شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وعشرين وخمسمائة
فيها توفي أبو السعادات أحمد بن أحمد بن عبد الواحد [1] الهاشمي العبّاسي المتوكلي. شريف صالح خيّر. روى عن الخطيب، وابن المسلمة، وعاش ثمانين سنة. ختم التراويح ليلة سبع وعشرين في رمضان، ورجع إلى منزله فسقط من السطح فمات، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو الحسن الدّينوري علي بن عبد الواحد. روى عن القزويني، وأبي محمد الخلّال وجماعة، وهو أقدم شيخ لابن الجوزي. توفي في جمادي الآخرة.
وفيها أبو الحسن بن الفاعوس علي بن المبارك بن علي البغدادي الحنبلي الإسكاف الزاهد. كان يقصّ يوم الجمعة، وللناس فيه عقيدة لصلاحه وتقشّفه وإخلاصه. روى عن القاضي أبي يعلى وغيره، وسمع منه أبو المعمر الأنصاري، وكان يأتي ساقي الماء في مجلس إملائه فيتناول منه ليوهم الحاضرين أنه مفطر وأنه يشرب، ويكون صائما غالبا.
توفي ابن الفاعوس ليلة السبت تاسع عشر شوال وصلّي عليه من الغد بجامع القصر، وكان يوما مشهودا، ودفن قريبا من قبر الإمام أحمد، رضي الله
__________
[1] في «آ» : «ابن عبد الوهاب» وهو خطأ.

(6/105)


عنه. وغلّقت في ذلك اليوم أسواق بغداد، وكان أهل بغداد يصيحون في جنازته: هذا يوم سنّيّ حنبليّ، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو العزّ القلانسيّ محمد بن الحسين بن بندار الواسطي، مقرئ العراق، وصاحب التصانيف في القراءات. أخذ عن أبي يعلى غلام الهرّاس، وسمع من أبي جعفر بن المسلمة، وفيه ضعف وكلام. توفي في شوال عن خمس وثمانين سنة.
وفيها أبو محمد عبد الله بن محمد البطليوسي- بفتحتين وسكون اللام نسبة إلى بطليوس مدينة بالأندلس- النحوي كان عالما بالآداب واللغات، متبحرا فيها متبحرا في معرفتها وإتقانها، سكن مدينة بلنسية، وكان الناس يجتمعون إليه، ويقرؤون عليه، ويقتبسون منه، وكان حسن التعليم، جيد التفهيم، ثقة، ضابطا، ألّف كتبا نافعة ممتعة، منها كتاب «المثلث» في مجلدين أتى فيه بالعجائب، ودلّ على اطلاع عظيم [1]- فإن مثلثة قطرب في كراسة واحدة، واستعمل فيها الضرورة وما لا يجوز وغلط في بعضها- وله كتاب «الاقتضاب في شرح أدب الكتاب» وشرح «سقط الزند» لأبي العلاء [المعري شرحا استوفى فيه المقاصد، وهو أحسن من شرح أبي العلاء] [2] صاحب «الديوان» وله كتاب في الحروف الخمسة [3] وهي السين والصاد والضاد والظاء والدال، جمع فيه كل غريب، وله كتاب «الحلل في شرح أبيات الجمل» و «الخلل في أغاليط الجمل» أيضا وكتاب «التنبيه على
__________
[1] وقد طبع القسم الأول منه في وزارة الثقافة والإعلام في العراق بتحقيق الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي.
[2] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[3] واسمه «الفرق بين الحروف الخمسة» وقد نشر أول مرة في مكتبة المتنبي في القاهرة عام 1402 هـ بتحقيق الدكتور حمزة عبد الله النشرتي، وهي نشرة سقيمة كثيرة الخطأ، ثم نشر نشرة جيدة في دار المأمون للتراث بدمشق بتحقيق الأستاذ عبد الله الناصري.

(6/106)


الأسباب الموجبة لاختلاف الأمة» وكتاب «شرح الموطأ» وغير ذلك. وقيل:
إنه لم يخرج من المغرب. وبالجملة فكل شيء تكلم فيه ففي غاية الجودة، وله نظم حسن، فمن ذلك قوله:
أخو العلم حيّ خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التّراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظنّ من الأحياء وهو عديم
وله في طول الليل:
أرى [1] ليلنا شابت نواصيه كبرة [2] ... كما شبت أم في الجوّ روض بهار
كأنّ الليالي السّبع في الجوّ جمّعت ... ولا فصل فيما بينها لنهار
ومولده سنة أربع وأربعين وأربعمائة بمدينة بطليوس، وتوفي في منتصف رجب بمدينة بلنسية.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» (3/ 97) : «ترى» .
[2] في «آ» و «ط» : «كرة» وما أثبته من «وفيات الأعيان» (3/ 97) .

(6/107)


سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة
فيها توفي طغتكين أتابك ظهير الدّين، وكان من أمراء تتش السلجوقي بدمشق، فزوّجه بأم ولده دقاق ثم إنه صار أتابك دقاق، ثم تملّك دمشق، وكان شهما، شجاعا، مهيبا، مدبرا، سائسا، له مواقف مشهورة [1] مع الفرنج توفي في صفر، ودفن بتربته قبل المصلّى. وملك بعده ابنه تاج الملوك بوري، فعدل ثم ظلم. قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو محمد الشّنتريني الإشبيلي الحافظ، عبد الله بن أحمد.
روى «الصحيح» [3] عن ابن منظور [4] ، عن أبي ذرّ. وسمع من حاتم بن محمد وجماعة.
قال ابن بشكوال [5] : كان حافظا للحديث وعلله، عارفا برجاله، وبالجرح والتعديل، ثقة، كتب الكثير، واختص بأبي علي الغسّاني، وله تصانيف في الرجال.
توفي في صفر، عن ثمان وسبعين سنة.
__________
[1] كذا في «ط» و «العبر» : «مشهورة» وفي «آ» : «مشهودة» بالدال.
[2] (4/ 51) .
[3] يعني «صحيح البخاري» كما جاء ذلك مبينا في «سير أعلام النبلاء» (19/ 578) .
[4] تحرف في «ط» إلى «ابن منصور» .
[5] انظر «الصلة» (1/ 293) .

(6/108)


وفيها الوزير أبو علي الحسن بن علي بن صدقة جلال الدّين، وزير المسترشد، كان ذا حزم وعقل ودهاء ورأي وأدب وفضل.
وفيها أبو القاسم النشادري [1] موسى بن أحمد بن محمد النشادري [1] ، الفقيه الحنبلي. كان يذكر أنه من أولاد أبي ذرّ الغفاري، رضي الله عنه.
سمع الحديث الكثير، وقرأ بالروايات، وتفقّه على أبي الحسن بن الزّاغوني وناظر.
قال ابن الجوزي [2] : رأيته يتكلم كلاما حسنا.
توفي رابع رجب، ودفن بمقبرة الإمام أحمد.
__________
[1] في «ط» : «النشاوري» وفي «المنتظم» لابن الجوزي: «السّامري» وما جاء في «آ» موافق لما في «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 176) و «المنهج الأحمد» (2/ 274) .
[2] انظر «المنتظم» (10/ 10) .

(6/109)


سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة
فيها قتل بدمشق نحو ستة آلاف ممن كان يرمى بعقيدة الإسماعيلية، وكان قد دخل الشام بهرام الأسدآباذي وأضل خلقا، ثم إن طغتكين ولّاه بانياس، فكان سيئة من سيئات طغتكين، وأقام بهرام له داعيا بدمشق، فكثر أتباعه بدمشق، وملك هو عدة حصون بالشام، منها القدموس. وسلّم بهرام بانياس للفرنج.
وفيها توفي جعفر بن عبد الواحد أبو الفضل الثقفي الأصبهاني، الرئيس. روى عن ابن ريذة [1] وطائفة، وعاش تسعا وثمانين سنة.
وفيها المردغاني، الوزير كمال الدّين طاهر بن سعد، وزير تاج الملوك بوري بن طغتكين، قتله وعلّق رأسه على القلعة.
وفيها أبو سعد النّسفي عبد الله بن أبي المظفّر بن أبي نعيم بن أبي تمّام بن الحارث، القاضي الحافظ. أحد حفّاظ سمرقند وما والاه. قاله ابن ناصر الدّين [2] .
وفيها أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن الإمام أبي بكر البيهقي.
__________
[1] تحرفت في «آ» إلى «ابن زيدة» وفي «العبر» بطبعتيه إلى «ابن مندة» والصواب ما جاء في «ط» وانظر «التحبير في المعجم الكبير» (1/ 160) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 527) .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (160/ ب) وقد ترجم له هناك بأطول مما هنا.

(6/110)


سمع الكتب من جدّه، ومن أبي يعلى الصابوني، وجماعة، وحدّث ببغداد، وكان قليل الفضيلة، توفي في جمادى الأولى، وله أربع وسبعون سنة.
وفيها يوسف بن عبد العزيز أبو الحجّاج الميورقيّ [1] ، الفقيه العلّامة. نزيل الإسكندرية، وأحد الأئمة الكبار، تفقّه ببغداد على إلكيا الهرّاسي، وأحكم الأصول والفروع، وروى «البخاري» عن واحد عن أبي ذرّ، و «مسلما» عن أبي عبد الله الطبري، وله «تعليقة» في الخلاف.
توفي في آخر السنة.
قال السّلفي: حدّث ب «الترمذي» وخلّط في إسناده.
__________
[1] تحرفت نسبته في «آ» و «ط» إلى «المنورقي» والتصحيح من «العبر» (4/ 54) و «النجوم الزاهرة» (5/ 235) .

(6/111)


سنة أربع وعشرين وخمسمائة
فيها كما قال في «العبر» [1] : ظهرت ببغداد عقارب طيّارة، قتلت جماعة أطفال.
وفيها أبو إسحاق الغزّيّ إبراهيم بن عثمان، شاعر العصر، وحامل لواء القريض، وشعره كثير سائر متنقل في بلد الجبال، وخراسان. وتوفي بناحية بلخ، وله ثلاث وثمانون سنة. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن النجّار في «تاريخ بغداد» [3] : هو إبراهيم بن عثمان بن عيّاش بن محمد بن عمر بن عبد الله الأشهبي الغزّي الكلبي، الشاعر المشهور، شاعر محسن.
وذكره الحافظ ابن عساكر في «تاريخ دمشق» [4] فقال: دخل دمشق [5]
__________
[1] (4/ 55) .
[2] (4/ 55) .
[3] هو «ذيل تاريخ بغداد» طبعت منه بعض الأجزاء في حيدر أباد الدكن بالهند تضم تراجم من (حرف العين) فقط.
[4] نقل المؤلف كلام الحافظ ابن عساكر عن «وفيات الأعيان» (1/ 57- 62) وهو في «تاريخ دمشق» (2/ 469- 470) مصورة دار البشير بعمّان مختصرا ولعل ابن خلّكان قد اطلع على نسخة أخرى من «تاريخ دمشق» والله أعلم.
[5] قوله: «فقال: دخل دمشق» سقط من «آ» .

(6/112)


وسمع بها من الفقيه نصر المقدسي، سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، ورحل إلى بغداد، وأقام بالمدرسة النظامية سنين كثيرة، ومدح ورثى غير واحد من المدرسين بها وغيرهم، ثم رحل إلى خراسان وامتدح بها جماعة من رؤسائها، وانتشر شعره هناك، وذكر له عدة مقاطيع من الشعر، وأثنى عليه.
انتهى.
وله ديوان شعر اختاره بنفسه وذكر في خطبته أنه ألف بيت.
وقال العماد الكاتب: جاب [1] البلاد، وأكثر النّقل والحركات، وتغلغل في أقطار خراسان وكرمان، ولقي الناس، ومدح ناصر الدّين مكرم بن العلاء، وزير كرمان بقصيدته البائية التي يقول فيها، ولقد أبدع:
حملنا من الأيام ما لا نطيقه ... كما حمل العظم الكسير العصائبا
ومنها في قصر الليل وهو معنى لطيف:
وليل رجونا أن يدبّ عذاره ... فما اختطّ حتّى صار بالفجر شائبا
ومن جيد شعره المشهور قوله:
قالوا هجرت الشّعر قلت ضرورة ... باب الدّواعي والبواعث مغلق
خلت الدّيار فلا كريم يرتجى ... منه النّوال ولا مليح يعشق
ومن العجائب أنه لا يشترى ... ويخان فيه مع الكساد ويسرق
[2] ومن شعره وفيه صناعة حسنة:
وخز الأسنّة والخضوع لناقص ... أمران في ذوق النّهى مرّان
__________
[1] في «آ» : «جال» .
[2] رواية البيت في «مختصر تاريخ دمشق» (4/ 82) اختصار وتحقيق الأستاذ الفاضل إبراهيم الصالح، طبع دار الفكر بدمشق:
ومن العجائب أنه لا يشترى ... ومع الكساد يخان فيه ويسرق

(6/113)


والرّأي أن يختار فيما دونه ال ... مرّان وخز أسنّة المرّان
وله:
وجفّ النّاس حتّى لو بكينا ... تعذّر ما تبلّ به الجفون
فما يندى لممدوح بنان ... ولا يندى لمهجوّ جبين
ولد الغزّيّ هذا بغزة هاشم سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وتوفي ما بين مرو وبلخ من بلاد خراسان، ونقل إلى بلخ ودفن بها، ونقل عنه أنه كان يقول لما حضرته الوفاة: أرجو أن يغفر لي ربي لثلاثة أشياء: كوني من بلد الإمام الشافعي، وأني شيخ كبير، وأني غريب، رحمه الله تعالى وحقّق رجاءه.
وفيها الإخشيذ إسماعيل بن الفضل الأصبهاني السرّاج التاجر. قرأ القرآن على جماعة وروى الكثير عن ابن عبد الرحيم، وأبي القاسم بن أبي بكر الذكواني، وطائفة، وعمّر ثمانيا وثمانين سنة.
وفيها البارع، وهو أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الوهاب البغدادي الدبّاس، المقرئ الأديب الشاعر، وهو من ذريّة أبي القاسم بن عبيد الله [1] وزير المعتضد. قرأ القرآن على أبي بكر محمد بن علي الخيّاط وغيره، وروى عن أبي جعفر بن المسلمة، وله مصنفات وشعر فائق.
قال ابن خلّكان [2] : كان نحويّا لغويّا مقرئا، حسن المعرفة بصنوف من الآداب، وأفاد خلقا كثيرا، خصوصا بإقراء القرآن الكريم.
وهو من بيت الوزارة، فإن جدّه القاسم كان وزير المعتضد والمكتفي
__________
[1] تحرفت في «العبر» بطبعتيه إلى «عبد الله» فتصحح، وانظر «معرفة القراء الكبار» (1/ 476) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 181- 184) .

(6/114)


بعده، وهو الذي سمّ ابن الرّومي الشاعر، وعبيد الله كان وزير المعتضد أيضا قبل ابنه القاسم، وسليمان بن وهب الوزير تغني شهرته عن ذكره.
والبارع المذكور من أرباب الفضائل، وله مؤلفات حسان وتأليف غريبة، وديوان شعر جيد. وكان بينه وبين ابن الهبّارية مداعبات لطيفة، فإنهما كانا رفيقين ومتّحدين في الصحبة.
ومن شعر البارع:
أفنيت ماء الوجه من طول ما ... أسأل من لا ماء في وجهه
أنهي إليه شرح حالي الذي ... يا ليتني متّ ولم أنهه
فلم ينلني كرما رفده ... ولم أكد أسلم من جبهه
والموت من دهر نحاريره ... ممتدة الأيدي إلى بلهه
وكانت ولادته في عاشر صفر سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة ببغداد.
وتوفي يوم الثلاثاء سابع جمادى الآخرة، وقيل: الأولى، وكان قد عمي في آخر عمره، رحمه الله.
وفيها ابن الغزال أبو محمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن الغزال المصري [1] المجاور، شيخ صالح مقرئ، قد سمع السّلفيّ في سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة من إسماعيل الحافظ عنه. سمع القضاعي، وكريمة [2] ، وعمّر دهرا.
وفيها فاطمة الجوزدانية أم إبراهيم بنت عبد الله بن أحمد بن القاسم ابن عقيل الأصبهانية. سمعت من ابن ريذة «معجمي» الطبراني [3] سنة خمس
__________
[1] انظر «العقد الثمين» (5/ 242- 243) .
[2] سمع منها «صحيح البخاري» كما جاء ذلك مبينا في «العقد الثمين» .
[3] وهما «المعجم الكبير» و «المعجم الصغير» ذكر ذلك الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (19/ 504) .

(6/115)


وثلاثين، وعاشت تسعا وتسعين سنة، وتوفيت في شعبان.
وفيها أبو الأعزّ قراتكين بن الأسعد الأزجي. روى عن الجوهري وجماعة، وكان عاميّا، توفي في رجب ببغداد.
وفيها أبو عامر العبدري [1] محمد بن سعدون بن مرجّى الميورقي، الحافظ الفقيه الظاهري. نزيل بغداد. أدرك أبا عبد الله البانياسي، والحميدي، وهذه الطبقة.
قال ابن عساكر: كان فقيها على مذهب داود، وكان أحفظ شيخ لقيته.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: هو أنبل من لقيته.
وقال ابن ناصر: كان فهما، عالما، متعففا مع فقره.
وقال السّلفيّ: كان من أعيان علماء الإسلام، متصرفا في فنون من العلوم.
وقال ابن عساكر: بلغني أنه قال: أهل البدع يحتجّون بقوله تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ 42: 11 [الشورى: 11] أي في الإلهية، فأما في الصّورة، فمثلنا. ثم يحتج بقوله تعالى: [يا نِساءَ النَّبِيِ] لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ من النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ 33: 32 أي في الحرمة.
وقال ابن ناصر الدّين [2] : كان من أعيان الحفّاظ، لكن تكلم في مذهبه في القرآن ابن ناصر، وحطّ عليه بما لا يثبت عنه [3] ابن عساكر.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «العبدوي» والتصحيح من «العبر» (4/ 57) و «سير أعلام النبلاء» (19/ 579) وانظر تتمة ترجمته فيه.
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (161/ آ) وتمام قوله فيه: «كان فقيها ظاهريا من أعيان الحفاظ والأئمة العلماء المتقنين الأيقاظ.
[3] لفظة «عنه» سقطت من «آ» .

(6/116)


وفيها محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي البربري، المدعي أنه علويّ، حسنيّ، وأنه المهدي. رحل إلى المشرق، ولقي الغزالي وطائفة، وحصّل فنونا [1] من العلم، والأصول، والكلام، وكان رجلا ورعا ساكنا ناسكا في الجملة. زاهدا متقشفا شجاعا جلدا عاقلا، عميق الفكر، بعيد الغور، فصيحا مهيبا، لذته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، ولكن جرّه إقدامه وجرأته على حب الرئاسة والظهور وارتكاب المحظور، ودعوى الكذب والزور، من أنه حسنيّ، وهو هرغيّ [2] بربريّ وأنّه إمام [3] معصوم، وهو بالإجماع مخصوم. فبدأ أولا في الإنكار بمكّة، فآذوه، فقدم مصر وأنكر، فطردوه، فأقام بالثغر مدّة فنفوه، وركب البحر، فشرع ينكر على أهل المركب ويأمر وينهى، ويلزمهم بالصلاة. وكان مهيبا وقورا بزيق الفقر، فنزل بالمهديّة في غرفة، فكان لا يرى منكرا أو لهوا إلّا غيره بيده ولسانه، فاشتهر وصار له زبون وشباب يقرؤون عليه في الأصول، فطلبه أمير البلد يحيى بن باديس وجلس له، فلما رأى حسن سمته وسمع كلامه احترمه وسأله الدعاء. فتحول إلى بجاية، وأنكر بها، فأخرجوه، فلقي بقرية ملّالة عبد المؤمن بن علي شابا مختطا مليحا. فربطه عليه، وأفضى إليه بسرّه وأفاده جملة من العلم، وصار معه نحو خمسة [4] أنفس، فدخل مرّاكش، وأنكر كعادته، فأشار مالك بن وهيب الفقيه على علي بن يوسف بن تاشفين بالقبض عليهم سدّا للذريعة، وخوفا من الغائلة، وكانوا بمسجد داثر بظاهر مرّاكش،
__________
[1] في «العبر» بطبعتيه: «فنا» .
[2] قال ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (5/ 55) : الهرغيّ: بفتح الهاء وسكون الراء، وبعدها غين معجمة، هذه النسبة إلى هرغة، وهي قبيلة كبيرة من المصامدة في جبل السوس في أقصى المغرب تنسب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، يقال: إنها نزلت في ذلك المكان عند ما فتح المسلمون البلاد على يد موسى بن نصير.
[3] لفظة «إمام» سقطت من «ط» .
[4] في «ط» : «خمس» .

(6/117)


فأحضرهم وعقد لهم مجلسا حافلا، فواجهه ابن تومرت بالحقّ المحض ولم يحابه [1] ، ووبّخه ببيع الخمر جهارا وبمشي الخنازير التي للفرنج بين أظهر المسلمين، وبنحو ذلك من الذنوب، وخاطبه بكيفية ووعظ، فذرفت عينا الملك وأطرق، فقويت التهمة عند ابن وهيب وأشباهه من العقلاء، وفهموا مرام ابن تومرت. فقيل للملك: إن لم تسجنهم وتنفق عليهم كل يوم دينارا وإلّا أنفقت عليهم خزائنك [2] ، فهوّن الوزير أمرهم لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كانَ مَفْعُولًا 8: 42 [الأنفال: 42] . فصرفه الملك وطلب منه الدعاء، واشتهر اسمه وتطلعت النفوس إليه، وسار إلى أغمات، وانقطع بجبل تينملّ [3] ، وتسارع إليه أهل الجبل يتبرّكون به. فأخذ يستميل الشباب الأغتام [4] والجهلة الشجعان، ويلقي إليهم ما في نفسه، وطالت مدته، وأصحابه يكثرون، وهو يأخذهم بالديانة والتقوى، ويحضهم على الجهاد وبذل النفوس في الحق، وورد أنه كان حاذقا في ضرب الرّمل، قد وقع بجعفر فيما قيل، واتفق لعبد المؤمن أنّه كان قد رأى أنه يأكل في صحفة مع ابن تاشفين ثم اختطف [5] الصحفة منه، فقال له المعبّر: هذه الرؤيا لا ينبغي أن تكون لك،
__________
[1] في «العبر» بطبعتيه: «يجابه» بالجيم، ومعنى «ولم يحابه» من المحاباة، والله تعالى أعلم.
[2] في «العبر» بطبعتيه: «خزانتك» .
[3] في «العبر» بطبعتيه: «اتينمل» وقد جاءت عند المؤلف بلام واحدة كما هي عند ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (5/ 48) وقد ضبطها فيه (5/ 55) بكسر التاء المثناة من فوقها، وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون ثم ميم مفتوحة ولام مشددة. وفي «معجم البلدان» (2/ 69) وعند المقري في «نفح الطيب» (1/ 615) : «تينملل» بلامين، وقال ياقوت: الميم مفتوحة، واللام الأولى مشددة مفتوحة.
[4] في «آ» و «ط» : «الأغنام» وهو تصحيف، والأغتام، جمع غتمي.
جاء في «لسان العرب» (غتم) : الغتمة عجمة في المنطق، ورجل أغتم وغتمي: لا يفصح شيئا، وامرأة غتماء، وقوم غتم وأغتام، وانظر «أساس البلاغة» للزمخشري (غتم) . وقد تفضّل بكتابة هذا التعليق صديقي الفاضل الأستاذ المحقق يحيى مير علم حفظه الله تعالى وزاده توفيقا.
[5] في «العبر» بطبعتيه: «ثم اختطفت» .

(6/118)


بل هي لرجل يخرج على ابن تاشفين، ثم يغلب على الأمر.
وكانت تهمة ابن تومرت في إظهار العقيدة والدعاء إليها، وكان أهل المغرب على طريقة السلف ينافرون الكلام وأهله.
ولما كثرت أصحابه أخذ يذكر المهديّ ويشوّق إليه، ويروي الأحاديث التي وردت فيه. فتلهفوا على لقائه، ثم روى ظمأهم وقال: أنا هو، وساق لهم نسبا ادّعاه وصرّح بالعصمة، وكان على طريقة مثلي لا تنكر [1] معها العصمة، فبادروا إلى متابعته، وصنّف لهم مصنفات مختصرات، وقوي أمره في سنة خمس عشرة وخمسمائة.
فلما كان في [سنة] سبع عشرة جهّز عسكرا من المصامدة أكثرهم من أهل تينملّ، والسّوس، وقال: اقصدوا هؤلاء المارقين [من] المرابطين، فادعوهم إلى إزالة البدع والإقرار بالإمام المعصوم، فإن أجابوكم وإلّا فقاتلوهم.
وقدم عليهم عبد المؤمن، فالتقاهم الزّبير ولد أمير المسلمين، فانهزمت المصامدة [2] ونجا عبد المؤمن، ثم التقوهم مرّة أخرى فنصرت الصامدة واستفحل أمرهم، وأخذوا في شنّ الإغارات على بلاد ابن تاشفين، وكثر الداخلون في دعوتهم، وانضم إليهم كل مفسد ومريب، واتّسعت عليهم الدّنيا، وابن تومرت في ذلك كله لون واحد من الزهد، والتقلل، والعبادة، وإقامة السّنن والشعائر، لولا ما أفسد القضية بالقول بنفي الصفات كالمعتزلة، وبأنّه المهدي، وبتسرعه في الدماء، وكان ربما كاشف أصحابه ووعدهم بأمور فتوافق، فيفتنون به، وكان كهلا أسمر عظيم الهامة ربعة حديد النظر، مهيبا، طويل الصمت، حسن الخشوع والسمت، وقبره مشهور معظّم، ولم
__________
[1] في «العبر» بطبعتيه: «لا ينكر» .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «المصادمة» والتصحيح من «العبر» (4/ 61) .

(6/119)


يملك شيئا من المدائن، إنما مهّد الأمور وقرّر القواعد فبغته الموت، وكانت الفتوحات والممالك لعبد المؤمن. قاله في «العبر» [1] .
وفيها الآمر بأحكام الله أبو علي منصور بن المستعلي بالله أحمد بن المستنصر بالله معد بن الظاهر بن الحاكم العبيدي الرافضي، صاحب مصر.
كان فاسقا مشتهرا ظالما، امتدت دولته، ولما كبر وتمكّن قتل وزيره الأفضل، وأقام في الوزارة البطائحيّ المأمون، ثم صادره وقتله. ولي الخلافة سنة خمس وتسعين، وهو ابن خمس سنين فانظر إلى هذه الخلافة الباطلة من وجوه:
أحدها: السنّ.
الثاني: عدم النسب، فإن جدّهم دعيّ في بني فاطمة بلا خلاف.
الثالث: أنهم خوارج على الإمام.
الرابع: خبث المعتقد الدائر بين الرفض والزندقة.
الخامس: تظاهره بالفسق.
وكانت أيامه ثلاثين سنة [2] . خرج في ذي القعدة إلى الجيزة فكمن له قوم بالسلاح، فلما مر على الجسر نزلوا عليه بالسيوف، ولم يعقّب، وبايعوا بعده ابن عمّه الحافظ عبد المجيد ابن الأمير محمد بن المستنصر، فبقي إلى عام أربعة وأربعين، وكان الآمر ربعة شديد الأدمة، جاحظ العينين، عاقلا، ماكرا [3] مليح الخطّ. ولقد ابتهج الناس بقتله لفسقه وجوره وسفكه الدماء، وإدمان الفواحش.
وفيها أبو محمد بن الأكفاني هبة الله بن أحمد بن محمد الأنصاري
__________
[1] (4/ 57- 62) .
[2] لفظة «سنة» سقطت من «آ» .
[3] لفظة «ماكرا» سقطت من «العبر» طبع الكويت، واستدركت في «العبر» طبع بيروت.

(6/120)


الدمشقي، الحافظ، وله ثمانون سنة. سمع أباه، وأبا القاسم الحنّائي، وأبا بكر الخطيب، وطبقتهم، ولزم أبا محمد الكتّاني مدة. وكان ثقة فهما، شديد العناية بالحديث والتاريخ، كتب الكثير، وكان من كبار العدول، توفي في سادس المحرم.
وفيها أبو سعد المهراني هبة الله بن القاسم بن عطاء النيسابوري.
روى عن عبد الغافر الفارسي، وأبي عثمان الصابوني، وطائفة، وعاش ثلاثا وتسعين سنة، وكان ثقة جليلا خيّرا. توفي في جمادى الأولى.

(6/121)


سنة خمس وعشرين وخمسمائة
فيها توفي أبو السعود بن المجلّي أحمد بن علي البغدادي البزّاز، شيخ مبارك عامّيّ. روى عن القاضي أبي يعلى، وابن المسلمة، وطبقتهما.
وفيها أبو المواهب بن ملوك الورّاق، أحمد بن محمد بن [عبد الملك البغدادي، عن خمس وثمانين سنة، وكان صالحا خيّرا، روى عن القاضي أبي الطيب، والجوهري] [1] .
وفيها أبو نصر الطّوسي أحمد بن محمد بن عبد القاهر الفقيه، نزيل الموصل. تفقه على الشيخ أبي إسحاق، وسمع من عبد الصمد بن المأمون وطائفة.
وفيها الشيخ حمّاد بن مسلم [2] بن ددّوة الدّبّاس أبو عبد الله الرّحبي الزاهد، شيخ الشيخ عبد القادر الكيلاني. نشأ ببغداد، وكان له معمل للدّبس، وكان أمّيا لا يكتب. له أصحاب وأتباع وأحوال وكرامات. دوّنوا كلامه في مجلدات، وكان شيخ العارفين في زمانه، وكان ابن عقيل يحطّ عليه ويؤذيه. قاله في «العبر» [3] .
__________
[1] ما بين حاصرتين سقط من «آ» و «ط» واستدركته من «العبر» (4/ 64) مصدر المؤلف.
[2] قوله: «ابن مسلم» سقط من «آ» .
[3] (4/ 64) .

(6/122)


وقال السخاوي: كان قد سافر وتغرّب، ولقي المشايخ، وجاهد نفسه بأنواع المجاهدات، وزاول أكثر المهن والصنائع في طلب الحلال، والتورع في الكسب، والتحري، ثم فتح له بعد ذلك خير كثير، وأملى في الآداب، والأعمال، والعلوم المتعلقة بالمعرفة وتصحيح المعاملات شيئا كثيرا، وكان كأنه مسلوب الاختيار، مكاشفا بأكثر الأحوال، ومن كلامه: انظر إلى صنعه تستدل عليه ولا تنظر إلى صنع غيره فتعمى عنه. اللّسان ترجمان القلب والنظر، فإذا زال ما في القلب والنظر من الهوى، كان نطقه حكمة.
والحساب على أخذك من ماله، وهو الحلال، والعقاب [1] على أخذك من مالهم وهو الحرام.
وقال- رضي الله عنه-: من هرب من البلاء لا يصل إلى باب الولاء.
وقال- رضي الله عنه-: ما لأحد في مأكول عليّ منّة، فإنّي بالغت في طلب الرزق الحلال بكد يميني، وعملت في كلّ شيء إلّا أني ما كنت غلاما لقصاب، ولا لوقاد، ولا لكنّاس، فإن هذه الحرف تؤدي إلى إسقاط المروءة.
وكان الشيخ يأكل من النذر، كأن يقول بعضهم: إن سلم مالي، أو ولدي، أو قرابتي، فلله عليّ أن أعطي حمّادا كذا، ثم ترك ذلك لأنه بلغه حديث النّبي- صلّى الله عليه وسلم-: «النّذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل» [2]
__________
[1] سبق قلم ناسخ النسخة «آ» فكتب «والحساب» هنا أيضا وقد وردت في السطر الذي سبقه.
[2] قطعة من حديث رواه البخاري رقم (6692) في الأيمان والنذور: باب الوفاء بالنذر، وقوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ 76: 7 [الإنسان: 7] ، و (6608) في القدر: باب إلقاء العبد النذر إلى القدر، ومسلم رقم (1639) (4) في النذر: باب النهي عن النذور أنه لا يرد شيئا، وأبو داود رقم (3287) في الأيمان والنذور: باب النهي عن النذور، والترمذي رقم (1538) في النذور والأيمان: باب في كراهية النذر، وأحمد في «المسند» (2/ 61 و 235 و 301 و 412 و 463) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

(6/123)


فكره أكل مال البخيل، وصار يأكل بالمنامات، كأن يرى الإنسان في النوم أن قائلا يقول له: أعط حمّادا كذا، فيصبح، ويحمل الذي قيل له إلى الشيخ.
توفي- رحمه الله تعالى- ليلة السبت، الخامس من شهر رمضان، ودفن في الشونيزية، وكان مسلوب الاختيار، تارة زيه زيّ الأغنياء، وتارة زيّ الفقراء، متلون كيف أدير دار، أي شيء كان في يده جاد به، وكانت المشايخ بين يديه كالميت بين يدي الغاسل. انتهى كلام السخاوي ملخصا [1] .
وفيها أبو العلاء زهر بن عبد الملك بن محمد بن مروان [بن] زهر الإيادي الإشبيلي، طبيب الأندلس، وصاحب التصانيف. أخذ عن أبيه، وحدّث عن أبي علي الغسّاني، وجماعة، ونال دنيا عريضة ورئاسة كبيرة، وله شعر رائق، نكب في الآخر من الدولة.
قال ابن الأهدل: له شعر رائق، ورئاسة عظيمة، وأموال عميمة، وهو أحد شيوخ أبي الخطّاب بن دحية، وكان يحفظ شعر ذي الرّمّة، وهو ثلث اللغة، مع معرفة الطب التامة، وأهل بيته كلهم وزراء علماء. انتهى.
وفيها عين القضاة الهمذاني أبو المعالي عبد الله بن محمد الميانجي- بالفتح وفتح النون، نسبة إلى ميانة بلد بأذربيجان- الفقيه العلّامة الأديب، وأحد من كان يضرب به المثل في الذكاء. دخل في التصوف ودقائقه ومعاني إشارات القوم، حتى ارتبط عليه الخلق، ثم صلب بهمذان على تلك الألفاظ الكفرية، نسأل الله العفو. قاله في «العبر» [2] .
وفيها أبو عبد الله الرّازي، صاحب «السداسيات» و «المشيخة» .
__________
[1] قلت: وعقب ابن شقدة في «المنتخب» (108/ آ) بقوله: قلت: وترجمه الشيخ محمود البصروي في «تاريخه» ثم سرد ترجمته عنده.
[2] (4/ 65) .

(6/124)


محمد بن أحمد بن إبراهيم الشاهد، المعروف بابن الحطّاب [1] ، مسند الدّيار المصرية وأحد عدول الإسكندرية. توفي في جمادى الأولى، عن إحدى وتسعين سنة. سمّعه أبوه الكثير من [2] مشيخة مصر: ابن حمّصة، والطّفّال، وأبي القاسم الفارسي، وطبقتهم.
وفيها أبو غالب الماوردي محمد بن الحسن [3] بن علي البصريّ، في رمضان ببغداد، وله خمس وسبعون سنة. روى عن أبي علي التّستري، وأبي الحسن بن النّقور، وطبقتهما. وكان ناسخا فاضلا صالحا. رحل إلى أصبهان، والكوفة، وكتب الكثير، وخرّج «المشيخة» .
وفيها الشيخ الفقيه محمد بن عبدويه المدفون بجزيرة كمران من اليمن ببحر القلزم [4] تفقّه بالشيخ أبي إسحاق ببغداد، وقرأ عليه كتابه «المهذب» ونكته في الأصول والجدل، وهو أول من دخل ب «المهذب» إلى [5] اليمن، وكان سكن عدن، ثم انتقل إلى زبيد في دولة الحبشة، فلما دخل مفضل بن أبي البركات بعسكر من العرب انتهب مالا لابن عبدويه، كان يتجر فيه في جملة من انتهب، ثم خرج إلى كمران وأقام بها إلى أن توفي وقبره هناك مشهور مزور، وكان زاهدا ورعا لا يأكل إلّا رزا يأتي من بلاد الهند، وكان عبيده يسافرون إلى الحبشة، والهند، ومكة، وعدن، للتجارة، فأخلفه الله مالا عن ماله المنهوب، وكان ينفق على طلبة العلم، وكانت طريقته سنّية سنية، وله تصنيف في أصول الفقه يسمى «الإرشاد» وكان له ولد عالم في الأصول والفقه، يسمى عبد الله، تفقّه بأبيه، ومات قبله، وله ذرية
__________
[1] انظر «حسن المحاضرة» (1/ 375) .
[2] لفظة «من» سقطت من «آ» .
[3] لفظة «الحسن» سقطت من «آ» .
[4] يعني البحر الأحمر. انظر «صفة جزيرة العرب» للهمداني ص (92) و (232) .
[5] لفظة «إلى» لم ترد في «ط» و «المنتخب» (108/ ب) .

(6/125)


بمشهده، أخيار أبرار، وابتلي بذهاب بصره، فأتي بقداح [1] فأنشد:
وقالوا قد دهى عينيك سوء ... فلو عالجته بالقدح زالا
فقلت الرّبّ مختبري بهذا ... فإن أصبر أنل منه النّوالا
وإن أجزع حرمت الأجر منه ... وكان خصيصتي منه الوبالا
وإني صابر راض شكور ... ولست مغيّرا ما قد أنالا
صنيع مليكنا حسن جميل ... وليس لصنعه شيء مثالا
وربّي غير متصف بحيف ... تعالى ربّنا عن ذا تعالى
روي [2] أنه لما قال هذه الأبيات أعاد الله عليه بصره. قاله ابن الأهدل.
وفيها السلطان محمود بن السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السّلجوقي، الملقب مغيث الدّين. ولي بعد أبيه سنة اثنتي عشرة، وخطب له ببغداد وغيرها، ولعمه سنجر معا، وكان له معرفة بالشعر، والنحو، والتاريخ، وكان متوقدا ذكاء، قوي المعرفة بالعربية، حافظا للأشعار والأمثال، عارفا بالتواريخ والسّير، شديد الميل إلى أهل العلم والخير، وكان حيص بيص [3] الشاعر قد قصده من العراق، ومدحه بقصيدته الدالية المشهورة، التي أولها:
ألق الحدائج تلق [4] الضّمّر القود ... طال السّرى وتشكّت وخدك البيد
يا ساري الليل لا جدب ولا فرق ... فالنبت أغيد والسلطان محمود
قيل تألفت الأضداد خيفته ... فالمورد الضنك فيه الشاء والسيّد
وهي طويلة من غرر القصائد، وأجازه عليها جائزة سنية.
__________
[1] تحرفت في «ط» إلى «بقراح» .
[2] في «المنتخب» (108/ ب) : «وروي» .
[3] سترد ترجمته في وفيات سنة (574) ص (408- 409) من هذا المجلد.
[4] في «وفيات الأعيان» (5/ 182) : «ترع» .

(6/126)


وكانت السلطنة في آخر [1] أيامه قد ضعفت وقلّت أموالها، حتّى عجزوا عن إقامة وظيفة الفقاعي، فدفعوا له يوما بعض صناديق الخزانة حتّى باعها وصرف ثمنها في حاجته، وكان في آخر مدته قد دخل بغداد، ثم خرج منها [2] فمرض في الطريق، واشتد به المرض، وتوفي يوم الخميس منتصف شوال بباب أصبهان، ودفن بها.
وفيها أبو القاسم بن الحصين هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن العبّاس بن الحسين الشيباني البغدادي، الكاتب الأزرق، مسند العراق.
ولد في ربيع الأول، سنة اثنتين وثلاثين، وسمع ابن غيلان، وابن المذهب، والحسن بن المقتدر، والتنوخي، وهو آخر من حدّث عنهم، وكان ديّنا صحيح السماع، توفي في رابع عشر شوال.
وفيها يحيى بن المشرف بن علي أبو جعفر المصري التمّار. روى عن أبي العبّاس بن نفيس، وكان صالحا من أولاد المحدّثين. توفي في رمضان.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «أواخر» .
[2] في «آ» و «ط» : «عنها» وما أثبتناه من «وفيات الأعيان» .

(6/127)