شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة ست وخمسين
وخمسمائة
فيها توفي أبو حكيم النّهرواني إبراهيم بن دينار بن أحمد بن الحسين بن
حامد بن إبراهيم النّهرواني الرزّاز [1] ، الفقيه الحنبلي، الفرضي
الزاهد، الحكيم الورع.
ولد سنة ثمانين وأربعمائة، وسمع الحديث من أبي الحسن بن العلّاف، وأبي
عثمان بن ملّة، وأبي الخطّاب، وبرع في المذهب، والخلاف، والفرائض،
وأفتى وناظر. وكانت له مدرسة بناها بباب الأزج، وكان يدرّس ويقيم بها،
وفي آخر عمره فوضت إليه المدرسة التي بناها ابن الشمحل [2] بالمأمونية
ودرّس بها أيضا. وقرأ عليه العلم خلق كثير وانتفعوا به، منهم: ابن
الجوزي، وقال: قرأت عليه القرآن والمذهب والفرائض.
وممن قرأ عليه السّامري صاحب «المستوعب» ونقل عنه في تصانيفه.
قال ابن الجوزي: وكان زاهدا، عابدا، كثير الصوم، يضرب به المثل في
الحلم والتواضع، من العلماء العاملين مؤثرا للخمول، ما رأينا له نظيرا
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 159) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 239- 241) و
«المنهج الأحمد» (2/ 322- 325) .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن السمحل» بالسين المهملة، والتصحيح من «ذيل
طبقات الحنابلة» و «المنهج الأحمد» .
(6/294)
في ذلك. يقوم الليل ويصوم النهار، ويعرف
المذهب والمناظرة، وله الورع العظيم. وكان يكسب [1] بيده وإذا خاط ثوبا
فأعطي الأجرة مثلا قيراطا، أخذ منه حبّة ونصفا وردّ الباقي، وقال:
خياطتي لا تساوي أكثر من هذا [2] . ولا يقبل من أحد شيئا.
وقال ابن رجب: صنّف تصانيف في المذهب والفرائض، وشرح «الهداية» كتب منه
تسع مجلدات، ولم يكمله.
وحدّث، وسمع منه جماعة، منهم: ابن الجوزي، وعمر بن علي القرشي الدمشقي،
وله نظم حسن منه، قوله:
يا دهر إن جارت صروفك واعتدت ... ورميتني في ضيقة وهوان
أنّى أكون عليك يوما ساخطا ... وقد استفدت معارف الإخوان
وتوفي يوم الثلاثاء بعد الظهر، ثالث عشر جمادى الآخرة، ودفن قريبا من
بشر الحافي، رحمهما الله تعالى.
وفيها علاء الدّين الحسين بن الحسين الغوري [3] سلطان الغور، وتملّك
بعده ولده سيف الدّين محمد.
وفيها سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي [4] . كان أهوج
أخرق فاسقا بل زنديقا يشرب الخمر في نهار رمضان، قبض [5] عليه الأمراء
في العام الماضي، ثم خنق في ربيع الآخر من السنة.
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» و «المنهج الأحمد» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» :
«يكتب» .
[2] في «ط» : «هذه» .
[3] انظر «الكامل في التاريخ» (11/ 271) و «العبر» (4/ 160) .
[4] انظر «العبر» (4/ 160) .
[5] في «ط» : «فقبض» .
(6/295)
وفيها طلائع بن رزّيك الأرمني ثم المصري
[1] ، الملك الصالح، وزير الدّيار المصرية. غلب على الأمور في سنة تسع
وأربعين، وكان أديبا شاعرا فاضلا شيعيا جوادا ممدّحا. ولما بايع العاضد
زوّجه بابنته ونقّص أرزاق الأمراء، فعملوا عليه بإشارة العاضد وقتلوه
في الدهليز في رمضان، وكان في نصر التشيع كالسكة المحماة. كان يجمع
الفقهاء ويناظرهم على الإمامة وعلى القدر. وله مصنّف في ذلك سمّاه
«الاجتهاد في الردّ على أهل العناد» قرر فيه قواعد الرفض [2] ، وجامع
الصالح الذي بباب زويلة منسوب إليه، وبنى آخر بالقرافة وتربة إلى
جانبه، وهو مدفون بها.
ومن شعره:
ومهفهف ثمل القوام سرت إلى ... أعطافه النّشوات من عينيه
ماضي اللحاظ كأنّما سلّت يدي ... سيفي غداة الروع من جفنيه
قد قلت إذ خطّ العذار بمسكة ... في خده ألفين [3] لا لاميه
ما الشّعر دبّ بعارضيه وإنما ... أصداغه نفضت على خدّيه
النّاس طوع يدي وأمري نافذ ... فيهم وقلبي الآن طوع يديه
فاعجب لسلطان يعمّ بعدله ... ويجوز سلطان الغرام عليه
والله لولا اسم الفرار وأنّه ... مستقبح لفررت منه إليه
وفيها أبو الفتح بن الصّابوني عبد الوهاب بن محمد المالكي [4] المقرئ
الخفّاف، من قرية المالكية [5] . روى عن النّعالي، وابن البطر،
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 526- 529) و «سير أعلام النبلاء» (20/
397- 399) و «العبر» (4/ 160) .
[2] في «ط» : «التشيع» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «ألفيه» .
[4] انظر «العبر» (4/ 160- 161) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 354- 355)
.
[5] قرية على الفرات بالعراق. أنظر «معجم البلدان» (5/ 43) .
(6/296)
وطبقتهما، وكتب، وحصّل، وجمع أربعين حديثا.
وقرأ القراءات على [ابن] بدران [1] الحلواني، وتصدّر للإقراء، وكان
قيّما بالفنّ. توفي في صفر عن أربع وسبعين سنة.
وفيها الوزير جلال الدّين أبو الرضا محمد بن أحمد بن صدقة [2] ، وزر
للراشد بالله، وكان فيه خير ودين. توفي في شعبان، عن ثمان وخمسين سنة.
وفيها ابن المادح [3] أبو محمد، محمد بن أحمد بن عبد الكريم التميمي
البغدادي. روى عن أبي نصر الزّينبي وجماعة، وتوفي في ذي القعدة.
وفيها الخاقان محمود بن محمد التّركي [4] سلطان ما وراء النهر، وابن
بنت السلطان ملكشاه السلجوقي. سار بالغزّ في وسط السنة، وغزا نيسابور
شهرين، وكان كالمقهور مع الغزّ، فهرب منهم إلى صاحب نيسابور المؤيد ثم
خلّاه المؤيّد قليلا وسملة وحبسه.
__________
[1] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «زيدان» والتصحيح من «العبر» و «السير» وما
بين الحاصرتين مستدرك منهما.
[2] انظر «العبر» (4/ 161) .
[3] في «آ» و «ط» : «ابن المارح» بالراء وهو تحريف، والتصحيح من
«العبر» (4/ 161) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 391- 392) .
[4] انظر «العبر» (4/ 161) .
(6/297)
سنة سبع وخمسين
وخمسمائة
فيها توفي أبو يعلى حمزة بن أحمد بن فارس بن كروّس السّلمي الدمشقي [1]
. روى عن نصر المقدسي، ومكّي الرّميلي وجماعة، وكان شيخا مباركا حسن
السمت. توفي في صفر عن أربع وثمانين سنة، وتفرّد برواية «الموطأ» .
وفيها زمرّد خاتون المحترمة [2] صفوة الملوك بنت الأمير جاولي، أخت
الملك دقاق صاحب دمشق لأمه، وزوجة تاج الملك بوري، وأمّ ولديه شمس
الملوك إسماعيل، ومحمود. سمعت من أبي الحسن بن قبيس، واستنسخت الكتب،
وحفظت القرآن، وبنت المدرسة الخاتونية بصنعاء دمشق، ثم تزوّجها أتابك
زنكي، فبقيت معه تسع سنين، فلما قتل حجّت وجاورت بالمدينة ودفنت
بالبقيع، وهي التي ساعدت على قتل ولدها إسماعيل، لما كثر فساده وسفكه
للدماء ومواطأته الفرنج على بلاد المسلمين، ولما جاورت بالمدينة
المنورة قلّ ما بيدها، فكانت تغربل القمح والشعير، وتطحن وتتقوت
بأجرتها، وكانت كثيرة البرّ، والصدقة، والصوم، والصلاة، رحمها الله
تعالى.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 162) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 392- 393) و
«النجوم الزاهرة» (5/ 362) .
[2] انظر «العبر» (4/ 162) و «البداية النهاية» (12/ 245- 246) .
(6/298)
وأما خاتون بنت أنر زوجة الملك نور الدّين،
فتأخرت، ولها مدرسة بدمشق وخانقاه معروفة على نهر بانياس [1] .
وفيها عبد الرحمن بن سالم التّنوخي، الواعظ، اجتمعت له الفصاحة
والصباحة، ومواعظه مبكية مضحكة، وكلماته بالوعد والوعيد مهلكة، إذا وعظ
كانت عباراته أرق من عبرات الباكين، وإذا أنشد كانت غرره مثل ثغور
الضاحكين، فهو كما قال الحريري يقرّع الأسماع بزواجر وعظه، ويطبع
الأسجاع بجواهر لفظه، وكان شحاذا حوّاشا قلما يخلو شركه من صيد، حتّى
لو رآه الحريري لم يذكر أبا زيد.
أنشد في عزاء صدر الدّين إسماعيل شيخ الشيوخ ببغداد:
يا أخلّائي وحقّكم ... ما بقا من بعدكم فرح
أيّ صدر في الزّمان لنا ... بعد صدر الدّين ينشرح
قال ابن عساكر: كان أبوه منجما، وكان عبد الرحمن ينشد الشعر في
الأسواق، خرج إلى بغداد وأظهر الزهد وعاد إلى دمشق، وصعد إليه على
المنبر طفل فأمده على يديه وقال:
هذا صغير ما جنى صغيرة ... فهل كبير يركب الكبائرا
فضج الناس بالبكاء، مات بدمشق، ودفن بقاسيون. قاله ابن شهبة في «تاريخ
الإسلام» .
وفيها أبو مروان عبد الملك بن زهر [2] بن عبد الملك الإشبيلي، طبيب عبد
المؤمن وصاحب التصانيف. أخذ عن والده وبرع في الصناعة، وهو الذي صنّف
«الدرياق السبعيني» صنّفه لعبد المؤمن.
__________
[1] في «العبر» بطبعتيه: «على نهر بأناس» .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن زهير» والتصحيح من «العبر» (4/ 163) .
(6/299)
وفيها الشيخ عديّ بن مسافر بن إسماعيل
الشامي ثم الهكّاري الزاهد، قطب المشايخ وبركة الوقت، وصاحب الأحوال
والكرامات، صحب الشيخ عقيلا المنبجي [1] ، والشيخ حمّاد الدبّاس، وعاش
تسعين سنة، ولأصحابه فيه عقيدة تتجاوز الحدّ. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن الأهدل: له كرامات عظيمة، منها أنه إذا ذكر على الأسد وقف،
وإذا ذكر على موج البحر سكن.
وإلى ذلك أشار الشيخ العارف الصّدّيق أبو محمد، المقرئ المعروف والده
بالمدوّخ في «وسيلته الجامعة» فقال:
بجاه عديّ ذلك ابن مسافر ... به تسكن الأمواج في لجج البحر
وإن قلته للّيث لم يخط خطوة ... ولا الشبر من قاع ولا البعض من شبر
[3] وقال السّخاوي: أصله من قرية بشوف الأكراد تسمى بيت فار. ولد بها،
والبيت الذي ولد فيه يزار إلى اليوم، وصحب الشيخ عقيل المنبجي [4]
والشيخ حمّاد الدّباس، وأبا النجيب السهروردي، وعبد القادر الجيلي،
وأبا الوفاء الحلواني، وأبا محمد الشنبكي [5] .
وقال ابن شهبة في «تاريخه» : كان فقيها عالما، وهو أحد أركان الطريقة،
سلك في المجاهدة وأحوال البداية طريقا صعبا تعذّر على كثير من المشايخ
سلوكه، وكان الشيخ عبد القادر يثني عليه كثيرا ويشهد له بالسلطنة
__________
[1] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «المنيحي» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (3/
254) و «العبر» .
[2] (4/ 163) .
[3] أقول: هذا من الغلو الذي لا يجوز في الإسلام (ع) .
[4] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «المنيحي» وانظر التعليق رقم (1) .
[5] في «آ» : «السنبكي» .
(6/300)
على الأولياء، وكان في أوّل أمره في الجبال
مجردا سائحا، وانتمى إليه عالم عظيم.
قال عمر بن محمد: خدمت الشيخ عدي سبع سنين، شهدت له فيها خارقات، أحدها
أني صببت على يديه ماء، فقال لي: ما تريد؟ قلت: أريد تلاوة القرآن ولا
أحفظ منه غير الفاتحة وسورة الإخلاص، فضرب بيده في صدري، فحفظت القرآن
كله في وقتي وخرجت من عنده وأنا أتلوه بكماله.
وقال لي يوما: اذهب إلى الجزيرة السادسة بالبحر المحيط تجد بها مسجدا
فادخله تر فيه شيخا، فقل له: يقول لك الشيخ عدي بن مسافر احذر الاعتراض
ولا تختر لنفسك أمرا لك فيه إرادة، فقلت يا سيدي، وأنى لي بالبحر
المحيط؟ فدفعني بين كتفي فإذا أنا بجزيرة والبحر محيط بها، وثمّ مسجد،
فدخلته فرأيت شيخا مهيبا يفكر، فسلّمت عليه وبلّغته الرسالة، فبكى،
وقال: جزاه الله خيرا، فقلت: يا سيدي ما الخبر؟ فقال: اعلم أنّه [1]
أحد السبعة الخواص في النزع.
وطمحت نفسي وإرادتي أن أكون مكانه، ولم تكمل خطرتي حتّى أتيتني، فقلت
له:
يا سيدي، وأنّى لي بالوصول إلى جبل هكّار، فدفعني بين كتفي، فإذا أنا
بزاوية الشيخ عدي، فقال لي: هو من العشرة الخواص. ذكر ذلك القطب
اليونيني في «ذيله» [2] .
وفيها أبو نصر محمد الفرّوخي [3] الكاتب. كان أديبا فاضلا.
من شعره:
يا ربّ عفوك إنّني في معشر ... لا أبتغي منهم سواك ملاذا
هذا ينافق ذا وذا يغتاب ذا ... ويسبّ هذا ذا ويشتم ذا ذا
__________
[1] في «ط» : «أن» وهو تحريف.
[2] قلت: وهذا الذي قاله عمر بن محمد من مبالغات الصوفية التي لا يقرها
العقل بله الشرع!
[3] انظر «المحمدون من الشعراء وأشعارهم» ص (57- 62) طبع دار ابن كثير.
(6/301)
وفيها الشيخ الإمام المحدّث، سيد الحفاظ،
سراج الدّين أبو الحسن، علي بن أبي بكر بن حمير اليمني الهمداني [1] .
روى عنه الإمام يحيى بن أبي الخير [صاحب «البيان» ] وجماعة من ذي أشرق
[2] «البخاري» و «سنن أبي داود» وانتشر عنه الحديث بقطر اليمن، وعنه
أخذ أحمد بن عبد الله القريظي.
قال الإمام يحيى بن أبي الخير: ما رأيت ولا سمعت بمثله، وله كتاب
«الزلازل والأشراط» . قاله ابن الأهدل.
وفيها هبة الله بن أحمد الشّبلي بن المظفّر. القصّار المؤذّن. توفي في
سلخ السنة، عن ثمان وثمانين سنة، وبه ختم السماع من أبي نصر الزّينبي.
وفيها أبو بكر هبة الله بن أحمد الحفّار. روى عن رزق الله التميمي،
وتوفي في شوال كلاهما ببغداد.
__________
[1] انظر «مرآة الجنان» (3/ 313- 314) و «غربال الزمان» ص (435) وما
بين حاصرتين زيادة منه.
[2] في «آ» و «ط» : «من ذي أشرف» بالفاء وهو تصحيف، والتصحيح من «غربال
الزمان» . وانظر «العقود اللؤلؤية» (1/ 58) وما بعدها بعناية الأكوع.
(6/302)
سنة ثمان وخمسين
وخمسمائة
فيها سار جيش المستنجد فالتقوا آل دبيس الأسديّين أصحاب الحلّة،
فالتقوهم، فخذلت بنو أسد [1] وقتل من العرب نحو أربعة آلاف، وقطع
دابرهم، فلم تقم لهم بعدها قائمة.
وفيها سار نور الدّين الشهيد لقتال الفرنج، وكانوا عزموا على حمص،
فترفعوا وفرق في يوم مائتي ألف دينار، وكتب إليه النّواب أن الصدقات
كثيرة، للفقهاء، والفقراء، والصوفية، فلو استعنت بها ثم تعوضهم عنها،
فغضب وكتب إليهم: إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ 13: 11 [الرعد: 11] وهل أرجو النصر إلّا
بهؤلاء، و «هَلْ تُنْصَرُونَ إِلَّا بضُعَفَائِكُمْ» [2] فكتبوا إليه
فنقترض من أرباب الأموال ثم نوفيهم، فبات مفكرا، فرأى في منامه إنسانا
ينشد:
__________
[1] في «ط» : «فخذلت أسد» .
[2] وذلك محاكاة لحديث رواه البخاري رقم (2896) في الجهاد: باب من
استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب، من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقّاص
رحمه الله، ولفظه: «هل تنصرون إلّا بضعفائكم» ورواه أحمد في «المسند»
(1/ 173) .
وهو قطعة من حديث صحيح رواه أبو داود (2594) في الجهاد: باب في
الانتصار برذل الخيل والضعفة، والترمذي رقم (1702) في الجهاد: باب ما
جاء في الاستفتاح بصعاليك المسلمين، والنسائي (6/ 45 و 46) في الجهاد:
باب الاستنصار بالضعيف، ولفظه بتمامه:
«أبغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم» من حديث أبي الدرداء
رضي الله عنه.
(6/303)
أحسنوا ما دام أمركم ... نافذا في البدو
والحضر
واغنموا أيام دولتكم ... إنّكم منها على خطر
فقام مرعوبا مستغفرا مما خطر له، وكتب: لا حاجة لي بأموال النّاس، وعاد
الفرنج إلى بلادهم.
وفيها توفي الشيخ أحمد بن محمد بن قدامة [1] الزاهد، والد الشيخ أبي
عمر، والشيخ الموفق. وله سبع وستون سنة. وكان خطيب جمّاعيل، ففرّ بدينه
من الفرنج مهاجرا إلى الله، ونزل بمسجد أبي صالح، الذي بظاهر باب شرقي،
ثم صعد إلى الجبل لتوخم ناحية باب شرقي عليهم، ونزل هو وولداه بسفح
قاسيون، وكانوا يعرفون بالصالحية لنزولهم [2] بمسجد أبي صالح، فسميت
الصالحية بهم، وكانت تسمى أولا قرية الجبل، وقيل: قرية النخل، لنخل كان
بها كثيرا، وكان زاهدا صالحا قانتا لله، صاحب جدّ وصدق وحرص على الخير،
وهو الذي بنى الدّير بالصالحية.
وفيها أحمد بن جعفر الدبيثي- مصغرا [3] نسبة إلى دبيثا [4] قرية بواسط-
البيّع، ابن عم الحافظ أبي عبد الله الدّبيثي. قدم بغداد، وكان قد ضمن
البيع بواسط، ثم عطل عنه وصودر، وروى ببغداد شيئا من شعره، وأورد له
ابن النجار في «تاريخه» قوله:
يروم صبرا وفرط الوجد يمنعه ... وسلوه ودواعي الشّوق تردعه
إذا استبان طريق الرّشد واضحة ... عن الغرام فيثنيه ويرجعه
مشحونة بالجوى والشوق أضلعه ... ومفعم القلب بالأحزان مترعه
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 164) .
[2] في «ط» : «لنزلهم» .
[3] لفظة «مصغرا» لم ترد في «آ» .
[4] قال ياقوت في «معجم البلدان» (2/ 438) : بفتح أوله وثانيه وياء
ساكنة ... وربما ضمّ أوله.
(6/304)
ومنها:
عاثت يد البين في قلبي تقسّمه ... على الهوى وعلى الذكرى توزّعه
كأنّما آلت الأيام جاهدة ... لمّا تبدّد شملي لا تجمّعه
روّعت يا دهر قلبي كم تذوّقه ... من الأسى وفؤادي كم تجرّعه
وهي طويلة.
والظاهر أنه عارض فيها قصيدة ابن زريق المشهورة.
وفيها شهردار بن شيرويه بن شهردار بن شيرويه الدّيلمي [1] المحدّث
الشافعي، أبو منصور.
قال ابن السمعاني: كان حافظا عارفا بالحديث، فهما عارفا بالأدب، ظريفا.
سمع أباه، وعبدوس بن عبد الله، ومكّي السّلّار، وطائفة، وأجاز له أبو
بكر بن خلف الشيرازي، وعاش خمسا وسبعين سنة. خرّج أسانيد لكتاب والده
المسمى ب «الفردوس» في ثلاث مجلدات ورتبه ترتيبا حسنا [2] وسمّاه
«الفردوس الكبير» .
وفيها عبد المؤمن الكوميّ التلمساني [3] صاحب المغرب والأندلس.
كان أبوه صانعا في الفخّار فصار أمره إلى ما صار. وكان أبيض مليحا، ذا
جسم عمّ تعلوه حمرة، أسود الشعر، معتدل القامة، وضيئا، جهوري الصوت،
فصيحا، عذب المنطق، لا يراه أحد إلّا أحبه بديهة. وكان في الآخر شيخا
أنقى. وقد سبق شيء من أخباره في ترجمة ابن تومرت [4] وكان ملكا عادلا
سايسا، عظيم الهيبة، عالي الهمّة، كثير المحاسن، متين الدّيانة،
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 164- 165) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 375- 378)
.
[2] انظر «الرسالة المستطرفة» للكتاني ص (75- 76) طبع دار البشائر
الإسلامية.
[3] انظر «العبر» (4/ 165) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 366- 375) .
[4] انظر حوادث سنة (524) ص (117- 120) .
(6/305)
قليل المثل، وكان يقرأ كل يوم سبعا من
القرآن العظيم، ويجتنب لبس الحرير، ويصوم الاثنين والخميس، ويهتمّ
بالجهاد والنظر في الملك كأنما خلق له، وكان سفّاكا لدماء من خالفه.
سأل أصحابه مسألة ألقاها عليهم فقالوا: لا علم لنا إلّا ما علّمتنا [1]
، فلم ينكر ذلك عليهم، فكتب بعض الزهاد هذين البيتين ووضعهما تحت
سجادته وهما:
يا ذا الذي قهر الأنام بسيفه ... ماذا يضرّك أن تكون إلها
الفظ بها فيما لفظت فإنّه ... لم يبق شيء أن تقول سواها
فلما رآها وجم وعظّم أمرهما، وعلم أن ذلك بكونه لم ينكر على أصحابه
قولهم: لا علم لنا إلّا ما علّمتنا، فكان عبد المؤمن يتزيّا بزي العامة
ليقف على الحقائق، فوقعت عيناه على شيخ عليه سيما الخير، فتفرّس فيه
أنه قائل البيتين، فقال له: أصدقني أنت قائل البيتين، قال: أنا هو،
قال: لم فعلت ذلك؟ قال: قصدت إصلاح دينك، فدفع إليه ألف دينار فلم
يقبلها.
ومن شعره وقد كثر الثوار عليه:
لا تحفلنّ بما قالوا وما فعلوا ... إن كنت تسمو إلى العليا من الرّتب
وجرّد السيف فيما أنت طالبه ... فما تردّ صدور الخيل بالكتب
ومات غازيا بمدينة سلا في جمادى الآخرة، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن عمّار بن أحمد بن علي ابن عبدوس
الحرّاني [2] الفقيه الحنبلي الزاهد العارف الواعظ.
ولد سنة عشر- أو إحدى عشرة- وخمسمائة. وسمع ببغداد من ابن
__________
[1] وذلك تشبها بجواب الملائكة المكرمين لله عزّ وجل في الآية (32) من
سورة البقرة: قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ 2: 32 نعوذ بالله من سوء العاقبة
ونسأله تعالى أن يلهمنا حسن الختام بفضله وكرمه.
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 241- 244) و «المنهج الأحمد» (2/
325- 328) .
(6/306)
ناصر وغيره، وتفقّه وبرع في الفقه،
والتفسير، والوعظ، والغالب على كلامه التذكير وعلوم المعاملات. وله
تفسير كبير مشحون بهذا الفنّ، وله كتاب «المذّهب في المذهب» ومجالس
وعظية، فيها كلام حسن. قرأ عليه قرينه [1] أبو الفتح نصر الله بن عبد
العزيز، وجالسه الشيخ فخر الدّين بن تيمية في أول اشتغاله، وقال عنه:
كان نسيج وحده في علم التذكير والاطلاع على علم التفسير، وله فيه
التصانيف البديعة والمبسوطات الوسيعة.
وسمع منه الحديث أبو المحاسن عمر بن علي القرشي الدمشقي بحرّان، وقال:
هو إمام الجامع بحرّان، من أهل الخير والصلاح والدّين.
قال: وأنشدني لنفسه:
سألت حبيبي وقد زرته ... ومثلي في مثله يرغب
فقلت حديثك مستظرف ... ويعجب منه الذي يعجب
أراك ظريفا مليح الجواب ... فصيح الخطاب فما تطلب
[2] ؟
فهل فيك من خلّة تزدري ... بها الصد والهجر هل يقرب؟
فقال أما قد سمعت المقال ... مغنّية الحيّ ما تطرب؟
وقوله:
قرّة عيني [3] من صدق ... بعزمه عن الصّدف
__________
[1] في «آ» و «ط» : «قرنه» وفي «المنهج الأحمد» : «قريبه» وما أثبتناه
من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[2] رواية البيت في «ذيل طبقات الحنابلة» .
أراك مليح الجواب ... فصيح الخطاب فما تطلب؟
وفي «المنهج الأحمد» :
أراك مليحا ظريف الجواب ... فصيح الخطاب فما تطلب؟
[3] في «آ» و «ط» : «قرة عين» وما أثبته من «المنهج الأحمد» وجعل محقق
«ذيل طبقات الحنابلة» البيتين بيتا واحدا رسمه على هذا النحو:
قرة عين من صدف بعزمه عن الصدف ... ثم اقتنى الدر الذي من ناله نال
الشرف
(6/307)
ثمّ اقتنى الدّرّ الذي ... من ناله نال
الشّرف
توفي- رحمه الله تعالى- في آخر نهار عرفة، وقيل: ليلة عيد النحر، سنة
تسع وخمسين وخمسمائة، كما جزم به ابن رجب.
وفيها سديد الدولة ابن الأنباري، صاحب ديوان الإنشاء ببغداد، وهو محمد
بن عبد الكريم بن إبراهيم الشيباني [1] ، الكاتب البليغ. أقام في
الإنشاء خمسين سنة، وناب في الوزارة، ونفذ رسولا، وكان ذا رأي وحزم
وعقل. عاش نيفا وثمانين سنة. وكانت رسائله بديعة المعاني، متينة
المباني، عذبة المجاني. ومدحته الشعراء منهم الأرّجاني بقصيدة أولها:
إلى خيال خيال في الظلام سرى ... نظيره في خفاء الشخص إذ نظرا
ومنها:
معقرب الصّدغ تحكي نور غرّته ... بدر بدا بظلام اللّيل معتكرا
مذ سافر القلب من صدري إليه هوى ... ما عاد قطّ ولم أسمع له خبرا
وهو المسيء اختيارا إذ نوى سفرا ... وقد رأى طالعا في العقرب القمرا
وكانت بينه وبين الحريري مكاتبات ومراسلات.
وفيها الجواد جمال الدّين أبو جعفر محمد بن علي الأصبهاني [2] ، وزير
صاحب الموصل أتابك زنكي. كان رئيسا نبيلا مفخّما دمث الأخلاق سمحا
كريما مفضالا، متنوعا في أفعال البرّ والقرب، مبالغا في ذلك. وقد وزر
أيضا لولد زنكي سيف الدّين غازي، ثم لأخيه قطب الدّين مدة، ثم قبض عليه
في هذه السنة وحبسه، ومات في العام الآتي فنقل ودفن بالبقيع. ولقد حكى
ابن الأثير [3] في ترجمة الجواد هذا مآثر ومحاسن لم يسمع بمثلها.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 165- 166) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 350- 351)
.
[2] انظر «العبر» (4/ 166) .
[3] انظر «الكامل في التاريخ» (11/ 306- 310) .
(6/308)
وفيها المؤيد محمد الألوسي- بفتح الهمزة
وضم اللام ومهملة، نسبة إلى ألوس [1] ، ناحية عند حديثة الفرات، وقال
ابن السمعاني عند طرسوس [2]- كان يتزيا بزي الأجناد، وله المعاني
المبتكرة، فمن ذلك قوله في قلم:
قلم يفلّ الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلت من الأغماد
وهبت له الآجام حين نشا بها ... كرم السيول وهيبة الآساد
وما أظن أنه قيل في القلم أحسن منهما.
وفيها يحيى بن سعيد النصراني. أوحد زمانه في معرفة الطب والأدب، له
ستون مقامة ضاهى بها «مقامات الحريري» ومن شعره في الشيب:
نفرت هند من طلائع شيبتي ... واعترتها سآمة من وجومي
هكذا عادة الشياطين ينفر ... ن إذا ما بدت رجوم النّجوم
وفيها أبو زكريا [3] العمراني، يحيى بن أبي الخير بن سالم اليماني،
صاحب «البيان» .
ولد سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وتفقّه على جماعات، منهم زيد اليفاعي
[4] ، وكان شيخ الشافعية ببلاد اليمن، وكان إماما زاهدا ورعا عالما
خيّرا، مشهور الاسم، بعيد الصيت، عارفا بالفقه وأصوله، والكلام والنحو،
__________
[1] وكذا ضبطت في «معجم البلدان» (1/ 246) بفتح الهمزة، وضبطها
السمعاني في «الأنساب» (1/ 343) بضم الهمزة.
[2] وكذلك ياقوت في «معجم البلدان» .
[3] في «آ» و «ط» : «أبو الخير» وما أثبتناه من «مرآة الجنان» (3/ 318)
و «غربال الزمان» ص (436) .
[4] تصحفت نسبته في «آ» و «ط» إلى «البقاعي» والتصحيح من «مرآة الجنان»
و «غربال الزمان» .
(6/309)
من أعرف أهل الأرض بتصانيف الشيخ أبي إسحاق
الشيرازي، ويحفظ «المهذب» عن ظهر قلب، وقيل: إنه كان يقرؤه في كل ليلة،
وكان ورده في كل ليلة أكثر من مائة ركعة بسبع القرآن العظيم، ورحل إليه
الطلبة من البلاد، ومن تصانيفه «البيان» في نحو عشر مجلدات، وهو كاسمه،
وفيه قيل:
لله شيخ من بني عمران ... قد شاد قصر العلم بالأركان
يحيى لقد أحيا الشريعة هاديا ... بزوائد وغرائب وبيان
هو درّة اليمن الذي ما مثله ... من أول في عصرنا أوثان
وكان حنبلي العقيدة، شافعي الفروع، كما قال ابن الأهدل كالآجري [1]
صاحب كتاب «الشريعة» .
قال ابن شهبة [2] وغيره: وله في علم الكلام كتاب «الانتصار في الرد على
القدرية الأشرار» ينصر فيه عقيدته وتحامل فيه على الأشاعرة واختصر
«الإحياء» وله كتاب «السؤال عما في المهذّب من الإشكال» وانتقل في آخر
أمره من سير إلى ذي سفال، ثم مات بها مبطونا شهيدا، وما ترك فريضة في
جملة مرضه، ونازع ليلتين، وهو يسأل عن أوقات الصلاة، ومحاسنه ومصنفاته
كثيرة، رحمه الله تعالى.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «كاجري» والتصحيح من «غربال الزمان» .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 373) .
(6/310)
سنة تسع وخمسين
وخمسمائة
فيها كسر نور الدّين الشهيد الفرنج، وأسر صاحب أنطاكية، وصاحب طرابلس،
وفتح حارم [1] .
وفيها سار أسد الدّين شير كوه من دمشق إلى مصر بأمر نور الدّين إعانة
للأمير شاور، ومعه ابن أخيه صلاح الدّين يوسف بن نجم الدّين أيوب، وهو
الذي صار إليه ملك مصر كما سيأتي، وكان نجم الدّين أيوب بن شاذي
السعدي، وأخوه شير كوه من بلد العجم، أصلهم أكراد، وكانوا من بلد يقال
له دوين، ونجم الدّين الأكبر. قدما العراق، وخدما مجاهد الدّين بهروز،
ولما تمّ لزنكي أمره، ذهب إليه نور الدّين وأخوه، فلما قتل زنكي وقصد
نور الدّين دمشق، كاتبهما أن يساعداه، وكانا صارا من أكابر أمراء دمشق،
ووعدهما بأشياء، فساعداه على فتحها، ووفى لهما، وصارا عنده في منزلة
عالية، خصوصا نجم الدّين، فلما وصل إلى مصر بالعساكر، وخرج إليهما
ضرغام، فالتقوا على باب القاهرة في هذه السنة، فقتل ضرغام واستقام أمر
شاور، ثم ظهر من شاور الغدر، وكتب إلى الفرنج يستنجدهم، فجاؤوا إلى
بلبيس، وحصروا أسد الدّين شيركوه، ولم يقدروا عليه، خصوصا لما جاءهم
الصريخ بما تمّ على دين الصليب بوقعة حارم، فصالحوا أسد الدّين، وردوا،
ورجع
__________
[1] انظر «دول الإسلام» (2/ 74) .
(6/311)
هو إلى الشام، ثم لا زالت تتنقل به وبابن
أخيه الأحوال إلى أن صار ابن أخيه ملك مصر.
وفيها توفي أبو سعد عبد الوهاب بن الحسن الكرماني، بقية شيوخ نيسابور.
روى عن أبي بكر بن خلف، وموسى بن عمران، وأبي سهل عبد الملك الدّشتي
[1] وتفرّد عنهم، وعاش تسعا وسبعين سنة.
وفيها أبو المعالي الحسن [بن محمد] الوركاني [2]- بالفتح والسكون، نسبة
إلى وركان، محلّة بأصبهان- الفقيه الشافعي، كان سريا مفتيا للفريقين،
وله طريقة في الخلاف.
وفيها السيد أبو الحسن علي بن حمزة العلوي الموسوي [3] ، مسند هراة.
سمع أبا عبد الله العمري، ونجيب بن ميمون، وأبا عامر الأزدي، وطائفة،
وعاش نيفا وتسعين سنة.
وفيها أبو الخير الباغبان- بفتح الموحدتين وسكون المعجمة، نسبة إلى حفظ
الباغ، وهو البستان- محمد بن أحمد بن محمد الأصبهاني [4] المقدّر. سمع
عبد الوهاب بن مندة وجماعة، وكان ثقة مكثرا، توفي في شوال.
وفيها الزّاغولي الحافظ محمد بن الحسين بن محمد بن الحسين بن علي بن
إبراهيم بن عبد الله بن يعقوب المروزي. كان حافظا ثقة عمدة، له
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الرسي» والتصحيح من «العبر» (4/ 168) و
«سير أعلام النبلاء» (20/ 339) .
[2] انظر «طبقات الشافعية الكبرى» (7/ 66- 67) و «النجوم الزاهرة» (5/
365) وما بين حاصرتين زيادة منهما.
[3] انظر «العبر» (4/ 168) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 394- 395) .
[4] انظر «العبر» (4/ 168) و «دول الإسلام» (2/ 74) و «سير أعلام
النبلاء» (20/ 378) .
(6/312)
مؤلفات، منها مؤلّف واحد في أكثر من
أربعمائة مجلد [1] . قاله ابن ناصر الدّين [2] .
والزّاغولي: بضم المعجمة، نسبة إلى زاغولة، قرية من قرى بنج ديه [3] .
وفيها نصر بن خلف، السلطان أبو الفضل [4] ، صاحب سجستان، عمّر مائة
سنة، ملك منها ثمانين سنة، وكان عادلا حسن السيرة، مطيعا للسلطان سنجر.
__________
[1] اسمه «قيد الأوابد» كما في «تذكرة الحفاظ» و «التبيان شرح بديعة
البيان» .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (164/ ب) وقد جاء في ترجمته هناك
أيضا مما يجد ذكره:
حدّث عن محيي السّنّة البغوي، ونصر بن إبراهيم الحنفي، وعدة، وعنه أبو
سعد السمعاني وغيره. وانظر «الأنساب» (6/ 221- 222) و «تذكرة الحفاظ»
(4/ 1337- 1338) .
[3] فائدة: بنج ديه: قال ياقوت في «معجم البلدان» (1/ 498) : معناه
بالفارسية الخمس قرى، وهي كذلك خمس قرى متقاربة من نواحي مرو الرّوذ،
ثم من نواحي خراسان، عمّرت حتى اتصلت العمارة بالخمس قرى وصارت
كالمحالّ بعد أن كانت كل واحدة مفردة، فارقتها في سنة (617) قبل
استيلاء التتر على خراسان، ولا أدري إلى أي شيء آل أمرها، وقد تعرّب
فيقال: فنج ديه، وينسبون إليها فنجديهي، وقد نسب إليها السمعاني خمقري
من الخمس قرى نسبة، وقد يختصرون فيقولون بندهي.
[4] انظر «العبر» (4/ 169) و «غربال الزمان» ص (438) .
(6/313)
سنة ستين وخمسمائة
فيها وقعت فتنة هائلة بأصبهان بين صدر الدّين عبد اللطيف بن الخجندي
وغيره من أصحاب المذاهب، سببها التعصب للمذاهب [1] ، فخرجوا للقتال
وبقي الشرّ والقتل ثمانية أيام، قتل فيها خلق كثير، وأحرقت أماكن
كثيرة.
وفيها فوّض نور الدّين دمشق إلى صلاح الدّين يوسف بن أيوب، فأظهر
السياسة وهذّب الأمور.
وفيها فتح نور الدّين بانياس عنوة.
وفيها توفي أبو العبّاس بن الحطيئة [2] أحمد بن عبد الله بن أحمد بن
هشام اللّخمي الفاسي، المقرئ الصالح الناسخ.
ولد سنة ثمان وسبعين، وحجّ، وقرأ القراءات على ابن الفحّام، وبرع فيها،
وكان لأهل مصر فيه اعتقاد كثير، توفي في المحرم ودفن بالقرافة.
وفيها أمير ميران أخو السلطان نور الدّين [3] . أصابه سهم في عينه على
حصار بانياس، فمات منه بدمشق، رحمه الله تعالى.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «للمذهب» وما أثبتناه من «العبر» (4/ 169) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الحطية» وفي «العبر» «الحطئة» والتصحيح من
«سير أعلام النبلاء» (20/ 344) وانظر التعليق عليه.
[3] انظر «العبر» (4/ 169) و «النجوم الزاهرة» (5/ 367) .
(6/314)
وفيها أبو النّدى حسّان بن تميم الزّيّات
[1] . رجل حاج صالح. روى عن نصر المقدسي، وتوفي في رجب عن بضع وثمانين
سنة، وروت عنه كريمة.
وفيها أبو المظفّر الفلكي [2] سعيد بن سهل، الوزير النيسابوري ثم
الخوارزمي، [وزير خوارزم] شاه [3] . روى مجالس عن أحمد المديني، ونصر
الله الخشنامي، وحجّ وتزهد، وأقام بدمشق بالسميساطيّة، وكان صالحا
متواضعا، توفي في شوال.
وفيها أبو المعمّر الهاطر حذيفة بن سعد الأزجي الوزّان [4] . روى عن
أبي الفضل بن خيرون وجماعة، وتوفي في رجب.
وفيها رستم بن علي بن شهريار صاحب مازندران. استولى في العام الماضي
على بسطام، وقومس، واتسعت مملكته، مات في ربيع الأول، وتملّك بعده ابنه
علاء الدّين حسن.
وفيها عبد الله بن سعد بن الحسين بن الهاطر العطار الحنبلي، وهو حذيفة
المتقدم. كان اسمه حذيفة فغيّره، وصار يكتب عبد الله. قرأ القرآن
بالروايات على أبي الخطّاب بن الجرّاح وغيره، وسمع الحديث من ابن طلحة
وغيره، وتفقّه على أبي الخطّاب الكلوذاني، وحدّث، وروى عنه أبو جعفر
السهروردي وغيره. توفي يوم الاثنين ثامن رجب، وصلى عليه الشيخ عبد
القادر الكيلاني من الغد، ودفن بباب حرب.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 170) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 397) و «النجوم
الزاهرة» (5/ 367) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «العلكي» والتصحيح من «العبر» (4/ 170) و
«النجوم الزاهرة» (5/ 370) .
[3] ما بين حاصرتين سقط من «آ» .
[4] انظر «العبر» (4/ 170) .
(6/315)
وفيها أبو الحسين اللبّاد علي بن أحمد
الأصبهاني. سمع أبا بكر بن ماجة، ورزق الله التميمي وطائفة، وأجاز له
أبو بكر بن خلف، وتوفي في شوال.
وفيها أبو القاسم بن البزري، عمر بن محمد الشافعي جمال الإسلام، إمام
جزيرة ابن عمر وفقيهها ومفتيها ومدرّسها. رحل إلى بغداد، وأخذ عن
الغزالي وإلكيا [1] وجماعة، وبرع في المذهب ودقائقه، وصنّف كتابا في
حلّ مشكلات «المهذّب» وكان من أهل العلم والدّين بمحلّ رفيع.
قال ابن خلّكان [2] : كان أحفظ من بقي في الدّنيا على ما يقال لمذهب
الشافعي، انتفع به خلق كثير، ولم يخلّف بالجزيرة مثله.
ولد سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، وتوفي في أحد الربيعين.
والبزري: منسوب إلى عمل البزر، وهو الدّهن من حبّ الكتان.
وفيها أبو عبد الله الحرّاني محمد بن عبد الله بن العبّاس المعدّل [3]
ببغداد. سمع رزق الله التميمي، وهبة الله بن عبد الرزاق الأنصاري،
وطراد ابن محمد [الزّينبي] ، وكان أديبا فاضلا ظريفا. توفي في جمادى
الأولى.
وفيها القاضي أبو يعلى الصغير الحنبلي محمد بن أبي خازم محمد ابن
القاضي أبي يعلى الكبير بن الفراء البغدادي [4] شيخ المذهب، تفقّه على
أبيه وعمه أبي الحسين، وكان مناظرا فصيحا مفوّها ذكيا، ولي قضاء واسط
مدة، ثم عزل منها، فلزم منزله وأضرّ بأخرة.
__________
[1] تحرفت في «ط» إلى «والكبار» وإلكيا لقب الإمام علي بن محمد بن علي
الهرّاسي، وقد تقدمت ترجمته في حوادث سنة (504) انظر ص (14- 17) .
[2] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 445) .
[3] انظر «العبر» (4/ 171) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 352- 353) وما
بين حاصرتين زيادة منه.
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (20/ 353- 354) ، و «العبر» (4/ 171-
172) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 244- 250) و «المنهج الأحمد» (2/ 328-
330) .
(6/316)
قال ابن رجب: ولد يوم السبت لثمان عشرة من
شعبان سنة أربع وتسعين وأربعمائة. وسمع الحديث من أبي البركات
العاقولي، وأبي علي الثّككيّ [1] وغيرهما، وأجازه الحريري صاحب
«المقامات» ودرّس وناظر في شبيبته، وكان ذا ذكاء مفرط وذهن ثاقب وفصاحة
وحسن عبارة [2] ، ظهر علمه في الآفاق، ورأى من تلاميذه من ناظر ودرّس
وأفتى في حياته.
ومما كتبه [3] إلى بعض العلماء: فلو أن للكرم [4] مقلة لكان هو
إنسانها، أو للمجد [5] لغة لكان هو لسانها، أو للسؤدد دهرا لكان هو
ربيع أزمانه، وللشرف عمرا لكان [هو] صفو ريعانه، وللأجواد شهبا لكان هو
الشمس التي إذا ظهرت خفيت الكواكب لظهورها، وإذا تأمّلها الراؤون ردّت
أبصارهم عن شعاعها ونورها.
ولابن الجوزي فيه مدائح كثيرة، وله مصنفات كثيرة، منها:
«المفردات» و «التعليقة» في مسائل الخلاف، و «شرح المذهب» وكتاب
«النّكت والإشارات» .
وقرأ عليه المذهب جماعة كثيرة، منهم أبو إسحاق الصقّال، وأبو العبّاس
القطيعي، وأبو البقّال العكبري، ويحيى بن الرّبيع الشافعي، وسمع منه
جماعة كثيرة أيضا، وتوفي ليلة السبت سحر خامس جمادى الأولى.
وفيها أبو طالب العلويّ الشريف محمد بن محمد بن محمد بن أبي
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الثكلى» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء»
(19/ 259) و «ذيل طبقات الحنابلة» .
[2] في «ط» : «حسن العبارة» .
[3] في «آ» : «ومن كتبه» .
[4] كذا في «آ» و «ط» : «للكرم» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» و «المنهج
الأحمد» : «الكرم» .
[5] في «ذيل طبقات الحنابلة» و «المنهج الأحمد» : «المجد» .
(6/317)
زيد الحسني البصري [1] ، نقيب الطالبيين
بالبصرة. روى عن أبي علي التّستري، وجعفر العبّاداني، وجماعة، واستقدمه
[2] ابن هبيرة لسماع «السنن» [3] . توفي في ربيع الأول عن إحدى وتسعين
سنة.
وفيها أبو الحسن بن التلميذ، أمين الدولة هبة الله بن صاعد المصري
البغدادي، شيخ قومه وقسّيسهم- لعنهم الله- وشيخ الطب وجالينوس العصر،
وصاحب التصانيف. مات في ربيع الأول وله أربع وتسعون سنة. قاله في
«العبر» [4] .
وقال صاحب «أنموذج الأعيان» : كان شيخا زيني المنظر، عذب المجتلى
والمجتنى، لطيف الرّوح، ظريف الشخص، مصنّف الفكر، حازم الرأي، والله
يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يريد بعدله، وله لغز في ميزان:
ما واحد مختلف الأسماء ... يعدل في الأرض وفي السماء
يحكم بالقسط بلا مراء [5] ... أعمى يري الإرشاد كل راء
أخرس لا من علّة وداء ... يغني عن التصريح بالإيماء
يجيب إن ناداه ذو امتراء ... بالخفض والرّفع عن النداء
يفصح إن علّق في الهواء
وقوله مختلف الأسماء: يعني ميزان الشمس الأسطرلاب، وميزان الكلام
النحو، وميزان الشعر العروض.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 72) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 423- 425) .
[2] في «آ» و «ط» : «واستفاد به» والتصحيح من «العبر» .
[3] يعني «سنن أبي داود» كما في «سير أعلام النبلاء» .
[4] انظر «العبر» (4/ 172) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 354) .
[5] في «وفيات الأعيان» (6/ 69) : «بلا رياء» .
(6/318)
وفيها ياغي [1] أرسلان بن الداشمند صاحب
ملطية، جرى بينه وبين جاره قلج أرسلان حروب عديدة، ثم مات وولى بعده
ابن أخيه إبراهيم بن محمد، فصالح قلج أرسلان.
وفيها الوزير عون الدّين أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد
الشيباني [2] وزير المقتفى وابنه. ولد سنة تسع وتسعين وأربعمائة
بالسواد، ودخل بغداد شابا فطلب العلم وتفقّه على مذهب الإمام أحمد بن
حنبل، وسمع الحديث، وقرأ القراءات، وشارك في الفنون، وصار من فضلاء
زمانه. ثم احتاج فدخل في الكتابة، وولي مشارفة الخزانة، ثم ترقّى وولي
ديوان الخواص [3] ثم استوزره المقتفي، فبقي وزيرا إلى أن مات، وكان
شامة بين الوزراء لعدله ودينه وتواضعه ومعرفته. روى عن أبي عثمان بن
ملّة وجماعة، ولما ولّاه المقتفي امتنع من لبس خلعة الحرير وحلف أن لا
يلبسها، وذا شيء لا يفعله قضاة زماننا ولا خطباؤهم [4] وكان مجلسه
معمورا بالعلماء والفقهاء، والبحث وسماع الحديث، شرح «صحيحي» البخاري
ومسلم، وألّف كتاب «العبادات في مذهب أحمد» ومات شهيدا مسموما في جمادى
الأولى، ووزر بعده شرف الدّين أبو جعفر بن البلدي. قاله في «العبر» .
وقال ابن رجب [5] : صحب أبا عبد الله محمد بن يحيى الزّبيدي الواعظ
الزاهد من حداثته، وكمّل عليه فنونا من العلوم الأدبية وغيرها، وأخذ
عنه التأله والعبادة، وانتفع بصحبته حتّى إن الزبيدي كان يركب جملا
ويعتم
__________
[1] في «آ» و «ط» : «باغي» بالباء الموحدة، وما أثبته من «العبر» (4/
172) .
[2] انظر «العبر» (4/ 172- 173) .
[3] في «العبر» بطبعتيه: «ديوان الخاص» .
[4] في «العبر» بطبعتيه: «وخطباؤه» .
[5] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 251- 289) .
(6/319)
بفوطة، ويلويها تحت حنكه، وعليه جبّة صوف،
وهو مخضوب بالحناء، فيطوف بأسواق بغداد ويعظ الناس، وزمام جمله بيد
[أبي المظفّر] بن هبيرة، وهو أيضا معتم بفوطة من قطن، قد لواها تحت
حنكه، وعليه قميص قطن خام، قصير الكم والذيل، وكلما وصل الزّبيدي موضعا
أشار ابن هبيرة بمسبحته، ونادى برفيع صوته: لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيّ لا يموت، بيده
الخير، وهو على كل شيء قدير.
وقال ابن الجوزي: كانت له معرفة حسنة بالنحو، واللغة، والعروض، وصنّف
في تلك العلوم، وكان شديدا في اتباع السّنّة وسير السلف.
وقال ابن رجب: صنّف الوزير أبو المظفّر كتاب «الإفصاح عن معاني الصحاح»
في عدة مجلدات، وهو شرح «صحيحي» البخاري ومسلم، ولما بلغ فيه إلى حديث:
«من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدّين» [1] شرح الحديث، وتكلّم على
معنى الفقه، وآل به الكلام إلى ذكر [2] مسائل الفقه المتفق عليها
والمختلف فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين، وقد أفرده الناس من
الكتاب وجعلوه بمفرده مجلدة وسموه بكتاب «الإفصاح» وهو قطعة منه، وهذا
الكتاب صنّفه في ولايته الوزارة، واعتنى به، وجمع عليه أئمة المذاهب،
وأوفدهم من البلدان إليه لأجله، بحيث أنفق على ذلك مائة ألف دينار،
وثلاثة عشر ألف دينار، وحدّث به، واجتمع الخلق العظيم لسماعه عليه.
__________
[1] قطعة من حديث رواه البخاري رقم (71) في العلم: باب من يرد الله به
خيرا يفقهه في الدّين، و (3116) في فرض الخمس: باب قول الله تعالى:
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ 8: 41 [الأنفال: 41] و (7312)
في الاعتصام: باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من
أمتي ظاهرين على الحق وهم أهل العلم» ومسلم رقم (1037) (2/ 718) في
الزكاة: باب النهي عن المسألة. و (1037) (175) (3/ 1524) باب قوله صلى
الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من
خالفهم» من حديث معاوية رضي الله عنه.
[2] في «آ» : «إلى أن ذكر» .
(6/320)
واشتغل به الفقهاء في ذلك الزمان على
اختلاف مذاهبهم.
واستدعاه المقتفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة إلى داره، وقلّده الوزارة،
وخلع عليه، وخرج في أبهة عظيمة، ومشى أرباب الدولة وأصحاب المناصب كلهم
[1] بين يديه، وهو راكب. وحضر القراء والشعراء، وكان يوما مشهودا. وقرئ
عهده، وخوطب فيه بالوزير العالم العادل عون الدّين جلال الإسلام صفي
الإمام، شرف الأنام، معزّ الدولة، مجير الملّة، عماد الأمة مصطفى
الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، صدر الشرق والغرب، سيد الوزراء.
وقال يوما: لا تقولوا في ألقابي سيد الوزراء، فإن الله تعالى سمّى
هارون وزيرا، وجاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّ وزيريه من أهل
السّماء جبريل وميكائيل، ومن أهل الأرض أبو بكر وعمر» [2] .
وقال مرّة في وزارته: والله لقد كنت أسأل الله الدنيا لأخدم بما
يرزقنيه منها العلم وأهله.
وكان سبب هذا أنه ذكر في مجلسه مفردات الإمام أحمد، التي تفرّد
__________
[1] لفظة «كلهم» سقطت من «ط» .
[2] أقول: وذلك فيما رواه الترمذي رقم (3680) في المناقب: باب رقم (17)
من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وإسناده ضعيف وذكره أيضا أبو
نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 160) والخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد»
(3/ 298) والهيثمي في «مجمع الزوائد» .
(9/ 51) من حديث عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما بلفظ: «إن الله عزّ
وجل أيدني بأربعة وزراء نقباء» قلنا يا رسول الله من هؤلاء الأربع؟
قال: «اثنين من أهل السماء واثنين من أهل الأرض» فقلت: من الاثنين من
أهل السماء؟ قال: «جبريل وميكائيل» قلنا من الاثنين من أهل الأرض؟ قال:
«أبو بكر وعمر» وقال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه محمد بن محبب الثقفي
وهو كذاب، ورواه البزار بمعناه، وفيه عبد الرحمن بن مالك بن مغول وهو
كذاب، ومع ذلك فقد قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وهذا من تساهله،
رحمه الله تعالى.
(6/321)
بها [1] عن الثلاثة [2] فادعى أبو محمد
الأشيري [3] المالكي: أنها رواية عن مالك، ولم يوافقه على ذلك أحد،
وأحضر الوزير كتب مفردات أحمد، وهي منها، والمالكي مقيم على دعواه،
فقال له الوزير: بهيمة أنت؟ أما تسمع هؤلاء يشهدون بانفراد أحمد بها،
والكتب المصنّفة، وأنت تنازع، وتفرّق المجلس، فلما كان المجلس الثاني،
واجتمع الخلق للسماع، أخذ ابن شافع في القراءة، فمنعه الوزير، وقال:
كان الفقيه أبو محمد جريء في مسألة أمس على ما لا يليق به من العدول عن
الأدب والانحراف عن نهج النظر، حتى قلت تلك الكلمة- أي قوله أنت بهيمة-
وها أنا فليقل لي كما قلت له، فلست بخير منكم، ولا أنا إلّا كأحدكم،
فضج المجلس بالبكاء، وارتفعت الأصوات بالدعاء والثناء، وأخذ الأشيري
يعتذر ويقول: أنا المذنب والأولى بالاعتذار من مولانا الوزير، ويقول
القصاص القصاص، فقال يوسف الدمشقي: إذا فالفداء، فقال له الوزير: له
حكمه، فقال الأشيري: نعمك عليّ كثيرة، فأيّ حكم بقي لي؟ فقال: قد جعل
الله لك الحكم علينا، فقال:
على بقية دين منذ كنت بالشام، فقال الوزير: يعطى مائة دينار لإبراء
ذمته وذمتي، فأحضرت له.
وقال ابن الجوزي: كان يتحدث بنعم الله عليه، ويذكر في منصبه شدة فقره
القديم، فيقول: نزلت يوما إلى دجلة، وليس معي رغيف أعبر به.
ودخل عليه يوما تركي، فقال لحاجبه: أما قلت [4] لك: أعط هذا
__________
[1] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «مفردة للإمام أحمد تفرّد بها» ولفظة
«بها» أثبتها منه وكانت في «آ» و «ط» : «لها» .
[2] يعني عن الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك والشافعي، رحمهم الله
تعالى.
[3] في «آ» : «الأشير» وفي «ط» : «الأشيري» وهو ما أثبته وهو الصواب،
وانظر سير أعلام النبلاء (20/ 466) و «اللباب في تهذيب الأنساب» (1/
68) .
[4] في «آ» و «ط» : «ما قلت» وأثبت لفظ «ذيل طبقات الحنابلة» .
(6/322)
عشرين دينارا، وكرّا [1] من الطعام، وقل
له: لا تحضر هاهنا فقال: قد أعطيناه. فقال: عد وأعطه، وقل له: لا تحضر،
ثم التفت إلى الجماعة فقال: هذا كان شحنة [2] في القرى، فقتل قتيل
قريبا [3] من قريتنا، فأخذ مشايخ القرى وأخذني مع الجماعة، وأمشاني مع
الفرس، وبالغ في أذاي وأوثقني ثم أخذ من [كل] واحد شيئا وأطلقه، ثم قال
لي: أي شيء معك؟
قلت: ما معي شيء [4] [، فانتهرني، وقال: اذهب. فأنا لا أريد اليوم
أذاه، وأبغض رؤيته، وذكر: أن الوزير قال:] [5] وما نقمت عليه إلّا أني
سألته في الطريق أن يمهلني حسبما أصلي الفرض، فما أجابني وضربني [على
رأسي وهو مكشوف عدة مقارع] [6] .
وقال ابن الجوزي: كنا نجلس إلى ابن هبيرة فيملي علينا كتابه «الإفصاح»
فبينا نحن كذلك إذ قدم علينا رجل ومعه رجل ادعى عليه أنه قتل أخاه،
فقال له عون الدّين [7] : أقتلته؟ قال: نعم. جرى بيني وبينه كلام
فقتلته، فقال الخصم: سلّمه إلينا حتّى نقتله فقد أقرّ بالقتل، فقال عون
الدّين: أطلقوه ولا تقتلوه، قالوا: كيف ذلك، وقد قتل أخانا؟ قال:
فتبيعونيه، فاشتراه منهم بستمائة دينار، وسلّم الذهب إليهم وذهبوا،
وقال للقاتل: اقعد عندنا
__________
[1] في «ذيل طبقات الحنابلة» : و «كذا» والكرّ: واحد أكرار الطعام،
والكرّ ستّون قفيزا، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف. انظر
«لسان العرب» (كرر) .
[2] في «آ» و «ط» : «سجنه» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» . وانظر
التعليق على «دول الإسلام» (2/ 76) .
[3] في «آ» و «ط» : «قريب» .
[4] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «ما معي شيئا» .
[5] ما بين حاصرتين لم يرد في «آ» و «ط» وأثبته من «ذيل طبقات
الحنابلة» .
[6] ما بين حاصرتين تقدم في «آ» و «ط» إلى عدة أسطر من النص فأعدته إلى
مكانه كما في «ذيل طبقات الحنابلة» مصدر المؤلف.
[7] يعني ابن هبيرة، وعون الدّين لقبه كما تقدم أول الترجمة.
(6/323)
لا تبرح. قال: فجلس عندهم وأعطاه الوزير
خمسين دينارا. قال: فقلنا للوزير:
لقد أحسنت إلى هذا وعملت معه أمرا عظيما وبالغت في الإحسان إليه. فقال
الوزير: منكم أحد يعلم أن عيني اليمنى لا أبصر بها شيئا؟ فقلنا: معاذ
الله، فقال: بلى والله. أتدرون ما سبب ذلك؟ قلنا: لا. قال: هذا الذي
خلّصته من القتل جاء إليّ وأنا في الدور ومعي كتاب من الفقه أقرأ فيه
ومعه سلّة فاكهة، فقال: احمل هذه السلّة، قلت له: ما هذا شغلي فاطلب
غيري، فشاكلني، ولكمني، فقلع عيني ومضى، ولم أره بعد ذلك إلى يومي هذا.
فذكرت ما صنع بي فأردت أن أقابل إساءته إليّ بالإحسان مع القدرة.
وقال صاحب سيرته: كنا عنده يوما والمجلس غاص بولاة الدّين والدّنيا،
والأعيان [1] الأماثل، وابن شافع يقرأ عليه الحديث، إذ فجأنا من باب
السّتر وراء ظهر الوزير صراخ بشع وصياح مرتفع، فاضطرب له المجلس،
فارتاع الحاضرون والوزير ساكن ساكت، حتى أنهى ابن شافع قراءة الإسناد
ومتنه، ثم أشار الوزير إلى الجماعة أن على رسلكم، وقام ودخل السّتر،
ولم يلبث أن خرج فجلس وتقدم بالقراءة، فدعا له ابن شافع والحاضرون،
وقالوا: قد أزعجنا ذلك الصياح، فإن رأى مولانا أن يعرّفنا سببه؟ فقال
الوزير: حتى ينتهي المجلس، وعاد ابن شافع إلى القراءة حتّى غابت الشمس
وقلوب الجماعة متعلقة بمعرفة الحال، فعاودوه، فقال: كان لي ابن صغير
مات حين سمعتم الصياح عليه ولولا تعين الأمر عليّ بالمعروف في الإنكار
عليهم ذلك الصياح لما قمت عن مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعجب
الحاضرون من صبره.
وقال في كتابه «الإفصاح» في الخضر الذي لقيه موسى عليه السّلام:
__________
[1] في «آ» و «ط» : «وأعيان» وأثبت لفظ «ذيل طبقات الحنابلة» .
(6/324)
قيل: كان ملكا وقيل بشرا وهو الصحيح، ثم
قيل: إنه عبد صالح ليس بنبيّ وقيل: بل نبيّ هو الصحيح. والصحيح عندنا
أنه حيّ، وأنه يجوز أن يقف على باب أحدنا مستعطيا له، أو غير ذلك.
وقال ابن الجوزي: أنشدنا لنفسه:
يلذّ بهذا العيش من ليس يعقل ... ويزهد فيه الألمعيّ المحصّل
ما عجب نفس أن ترى الرأي إنما ال ... عجيبة نفس مقتضى الرأي تفعل
إلى الله أشكو همّة دنيوية ... ترى النصّ إلّا أنها تتأوّل
ينهنهها موت الشباب فترعوي ... ويخدعها روح الحياة فتغفل
وفي كل جزء ينقضي من زمانها ... من الجسم جزء مثله يتحلل
فنفس الفتى في سهوها وهي تنقضي ... وجسم الفتى في شغله وهو يعمل
قال: وأنشدنا لنفسه:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه ... وأراه أسهل ما عليك يضيع
قال: وأنشدنا لنفسه أيضا:
الحمد لله هذا العين لا الأثر ... فما الذي باتّباع الحقّ ينتظر
وقت يفوت وأشغال معوّقة ... وضعف عزم ودار شأنها الغير
والنّاس ركضى إلى مهوى مصارعهم ... وليس عندهم من ركضهم خبر
تسعى بها خادعات من سلامتهم ... فيبلغون إلى المهوى وما شعروا
والجهل أصل فساد النّاس كلهم ... والجهل أصل عليه يخلق البشر
وإنما العلم عن ذي الرشد يطرحه ... كما عن الطفل يوما تطرح السّرر
وأصعب الداء داء لا يحس به ... كالدّقّ يضعف حسّا وهو يستعر
وإنما لم يحسّ المرء موقعها [1] ... لأن أجزاءه قد عمّها الضرر
__________
[1] في «آ» و «ط» : «وإنما لم تحس النفس موبقها» وأثبت لفظ «ذيل طبقات
الحنابلة» .
(6/325)
وذكر ياقوت الحموي في «معجمه» بإسناد له أن
الوزير عرضت عليه جارية فائقة الحسن، وأظهر له في المجلس من أدبها وحسن
كتابتها وذكائها وظرفها ما أعجبه، فأمر فاشتريت له بمائة وخمسين
دينارا، وأمر أن يهيأ لها منزل وجارية، وأن يحمل لها من الفرش والآنية
والثياب ما تحتاج إليه، ثم بعد ثلاثة أيام جاءه الذي باعها وشكا له ألم
فراقها، فضحك وقال له: لعلك تريد ارتجاع الجارية؟ قال: إي والله، وهذا
الثمن بحاله لم أتصرف فيه وأبرزه، فقال الوزير: ولا نحن تصرفنا في
المثمّن، ثم قال لخادمه: ادفع إليه الجارية وما عليها وجميع ما في
حجرتها، ودفع إليه الخرقة التي فيها الثمن، وقال استعينا به على
شأنكما، فأكثرا من الدعاء له، فأخذها وخرج.
وحكي عنه أنه كان إذا مدّ السماط أكثر ما يحضره الفقراء والعميان، فلما
كان ذات يوم وأكل الناس وخرجوا، بقي رجل ضرير يبكي ويقول:
سرقوا متاعي وما لي غيره، وو الله ما أقدر على ثمن مداس، فقام الوزير
من مجلسه، ولبس مداسه وجاء إلى الضرير، فوقف عنده وخلع مداسه والضرير
لا يعرف، وقال له: البس هذا وأبصره قدر رجلك؟ فلبسه وقال: نعم كأنه
مداسي، ومضى الضرير ورجع الوزير إلى مجلسه وهو يقول: سلمت منه أن يقول:
أنت سرقته.
وأخبار الوزير- رحمه الله تعالى- ومناقبه كثيرة جدا. وقد مدحه الشعراء
فأكثروا. منهم الحيص بيص، وابن بختيار الأبله، وابن التّعاويذي،
والعماد الكاتب، وخلق كثير.
قال ابن الجوزي: كان الوزير يتأسف على ما مضى من زمانه، ويندم على ما
دخل فيه، ثم صار يسأل الله عزّ وجلّ الشهادة، ونام ليلة الأحد ثالث عشر
جمادى الأولى في عافية، فلما كان وقت السحر، حضر طبيب كان يخدمه، فسقاه
شيئا، فيقال: إنه سمّ فمات، وسقي الطبيب بعده بنحو ستة
(6/326)
أشهر سما، فكان يقول: سقيت كما سقيت.
وحملت جنازة الوزير إلى جامع القصر وصلّي عليه، ثم حمل إلى مدرسته التي
أنشأها بباب البصرة، فدفن بها، وغلّقت يومئذ أسواق بغداد، وخرج جمع لم
نره لمخلوق قطّ، وكثر البكاء عليه، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
(6/327)
|