شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة ست وثمانين وخمسمائة
دخلت والفرنج محدقون بعكا، والسلطان في مقاتلتهم، والحرب مستعر، فتارة يظهر هؤلاء، وتارة يظهر هؤلاء، وقدمت عساكر الأطراف مددا لصلاح الدّين، وكذلك الفرنج أقبلت في البحر من الجزائر البعيدة، وفرغت السنة والناس كذلك.
وفيها توفي أبو المواهب، الحسن بن هبة الله بن محفوظ، الحافظ الكبير، ابن صصرى التّغلبي الدمشقي [1] . سمع من جدّه، ونصر الله المصّيصي وطبقتهما، ولزم الحافظ ابن عساكر وتخرّج به، ثم رحل وسمع بالعراق من ابن البطّي وطبقته، وبهمذان من أبي العلاء الحافظ وعدة، وبأصبهان من ابن ماشاذه وطبقته، وبالجزيرة والنواحي، وبرع في هذا الشأن، وجمع وصنّف، مع الثقة، والجلالة، والكرم، والرئاسة عاش تسعا وأربعين سنة وكان ثبتا.
وفيها أبو القاسم سيف الدّين عبد الله بن عمر بن أبي بكر [المقدسي] [2] الفقيه الحنبلي الإمام.
ولد سنة تسع وخمسين وخمسمائة بقاسيون، ورحل إلى بغداد، فسمع
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 258) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 264- 266) .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 371- 373) وما بين حاصرتين مستدرك منه.

(6/468)


بها من جماعة، وتفقّه، وبرع في معرفة المذهب والخلاف والمناظرة، وقرأ النحو على أبي البقاء، وحفظ «الإيضاح» [1] لأبي علي، وقرأ العروض، وله فيه تصنيف.
قال الحافظ الضياء: اشتغل بالفقه، والخلاف، والفرائض، والنحو، وصار إماما عالما ذكيا فطنا فصيحا، مليح الإيراد، حتّى إنني سمعت بعض الناس يقول عن بعض الفقهاء: ما اعترض السيف على دليل إلّا ثلم دليله.
قاله ابن رجب.
وكان حسن الخلق والخلق، أنكر منكرا ببغداد، فضربه الذي أنكر عليه، فكسر ثنيته، ثم إنه مكّن من ذلك الرجل، فلم يقتص منه، وغزا مع صلاح الدّين، وسافر إلى حرّان، فتوفي بها شابا في حياة أبيه، وتوفي في شوال، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو العلاء نجم الدّين عبد الوهاب بن شرف الإسلام عبد الواحد بن محمد بن علي الشيرازي الأصل الأنصاري [2] شيخ الحنابلة بالشام في وقته.
قال ولده ناصح الدّين عبد الرحمن: ولد والدي سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وأفتى ودرّس وهو ابن نيف وعشرين سنة إلى أن مات، وما زال محترما معظما قويا، ولما مرض مرض الموت، رآني وقد بكيت، فقال: أيش بك؟ قلت: خيرا، قال: لا تحزن عليّ أنا ما توليت قضاء ولا شحنكية، ولا حبست ولا ضربت، ولا دخلت بين الناس، ولا ظلمت أحدا، فإن كان لي ذنوب فبيني وبين الله عزّ وجلّ، ولي ستون سنة أفتي الناس، والله
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الإفصاح» وهو خطأ، والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» وهو لأبي علي الفارسي.
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 368- 371) .

(6/469)


ما حابيت في دين الله تعالى.
وكان الشيخ الموفق وأخوه أبو عمر إذا أشكل عليهما شيء سألا والدي، وتوفي ثاني عشري ربيع الآخر، ودفن بسفح قاسيون.
وفيها عز الدّين عبد الهادي بن شرف الإسلام الحنبلي.
كان فقيها واعظا شجاعا، حسن الصوت بالقرآن، شديد القوى، شديدا في السّنّة، تحكى عنه حكايات عجيبة في شدة قوته، منها أنه بارز فارسا من الفرنج، فضربه بدبوس فقطع ظهره وظهر الفرس فوقعا جميعا، وكان في صحبة أسد الدّين شيركوه إلى مصر، وشاهده جماعة رفع الحجر الذي على بئر جامع دمشق فمشى به خطوات ثم رده إلى مكانه، وبنى مدرسة بمصر، ومات قبل تمامها، وتوفي بمصر. وهو أخو نجم الدّين المذكور قبله.
وفيها علي بن محمد بن علي بن الزّيتوني [1] الفقيه الحنبلي، المقرئ الضرير، أبو الحسن، المعروف بالبرابدسي وبرابدس [2] قرية من قرى بغداد.
قال ابن القطيعي: سألته عن مولده فقال: ما أعلم، ولكني ختمت القرآن سنة ثمان وخمسمائة.
قال: وسمع من ابن الحصين وغيره، وتفقّه، وناظر، وأفتى، ودرّس.
وقال المنذري في «وفياته» : مولده سنة ثمانين وأربعمائة. انتهى.
وفيها أبو بكر بن الجدّ محمد بن عبد الله بن يحيى الفهري الإشبيلي [3] الحافظ النحوي. ختم «كتاب سيبويه» على أبي الحسن بن
__________
[1] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 131- 132) بتحقيق الدكتور بشار عواد معروف، طبع مؤسسة الرسالة و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 366- 368) .
[2] كذا في «آ» و «ط» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» : «بالبراندسي، وبراندس ... » .
[3] انظر «العبر» (4/ 258) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 177- 179) .

(6/470)


الأخضر، وسمع «صحيح مسلم» من أبي القاسم الهوزني [1] ، ولقي بقرطبة أبا محمد بن عتّاب وطائفة، وبرع في الفقه، والعربية، وانتهت إليه الرئاسة في الحفظ، وقدم للشورى [2] في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، وعظم جاهه وحرمته، وتوفي في شوال، وله تسعون سنة.
وفيها محيي الدّين قاضي القضاة أبو حامد محمد بن قاضي القضاة كمال الدّين أبي الفضل محمد بن عبد الله بن الشّهرزوري [3] الشافعي، تفقّه ببغداد على أبي منصور بن الرزّاز، وناب بدمشق عن أبيه، ثم ولي قضاء حلب، ثم الموصل، وتمكن من صاحبها عز الدّين مسعود إلى الغاية.
قال ابن خلّكان: قيل: إنه أنعم في ترسله مرة إلى بغداد بعشرة آلاف دينار على الفقهاء، والأدباء، والشعراء، ويقال: إنه في مدة حكمه بالموصل لم يعتقل غريما على دينارين فما دونها، بل يوفي ذلك عنه، وتحكى [4] عنه رئاسة ضخمة ومكارم كثيرة.
ومن شعره في وصف جرادة:
لها فخذا بكر وساقا نعامة ... وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم
حبتها أفاعي الرّمل بطنا وأنعمت ... عليها جياد الخيل بالرأس والفم
وتوفي بالموصل في جمادى الأولى، وله اثنتان وستون سنة.
وفيها محمد بن المبارك بن الحسين أبو عبد الله [5] بن أبي السعود
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الهوازني» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[2] تحرفت في «ط» إلى «للستوري» .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 246- 248) و «العبر» (4/ 259) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 101- 102) و «مرآة الجنان» (3/ 432) .
[4] في «وفيات الأعيان» : و «يحكى» .
[5] في «آ» و «ط» : «ابن عبد الله» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .

(6/471)


الحلاوي الحربي [1] المقرئ. روى بالإجازة عن أبي الحسين بن الطّيوري وجماعة، ثم ظهر سماعه بعد موته من جعفر السرّاج وغيره، وعاش ثلاثا وتسعين سنة.
وفيها أبو الفضل مسعود بن علي بن النّادر البغدادي [2] . قرأ على أبي بكر المزرفي، وسبط الخيّاط، وكتب عن قاضي المارستان فمن بعده فأكثر، ونسخ مائة وإحدى وعشرين ختمة، وعاش ستين سنة، وتوفي في المحرم.
وفيها ابن الكيّال أبو الفتح، نصر الله بن علي [3] الفقيه الحنفي، مقرئ واسط. أخذ العشرة عن علي بن علي بن شيران [4] ، وأبي عبد الله البارع، وأخذ العربية عن ابن الشّجري، وابن الجواليقي، وتفقّه، ودرّس، وناظر، وولي قضاء واسط، توفي في جمادى الآخرة، عن أربع وثمانين سنة، وحدّث عن ابن الحصين.
وفيها زين الدّين يوسف بن زين الدّين علي بن كوجك [5] ، صاحب إربل وابن صاحبها، مظفر الدّين، مات مرابطا على عكا.
وفيها الفقيه نجم الدّين محمد بن الموفق الصّوفي الزاهد الشافعي الخبوشاني [6] . تفقّه على محمد تلميذ الغزالي، وكان يستحضر كتابه «المحيط في شرح الوسيط» وصنّف عليه كتابا سماه «تحقيق المحيط» ستة
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 259- 260) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 131 و 150) .
[2] انظر «العبر» (4/ 260) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 150) .
[3] انظر «العبر» (4/ 260) و «معرفة القراء الكبار» (2/ 559- 560) و «الجواهر المضية» (2/ 198) طبعة حيدر أباد.
[4] تحرفت في «ط» إلى «بشران» .
[5] انظر «العبر» (4/ 260) .
[6] انظر «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (7/ 14- 21) و «مرآة الجنان» (3/ 433) .

(6/472)


عشر مجلدا، وكان صلاح الدّين يعتقد فيه ويبالغ في احترامه [1] ، وعمّر له مدرسة الشافعي، فعمد إلى قبر ابن الكيراني الظاهري، وهو من غلاة أهل السّنّة فنبشه من عند الشافعي، وقال: لا يكون صدّيق وزنديق في موضع واحد، فثارت عليه الحنابلة بمصر، ووقع فتنة بسبب ذلك، ودفن نجم الدّين تحت رجلي الشافعي بينهما شباك، وكان يوصف بسلامة الباطن وقلة المعرفة بأحوال أهل الدّنيا. قاله ابن الأهدل.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «وكان صلاح الدين يعتقده» وما أثبته من «مرآة الجنان» .

(6/473)


سنة سبع وثمانين وخمسمائة
فيها توفي الموفق أسعد بن المطران [1] الطبيب. كان نصرانيا فأسلم، وكان غزير المروءة، حسن الأخلاق، متعصبا للناس عند السلطان، وكان يتوالى أهل البيت، وكان يحب صبيا اسمه عمر، فقال ابن عنين:
قالوا الموفّق شيعيّ فقلت لهم ... هذا خلاف الذي للنّاس منه ظهر
وكيف يصبح دين الرّفض مذهبه ... وما دعاه إلى الإسلام غير عمر
وكان يعود المرضى من الفقراء، ويحمل إليهم الأشربة من عنده والأدوية، حتى أجرة الحمّام، وكان مليح الصورة، ومات بدمشق ودفن بقاسيون على قارعة الطريق عند دار زوجته واسمها جوزه، وبنت إلى جانب تربته مسجدا ويعرف بدار جوزه.
وفيها الفقيه أبو محمد عبد الرحمن بن علي بن المسلم اللّخمي الدمشقي الخرقي [2] الشافعي. روى عن ابن الموازيني، وعبد الكريم بن حمزة وجماعة، وكان فقيها متعبدا يتلو كلّ يوم وليلة ختمة، أعاد مدة بالأمينية، وتوفي في ذي القعدة وسنّه ثمان وثمانون سنة.
__________
[1] انظر «مرآة الزمان» (8/ 263- 264) (مخطوط) وفيه: «ابن البطران» و «الأعلام» للزركلي (1/ 300) الطبعة الرابعة، ولقبه عندهما «موفق الدّين» .
[2] انظر «العبر» (4/ 261) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 196- 197) .

(6/474)


وفيها الفقيه أبو بكر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور [1] الشّاطبي الكاتب، وهو آخر من سمع من أبي علي بن سكّرة، وسمع أيضا من جماعة، وكان منشئا بليغا مفوها شاعرا، وتوفي في صفر.
وفيها أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبيد الله الحجري الأندلسي المريّيّ [2] أبو محمد عبد الله [3] المقرئ الصالح. كان حافظا غاية في الورع والصلاح والعدالة، برع في هذا الشأن. قاله ابن ناصر الدّين [4] .
وفيها أبو المعالي عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن المظفّر الفراوي النيسابوري [5] ، مسند خراسان. سمع من جدّه، وأبي بكر الشيروئي [6] وجماعة، وتفرّد في عصره، وتوفي في أواخر شعبان عن سنّ عالية.
وفيها تقي الدّين عمر بن شاهنشاه بن أيوب الملك المظفّر [7] ، صاحب حماة وأحد الأبطال الموصوفين. كان عمه صلاح الدّين يحبه ويعتمد عليه، وكان يتطاول للسلطنة ولا سيما لما مرض صلاح الدّين، فإنه
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن مفاوز» والتصحيح من «العبر» (4/ 261) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 150) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «المري» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» و «التبيان شرح بديعة البيان» .
[3] في «آ» و «ط» : «ابن عبد الله» وما أثبته هو الصواب.
[4] في «التبيان شرح بديعة البيان» (170/ آ) وانظر «سير أعلام النبلاء» (21/ 251- 255) .
[5] انظر «العبر» (4/ 262) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 179- 180) .
[6] في «آ» و «ط» و «العبر» : «الشيروي» وما أثبته من «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 158) و «سير أعلام النبلاء» .
[7] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 456- 458) و «العبر» (4/ 262) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 202- 203) و «دول الإسلام» (2/ 99) .

(6/475)


كان نائبه على مصر، سار إلى ميّافارقين، وإلى خلاط فأخذهما، وحاصر منازكرد فمرض في رمضان ومات يوم الجمعة، وكان معه ولده المنصور محمد فكتم موته إلى ميّفارقين [1] وبنيت له مدرسة بظاهر حماة ودفن بها، واستقر ولده محمد المنصور بحماة.
وفيها قزل أرسلان بن إلدكز [2] ملك أذربيجان، وأرّان، وهمذان، وأصبهان، والرّيّ بعد أخيه البهلوان محمد، قتل غيلة على فراشه في شعبان.
وفيها السّهروردي الفيلسوف المقتول شهاب الدّين يحيى بن حبش ابن أميرك [3] . أحد أذكياء بني آدم. كان رأسا في معرفة علوم الأوائل، بارعا في علم الكلام، مناظرا محجاجا متزهدا زهد مردكة وفراغ، مزدريا للعلماء مستهزئا، رقيق الدّين. قدم حلب واشتهر اسمه، فعقد له الملك الظاهر غازي ولد السلطان صلاح الدّين مجلسا، فبان فضله وبهر علمه، فارتبط عليه الظاهر واختص به، وظهر للعلماء منه زندقة وانحلال، فعملوا محضرا بكفره وسيّروه إلى صلاح الدّين وخوّفوه من أن يفسد عقيدة ولده، فبعث إلى ولده بأن يقتله بلا مراجعة، فخيّره السلطان فاختار أن يموت جوعا، لأنه كان له عادة بالرياضة [4] ، فمنع من الطعام حتّى تلف، وعاش ستا وثلاثين سنة. قاله في «العبر» .
وقال السيف الآمدي: رأيته كثير العلم، قليل العقل، قال لي: لا بد لي أن أملك الأرض.
__________
[1] قال ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» : وقيل: بل توفي ما بين خلاط وميّافارقين.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 209) و «العبر» (4/ 262) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (6/ 268- 274) و «العبر» (4/ 263- 265) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 207- 211) .
[4] في «العبر» بطبعتيه: «بالرياضيات» .

(6/476)


وقال ابن خلّكان [1] : هو يحيى بن حبش، وقيل اسمه أحمد، وقيل اسمه كنيته، أبو الفتوح، وقيل عمر، والأول أصح، كان من علماء عصره.
قرأ الحكمة وأصول الفقه على الشيخ مجد الدّين الجيلي بمدينة مراغة من أعمال أذربيجان، إلى أن برع فيهما، وهذا مجد الدّين الجيلي هو شيخ فخر الدّين الرازي، وعليه تخرّج وبصحبته انتفع، وكان إماما في فنونه.
قال في «طبقات الأطباء» [2] : كان السّهروردي أوحد أهل زمانه في علوم الحكمية، جامعا للفنون الفلسفية [3] ، بارعا في أصول الفقه مفرط الذكاء، [فصيح العبارة] ، وكان علمه أكثر [4] من عقله. قال: ويقال عنه إنّه كان يعرف علم السيمياء. حكى بعض فقهاء العجم: أنه كان في صحبته، وقد خرجوا من دمشق، قال: فلما وصلنا إلى القابون، الذي هو على باب دمشق في طريق من يتوجه إلى حلب، لقينا قطيع غنم مع تركماني، فقلنا للشيخ: يا مولانا نريد من هذا الغنم رأسا نأكله، فقال: هذه عشرة دراهم خذوها واشتروا بها رأس غنم، فاشترينا من أحدهم رأسا ومشينا قليلا، فلحقنا رفيق لمن باعنا وقال: ردوا هذا الرأس وخذوا أصغر منه، فإن هذا ما عرف يبيعكم، وتقاولنا نحن وإيّاه، فلما عرف الشيخ ذلك قال لنا: خذوا الرأس وامشوا وأنا أقف معه [5] وأرضيه، فتقدمنا نحن، وبقي الشيخ يتحدث معه ويطيّب قلبه، فلما مضينا قليلا تركه وتبعنا، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به وهو لا يلتفت إليه، ولما لم
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (6/ 268- 272) .
[2] يعني «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» والكلام فيه ص (641 وما بعدها) طبع مكتبة دار الحياة ببيروت.
[3] في «آ» و «ط» : «في العلوم الحقيقية والفلسفة» والتصحيح من «عيون الأنباء» و «وفيات الأعيان» وما بين حاصرتين زيادة منهما.
[4] في «آ» و «ط» : «أكبر» وما أثبته من «عيون الأنباء» و «وفيات الأعيان» .
[5] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «وأضيعه» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .

(6/477)


يكلمه لحقه بغيظ وجذب يده اليسرى وإذا بيد الشيخ انخلعت من عند كتفه وبقيت بيد التركماني. ودمها يجري، فبهت التركماني وتحيّر في أمره، ورمى اليد وخاف، فأخذ الشيخ اليد بيده اليمنى ولحقنا، فلما وصل إلينا رأينا في يده اليمنى منديلا لا غير.
ويحكى عنه أشياء مثل هذه كثيرة، والله أعلم بصحتها.
وله تصانيف، فمن ذلك «التنقيحات» في أصول الفقه، و «التلويحات» و «الهياكل» وغير ذلك.
وله أشعار، فمن ذلك ما قاله في النفس على مثال أبيات ابن سينا:
خلعت هياكلها بجرعاء الحمى ... وصبت لمغناها القديم تشوقا
وتلفّتت نحو الدّيار فشاقها ... ربع عفت أطلاله فتمزّقا
وقفت تسائله فردّ جوابها ... رجع الصدى أن لا سبيل إلى اللّقا
فإذا بها برق تألّق بالحمى ... ثم انطفى [1] فكأنه ما أبرقا
ومن شعره المشهور أيضا:
أبدا تحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والرّاح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
وا رحمتا للعاشقين تكلّفوا ... ستر المحبة والهوى فضّاح
وهي طويلة.
وله في النظم والنثر أشياء لطيفة، وكان شافعي المذهب، وكان يتّهم بانحلال العقيدة والتعطيل، ويعتمد مذهب الحكماء المتقدمين واشتهر ذلك عنه. انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
__________
[1] في «وفيات الأعيان» : «ثم انطوى» .

(6/478)


وقال ابن شهبة في «تاريخ الإسلام» : كان دنيء الهمّة، زري الخلقة، دنس الثياب، وسخ البدن، لا يغسل له ثوبا ولا جسما ولا يدا، ولا يقصّ ظفرا ولا شعرا، وكان القمل يتناثر على وجهه ويسعى على ثيابه، وكل من يراه يهرب منه، وهذه الأشياء تنافي الحكمة والعقل والشرع.
وقال ابن الأهدل: قيل: قتل وصلب أياما، وقيل: خيّر في أنواع القتل، فاختار القتل بالجوع، لاعتياده الرياضة [1] ، فمنع من الطعام حتّى تلف.
وقال ابن شدّاد: أقمت بحلب فرأيت أهلها مختلفين فيه، منهم من يصدقه ومنهم من يزندقه، والله أعلم.
وفيها أبو طاهر يحيى بن مقبل بن أحمد بن بركة بن عبد الملك التيمي القرشي الحريمي البغدادي [2] الحنبلي، المعروف بابن الصدر، وهو لقب جده عبد الواحد، ويعرف أيضا بابن الأبيض.
ولد في شعبان سنة سبع عشرة وخمسمائة، وسمع من ابن الحصين، وأبي بكر الأنصاري، وغيرهما، وتفقّه في المذهب، وناظر في حلق الفقهاء وحدّث.
قال ابن القطيعي: كتبت عنه وكان ثقة، قال: وتوفي يوم الاثنين في شهر شوال ودفن بمقبرة الإمام أحمد.
__________
[1] في «ط» : «الرياضات» .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 373- 374) .

(6/479)


سنة ثمان وثمانين وخمسمائة
فيها أخذ سيف الدّين يافا بالسيف، ثم هادن الفرنج ثلاثة أعوام وثمانية أشهر.
وفيها توفي أحمد بن الحسين بن أحمد بن محمد البغدادي المقرئ أبو العبّاس، المعروف بالعراقي [1] نزيل دمشق. قرأ القرآن على أبي محمد سبط الخيّاط، وسمع الحديث من ابن سهلون وغيره، ومهر في علم القراءات، ولقي المهذّب بن منير الشاعر بحلب وروى عنه، وقدم دمشق فسكنها من سنة أربعين إلى أن مات، وقعد للإقراء تحت قبة النسر، وكان حنبليا.
قال الشيخ موفق الدّين: كان إماما في السّنّة، داعيا إليها، إماما في القراءة، وكان ديّنا يقول الشعر الحسن.
وروى عنه الشيخ موفق الدّين وغيره، وتوفي في شعبان.
وفيها الجنزوي [2] أبو الفضل إسماعيل بن علي الشافعي الشّروطي
__________
[1] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 180) و «معرفة القراء الكبار» (2/ 561) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 376- 377) وعنه نقل المؤلف الترجمة.
[2] في «آ» و «ط» و «العبر» بطبعتيه: «الخبزوي» وهو خطأ والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (21/ 234) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 370) و «النجوم الزاهرة» (6/ 119) ويقال

(6/480)


الفرضي من أعيان المحدّثين بدمشق وبها ولد. تفقّه على جمال الإسلام بن المسلم وغيره، وسمع من هبة الله بن الأكفاني وطبقته، ورحل إلى بغداد، فسمع أبا علي بن الباقرحي، وابن مرزوق والزّعفراني والكبار، وكتب الكثير، وكان بصيرا بعقد الوثائق والسجلات، وتوفي في جمادى الأولى عن تسعين سنة.
وفيها موفق الدّين خالد بن الأديب [1] البارع محمد بن نصر القيسراني أبو البقاء [2] الكاتب، صاحب الخط المنسوب. كان صدرا نبيلا وافر الحشمة، وزر للسلطان نور الدّين الشهيد، وسمع بمصر من عبد الله بن رفاعة، وتوفي بحلب.
وفيها أبو جعفر بن السّمين عبيد الله بن أحمد بن علي البغدادي الورّاق [3] الحنبلي المقرئ المحدّث الزاهد، نزيل الموصل.
ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وسمع الكثير من أبي منصور القزّاز وغيره، وتفقّه على أبي الحسن، وأبي بكر ابني الزّاغوني، وغيرهما، وحدّث بالكثير ببغداد والموصل، وكان صالحا ثقة ديّنا صدوقا، من أهل التقشف والصلاح والنسك، يأكل من كسب يده، توفي في العشر الأخير من شهر رمضان بالموصل، ودفن بتل توبه.
وفيها أبو ياسر عبد الوهاب بن هبة الله بن أبي حبّة البغدادي الطحّان [4] . روى عن ابن الحصين، وزاهر، وقدم حرّان، فورى بها «المسند» في نسبته: «الجنزي» أيضا نسبة إلى «جنزة» بلدة من العجم، بين أذربيجان وإرمينية، وهي التي يقال لها «كنجة» .
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الوليد» والتصحيح من «العبر» .
[2] انظر «العبر» (4/ 266) .
[3] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 175) .
[4] انظر «العبر» (4/ 266- 267) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 227- 229) .

(6/481)


وكان فقيرا صبورا، توفي في ربيع الأول عن اثنتين وسبعين سنة.
وحبّة: بباء موحدة.
وفيها علي بن مكّي بن جرّاح بن علي البغدادي [1] الفقيه الحنبلي الزاهد، أبو الحسن، تفقّه على أبي الفتح بن المنّي وأبي يعلى بن أبي خازم، وبرع في الفقه، وأفتى وناظر، وكان زاهدا عابدا، توفي في حادي عشري صفر ببغداد ودفن بمقبرة باب حرب.
وفيها أبو الحسن علي بن أبي العزّ بن عبد الله الباجرّائي- بفتح الموحدة والجيم، وتشديد الراء، نسبة إلى باجرّا قرية بالجزيرة [2]- الفقيه الحنبلي الزاهد.
كان يسكن بمدرسة الشيخ عبد القادر، وسمع الكثير من أبي الوقت، وابن البطي، وغيرهما، وحدّث باليسير، وسمع منه جماعة من الفقهاء، وكان صالحا ورعا متدينا، ذا عبادة وزهد، وجمع كتابا في تفسير القرآن الكريم في أربع مجلدات، وتوفي ليلة الخميس حادي عشر ذي القعدة، ودفن بباب حرب.
وفيها الأمير سيف الدّين المشطوب، مقدّم الجيوش، علي بن أحمد ابن صاحب قلاع الهكّارية أبي الهيجاء الهكّاري [3] ، نائب عكا. لما أخذت الفرنج عكا أسروه، ثم اشتري بمبلغ عظيم، وكان شجاعا صابرا في الحرب، مطاعا في قبيلته، دخل مع أسد الدّين شيركوه إلى مصر، وشهد فتحها، وأقطعه السلطان نابلس، فجار نوابه على أهلها فشكوا إلى السلطان
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 378) .
[2] وفي «ذيل طبقات الحنابلة» : «الباجسرائي» وهي نسبة إلى «باجسرا» قرية كبيرة بنواحي بغداد. انظر «الأنساب» (2/ 17) .
[3] انظر «العبر» (4/ 267) .

(6/482)


وهو مار بهم واستغاثوا، فقال: ما لهؤلاء؟ قالوا: يتظلمون من ابن المشطوب وأصحابه، وهو راكب بين يديه، فقال له السلطان: لو كان هؤلاء يدعون لك هيهات أن يسمع الله، فكيف وهم يدعون عليك؟ ثم أقطعه صلاح الدّين القدس، فتوفي بها في شوال، وكان ابنه عماد الدّين بن المشطوب من كبراء الأمراء بمصر.
وفيها راشد الدّين أبو الحسن سنان بن سلمان [1] ، مقدّم الإسماعيلية، وصاحب الدعوة بقلاع الشام، وأصله من البصرة.
قدم إلى الشام في أيام نور الدّين الشهيد، وأقام في القلاع ثلاثين سنة، وجرت له مع السلطان صلاح الدّين وقائع وقصص، ولم يعط طاعة قطّ، وعزم السلطان على قصده بعد صلح الفرنج، وكان قد قرأ كتب الفلسفة والجدل.
قال المنتجب: أرسلني السلطان إلى سنان مقدّم الإسماعيلية ومعي القطب النيسابوري، وأرسل معنا تخويفا وتهديدا فلم يجبه، بل كتب على طرّة كتاب السلطان:
يا ذا الذي بقراع السيف هدّدني ... لا قام مصرع جنبي حين تصرعه
قام الحمام على البازي يهدّده [2] ... وكشّرت لأسود الغاب أضبعه
إنّا منحناك عمرا كي تعيش به ... فإن رضيت وإلّا سوف ننزعه
أضحى يسدّ فم الأفعى بإصبعه ... يكفيه ماذا تلاقي منه أصبعه
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (21/ 182- 190) و «دول الإسلام» (2/ 100) وفيهما مات سنة (589) وراجع ما كتبه العلّامة الزركلي في هامش ترجمته من كتابه «الأعلام» (3/ 141) فهو مفيد نافع.
[2] رواية هذه الشطرة في «سير أعلام النبلاء» :
جاء الغراب إلى البازي يهدده
ولكنها أدرجت في سياق الكلام النثري والأصح أن تفصل في سطر مستقل وأن تثبت نقط مكان الشطرة الثانية من البيت ويثبت قول المؤلف: «وذكر الأبيات» في سطر مستقل، ثم يثبت قوله: «وقال: هذا جوابه إلخ» في سطر جديد.

(6/483)


ثم كتب بعد الأبيات خطبة بليغة مضمونها عدم الخوف والطاعة، فلما يئس صلاح الدّين منه، جنح إلى صلحه فصالحه، ودخل في مرضاته.
قال اليونيني في «تاريخه» : إن سنانا سيّر رسولا وأمره أن لا يؤدي رسالته إلّا خلوة، ففتشه السلطان صلاح الدّين فلم يجد معه ما يخافه، فأخلى له المجلس إلّا نفرا يسيرا، فامتنع من أداء الرسالة حتّى يخرجوا، فخرجوا كلهم غير مملوكين صغيرين، فقال: هات رسالتك، فقال: أمرت أن لا أقولها إلّا في خلوة، فقال: هذان ما يخرجان، قال: ولم؟ قال: لأنهما مثل أولادي، فالتفت الرسول إليهما وقال: إذا أمرتكما عن مخدومي بقتل هذا السلطان تقتلانه؟ قالا: نعم. وجذبا سيفهما، فبهت السلطان، وخرج الرسول وأخذهما معه، فجنح صلاح الدّين إلى الصلح وصالحه ودخل في مرضاته.
انتهى.
وفيها قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش ابن إسرائيل بن سلجوق بن دقاق التّركي السلجوقي [1] صاحب الرّوم، وحمو الناصر لدين الله. امتدت أيامه وشاخ وقويت [2] عليه أولاده وتصرفوا في ممالكه في حياته، وهي قونية، وأقسر، وسيواس، وملطية، وعاش سلطانا أكثر من ثلاثين سنة، وتملّك بعده ابنه غياث الدّين.
وفيها ابن مجبر [3] الشاعر أبو بكر بن يحيى بن عبد الجليل الفهري ثم الإشبيلي، صاحب الأندلس في عصره، وهو كثير القول في يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 267) و «دول الإسلام» (2/ 100) و «النجوم الزاهرة» (6/ 117) .
[2] في «العبر» بطبعتيه: «وقوي» .
[3] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «ابن مجير» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» (21/ 215) و «فوات الوفيات» (4/ 275) و «نفح الطيب» (3/ 237) .

(6/484)


وفيها أبو المرهف وأبو الفتح أيضا، نصر بن منصور بن الحسن النّميري [1] الأديب الشاعر الحنبلي.
ولد يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسمائة بالرافقة بقرب رقّة الشام، وكان من أولاد أمراء العرب. نشأ بالشام وخالط أهل الأدب، وقال الشعر الفائق وهو مراهق، وأصابه جدري، وله أربع عشرة سنة فضعف بصره حتّى كان لا يبصر إلّا ما قرب منه، ثم قدم بغداد لمعالجة بصره، فأيس [2] الأطباء منه، فعمي، وأقام ببغداد، وسكن باب الأزج، فحفظ القرآن العظيم، وسمع الحديث من أبي الحصين، والقاضي أبي بكر، وابن ناصر، وغيرهم، وتفقّه وقرأ العربية والأدب على ابن الجواليقي، وصحب العلماء والصالحين، كالشيخ عبد القادر وغيره، ومدح الخلفاء والوزراء، وله ديوان شعر حدّث به، وكان فصيح القول، حسن المعاني، ذا دين وصلاح وتصلب في السّنّة، وسمع منه القطيعي وغيره، وروى عنه جماعة.
ومن شعره- وقد سئل عن مذهبه واعتقاده-:
أحبّ عليا والبتول وولدها ... ولا أجحد الشيخين حقّ التّقدّم
وأبرأ ممّن نال عثمان بالأذى ... كما كنت أبرا من ولاء ابن ملجم
ويعجبني أهل الحديث بصدقهم ... فلست إلى قوم سواهم بمنتمي
[3]
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (21/ 213- 214) و «البداية والنهاية» (12/ 353) و «النجوم الزاهرة» (6/ 118) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 374) - 376) .
[2] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «فآيسه» .
[3] كذا هي الشطرة الثانية من البيت في «آ» و «ط» و «البداية والنهاية» و «ذيل طبقات الحنابلة» .
وفي «سير أعلام النبلاء» :
مدى الدهر في أفعالهم والتكلّم

(6/485)


ومن شعره أيضا:
سبرت شرائع العلماء طرّا ... فلم أر كاعتقاد الحنبليّ
فكن من أهله سرّا وجهرا ... تكن أبدا على النهج السّويّ
هم أهل الحديث وما عرفنا ... سوى القرآن والنّص الجليّ
ومنه أيضا:
وزهّدني في جميع الأنا ... م قلّة إنصاف من يصحب
هم النّاس ما لم تجرّبهم ... وطلس الذئاب إذا جرّبوا
ولم تك تسلم عند البعا ... د منهم، فكيف إذا قرّبوا
[1] توفي يوم الثلاثاء ثامن عشري ربيع الآخر، ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «إذا تقرّبوا» وما أثبته من «سير أعلام النبلاء» .

(6/486)


سنة تسع وثمانين وخمسمائة
وتسمى سنة الملوك.
فيها توفي بكتمر السلطان سيف الدّين صاحب خلاط، توفي في جمادى الأولى، وكان فيه دين وإحسان إلى الرّعية، وله همّة عالية، ضرب لنفسه الطبل في أوقات الصلوات الخمس، قتله بعض الإسماعيلية. قاله في «العبر» [1] .
وفيها صاحب مكّة داود بن عيسى بن فليتة بن أبي هاشم العلوي الحسني [2] ، وكانت مكّة تكون له تارة ولأخيه مكثّر تارة.
وفيها محمود سلطان شاه أخو الملك علاء الدّين خوارزم شاه ابنا أرسلان بن محمد الخوارزمي [3] . تملّك بعد أبيه سنة ثمان وسبعين، ثم قوي عليه [4] أخوه وحاربه، وتنقّلت به الأحوال، ثم وثب على مدينة مرو، وكان نظيرا لأخيه في الجلالة والشجاعة، دفع الغزّ عن مرو، ثم تجمعوا له وحاربوه وقتلوا رجاله ونهبوا خزائنه، فاستعان على حربهم بالخطا، وجاء
__________
[1] (4/ 268) وانظر «سير أعلام النبلاء» (21/ 277- 278) .
[2] انظر «العبر» (4/ 268) و «العقد الثمين» (4/ 354- 356) .
[3] انظر «العبر» (4/ 268- 269) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 218- 219) .
[4] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «على» والتصحيح من «العبر» بطبعتيه.

(6/487)


بجيش عرمرم، واستولى على مملكة مرو، وسرخس، ونسا، وأبيورد، ووردت الخطا بمكاسب عظيمة من مال المسلمين، ثم أغار على بلاد الغوري، وظلم وعسف، ثم التقى هو والغوريّة فهزموه، ووصل إلى مرو في عشرين فارسا، وجرت له أمور طويلة، وتوفي في سلخ رمضان.
وفيها الحضرمي قاضي الإسكندرية أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد [1] المالكي [2] . روى عن محمد بن أحمد الرّازي وغيره.
وفيها صاحب الموصل السلطان عز الدّين مسعود بن مودود بن أتابك زنكي بن آق سنقر.
قال ابن الأثير [3] : بقي عشرة أيام لا يتكلم إلا بالشهادتين وبالتلاوة، ورزق خاتمة خير، وكان كثير الخير والإحسان، يزور الصالحين ويقرّبهم ويشفّعهم، وفيه حلم وحياء ودين. انتهى.
ودفن بمدرسته التي أنشأها بالموصل تجاه دار السلطنة، وتمكن بعده ولده نور الدّين.
وفيها السلطان صلاح الدّين الملك الناصر أبو المظفّر يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الدّويني الأصل [4] أول دولة الأكراد وملوكهم.
قال ابن خلّكان [5] : اتفق أهل التاريخ على أن أباه وأهله من دوين
__________
[1] قوله: «ابن محمد» سقط من «آ» .
[2] انظر «العبر» (4/ 269) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 216- 217) .
[3] انظر «الكامل» لابن الأثير (12/ 101- 102) .
[4] انظر «الكامل» لابن الأثير (12/ 95- 97) و «العبر» (4/ 270) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 278- 291) .
[5] انظر «وفيات الأعيان» (7/ 139) .

(6/488)


- بضم الدال المهملة وكسر الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، وهي بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة أرّان وبلاد الكرج [1]- وإنهم أكراد رواديّة- بفتح الراء والواو وبعد الألف دال مهملة ثم ياء مثناة من تحتها مشددة وبعدها هاء، والروادية بطن من الفذّانيّه [2] بفتح الفاء والذال المعجمة، وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء مشددة مثناة من تحتها وبعدها هاء [3] ، قبيلة كبيرة من الأكراد- انتهى.
وقال الذهبي: هو تكريتيّ المولد. ولد سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، وكان أبوه شحنة تكريت، ملك البلاد ودانت له العباد، وأكثر من الغزو وأطاب، وكسر الفرنج مرّات، وكان خليقا بالملك، شديد الهيبة، محببا إلى الأمة، عالي الهمّة، كامل السؤدد، جمّ المناقب، ولي السلطنة عشرين سنة، وتوفي بقلعة دمشق في السابع والعشرين من صفر، وارتفعت الأصوات في البلد بالبكاء، وعظم الضجيج، حتّى إن العاقل يتخيل أن الدّنيا كلها تصيح صوتا واحدا، وكان أمرا عجيبا، فرحمه الله ورضي عنه. انتهى.
وقال ابن شهبة في «تاريخ الإسلام» : كان شجاعا، سمحا، جوادا، مجاهدا في سبيل الله، يجود بالمال قبل الوصول إليه، وكان مغرما بالإنفاق في سبيل الله، وما كان يلبس إلّا ما يحل له لبسه، ومن جالسه لا يعلم أنه جليس سلطان، وكان شديد الرغبة في سماع الحديث. ادعى رجل عليه أن سنقر الخلاطي مملوكه مات على رقّه، فتزحزح عن طرّاحته وساواه في
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الكرد» والتصحيح من «وفيات الأعيان» والكرج: مدينة بين همذان وأصبهان. انظر «معجم البلدان» .
[2] كذا في «آ» و «ط» وفي هامش «ط» علّق الأستاذ حسام الدّين القدسي رحمه الله بقوله: في ابن خلّكان: «الهذانية» وأما في «وفيات الأعيان» الذي بين يدي فاللفظة طبعت على هذا النحو: «الهذبانية» فلتحرر.
[3] لفظة «هاء» سقطت من «آ» .

(6/489)


الجلوس، وادعى الرجل، فرفع السلطان رأسه وقال: لمن تعرفون سنقر؟
قالوا: نشهد أنه مملوكك مات على رقّك، ولم يكن للرجل بيّنة فأسقط في يده، ثم إن السلطان وهب له خلعة ونفقة وبغلة.
وما شتم أحدا قطّ، ولا كتب بيده ما فيه أذى مسلم، وكان الحجّاب يزدحمون على طرّاحته، فجاء سنقر الخلاطي وقدّم له رقعة [1] يعلّم عليها، وكان السلطان قد مدّ يده اليمنى على الأرض ليستريح، فداس عليها سنقر ولم يعلم، وقال له: علّم لي على هذه القصة، وكرر القول، والسلطان لا يرد عليه، فقال له السلطان: أعلّم بيدي أو برجلي؟ فنظر سنقر فرأى يد السلطان تحت رجله، فخجل، وتعجب الحاضرون من حلمه.
وأول ما فتح الدّيار المصرية، والحجاز، ومكّة، والمدينة، واليمن من زبيد إلى حضرموت، متصلا بالهند، ومن الشام: دمشق، وبعلبك، وحمص، وبانياس، وحلب، وحماة. ومن الساحل: بلاد القدس، وغزة، وتل الصافية، وعسقلان، ويافا، وقيسارية، وحيفا، وعكا، وطبرية، والشّقيف، وصفد، وكوكب، والكرك، والشّوبك، وصيدا، وبيروت، وجبلة، واللّاذقية، والشّغر، وصهيون، وبلاطنس، ومن الشرق حرّان، والرّها، والرّقّة، ورأس عين، وسنجار، ونصيبين، وسروج، وديار بكر، وميّافارقين، وآمد، وحصونها، وشهرزور، ويقال: إنه فتح ستين حصنا، وزاد على نور الدّين بمصر، والمغرب، والحجاز، واليمن، والقدس، والساحل، وبلاد الفرنج، وديار بكر، ولو عاش لفتح الدّنيا شرقا وغربا، وبعدا وقربا، ولم يبلغ ستين سنة، وكذا نور الدّين، وكان له ستة عشر ولدا ذكرا وبنت واحدة، وأكبرهم الأفضل علي، وابنته مؤنسة خاتون، تزوّج بها الكامل بن العادل، وبنى الملك الأفضل قبة شمالي الجامع الأموي في جواره شباك إلى الجامع ونقله
__________
[1] لفظة «رقعة» سقطت من «آ» .

(6/490)


إليها في يوم عاشوراء، سنة اثنتين وتسعين، ومشى الأفضل بين يدي تابوته، وأراد العلماء والفقهاء حمله على أعناقهم، فقال الأفضل: تكفي أدعيتكم الصالحة، وحمله مماليكه وأخرج من القلعة وأدخل إلى [1] الجامع، ووضع قدّام باب النسر، وصلّى عليه القاضي محيي الدّين بن الزّكي، ثم حمل على الرؤوس إلى بطن ملحده، ثم لحده الأفضل وجلس ثلاثة أيام للعزاء، وأنفقت ستّ الشام أخت السلطان في هذه الأيام أموالا عظيمة، وقد رأى بعض الصالحين النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- في جماعة من أصحابه رضي الله عنهم وقد زاروا قبر صلاح الدّين، ولما مات اختلفت اخوته، وطمع الفرنج فأخذوا جبيلا حاصروها وبها جماعة من الأكراد فباعوها للفرنج. انتهى ما أورده ابن شهبة ملخصا.
وفيها أبو المظفّر منصور بن المبارك الواعظ، الملقب جرادة [2] . كان ظريفا كيّسا. ذكر يوما في وعظه حديث: «من قتل حيّة كان له قيراطان من الأجر، ومن قتل عقربا كان له قيراط» [3] فقام رجل فقال: يا سيدي، ومن قتل جرادة؟ قال: صلب على باب المسجد.
__________
[1] لفظة «إلى» سقطت من «آ» .
[2] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 197) .
[3] ذكره سبط ابن الجوزي في «مرآة الزمان» (8/ 272) في معرض ترجمته ولم يعزه لأحد، ولم أجده بهذا اللفظ، وفي معناه حديث «من قتل حية فكأنما قتل كافرا» ذكره الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (2/ 234) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وإسناده ضعيف، وانظر «ميزان الاعتدال» للحافظ الذهبي (4/ 492 و 493) .

(6/491)


سنة تسعين وخمسمائة
فيها سار بنارس أكبر ملوك الهند، وقصد الإسلام، فطلبه شهاب الدّين الغوري، فالتقى الجمعان على نهر ماحون [1] .
قال ابن الأثير [2] : وكان مع الهنديّ سبعمائة فيل، ومن العسكر على ما قيل ألف ألف نفس، فصبر الفريقان، وكان النصر لشهاب الدّين، وكثر القتل في الهنود، حتّى جافت منهم الأرض، وأخذ شهاب الدّين تسعين فيلا وقتل بنارس ملك الهند، وكان قد شدّ أسنانه بالذهب، فما عرف إلّا بذلك، ودخل شهاب الدّين بلاد بنارس وأخذ من خزانته ألفا وأربعمائة حمل، ومن جملة الفيلة فيل أبيض حدّثني من رآه.
وفيها توفي القزويني العلّامة رضي الدّين أبو الخير أحمد بن إسماعيل بن يوسف الطّالقاني، الفقيه الشافعي الواعظ.
ولد سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وتفقّه على الفقيه ملكداذ العمركيّ [3] ، وقرأ بالرّوايات على إبراهيم بن عبد الملك القزويني، وفاق
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» و «العبر» (4/ 270) وفي «الكامل» لابن الأثير (12/ 105) : «نهر ماجون» وفي «سير أعلام النبلاء» (22/ 215) : «نهر ماخون» .
[2] انظر «الكامل في التاريخ» (12/ 105- 106) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف تبعا للذهبي في «العبر» .
[3] في «آ» و «ط» : «ملكدار القزويني» وهو خطأ، وتحرفت «ملكداذ» في «العبر» بطبعتيه إلى «ملكدار» وما أثبته من «سير أعلام النبلاء» (21/ 191) .

(6/492)


الأقران، وسمع من الفراوي، وزاهر [الشّحاميّ] [1] وخلق، ثم قدم بغداد قبل الستين ودرّس بها ووعظ، ثم قدمها قبل السبعين، ودرّس بالنظامية، وكان إماما في المذهب، والخلاف، والأصول، والتفسير، والوعظ، وروى كتبا كبارا، ونفق كلامه على الناس لحسن سمته، وحلاوة منطقه، وكثر محفوظاته، وكان صاحب قدم راسخ في العبادة، عديم النظير، كبير الشأن، رجع إلى قزوين سنة ثمانين ولزم العبادة إلى أن مات في المحرم.
قال ابن شهبة [2] : صنّف كتاب «البيان في مسائل القرآن» ردا على الحلولية [3] والجهمية، وصار رئيس الأصحاب، وكان يتكلم يوما وابن الجوزي يوما، ويحضر الخليفة من وراء الأستار، وتحضر الخلائق والأمم.
انتهى.
وفيها طغرل بك شاه بن أرسلان شاه بن طغرل بك بن محمد شاه السّلجوقي [4] السلطان، صاحب أذربيجان. طلب السلطنة من الخليفة، وأن يأتي بغداد ويكون على قاعدة الملوك السلجوقية سوى صاحب الرّوم، وكان سفاكا للدماء، قتل خلقا كثيرا.
قال السبط: رأيته وكأن وجهه القمر، ولم ير في زمانه أحسن صورة منه، قصده خوارزم شاه والتقيا على الرّيّ، فجاءته نشّابة في عينه فضربه مملوك له بالسيف فقتله وقطع رأسه، وحمله إلى خوارزم شاه، وهو آخر [الملوك] [5] السلجوقية، وعدتهم نيف وعشرون ملكا، ومدة ملكهم مائة وستون سنة.
__________
[1] زيادة من «سير أعلام النبلاء» .
[2] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 28- 29) .
[3] تحرفت في «آ» إلى «الحولية» .
[4] انظر «العبر» (4/ 272) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 267- 268) .
[5] ما بين حاصرتين تكملة من «مرآة الزمان» (8/ 284) و «سير أعلام النبلاء» .

(6/493)


وفيها عبد الخالق بن فيروز الجوهري الهمذاني الواعظ، أكثر الترحال، وروى عن زاهر والفراوي وطائفة، ولم يكن ثقة ولا مأمونا. قاله في «العبر» [1] .
وفيها عبد الوهّاب بن علي القرشي الزّبيري الدمشقي الشّروطي، ويعرف بالحبقبق، والد كريمة. روى عن جمال الإسلام أبي الحسن السّلمي وجماعة، وتوفي في صفر.
وفيها الشّاطبي أبو محمد القاسم بن فيرّه- بكسر الفاء وسكون التحتية وتشديد الراء المضمومة، معناه بالعربي الحديد- بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرّعيني- بضم الراء وفتح العين المهملة وسكون المثناة التحتية وبعدها نون، نسبة إلى ذي رعين، أحد أقيال اليمن- الشّاطبي الضرير المقرئ، صاحب القصيدة التي سمّاها «حرز الأماني ووجه التهاني» في القراءات وعدتها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتا، ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قرّاء هذا الزمان في نقلهم، ولم يسبق إلى أسلوبها. روي عنه أنه كان يقول: لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلّا وينفعه الله عزّ وجل، لأنني نظمتها لله تعالى مخلصا في ذلك، ونظم قصيدة دالية خمسمائة بيت، من حفظها أحاط علما بكتاب «التمهيد» لابن عبد البرّ، وكان عالما بكتاب الله تعالى، قراءة، وتفسيرا، وبحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مبرزا فيه، وكان إذا قرئ عليه «صحيح» البخاري ومسلم، و «الموطأ» يصحح النسخ من حفظه ويملي النّكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحد في علم النحو واللغة، عارفا بعلم الرؤيا، حسن المقاصد، مخلصا فيما يقول ويفعل. قرأ القرآن العظيم بالروايات على ابن هذيل الأندلسي وغيره، وسمع الحديث من ابن سعادة
__________
[1] (4/ 272) وانظر «ميزان الاعتدال» (2/ 543) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 243) .

(6/494)


وغيره، وانتفع به خلق كثير، وكان يتجنب فضول الكلام، ولا ينطق في سائر أوقاته إلّا بما تدعو إليه ضرورة، ولا يجلس للإقراء إلّا على طهارة في هيئة حسنة، وتخشّع واستكانة، وكان يعتل العلّة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوه، وإذا سئل عن حاله قال: العافية، لا يزيد على ذلك، وكان كثيرا ما ينشد هذا اللغز في نعش الموتى:
أتعرف شيئا في السماء نظيره ... إذا سار صاح النّاس حيث يسير
فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا ... وكلّ أمير يعتليه أسير
يحضّ على التّقوى ويكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير
ولم يستزر عن رغبة في زيارة ... ولكن على رغم المزور يزور
وكانت ولادته سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، وكان ثقة في نفسه، وتوفي في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن بتربة القاضي الفاضل بالقرافة، وقبره مشهور مزور، وكان شافعي المذهب كما ذكره ابن شهبة في «طبقاته» [1] .
وفيها أبو مدين الأندلسيّ [2] الزاهد العارف شيخ أهل المغرب، شعيب بن الحسين، سكن تلمسان، وكان من أهل العمل والاجتهاد، منقطع القرين في العبادة والنسك، بعيد الصيت، ويسميه الشيخ محيي الدّين بن عربي بشيخ الشيوخ، ونشر الله ذكره، وتخرّج به جماعة من الفضلاء، كأبي عبد الله القرشي وغيره، وانتهى إليه كثير من العلماء المحقّقين وفضلاء الصالحين، كابن عربي، وله في الحقائق كلام واسع.
ومن شعره:
يا من علا فرأى ما في الغيوب وما ... تحت الثّرى وظلام الليل منسدل
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 43- 45) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (21/ 219- 220) .

(6/495)


أنت الغياث لمن ضاقت مذاهبه ... أنت الدّليل لمن حارت به الحيل
إنّا قصدناك والآمال واثقة ... والكلّ يدعوك ملهوف ومبتهل
فإن عفوت فذو فضل وذو كرم ... وإن سطوت فأنت الحاكم العدل
طلبه سلطان المغرب، فلما وصل إلى تلمسان قال: ما لنا وللسلطان، نزور الإخوان، ثم نزل واستقبل القبلة وتشهّد وقال: ها قد جئت ها قد جئت وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى 20: 84 [طه: 84] فمات، ودفن في جبّانة العبّاد، وقد قارب الثمانين، وقبره بها مشهور مزور.
وفيها ابن الفخّار أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن خلف الأنصاري المالقي [1] الحافظ، صاحب أبي بكر بن العربي. أكثر عنه، وعن شريح وخلق، وكان إماما ثقة مأمونا معروفا يسرد المتون والأسانيد، عارفا بالرجال واللغة، جليل القدر، طلبه السلطان ليسمع منه بمرّاكش فمات بها في شعبان وله ثمانون سنة.
وفيها محمد بن عبد الملك بن بونة العبدري [2] المالقي، ابن البيطار نزيل غرناطة، وآخر من روى بالإجازة عن أبي علي بن سكّرة. سمع أبا محمد بن عتّاب، وأبا بحر بن العاص، وعاش أربعا وثمانين سنة.
وفيها فخر الدّين بن الدّهّان محمد بن علي بن شعيب البغدادي الفرضي [3] الحاسب الأديب، النحوي الشاعر، جال في الجزيرة، والشام، ومصر، وصنّف الفرائض على شكل المنبر، فكان أول من اخترع ذلك، وله «تاريخ» [4] وألّف كتاب «غريب الحديث» في مجلدات، وصنّف في النجوم،
__________
[1] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 209- 210) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 241- 243) .
[2] في «آ» و «ط» «ابن بويه الغندري» وهو تصحيف والتصحيح من «العبر» (4/ 274) .
[3] انظر «العبر» (4/ 274) .
[4] تحرفت في «آ» إلى «تاريخا» .

(6/496)


والزيج، وكان أحد أذكياء العالم، مات فجأة بالحلّة.
وفيها مصلح الدّين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن محمد ابن عبد الله ابن عبد الملك الأصبهاني الحمّامي [1] الحنبلي العابد الأديب الجورتاني- نسبة إلى جورتان [2] من قرى أصبهان-.
ولد سنة خمسمائة في رجب، وسمع من أبي علي الحداد وغيره.
قال ابن النجّار: كان فقيها فاضلا كامل المعرفة بالأدب، وأكثر أدباء أصبهان من تلامذته، وكان متدينا حسن الطريقة صدوقا. انتهى.
وكان يقول لما بلغ عقد الثمانين: أسأل الله تعالى أن يمهلني إلى التسعين، وأن يوفقني كل يوم لختمة، فاستجيبت دعوته.
وقال ابن النجار: سمعت أبا البركات الرّويدشتيّ [3] بأصبهان يقول: توفي محمد بن أحمد الحنبلي- يعرف بالحمامي- أستاذ الأئمة يوم الأربعاء ثالث عشر شهر ربيع الآخر.
وقال ابن رجب: توفي قبله بيسير ولده أبو بكر أحمد، وكان سمع سعيد ابن أبي الرجاء وغيره، وكان يلقب أمين الدّين. انتهى.
وفيها أبو عبد الله، ويقال أبو الفتح، محمد بن عبد الله بن الحسين ابن علي بن أبي طلحة نصر بن أحمد بن محمد بن جعفر البرمكي الهروي الإشكيذباني- بكسر الهمزة، وسكون الشين المعجمة، وكسر الكاف، وسكون الياء التحتية، وفتح الذال المعجمة وبعدها باء موحدة مفتوحة، وبعد
__________
[1] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 204- 205) و «ذيل تاريخ بغداد» لابن الدبيثي (1/ 129- 131) و «الوافي بالوفيات» (2/ 108) و «ذيل طبقات الحنابلة» .
(1/ 380- 381) .
[2] انظر «معجم البلدان» (2/ 180) .
[3] تحرفت في «آ» إلى «الدويسي» وفي «ط» إلى «الدويدسي» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» و «معجم البلدان» (3/ 105) .

(6/497)


الألف نون. قاله المنذري [1]- كان حنبليا محدّثا، نزل مكّة، فكان عظيم الحنابلة بها.
ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وسمع بهمذان من أبي الوقت، وأبي الفضل بن حمّان [2] وغيرهما، وببغداد من ابن النحّاس وغيره، وبمصر من أبي الطاهر الزيّات، وبالإسكندرية من الحافظ السّلفي، وحدّث بمكة، ومصر، والإسكندرية، وأقام بمكة في آخر عمره وأمّ بها في موضع الحنابلة.
قال ابن الحنبلي ناصح الدّين: سمعت منه بقراءته جزءا بمكة، وكان في عزمي أنني أدخل اليمن، وقد هيأت هدية لصاحبها من طرف دمشق، فاستشرته فقال: أنت أعلم. ثم قال: قرأنا ها هنا جزءا من أيام فجاء فيه عن بعض السلف علامة قبول الحجّ: أن الإنسان لا ينصرف عن مكّة طالبا للدّنيا، فزهدت في اليمن ورجعت عن ذلك العزم.
وفيها الشيخ الأجل إمام الحرم مكيّ بن نابت- بالنون- بن أبي زهرة الحنبلي [الغضاري] [3] ، بمصر ليلة السادس من شهر ربيع الآخر. ذكره المنذري ولم يزد عليه.
وفيها أبو الكرم علي بن عبد الكريم بن أبي العلاء العطّار العبّاسي الهمذاني [4] مسند همذان. حدّث سنة خمس وثمانين عن أبي غالب العدل، وفيد الشعراني [5] .
__________
[1] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 213- 215) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 381- 382) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «حماز» والتصحيح من «التكملة لوفيات النقلة» و «ذيل طبقات الحنابلة» .
[3] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 203- 204) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[4] انظر «سير أعلام النبلاء» (21/ 110) .
[5] في «آ» و «ط» : «وقيل الشعراني» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» وخبر وفاته فيه (19/ 208- 209) .

(6/498)


وفيها جاكير الزاهد القدوة، أحد شيوخ العراق، واسمه محمد بن رستم [1] الكردي الحنبلي، له أصحاب وأتباع وأحوال وكرامات. قاله في «العبر» .
وقال السخاوي: له كرامات ولم يتزوج، وله زاوية وضريح براذان، وهي على بريد من سامرا [2] وأن أخاه الشيخ أحمد قعد بعده في المشيخة.
وقال ابن الأهدل: لما شاع ذكره بعث إليه تاج العارفين أبو الوفاء طاقيته من الشيخ علي الهيتي ولم يكلفه الحضور، فقال الشيخ علي الهيتي: سألت الله أن يكون جاكير من مريديّ فوهبه لي، وكان يفتخر به وينوه بذكره، وكان ربما عرف ما في بطون البهائم المنذورة له ومن يذبحها ومن يأكلها. سكن صحراء من صحاري العراق على يوم من سامرا ومات بها، فبني إلى جانبه قرية بنيت للتبرك به. انتهى.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «دشتم» والتصحيح من «العبر» (4/ 275) و «المنهج الأحمد» (2/ 220) .
[2] انظر «معجم البلدان» (3/ 13) .

(6/499)