شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وستين وخمسمائة
فيها ظهر ببغداد الرفض والسبّ وعظم الخطب.
وفيها أخذ نور الدّين من الفرنج حصن صافيتا [1] .
وفيها توفي القاضي الرشيد أبو الحسن أحمد بن القاضي الرشيد أبي الحسن علي الغسّاني الأسواني- بضم الهمزة على الصحيح-[2] الشافعي كان من ذوي الفضل والرئاسة- وأسوان قرية بصعيد مصر- وله ديوان شعر ومصنفات، ولأخيه القاضي المهذّب ديوان شعر أيضا، والمهذّب أشعر، والرشيد أعلم بسائر الفنون. قتله الوزير شاور ظلما، وذلك أنه لما دخل اليمن رسولا، مدح ملوكها فقال في علي بن حاتم الهمداني قصيدته التي يقول فيها:
وإن جهلت حقّي زعانف خندف ... فقد عرفت فضلي غطاريف همدان
__________
[1] تنبيه: كذا في «آ» و «ط» و «المنتخب» (117/ ب) . وفي جميع المصادر الأخرى التي بين يدي: «حصن المنيطرة» انظر «الكامل في التاريخ» (11/ 322) و «الروضتين في أخبار الدولتين» (1/ 141) و «دول الإسلام» (2/ 75) وتصحفت «المنيطرة» فيه إلى «المنيظرة» بالظاء فتصحح، و «العبر» (4/ 174) و «البداية والنهاية» (12/ 251) . قال ياقوت في «معجم البلدان» (5/ 217) : المنيطرة- مصغر بالطاء المهملة-: حصن بالشام قريب من طرابلس.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 160- 164) و «مرآة الجنان» (3/ 367- 369) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 116- 118) و «غربال الزمان» ص (442- 443) وسيكرر المؤلف ترجمته في السنة التالية فتنبه.

(6/328)


فكتب بذلك داعي الإسماعيلية إلى صاحب مصر، فأخذ جميع موجودة ثم قتله شاور.
وفيها الحسن بن علي القاضي المهذّب [1] ، صنّف كتاب «الأنساب» في عشرين مجلدا، ومن شعره:
أقصر فديتك عن لومي وعن عذلي ... أولا فخذ لي أمانا من ظبا المقل
من كلّ طرف مريض الجفن ينشد لي [2] ... يا ربّ رام بنجد من بني ثعل
إن كان فيه لنا وهو السقيم شفا ... فربما صحّت الأجساد بالعلل
وفيها الحسن بن العبّاس [3] الأصفهاني [4] ، الشيخ الصالح، كان كثير البكاء، ولم يكن بأصبهان أزهد منه.
قال: وقفت على علي بن ماشاذه [5] وهو يتكلم على الناس، فلما كان الليل رأيت ربّ العزة في المنام، فقال: يا حسن [6] ! وقفت على مبتدع وسمعت كلامه، لأحرمنك النظر في الدّنيا، فاستيقظ وعيناه مفتوحتان لا يبصر بهما شيئا، ومات.
قال الحميدي: سمعت الفضيل بن عياض يقول: من وقّر صاحب بدعة
__________
[1] انظر «فوات الوفيات» (1/ 337- 341) .
[2] في «فوات الوفيات» : «ينشدني» .
[3] في «آ» و «ط» : «الحسن بن عبد الله» وهو خطأ، والتصحيح من المصادر المذكورة في التعليق التالي.
[4] انظر «المنتظم» (10/ 219) و «الكامل في التاريخ» (11/ 323) و «العبر» (4/ 219) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 432- 435) و «الوافي بالوفيات» (12/ 61) و «طبقات الشافعية الكبرى» (7/ 64) و «البداية والنهاية» (12/ 251) .
[5] في «آ» و «ط» : «علي ابن شاده» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (20/ 434) و (17/ 297) و «ما شاذة» لقب عرف به والده واسمه محمد. انظر «ذكر أخبار أصبهان» (2/ 24) .
[6] في «آ» و «ط» : «يا أبا حسين» وما أثبته من «المنتظم» (10/ 219) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 434) .

(6/329)


أورثه الله تعالى العمى قبل موته.
وفيها الحسن بن عبّاس الأصبهاني [1] ، الفقيه الشافعي، مسند أصبهان. سمع أبا عمرو ابن مندة، ومحمود الكوسج، وطائفة، وتفرّد ورحل إليه، وكان زاهدا ورعا بكاء خاشعا فقيها مفتيا [2] محقّقا، تفقّه به جماعة.
وفيها عبد الله بن رفاعة بن غدير الشافعي أبو محمد السّعدي المصري [3] قاضي الحيرة. كان فقيها ماهرا في الفرائض والمقدرات، صالحا ديّنا، تفقّه على القاضي الخلعي ولازمه، وهو آخر من حدّث عنه، ثم ترك القضاء واعتزل في القرافة مشتغلا بها بالعبادة.
قال في «العبر» : توفي في ذي القعدة، عن أربع وتسعين سنة كاملة، وقد ولي القضاء بمصر وطلب أن يعفى فأعفي.
وفيها أبو محمد الأشيري- كالكريمي، نسبة إلى أشير، حصن بالمغرب- عبد الله بن محمد المقرئ الصنهاجي [4] الفقيه المالكي الحافظ.
روى عن أبي الحسن الجذامي، والقاضي عياض، وكان عالما بالحديث وطرقه، وبالنحو، واللغة، والنسب، كثير الفضائل، وقبره ظاهر ببعلبك.
وفيها أبو طالب بن العجمي، عبد الرحمن بن الحسن الحلبي [5] ، الفقيه الشافعي، تفقّه ببغداد على الشّاشي، وأسعد الميهني، وسمع من ابن بيان، وله بحلب مدرسة كبيرة، عاش إحدى وثمانين سنة، ومات في شعبان.
وفيها الشيخ عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست بن أبي عبد الله [بن] عبد الله بن يحيى بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله
__________
[1] تنبيه: هذه الترجمة مكررة عن التي سبقتها، ولم ينتبه لذلك المؤلف رحمه الله تعالى.
[2] في «آ» : «نقيبا» .
[3] انظر «العبر» (4/ 174- 175) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 54) .
[4] انظر «العبر» (4/ 174- 175) و «مرآة الجنان» (3/ 347) و «النجوم الزاهرة» (5/ 372) .
[5] انظر «العبر» (4/ 175) .

(6/330)


ابن موسى الحوزي بن عبد الله المحصن بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب الجيلاني [1] ، نسبة إلى جيل، وهي بلاد متفرقة من وراء طبرستان، وبها ولد، ويقال لها أيضا جيلان وكيلان.
وهو سبط أبي عبد الله الصومعي من جلّة مشايخ جيلان، أمّه أم الخير بنت أبي عبد الله، وأخوه الشيخ أبو أحمد عبد الله أصغر منه سنا، نشأ في العلم والخير، ومات بجيلان شابا وعمته الصالحة أم عائشة استسقى بها أهل جيلان فلم يسقوا، فكنست رحبة بيتها وقالت: يا ربّ كنّست رحبة بيتي فرّش أنت، فمطروا كأفواه القرب.
كان شيخ الشيوخ الشيخ عبد القادر نحيف الجسم، عريض الصدر، عريض اللّحية، أسمر، مدور الحاجبين، ذا صوت جهوريّ وسمت بهيّ.
ولما ترعرع وعلم [2] أن طلب العلم فريضة، شمّر ساق الاجتهاد في تحصيله، وسارع في تحقيق فروعه وأصوله، بعد أن اشتغل بالقرآن حتّى أتقنه.
ثم تفقّه في مذهب الإمام أحمد بن حنبل، على أبي الوفاء بن عقيل، وأبي الخطّاب، وأبي الحسين محمد بن القاضي أبي يعلى، والمبارك المخرّمي.
وسمع الحديث من جماعة، وعلوم الأدب من آخرين.
وصحب حماد الدبّاس، وأخذ عنه علم الطريقة بعد أن لبس الخرقة من
__________
[1] انظر «المنتظم» (10/ 219) و «المستفاد من ذيل تاريخ بغداد» ص (304- 307) طبع مؤسسة الرسالة، و «سير أعلام النبلاء» (20/ 439- 451) و «فوات الوفيات» (2/ 373- 374) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 290- 301) ولفظة «ابن» التي بين حاصرتين مستدركة منه، و «الأعلام» للزركلي (4/ 47) وفيه: «عبد القادر بن موسى» .
[2] لفظة «وعلم» سقطت من «آ» .

(6/331)


أبي سعد المبارك المخرّمي، وفاق أهل وقته في علوم الديانة، ووقع له القبول التّام، مع القدم الراسخ في المجاهدة وقطع دواعي الهوى والنفس.
ولما أراد الله إظهاره أضيف إلى مدرسة أستاذه أبي سعد [1] المخرّمي، فعمرها وما حولها، وأعانه الأغنياء بأموالهم والفقراء بأنفسهم، فكملت في سنة ثمان وعشرين، ثم تصدّر فيها للتدريس، والوعظ، والتذكير، وقصد بالزيارات والنذور من الآفاق، وصنّف وأملى، وسارت بفضله الركبان، ولقب بمجمع الفريقين، وموضح الطريقين، وكريم الجدّين، ومعلّم العراقين، وتلمذ له أكثر الفقهاء في زمنه، ولبس منه الخرقة المشايخ الكبار، وصار قطب الوجود، وأكبر شيوخ اليمن وغيرها تنتسب إليه، وكراماته تخرج عن الحدّ وتفوت الحصر والعدّ، وله نظم فائق رائق. وتاب على يده معظم أهل بغداد، وأسلم معظم اليهود والنصارى على يديه.
قال الشيخ موفق الدّين- وقد سئل عن الشيخ عبد القادر-: أدركناه في آخر عمره، فأسكننا مدرسته، إلى أن قال: ولم أسمع عن أحد يحكى عنه من الكرامات أكثر مما يحكى عنه، ولا رأيت أحدا يعظمه الناس من أجل الدّين أكثر منه.
وقال الشيخ عز الدّين بن عبد السّلام: ما نقلت إلينا كرامات أحد بالتواتر إلّا الشيخ عبد القادر.
وقال ابن النجار: قال الشيخ عبد القادر: فتشت الأعمال كلها، فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، أودّ لو كانت الدّنيا بيدي فأطعمها الجياع.
وقال: الخلق حجابك عن نفسك، ونفسك حجاب عن ربّك، ما دمت
__________
[1] أقول: وهو المبارك بن علي شيخ الحنابلة، توفي سنة (513) هـ. انظر «سير أعلام النبلاء» (19/ 428) (ع) .

(6/332)


ترى الخلق لا ترى نفسك، وما دمت ترى نفسك لا ترى ربّك.
وقال ابن السمعاني: هو إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، فقيه صالح ديّن خيّر، كثير الذّكر، دائم الفكر، سريعة الدمعة، كتبت عنه، وكان يسكن بباب الأزج في المدرسة التي بنيت له.
وقال ابن رجب [1] : ظهر الشيخ عبد القادر للناس، وجلس للوعظ بعد العشرين وخمسمائة، وحصل له القبول التام من الناس، واعتقدوا ديانته وصلاحه، وانتفعوا [به و] بكلامه، وانتصر أهل السّنّة بظهوره، واشتهرت أحواله وأقواله وكراماته ومكاشفاته، وهابه الملوك فمن دونهم.
وصنّف الشّطنوفي [2] المصري في أخبار عبد القادر ومناقبه ثلاث مجلدات، ذكر فيه بإسناده إلى موسى ابن الشيخ عبد القادر قال: سمعت والدي يقول: خرجت في بعض سياحاتي إلى البرّيّة ومكثت أياما لا أجد ماء فاشتد بي العطش، فأظلّتني سحابة ونزل عليّ منها شيء يشبه النّدى فرويت، ثم رأيت نورا أضاء به الأفق، وبدت لي صورة، ونوديت منها يا عبد القادر أنا ربّك وقد حللّت لك المحرمات- أو قال ما حرّمت على غيرك- فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اخسأ يا لعين، فإذا ذلك النور ظلام وتلك الصورة دخان، ثم خاطبني وقال: يا عبد القادر نجوت مني بعلمك بحكم ربّك وقوتك في أحوال منازلاتك، ولقد أضللت بهذه الواقعة سبعين من أهل
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 291- 292) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[2] في «آ» : «الصطنوفي» وفي «ط» : «السطيوفي» وكلاهما خطأ، والتصحيح من «غاية النهاية في طبقات القراء» (1/ 585) و «الدرر الكامنة» (4/ 167) و «حسن المحاضرة» (1/ 506) و «الأعلام» (5/ 34) وهو علي بن يوسف بن حريز اللّخمي الشّطنوفي، شيخ الإقراء بالديار المصرية في عصره. مات سنة (713) هـ، واسم كتابه الذي ألمح إليه المؤلف «بهجة الأسرار ومعادن الأنوار» وهو مطبوع كما ذكر الزركلي رحمه الله.

(6/333)


الطريق، فقلت: لربّي الفضل والمنّة. قال: فقيل له: كيف علمت أنه شيطان؟
قال: بقوله: قد حلّلت لك المحرمات.
وذكر فيه أيضا الحكاية المعروفة عن الشيخ عبد القادر أنه قال قدمي هذه على رقبة كل وليّ لله، ساقها عنه من طرق متعددة.
قال ابن رجب: أحسن ما قيل في هذا الكلام ما ذكره السهروردي في «عوارفه» أنه من شطحات الشيوخ التي لا يقتدى بهم فيها، ولا تقدح في مقاماتهم ومنازلهم، فكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلّا المعصوم [صلى الله عليه وسلم] .
وقال ابن رجب أيضا: وكان الشيخ عبد القادر متمسكا في مسائل الصفات والقدر ونحوهما بالسّنّة، مبالغا في الردّ على من خالفها.
قال في كتابه «الغنية» [1] المشهور: وهو بجهة العلو، مستو على العرش، محتو على الملك، يحيط [2] علمه بالأشياء إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ 35: 10 [فاطر: 10] . يُدَبِّرُ الْأَمْرَ من السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ 32: 5 [السجدة: 5] ولا يجوز وصفه بأنه في كلّ مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش، كما قال: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى 20: 5 [طه: 5] وذكر آيات وأحاديث إلى أن قال: وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش.
قال: وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كلّ نبيّ أرسل بلا كيف. وذكر كلاما طويلا، وذكر نحو هذا في سائر الصفات.
وذكر الشيخ أبو زكريا يحيى بن يوسف الصّرصري، الشاعر المشهور،
__________
[1] انظر «الغنية» (1/ 54- 55) مصورة دار الألباب بدمشق، ولكن نقل المؤلف عن «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 296) ووقع في النقل عند ابن رجب تصرف واختصار.
[2] في «الغنية» و «ذيل طبقات الحنابلة» : «محيط» .

(6/334)


عن شيخه العارف علي بن إدريس، أنه سأل الشيخ عبد القادر فقال: يا سيدي هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟ فقال: ما كان، ولا يكون.
انتهى ما أورده [1] ابن رجب.
ونقل عن الشيخ عبد القادر أنه قال: كنت أقتات الخرنوب والشوك، وقامة البقل، وورق الخس من جانب النهر والشطّ، وبلغت بي الضائقة في غلاء نزل ببغداد إلى أن بقيت أياما لم آكل فيها طعاما، بل كنت أتتبع المنبوذات أطعمها، فخرجت يوما من شدة الجوع إلى الشطّ لعلي أجد ورق الخس أو البقل أو غير ذلك، فأتقوت به، فما ذهبت إلى موضع إلّا وغيري قد سبقني إليه، وإذا وجدت الفقراء يتزاحمون عليه فأتركه حياء، فرجعت أمشي وسط البلد فلا أدرك منبوذا إلّا وقد سبقت إليه، حتى وصلت إلى مسجد بسوق الريحانيين ببغداد، وقد أجهدني الضعف وعجزت عن التماسك، فدخلت إليه وقعدت في جانب منه، وقد كدت أصافح الموت، إذ دخل شاب أعجمي ومعه خبز رصافي وشواء، وجلس يأكل، فكنت أكاد كلما رفع يده باللقمة أن أفتح في من شدة الجوع، حتّى أنكرت ذلك على نفسي وقلت:
ما هذا! إذ التفت إليّ العجمي فرآني، فقال: باسم الله يا أخي، فأبيت، فأقسم عليّ، فبادرت نفسي فخالفتها، وأقسم أيضا فأجبته، فأكلت، فأخذ يسائلني من أين أنت وبمن تعرف؟ فقلت: أنا متفقّه من جيلان، فقال: وأنا من جيلان، فهل تعرف شابا جيلانيا يسمى عبد القادر يعرف بأبي عبد الله الصومعي الزاهد؟ فقلت: أنا هو، فاضطرب وتغير وجهه، وقال: والله لقد وصلت إلى بغداد ومعي بقية نفقة لي، فسألت عنك فلم يرشدني أحد، ونفدت نفقتي، ولي ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلّا مما كان لك معي، وقد حلّت لي الميتة، وأخذت من وديعتك هذا الخبز والشواء، فكل طيبا، فإنما هو لك وأنا ضيفك
__________
[1] في «ط» : «ما أورد» .

(6/335)


الآن بعد أن كنت ضيفي، فقلت له: وما ذاك؟ فقال: أمّك وجهت لك معي ثمانية دنانير، فاشتريت منها هذا للاضطرار وأنا معتذر إليك، فسكّنته وطيّبت نفسه، ودفعت إليه باقي الطعام وشيئا من الذهب برسم النفقة فقبله وانصرف.
قال: وكنت أشتغل بالعلم فيطرقني الحال فأخرج إلى الصحارى ليلا أو نهارا وأصرخ وأهج على وجهي، فصرخت ليلة فسمعني العيّارون ففزعوا، فجاؤوا فعرفوني، فقالوا: عبد القادر المجنون أفزعتنا، وكان ربما أغشي عليّ فيلفوني ويحسبون أني مت من الحال التي تطرقني.
وربما أردت الخروج من بغداد فيقال لي: ارجع فإن للناس فيك منفعة.
وقال ابن النجار: سمعت عبد الرزاق [1] بن الشيخ عبد القادر يقول:
ولد والدي تسعا وأربعين ولدا، سبع وعشرون ذكورا، والباقي إناث.
ومات الشيخ عبد القادر رحمه الله تعالى بعد عتمة ليلة السبت عاشر ربيع الآخر، وفرغ من تجهيزه ليلا، وصلى عليه ولده عبد الوهاب في جماعة من حضر من أولاده وأصحابه وتلامذته، ثم دفن في رواق مدرسته ولم يفتح باب المدرسة حتّى علا النهار، وأهرع الناس للصلاة على قبره وزيارته، وكان يوما مشهودا.
انتهى.
وبلغ تسعين سنة.
__________
[1] تحرف في «ط» إلى «عبد الرزاق» .

(6/336)


سنة اثنتين وستين وخمسمائة
فيها سار أسد الدّين شيركوه المسير الثاني إلى مصر بمعظم جيش نور الدّين، فنازل الجزيرة شهرين، واستنجد وزير مصر شاور بالفرنج، فدخلوا في النيل من دمياط، والتقوا، فانتصر أسد الدّين وقتل ألوف من الفرنج.
قال ابن الأثير [1] : هو من أعجب ما ورّخ، أنّ ألفي فارس تهزم عساكر مصر والفرنج.
وقال في «العبر» : ثم استولى أسد الدّين على الصعيد وتقوّى بخراجها، وأقامت الفرنج بالقاهرة حتى استراشوا [2] ، ثم قصدوا الإسكندرية وقد أخذها صلاح الدّين، فحاصروه أربعة أشهر، ثم كرّ أسد الدّين منجدا له، فترحلت الملاعين [بعد أن استقرّ لهم بالقاهرة شحنة وقطيعة مائة ألف دينار في العام] [3] وصالح شاور أسد الدّين على خمسين ألف دينار أخذها ونزل إلى الشام.
وفيها على الصحيح، توفي أحمد بن علي الغسّاني الأسواني، عرف
__________
[1] انظر «الكامل في التاريخ» (11/ 326) وقد نقل المؤلف كلامه عن «العبر» (4/ 176) .
[2] في «الكامل في التاريخ» : «وأما المصريون والفرنج فإنهم عادوا واجتمعوا على القاهرة، وأصلحوا حال عساكرهم، وجمعوا وساروا إلى الإسكندرية ... » .
[3] ما بين حاصرتين لم يرد في «آ» و «ط» وأثبته من «العبر» .

(6/337)


بالرشيد- وتقدم الكلام عليه في السنة الماضية [1] والصحيح وفاته هنا- الكاتب الشاعر الفقيه، النحويّ اللغويّ، المنطقي المهندس، الطبيب الموسيقي المنجم. كان مفتيا وألّف تآليف التحق فيها بالأوائل، منها كتاب «منية الألمعي وبينة المدّعي» يشتمل على علوم كثيرة، ومنها «المقامات» على نسق «مقامات» الحريري، وغير ذلك.
قال ابن شهبة في «تاريخ الإسلام» : وكان مع جلالته أسود الجلد، ذا شفة غليظة، سمج الخلق، قصيرا. حكى ياقوت عنه أنه انقطع عن أصحابه يوما، فحكى لهم أنه مرّ بموضع وإذا امرأة شابة حسنة نظرت إليه نظر مطمع له في نفسها، فتوهم أنه وقع منها بموقع، فأشارت إليه بطرفها، فتبعها حتى دخلت دارا، وأشارت إليه فدخل، وكشفت عن وجهها، فإذا هي كالقمر ليلة تمامه، ثم نادت يا ست الدّار، فنزلت إليها طفلة كفلقة القمر، فقالت لها:
إن عدت تبولين في الفراش خلّيت سيدنا القاضي يأكلك، ثم قالت:
لا أعدمني الله فضلك يا سيدنا القاضي، فخرجت وأنا خزيان.
قال فيه محمود بن قادوس:
إن قلت من نار خلق ... ت وفقت كلّ النّاس فهما
قلنا صدقت فما الذي ... أطفاك [2] حتّى صرت فحما
ذهب رسولا إلى اليمن فأقام وتولى القضاء بها، وضربت له السكة على الوجه الواحد قل هو الله أحد وعلى الآخر الإمام أبو الخير [3] أحمد، ثم قبض عليه وأنفذ مكبلا في الحديد إلى قوص، فحبسه ابن طرخان في المطبخ، ثم ورد كتاب الصالح بالإحسان إليه وأحضره مكرّما، فلما نزل شيركوه
__________
[1] انظر ص (327- 328) من هذا المجلد.
[2] في «وفيات الأعيان» (1/ 163) : «أضناك» .
[3] المعروف أن كنيته «أبو الحسن» انظر ذلك في ترجمته ص (327) .

(6/338)


بالإسكندرية خرج بين يدي صلاح الدّين وقاتل بين يديه، وبلغ ذلك شاور فطلبه، فلما حضر أركبه على جمل وعلى رأسه طرطور ووراؤه نفاط ينادي عليه والرشيد ينشد:
إن كان عندك يا زمان بقيّة ... ممّا تهين به الكرام فهاتها
ثم يتلو القرآن، ثم أمر به أن يصلب شنقا، فلما أحضر للشنق جعل يقول للذي تولى [1] ذلك عجّل عجّل فلا رغبة لكريم في حياة بعد هذه الحال، فصلب ثم بعد حين قتل شاور، فلما أرادوا دفنه حفروا له قبرا فوجدوا الرشيد مدفونا فيه، فدفنا معا، ثم نقل كل واحد منهما إلى تربة بالقرافة.
وكان الساعي في صلبه الفقيه عمارة اليمني، وقال: هذا أبو الفتن، ثم إن الفقيه عمارة صلب كما سيأتي، فإن المجازاة من جنس العمل، والمرء مقتول بما قتل به، ولما كان باليمن كتب إليه أخوه المهذّب:
يا ربع أين ترى الأحبة يمموا ... هل أنجدوا من بعدنا أم أتهموا
نزلوا من العين السّواد وإن نأوا ... ومن الفؤاد مكان ما أتكلّم
رحلوا وفي القلب المعنّى بعدهم ... وجد على مرّ الزّمان مخيم
رحلوا وقد لاح الصّباح وإنّما ... تسري إذا جنّ الظّلام الأنجم
وهي طويلة.
فأجابه الرشيد:
رحلوا فلا خلت المنازل منهم ... ونأوا فلا سلت الجوانح عنهم
وسروا وقد كتموا الغداة مسيرهم ... وضياء نور الشّمس ما لا يكتم
وتبدّلوا أرض العقيق عن الحمى ... روّت جفوني أي أرض يمّموا
نزلوا العذيب وإنما هي مهجتي ... نزلوا وفي قلبي المعنّى خيّموا
__________
[1] في «ط» : «يولى» .

(6/339)


ما ضرّهم لو ودّعوا من أودعوا ... نار الغرام وسلّموا من أسلموا
هم في الحشا إن أعرقوا أو أشأموا ... أو أيمنوا أو أنجدوا أو أتهموا
لا ذنب لي في البعد أعرفه سوى ... أني حفظت العهد لمّا خنتم
فأقمت حين ظعنتم وعدلت لم ... اجرتم وسهرت لمّا بنتم
وفيها خطيب دمشق أبو البركات الخضر بن شبل بن عبد الحارثي الدمشقي [1] الفقيه الشافعي. درّس بالغزالية والمجاهدية، وبنى له نور الدّين مدرسته التي عند باب الفرج، فدرّس بها، وتعرف الآن بالعمادية لأنه درّس بها بعده العماد الكاتب فاشتهرت به. قرأ على أبي الوحش سبيع، صاحب الأهوازي، وسمع من أبي الحسن بن الموازيني، وأخذ عنه ابن عساكر، وقال: كان سديد الفتوى، واسع الحفظ، ثبتا في الرواية، ذا مروءة [2] ظاهرة. وكان عالما بالمذهب ويتكلم في الأصول والخلاف. مولده سنة ست وثمانين وأربعمائة، وتوفي في ذي القعدة، ودفن بباب الفراديس.
وفيها عبد الجليل بن أبي أسعد الهروي أبو محمد المعدّل [3] ، مسند هراة، تفرّد بالرواية عن عبد الرحمن كلار، وغيره، وعاش اثنتين وتسعين سنة، وهو أكبر شيخ للحافظ عبد القادر الرّهاوي.
وفيها الحافظ أبو سعد السّمعاني تاج الإسلام عبد الكريم بن محمد ابن منصور المروزي [4] الشافعي، محدّث المشرق، وصاحب التصانيف
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 177) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 592) و «مختصر تاريخ دمشق» لابن منظور (8/ 72) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 109) .
[2] في «آ» و «ط» : «ذا ثروة ظاهرة» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» و «مختصر تاريخ دمشق» .
[3] انظر «العبر» (4/ 177- 178) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 451- 452) .
[4] انظر «المستفاد من ذيل تاريخ بغداد» ص (308- 310) طبع مؤسسة الرسالة، و «العبر» (4/ 178- 179) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 456- 465) .

(6/340)


الكثيرة، والفوائد الغزيرة، والرحلة الواسعة، عمل معجم شيوخه في عشر مجلدات كبار.
قال ابن النجار: سمعت من يذكر أن عدد شيوخه سبعة آلاف شيخ، وهذا شيء لم يبلغه أحد. قال: وكان ظريفا حافظا، واسع الرحلة، صدوقا ثقة، ديّنا، جميل السيرة، مليح التصانيف.
وسرد ابن النجار تصانيفه، وذكر أنه وجدها بخطه، فمنها «الذيل على تاريخ الخطيب» أربعمائة طاقة، «تاريخ مرو» خمسمائة طاقة، «طراز الذّهب في أدب الطلب» مائة وخمسون طاقة، وغير ذلك. انتهى.
ولد في شعبان سنة ست وخمسمائة، وتوفي في غرّة ربيع الأول بمرو.
وفيها أبو شجاع البسطاميّ عمر بن محمد بن عبد الله [1] الحافظ المفسّر الواعظ المفتي الأديب المتفنّن، وله سبع وثمانون سنة. سمع أبا القاسم أحمد بن محمد الخليلي وجماعة، وانتهت إليه مشيخة بلخ، وتفقّه عليه جماعة، مع الدّين والورع. تفرّد برواية «الشمائل» و «مسند الهيثم ابن كليب [2] » .
ومن تصانيفه كتاب «لقطات العقول» .
وفيها قيس بن محمد بن عاصم السّويقي الأصبهاني [3] المؤذن الصوفي. رحل وسمع ببغداد من أبي غالب بن الباقلاني، وابن الطيوري، وجماعة.
وفيها ابن اللحّاس أبو المعالي محمد بن محمد بن محمد بن
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 178- 179) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 452- 454) .
[2] في «آ» و «ط» : «مسند الهيثم وابن كليب» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» وانظر «الرسالة المستطرفة» ص (73) طبع دار البشائر الإسلامية.
[3] انظر «العبر» (4/ 179) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 491- 492) .

(6/341)


الجبّان [1] الحريمي العطّار [2] . سمع من طراد وطائفة، وهو آخر من روى بالإجازة عن أبي القاسم بن البسري، وكان صالحا ثقة ظريفا لطيفا، توفي في ربيع الآخر، وله أربع وتسعون سنة.
وفيها محمد بن الحسن بن حمدون [3] صاحب «التذكرة الحمدونية» .
ولّاه المستنجد ديوان الزّمام، ووقف المستنجد على كتابه فوجد فيه حكايات توهم غضاضة من الدولة، فأخذ من دست منصبه وحبس إلى أن رمس [4] .
وفيها أبو طالب بن خضير المبارك بن علي البغدادي الصّيرفيّ [5] المحدّث. كتب الكثير عن أبي الحسن بن العلّاف وطبقته، وبدمشق عن هبة الله بن الأكفاني، وعاش ثمانين سنة، وتوفي في ذي الحجة.
وفيها مسند الآفاق مسعود الثقفيّ الرئيس المعمّر أبو الفرج بن الحسن بن الرئيس المعتمد أبي عبد الله القاسم بن الفضل الأصبهاني [6] رحلة العصر [7] ، توفي في رجب وله مائة سنة. أجاز له عبد الصمد بن المأمون، وأبو بكر الخطيب، وسمع من جدّه، وعبد الوهاب بن مندة، وطبقتهما.
وفيها هبة الله الحسن بن هلال الدقّاق [8] مسند العراق البغدادي.
سمع عاصم بن الحسن، وأبا الحسن الأنباري، وعمّر نحوا من تسعين سنة.
توفي في المحرم، وكان شيخا لا بأس به، متدينا. قاله في «العبر» .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن الحيان» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[2] انظر «العبر» (4/ 179) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 465- 466) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 380- 382) و «النجوم الزاهرة» (5/ 374- 375) .
[4] أي: إلى أن دفن.
[5] انظر «العبر» (4/ 179) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 487- 489) .
[6] انظر «العبر» (4/ 179) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 469- 471) .
[7] في «العبر» بطبعتيه: «مسند العصر ورحلة الآفاق» .
[8] انظر «العبر» (4/ 180) و «دول الإسلام» (2/ 76) .

(6/342)


وفيها الصائن العساكري [1] هبة الله بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله ابن الحسين الدمشقي [2] الحافظ الفقيه الشافعي. كان ثقة عمدة، وجزم ابن ناصر الدّين بوفاته في التي بعدها.
قال في «بديعته» :
ساد الفقيه الصّاين العساكري ... ثناؤه ذا جامع المآثر
[3]
__________
[1] تنبيه: كذا سماه المؤلف «العساكري» وقد أخذ ذلك عن منظومة ابن ناصر الدّين المسماة:
«بديعة البيان عن موت الأقران» وإنما سماه ابن ناصر الدّين فيها كذلك مراعاة لوزن البيت، وأما اسمه في «طبقات الشافعية» للإسنوي و «التبيان شرح بديعة البيان» فهو: «هبة الله بن الحسن ابن هبة الله بن عساكر» .
[2] انظر «العبر» (4/ 184) وقد ذكره في حوادث سنة (563) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 215) وذكره ابن ناصر الدّين في «التبيان شرح بديعة البيان» (166/ آ) .
[3] قلت: وفي هذه السنة على الصواب مات ابن حمدون صاحب «التذكرة» .
محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون أبو المعالي بن أبي سعد، الكاتب المعدّل، الملقب كافي الكفاة.
وقد وهم الإمام الذهبي في «العبر» فذكره في عداد وفيات سنة (608 هـ) وتبعه الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (13/ 62- 63) والمؤلف ابن العماد، فتنبه.
انظر «وفيات الأعيان» (4/ 380- 382) و «فوات الوفيات» (3/ 323- 324) و «الوافي بالوفيات» (2/ 357) و «الأعلام» (6/ 85) .

(6/343)


سنة ثلاث وستين وخمسمائة
فيها أعطى نور الدّين حمص وأعمالها لنائبه أسد الدّين، فبقيت بيد أولاده مائة سنة.
وفيها توفي الباجسرائي- بكسر الجيم وسكون المهملة، نسبة إلى باجسرا، بلد بنواحي بغداد- التّاني- بمثناة فوقية وبالنون، نسبة إلى التنائية [1] ، وهي الدهقنة، ويقال لصاحب الضياع والعقار- أحمد بن عبد الغني بن محمد بن حنيفة [2] . روى عن أبي البطر وطائفة، توفي في رمضان وكان ثقة.
وفيها أبو العبّاس أحمد بن عمر بن الحسين بن خلف القطيعي [3] الفقيه الحنبلي الواعظ.
ولد سنة اثنتي عشرة وخمسمائة تقريبا، وسمع الحديث بنفسه بعد ما كبر من عبد الخالق بن يوسف، والفضل بن سهل الإسفراييني، وابن ناصر الحافظ، وغيرهم، وتفقّه على القاضي أبي حازم ولازمه، حتّى برع في الفقه، وأفتى، وناظر، ووعظ ودرّس، وأشغل الطلبة وأفاد.
__________
[1] تنبيه: كذا ضبطه المؤلف: نسبة إلى التنائية. وفي «الأنساب» (3/ 13) و «اللباب» (1/ 204) : نسبة إلى التناية، وانظر تعليق العلّامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني- رحمه الله تعالى- على «الإكمال» (1/ 578- 560) و «تاج العروس» (تنأ) .
[2] انظر «العبر» (4/ 180) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 472- 473) .
[3] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 301- 302) .

(6/344)


وقال ابن النجار: برع في الفقه وتكلّم في مسائل الخلاف، وكان حسن المناظرة، جريئا في الجدل، ويعظ الناس على المنبر.
توفي يوم الأربعاء ثامن عشر رمضان، ودفن بالحلّة شرقي بغداد، وهو والد أبي الحسن القطيعي صاحب «التاريخ» ولم يسمع من والده هذا إلّا حديثا واحدا، وذكر أن له مصنفات كثيرة.
قال ابن رجب: منها كتاب «الشمول [1] في [أسباب] النزول» .
وفيها أبو بكر أحمد بن المقرّب الكرخي [2] . روى عن النّعالي، وطراد، وطائفة، وكان ثقة متودّدا. توفي في ذي الحجة، وله ثلاث وثمانون سنة.
وفيها قاضي القضاة أبو البركات جعفر بن قاضي القضاة أبي جعفر عبد الواحد بن أحمد الثقفي [3] . ولي قضاء العراق سبع سنين، ولما مات ابن هبيرة ناب في الوزارة مضافا إلى القضاء، فاستفظع ذلك، وقد روى عن أبي الحصين، وعاش ستا وأربعين سنة، وتوفي في جمادى الآخرة.
وفيها شاكر بن أبي الفضل الأسواري الأصبهاني [4] . سمع أبا الفتح السّوذرجاني [5] ، وأبا مطيع، وجماعة، وتوفي في أواخر رمضان.
وفيها أبو محمد الطّامذي عبد الله بن علي الأصبهاني [6] المقرئ
__________
[1] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «النحول» وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[2] انظر «العبر» (4/ 180- 181) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 473) .
[3] انظر «العبر» (4/ 181) .
[4] انظر «العبر» (4/ 181) .
[5] في «آ» و «ط» : «السودرحاي» وهو تحريف، والتصحيح من «العبر» وانظر في ضبط نسبته «الأنساب» (7/ 185) .
[6] انظر «العبر» (4/ 181) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 473- 475) .

(6/345)


العالم الزاهد المعمّر. روى عن طراد، وجعفر بن محمد العبّاداني، والكبار، وتوفي في شعبان.
والطّامذي: بفتح الطاء المهملة والميم وبمعجمة، نسبة إلى طامذ قرية بأصبهان.
وفيها أبو النّجيب السّهرورديّ [1] عبد القاهر بن عبد الله محمد بن عموية- والسّهروردي، بضم السين المهملة، وسكون الهاء، وفتح الراء والواو، وسكون الراء الثانية ومهملة، نسبة إلى سهرورد، بلد عند زنجان- الصوفيّ القدوة الواعظ العارف الفقيه الشافعي، أحد الأعلام. قدم بغداد، وسمع علي بن نبهان وجماعة، وكان إماما في الشافعية وعلما في الصوفية.
قال ابن الأهدل: هو البكريّ القرشيّ، بينه وبين أبي بكر الصّدّيق إثنا عشر رجلا، بلغ مبلغا في العلم حتّى لقّب مفتي العراقين، وقدوة الفريقين، وكان شرح أحوال القوم، ويتطيلس ويلبس لباس العلماء، ويركب البغلة، وترفع بين يديه الغاشية، مرّ يوما على جزار وقد علّق شاة مسلوخة، فوقف الشيخ وقال: إن هذه الشاة تقول إنها ميتة، فغشي على الجزار وتاب على يد الشيخ. انتهى.
وقال ابن قاضي شهبة [2] : حرّر المذهب، وأفتى وناظر، وروى الحديث عن جماعة، ثم مال إلى المعاملة، فصحب الشيخ حماد الدبّاس، وأحمد الغزالي، وبنى ببغداد رباطا ومدرسة، واشتغل بالوعظ والتذكير والدعاء إلى الله تعالى والتحذير [3] ودرّس بالنظامية سنتين، وكانت له محافيظ جيدة في التفسير وفي الفقه وأصوله وأصول الدّين. وأخذ عنه خلائق. مولده
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 181- 182) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 475- 478) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 10) .
[3] في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة: «والتحديث» .

(6/346)


في صفر سنة تسعين وأربعمائة تقريبا، وتوفي في جمادى الآخرة. انتهى.
وقال الإسنوي [1] : ظهرت بركته على أصحابه، وصار شيخ العراق في وقته، وبنى الخربة التي كان يأوي إليها رباطا وسكّنه جماعة من صالحي أصحابه، وبنى إلى جانبه مدرسة، وصار ملاذا يعتصم به الخائف من الخليفة فمن دونه [2] وتوجه إلى الشام سنة سبع وخمسين وخمسمائة لزيارة بيت المقدس، فلم يتفق له ذلك لانفساخ [3] الهدنة بين المسلمين والفرنج- خذلهم الله تعالى- فأقام بدمشق مدة يسيرة، وعقد له مجلس الوعظ، وأكرم الملك العادل مورده، وعاد إلى بغداد، فتوفي بها يوم الجمعة وقت العصر سابع جمادى الآخرة، ودفن بكرة الغد في مدرسته. انتهى.
وفيها زين الدّين صاحب إربل علي كوجك [4] بن بكتكين التركماني [5] الفارس المشهور، والبطل المذكور، ولقّب بكوجك وهو بالعربي اللطيف القدّ والقصير، وكان مع ذلك معروفا بالقوّة المفرطة والشهامة، وهو ممن حاصر المقتفي وخرج عليه، ثم حسنت طاعته، وكان جوادا معطاء، فيه عدل وحسن سيرة. ويقال: إنه تجاوز المائة، وتوفي في ذي الحجّة [6] .
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 65) .
[2] في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «من الخليفة والسلطان ومن دونهما» .
[3] في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «لانفتاح» .
[4] في «آ» و «ط» : «علي بن كوجك» وهو خطأ، وما أثبته من المصادر المذكورة في التعليق التالي.
[5] انظر «العبر» (4/ 182) و «دول الإسلام» (2/ 76) و «النجوم الزاهرة» (5/ 378- 379) .
[6] قال ابن تغري بردي في سياق ترجمته في «النجوم الزاهرة» : وكان أولا بخيلا مسيكا، ثم إنه جاد في آخر عمره، وبنى المدارس والقناطر والجسور. وحكي أن بعض الجند جاءه بذنب فرس وقال له: مات فرسي، فأعطاه عوضه، وأخذ ذلك الذنب آخر وجاءه به وقال له: مات فرسي، فأعطاه عوضه، ولا زال يتداول الذنب إثنا عشر رجلا، وهو يعلم أنه الأول ويعطيهم الخيل، فلما أعجزوه أنشد:

(6/347)


وفيها أبو الحسن بن تاج القرّاء علي بن عبد الرحمن الطّوسي ثم البغدادي [1] . روى عن أبي عبد الله البانياسي وجماعة، وكان صوفيا كبيرا، توفي في صفر عن سنّ عالية.
وفيها أبو الحسن بن الصابئ محمد بن إسحاق بن محمد بن هلال ابن المحسّن [2] البغدادي [3] من بيت كتابة وأدب. سمع النّعالي وغيره، وكان ثقة، توفي في ربيع الأول عن اثنتين وثمانين سنة.
وفيها أبو الفتح محمد بن عبد الحميد [4] السّمرقندي، صاحب «التعليقة» و «المعترض والمختلف» على مذهب أبي حنيفة، وكان من فرسان الكلام، شحيحا بكلامه، كانوا يوردون عليه الأسئلة وهو عالم بجوابها، فلا يذكره شحا لئلا يستفاد منه، وينقطع ولا يذكرها، ترك المناظرة إلى أن مات.
وفيها الجيّاني أبو بكر محمد بن علي بن عبد الله بن ياسر الأنصاريّ الأندلسيّ [5] . تفقّه بدمشق على نصر الله المصّيصي وأدّب بها.
قال ابن عساكر: ثم زاملني إلى بغداد، وسمع من ابن الحسين، وبمرو من أبي منصور الكراعي، وبنيسابور من سهل المسجدي [6] وطائفة، ثم سكن
__________
ليس الغبيّ بسيّد في قومه ... لكنّ سيّد قومه المتغابي
فعلموا أنه علم فتركوه.
[1] انظر «العبر» (4/ 182) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 478- 480) و «النجوم الزاهرة» (5/ 380) .
[2] في «آ» : «الحسن» وهو خطأ.
[3] انظر «العبر» (4/ 182- 183) و «النجوم الزاهرة» (5/ 380) .
[4] في «آ» و «ط» : «عبد المجيد» والتصحيح من «النجوم الزاهرة» (5/ 379) وانظر التعليق عليه.
[5] انظر «العبر» (4/ 183) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 509- 510) و «النجوم الزاهرة» (5/ 380) .
[6] كذا في «ط» و «العبر» بطبعتيه و «سير أعلام النبلاء» : «المسجدي» وفي «آ» : «المستجدي» .

(6/348)


في الآخر حلب، وكان ذا معرفة جيدة بالحديث.
وفيها الشريف الخطيب أبو الفتوح ناصر بن الحسن [1] الحسيني المصري [2] شيخ الإقراء. قرأ [3] على أبي الحسين الخشّاب وغيره، وتصدّر للإقراء، وحدّث عن محمد بن عبد الله بن أبي داود الفارسي. توفي [4] يوم عيد الفطر، وله إحدى وثمانون سنة.
وفيها نفيسة البزّازة، واسمها أيضا فاطمة بنت محمد بن علي البغدادية [5] . روت عن النّعالي، وطراد، وتوفيت في ذي الحجّة.
وفيها الصائن أبو الغنائم [6] هبة الله بن محفوظ بن صصرى الدمشقي التّغلبي. سمع الكثير ومات بدمشق، ودفن بباب توما عند أهله، وكان صالحا ثقة.
وفيها هبة الله بن أبي عبد الله بن كامل بن حبيش البغدادي [7] الصوفي الفقيه الحنبلي أبو علي. سمع من القاضي أبي بكر بن عبد الباقي وغيره، وتفقّه على أبي علي بن القاضي، وتقدم على جماعة من المتصوفة، وكان من أهل الدّين. توفي في المحرم ودفن بمقبرة الإمام أحمد قريبا من بشر الحافي. ذكره ابن الجوزي وغيره.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ناصر بن الحسين» والتصحيح من «غاية النهاية» و «حسن المحاضرة» .
[2] انظر «غاية النهاية في طبقات القراء» (2/ 329) و «حسن المحاضرة» (1/ 495) .
[3] لفظة «قرأ» سقطت من «آ» .
[4] في «آ» : «وتوفي» .
[5] انظر «العبر» (4/ 183) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 489) .
[6] في «آ» و «ط» : «أبو الحسين» وهو خطأ، والتصحيح من «النجوم الزاهرة» (5/ 380) .
[7] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 302) .

(6/349)


سنة أربع وستين وخمسمائة
فيها سار أسد الدّين سيره الثالث إلى مصر، وذلك أن الفرنج قصدوا الدّيار المصرية وملكوا بلبيس واستباحوها، ثم حاصروا القاهرة، وأخذوا كلّ ما كان خارج السور. فبذل شاور لملك الفرنج مرّي ألف ألف دينار ويعجّل له بعضها. فأجاب، فحمل إليه مائة ألف دينار، وكاتب نور الدّين واستصرخ به وسوّد كتابه، وجعل في طيّه ذوائب نساء القصر، وواصل الكتب يستحثّه، وكان بحلب، فساق إليه أسد الدّين من حمص، فأخذ يجمع العساكر، ثم توجّه في عسكر لجب، يقال كانوا سبعين ألفا من بين فارس وراجل، فتقهقر الفرنج، ودخلوا القاهرة في ربيع الآخر، وجلس أسد الدّين في دست الملك [1] ، وخلع عليه العاضد خلع السلطنة، وعهد إليه بوزارته، وقبض على شاور، فأرسل إليه العاضد يطلب رأس شاور، فقطع وأرسل إليه، فلم ينشب [أن مات] أسد الدّين شيركوه- ومعناه بالعربي الجبل- بن شادي بن مروان الملك المنصور بعد شهرين. أقام في الوزارة شهرين وأياما، وكان أحد الأبطال، يضرب بشجاعته المثل، وكان الفرنج يهابونه، ولقد حاصروه ببلبيس ولها سور، فلم يجسروا أن يناجزوه خوفا منه، وكان كثير الأكل للحوم الغليظة، فكانت تورث عليه التخم والخوانيق، فاعتراه خانوق فمات منه فجأة، ودفن بظاهر القاهرة إلى أن توفي أخوه نجم الدّين أيوب، فحملا جميعا إلى مدينة النّبيّ- صلى الله عليه وسلم-
__________
[1] في «ط» : «الحكم» وما أثبته من «آ» و «العبر» (4/ 185) وما بين حاصرتين زيادة منه.

(6/350)


وقلّد العاضد منصبه ابن أخيه صلاح الدّين يوسف [1] بن نجم الدّين ولقّبه بالملك الناصر.
وفيها آبق الملك المظفّر محيي الدّين صاحب دمشق قبل نور الدّين، وابن صاحبها جمال الدّين محمد بن تاج الملوك بوري التّركي ثم الدمشقي.
ولد ببعلبك في إمرة أبيه عليها، وولي دمشق بعد أبيه خمس عشرة سنة، وملّكوه وهو دون البلوغ، وكان المدبّر لدولته أنر، فلما مات أنر انبسطت يد آبق ودبّر الأمور الوزير الرئيس أبو الفوارس المسيّب بن علي بن الصوفي، ثم غضب عليه وأبعده إلى صرخد، واستوزر أخاه أبا البيان حيدرة مدة، ثم أقدم عطاء بن حفاظ من بعلبك وقدّمه على العسكر، وقتل حيدرة، ثم قتل عطاء. ولما انفصل عن دمشق توجّه إلى بالس، ثم إلى بغداد، فأقطعه المقتفي خبزا وأكرم مورده.
وفيها شاور بن مجير بن نزار [الهوازني] [2] السعدي أبو شجاع، ولّاه ابن رزّيك إمرة الصعيد فتمكن، وكان شهما شجاعا مقداما، ذا هيبة، فحشد وجمع، وتوثب على مملكة الديار المصرية، وظفر بالعادل رزّيك بن الصالح طلائع بن رزّيك، وزير العاضد فقتله، ووزر بعده، فلما خرج عليه ضرغام فرّ إلى الشام، فأكرمه نور الدّين وأعانه على عوده إلى منصبه، فاستعان بالفرنج على دفع أسد الدّين عنه، وجرت له أمور طويلة، وفي الآخر وثب عليه جرديك [3] النّوري فقتله في جمادى الأولى، لأن أسد الدّين تمارض فعاده شاور، فقبضوا عليه وقتلوه كما تقدم.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «صلاح الدّين بن يوسف» وهو خطأ فحذفت لفظة «ابن» من السياق ليصح.
[2] زيادة من «العبر» (4/ 186) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 514) .
[3] في «آ» و «ط» : «خردبك» وفي «العبر» بطبعتيه: «جردبك» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (2/ 448) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 515) .

(6/351)


وفيها أبو محمد عبد الخالق بن أسد الدمشقي الحنفي المحدّث، مدرّس الصادرية والمعينيّة [1] . روى عن عبد الكريم بن حمزة، وإسماعيل بن السمرقندي، وطبقتهما، ورحل إلى بغداد وأصبهان، وخرّج لنفسه «المعجم» .
ومن شعره:
قال العواذل ما اسم من ... أضنى فؤادك قلت أحمد
قالوا أتحمده وقد ... أضنى فؤادك قلت أحمد [2]
وفيها سعد الله بن نصر بن سعيد، المعروف بابن الدجّاجي، وبابن الحيواني [3] الفقيه الحنبلي المقرئ الواعظ، الصوفي الأديب، أبو الحسن، ويلقّب مهذّب الدّين.
ولد في رجب سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وقرأ بالروايات على أبي الخطاب الكلوذاني وغيره، وتفقّه على أبي الخطّاب حتّى برع. وروى عن ابن عقيل كتاب «الانتصار لأهل السّنّة» .
قال ابن الخشاب: هو فقيه واعظ، حسن الطريقة، سمعت منه.
وقال ابن الجوزي: تفقّه ودرّس، وناظر ووعظ، وكان لطيف الكلام حلو الإيراد، ملازما لمطالعة العلم إلى أن مات.
وقال ابن نقطة: حدثنا عنه جماعة من شيوخنا، وكان ثقة.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «المعتبية» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» بطبعتيه و «سير أعلام النبلاء» (20/ 497) .
[2] البيتان في سياق ترجمته في «النجوم الزاهرة» (5/ 381) وأورد له الذهبي بيتان آخران في «سير أعلام النبلاء» يحسن ذكرهما وهما:
قلّ الحفاظ فذو العاهات محترم ... والشّهم ذو الفضل يؤذى مع سلامته
كالقوس يحفظ عمدا وهو ذو عوج ... وينبذ السّهم قصدا لاستقامته
[3] انظر «تكملة الإكمال» (2/ 524) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 302- 305) .

(6/352)


وقال ابن الجوزي: سئل في مجلس وعظه- وأنا أسمع- عن أخبار الصفات، فنهى عن التعرض [لها] ، وأمر بالتسليم، وأنشد:
أبى العاتب [1] الغضبان يا نفس أن يرضى ... وأنت التي صيّرت طاعته فرضا
فلا تهجري من لا تطيقين هجره ... وإن همّ بالهجران خدّيك والأرضا
ومن شعره:
ملكتم مهجتي بيعا ومقدرة ... فأنتم اليوم أغلالي وأغلى لي
علوت فخرا ولكني ضنيت هوى ... وأنتم اليوم أعلالي وأعلى لي
أوصى لي البين أن أسقى بحبكم ... فقطّع البين أوصالي وأوصى لي
توفي يوم الاثنين ثاني عشر شعبان، ودفن بمقبرة الرباط، ثم نقل بعد خمسة أيام فدفن على والديه بمقبرة الإمام أحمد.
وفيها أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن هذيل البلنسيّ [2] شيخ المقرئين بالأندلس.
ولد سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، وقرأ القراءات على ابن داود ولازمه أكثر من عشر سنين، وكان زوج أمّه، فأكثر عنه، وهو أثبت الناس فيه. وروى «الصحيحين» و «سنن أبي داود» وغير ذلك.
قال [ابن] الأبّار: كان منقطع القرين في الفضل والزهد والورع، مع العدالة والتواضع والإعراض عن الدّنيا والتقلل منها، صوّاما قوّاما، كثير الصّدقة، انتهت إليه الرئاسة في صناعة الإقراء، وحدّث عن جلّة لا يحصون، وتوفي في رجب.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الغائب» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 304) .
[2] انظر «العبر» (4/ 187- 188) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 506- 507) و «غاية النهاية في طبقات القراء» (1/ 573) .

(6/353)


وفيها القاضي زكيّ الدّين أبو الحسن علي بن القاضي المنتجب [1] أبو المعالي، محمد بن يحيى القرشي [2] قاضي دمشق، هو وأبوه وجدّه، واستعفى من القضاء فأعفي، وسار فحجّ من بغداد وعاد إليها فتوفي بها، وله سبع وخمسون سنة.
وفيها أبو الفتح بن البطّي الحاجب محمد بن عبد الباقي بن أحمد ابن سليمان البغدادي [3] ، مسند العراق، وله سبع وثمانون سنة، أجاز له أبو نصر الزّينبي، وتفرّد بذلك، وبالرواية عن البانياسي، وعاصم بن الحسن، وعلي بن محمد بن محمد الأنباري، والحميدي، وخلق. وكان ديّنا، عفيفا، محبا للرواية، صحيح الأصول، توفي في جمادى الأولى.
وفيها أبو عبد الله الفارقي الزاهد محمد بن عبد الملك [4] نزيل بغداد. كان يعظ ويذكّر من [غير] كلفة. وللناس فيه اعتقاد [عظيم] وكان صاحب أحوال وكرامات، ومجاهدات ومقامات، عاش ثمانين سنة.
وفيها القاضي أبو المعالي محمد بن علي بن الحسن القرشي العثماني [5] صاحب الفنون في أنواع العلم. هنأ صلاح الدّين بن أيوب بفتح حلب بقصيدة هائلة، منها:
وفتحك القلعة الشهباء في صفر ... مبشّر بفتوح القدس في رجب
فكان كما قال. قاله ابن الأهدل.
__________
[1] تصحفت في «العبر» بطبعتيه إلى «المنتخب» فتصحح.
[2] انظر «العبر» (4/ 188) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 519) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 9- 10) .
[3] انظر «العبر» (4/ 188) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 481- 484) .
[4] انظر «العبر» (4/ 188- 189) وما بين حاصرتين مستدرك منه و «سير أعلام النبلاء» (20/ 500- 501) .
[5] انظر «مرآة الجنان» (3/ 374- 375) .

(6/354)


وفيها محمد بن المبارك بن الحسين [1] بن إسماعيل البغدادي [2] الفقيه الحنبلي القاضي، أبو البركات، المعروف بابن الحصري.
ذكره ابن الجوزي وقال: صديقنا، ولد سنة عشر وخمسمائة، وقرأ القرآن، وسمع الحديث من ابن البناء وغيره، وتفقّه على القاضي أبي يعلى، وناظر، وولّي القضاء بقرية عبد الله من واسط. توفي- رحمه الله تعالى- فجأة في رجب.
وفيها معمر بن عبد الواحد الحافظ أبو أحمد بن الفاخر القرشي العبشمي الأصبهاني [3] المعدّل. عاش سبعين سنة. سمع من أبي الفتح الحدّاد، وأبي المحاسن الرّوياني وخلق، وببغداد من أبي الحصين، وعني بالحديث وجمعه، ووعظ بأصبهان وأملى، وقدم بغداد مرّات يسمّع [4] أولاده، وتوفي في ذي القعدة بطريق الحجاز، وكان ذا قبول ووجاهة.
__________
[1] في «آ» : «ابن الحسن» .
[2] انظر «المنتظم» (10/ 229) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 305- 306) .
[3] انظر «العبر» (4/ 189) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 485- 487) .
[4] في «العبر» : «فسمّع» .

(6/355)


سنة خمس وستين وخمسمائة
في شوال منها كانت الزلزلة العظمى بالشام، وقع معظم دمشق وشرفات جامع بني أميّة، ووقع نصف قلعة حلب والبلد، وهلك من أهلها ثمانون ألفا، ووقعت قلعة حصن الأكراد، ولم يبق لسورها أثر.
وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن صالح بن شافع الجيلي ثم البغدادي [1] الحافظ الفقيه الحنبلي، أحد العلماء المعدّلين والفضلاء والمحدّثين. سمع قاضي المارستان وطبقته، وقرأ القراءات على أبي محمد سبط الخيّاط وغيره، ولازم أبا الفضل الحافظ ابن ناصر، وكان يقتفي أثره ويسلك مسلكه.
قال ابن النجار: كان حافظا، متقنا، ضابطا، محقّقا، حسن القراءة، صحيح النقل، ثبتا، حجّة، نبيلا، ورعا، متدينا، تقيا، متمسكا بالسّنّة على طريق السلف، صنّف «تاريخا» على السنين، بدأ فيه بالسنة التي توفي فيها أبو بكر الخطيب، وهي سنة ثلاث وستين وأربعمائة، إلى بعد الستين وخمسمائة. انتهى.
وتوفي يوم الأربعاء بعد الظهر ثالث شعبان، وكان مرضه البرسام [2]
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 190) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 572- 573) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 311- 313) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «السرسام» . جاء في «المعجم الوسيط» (1/ 49) : البرسام: ذات الجنب، وهو التهاب الغشاء المحيط بالرئة.

(6/356)


والبرسام ستة أيام، أسكت منها ثلاثة أيام ودفن على أبيه في دكة [قبر] الإمام أحمد، وله خمس وأربعون سنة.
وفيها أبو بكر بن النّقور عبد الله بن محمد بن أبي الحسين أحمد بن محمد البغدادي البزّاز [1] ثقة محدّث، من أولاد الشيوخ. سمع العلّاف، وابن الطيوري، وطائفة، وطلب بنفسه، مع الدّين، والورع، والتحري، وتوفي في شعبان، وله اثنتان وثمانون سنة.
وفيها أبو المكارم بن هلال، عبد الواحد بن أبي طاهر محمد بن المسلم بن الحسن [2] بن هلال الأزدي. سمع من عبد الكريم الكفرطابي [3] ومن النّسيب وغيرهما، وكان رئيسا جليلا، كثير العبادة والبرّ، وتوفي في جمادى الآخرة، وأجاز له الفقيه نصر.
وفيها علي بن بردوان [4] بن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة بن حمير الكندي البغدادي، النحوي الأديب الحنبلي، شمس الدّين. سمع أبا الحسن ابن عم الشيخ تاج الدّين، وقرأ وكتب الطباق بخطه على يحيى بن البنا وغيره، وقرأ النحو واللغة على ابن الجواليقي، ثم قدم دمشق، وأدرك شرف الإسلام ابن الحنبلي [5] وصحبه، وكان أعلم باللغة والنحو من ابن عمه أبي اليمن.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 190- 191) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 498- 499) .
[2] قوله «ابن الحسن» سقط من «آ» .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الكوطائي» والتصحيح من «العبر» وضبطت في «سير أعلام النبلاء» بفتح الكاف وسكون الفاء وهو خطأ فتصحح. وانظر «الأنساب» (10/ 448) .
[4] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «روان» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 313) مصدر المؤلف.
[5] في «آ» و «ط» : «ابن الجيلي» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» وهو عبد الوهاب بن عبد الواحد الشيرازي الدمشقي، المعروف بابن الحنبلي. انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 198) و «المنهج الأحمد» (2/ 290) .

(6/357)


ومن شعره:
درّت عليك غوادي المزن يا دار ... ولا عفت منك آيات وآثار
دعاء من لعبت أيدي الغرام به ... وساعدتها صبابات وتذكار
وفيها- على ما قاله ابن الأهدل- ابن عدي [1] مصنف كتاب «الكامل في الضعفاء» . كان حافظ وقته، وإليه المنتهى في فنّه خلا أن فيه لحنا، لأنه كان فيه عجمة ولا يعرف العربية. انتهى.
وفيها فورجة أبو القاسم محمود بن عبد الكريم الأصبهاني [2] التاجر.
روى عن أبي بكر بن ماجة، وسليمان الحافظ، وأبي عبد الله الثقفي، وغيرهم، وتوفي بأصبهان في صفر، وبه ختم «جزء» لوين.
وفيها مودود السلطان قطب الدّين الأعرج [3] صاحب الموصل وابن صاحبها، أتابك زنكي، تملّك بعد أخيه سيف الدّين غازي، فعدل وأحسن السيرة، توفي في شوال عن نيّف وأربعين سنة، وكانت دولته اثنتين وعشرين سنة، وكان محببا إلى الرعية.
__________
[1] كذا قال المؤلف رحمه الله تعالى، وقد تبع في ذلك ابن الأهدل في «تاريخه» الذي اختصر فيه «مرآة الجنان» لليافعي، وتبعه على ذلك أيضا العامري في «غربال الزمان» ص (445) وهو وهم، والصواب أنه مات سنة (365) هـ كما مرّ في وفيات السنة المذكورة من المجلد الرابع ص (344- 345) فراجعه.
[2] انظر «العبر» (4/ 191) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 501- 502) .
[3] انظر «العبر» (4/ 191) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 521- 522) .

(6/358)