدمشق.
وفيها حمزة بن العبّاس العلوي أبو محمد الأصبهاني الصوفي. روى عن أبي الطاهر بن عبد الرّحيم، وتوفي في جمادى الأولى.
وفيها ظريف بن محمد بن عبد العزيز أبو الحسن الحيري النيسابوري. روى عن أبي حفص بن مسرور وطائفة، وكان ثقة من أولاد المحدّثين. توفي في ذي القعدة، وله ثمان وثمانون سنة.
وفيها أبو محمد الشّنتريني- بفتح المعجمة أوله والفوقية، وسكون النون وكسر الراء، نسبة إلى شنترين، مدينة من عمل باجة. قاله السيوطي [1] .
وقال ابن خلّكان [2] : هي بلدة في غرب جزيرة الأندلس- عبد الله بن محمد بن سارة [3] البكري، الشاعر المفلق اللغوي، وله ديوان معروف.
قال ابن خلّكان [4] : كان شاعرا ماهرا، ناظما ناثرا، إلّا أنه كان قليل الحظ، إلّا من الحرمان لم يسعه مكان، ولا اشتمل عليه سلطان، ذكره صاحب «قلائد العقيان» وأثنى عليه ابن بسام في «الذخيرة» وقال: إنه تتبع المحقرات، وبعد جهد ارتقى إلى كتابة بعض الولاة، فلما كان من خلع
__________
[1] انظر «لب اللباب في تحرير الأنساب» ص (157) مصورة مكتبة المثنى ببغداد.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 95) .
[3] ويقال: «ابن صارة» أيضا. انظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 459) .
[4] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 93- 95) .

(6/89)


الملوك ما كان، أوى إلى إشبيلية أوحش حالا من الليل وأعثر [1] انفرادا من سهيل، وتبلّغ بالوراقة، وله منها جانب، وبها بصر ثاقب، فانتحلها على كساد سوقها، وخلو [2] طريقها، وفيها يقول:
أمّا الوارقة فهي أنكد [3] حرفة ... أوراقها وثمارها الحرمان
شبّهت صاحبها بصاحب إبرة ... تكسو العراة وجسمها عريان
وله أيضا:
ومعذّر راقت [4] حواشي حسنه ... فقلوبنا وجدا عليه رقاق
لم يكس عارضة السواد وإنما ... نفضت عليه سوادها الأحداق
وله في غلام أزرق العينين:
ومهفهف أبصرت في أطواقه [5] ... قمرا بأطراف [6] المحاسن يشرق
تقضي على المهجات منه صعدة ... متألّق فيها سنان أزرق
وأورد له صاحب [كتاب] «الحديقة» :
أسنى ليالي الدّهر عندي ليلة ... لم أخل فيها الكأس من أعمالي
فرّقت فيها بين جفني والكرى ... وجمعت بين القرط والخلخال
وله في الزهد:
يا من يصيخ إلى داعي السّفاه [7] وقد ... نادى به النّاعيان: الشّيب والكبر
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» و «المنتخب» : «وأعثر» وفي «وفيات الأعيان» : «وأكثر» .
[2] في «آ» و «ط» و «المنتخب» : «وخلق» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «أيكة» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «رقّت» .
[5] في «آ» و «ط» و «المنتخب» : «في أطرافه» وفي «وفيات الأعيان» : «في أطواقه» وهو ما أثبته.
[6] في «وفيات الأعيان» : «بآفاق» .
[7] في «آ» و «ط» و «المنتخب» : «السقاة» والمثبت من «وفيات الأعيان» .

(6/90)


إن كنت لا تسمع الذّكرى ففيم ثوى ... في رأسك الواعيان: السّمع والبصر
ليس الأصمّ ولا الأعمى سوى رجل ... لم يهده الهاديان: العين والأثر
لا الدّهر يبقى ولا الدّنيا ولا الفلك ال ... أعلى ولا النّيّران الشمس والقمر
ليرحلنّ عن الدّنيا وإن كرها ... فراقها الثّاويان: البدو والحضر
وله ديوان شعر أكثره جيد، وكانت وفاته بمدينة المريّة من جزيرة الأندلس.
وفيها أبو نعيم عبيد الله بن أبي علي الحسن بن أحمد الحداد الأصبهاني، الحافظ مؤلف «أطراف الصحيحين» كان عجبا في الإحسان إلى الرحّالة وإفادتهم، مع الزهد، والعبادة، والفضيلة التامة. روى عن عبد الوهاب بن مندة، ولقي بنيسابور أبا المظفر موسى بن عمران وطبقته، وبهراة العميري، وببغداد النّعالي [1] ، توفي في جمادى الأولى، عن أربع وخمسين سنة.
وفيها أبو سعد محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن داود الأصبهاني [2] ، ويعرف بالخيّاط الحنبلي، من أهل أصبهان.
قدم بغداد واستوطنها مدة طويلة، وسمع من مشايخها، وانتخب وعلّق، وكتب بخطه كثيرا، وحصّل الأصول والنّسخ، وجمع كثيرا جدا من الحديث، والفقه، وأنفذه إلى أصبهان، وأدركه أجله ببغداد. حدّث ببغداد عن أبي القاسم بن مندة إجازة، وعن غيره سماعا، وكتب عنه ابن عامر العبدريّ [3] وابن ناصر.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «المنعالي» والتصحيح من «العبر» (4/ 41) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 486) .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 173) .
[3] في «آ» و «ط» : «الغندري» وهو تصحيف، والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .

(6/91)


قال ابن النجار: كان من أهل السّنّة المحقّقين، المبالغين، المشدّدين، ظاهر الصلاح، قليل المخالطة للناس. كان حنبليا متعصبا لمذهبه، مشددا في ذلك.
توفي يوم الخميس سادس عشري ذي الحجة، ودفن بباب حرب، ولم يخلّف وارثا ولم يتزوج قطّ.
وفيها أبو الغنائم بن المهتدي بالله محمد بن محمد بن أحمد [1] الهاشمي الخطيب. روى عن أبي الحسن القزويني، والبرمكي، وطائفة، وتوفي في ربيع الأول.
وفيها أبو الحسن الزّعفراني، محمد بن مرزوق البغدادي، الحافظ التاجر، أكثر عن ابن المسلمة، وأبي بكر الخطيب، وسمع بدمشق [2] ، ومصر، وأصبهان، وتوفي في صفر، عن خمس وسبعين سنة، وكان متقنا ضابطا، يفهم ويذاكر.
وفيها أبو صادق، مرشد بن يحيى بن القاسم المديني ثم المصري.
روى عن ابن حمّصة، وأبي الحسن الطّفّال، وعلي بن محمد الفارسي، وعدة، وكان أسند من بقي بمصر، مع الثقة والخير، توفي في ذي القعدة، عن سنّ عالية.
__________
[1] «ابن محمد» الثانية سقطت من «العبر» طبع الكويت (4/ 41) وفي «العبر» (2/ 409) طبع بيروت: «محمد بن أحمد بن محمد» وهو خطأ. وانظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 469) و «مرآة الجنان» (3/ 221) .
[2] لفظة «بدمشق» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «العبر» .

(6/92)


سنة ثمان عشرة وخمسمائة
فيها أخذت الفرنج صور بالأمان، وبقيت في أيديهم إلى سنة تسعين وستمائة [1] .
وفيها توفي أبو الفضل، أحمد بن محمد بن الفضل بن عبد الخالق، المعروف بابن الخازن، الكاتب الشاعر، الدّينوري الأصل، البغدادي المولود والوفاة، كان فاضلا نادر الخط [2] ، أوحد وقته فيه، وهو والد أبي الفتح نصر الله الكاتب المشهور.
ومن شعر أحمد صاحب الترجمة قوله:
من يستقم يحرم مناه ومن يزغ ... يختصّ بالإسعاف والتمكين
انظر إلى الألف استقام ففاته ... عجم وفاز به اعوجاج النّون
قال ابن خلّكان [3] : وجل شعره مشتمل على معان حسان.
وكانت وفاته في صفر سنة ثمان عشرة وخمسمائة.
وكان ولده أبو الفتح نصر الله المذكور حيّا في سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ولم أقف على تاريخ وفاته. انتهى.
__________
[1] انظر «دول الإسلام» للذهبي (2/ 44) .
[2] في «وفيات الأعيان» (1/ 149) مصدر المؤلف: «نادرة في الخط» .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 151) .

(6/93)


وفيها أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري، الأديب اللغوي، اختص بصحبة الواحدي المفسر، وقرأ عليه، وله في اللغة تصانيف مفيدة، منها كتاب «الأمثال» لم يعمل مثله [1] ، وكتاب «السامي في الأسامي» وسمع الحديث، وكان ينشد:
تنفّس صبح الشّيب في ليل عارضي ... فقلت عساه يكتفي بعذاري
فلما فشا عاتبته فأجابني ... ألا هل [2] ترى صبحا بغير نهار.
قاله ابن الأهدل.
وقال ابن خلّكان [3] : توفي يوم الأربعاء خامس عشري شهر رمضان، سنة ثمان عشرة وخمسمائة، رحمه الله، بنيسابور، ودفن على باب ميدان زياد.
والميداني: بفتح الميم، وسكون المثناة من تحتها، وفتح المهملة، وبعد الألف نون، هذه النسبة إلى ميدان زياد، وهي محلّة في نيسابور.
وابنه أبو سعد سعيد بن أحمد، كان أيضا فاضلا ديّنا، وله كتاب «الأسمى في الأسماء» وتوفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، رحمه الله. انتهى.
وفيها داود ملك الكرج، الذي أخذ تفليس من قريب، وكان عادلا في الرعية، يحضر [يوم] الجمعة ويسمع الخطبة ويحترم المسلمين [4] .
__________
[1] قال الصفدي في «الوافي بالوفيات» (7/ 326) : وفيه ستة آلاف مثل ... قال: ولما صنف «الأمثال» وقف عليه الزمخشري فحسده، وزاد في لفظة «الميداني» نونا قبل الميم فصارت «النميداني» وهو بالفارسية الذي لا يعرف شيئا، فعمد المصنف إلى تصنيف الزمخشري وزاد في نسبته وعمل الميم نونا، فصارت الزنخشري، وهو بالفارسية بائع زوجته.
[2] في «آ» و «ط» و «المنتخب» و «مرآة الجنان» (3/ 223) : «أيا» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» و «الوافي بالوفيات» .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 148) .
[4] انظر «العبر» (4/ 42) وما بين حاصرتين زيادة منه.

(6/94)


وفيها الحسن بن صبّاح [1] صاحب الألموت، وزعيم الإسماعيلية، وكان داهية، ماكرا، زنديقا، من شياطين الإنس.
وفيها أبو الفتح سلطان بن إبراهيم بن المسلم المقدسي الشافعي.
الفقيه.
قال السّلفي: كان من أفقه الفقهاء بمصر، عليه تفقه أكثرهم.
وقال الذهبي [2] : أخذ عن نصر المقدسي، وسمع من أبي بكر الخطيب وجماعة، وعاش ستا وسبعين سنة. توفي في هذه السنة أو في التي تليها.
وقال ابن شهبة [3] : تفقّه على نصر المقدسي.
قال الإسنوي [4] : وعلى سلامة المقدسي، وبرع في المذهب، ودخل مصر بعد السبعين، وسمع بها، وكان من أفقه الفقهاء بمصر، وعليه قرأ أكثرهم. وروى عن السّلفي وغيره وصنف كتابا في أحكام التقاء الختانين.
قال ابن نقطة: توفي سنة خمس وثلاثين. انتهى.
وفيها أبو بكر غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن تمّام بن عطيّة المحاربي الغرناطي الحافظ. توفي في جمادى الآخرة بغرناطة، عن سبع وسبعين سنة. روى عن الأندلسيين [5] ، ورحل سنة تسع وستين، وسمع «الصحيحين» بمكّة.
__________
[1] في «العبر» بطبعتيه «الحسين بن الصباح» وهو خطأ فيصحح، وانظر «الكامل في التاريخ» (10/ 625) و «ميزان الاعتدال» (1/ 500) و «الأعلام» (2/ 193) .
[2] انظر «العبر» (4/ 43) .
[3] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 312) .
[4] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 422) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[5] في «آ» و «ط» : «عن الأندلسي» والتصحيح من «العبر» (4/ 43) .

(6/95)


قال ابن بشكوال [1] : كان حافظا للحديث وطرقه وعلله، عارفا برجاله ذاكرا لمتونه ومعانيه، قرأت بخط بعض أصحابي أنه كرر « [صحيح] البخاري» سبعمائة مرة، وكان أديبا شاعرا ديّنا لغويا. قاله في «العبر» [2] .
__________
[1] انظر «الصلة» (2/ 458) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف واختصار تبعا للذهبي في «العبر» .
[2] (4/ 43) .

(6/96)


سنة تسع عشرة وخمسمائة
فيها توفي الإمام الحافظ ألب أرسلان أبو علي الحسن بن الحسين الزّركراني [1] . كان إماما حافظا مؤتمنا، وعاش مائة سنة وتسعا وثلاثين سنة.
قاله ابن ناصر الدّين [2] .
وفيها أبو الحسن بن الفرّاء الموصلي ثم المصري علي بن الحسين ابن عمر. راوي «المجالسة» عن عبد العزيز بن الضرّاب، وقد روى عن كريمة وطائفة، وانتخب عليه السّلفي مائة جزء، مولده سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
وفيها ابن عيذون [3] الهذلي التونسي أبو الحسن علي بن عبد الجبّار، لغوي المغرب.
وفيها أبو عبد الله بن البطائحي محمد بن المأمون، وزير الديار المصرية للآمر. كان أبوه جاسوسا للمصريين فمات وربي محمد هذا يتيما، فصار يحمل في السوق، فدخل مع الحمّالين إلى دار أمير الجيوش، فرآه شابا ظريفا فأعجبه، فاستخدمه مع الفراشين، ثم تقدم عنده، ثم آل أمره إلى
__________
[1] قال ابن ناصر الدّين في «التبيان شرح بديعة البيان» : «وزركران من قرى سمرقند» وانظر «معجم البلدان» (3/ 137) .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (160/ آ- 160/ ب) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «ابن عبدون» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (19/ 531) .

(6/97)


أن ولي الأمر بعده، ثم إنه مالأ أخا الآمر على قتل الآمر [1] ، فأحس الآمر بذلك، فأخذه وصلبه. وكانت أيامه ثلاث سنين.
وفيها أبو البركات بن البخاري- يعني المبخّر- البغدادي [2] المعدّل، هبة الله بن محمد بن علي. توفي في رجب، عن خمس وثمانين سنة. روى عن ابن غيلان، وابن المذهب والتنوخي.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ثم إنه أخر عامل على قتل الآمر» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (4/ 45) مصدر المؤلف.
[2] انظر «العبر» (4/ 45) .

(6/98)


سنة عشرين وخمسمائة
فيها توفي أبو الفتوح الغزّالي أحمد بن محمد الطّوسي الواعظ، شيخ مشهور فصيح مفوّه، صاحب قبول تامّ لبلاغته وحسن إيراده وعذوبة لسانه. وهو أخو الشيخ أبي حامد. وعظ مرّة عند السلطان محمود، فأعطاه ألف دينار. ولكنه كان رقيق الديانة متكلّما في عقيدته، حضر يوسف الهمذاني عنده، فسئل عنه فقال: مدد كلامه شيطانيّ لا رباني. ذهب دينه والدنيا لا تبقى له. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن قاضي شهبة [2] : كان فقيها، غلب عليه الوعظ والميل إلى الانقطاع والعزلة، وكان صاحب عبارات وإشارات، حسن النظر، درّس بالنظامية ببغداد لما تركها أخوه زهدا فيها، واختصر «الأحياء» في مجلد سمّاه «لباب الإحياء» وله مصنف آخر سمّاه «الذخيرة في علم البصيرة» توفي بقزوين سنة عشرين وخمسمائة، وقد تكلّم فيه غير واحد وجرّحوه. انتهى بحروفه.
وذكره ابن النجار في «تاريخ بغداد» [3] فقال: كان قد قرأ القارئ بحضرته قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ 39: 53 [الزمر: 53] الآية، فقال: شرّفهم بياء الإضافة إلى نفسه، بقوله يا عبادي، ثم أنشد:
__________
[1] (4/ 45- 46) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 309- 310) .
[3] انظر «المستفاد من ذيل تاريخ بغداد» ص (186) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.

(6/99)


وهان عليّ اللّوم في جنب حبّها ... وقول الأعادي إنه لخليع
أصمّ إذا نوديت باسمي وإنني ... إذا قيل لي يا عبدها لسميع
انتهى.
وفيها آق سنقر البرسقي، قسيم الدولة، ولي إمرة الموصل والرحبة للسلطان محمود، ثم ولي بغداد، ثم سار إلى الموصل ثم كاتبه الحلبيون، فملك [1] حلب ودفع عنها الفرنج، قتلته الإسماعيلية وكانوا عشرة، وثبوا عليه يوم جمعة بالجامع في ذي القعدة، وكان ديّنا عادلا عالي الهمّة. قتل خلقا من الإسماعيلية.
وفيها أبو بحر الأسدي سفيان بن العاص الأندلسي، محدّث قرطبة.
روى عن ابن عبد البرّ، وأبي العبّاس العذري، وأبي الوليد الباجي، وكان من جلّة [2] العلماء. عاش ثمانين سنة.
وفيها صاعد بن سيّار أبو العلاء الإسحاقي- نسبة إلى إسحاق جدّ- الهروي الدهّان. قرأ عليه ابن ناصر ببغداد «جامع الترمذي» عن أبي عامر الأزدي.
قال السمعاني [3] : كان حافظا متقنا، كتب الكثير، وجمع الأبواب، وعرف الرّجال.
وقال ابن ناصر الدّين [4] : كان حافظا، متقنا، مكثرا، حسن الحال.
__________
[1] في «العبر» : «فتملك» .
[2] في «آ» : «جملة» .
[3] قلت: ذكر هذا النقل الذهبي في «العبر» (4/ 47) وفي «سير أعلام النبلاء» (19/ 590) بزيادة «واسع الرواية» وقد وهم محققه الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط حفظه الله، فأحال على «الأنساب» (1/ 223) ولم يصب في ذلك، فإن هذا النقل أخذه الذهبي عن «الذيل» وليس عن «الأنساب» وما جاء في «الأنساب» إنما هو أول النقل فقط.
[4] في «التبيان شرح بديعة البيان» (160/ ب) .

(6/100)


وفيها أبو محمد بن عتّاب عبد الرحمن بن محمد بن عتّاب القرطبي، مسند الأندلس. أكثر عن أبيه، وعن حاتم الطرابلسي، وأجاز له مكي بن أبي طالب والكبار، وكان عارفا بالقراءات، واقفا على كثير من التفسير، واللغة، والعربية، والفقه، مع الحلم، والتواضع، والزهد، وكانت الرحلة إليه. توفي في جمادى الأولى عن سبع وثمانين سنة.
وفيها أبو الفتح أحمد بن علي بن برهان- بفتح الباء- الشافعي [1] .
ولد ببغداد في شوال، سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وتفقه على الغزالي، والشّاشي، وإلكيا [2] الهرّاسي، وبرع في المذهب، وفي الأصول، وكان هو الغالب عليه، وله فيه التصانيف المشهورة، منها «البسيط» و «الوسيط» و «الوجيز» وغيرها. درّس بالنظامية شهرا واحدا، وكان ذكيا يضرب به المثل في حلّ [3] الإشكال.
قال المبارك بن كامل: كان خارق الذكاء، لا يكاد يسمع شيئا إلّا حفظه، ولم يزل يبالغ في الطلب، والتحقيق، وحلّ المشكلات، حتى صار يضرب به المثل في تبحره في الأصول والفروع، وصار علما من أعلام الدّين. قصده الطلاب من البلاد، حتّى صار جميع نهاره وقطعة من ليله يستوعب في الإشتغال وإلقاء الدروس.
توفي سنة عشرين وخمسمائة. كذا قاله ابن خلّكان [4] .
والمعروف أنه توفي سنة ثمان عشرة، قيل: في ربيع الأول، وقيل: في
__________
[1] لفظة «الشافعي» لم ترد في «آ» و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة.
[2] أقول: ضبطوه بهمزة مكسورة، ولام ساكنة، ثم كاف مكسورة بعدها ياء، ومعناه: الكبير القدر، بلغة الفرس، وهو علي بن محمد بن علي الطبري، الملقب بعماد الدين. كبير علماء الشافعية في عصره. (ع) .
[3] لفظة «حلّ» لم ترد في «آ» .
[4] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 99) .

(6/101)


جمادى الأولى نقل عنه في «الروضة» [1] في كتاب القضاء أن العامي لا يلزمه التقيد بمذهب [2] معيّن، ورجحه الإمام [3] . قاله جميعه ابن قاضي شهبة [4] .
وفيها أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد المالكيّ، قاضي الجماعة بقرطبة ومفتيها. روى عن أبي علي الغسّاني، وأبي مروان بن سرّاج، وخلق، وكان من أوعية العلم. له تصانيف مشهورة، عاش سبعين سنة. قاله في «العبر» [5] .
وفيها أبو عبد الله محمد بن بركات بن هلال الصّعيدي المصري، النحوي اللغوي، البحر الحبر، وله مائة سنة وثلاثة أشهر. توفي في ربيع الآخر. روى عن عبد العزيز الضرّاب، والقضاعي، وسمع «البخاريّ» من كريمة بمكّة. قاله في «العبر» [6] .
وفيها أبو بكر الطّرطوشي- وطرطوشة من نواحي الأندلس- محمد بن الوليد القرشي الفهري الأندلسي المالكي، المعروف بابن أبي زيد. نزيل الإسكندرية، وأحد الأئمة الكبار. أخذ عن أبي الوليد الباجي، ورحل فأخذ «السنن» [7] عن أبي على التّستري، وسمع ببغداد من رزق الله التميمي وطبقته، وتفقه على أبي بكر الشّاشي.
__________
[1] انظر «روضة الطالبين» للإمام النووي (11/ 117) بتحقيقي بالاشتراك مع زميلي الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، طبع المكتب الإسلامي بدمشق. (ع) .
[2] في «آ» و «ط» و «المنتخب» (107/ ب) : «التقليد لمذهب» وما أثبته من «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 208) .
[3] يعني الإمام النووي.
[4] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 307- 309) .
[5] (4/ 47) .
[6] (4/ 47) .
[7] يعني «سنن أبي داود» كما جاء ذلك مبينا في «سير أعلام النبلاء» (19/ 490) .

(6/102)


قال ابن بشكوال [1] : كان إماما، عالما، زاهدا، ورعا، [ديّنا] متقشفا، متقللا [من الدنيا] راضيا باليسير.
وقال ابن خلّكان [2] : كان يقول: إذا عرض لك أمران، أمر دنيا وأمر أخرى، فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى.
وسكن الشام مدّة، ودرّس بها، وكان كثيرا ما ينشد:
إنّ لله عبادا فطنا ... طلّقوا الدّنيا وخافوا ألفتنا
فكّروا فيها فلمّا علموا ... أنها ليست لحيّ وطنا
جعلوها لجّة واتّخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا
ولما دخل على الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش، بسط مئزرا كان معه تحته، وجلس عليه، وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني، فوعظ الأفضل حتّى بكى، وأنشده:
يا ذا الذي طاعته قربة ... وحقّه مفترض واجب
إنّ الذي شرّفت من أجله ... يزعم هذا أنّه كاذب
وأشار إلى النصراني، فأقامه الأفضل من موضعه. وكان الأفضل قد أنزل الشيخ في مسجد شقيق الملك بالقرب من الرصد، وكان يكرهه، فلما طال مقامه [به] ضجر وقال لخادمه: إلى متى نصبر؟ اجمع لي المباح، فجمع له، فأكله ثلاثة أيام، فلما كان عند صلاة المغرب قال لخادمه: رميته الساعة، فلما كان من الغد ركب الأفضل فقتل، وولي بعده المأمون ابن البطائحي، فأكرم الشيخ إكراما كثيرا، وصنّف له كتاب «سراج الملوك» وهو حسن في بابه.
__________
[1] انظر «الصلة» (2/ 575) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 262- 264) .

(6/103)


وله غيره. وله طريقة في الخلاف، ومن المنسوب إليه:
إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بإنجازها مغرم
فأرسل بأكمه خلّابة ... به صمم أفطس [1] أبكم
ودع عنك كل رسول سوى ... رسول يقال له الدّرهم
وقال الطّرطوشي: كنت ليلة نائما في بيت المقدس، فبينما أنا في جنح الليل، إذ سمعت صوتا حزينا [2] ينشد:
أخوف ونوم إنّ ذا لعجيب ... ثكلتك من قلب فأنت كذوب
أما وجلال الله لو كنت صادقا ... لما كان للإغماض منك نصيب
قال: فأيقظ النوّام وأبكى العيون.
وكانت ولادة الطّرطوشي المذكور سنة إحدى وخمسين وأربعمائة تقريبا، وتوفي ثلث الليل الآخر سادس عشري جمادى الأولى سنة عشرين وخمسمائة بثغر الإسكندرية، وصلى عليه ولده محمد. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «أغطش» .
[2] في «آ» و «ط» : «صوت حزين» وما أثبته من «وفيات الأعيان» مصدر المؤلف.

(6/104)