شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة ست وستين وخمسمائة
فيها سار نور الدّين إلى سنجار ففتحها وسلّمها إلى ابن أخيه عماد الدّين زنكي، ثم سار وفتح الموصل، وأعطى الشيخ عمر ستين ألف دينار وأمره بعمارة الجامع النّوري وسط البلد.
وفيها قتل الوزير أبو جعفر بن البلدي، لأن المستضيء الخليفة لما ولي الخلافة في هذا العام استوزر أبا [الفرج] [1] محمد بن عبد الله بن رئيس الرؤساء، فانتقم من ابن البلدي وقتله وألقي في دجلة.
وفيها أبو زرعة طاهر بن الحافظ محمد بن طاهر المقدسي ثم الهمذاني. ولد بالرّيّ سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وسمع بها من المقوّمي، وبالدّون من عبد الرحمن بن أحمد الدّوني، وبهمذان من عبدوس، وبالكرج [2] من السّلّار مكّي [3] وبساوة من الكامخي، وروى الكثير، وكان رجلا جيدا عريا من العلوم. قاله في «العبر» .
توفي بهمذان في ربيع الآخر.
وفيها أبو مسعود الحاجّي عبد الرحيم بن أبي الوفاء علي بن أحمد
__________
[1] سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «العبر» (2/ 192) .
[2] في «آ» و «ط» : «وبالكرخ» وما أثبتناه من «العبر» (4/ 193) .
[3] هو مكي بن منصور الكرجي. تقدمت ترجمته في المجلد الخامس ص (400) .

(6/359)


الأصبهاني [1] . الحافظ المعدّل. سمع من جدّه غانم البرجي، ورحل فسمع بنيسابور من الشّيروي [2] ، وببغداد من ابن الحصين، توفي في شوال في عشر الثمانين.
وفيها محمد بن حامد بن حمد بن عبد الواحد بن علي بن أبي مسلم الأصبهاني [3] الواعظ الحنبلي، أبو سعيد، ويعرف بسرمس [4] . سمع أبا مسعود [5] السّوذرجاني [6] ، ويحيى ابن مندة، وغيرهما، وحدّث ببغداد وغيرها، وكان من أعيان الوعاظ، وله القبول التام عند العوام، توفي في سلخ شعبان.
وفيها النّفيس بن مسعود بن أبي الفتح بن سعيد بن علي المعروف بابن صعوة [7] السلامي [8] الفقيه الحنبلي، أبو محمد. قرأ القرآن [9] ، وتفقّه على أبي الفتح بن المنّي، ووعظ، واحتضر في شبابه، فتوفي يوم الثلاثاء تاسع شوال، ودفن بمقبرة الإمام أحمد.
قال المنذري: تكلم في مسائل الخلاف، وسمع من غير واحد. قال:
وصعوة: بفتح الصاد وسكون العين المهملتين [10] وبعدها تاء تأنيث، لقب لجدّه.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 193) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 575- 576) وفيه «علي بن حمد الأصبهاني» .
[2] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «السيروي» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[3] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 314) .
[4] في «آ» و «ط» : «ويعرف برمس» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[5] لعل الصواب: «سمع أبا سعد» انظر «الأنساب» (7/ 185) .
[6] في «آ» : «السوردجاني» وفي «ط» : «السورحاني» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» : «السودرجاني» وما أثبته من «الأنساب» .
[7] في «آ» : «ابن صفوة» وهو تحريف.
[8] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 314) .
[9] في «ط» : «القراءات» .
[10] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «بفتح الصاد والعين المهملتين» وزاد هو لقب لجدّه مسعود.

(6/360)


وفيها فتيان بن مباح بن حمد بن حمد بن سليمان بن المبارك بن الحسين السلمي الحرّاني [1] الضرير، الفقيه الحنبلي، أبو الكرم. قدم بغداد، وسمع الحديث من أبي البركات الأنماطي، وصالح بن شافع، وغيرهما، وتفقّه بمذهب الإمام أحمد، وعاد إلى بلده، فأفتى ودرّس به إلى أن مات، وسمع منه أبو المحاسن القاضي القرشي، وفخر الدّين بن تيمية، وقال في أول «تفسيره» - وقد ذكر شيوخه في العلم، فأول ما قال-: كنت برهة مع شيخنا الإمام الورع أبو الكرم فتيان بن مباح، وكان طويل الباع في علم اللغة والإعراب، لا يشق غباره في علم القرآن [2] ومعاناة المعاني، فهما في الأحكام ومواقع الحلال والحرام. انتهى.
وفيها محمد بن أسعد بن محمد بن نصر الفقيه الحنفي، المعروف بابن الحليم [3] البغدادي الواعظ. درّس بالطرخانية والصادرية، وبنى له معين الدّين مدرسة. شرح «المقامات» ودفن بباب الصغير.
ومن شعره:
الدّهر يوضع عامدا ... فيلا ويرفع قدر نمله
فإذا تنبّه للمنا ... م وقام للنّوّام نم له
[4] وفيها أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة المرسي [5] نزيل
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 315- 316) وفيه «فتيان بن مياح» .
[2] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «في علم القراءات» .
[3] في «آ» و «ط» : «المعروف بابن الحكيم» وفي «الجواهر المضية» (2/ 32) طبع حيدر أباد:
«عرف بابن حكيم» والتصحيح من «تبصير المنتبه» (1/ 448) وحاشية العلّامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني على «الإكمال» (3/ 81) .
[4] رواية البيت في «الجواهر المضية» :
فإذا تنبه لليا ... م ونام نوام فنم له
[5] انظر «العبر» (4/ 193) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 508) .

(6/361)


شاطبة، مكثر عن أبي علي الصّدفي [1] وإليه صارت عامة أصوله، وسمع أيضا من أبي محمد بن عتّاب [2] ، وحجّ [3] فسمع من ابن غزال، ورزين العبدري [4] .
قال [ابن] الأبّار: كان عارفا بالأثر، مشاركا في التفسير، حافظا للفروع، بصيرا باللغة والكلام، فصيحا، مفوّها، مع الوقار والسمت، والصيام والخشوع، ولي قضاء شاطبة، وحدّث وصنّف، ومات في أول العام، وله سبعون سنة.
وفيها يحيى بن ثابت بن بندار أبو القاسم البغدادي البقّال [5] . سمع من طراد والنّعالي وجماعة، وتوفي في ربيع الأول وقد نيّف على الثمانين.
وفيها المستنجد بالله أبو المظفّر يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد ابن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي العبّاسي [6] . خطب له أبوه بولاية العهد سنة سبع وأربعين، واستخلف سنة خمس وخمسين، وعاش ثمانيا وأربعين سنة، وأمّه طاووس الكرجية أدركت دولته.
قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء» [7] : كان موصوفا بالعدل والرفق، أطلق من المكوس شيئا كثيرا بحيث لم يترك بالعراق مكسا، وكان شديدا على المفسدين، سجن رجلا كان يسعى بالناس مدة، فحضر [8] رجل وبذل
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الصوفي» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» و «نفح الطيب» (2/ 158) .
[2] في «سير أعلام النبلاء» : «ابن عبّاسة» .
[3] تحرفت في «العبر» بطبعتيه إلى «وجمع» فتصحح.
[4] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «الغندري» .
[5] انظر «العبر» (4/ 194) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 505- 506) .
[6] انظر «العبر» (4/ 194) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 412- 418) .
[7] ص (443) .
[8] في «تاريخ الخلفاء» : «وحضره» .

(6/362)


فيه عشرة آلاف درهم، فقال: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار ودلّني على آخر مثله لأحبسه وأكفّ [1] شره.
وقال ابن النجار [2] : كان المستنجد موصوفا بالفهم الثاقب، والرأي الصائب، والذكاء الغالب، والفضل الباهر، والعدل الظاهر، له نظم بديع، ونثر بليغ، ومعرفة بعمل آلات الفلك والأسطرلاب، وغير ذلك.
ومن شعره في بخيل:
وباخل أشعل في بيته ... تكرمة منه لنا شمعه
فما جرت من عينها دمعة ... حتّى جرت من عينه دمعه
توفي في ثامن ربيع الآخر.
وفيها ابن الخلّال القاضي الأديب موفق الدّين يوسف بن محمد المصري [3] ، صاحب دواوين الإنشاء للخلفاء، وهو شيخ القاضي الفاضل.
ومن شعره:
عذبت ليال بالعذيب خوال ... وحلت مواقف بالوصال حوال
ومضت لذاذات تقضّى ذكرها ... تصبي الخليّ وتستهيم السّالي
وجلت مورّدة الخدود فأوثقت ... في الصّبوة الخالي بحسن الخال
قالوا سراة بني هلال أصلها ... صدقوا كذاك البدر فرع هلال
توفي في جمادى الآخرة، وقد شاخ وولّي بعده القاضي الفاضل.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «وألف» وهو تحريف، والتصحيح من «تاريخ الخلفاء» .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (20/ 418) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (7/ 219- 225) و «العبر» (4/ 194) و «نكت الهميان» ص (314- 316) .

(6/363)


سنة سبع وستين وخمسمائة
فيها تجاسر صلاح الدّين بن أيوب وقطع خطبة العاضد العبيدي، وكان قبل هذا كالمتحكم له، وخطب للخليفة العبّاسي المستضيء، فمات العاضد عقيب ذلك. قيل: إنه مات غبنا، وأظهر صلاح الدّين الحزن عليه، وجلس للعزاء، ثم تسلّم القصر وما حوى، ثم حوّل أولاد المعتضد وخاصته إلى مكان آخر ورتّب لهم كفايتهم، ولما وصل أبو سعد بن أبي عصرون رسولا بذلك إلى بغداد، زيّنت، وكان يوما مشهودا، وكانت الخطبة العبّاسية قد قطعت من مصر منذ مائتي سنة وتسع سنين بخطبة بني عبيد أهل المذهب الرديء، ثم أرسل الخليفة بالخلع الفائقة الرائقة لنور الدّين محمود بن زنكي، ولنائبه صلاح الدّين، وكان فيما أرسل لنور الدّين طوق ذهب وزنه ألف مثقال، وحصانان وسيفان، قلد بهما، إشارة إلى الجمع له بين مصر والشام.
وفيها وقعت الوحشة بين نور الدّين وصلاح الدّين، وعزم على قصده، فكتب إليه صلاح الدّين بالطاعة، فزالت الوحشة بينهما.
وفيها اتخذ نور الدّين الحمام الهوادي في جميع البلاد في الأبراج، تنقل الأخبار، فكانت من بلاد النوبة إلى همذان، وكان أهم ما عنده قلع الفرنج من السواحل.

(6/364)


وفيها توفي أحمد بن محمد الحريمي العطّار [1] . روى عن النّعالي وجماعة، ومات في صفر عن خمس وثمانين سنة.
وفيها حسّان بن نمير [الكلبيّ] ، عرف بعرقلة [2] . كان شيخا خليعا مطبوعا، أعور العين، منادما. اختص بصلاح الدّين. وكان قد وعده صلاح الدّين أنه إذا أخذ مصر يعطيه ألف دينار، فلما أخذها كتب إليه:
قل للصلاح معيني عند إعساري ... يا ألف مولاي أين الألف دينار
أخشى من الأسر إن حاولت [3] أرضكم ... وما تفي جنّة الفردوس بالنّار
فجد بها عاضديّات موفّرة ... من بعض ما خلّف [4] الطاغي أخو العاري
حمرا كأسيافكم غرّا كخيلكم ... عتقا ثقالا كأعدائي وأطماري
فجهز له ألفا وأخذ له من إخوته مثلها، فجاءه الموت فجأة فلم ينتفع بفجأة الغنى [5] .
ومن شعره:
يقولون لم أرخصت شعرك في الورى ... فقلت لهم إذ مات أهل المكارم
أجازى [6] على الشعر الشعير وإنّه ... كثير إذا حصّلته [7] من بهائم
وفيها العلّامة أبو محمد بن الخشّاب عبد الله بن أحمد بن أحمد بن
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 196) .
[2] انظر «فوات الوفيات» (1/ 313- 318) و «النجوم الزاهرة» (6/ 64) .
[3] في «فوات الوفيات» : «إن وافيت» وانظر التعليق عليه.
[4] في «آ» : «أخلف» .
[5] في «آ» و «ط» : «الغناء» وهو تحريف والتصحيح من «فوات الوفيات» .
[6] في «فوات الوفيات» : «أجاز» .
[7] في «فوات الوفيات» : «إذا خلّصته» وانظر التعليق عليه.

(6/365)


عبد الله بن نصر البغدادي [1] النحوي المحدّث الفقيه الحنبلي.
ولد سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وسمع من علي بن الحسين الرّبعي، وابن النّرسي، ثم طلب بنفسه، وأكثر عن أبي الحصين وطبقته، وقرأ الكثير، وكتب بخطه المليح المتقن، وأخذ العربية عن ابن الشّجري، وابن الجواليقي، وأتقن العربية واللغة والهندسة وغير ذلك، وصنّف التصانيف، وكان إليه المنتهى في حسن القراءة وسرعتها وفصاحتها، مع الفهم والعذوبة، وانتهت إليه الإمامة في النحو، وكان ظريفا مزّاحا قذرا، وسخ الثياب، يستقي في جرة مكسورة، وما تأهل قطّ ولا تسرى. توفي في رمضان. قاله في «العبر» .
وقال ابن النجار [2] : كان أعلم أهل زمانه بالنحو، حتّى يقال: إنه كان في درجة أبي علي الفارسي. قال: وكانت له معرفة بالحديث، واللغة، والمنطق، والفلسفة، والحساب، والهندسة، وما من علم من العلوم إلّا كانت [3] له فيه يد حسنة.
وقال ياقوت الحموي: رأيت قوما من نحاة بغداد يفضلونه على أبي علي الفارسي. قال: وسمع الحديث الكثير، وتفقّه فيه، وعرف صحيحه من سقيمه، وبحث عن أحكامه وتبحر في علومه.
وقال ابن الأخضر: دخلت عليه يوما وهو مريض، وعلى صدره كتاب ينظر فيه، قلت: ما هذا؟ قال: ذكر ابن جنّي مسألة في النحو، واجتهد أن يستشهد عليها ببيت من الشعر فلم يحضره، وإني لأعرف على هذه المسألة
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 196- 197) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 523- 528) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 316- 323) .
[2] انظر «المستفاد من ذيل تاريخ بغداد» للدمياطي ص (257) طبع مؤسسة الرسالة.
[3] لفظة «كانت» سقطت من «آ» .

(6/366)


سبعين بيتا من الشعر، كلّ بيت من قصيدة.
وكان عالما بالتفسير، والحديث، والفرائض، والحساب، والقراءات.
وقال ابن القطيعي: انتهت [1] إليه معرفة علوم جمّة، أنهاها، وشرح الكثير من علومه، وكان ضنينا بها مع لطف مخالطة وعدم تكبر، واطّراح تكلّف، مع تشدّد في السّنّة، وتظاهر بها في محافل علومه، ينتصر لمذهب أحمد، ويصرّح ببراهينه وحججه على ذلك.
وقال مسعود بن البادر: كنت يوما بين يدي المستضيء، فقال لي: كلّ من نعرفه [2] قد ذكّرنا بنفسه، ووصل إليه برّنا إلّا ابن الخشّاب، فاعتذرت عنه بعذر اقتضاه الحال، ثم خرجت، فعرّفت ابن الخشّاب ذلك، فكتب إليه هذين البيتين:
ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... فوقفت دون الورد وقفة حائم
ظمآن أطلب خفّة من زحمة ... والورد لا يزداد غير تزاحم
قال ابن البادر: فعرضتهما على المستضيء، فأرسل إليه بمائتي دينار، وقال: لو زادنا زدناه.
وقال ابن رجب: ويقال: إنه كان بخيلا مقترا على نفسه، وكان يعتمّ العمّة، فيبقي معتّما أشهرا تتسخ أطرافها من عرقه، فتسود وتتقطع من الوسخ، وترمي عليها العصافير ذرقها، وكان إذا رفعها عن رأسه ثم أراد لبسها تركها على رأسه كيف اتفق، فتجيء عذبتها تارة من تلقاء وجهه، وتارة عن يمينه، وتارة عن شماله [3] ، ولا يغيرها، فإذا قيل له في ذلك يقول: ما استوت العمّة على رأس عاقل قطّ.
__________
[1] في «ط» : «انتهى» .
[2] تصحفت في «ط» إلى «تعرفه» .
[3] في «آ» : «عن يساره» .

(6/367)


وكان- رحمه الله تعالى- ظريفا، مزّاحا، ذا نوادر.
فمن نوادره أن بعض أصحابه سأله يوما، فقال: القفا يمد أو يقصر؟
فقال: يمد ثم يقصر.
ولابن الخشّاب شعر كثير حسن، فمنه ما ألغزه في كتابه:
وذي أوجه لكنه غير بائح ... بسرّ وذو الوجهين للسرّ يظهر
[1]
تناجيك [2] بالأسرار أسرار وجهه ... فتسمعها ما دمت بالعين تبصر
[3] ومنه لغز في شمعة:
صفراء لا من سقم مسّها ... كيف وكانت أمّها الشافية؟
عارية باطنها مكتس ... فاعجب لها عارية كاسيه
قال ابن الجوزي: مرض ابن الخشّاب نحوا من عشرين يوما، فدخلت عليه قبل موته بيومين وقد يئس من نفسه، فقال لي: عند الله أحتسب نفسي.
وتوفي يوم الجمعة ثالث رمضان، ودفن بمقبرة الإمام أحمد قريبا من بشر الحافي، رضي الله عنهما.
وفيها أبو محمد عبد الله بن منصور بن الموصلي البغدادي [4] المعدّل. سمع من النّعالي، وتفرّد ب «ديوان المتنبي» عن أبي البركات الوكيل، وعاش ثمانين سنة.
وفيها العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله عبد المجيد بن محمد بن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم العبيدي
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ليس يطهر» وأثبت لفظ «ذيل طبقات الحنابلة» .
[2] في «ط» : «تناديك» .
[3] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «تنظر» .
[4] انظر «العبر» (4/ 197) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 529) و «النجوم الزاهرة» (6/ 66) .

(6/368)


المصري [1] الرافضي، خاتمة خلفاء الباطنية.
ولد في أول سنة ست وأربعين وخمسمائة، وأقامه الصالح بن رزّيك، بعد هلاك الفائز.
وفي أيامه قدم حسين بن نزار بن المستنصر العبيدي في جموع من الغرب [2] ، فلما قرب غدر به أصحابه وقبضوا عليه، وحملوه إلى العاضد فذبحه صبرا.
ورد أن موت العاضد كان بإسهال مفرط، وقيل: مات غما لما سمع بقطع خطبته، وقيل: بل كان له خاتم مسموم فامتصه وخسر نفسه، وعاش إحدى وعشرين سنة.
وفيها أبو الحسن بن النّعمة علي بن عبد الله بن خلف الأنصاري الأندلسي المرّيي ثم البلنسي [3] أحد الأعلام. توفي في رمضان، وهو في عشر الثمانين. روى عن أبي علي بن سكّرة وطبقته، وتصدر ببلنسية لإقراء القراءات، والفقه، والحديث، والنحو.
قال [ابن] الأبّار: كان عالما حافظا للفقه والتفاسير ومعاني الآثار، مقدّما في علم اللّسان، فصيحا مفوّها ورعا فاضلا معظّما، دمث الأخلاق. انتهت إليه رئاسة الفتوى والإقراء، وصنّف كتابا كبيرا في «شرح سنن النسائي» بلغ فيه الغاية، وكان خاتمة العلماء بشرق الأندلس.
وفيها أبو المطهّر القاسم بن الفضل بن عبد الواحد بن الفضل
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 197- 198) و «سير أعلام النبلاء» (15/ 207- 215) و «النجوم الزاهرة» (5/ 334- 357) .
[2] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «العرب» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» وفي «العبر» :
«المغرب» .
[3] انظر «العبر» (4/ 198) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 584- 585) .

(6/369)


الأصبهاني الصّيدلاني [1]- بفتح أوله وسكون الياء التحتية، نسبة إلى بيع الأدوية والعقاقير- روى عن رزق الله التميمي، والقاسم بن الفضل الثقفي، وتوفي في جمادى الأولى، وقد نيّف على التسعين.
وفيها أبو عبد الله بن الفرس محمد بن عبد الرحيم الأنصاري الخزرجي الغرناطي [2] . تفقّه على أبيه، وقرأ عليه القراءات، وسمع أبا بكر بن عطيّة، وسمع بقرطبة من أبي محمد بن عتّاب وطبقته، وصار رأسا في الفقه، والحديث، والقراءات، توفي في شوال ببلنسية وله ست وستون سنة.
وفيها أبو حامد البرّوي الطّوسي [3] الفقيه الشافعي محمد بن محمد تلميذ محمد بن يحيى وصاحب «التعليقة» المشهورة في الخلاف. كان إليه المنتهى في معرفة الكلام والنظر والبلاغة والجدل، بارعا في معرفة مذهب الأشعري. قدم بغداد وشغّب على الحنابلة، وأثار الفتنة، ووعظ بالنظامية، وبعد صيته، فأصبح ميّتا، فيقال: إنّ الحنابلة أهدوا له مع امرأة صحن حلوى مسمومة، وقيل: إن البرّوي قال: لو كان لي أمر لوضعت على الحنابلة الجزية. قاله في «العبر» .
والبرّوي: بفتح الموحدة وتشديد الراء المضمومة، نسبة إلى برّوية جدّ.
وفيها أبو المكارم الباذرائي [4] المبارك بن محمد بن المعمّر، الرجل الصالح. روى عن ابن البطر، والطّرثيثي، وتوفي في جمادى الآخرة.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 199) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 528- 529) .
[2] انظر «العبر» (4/ 199) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 529) و «الوافي بالوفيات» (3/ 245) .
[3] انظر «العبر» (4/ 200) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 260- 263) .
[4] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الباوراي» والتصحيح من «العبر» (4/ 200) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 494) .

(6/370)


وفيها أبو جعفر مكّي بن محمد بن هبيرة البغدادي [1] الأديب الحنبلي. كان فاضلا عارفا بالأدب، نظم «مختصر الخرقي» وقرئ [2] [عليه] مرّات. [توفي] بنواحي الموصل.
قال ابن رجب: وأظنه أخا [3] الوزير أبي المظفر. وكان يلقب فخر الدولة، وكأنه [4] خرج من بغداد بعد موت الوزير.
وفيها أبو الفتوح [5] نصر الله بن عبد الله بن مخلوف بن قلاقس [6] الأزهري الإسكندري [7] ، الملقب القاضي الأعز، كان سناطا [8] لا لحية له.
وكان شاعرا مجيدا مدحه السّلفيّ، وصحب السّلفيّ وانتفع بصحبته، ودخل اليمن وامتدح أمير عدن فأجزل عطيته، ثم غرق ما معه وعاد إليه عريانا، فأنشده قصيدته التي أولها:
صدرنا وقد نادى السّماح ببادئ ... فعدنا إلى مغناك والعود أجمل
فأحسن إليه أيضا.
ومن شعره:
الفكر في الرّزق كيف يأتي ... شيء به تتعب القلوب
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 323) .
[2] في «آ» و «ط» : «وقرأ» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[3] في «آ» و «ط» : «أخو» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[4] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «وكان» .
[5] في «آ» و «ط» و «غربال الزمان» ص (448) «أبو الفتح» والتصحيح من مصادر الترجمة.
[6] في «آ» و «ط» : «ابن ملامس» وفي «غربال الزمان» إلى «قلانس» والتصحيح من مصادر الترجمة.
[7] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 385- 389) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 546) و «مرآة الجنان» (3/ 383) و «البداية والنهاية» (12/ 269- 270) و «حسن المحاضرة» (1/ 564) .
[8] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «سباطا» والتصحيح من «وفيات الأعيان» والسّناط: الكوسج الذي لا لحية له أصلا وكذا السّنوط والسّنوطي. انظر «مختار الصحاح» (سنط) .

(6/371)


وحامل الهمّ ذو دعاء ... في علم ما تحجب الغيوب
فإن ألمّت بك الرّزايا ... أو قرعت بابك الخطوب
فجانب النّاس وادع من لا ... تكشف إلّا به الكروب
من يسأل النّاس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
وفيها الإمام أبو بكر يحيى بن سعدون الأزدي القرطبي [1] المقرئ النحوي، نزيل الموصل وشيخها. قرأ القراءات على جماعة، منهم ابن الفحّام بالإسكندرية، وسمع بقرطبة من أبي محمد بن عتّاب، وبمصر من أبي صادق المديني، وببغداد من ابن الحصين، وقد أخذ عن الزمخشري، وبرع في العربية والقراءات، وتصدّر فيهما، وكان ثقة ثبتا، صاحب عبادة وورع وتبحر في العلوم. توفي يوم الفطر عن اثنتين وثمانين سنة.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 200- 201) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 546- 548) .

(6/372)


سنة ثمان وستين وخمسمائة
فيها دخل قراقوش [1] مملوك تقي الدّين عمر بن شاه شاه ابن أخي السلطان صلاح الدّين بن أيوب المغرب، فنازل طرابلس المغرب وافتتحها، وكانت للفرنج.
وفيها سار شمس الدولة أخو صلاح الدّين، فافتتح اليمن وقبض على المتغلب عليها عبد النّبيّ الزنديق، وقام صيت الدولة الأيوبية.
قال في «السمط الغالي الثمن في أخبار ملوك اليمن» : وهم- أي بنو أيوب- سبعة: الملك المعظم توران بن أيوب، والملك العزيز أخوه سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، والملك المعز ولده إسماعيل، وسيف الإسلام أتابك سنقر بحكم الأتابكية لولد سيده الملك الناصر أيوب، ثم الملك الناصر أيوب بعده، ثم الملك المعظم سليمان بن تقي الدّين، ثم الملك المسعود صلاح الدّين يوسف بن الملك الكامل، فهؤلاء سبعة، ستة منهم من بني أيوب والسابع مملوكهم. انتهى.
وفيها التقى قلج [2] بن لاون الأرمني والرّوم فهزمهم، وكان نور الدّين قد استخدم ابن لاون وأقطعه سيس، وظهر له نصحه، وكان الكلب شديد
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «قراوش» والتصحيح من «العبر» (4/ 201) و «دول الإسلام» (2/ 81) و «غربال الزمان» ص (448) .
[2] كذا في «آ» و «ط» «قلج» وفي «الكامل في التاريخ» (11/ 387) و «العبر» (4/ 201) و «دول الإسلام» (2/ 81) : «مليح» .

(6/373)


النصح لنور الدّين، معينا له على الفرنج، ولما ليم نور الدّين في إعطائه سيس، قال: أستعين به وأريح عسكري وأجعله سدّا بيننا وبين صاحب القسطنطينية.
وفيها سار نور الدّين، فافتتح [بهسنا و] [1] مرعش، ثم دخل الموصل قلج أرسلان.
وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن محمد بن شنيف الدّارقزّي [2]- نسبة إلى دار القزّ محلة ببغداد [3]- الحنبلي المقرئ أسند من بقي في القراءات، لكنه لم يكن ماهرا بها. قرأ على ابن سوار، وثابت بن بندار، وعاش ستا وتسعين سنة.
وفيها أرسلان خوارزم شاه بن أتسز [4] خوارزم شاه بن محمد نوشتكين [5] . ردّ من قتال الخطا فمرض ومات، فتملّك بعده ابنه محمود، فغضب ابنه الأكبر خوارزم شاه علاء الدّين تكش [6] ، وقصد ملك الخطا فبعث معه جيشا، فهرب محمود واستولى هو على خوارزم، فالتجأ محمود إلى صاحب نيسابور المؤيّد فنجده، فالتقيا، فانهزم هؤلاء، وأسر المؤيد وذبح بين يدي تكش [6] صبرا، وقتل أمّ أخيه، وذهب محمود إلى غياث الدّين صاحب الغور [7] فأكرمه.
__________
[1] سقطت من «آ» و «ط» واستدركتها من «العبر» (4/ 202) و «دول الإسلام» (2/ 82) .
[2] انظر «العبر» (4/ 202) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 512) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 323- 324) وضبط السمعاني نسبته في «الأنساب» (5/ 301) بفتح الدال المهملة وسكون الراء وفتح القاف والزاي.
[3] انظر «معجم البلدان» (2/ 422) .
[4] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «أنس» والتصحيح من «العبر» (4/ 202) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 322) .
[5] مستدركة من «العبر» .
[6] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «تكس» بالسين، والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[7] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الفور» والتصحيح من «العبر» .

(6/374)


وفيها ألدكز ملك أذربيجان وهمذان. كان عاقلا حميد السيرة [1] واسع المملكة [2] ، وكان ابن امرأته أرسلان شاه بن طغرل السلجوقي هو السلطان وألدكز أتابكه، لكنه كان من تحت حكمه، وولي بعده ابنه محمد البهلوان.
وفيها الأمير نجم الدّين أيوب بن شادي الدّويني [3]- بضم الدال المهملة وكسر الواو، وتحتية، ونون، نسبة إلى مدينة بأذربيجان- وهو والد الملوك صلاح الدّين، وسيف الدّين، وشمس الدولة، وسيف الإسلام، وشاه شاه، وتاج الملوك بوري، وست الشام، وربيعة خاتون، وأخو الملك أسد الدّين. شبّ به فرسه، فحمل إلى داره ومات بعد أيام في ذي الحجّة، وكان يلقّب بالأجلّ الأفضل، وكان أول ولاية تولاها قلم تكريت بتولية عتّاب ابن مسعود السلجوقي، فقتل أخوه أسد الدّين رجلا فأخرجا منها، فخرجا إلى الموصل، فأحسن إليهما عماد الدّين بن زنكي الأتابك- والأتابك اسم لمن يربي الملك- وهو والد نور الدّين، وهو يومئذ متحكم السلجوقية، فولى نجم الدّين قلعة بعلبك، فبنى بها نجم الدّين خانقاه للصوفية، وهي المعروفة اليوم بالمنجمية، وكان نجم الدّين صالحا، حسن السيرة، كريم السريرة، ولما تولى [4] ولده صلاح الدّين مصر استدعى أباه وكان بدمشق في خدمة نور الدّين محمود بن زنكي، فاستأذنه فأذن له، فلما قدم على ولده صلاح الدّين أراد أن يخلع الأمر إليه فكره، ولما مات نجم الدّين دفن عند أخيه بالقاهرة، ثم نقلا سنة تسع وسبعين إلى المدينة النبوية.
__________
[1] في «العبر» (4/ 203) : «جيد السيرة» .
[2] في «العبر» : «واسع الممالك» .
[3] انظر «العبر» (4/ 203- 204) و «النجوم الزاهرة» (6/ 67- 68) .
[4] تحرفت في «آ» إلى «توفي» .

(6/375)


وفيها المؤيد أبي به بن عبد الله السّنجري [1] ، صاحب نيسابور، قتل في هذا العام.
وفيها جعفر بن عبد الله بن قاضي القضاة أبي عبد الله محمد بن عليّ الدّامغاني الحنفي أبو منصور. روى عن أبي مسلم السّمناني، وابن الطّيوري، وتوفي في جمادى الآخرة.
وفيها ملك النّحاة أبو نزار الحسن بن صافي البغدادي [2] الفقيه الأصولي المصنّف في الأصلين، والنحو، وفنون الأدب. استوطن دمشق آخرا، وتوفي بها عن ثمانين سنة. وكان لقّب نفسه ملك النّحاة، ويغضب على من لا يدعوه بذلك، وله ديوان شعر، ومدح النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- بقصيدة طنّانة، واتفق أهل عصره على فضله ومعرفته.
قال في «العبر» : كان نحويّا بارعا، وأصوليا متكلما، وفصيحا متفوها، كثير العجب والتيه، قدم دمشق واشتغل بها، وصنّف في الفقه والنحو والكلام، وعاش ثمانين سنة، وكان رئيسا ماجدا. انتهى.
وكان شافعيا.
قال ابن شهبة: تفقّه على أحمد الأشنهي، تلميذ المتولي، وقرأ أصول الفقه على ابن برهان، وأصول الدّين على أبي عبد الله القيرواني، والخلاف على أسعد الميهني، والنحو على الفصيحي وبرع فيه، وسافر إلى خراسان والهند، ثم سكن واسط مدة، وأخذ عنه جماعة من أهلها، ثم استوطن دمشق، وصنّف في النحو كتبا كثيرة، وصنّف في الفقه كتابا سمّاه
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 204) .
[2] انظر «إنباه الرواة على أنباء النحاة» (1/ 340- 345) و «العبر» (4/ 204) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 4- 5) .

(6/376)


«الحاكم» ومختصرين في الأصلين. وتوفي بدمشق في شوال ودفن بباب الصغير.
وفيها الحافظ عبد الرحيم بن محمد بن أحمد بن حمدان بن موسى الأصبهاني أبو الخير [1] . كان من الأئمة الحفّاظ الأمجاد، ومن محفوظه فيما قيل «الصحيحان» بالإسناد. تكلّم فيه أبو موسى المديني وغيره من النّقّاد.
قاله ابن ناصر الدّين [2] .
وفيها أبو جعفر الصّيدلاني محمد بن الحسن الأصبهاني [3] له إجازة من بيبى الهرثميّة تفرّد بها، وسمع من شيخ الإسلام وطبقته بهراة، ومن سليمان الحافظ وطبقته بأصبهان، توفي في ذي القعدة. قاله في «العبر» .
__________
[1] انظر «المستفادة من ذيل تاريخ بغداد» ص (291- 292) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 573- 575) .
[2] في «التبيان شرح بديعة البيان» (166/ آ) .
[3] انظر «العبر» (4/ 204) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 530- 531) .

(6/377)


سنة تسع وستين وخمسمائة
فيها ثارت الفرنج لموت نور الدّين الملك العادل أبو القاسم محمود ابن زنكي ابن آق سنقر [1] . تملّك حلب بعد أبيه ثم أخذ دمشق فملكها عشرين سنة، وكان مولده في شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وكان أجلّ ملوك زمانه، وأعدلهم، وأدينهم، وأكثرهم جهادا، وأسعدهم في دنياه وآخرته، هزم الفرنج غير مرّة. وأخافهم وجرّعهم المرّ، وكان أولا متحكما لملوك السلاجقة، ثم استقلّ، وكان في الإسلام زيادة ببقائه. افتتح من بلاد الرّوم عدة حصون، ومن بلاد الفرنج ما يزيد على خمسين حصنا، وكان أسمر، طويلا، مليحا، تركي اللحية، نقي الخدّ، شديد المهابة، حسن التواضع، طاهر اللّسان، كامل العقل والرأي، سليما من التكبر، خائفا من الله. قلّ أن يوجد في الصلحاء مثله، فضلا عن الملوك. ختم الله له بالشهادة ونوله الحسنى إن شاء وزيادة، وخطب له في الدّنيا، وأزال الأذان ب (حيّ على خير العمل) وبنى المدارس وسور دمشق، وأسقط ما كان يؤخذ من جميع المكوس، وبنى المكاتب للأيتام ووقف عليها الأوقاف، وبنى الرّبط والبيمارستان، وأقطع العرب الإقطاعات لئلا يتعرضوا للحاج، وبنى الخانات [2] ، وكان حسن الخطّ، كثير المطالعة، مواظبا على الصلوات
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 184- 188) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 531- 539) .
[2] في «ط» : «الخانات والرّبط» وقد تقدمت الإشارة إلى بنائه الرّبط قبل قليل كما ترى.

(6/378)


الخمس، كثير تلاوة القرآن، لم تسمع منه كلمة فحش، ذو عقل متين، يحب الصالحين ويزورهم في أماكنهم.
قال ابن الأثير [1] : طالعت تواريخ [2] الملوك المتقدّمين- قبل الإسلام وإلى يومنا هذا- فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين، وعمر بن عبد العزيز، ملكا أحسن سيرة منه، ولا أكثر تحريا للعدل والإنصاف. ثم ذكر زهده، وعدله، وفضله، وجهاده، واجتهاده، وكان لا يأكل، ولا يشرب، ولا يتصرف في شيء يخصه إلّا من ملك اشتراه من سهمه من غنائم الكفّار، ولم يلبس حريرا قطّ ولا ذهبا ولا فضة، وكان كثير الصيام، وله أوراد في الليل والنهار [3] ، وكان يقدم أشغال المسلمين عليها، ثم يتمم، وكان يلعب بالكرة في ميدان دمشق، فجاء رجل فوقف بإزائه، فقال للحاجب: سله ما حاجته؟
فقال: لي مع نور الدّين حكومة، فرمى الصولجان من يده وجاء إلى مجلس القاضي كمال الدّين الشّهرزوري، وقال له: لا تنزعج، واسلك معي ما تسلكه مع آحاد الناس، فلما حضر سوى بينه وبين خصمه وتحاكما، فلم يثبت للرجل عليه حقّ، وكان يدعي ملكا [4] في يد نور الدّين، فقال نور الدّين للقاضي: هل ثبت له عليّ حقّ؟ قال: لا. قال: فاشهدوا أني قد وهبت الملك له، وقد كنت أعلم أنه لا حقّ له عندي، وإنما حضرت معه لئلا يقال عنّي أني طلبت إلى مجلس الشرع فأبيت.
وبنى دار العدل، وكان يجلس في كل أسبوع أربعة أيام، ويحضر عنده الفقهاء، ويأمر بإزالة الحجّاب والبوّاب حتّى يصل إليه الشيخ الكبير
__________
[1] انظر «الكامل في التاريخ» (11/ 403) .
[2] في «الكامل» : «سير» .
[3] في «ط» : «في النهار والليل» .
[4] يعني شيئا من أملاكه.

(6/379)


والضعيف، ويسأل الفقهاء عما أشكل، وإذا حضر الحرب شد تركشين [1] وحمل قوسين، وبنى جامعه بالموصل، وفوّض أمره إلى الشيخ عمر الملّا، وكان من الأخيار، وإنما قيل الملّا لأنه كان يملأ أتون الآجر ويتقوت بالأجرة، وليس عليه غير قميص ولا عمامة، ولا يملك شيئا، فقيل له: إن هذا لا يصح لمثل هذا العمل، فقال: إذا وليت بعض الأجناد لا يخلو من الظلم وهذا الشيخ لا يظلم، فإن ظلم كان الظلم عليه، فدفع إلى الشيخ ستين ألف دينار، وقيل: ثلاثمائة ألف دينار، فتم بناؤه في ثلاث سنين، فلما دخل نور الدّين إلى الموصل دخله وصلى فيه، ووقف عليه قرية، فدخل عليه الملّا وهو جالس على دجلة، وترك بين يديه دفاتر الخرج، وقال: يا مولانا أشتهي أن تنظر فيها، فقال نور الدّين: يا شيخ، نحن عملنا هذا لله تعالى، دع الحساب ليوم الحساب، ثم رمى الورق إلى دجلة.
ووقع في يده ملك من ملوك الفرنج، فبذل في نفسه مالا عظيما، فشاور الأمراء، فأشاروا ببقائه في الأسر خوفا من شرّه، فقال له نور الدّين أحضر المال، فأحضر ثلاثمائة ألف دينار، فأطلقه، فلما وصل إلى بلده مات.
وطلب الأمراء سهمهم، فقال: ما تستحقون شيئا لأنكم أشرتم بغير الفداء، وقد جمع الله تعالى بين الحسنيين الفداء وموت اللعين، فبنى بذلك الفداء المارستان الذي بدمشق، والمدرسة، ودار الحديث، ووقف عليها الأوقاف.
وذكر المطري [2] في كتابه «تاريخ المدينة» أن السلطان محمود رأى
__________
[1] في «آ» و «ط» و «سير أعلام النبلاء» (20/ 531) : «تركاشين» وما أثبته من «الكامل في التاريخ» وهو الصواب. جاء في «معجم الألفاظ الفارسية المعربة» لادي شير ص (36) :
التّلكش تعريب «تركش» وهو الجعبة.
[2] هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن خلف الخزرجي الأنصاري السعدي المدني المطري، المتوفى سنة (741) هـ، واسم كتابه الذي ألمح إليه المؤلف «التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة» . انظر «لحظ الألحاظ» ص (110) و «الأعلام» (5/ 325- 326) .

(6/380)


النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- في ليلة واحدة ثلاث مرات، وهو يقول له في كل واحدة منها:
«يا محمود أنقذني من هذين الشّخصين» لشخصين أشقرين تجاهه، فاستحضر وزيره قبل الصبح فأخبره، فقال له [1] : هذا أمر حدث في مدينة النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- ليس له غيرك، فتجهز وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك، حتّى دخل المدينة على غفلة، فلما زار طلب الناس عامة للصدقة، وقال: لا يبقى بالمدينة أحد إلّا جاء، فلم يبق إلّا رجلان مجاوران من أهل الأندلس، نازلان في الناحية التي قبلة حجرة النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب التي تعرف اليوم بدار العشرة- رضي الله عنهم- قالا: نحن في كفاية، فجدّ في طلبهما، حتّى جيء بهما، فلما رآهما قال للوزير: هما [2] هذان، فسألهما عن حالهما وما جاء بهما، فقالا لمجاورة النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- فكرر السؤال عليهما، حتّى أفضى إلى العقوبة، فأقرا أنهما من النصارى، وصلا لكي ينقلا النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- من هذه الحجرة الشريفة، ووجدهما قد حفرا نقبا تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبلي يجعلان التراب في بئر عندهما في البيت، فضرب أعناقهما عند الشباك الذي في شرقي حجرة النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- خارج المسجد، ثم أحرقا، وركب متوجها إلى الشام راجعا، فصاح به من كان نازلا خارج السور واستغاثوا وطلبوا أن يبني لهم سورا يحفظهم، فأمر ببناء هذا السور الموجود اليوم [3] ومثل هذا لا يجري إلّا على يد وليّ الله تعالى. توفي- رحمه الله تعالى- بعلة الخوانيق، وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيبا، فما روجع، ودفن في بيت كان يخلو فيه بقلعة دمشق، ثم نقل إلى مدرسته التي
__________
[1] لفظة «له» لم ترد في «آ» .
[2] لفظة «هما» سقطت من «آ» .
[3] ولم يعد لذلك السور أثر الآن، وليت ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية يبادرون إلى إعادة بناء ذلك السور في مكانه الأول إحياء لذكر نور الدّين العظيم.

(6/381)


عند سوق الخواصين، وروي أن الدعاء عند قبره مستجاب [1] ويقال: إنه دفن معه ثلاث شعرات من شعرات [2] لحيته- صلى الله عليه وسلم- فينبغي لمن زاره أن يقصد زيارة شيء منه- صلى الله عليه وسلم- ولما مات كان عمره نيفا وخمسين سنة.
وقام بعده بالملك ولده الصالح إسماعيل، ولما استظهر السلطان صلاح الدّين بن أيوب على بلاد الشام كلها تركه في حلب حتّى توفي سنة سبع وسبعين، وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس لصلاحه أيضا.
وفيها النقيب أبو عبد الله [3] أحمد بن علي الحسيني [4] الأديب، نقيب الطالبين. روى عن أبي الحسين بن الطّيوري وجماعة، وتوفي في جمادى الأولى.
وفيها أبو إسحاق بن قرقول الحافظ إبراهيم بن يوسف الوهراني الحمزي- وحمزة اسم قريته [5]- سمع الكثير وعاش أربعا وستين سنة، وكان من أئمة أهل المغرب، فقيها، مناظرا، متفننا [6] حافظا للحديث، بصيرا بالرجال.
قال ابن ناصر الدّين: كان ثقة مأمونا.
وفيها الحافظ أبو العلاء العطّار الحسن بن أحمد الهمذاني [7]
__________
[1] قلت: وذلك من مبالغات المتأخرين.
[2] في «ط» : «من شعر» .
[3] في «آ» : «عبد الله» وهو خطأ.
[4] انظر «العبر» (4/ 205) .
[5] في «آ» و «ط» «الجمري، وجمرة اسم قريته» وهو تصحيف، صوابه: الحمزي- نسبة إلى حمزة مدينة بالمغرب- وهو ما أثبته انظر «وفيات الأعيان» (1/ 62- 63) و «العبر» (4/ 205) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 520) و «الوافي بالوفيات» (6/ 171) و «معجم البلدان» (2/ 302) و «التبيان شرح بديعة البيان» (167/ آ) .
[6] في «آ» : «متقنا» .
[7] انظر «العبر» (4/ 206) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 324- 329) .

(6/382)


المقرئ الحنبلي، الأستاذ، شيخ همذان وقارئها وحافظها. رحل وحمل القراءات والحديث عن الحدّاد، وقرأ بواسط على القلانسي، وببغداد على جماعة، وسمع من ابن بيان وطبقته، وبخراسان من الفراوي وطبقته.
قال الحافظ عبد القادر الرّهاوي: شيخنا أبو العلاء، أشهر من أن يعرّف، بل يتعذّر وجود مثله في أعصار كثيرة، وأول سماعه الدّوني في سنة خمس وتسعين وأربعمائة، برع على حفّاظ زمانه في حفظ ما يتعلق بالحديث من الأنساب، والتواريخ، والأسماء، والكنى، والقصص، والسير، وله التصانيف في الحديث [والقراءات] والرقائق. وله في ذلك مجلدات كبيرة منها: كتاب «زاد المسافر» في الحديث والقراءات، خمسون مجلدا. قال:
وكان إماما في العربية سمعت أنّ من جملة ما حفظ في اللغة كتاب «الجمهرة» وخرج له تلامذة في العربية أئمة، منهم إنسان كان يحفظ كتاب «الغريبين» للهروي، ثم أخذ عبد القادر يصف مناقب أبي العلاء ودينه وكرمه وجلالته، وأنه أخرج جميع ما ورثه، وكان أبوه تاجرا وأنه سافر مرّات ماشيا يحمل كتبه على ظهره، ويبيت في المساجد، ويأكل خبز الدّخن [1] إلى أن نشر الله ذكره في الآفاق.
وقال ابن رجب: ولد بكرة يوم السبت رابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
وقال ابن السمعاني في حقه: حافظ متقن مقرئ فاضل، حسن السيرة، مرضي الطريقة، عزيز النّفس، سخيّ بما يملك، مكرم للغرباء، يعرف القراءات، والحديث، والأدب، معرفة حسنة. سمعت منه.
__________
[1] جاء في «المعجم الوسيط» (دخن) : الدّخن: نبات عشبيّ من النجيليات، حبّه صغير أملس كحب السمسم، ينبت برّيّا ومزروعا.

(6/383)


وذكره ابن الجوزي في «طبقات الأصحاب» وذكر في آخر [1] كتابه «التلقيح» أن أبا العلاء كان هو محدّث عصره ومقرئه.
وكان لا يغشى السلاطين، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يمكّن أحدا أن يعمل في محلته منكرا ولا سماعا، وتوفي ليلة الخميس لسبع عشرة بقيت من جمادى الأولى ببغداد.
وفيها دهبل بن علي بن منصور بن إبراهيم بن عبد الله المعروف بابن كاره البغدادي الحريمي الخباز أبو الحسن [2] الحنبلي.
ولد سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وسمع من ابن البسري، وابن نبهان، وغيرهما.
قال الشيخ موفق الدّين [المقدسي] : كان فقيها من فقهاء أصحابنا، وكان شيخا صالحا.
وقال أبو المحاسن القرشي [3] : كان فقيها حسنا فاضلا زاهدا صادقا ثقة.
وذكر غيره أنه أضرّ بأخرة.
وقال ابن رجب: روى عنه ابن الأخضر وجماعة، وتوفي ليلة الثلاثاء لليلتين خلتا من المحرم، ودفن بمقبرة باب حرب.
وفيها أبو محمد بن الدهّان سعيد بن المبارك البغدادي النحوي، ناصح الدّين [4] ، صاحب التصانيف الكثيرة. ألّف شرحا ل «الإيضاح» في ثلاث
__________
[1] لفظة «آخر» سقطت من «آ» .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 329) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 46) .
[3] في «آ» و «ط» : «العرسي» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[4] انظر «إنباه الرواة» (2/ 47- 51) و «العبر» (4/ 207) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 581- 582) .

(6/384)


وأربعين مجلدة [1] ، وسكن الموصل، وأضرّ بأخرة، وكان سيبويه زمانه.
تصدّر للاشتغال [2] خمسين سنة [وعاش بضعا وسبعين سنة] [3] .
وفيها أبو محمد عبد الصمد بن بديل بن الخليل الجيلي [4] المقرئ الحنبلي.
قال ابن القطيعي: قدم بغداد، ونزل باب الأزج، وقرئ عليه القرآن بالروايات الكثيرة، ورواها عن أبي العلاء الهمذاني [5] وكان عالما ثقة ثبتا فقيها مفتيا، وكان اشتغاله بالفقه على والدي رحمه الله. وناظر، ودرّس، وأفتى، وكتب إليّ وأنا مسافر كتابا ذكر لي فيه ما أحببت ذكره لبركته: الله الله، كن مقبلا مديما على شؤونك مشتغلا، بما أنت بصدده، ولا تكن مضيعا أنفاسا معدودة وأعمارا محسوبة، واجعل ما لا يعنيك دبر أذنك، وأغمض عينيك [6] عما ليس من حظها، واطلب من ريحانه ما حلّ لك، ودع ما حرّم عليك، وبذلك تغلب شيطانك [7] ، وتحوز مطالبك، والسلام.
توفي- رحمه الله- سنة تسع وستين [8] وخمسمائة، ودفن بمقبرة أحمد بالقرب من بشر الحافي، رضي الله عنهما. انتهى.
وقال ابن النجار: صحب القاضي أبا يعلى، وتفقّه عليه، وكان خصيصا
__________
[1] قلت: وشرح أيضا كتاب «اللّمع» لابن جنّي في مجلدين، قال ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» (2/ 382) : ولم أر مثله مع كثرة شروح هذا الكتاب.
[2] في «آ» و «ط» : «للاشتغال» وأثبت لفظ «العبر» مصدر المؤلف.
[3] ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «العبر» .
[4] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 329- 330) .
[5] تصحفت في «آ» و «ط» و «ذيل طبقات الحنابلة» إلى «الهمداني» والتصحيح من ترجمته في «معرفة القراء الكبار» (2/ 542) .
[6] في «آ» و «ط» : «عينك» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[7] تحرفت في «آ» إلى «سليمانك» .
[8] تحرفت في «آ» إلى «وخمسين» .

(6/385)


به، وأنه توفي يوم السبت سلخ ربيع الأول سنة إحدى وسبعين وخمسمائة.
وفيها أبو بكر عبد الرحمن المقرئ بن الأسعد الغيّاثي [1] الفقيه الحنبلي، ويعرف بالأعزّ البغدادي.
كان في ابتداء أمره يغنّي، وله صوت حسن، ثم تاب وحسنت توبته.
وقرأ القرآن في زمن يسير، وتعلّم الخطّ في أيام قلائل، وحفظ كتاب الخرقي وأتقنه، وقرأ مسائل الخلاف على جماعة من الفقهاء، وكان ذكيا جدا يحفظ في يوم واحد ما لا يحفظ غيره في شهر. وسمع من عبد الوهاب الأنماطي، وسعد الخير الأنصاري [2] ، وتكلّم في مسائل الخلاف، وسافر إلى الشام، وسكن دمشق مدة، وأمّ بالحنابلة في جامعها، ثم توجه إلى ديار مصر، فاستوطنها إلى حين وفاته، وكان فقيها فاضلا قارئا مجوّدا، طيب النغمة.
قال ابن اللّيثي [3] : كان قويا في دين الله، متمسكا بالآثار، لا يرى منكرا أو يسمع به إلّا غيّره، لا يحابي في قول الحقّ أحدا. قال: وصحبته وسمعت عليه معتقدا في السّنّة. قاله ابن رجب.
وفيها عبد النّبيّ بن المهدي [4] الذي كان تغلّب على اليمن، ويلقب بالمهدي، وكان أبوه أيضا قد استولى على اليمن، فظلم، وغشم، وذبح الأطفال، وكان باطنيا من دعاة المصريين، فهلك سنة ست وستين، وقام بعده ولده [5] هذا فاستباح الحرائر، وتمرد على الله، فقتله شمس الدولة كما ذكرنا.
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 330- 331) وفيه: «عبد الرحمن بن النفيس بن الأسعد» .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الأنماطي» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[3] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «ابن اللتي» بالتاء، ولم أظفر بترجمة له فيما بين يديّ من المصادر والمراجع.
[4] انظر «العبر» (4/ 207) و «غربال الزمان» ص (453) .
[5] في «العبر» : «الولد» .

(6/386)


وفيها أبو الحسن علي بن أحمد بن حنين الكناني القرطبي [1] ، نزيل فاس. سمع «الموطأ» من أبي عبد الله بن الطلّاع [2] ، وأخذ القراءات عن أبي الحسن العبسي، وسمع من حازم بن محمد والكبار، وحجّ سنة خمسمائة، ولقي الكبار وعمّر دهرا.
ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة، وتصدّر للإقراء مدة.
وفيها الفقيه عمارة بن علي بن زيدان أبو محمد الحكمي المذحجي اليمني [3] الشافعي الفرضي، نجم الدّين، نزيل مصر، وشاعر العصر.
قال ابن خلّكان [4] : كان شديد التعصب للسّنّة، أديبا، ماهرا، لم يزل ماشي الحال في دولة المصريين إلى أن ملك صلاح الدّين، فمدحه ثم إنه شرع في أمور، وأخذ في اتفاق مع الرؤساء في التعصب للعبيديين وإعادة دولتهم، فنقل أمرهم- وكانوا ثمانية- إلى صلاح الدّين فشنقهم في رمضان.
انتهى.
وقال الإسنوي [5] : حجّ سنة تسع وأربعين، وسيّره قاسم بن هاشم أمير مكّة- شرفها الله تعالى- رسولا إلى الدّيار المصرية، فدخلها في ربيع الأول سنة خمسين وخمسمائة، والخليفة يومئذ الفائز بن الظافر، والوزير الصالح بن رزّيك، فمدحهما بقصيدة منها:
الحمد للعيس بعد العزم والهمم ... حمدا يقوم بما أولت [6] من النّعم
[7]
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 208) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 56- 57) .
[2] في «سير أعلام النبلاء» : «الكلاعي» .
[3] انظر «العبر» (4/ 208) و «غربال الزّمان» ص (453- 454) .
[4] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 433) .
[5] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 565- 568) .
[6] كذا في «آ» و «ط» و «وفيات الأعيان» (3/ 432) : «بما أولت» وفي «طبقات الشافعية» للإسنوي: «بما أوليت» .
[7] في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «من نعم» .

(6/387)


لا أجحد الحقّ عندي للركاب يد ... تمنّت اللّجم فيها رتبة الخطم
قرّبن بعد مزار العزّ من نظري ... حتّى رأيت إمام العصر من أمم
ورحن [1] من كعبة البطحاء مجتهدا [2] ... وفدا إلى كعبة المعروف والكرم
حيث الخلافة مضروب سرادقها ... بين النقيضين من عفو ومن نقم
فاستحسنا قصيدته وأجزلا صلته، وأقام إلى شوال من سنة خمسين في أرغد عيش وأعزّ جانب، ثم فارق مصر وتوجه إلى مكّة- حرسها الله تعالى- ثم إلى زبيد في صفر سنة إحدى وخمسين، ثم حجّ من عامه، فأرسله قاسم صاحب مكة إلى مصر في رسالة ثانية، فاستوطنها ولم يفارقها بعد، فأحسن إليه الصالح ومن يتعلق به كل الإحسان، وصحبوه مع اختلاف العقيدة وشدة التعصب للسّنّة، ولما لطف الله بإزالة ملك الدولة، كان عمارة مقيما بها، فرثاهم بقصيدة لامية طنّانة، ثم شرع في الاتفاق مع جماعة من رؤساء البلد على إعادة الدولة المصرية، فعلم بهم السلطان، وكانوا ثمانية من الأعيان، ومن جملتهم الفقيه عمارة المذكور، فأمر بشنق الجميع، فشنقوا في يوم السبت ثاني شهر رمضان، وكفى الله شرّهم.
ولما قبض على المذكور وأخذ للشنق تحيّل على المرور على باب القاضي الفاضل، فغيّب عنه، وامتنع من رؤيته، فأنشد:
عبد الرحيم قد احتجب ... إن الخلاص من العجب
وكان ذلك آخر شيء نظمه. انتهى ما ذكره الإسنويّ.
وقيل: إنه صلب منكسا، وأنه أنشد في هذه الحالة:
وما تعلّقت بالسرياق منتكسا ... لعلة أوجبت تعذيب ناسوتي
__________
[1] في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «وأرحن» .
[2] كذا في «آ» و «ط» و «طبقات الشافعية» للإسنوي: «مجتهدا» وفي «وفيات الأعيان» :
«والحرم» .

(6/388)


لكنّني مذ نفثت السّحر من كلمي ... عذّبت تعذيب هاروت وماروت
فالله أعلم.
وفيها هبة الله بن كامل المصري التّنوخي [1] قاضي القضاة، وداعي الدّعاة أبو القاسم، قاضي الخليفة العاضد. كان أحد الثمانية الذين سعوا في إعادة دولة بني عبيد، فشنقهم صلاح الدّين، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو البركات يحيى بن نجاح بن مسعود بن عبد الله اليوسفي [2] المؤدّب، الأديب الشاعر الحنبلي. سمع من أبي العز بن كادش وغيره.
وقال ابن الجوزي: سمع الحديث الكثير، ثم قرأ النحو، واللغة، وكان غزير الفضل، يقول الشعر الحسن.
وقال ابن القطيعي: كان من أهل الأدب والعلم [وفيه فضل] ، له خطّ حسن وشعر رقيق. سمع منه جماعة من الطلبة، وكان حنبلي المذهب، حسن الاعتقاد.
ومن شعره:
أقلى منك ذا الجفا أم دلال ... كلّ يوم يروعني منك حال
أعذول يغريك أم عزّة المع ... شوق أم هكذا يتيه الجمال
نظرة كنت يوم ذاك فإني ... صرت في القلب عثرة لا تقال
أنا عرّضت يوم سلع بنفسي ... للهوى فالغرام داء عضال
[3]
عبثا تقتل النّفوس ولا تح ... سب إلّا أن الدّماء حلال
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 209) و «دول الإسلام» (2/ 84) .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 331- 332) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[3] رواية البيت في «ذيل طبقات الحنابلة» :
أنا عرضت مهجتي يوم سلع ... للهوى فالغرام داء عضال

(6/389)


من عجيب أن لا يطيش لها سه ... م ولم تدر قطّ كيف النّضال
وهي طويلة.
توفي- رحمه الله تعالى- يوم السبت لإحدى عشرة مضت من شوال، ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد.

(6/390)


سنة سبعين وخمسمائة
فيها قدم صلاح الدّين، فأخذ دمشق بلا ضربة ولا طعنة، وسار الصالح إسماعيل بن نور الدّين الشهيد في حاشيته إلى حلب، ثم سار صلاح الدّين، فحاصر حمص بالمجانيق، ثم سار فأخذ حماة في جمادى الآخرة، ثم سار فحاصر حلب، وأساء العشرة في حقّ آل نور الدّين، ثم ردّ وتسلّم حمص، ثم عطف إلى بعلبك فتسلّمها، ثم كرّ فالتقى عز الدّين مسعود ابن مودود بن صاحب الموصل وأخو صاحبها، فانهزم المواصلة على قرون حماة أسوأ هزيمة، ثم استناب أخاه بدمشق سيف الإسلام، وكان بمصر أخوه العادل.
وفيها توفي أحمد بن المبارك المرقّعاتي [1] . روى عن جدّه لأمّه ثابت بن بندار، وكان يبسط المرقّعة للشيخ عبد القادر [2] على الكرسي، توفي في صفر.
وفيها خديجة بنت أحمد بن الحسين النّهرواني [3] . روت عن أبي عبد الله النّعالي، وكانت صالحة، توفيت في رمضان.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 210) .
[2] يعني الجيلاني.
[3] انظر «العبر» (4/ 210) .

(6/391)


وفيها حامد بن محمود بن حامد بن محمد [1] بن أبي عمرو الحرّاني [2] ، الخطيب الفقيه الحنبلي الزاهد، أبو الفضل، المعروف بابن أبي الحجر، ويلقب تقي الدّين، شيخ حرّان، وخطيبها ومدرسها ومفتيها.
ولد سنة ثلاث عشرة وخمسمائة بحرّان كما قال ابن تيمية، ورحل إلى بغداد، وسمع بها من عبد الوهاب الأنماطي الحافظ وغيره، وتفقّه بها، وبرع وناظر، ولقي بها الشيخ عبد القادر ولازمه، فرآه الشيخ يوما يمشي على سجادته- على بساط للشيخ- فقال الشيخ عبد القادر: كأني بك وقد دست على بساط السلطان، فكان كما قال.
وقال ابن الجوزي: صديقنا، قدم بغداد، وتفقّه وناظر، وعاد إلى حرّان، وأفتى ودرّس، وكان ورعا به وسوسة في الطهارة.
وذكر ابن القطيعي نحوا من ذلك، وقال: كان تاليا للقرآن، كتبت عنه، وكان ثقة. انتهى.
وقال [ناصح الدّين] بن الحنبلي: كان شيخ حرّان في وقته، بنى نور الدّين محمود المدرسة في حرّان لأجله، ودفعها إليه ودرّس بها، وتولى عمارة جامع حرّان فما قصّر فيه.
وقال ابن رجب: أخذ عنه العلم جماعة من أهل حرّان، منهم:
الخطيب فخر الدّين بن تيمية، وابن عبدوس، وغيرهما.
وسمع منه الحديث بحرّان جماعة، منهم: أبو المحاسن القرشي الدمشقي، وابن القطيعي. وروى عنه في «تاريخه» وقال: توفي لسبع خلون من شوال بحرّان.
__________
[1] قوله: «ابن محمد» سقط من «آ» .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 332- 334) .

(6/392)


وفيها شملة [1] التركماني. تملّك بلاد فارس، وجدّد قلاعا، وحارب الملوك، ونهب المسلمين، وكان يخطب للخليفة. التقاه البهلوان [بن إيلدكز] [2] ومعه عسكر من التركمان لهم ثأر على شملة [1] فانهزم جيشه، وأصابه سهم وأسر فمات، وكان ظالما جبّارا، فرح الناس بمصرعه، وكانت أيّامه عشرين سنة. قاله في «العبر» .
وفيها قايماز الملك قطب الدّين المستنجدي [3] . عظم في دولة مولاه، وصار مقدّم الجيش في دولة المستضيء، واستبد بالأمور إلى أن همّ بالخروج، فسار بعسكره نحو الموصل، فمات في ذي الحجّة، وكان فيه كرم وقلة ظلم.
وفيها أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن خليل القيسي اللّبلي [4] نزيل فاس [5] ثم مرّاكش. روى عن ابن الطلّاع [6] ، وحازم بن محمد. وسمع «صحيح مسلم» من أبي علي الغسّاني.
قال [ابن] الأبّار: كان من أهل الرواية والدراية، لازم مالك بن وهيب مدة.
وفيها أبو شجاع عمر بن محمد البسطامي البلخي [7] كان فقيها فاضلا.
__________
[1] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «سملة» والتصحيح من «العبر» (4/ 211) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 64- 65) و «البداية والنهاية» (12/ 291) .
[2] زيادة من «الكامل في التاريخ» (11/ 267) و «العبر» و «النجوم الزاهرة» (6/ 74) واسمه محمد، وكان يلقب بالبهلوان.
[3] انظر «العبر» (4/ 211) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 66) .
[4] انظر «العبر» (4/ 211) و «النجوم الزاهرة» (6/ 75) .
[5] تحرفت في «آ» إلى «فارس» .
[6] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «ابن الطلاح» والتصحيح من «العبر» .
[7] انظر «الأنساب» (2/ 214) و «سير أعلام النبلاء» (20/ 452- 454) و «طبقات الشافعية الكبرى» (7/ 248- 250) .

(6/393)


ومن شعره:
وجرّبت أبناء الزّمان بأسرهم ... فأيقنت أنّ القلّ في عدّهم كثر
وخبرت طغواهم ولوم فعالهم ... فلما التقينا صغّر الخبر الخبر
وفيها أبو الفضل يحيى بن جعفر [1] صاحب المخزن، ونائب الوزارة.
كان حافظا للقرآن، فاضلا، عادلا، محبا للصالحين والعلماء، وذكره مأوى لهم. سمع الحديث الكثير. قام إليه الحيص بيص وهو في نيابة الوزارة، فقال:
لكلّ زمان من أماثل أهله ... برامكة يمتارهم كلّ معشر
[2]
أبو الفضل يحيى مثل يحيى بن خالد ... يدا [3] وأبوه جعفر مثل جعفر
فقام ناشب [4] الواعظ، فأنشد:
وفي الجانب الشّرقيّ يحيى بن جعفر ... وفي الجانب الغربيّ موسى بن جعفر
فذاك إلى الله الكريم شفيعنا ... وهذا إلى المولى الكريم المطهّر
أراد جعفر الصّادق.
__________
[1] انظر «المنتظم» (10/ 256) و «وفيات الأعيان» (6/ 243- 244) و «الكامل في التاريخ» (11/ 426) و «النجوم الزاهرة» (6/ 74- 75) .
[2] رواية «النجوم الزاهرة» : «كل معسر» .
[3] في «آ» و «ط» : «ندى» وأثبت لفظ «النجوم الزاهرة» .
[4] في «النجوم الزاهرة» : «ثابت» .

(6/394)