شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وثمانين وخمسمائة
فيها نازل صلاح الدّين الموصل، وقد سارت إلى خدمته ابنة الملك نور الدّين محمود زوجة عز الدّين صاحب البلد، وخضعت له، فردّها خائبة، وحصر الموصل، فبذل أهلها نفوسهم، وقاتلوا أشدّ قتال، فندم وترحّل عنهم لحصانتها، ثم نزل على ميّافارقين فأخذها بالأمان، ثم ردّ إلى الموصل وحاصرها أيضا، ثم وقع الصلح على أن يخطبوا له، وأن يكون صاحبها طوعه، وأن يكون لصلاح الدّين شهرزور وحصونها، ثم رحل، فمرض واشتد مرضه بحرّان، حتّى أرجفوا بموته، وسقط شعر لحيته ورأسه.
وفيها استولى ابن عائنة الملثّم على أكثر بلاد إفريقية، وخطب للناصر العبّاسي، وبعث رسوله يطلب التقليد بالسلطنة.
وفيها توفي صدر الإسلام أبو الطاهر بن عوف إسماعيل بن مكّي بن إسماعيل بن عيسى بن عوف الزّهري الإسكندراني المالكي [1] في شعبان، وله ست وتسعون سنة، تفقّه على أبي بكر الطّرطوشي، وسمع منه ومن أبي عبد الله الرّازي، وبرع في المذهب، وتخرّج به الأصحاب، وقصده السلطان صلاح الدّين وسمع منه «الموطأ» .
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 242) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 122- 123) .

(6/441)


وفيها محمد البهلوان بن إلدكز [1] الأتابك، شمس الدّين، صاحب أذربيجان، وعراق العجم، توفي في هذه السنة، وقام بعده أخوه قزل، وكان السلطان طغرل [2] السلجوقي من تحت حكم البهلوان كما كان أبوه أرسلان شاه من تحت حكم أبيه إلدكز [1] وكان له خمسة آلاف مملوك.
وفيها الشيخ الكبير، الولي الشهير، حياة بن قيس الحرّاني [3] ، أحد الأربعة الذين قال فيهم أبو عبد الله القرشي: رأيت أربعة من المشايخ يتصرفون في قبورهم كحياتهم، الشيخ معروف الكرخي، والشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ عقيل المنبجي، والشيخ حياة بن قيس الحرّاني، رضي الله عنهم، تخرّج بالشيخ حياة كثير من المريدين وأنجبوا، وله من الكرامات أحوال تذهل العقول، منها ما حكاه الشيخ الصالح غانم بن يعلى، قال:
انكسرت بنا سفينة في بحر الهند، فنجوت إلى جزيرة فوجدت فيها مسجدا فيه أربعة نفر متوجهون إلى الله تعالى، فلما كان وقت العشاء دخل الشيخ حياة الحرّاني فتبادروا للسلام، وتقدم فصلى بهم، ثم صلوا الفجر، وسمعته يقول في مناجاته: يا حبيب التائبين، ويا سرور العارفين، ويا قرّة عين العابدين، ويا أنس المنفردين، ويا حرز اللاجئين، ويا ظهير المنقطعين، يا من حنّت إليه قلوب الصّدّيقين، وأنست به أفئدة المحبين، وعلّقت عليه همة الخائفين. ثم بكى، فرأيت الأنوار قد حفّت بهم، ثم خرج من المسجد وهو يقول:
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الزكر» والتصحيح من «العبر» (4/ 242) .
[2] في «آ» و «ط» : «طغربك» وفي «العبر» : «طغرل» وهو ما أثبته، وفي «سير أعلام النبلاء» (21/ 145) : «طغريل» .
[3] انظر «العبر» (4/ 243) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 181- 182) و «مرآة الجنان» (3/ 419- 422) و «طبقات الأولياء» ص (430- 431) و «غربال الزمان» ص (465) .

(6/442)


سير المحبّ إلى المحبوب زلزال ... والقلب فيه من الأهوال بلبال
[1]
أطوي المهامة [2] من قفر على قدم ... إليك تدفعني [3] سهل وأجبال
فقالوا لي: اتبع الشيخ، فتبعته، فكانت الأرض تطوى لنا، فوافينا حرّان وهم يصلون الصبح. سكن- رحمه الله تعالى- حرّان إلى أن توفي. قاله ابن الأهدل.
وفيها أبو اليسر شاكر بن عبد الله بن محمد التّنوخي المعرّي ثم الدّمشقي [4] ، صاحب ديوان الإنشاء في الدولة النّورية، عاش خمسا وثمانين سنة.
وفيها المهذّب بن الدّهّان عبد الله بن أسعد بن علي الموصلي [5] الفقيه الشافعي الأديب الشاعر النحوي، ذو الفنون، دخل يوما على نور الدّين الشهيد، فقال له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت كما لا يريد الله ولا رسوله، ولا أنت ولا أنا، ولا ابن عصرون، فقال نور الدّين: كيف ذلك؟
فقال: لأن الله ورسوله يريدان مني الإعراض عن الدّنيا والإقبال على الآخرة ولست كذلك، وأنت تريد منّي أن لا أسألك شيئا ولست كذلك، وأنا أريد من نفسي أن أكون أسعد الناس ولست كذلك، وابن عصرون يريد مني أن أكون مقطّعا إربا إربا ولست كذلك، فضحك منه وأمر له بصلة.
وقال العماد الكاتب: لما وصل السلطان صلاح الدّين إلى حمص، خرج إلينا ابن الدّهّان، فقدّمته وقلت: هذا الذي يقول في قصيدة يمدح بها ابن رزّيك:
__________
[1] البلبال: الهم ووسواس الصدر. انظر «مختار الصحاح» (بلل) .
[2] المهامه: المفاوز. انظر «مختار الصحاح» (مهه) .
[3] في «غربال الزمان» : «ترفعني» .
[4] انظر «العبر» (4/ 243) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 145) .
[5] انظر «العبر» (4/ 243) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 176- 177) .

(6/443)


أأمدح التّرك أبغي الفضل عندهم ... والشّعر ما زال عند التّرك متروكا
فأعطاه السلطان مائة دينار، وقال: حتى لا تقول إنه متروك عند التّرك، فامتدحه بقصيدته العينية التي يقول فيها:
أعلمت بعدك وقفتي بالأجرع ... ورضا طلولك عن دموعي الهمّع
لا قلب لي فأعي الكلام فإنني ... أودعته بالأمس عند مودّعي
قل للبخيلة بالسلام تورّعا ... كيف استبحت دمي ولم تتورّعي
هل تسمحين ببذل أيسر نائل ... أن أشتكي وجدي إليك وتسمعي
أو سائلي جسدي ترى أين العنا ... أو فاسألي إن شئت شاهد أدمعي
فالسّقم آية ما أجنّ من الجوى ... والدّمع بيّنة على ما أدّعي
وله في غلام لسبته [1] نحلة في شفته:
بأبي من لسبته نحلة ... آلمت أكرم شيء وأجل
أثّرت لسبتها في شفة ... ما براها الله إلّا للقبل
حسبت أنّ بفيه بيتها ... إذ رأت ريقته مثل العسل
توفي بحمص في شعبان، وكان مدرسا بها.
وفيها عبد الحقّ بن عبد الرحمن بن عبد الله أبو محمد الأزدي الإشبيلي [2] الحافظ، ويعرف بابن الخرّاط، أحد الأعلام، ومؤلف «الأحكام الكبرى» و «الصغرى» و «الجمع بين الصحيحين» وكتاب «الغريبين في اللغة» وكتاب «الجمع بين [الكتب] الستة» [3] وغير ذلك. روى عن أبي الحسن شريح وجماعة، نزل بجاية، وولي خطابتها، وبها توفي بعد محنة لحقته من
__________
[1] جاء في «لسان العرب» (لسب) : لسبته الحيّة والعقرب الزّنبور ... لدغته.
[2] انظر «العبر» (4/ 243- 244) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 198- 202) .
[3] تصحفت لفظة «الستة» في «آ» و «ط» إلى «السنة» ولفظة «الكتب» سقطت منهما والتصحيح من «العبر» و «كشف الظنون» (1/ 600) وانظر «سير أعلام النبلاء» (21/ 199) .

(6/444)


الدولة في ربيع الآخر عن إحدى وسبعين سنة، وكان مع جلالته في العلم قانعا متعفّفا موصوفا بالصلاح والورع ولزوم السّنّة.
وفيها الإمام السّهيلي أبو زيد، وأبو القاسم، وأبو الحسن، عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد العلّامة الأندلسي [1] المالقي النّحوي، الحافظ العلم، صاحب التصانيف، منها «الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام» و « [التعريف و] الإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء الأعلام» [2] وكتاب «نتائج الفكر» [3] ومسألة رؤية الله- عزّ وجل- في المنام، وروية النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومسألة السرّ في عور الدّجال، ومسائل كثيرة، وله أبيات الفرج المشهورة.
قال ابن دحية أنشدنيها، وقال: ما يسأل الله بها أحد حاجة إلّا أعطاه إيّاها، وهي:
يا من يرى ما في الضّمير ويسمع ... أنت المعدّ لكلّ ما يتوقّع
يا من يرجّى للشدائد كلّها ... يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول كن ... أمنن فإنّ الخير عندك أجمع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأي باب أقرع
[4]
__________
[1] انظر «إنباه الرواة» (2/ 162- 164) و «وفيات الأعيان» (3/ 143- 144) و «العبر» (4/ 244) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 157) و «البداية والنهاية» (12/ 318- 319) .
[2] نقوم بتحقيقه أنا وصديقي الأستاذ حسن مروة بالاعتماد على نسختين خطيتين، ونرجو الله عزّ وجل أن يعيننا على الانتهاء منه ودفعه إلى الطبع قريبا إن شاء الله تعالى.
ولابن عسكر كتاب سمّاه «التكملة والإتمام لكتاب التعريف والإعلام» استدرك به ما فات السّهيلي ذكره، وفي النية تحقيقه عقب الفراغ من تحقيق «التعريف والإعلام» إن شاء الله تعالى.
[3] تحرف اسم الكتاب في «آ» و «ط» إلى «نتائج النظر» والتصحيح من «وفيات الأعيان» و «البداية والنهاية» .
[4] تأخر هذا البيت في «وفيات الأعيان» و «البداية والنهاية» إلى ما بعد البيت الذي يليه.

(6/445)


ما لي سوى فقري إليك وسيلة ... وبالافتقار إليك فقري أدفع
من ذا الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لمجدك أن تقنّط عاصيا ... الفضل أجزل والمواهب أوسع
[1] وله أشعار كثيرة نافعة، وكان مالكيا ضريرا، أخذ القراءات عن جماعة، وروى عن ابن العربي والكبار، وبرع في العربية واللغات والأخبار والأثر، وتصدّر للإفادة، وكان مشهورا بالصلاح، والورع، والعفاف، والقناعة بالكفاف، وأقام ببلده إلى أن نمى خبره إلى مرّاكش، فطلبه وإليها وأحسن إليه، وأقبل [بوجه الإقبال] عليه، وأقام بها نحو ثلاثة أعوام.
وهو منسوب إلى السّهيل، قرية بالقرب من مالقة بالأندلس.
وتوفي في شعبان في اليوم الذي توفي فيه شيخ الإسكندرية أبو الطاهر ابن عوف، وعاش اثنتين وسبعين سنة.
وفيها عبد الرزاق بن نصر بن المسلم الدّمشقي النجّار [2] . روى عن ابن الموازيني وغيره، وتوفي في ربيع الآخر عن أربع وثمانين سنة.
وفيها ابن شاتيل أبو الفتح، عبيد الله بن عبد الله بن محمد بن نجا الدّبّاس [3] مسند بغداد. سمع الحسين بن البسري، وأبا غالب بن الباقلاني وجماعة، وتفرّد بالرواية عن بعضهم، ووهم من قال: إنه سمع من [ابن] البطر، توفي في رجب عن تسعين سنة.
وفيها عصمة الدّين الخاتون [4] بنت الأمير معين الدّين أنر زوجة
__________
[1] وزاد ابن فرحون في «الدّيباج المذهب» ص (151) طبع دار الكتب العلمية:
ثم الصّلاة على النّبيّ وآله ... خير الأنام ومن به يتشفّع
[2] انظر «العبر» (4/ 244) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 130) .
[3] انظر «العبر» (4/ 244- 245) وما بين الحاصرتين مستدرك منه و «سير أعلام النبلاء» (21/ 117- 118) .
[4] انظر «العبر» (4/ 245) .

(6/446)


نور الدّين ثم صلاح الدّين، وواقفة المدرسة التي بدمشق للحنفية، وبنت خانقاه للصوفية على الشرف القبلي خارج باب النصر، وبنت تربة بقاسيون على نهر يزيد تجاه قبة جركس ودفنت بها، وهي في يومنا هذا داخل جامع الجديد بالصالحية، وأوقفت على هذه الأماكن أوقافا كثيرة.
وفيها الميّانشي [1] أبو حفص، عمر بن عبد المجيد القرشي، شيخ الحرم، تناول من أبي عبد الله الرّازي، وسمع من جماعة، وله كرّاس في علم الحديث. توفي بمكّة.
وفيها أبو المجد البانياسي الفضل بن الحسين الحميري عفيف الدّين الدمشقي [2] . روى عن أبي القاسم الكلابي، وأبي الحسن بن الموازيني.
توفي في شوال وله ست وثمانون سنة.
وفيها صاحب حمص الملك ناصر الدّين محمد بن الملك أسد الدّين شيركوه [3] ، وابن عم السلطان صلاح الدّين. كان فارسا شجاعا جريئا متطلعا إلى السلطنة، قيل: إنه قتله الخمر، وقيل: بل سقي السّمّ، مات يوم عرفة.
وفيها أبو سعد الصّائغ محمد بن عبد الواحد الأصبهاني [4] المحدّث. روى عن غانم البرجي، والحداد، وخلق.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الماشي» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (4/ 245) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 157) و «النجوم الزاهرة» (6/ 101) و «منتخب مخطوطات الحديث في الظاهرية» للأستاذ المحدّث الشيخ محمد ناصر الدّين الألباني ص (416) .
[2] انظر «العبر» (4/ 245) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 157) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 480) و «العبر» (4/ 246) و «النجوم الزاهرة» (6/ 101) .
[4] انظر «العبر» (4/ 246) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 129- 130) و «النجوم الزاهرة» (6/ 101) .

(6/447)


وفيها أبو موسى المدينيّ [1] محمد بن أبي بكر عمر بن أحمد الحافظ، صاحب التصانيف، وله ثمانون سنة. سمع من غانم البرجي وجماعة من أصحاب أبي نعيم، ولم يخلّف بعده مثله. مات في جمادى الأولى، وكان مع براعته في الحفظ والرّجال صاحب ورع وعبادة وجلالة وتقى.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 246) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 152- 159) و «النجوم الزاهرة» (6/ 101) .

(6/448)


سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة
قال العماد الكاتب: أجمع المنجمون في هذا العام في جميع البلاد على خراب العالم في شعبان عند اجتماع الكواكب الستة في الميزان بطوفان الرّيح، وخوّفوا بذلك الأعاجم والرّوم، فشرعوا في حفر مغارات، ونقلوا إليها الماء والزّاد [1] وتهيئوا، فلما كانت الليلة التي عيّنها المنجمون لمثل ريح عاد، ونحن جلوس عند السلطان، والشموع توقد فلا تتحرك، ولم نر ليلة مثل ركودها.
وفيها توفي العلّامة عبد الله بن برّي أبو محمد المقدسي ثم المصري [2] النّحوي، صاحب التصانيف، وله ثلاث وثمانون سنة. روى عن أبي صادق المديني وطائفة، وانتهى إليه علم العربية في زمانه، وقصد من البلاد لتحقيقه وتبحّره، ومع ذلك فله حكايات في التغفّل [3] وسذاجة الطبع، كان يلبس الثياب الفاخرة، ويأخذ في كمّه العنب [مع الحطب] والبيض، فيقطر على رجله ماء العنب، فيرفع رأسه ويقول: العجب! إنها [4] تمطر مع
__________
[1] في «العبر» بطبعتيه: «والأزواد» .
[2] انظر «إنباه الرواة» (2/ 110- 111) و «العبر» (4/ 247- 248) وما بين حاصرتين في الترجمة مستدرك منه و «سير أعلام النبلاء» (21/ 136- 137) .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الفضل» والتصحيح من «العبر» بطبعتيه.
[4] في «آ» و «ط» : «إنما» والتصحيح من «العبر» بطبعتيه.

(6/449)


الصحو، وكان يتحدث ملحونا، ويتبرم بمن يخاطبه بإعراب، وهو شيخ الجزولي.
وفيها أبو السعود أحمد بن المبارك الزاهد الحريمي [1] . كان عطّارا فأقامه الله، فانقطع إليه، وصحب الشيخ عبد القادر الكيلاني، وله كرامات، وكان لا يأكل حتّى يطعم، ولا يشرب حتّى يسقي، ولا يلبس ثوبا حتّى يجعل في عنقه، ولا يتكلم إلّا جوابا، ولا يزال على طهارة، مستقبل القبلة، وقع عليه سقف، فجاء جذع فكسر رؤوس أضلاعه فلم يتحرك، حتى جاء أصحابه فأزالوا السقف عنه، فأقام عشرين سنة لا يعلم أحد أن أضلاعه مكسّرة حتّى مات، فوجدوها على المغتسل مكسّرة.
وفيها عبد الرّحمن بن جامع بن غنيمة بن البنّاء البغدادي الأزجي الميداني [2] الفقيه الحنبلي الزاهد، أبو الغنائم، ويسمى أيضا غنيمة.
ولد سنة خمسمائة تقريبا، وسمع الحديث من أبي طالب اليوسفي وغيره، وتفقّه على أبي بكر الدّينوري، وقرأ الخلاف على أسعد الميهني، وبرع، وأفتى، وناظر، ودرّس بمسجده، وكان عارفا بالمذهب، صالحا، تقيا.
قال ابن النجار: كان فقيها فاضلا ورعا زاهدا، مليح المناظرة، حسن المعرفة بالمذهب والخلاف. وحدّث عنه الشيخ موفق الدّين وغيره، وتوفي ليلة الاثنين ثامن شوال ودفن بمقبرة باب حرب.
وفيها علي بن مكّي [3] بن عبد الله أبو الحسن الضرير المقرئ الفقيه
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (20/ 502) .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 353- 354) .
[3] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «ابن عكبر» .

(6/450)


الحنبلي الأزجي [1] . قرأ القرآن، وسمع الحديث الكثير من ابن ناصر، وابن البطي، وغيرهما، وتفقّه على أبي حكيم النّهرواني، وكان من أهل الدّين والصلاح.
توفي ليلة الأربعاء عاشر شوال، ودفن بباب حرب إلى جانب شيخه أبي حكيم.
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 354) .

(6/451)


سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة
فيها افتتح صلاح الدّين بالشام فتحا مبينا، ورزق نصرا متينا، وهزم الفرنج وأسر ملوكهم، وكانوا أربعين ألفا، ونازل القدس وأخذه، وكان المنجمون قد قالوا له: تفتح القدس وتذهب عينك الواحدة، فقال: رضيت أن أفتحه وأعمى، فافتتحها بعد أن كانت بأيدي الفرنج أكثر من تسعين سنة [1] ثم أخذ عكا، ثم جال فافتتح عدة حصون، ودخل على المسلمين سرور لا يعلمه إلّا الله تعالى.
وفيها قتل ابن الصّاحب [2] ببغداد، ولله الحمد، فذلّت الرافضة.
وفيها توفي عبد الجبّار بن يوسف البغدادي [3] ، شيخ الفتوة وحامل لوائها، كان قد علا شأنه بكون الناصر الخليفة يمضي إليه، توفي حاجّا بمكّة.
وفيها عبد المغيث بن زهير بن علوي الحربي [4] المحدّث الزاهد أبو العزّ [5] بن [أبي] حرب [6] الحنبلي، محدّث بغداد.
__________
[1] انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي وتعليقي عليه ص (22) طبع دار ابن كثير.
[2] انظر «العبر» (4/ 248) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 164- 165) واسمه هبة الله وكنيته مجد الدّين.
[3] انظر «العبر» (4/ 249) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 133) .
[4] انظر «العبر» (4/ 249) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 354- 358) .
[5] في «آ» و «ط» : «أبو العزيز» والتصحيح من «العبر» و «ذيل طبقات الحنابلة» .
[6] ما بين حاصرتين مستدرك من «ذيل طبقات الحنابلة» .

(6/452)


ولد سنة خمسمائة تقريبا، وسمع من أبي القاسم بن الحصين، وابن كادش، وغيرهما، وعني بهذا الشأن، وحصّل الأصول، ولم يزل يسمع حتّى سمع من أقرانه، وتفقّه على القاضي أبي الحسين بن الفرّاء، وكان صالحا متدينا صدوقا أمينا، حسن الطريقة، جميل السيرة، حميد الأخلاق، مجتهدا في اتباع السّنّة والآثار، منظورا إليه بعين الديانة والأمانة، وجمع وصنّف وحدّث، ولم يزل يفيد الناس إلى حين وفاته، وبورك له، حتى حدّث بجميع مروياته، وسمع منه الكبار.
قال الدّبيثي: عني بطلب الحديث وسماعه، وجمعه من مظانه، وخرّج وصنّف، وكان ثقة صالحا صاحب طريقة حميدة، وكتبنا عنه ونعم الشيخ كان، وروى عنه الشيخ موفق الدّين، والحافظ عبد الغني، وغيرهما، وقدم دمشق وحدّث بها.
وقال ابن الحنبلي: سمعت من عبد المغيث، وكان حافظا زاهدا ورعا، كنت إذا رأيته خيّل إليّ أنه أحمد بن حنبل غير أنه كان قصيرا، وتوفي ليلة الأحد ثالث عشر [1] المحرم، ودفن بتكة قبر الإمام أحمد.
قال الذهبي: صنف جزءا في «فضائل يزيد» أتى فيه بالموضوعات.
وفيها قاضي القضاة ابن الدّامغاني أبو الحسن علي بن أحمد ابن قاضي القضاة أبي عبد الله محمد بن علي الحنفي [2] وله سبعون سنة، وكان ساكنا وقورا محتشما، حدّث عن ابن الحصين وطائفة، وولي القضاء بعد موت قاضي القضاة أبي القاسم الزّينبي ثم عزل عند موت المقتفي، فبقي معزولا إلى سنة سبعين، ثم ولي إلى أن مات.
__________
[1] في «ط» : «ثالث عشري» .
[2] انظر «العبر» (4/ 249) و «الجواهر المضية» (2/ 538- 540) .

(6/453)


وفيها ابن المقدّم الأمير الكبير شمس الدّين محمد بن عبد الملك [1] كان من أعيان أمراء الدولتين، وهو الذي سلّم سنجار إلى نور الدّين ثم تملّك بعلبك، وعصى على صلاح الدّين مدة، فحاصره ثم صالحه، وناب له بدمشق، وكان بطلا شجاعا محتشما عاقلا، شهد في هذا العام الفتوحات.
وحجّ فلما حلّ بعرفات رفع علم السلطان صلاح الدّين وضرب الكوسات، فأنكر عليه أمير ركب العراق [2] طاشتكين، فلم يلتفت [إليه] ، وركب في طلبه، وركب طاشتكين، فالتقوا، وقتل جماعة من الفريقين، وأصاب ابن المقدّم سهم في عينه فخرّ صريعا، وأخذ طاشتكين ابن المقدّم فمات من الغد بمنى [3] ، وهو باني المدرسة المقدّمية، والتربة والخان داخل باب الفراديس.
وفيها مخلوف بن علي بن جارة أبو القاسم المغربي ثم الإسكندراني [4] المالكي، أحد الأئمة الكبار، تفقّه به أهل الثغر زمانا.
وفيها أبو السعادات القزّاز نصر الله بن عبد الرحمن بن محمد الشيباني الحريمي [5] مسند بغداد. سمع جدّه أبا غالب القزّاز، وأبا القاسم الرّبعي، وطائفة، وتوفي في ربيع الآخر عن اثنتين وتسعين سنة.
وفيها أبو بكر محمد بن نصر الخرقي القاشاني، الحافظ الثقة،
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 250) و «النجوم الزاهرة» (6/ 105) .
[2] لفظة «العراق» سقطت من «العبر» المطبوع في الكويت واستدركت في المطبوع في بيروت، ولفظة «إليه» التي بين حاصرتين مستدركة من الطبعتين.
[3] ضبطها محقق «العبر» طبع الكويت بضم الميم وهو خطأ، وتبعه محقق طبعة بيروت فتصحح فيهما.
[4] انظر «العبر» (4/ 250) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 134) .
[5] انظر «العبر» (4/ 250) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 132- 134) و «النجوم الزاهرة» (6/ 106) .

(6/454)


الناقد النبيل، كما قال ابن ناصر الدّين [1] .
وفيها أبو الفتح بن المنّي ناصح الإسلام نصر بن فتيان بن مطر النّهرواني ثم البغدادي [2] الحنبلي، فقيه العراق، وشيخ الحنابلة على الإطلاق. روى عن أبي الحسن بن الزّاغوني وطبقته، وتفقّه على أبي بكر الدّينوري، وكان ورعا زاهدا متعبدا، على منهاج السلف الصالح، تخرّج به أئمة.
قال الشيخ ناصح الدّين بن الحنبلي: رحلت إليه فوجدت مسجده بالفقهاء والقراء معمورا، وكل فقيه عنده من فضله وإفضاله مغمورا، فأنخت راحلتي بربعه، وحططت زاملة بغيتي على شرعة شرعه، فوجدت الفضل الغزير، والدّين القويم المنير، [والفحر المستطيل المستطير، والعالم الخبير] [3] ، فتلقاني بصدر بالأنوار قد شرح، ومنطق بالأذكار قد ذكر ومدح، وبباب إلى كل باب من الخيرات قد شرع وفتح، فتح الله تعالى عليه. حفظ القرآن العظيم وهو في حداثة من سنّه، ولاحت عليه أعلام المشيخة، فرجح منه على كل فنّ [4] بفضل الله ومنّه.
ثم قال: لم ننقل [عنه] أنه لعب ولا لها، ولا طرق باب طرب، ولا مشى إلى لذّة ومشتهى.
وقال: قال لي ابن المنّي: تقدمت في زمن أقوام ما كنت أصلح أن أقدّم مداسهم.
وقال لي- رحمه الله تعالى-: ما أذكر أحدا قرأ عليّ القرآن إلّا حفظه، ولا سمع درس الفقه إلّا انتفع.
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (169/ آ) .
[2] انظر «العبر» (4/ 251) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 137- 138) و «النجوم الزاهرة» (6/ 106) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 358- 365) .
[3] ما بين حاصرتين زيادة من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[4] في «آ» و «ط» : «على كلّ من» والمثبت من «ذيل طبقات الحنابلة» .

(6/455)


ثم قال: هذا حظي من الدّنيا.
قال ابن الحنبلي: وما تزوّج ولا تسرى، ولا ركب بغلة ولا فرسا، ولا ملك مملوكا، ولا لبس الثياب الفاخرة إلّا لباس التقوى، وكان أكثر طعامه يشرب في قدح ماء الباقلّاء.
وكان إذا فتح عليه بشيء فرّقه بين أصحابه.
وكان لا يتكلم في الأصول، ويكره من يتكلم فيه، سليم الاعتقاد، صحيح الانتقاد في الأدلة الفروعية.
وقال ابن رجب: (صرف همته طول عمره إلى الفقه أصولا وفروعا، مذهبا وخلافا، واشتغالا وإشغالا ومناظرة، وتصدّر للدرس والاشتغال [1] والإفادة وطال عمره وبعد صيته، وقصده الطلبة من البلاد، وشدت إليه الرّحال في طلب الفقه، وتخرّج به أئمة كثير، منهم: ابن الجوزي، وفقهاء الحنابلة اليوم في سائر البلاد يرجعون إليه وإلى أصحابه) لأن فقهاء زماننا إنما يرجعون في الفقه من جهة [الشيوخ و] الكتب إلى الشيخين: موفق الدّين المقدسي، ومجد الدّين بن تيمية الحرّاني.
فأما الشيخ الموفق فهو تلميذ ابن المنّي، وعنه أخذ الفقه.
وأما ابن تيمية، فهو تلميذ تلميذه أبي بكر بن الحلاوي.
وكان مرض ابن المنّي الإسهال، وذلك من تمام السعادة، لأن مرض البطن شهادة، وتوفي به يوم السبت رابع شهر رمضان، ودفن يوم الأحد، ونودي في النّاس بموته، فانثال من الخلائق والأمم عدد لا يحصى، وازدحم الناس، وخيف من الفتن فنفّذ الولاة الأجناد والأتراك بالسلاح، ومات عن اثنتين وثمانين سنة، ولم يخلّف مثله.
__________
[1] في «ط» : «والإشغال» وما بين القوسين لم أره في «ذيل طبقات الحنابلة» الذي بين يدي.

(6/456)


وفيها الزاهد عبد الغني [بن أبي بكر] بن شجاع البغدادي [1] الحنبلي، المعروف بابن نقطة [2] .
قال السخاوي: هو مشهور بالتقلل والإيثار والزهد، وكان له ببغداد زاوية يأوي إليها الفقراء، ولم يكن في عصره من يقاومه في التجريد. كان يفتح عليه قبل غروب الشمس بألف دينار فيفرّقها والفقراء صيام، فلا يدّخر لهم منها شيئا، ويقول: نحن لا نعمل بأجرة، يعني لا نصوم وندخر ما نفطر عليه، وزوّجته أم الخليفة الناصر بجارية من خواصها، وجهزتها بعشرة آلاف دينار، فما حال الحول وعنده سوى هاون، فجاء فقير فوقف على الباب، وقال: لي ثلاثة أيام ما أكلت شيئا، فأخرج إليه الهاون وقال: لا تشنّع على الله، كل بهذا ثلاثين يوما.
وقال ابن شهبة في «تاريخه» : وكان له أخ مزكلش ينشد كان وكان ومواليا في الأسواق، ويسحر الناس في رمضان، فقيل له: أخوك زاهد العراق وأنت هكذا؟ فأنشد مواليا:
قد خاب من شبّه الجزعة إلى درّه ... وسام قحبة إلى مستحسنة حرّه
أنا مغنّي وخي زاهد إلى مرّه ... بيرين في دار ذي حلوة وذي مرّة
انتهى.
وتوفي في رابع جمادى الآخرة ببغداد، ويأتي ذكر ولده محمد في سنة ثمان وعشرين وستمائة، إن شاء الله تعالى.
__________
[1] في «آ» و «ط» و «المنتخب» (125/ آ) : «عبد الغني بن شجاع أبو بكر البغدادي» والتصحيح من ترجمة ولده الإمام الحافظ أبي بكر محمد بن عبد الغني في «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 300) و «وفيات الأعيان» (4/ 392) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 347) و «تاريخ الإسلام» (الطبقة الثالثة والستون) ص (344) طبع مؤسسة الرسالة.
[2] أقول: قال الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (22/ 349) : «سئل أبو بكر عن نقطة، فقال: هي جارية عرفنا بها، ربت شجاعا جدّنا. (ع) .

(6/457)


وفيها مجد الدّين ابن الصّاحب، هبة الله بن علي. ولي أستاذ داريّة [1] المستضيء، ولما ولي النّاصر رفع منزلته وبسط يده، وكان رافضيّا سبّابا، تمكّن وأحيا شعار الإمامية، وعمل كلّ قبيح، إلى أن طلب إلى الديوان فقتل، وأخذت حواصله، فمن ذلك ألف ألف دينار، وعاش إحدى وأربعين سنة. قاله في «العبر» [2] .
__________
[1] في «آ» و «ط» و «المنتخب» (125/ آ) «راية» وهو خطأ، وما أثبته من «العبر» وفي «سير أعلام النبلاء» : «أستاذ دار» .
[2] (4/ 251) وانظر «سير أعلام النبلاء» (21/ 164- 165) .

(6/458)


سنة أربع وثمانين وخمسمائة
دخلت وصلاح الدّين يصول ويجول بجنوده على الفرنج، حتّى دوّخ بلادهم، وبثّ سراياه، وافتتح أخوه الملك العادل الكرك بالأمان في رمضان، وسلّموها لفرط القحط.
وفيها توفي أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ، الأمير الكبير، مؤيد الدولة، أبو المظفر، الكناني الشّيزري [1] . كان من أكابر بني منقذ أصحاب قلعة شيزر [2] وعلمائهم وشجعانهم، له تصانيف عديدة في فنون الأدب والأخبار والنظم، وفيه تشيع.
قال العماد الكاتب في «الخريدة» : سكن دمشق ثم نبت به كما تنبو الدار بالكريم، فانتقل إلى مصر، فبقي فيها مؤمّرا مشارا إليه بالتعظيم إلى أيام الصالح بن رزّيك، ثم عاد إلى الشام وسكن دمشق، ثم رماه الزمان إلى حصن كيفا، فأقام به حتّى ملك السلطان صلاح الدّين دمشق، فاستدعاه وهو شيخ قد جاوز الثمانين.
وقال ابن خلّكان [3] : له ديوان شعر في جزأين موجود بأيدي الناس، ورأيته بخطّه ونقلت منه:
__________
[1] تحرفت نسبته في «آ» و «ط» إلى «الشيرازي» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[2] قال ياقوت: «شيزر» قلعة تشتمل على كورة بالشام قرب المعرّة. انظر «معجم البلدان» (3/ 383) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 196- 199) وقد نقل المؤلف كلام العماد الكاتب المتقدم عنه.

(6/459)


لا تستعر جلدا على هجرانهم ... فقواك تضعف عن صدود دائم
واعلم بأنّك إن رجعت إليهم ... طوعا وإلّا عدت عودة راغم
وله جواب عن أبيات كتبها أبوه إليه:
وما أشكو تلوّن أهل ودّي ... ولو أجدت شكيّتهم شكوت
مللت [1] عتابهم ويئست منهم ... فما أرجوهم فيمن رجوت
إذا أدمت قوارضهم فؤادي ... كظمت على أذاهم وانطويت
ورحت عليهم طلق المحيّا ... كأنّي ما سمعت ولا رأيت
تجنّوا لي ذنوبا ما جنتها ... يداي ولا أمرت ولا نهيت
ولا والله ما أضمرت غدرا ... كما قد أظهروه ولا نويت
ويوم الحشر موعدنا فتبدو ... صحيفة ما جنوه وما جنيت
وله وقد قلع ضرسه، وقال: عملتهما ونحن بظاهر خلاط، وهو معنى غريب، ويصلح أن يكون لغزا في الضرس:
وصاحب لا أملّ الدّهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد
لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت ... عيني عليه افترقنا فرقة الأبد
[2] توفي يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شهر رمضان، ودفن من الغد شرقي جبل قاسيون.
وفيها عبد الرّحمن بن محمد بن حبيش القاضي أبو القاسم الأنصاري المريّيّ [3] ، نزيل مرسية، عاش ثمانين سنة، وقرأ القراءات على
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ملكت» والتصحيح من «وفيات الأعيان» وديوانه ص (115) .
[2] رواية البيت في «وفيات الأعيان» :
لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا ... لناظريّ افترقنا فرقة الأبد
[3] في «آ» و «ط» : «المري» والتصحيح من «العبر» (4/ 252) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 119) .

(6/460)


جماعة، ورحل بعد ذلك، فسمع بقرطبة من يونس بن محمد بن مغيث والكبار، وكان من أئمة الحديث، والقراءات، والنحو، واللغة، ولي خطابة مرسية وقضاءها مدة، واشتهر ذكره وبعد صيته، وكانت الرحلة إليه في زمانه، وقد صنّف كتاب «المغازي» في عدة مجلدات [1] .
وفيها عمر بن بكر بن محمد بن علي القاضي عماد الدّين بن الإمام شمس الأئمة الجابريّ [2] الزّرنجري- بفتح الزاي والراء الأولى والجيم، وسكون النون، نسبة إلى زرنجرا قرية ببخارى [3]- شيخ الحنفية في زمانه بما وراء النهر، ومن انتهت إليه رئاسة الفقه، توفي في شوال عن نحو تسعين سنة.
وفيها التّاج المسعودي محمد بن عبد الرحمن البنجديهي [4]- بفتح الموحدة وسكون النون، وفتح الجيم، وبعد الدال المهملة تحتية، نسبة إلى بنج دية خمس قرى بمرو الرّوذ [5]- الخراساني الصّوفي الشافعي، الرحّال الأديب، مات عن اثنتين وثمانين سنة بدمشق، وسمع من أبي الوقت وطبقته، وأملى بمصر مجالس، وعني بهذا الشأن، وكتب وسعى، وجمع فأوعى، وصنّف شرحا طويلا للمقامات.
قال يوسف بن خليل الحافظ: لم يكن في نقله بثقة.
وقال بن النجار: كان من الفضلاء في كلّ فنّ، في الفقه، والحديث، والأدب، وكان من أظرف المشايخ وأجملهم.
__________
[1] في «سير أعلام النبلاء» : «في خمس مجلدات» .
[2] في «آ» و «ط» : «الخابوري» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[3] انظر «العبر» (4/ 253) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 172- 173) و «الجواهر المضية» (2/ 640- 641) .
[4] انظر «العبر» (4/ 253) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 173- 175) .
[5] انظر «معجم البلدان» (1/ 498) .

(6/461)


وفيها أبو الفتح بن التّعاويذي [1] محمد بن عبيد الله [2] ، الكاتب الشاعر المشهور، نسب إلى التّعاويذي لأنه نشأ في حجره، وهو جدّه لأمه، كان شاعرا لطيفا، عذب الكلام، سهل الألفاظ، سار نظمه في الآفاق، وتقدم على شعراء العراق وعمي في آخر عمره، وجمع ديوانه بنفسه.
قال ابن خلّكان: كان شاعر وقته، لم يكن فيه مثله، جمع شعره بين جزالة الألفاظ وعذوبتها، ورقة المعاني ودقتها، وهو في غاية الحسن والحلاوة، وفيما أعتقده لم يكن قبله بمائتي سنة من يضاهيه، وله في عماه أشياء كثيرة يرثي عينيه وزمان شبابه ونضرته. وكان قد جمع ديوانه بنفسه قبل العمى، وعمل له خطبة ظريفة، ورتبه أربعة فصول، وكل ما جدده بعد ذلك سماه الزيادات، فلهذا يوجد ديوانه خاليا من الزيادات، وفي بعضها مكملا بالزيادات، ولما عمي كان باسمه راتب في الديوان، فالتمس أن ينقل باسم أولاده فنقل، وكان وزير الديوان ابن البلدي قد عزل أرباب الدواوين وحبسهم وحاسبهم وصادرهم وعاقبهم، فقال فيه ابن التّعاويذي:
يا ربّ أشكو إليك ضرّا ... أنت على كشفه قدير
أليس صرنا إلى زمان ... فيه أبو جعفر وزير
وكانت ولادة ابن التّعاويذي في العاشر من رجب يوم الجمعة، سنة تسع عشرة وخمسمائة، وتوفي في ثاني شوال.
والتّعاويذي: نسبة إلى كتب التّعاويذ وهي الحروز.
وفيها أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم، المعروف
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 466- 473) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 175- 176) و «العبر» (4/ 253) .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن عبد الله» والتصحيح من مصادر الترجمة المذكورة في التعليق السابق.

(6/462)


بالحازمي- بالحاء المهملة نسبة إلى جدّه- الهمذاني [1] الشافعي الملقب زين الدّين. كان فقيها حافظا زاهدا ورعا متقشفا، حافظا للمتون والأسانيد، غلب عليه علم الحديث، وصنّف فيه تصانيفه المشهورة، منها «الناسخ والمنسوخ» في الحديث، لم يصنّف في فنّه مثله، وكتاب «المشتبه» وكتاب «سلسلة الذهب» فيما روى الإمام أحمد عن الشافعي، وفي شروط الأئمة وغيرها من التصانيف النافعة، واستوطن بغداد، ولازم الاشتغال والتعبد إلى أن مات ليلة الاثنين الثامن والعشرين من جمادى الأولى، ودفن في الشونيزية مقابل الجنيد، وكان قد فرّق كتبه على أصحاب الحديث.
قال الإسنوي [2] : ولا نعلم أحدا ممن ترجمنا له توفي أصغر سنا منه، [وذلك] عكس القاضي أبي الطيب، وأبي طاهر الزّيّادي. نقل عنه في «الروضة» في أثناء كتاب القضاء، أن الذين أدركتهم من الحفّاظ كانوا يميلون إلى جواز إجازة غير المعين بوصف العموم، كأجزت [3] للمسلمين ونحوه، ثم صحّحه النّووي. انتهى.
وفيها ابن صدقة الحرّاني [4] أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن الحسن بن صدقة، التّاجر السفّار. راوي «صحيح مسلم» عن الفراوي. شيخ صالح صدوق، كثير الأسفار، سمع في كهولته الكتاب المذكور، وعمّر سبعا وتسعين سنة، توفي في ربيع الأول بدمشق، وله بها أوقاف وبرّ.
وفيها يحيى بن محمود بن سعد الثقفي أبو الفرج الأصبهاني [5]
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 254) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 167- 172) .
[2] انظر «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 414) وما بين حاصرتين مستدرك منه.
[3] تحرفت في «طبقات الشافعية» للإسنوي إلى «كأجرة» فتصحح من هنا.
[4] انظر «العبر» (4/ 254) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 193- 194) .
[5] انظر «العبر» (4/ 254) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 134- 135) .

(6/463)


الصوفي، حضر في أول عمره على الحداد وجماعة، وسمع من جعفر بن عبد الواحد الثقفي، وفاطمة الجوزدانية، وجدّه لأمه أبي القاسم، صاحب «الترغيب والترهيب» . وروى الكثير بأصبهان، والموصل، وحلب، ودمشق، وتوفي بنواحي همذان، وله سبعون سنة.

(6/464)


سنة خمس وثمانين وخمسمائة
فيها توفي أبو العبّاس [التّرك] أحمد بن أحمد بن محمد بن ينال الأصبهاني [1] شيخ صوفيّة بلده ومسندها. سمع أبا مطيع، وعبد الرحمن الدّوني، وببغداد أبا علي بن نبهان، وتوفي في شعبان في عشر المائة.
وفيها ابن الموازيني أبو الحسين أحمد بن حمزة بن أبي الحسين علي بن الحسن السّلمي [2] . سمع من جدّه، ورحل إلى بغداد في الكهولة، فسمع من أبي بكر بن الزّاغوني وطبقته، وكان صالحا خيّرا محدّثا فهما، توفي في المحرم، وهو في عشر التسعين.
وفيها ابن أبي عصرون [3] ، قاضي القضاة. فقيه الشام، شرف الدّين أبو سعد، عبد الله بن محمد بن هبة الله بن المطهّر بن علي بن أبي عصرون التّميمي الحديثي [4] ثم الموصلي، أحد الأعلام، ومولده في ربيع الأول سنة
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 255) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 124- 125) و «النجوم الزاهرة» (6/ 110) وما بين حاصرتين مستدرك منها جميعا.
[2] انظر «العبر» (4/ 255- 256) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 161- 162) و «النجوم الزاهرة» (6/ 110) .
[3] انظر «العبر» (4/ 256) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 125- 129) .
[4] نسبة إلى حديثة الفرات، وتعرف بحديثة النورة، وهي على فراسخ من الأنبار. انظر «معجم البلدان» (2/ 230- 231) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 33- 36) .

(6/465)


اثنتين، وقيل: ثلاث وتسعين وأربعمائة. تفقّه بالموصل وسمع بها من أبي الحسن بن طوق، ثم رحل إلى بغداد، فقرأ القراءات على أبي عبد الله البارع، وسبط الخيّاط، وسمع من أبي الحصين وطائفة، ودرس النحو والأصلين، ودخل واسط وتفقّه بها، ورجع إلى الموصل بعلوم جمّة، ودرّس بها وأفتى، ثم سكن سنجار مدة، ثم قدم حلب ودرّس بها، وأقبل عليه نور الدّين، فقدم معه عند ما افتتح دمشق، وولي القضاء لصلاح الدّين سنة ثلاث وسبعين، وله مصنفات كثيرة، منها: «الانتصار» في أربع مجلدات، و «صفوة المذهب في نهاية اختصار نهاية المطلب» في سبع مجلدات، وغير ذلك.
قال الشيخ موفق الدّين بن قدامة: كان ابن أبي عصرون إمام أصحاب الشافعي.
وقال ابن الصلاح في «طبقاته» : كان من أفقه أهل عصره، وإليه المنتهى في الفتاوى والأحكام، وتفقّه به خلق كثير. انتهى.
وبنى له نور الدّين المدارس بحلب، وحماه، وحمص، وبعلبك، وبنى هو لنفسه مدرسة بحلب وأخرى بدمشق، وتوفي في شهر رمضان، وله ثلاث وتسعون سنة.
وفيها أبو طالب الكرخي [1] ، صاحب ابن الخلّ، واسمه المبارك بن المبارك، شيخ الشافعية بوقته في بغداد، وصاحب الخطّ المنسوب، ومؤدّب أولاد الناصر لدين الله. درّس بالنظامية بعد أبي الخير القزويني، وتفقّه به جماعة، وحدّث عن ابن الحصين، وكان ربّ علم وعمل ونسك وورع، وكان أبوه مغنيا فتشاغل الابن بضرب العود، حتّى شهدوا له أنه في طبقة
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 257) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 224) .

(6/466)


معبد، ثم أنف من ذلك، فجوّد الكتابة حتّى زاد بعضهم، وقال هو: أكتب من ابن البوّاب، ثم اشتغل بالفقه فبلغ في العلم الغاية.
وفيها محمود بن علي بن أبي طالب أبو طالب التّميمي الأصفهاني الشافعي.
قال ابن خلّكان [1] : تفقّه على محمد بن يحيى، وبرع في علم الخلاف، وصنّف فيه تعليقة [2] مشهورة، وكانت عمدة المدرسين في إلقاء الدروس، ويعدون تاركها قاصر الفهم عن إدراكها، واشتغل عليه خلق كثير، فصاروا أئمة، وكان خطيبا واعظا، له اليد الطولى في الوعظ، ودرّس بأصبهان مدة.
وقال الذهبي: كان ذا يقين في العلوم، وله تعليقة جمّة المعارف، وتوفي في شوال.
وفيها- كما قال ابن ناصر الدّين [3]- يوسف بن أحمد الشيرازي.
كان حافظا نقّادا بارعا، شيخ الصوفية ببغداد. انتهى.
وفيها البحراني [4] الشاعر المشهور، تفنن في الأدب، واشتغل بكتب الأوائل، وحلّ كتاب إقليدس، وهو منسوب إلى البحرين بليدة فوق هجر، لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الإحساء قدرها ثلاثة أميال، وكرهوا أن يقولوا البحري فيشتبه بالنسبة إلى البحر. قاله ابن الأهدل في «تاريخه» .
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 174) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف واختصار.
[2] في «آ» و «ط» : «طريقة» وما أثبته موافق لما في «وفيات الأعيان» .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (169/ ب) .
[4] هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن قائد، الملقب موفق الدّين الإربلي أصلا ومنشأ البحراني. انظر «وفيات الأعيان» (5/ 9- 12) و «مرآة الجنان» (3/ 431- 432) .

(6/467)