شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة ست وتسعين وخمسمائة
قال ابن كثير [1] : في هذه السنة والتي بعدها، كان بديار مصر غلاء شديد، فهلك الغنيّ والفقير، وعمّ الجليل والحقير، وهرب الناس منها نحو الشام، ولم يصل منهم إلّا القليل من الفيام [2] وتخطفتهم الفرنج من الطرقات وغرّوهم [3] في أنفسهم واغتالوهم بالقليل من الأقوات.
وفيها توفي أبو جعفر [4] القرطبي أحمد بن علي بن أبي بكر المقرئ الشافعي إمام الكلّاسة وأبو إمامها.
ولد سنة ثمان وعشرين بقرطبة، وسمع بها من أبي الوليد بن الدبّاغ [5] ، وقرأ القراءات على أبي بكر بن صاف [6] ثم حجّ وقرأ القراءات على ابن سعدون القرطبي، ثم قدم دمشق فأكثر عن الحافظ ابن عساكر، وكتب
__________
[1] انظر «البداية والنهاية» (13/ 22) .
[2] في «ط» : «الفئام» والفيام: الجماعة من الناس. انظر «لسان العرب» (فيم) وقوله: «من الفيام» لم يرد في «البداية والنهاية» الذي بين يدي.
[3] في «ط» و «المنتخب» (129/ ب) : «وعزوهم» وفي «آ» : «وغزوهم» وفي «البداية والنهاية» :
«وغروهم» وهو ما أثبته وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
[4] في «آ» : «جعفر» وهو خطأ، وهو مترجم في «العبر» (4/ 291) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 303- 304) .
[5] في «سير أعلام النبلاء» : «سمع منه «الموطأ» بقراءة والده» .
[6] تحرفت في «آ» و «ط» و «العبر» بطبعتيه إلى «ابن صيف» والتصحيح من «معرفة القراء الكبار» (2/ 555) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 304) وهو محمد بن خلف الإشبيلي أبو بكر.

(6/528)


الكثير، وكان عبدا صالحا خبيرا بالقراءات.
وفيها أبو إسحاق العراقي [1] العلّامة إبراهيم بن منصور بن المسلّم، الفقيه الشافعي المصري، المعروف بالعراقي.
ولد بمصر سنة عشر وخمسمائة، ولقّب بالعراقي لاشتغاله ببغداد، وتفقّه بها على أبي بكر الأرموي تلميذ أبي إسحاق الشيرازي وغيره، وبمصر على القاضي مجلّي، وشرح «المهذب» [2] في نحو خمسة عشر جزءا متوسطة [3] ، وتخرّج به جماعة، وتوفي في جمادى الأولى.
وفيها إسماعيل بن صالح بن ياسين أبو الطاهر الشّارعيّ [4] المقرئ الصالح. روى عن أبي عبد الله الرزّاز «مشيخته» و «سداسياته» وتوفي في ذي الحجّة.
وفيها أبو سعيد الرّاراني [5]- براءين مهملتين، نسبة إلى راران قرية بأصبهان- خليل بن أبي الرجاء بدر بن ثابت الأصبهاني الصّوفي.
ولد سنة خمسمائة، وروى عن الحدّاد، ومحمود الصّيرفي، وطائفة.
وتوفي في ربيع الآخر، وتفرّد بعدة أجزاء.
وفيها علاء الدّين خوارزم شاه تكش بن خوارزم شاه أرسلان [6] بن
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (1/ 33- 36) و «العبر» (4/ 291) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 304- 305) .
[2] لأبي إسحاق الشيرازي.
[3] في «الوافي بالوفيات» (6/ 151) : «في عشرة أجزاء» .
[4] في «آ» و «ط» : «الساعي» وهو تحريف، والتصحيح من «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 367) و «العبر» (4/ 291) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 270) .
[5] انظر «العبر» (4/ 291- 292) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 269) .
[6] كذا في «آ» و «ط» و «العبر» بطبعتيه، و «النجوم الزاهرة» (6/ 159) : «خوارزم شاه تكش بن خوارزم شاه أرسلان» وفي «الكامل في التاريخ» (12/ 156) : «خوارزم شاه تكش بن ألب

(6/529)


آتز [1] بن محمد بن نوشتكين [2] ، سلطان الوقت، ملك من السّند، والهند، وما وراء النهر، إلى خراسان، إلى بغداد. وكان جيشه مائة ألف فارس. وهو الذي أزال دولة بني سلجوق، وكان حاذقا بلعب العود، ذهبت عينه في بعض حروبه، وكان شجاعا فارسا عالي الهمّة، تغيرت نيته للخليفة، وعزم على قصد العراق، فجاءه الموت فجأة بدهستان في رمضان، وحمل إلى خوارزم، وقيل كان عنده أدب ومعرفة بمذهب الإمام أبي حنيفة، مات بالخوانيق.
وقام بعده ولده قطب الدّين محمد ولقبوه بلقب أبيه.
وفيها مجد الدّين طاهر بن نصر الله بن جهبل الكلابي الحلبي [3] الشّافعي الفرضي، مدرس مدرسة صلاح الدّين بالقدس. سمع الحديث من جماعة، وحدّث وصنّف للسلطان نور الدّين الشهيد كتابا في فضل الجهاد، وهو والد بني جهبل الفقهاء الدمشقيون، وأحد من قام على السّهروردي الفيلسوف، وأفتى بقتله، مات بالقدس عن أربع وستين سنة.
وفيها القاضي الفاضل أبو علي عبد الرحيم بن علي بن الحسن اللّخمي البيساني ثم العسقلاني ثم المصري محيي الدّين [4] صاحب «ديوان الإنشاء» وشيخ البلاغة.
ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة.
قيل: إن مسودّات رسائله لو جمعت لبلغت مائة مجلد.
قال عبد اللطيف البغدادي في «تاريخه» : كان ثلاثة إخوة أصلهم من
__________
أرسلان» وفي «ذيل الروضتين» ص (17) : «خوارزم شاه تكش بن أرسلان شاه» وفي «سير أعلام النبلاء» : «خوارزم شاه تكش بن أرسلان» .
[1] في «آ» و «ط» : «بن أطر» والتصحيح من «ذيل الروضتين» و «سير أعلام النبلاء» .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن بوستكين» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» .
[3] انظر «العبر» (4/ 292) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 31) .
[4] انظر «العبر» (4/ 293) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 338- 344) .

(6/530)


بيسان، وكان أحدهم بالإسكندرية وبها مات، وخلّف من الخواتم صناديق ومن الحصر والقدور والخزف بيوتا مملوءة، وكان متى رأى خاتما أو سمع به اجتهد في تحصيله واشتراه.
وأما الأخ الثاني فكان له هوس مفرط في تحصيل الكتب، وكان عنده مائتا ألف كتاب، ومن كل كتاب نسخ كثيرة حتّى من «الصحاح» ثمان عشرة نسخة.
وأما الثالث فالقاضي الفاضل، وكان يحب الكتابة، فقصد مصر ليشتغل بالأدب، فاشتغل به، وحفظ القرآن، وقال الشعر والمراسلات، وخدم الأكابر، فلما ملك أسد الدّين احتاج إلى كاتب فأحضر إليه فأعجبه نفاده وسمته ودينه ونصحه، فلما تملّك صلاح الدّين استخلصه لنفسه، وحسّن اعتقاده فيه ووجد البركة في رأيه، ولذلك لم يكن أحد في منزلته، وكان نزها عفيفا نظيفا، قليل اللّذات، كثير الحسنات، دائم التهجد، ملازم القرآن والاشتغال بعلوم الأدب، غير أنه كان خفيف البضاعة من النحو لا عريا منه، لكن قوة الدّربة توجب له عدم اللّحن، وكتب ما لم يكتبه أحد، ولما عظم شأنه أنف من قول الشعر، وكان لباسه لا يساوي دينارين، وثيابه البياض، ولا يركب معه أحد ولا يصحبه سوى غلام له، ويكثر زيارة القبور، ويشيّع الجنائز ويعود المرضى، وكان له صدقات ومعروف كثير في الباطن، وكان ضعيف البنية رقيق الصورة، له حدبة يسترها الطيلسان، وفيه سوء خلق، لا يضر أحدا، ولأصحاب الفضائل عنده موقع، يحسن إليهم ولا يمنّ عليهم، ويؤثر أرباب البيوت ومن كان خملا من ذوي النباهة، ويحب الغرباء، ولم يكن له انتقام من أعدائه بل يحسن إليهم، وكان دخله كل سنة من إقطاعه ورباعه وضياعه خمسون ألف دينار، هذا سوى التجارات من الهند والمغرب وغير ذلك، وسوى ضيعة من السلطان تسمّى ترنجه تعمل اثني عشر ألف دينار، وكان

(6/531)


يقتني الكتب من كل فنّ ويجتلبها من كل جهة، وله نسّاخ لا يفترون ومجلّدون لا يسأمون.
قال لي بعض من يخدمه في الكتب: إن عدد كتبه قد بلغ مائة ألف كتاب وأربعة عشر ألف كتاب، هذا قبل أن يموت بعشرين سنة.
وحكى لي ابن صورة الكتبي [1] قال: إن ابنه التمس مني نسخة «حماسة» ليقرأها، فقلت للفاضل، فاستدعى من الخادم أن يحضر شدات «الحماسة» فأحضر خمسا وثلاثين نسخة، يقول: هذه بخطّ فلان، وهذه بخط فلان، حتّى أتى على الجميع، ثم قال: ليس فيها ما تبتذله الصبيان، فاشترى له نسخة، ولم يزل معظّما بعد موت صلاح الدّين عند ولده العزيز، ثم الأفضل، ومات فجأة أحوج ما كان إلى الموت عند تولي الإقبال واستيلاء الإدبار، كان أمر بإصلاح الحمّام وقت السحر فأصلح، وجاءت ابنته تخبره بذلك فوجدته جالسا ساكتا فهابته لأنه كان مهابا، فطال سكوته حتّى ارتابت، فقدمت قليلا قليلا فلم تر عليه أثر حركة، فوضعت يدها عليه فخرّ صريعا وأخذ في النزع، وقبض وقت الظهر وقت رجوع عسكر مصر مهزوما، ودخل الملك الأفضل فصلّى عليه ودفن بالقرافة، وكان له يوم مشهود.
وفي حدبة القاضي الفاضل يقول ابن سناء الملك:
حاشا لعبد الرحيم سيّدنا ال ... فاضل ما تقوّله السفل
يكذب من قال إنّ حدبته ... في ظهره من عبيده حبل
هذا قياس في غير سيّدنا ... يصحّ لو كان يحبل الرّجل
وحدثني من أثق به أن الفاضل دخل مع أبيه مصر لطلب الإنشاء، وكان إذ ذاك المقدّم بها فيه ابن عبد الظاهر فقصده وطلب منه الاشتغال عليه
__________
[1] انظر التعريف به في تعليقي على آخر أحداث سنة (607) من المجلد السابع.

(6/532)


بذلك، فقال له: ما أعددت للإنشاء؟ قال: ديواني الطائيين، يعني أبا تمّام الطائي والبحتري الطائي، فقال مختبرا لقابليته: اذهب فانثرهما فذهب ونثرهما في ليلة واحدة وعرضهما عليه، فقال له: يقرب أن تصير كاتب إنشاء. انتهى.
وقال ابن شهبة في «تاريخه» : كان له بمصر ربع [1] عظيم يؤجّر بمبلغ كثير، فلما عزم على الحجّ ركب ومرّ به ووقف وقال: اللهم إنك تعلم أن هذا الرّبع ليس شيء أحبّ إليّ منه. اللهم فاشهد أني وقفته على فكاك الأسرى، وهو إلى يومنا هذا وقف، وهو الذي زاد في الكلّاسة بدمشق مثلها. ولما حفرها وجد تحت الأرض أعمدة رخام قائمة على قواعد رخام وفوقها مثلها وأثر العمارة متصل تحت الأرض، ليس له نهاية، وكأنه [2] كان معبدا ووجد فيه قبلة نحو الشمال، وله مدرسة بالقاهرة هي أول مدرسة بنيت بالقاهرة، وكان صلاح الدّين يقول: ما فتحت البلاد بالعساكر إنما فتحتها بكلام الفاضل، وله مائتان وخمسون ألف بيت من الشعر. انتهى ملخصا.
وفيها تاج الدّين أبو منصور عبد العزيز بن ثابت بن طاهر البغدادي المأموني السّمعي- بكسر السين المهملة والسكون [3] نسبة إلى السّمع بن مالك بطن من الأنصار- الخيّاط [4] المقرئ الفقيه الحنبلي الزاهد.
قال أبو الفرج بن الحنبلي: كان رفيقنا في سماع درس ابن المنّي، وبلغ من الزهد والعبادة إلى حد يقال به تمسك بغداد، وكان لطيفا في صحبته، توفي يوم الأربعاء تاسع عشري شعبان، ودفن بباب حرب.
__________
[1] الرابع: الدار وجمعها رباع. انظر «مختار الصحاح» (ربع) .
[2] لفظة «كأنه» لم ترد في «آ» .
[3] وقال السمعاني في «الأنساب» (7/ 147) : بكسر السين المهملة، وفتح الميم، وقيل بسكونها. وانظر «الإكمال» لابن ماكولا (4/ 458) .
[4] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 360) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 398) .

(6/533)


وفيها عبد اللطيف بن أبي البركات إسماعيل بن أبي سعد النيسابوري ثم البغدادي [1] ابن شيخ الشيوخ [2] . كان صوفيّا عامّيّا. روى عن قاضي المارستان، وابن السمرقندي، وحجّ فقدم دمشق فمات بها في ذي الحجّة.
وفيها ابن كليب، مسند العراق أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب ابن سعد الحرّاني ثم البغدادي [3] الحنبلي التّاجر.
ولد في صفر سنة خمسمائة، وسمع من ابن بيان، وابن نبهان، وابن زيدان الحلواني، وطائفة، ومات في ربيع الأول ممتّعا بحواسه. قاله في «العبر» .
وفيها الأثير محمد بن محمد بن أبي الطّاهر بن محمد بن بيان الأنباري ثم المصري [4] الكاتب. روى عن أبي صادق مرشد [5] المديني وغيره، وروى ببغداد «صحاح» الجوهري عن أبي البركات العراقي، وعمّر وزالت رئاسته، وتوفي في ربيع الآخر وله تسع وثمانون سنة.
وفيها الشهاب الطّوسي أبو الفتح محمد بن محمود بن محمد بن شهاب الدّين [6] ، نزيل مصر، وشيخ الشافعية. توفي بمصر عن أربع وسبعين سنة، ودرّس وأفتى ووعظ، وتخرّج به الأصحاب، وكان يركب بالغاشية
__________
[1] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 370) و «العبر» (4/ 293) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 334- 336) .
[2] كذا في «آ» و «ط» و «التكملة» و «العبر» : «ابن شيخ الشيوخ» . وفي «سير أعلام النبلاء» : «أخو شيخ الشيوخ» .
[3] انظر «العبر» (4/ 293) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 258- 260) .
[4] انظر «العبر» (4/ 294) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 220- 223) .
[5] في «آ» و «ط» : «عن أبي صادق ومرشد» وهو خطأ.
[6] انظر «العبر» (4/ 294) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 387- 389) .

(6/534)


والسيوف المسلولة، وبين يديه ينادى: هذا ملك العلماء. وبنى له الملك عمر ابن شاهنشاه المدرسة المعروفة بمنال العزّ، وانتفع به جماعة كثيرة، وكان جامعا لفنون كثيرة، معظما للعلم وأهله، غير ملتفت إلى أبناء الدّنيا، ووعظ بجامع مصر مدة.
ذكر أبو شامة [1] أنه لما قدم بغداد كان يركب بسنجق والسيوف مسلّلة، والغاشية على رأسه، والطوق في عنق بغلته، فمنع من ذلك، فذهب إلى مصر ووعظ وأظهر مذهب الأشعري ووقع بينه وبين الحنابلة.
وقال غيره [2] : كان معظما عند الخاص والعام، طويلا مهيبا مقداما يرتاع منه كلّ أحد ويرتاع هو من الخبوشاني، وعليه مدار الفتوى في مذهب الشافعي، وتوفي في ذي القعدة.
وفيها ابن زريق الحدّاد أبو جعفر المبارك بن المبارك بن أحمد الواسطي [3] شيخ الإقراء.
ولد سنة تسع وخمسمائة، وقرأ على أبيه وعلى سبط الخيّاط، وسمع من أبي علي الفارقي، وعلي بن علي بن شيران، وأجاز له خميس الحوزيّ [4] وطائفة وتوفي في رمضان.
__________
[1] انظر «ذيل الروضتين» ص (18- 19) .
[2] في «سير أعلام النبلاء» : «وقال عبد اللطيف- يعني البغدادي-» .
[3] انظر «العبر» (4/ 295) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 327- 328) .
[4] تصحفت في «ط» إلى «الجوزي» .

(6/535)


سنة سبع وتسعين وخمسمائة
فيها كان الجوع المفرط والموت بالدّيار المصرية، وجرت أمور تتجاوز الوصف، ودام ذلك إلى نصف العام الآتي، فلو قال قائل: مات ثلاثة أرباع أهل الإقليم لما أبعد. وأكلت لحوم الآدميين.
وفي شعبان كانت الزلزلة العظمى التي عمّت أكثر الدّنيا.
قال أبو شامة [1] : مات بمصر خلق [كثير] تحت الهدم. قال: ثم تهدمت نابلس. وذكر خسفا عظيما، إلى أن قال: وأحصي من هلك في هذه السنة فكان ألف ألف ومائة ألف.
وفيها توفي اللبّان القاضي العدل أبو المكارم، أحمد بن محمد بن محمد التّميمي الأصبهاني [2] مسند العجم، مكثر عن أبي علي الحدّاد، وله إجازة من عبد الغفّار الشّيروي [3] ، توفي في آخر العام.
وفيها أبو القاسم تميم بن أحمد بن أحمد البندنيجيّ الأزجي [4] الحنبلي، مفيد بغداد ومحدّثها. كتب الكثير وعني بهذا الشأن، وحدّث عن
__________
[1] انظر «ذيل الروضتين» ص (20) وما بين حاصرتين زيادة منه، و «العبر» (4/ 296) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (21/ 362- 363) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (246) و «النجوم الزاهرة» (6/ 179) .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «السروي» والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» .
[4] انظر «العبر» (4/ 297) و «النجوم الزاهرة» (6/ 180) .

(6/536)


أبي بكر بن الزّاغوني وطبقته، وسمع منه ابن النجّار، وتكلّم فيه هو وشيخه ابن الأخضر، وأجاز للحافظ المنذري، وتوفي يوم السبت ثالث جمادى الآخرة عن أربع وخمسين سنة ودفن بمقبرة باب حرب.
وفيها ظافر بن الحسين أبو منصور الأزدي المصري [1] شيخ المالكية.
كان منتصبا للإفادة والفتيا، وانتفع به بشر كثير وتوفي بمصر في جمادى الآخرة.
وفيها أبو محمد بن الطّويلة عبد الله بن أبي بكر المبارك بن هبة الله البغدادي [2] . روى عن ابن الحصين وطائفة، وتوفي في رمضان.
وفيها أبو الفرج بن الجوزي عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبد الله ابن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصّدّيق- رضي الله عنه- القرشي التّيمي البكري البغدادي [3] الحنبلي الواعظ المتفنّن، صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة في أنواع العلم، من التفسير، والحديث، والفقه، والزهد، والوعظ، والأخبار، والتاريخ، والطب، وغير ذلك.
ولد سنة عشر وخمسمائة أو قبلها، وسمع من علي بن عبد الواحد الدّينوري، وابن الحصين، وأبي عبد الله البارع، وتتمّة سبعة وثمانين نفسا.
ووعظ من صغره وفاق فيه الأقران، ونظم الشعر المليح، وكتب بخطّه ما لا
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 297) و «حسن المحاضرة» (1/ 454) .
[2] انظر «العبر» (4/ 297) .
[3] انظر «العبر» (4/ 297- 298) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 365- 387) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 399- 433) ومقدمة كتابه «زاد المسير في علم التفسير» تحقيق الشيخين شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط. طبع المكتب الإسلامي بدمشق وبيروت. وكتابي «زهرات الياسمين» ص (91) طبع مكتبة دار العروبة في الكويت.

(6/537)


يوصف، ورأى من القبول والاحترام ما لا مزيد عليه.
وحكي غير مرّة أن مجلسه حزر بمائة ألف، وحضر مجلسه الخليفة المستضيء مرّات من وراء الستر.
وذكر هو أنه منسوب إلى محلّة بالبصرة تسمّى محلّة الجوز.
ولما ترعرع حملته عمته إلى مسجد أبي الفضل بن ناصر- وهو خاله- فاعتنى به وأسمعه الحديث، وحفظ القرآن وقرأه على جماعة من القرّاء بالروايات. وسمع بنفسه الكثير، وعني بالطلب، ونظر في جميع الفنون وألّف فيها، وعظم شأنه في ولاية ابن هبيرة.
قال في آخر كتاب «القصّاص والمذكّرين» له: ما زلت أعظ النّاس وأحرّضهم على التّوبة والتّقوى، فقد تاب على يدي [1] إلى أن جمعت هذا الكتاب أكثر من مائة ألف رجل، وقد قطعت من شعور الصبيان اللّاهين أكثر من عشرة آلاف طائلة، وأسلم على يدي أكثر من مائة ألف.
قال: ولا يكاد يذكر لي حديث إلّا ويمكنني [أن] أقول: صحيح، أو حسن، أو محال. ولقد أقدرني الله على أن أرتجل المجلس كله من غير ذكر محفوظ.
وقال سبطه أبو المظفّر [2] : كان زاهدا في الدّنيا متقللا منها. وما مازح أحدا قطّ، ولا لعب مع صبيّ، ولا أكل من جهة لا يتيقّن حلّها. وما زال على ذلك الأسلوب إلى أن توفاه الله تعالى.
وقال الموفق عبد اللطيف: كان ابن الجوزي لطيف الصوت، حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات، لذيذ المفاكهة، يحضر مجلسه
__________
[1] قوله: «فقد تاب على يدي» سقط من «آ» .
[2] انظر «مرآة الزمان» (8/ 311) .

(6/538)


مائة ألف أو يزيدون، لا يضيّع من زمانه شيئا. يكتب في اليوم أربع كراريس، ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلدا إلى ستين، وله في كل علم مشاركة. وكان يراعي حفظ صحته، وتلطيف مزاجه، وما يفيد عقله قوة وذهنه حدة، يعتاض عن الفاكهة بالمفاكهة. لباسه الأبيض الناعم المطيّب.
ونشأ يتيما على العفاف والصلاح، وله مجون لطيف ومداعبات حلوة، ولا ينفك من جارية حسناء.
وذكر غير واحد أنه شرب حبّ البلادر فسقطت لحيته، فكانت قصيرة جدا، وكان يخضبها بالسواد إلى أن مات. وصنّف في جواز الخضاب بالسواد مجلدا وسئل عن عدد تصانيفه فقال: زيادة على ثلاثمائة وأربعين مصنفا، منها ما هو عشرون مجلدا وأقل.
وقال الحافظ الذهبي: ما علمت أن أحدا من العلماء صنّف ما صنّف هذا الرجل.
وقال يوما في مناجاته: إلهي لا تعذب لسانا يخبر عنك، ولا عينا تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدما تمشي إلى خدمتك، ولا يدا تكتب حديث رسولك، فبعزتك لا تدخلني النّار، فقد علم أهلها أني كنت أذبّ عن دينك.
وقال ابن رجب [1] : نقم عليه جماعة من مشايخ أصحابنا وأئمتهم ميله إلى التأويل في بعض كلامه، واشتد نكيرهم [2] عليه في ذلك، ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف، وهو وإن كان مطلعا على الأحاديث والآثار فلم يكن [خبيرا] بحلّ شبه المتكلمين وبيان فسادها، وكان معظما لأبي الوفاء ابن عقيل، متابعا لأكثر ما يجده من كلامه، وإن كان قد ردّ [3] عليه في بعض
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 414) .
[2] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «نكرهم» ولفظة «خبيرا» مستدركة منه.
[3] تحرفت في «ذيل طبقات الحنابلة» إلى «ورد» فتصحح.

(6/539)


المسائل، وكان ابن عقيل بارعا في الكلام. ولم يكن تامّ الخبرة بالحديث والآثار، فلهذا يضطرب في هذا الباب وتتلون فيه آراؤه. وأبو الفرج تابع له في هذا التلون.
قال الشيخ موفق الدين المقدسي: كان ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ، وصنّف في فنون العلم تصانيف حسنة، وكان صاحب فنون، وكان يدرّس الفقه ويصنف فيه، وكان حافظا للحديث، وصنّف فيه، إلّا أننا لم نرض تصانيفه في السّنّة ولا طريقته فيها. انتهى.
توفي ليلة الجمعة بين العشاءين من شهر رمضان، وكان في تموز فأفطر بعض من حضر جنازته لشدة الزحام والحرّ.
وفيها ابن ملّاح الشطّ عبد الرحمن بن محمد بن أبي ياسر البغدادي [1] . روى عن ابن الحصين وطبقته، ومات في عشر المائة.
وفيها عمر بن علي الحربي الواعظ أبو علي البغدادي [2] . روى عن ابن الحصين أيضا والكبار، وتوفي في شوال.
وفيها قراقوش الأمير الكبير الخادم بهاء الدّين الأبيض [3] فتى الملك أسد الدّين شيركوه، وقد وضعوا عليه خرافات لا تصحّ، ولولا وثوق صلاح الدّين بعقله لما سلّم إليه عكا وغيرها، وكانت له رغبة في الخير وآثار حسنة.
قال ابن شهبة: أسر في عكا ففداه السلطان بستين ألف دينار، وهو الذي بنى قلعة القاهرة والسور على مصر والقاهرة، والقنطرة التي عند
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 298) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 310- 311) .
[2] انظر «العبر» (4/ 298) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 353- 354) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 91- 92) و «العبر» (4/ 298- 299) و «النجوم الزاهرة» (6/ 180) .

(6/540)


الأهرام، وله مع المصريين وقعات عجيبة، حتّى صنّفوا له كتاب «الفافوش في أحكام قراقوش» . انتهى.
وفيها الكرّاني أبو عبد الله محمد بن أبي زيد بن أحمد الأصبهاني الخبّاز [1] المعمّر، توفي في شوال وقد استكمل مائة عام، وسمع الكثير من الحدّاد، ومحمود الصّيرفي، وغيرهما.
وكرّان محلّة معروفة بأصبهان [2] .
وفيها العماد الكاتب، الوزير العلّامة أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد الأصبهاني ويعرف بابن أخي العزيز [3] .
ولد سنة تسع عشرة بأصبهان، وتفقّه ببغداد في مذهب الشافعي على ابن الرزّاز، وأتقن الفقه، والخلاف، والعربية، وسمع من علي بن الصبّاغ وطبقته، وأجاز له ابن الحصين والفراوي، ثم تعانى الكتابة والترسّل والنظم، ففاق الأقران، وحاز قصب السبق، وولاه ابن هبيرة نظر واسط وغيرها، ثم قدم دمشق بعد الستين وخمسمائة وخدم في ديوان الإنشاء، فبهر الدولة ببديع نثره ونظمه، وترقّى إلى أعلى المراتب، ثم عظمت رتبته في الدولات الصلاحيّة وما بعدها، وصنّف التصانيف الأدبية، وختم به هذا الشأن.
وكانت بينه وبين القاضي الفاضل مطارحات ومداعبات [4] .
قال يوما للقاضي الفاضل: سر فلا كبا بك الفرس. وكانا تلاقيا في الطريق وإنما أراد أنه يقرأ طردا وعكسا، فأجابه الفاضل في الحال: دام علا العماد، وهو أيضا يقرأ طردا وعكسا.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 299) و «النجوم الزاهرة» (6/ 180) .
[2] انظر «معجم البلدان» (4/ 444) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 147- 152) و «العبر» (4/ 299) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 345- 350) و «الوافي بالوفيات» (1/ 132- 140) .
[4] في «وفيات الأعيان» : «مكاتبات ومحاورات» .

(6/541)


واجتمعا يوما في موكب [1] السلطان وقد انتشر الغبار لكثرة الفرسان، فأنشد العماد:
أمّا الغبار فإنّه ... ممّا أثارته السّنابك
والجوّ منه مظلم ... لكن أنار به السّنا [2] بك
يا دهر لي عبد الرحي ... م فلست أخشى مسّ نابك
ولما صنّف «خريدة القصر» أرسلها إلى [القاضي] الفاضل، فوقف عليها فلم تعجبه، وكانت في ثمانية أجزاء، فقال: أين الآخران لأنه سمّاها «خريدة» يعني خرى عشرة، وهذه ثمانية لأن ده بالعجمي عشرة، ومن ها هنا أخذ ابن سناء الملك قوله:
خريدة أفّيّة من نتنها ... كأنّها من بعض أنفاسه
فنصفها الأول في ذقنه ... ونصفها الآخر في رأسه
توفي العماد- رحمه الله تعالى- في أول رمضان، ودفن بمقابر الصوفية.
وفيها ابن الكيّال أبو عبد الله محمد بن محمد بن هارون البغدادي ثم الحليّ البزّار [3] . أحد القراء الأعيان.
ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة، وقرأ القراءات على سبط الخيّاط، وأبي الكرم الشّهرزوري، وأقرأ بالحلّة زمانا، وتوفي في ذى الحجّة.
وفيها أبو شجاع بن المقرون محمد [بن أبي محمد] بن أبي المعالي البغدادي [4] ، أحد أئمة القراء. قرأ على سبط الخيّاط، وأبي الكرم، وسمع
__________
[1] في «ط» : «في مجلس» .
[2] جاء في «مختار الصحاح» (سنا) : السّنا، مقصور ضوء البرق.
[3] انظر «العبر» (4/ 300) و «غاية النهاية في طبقات القراء» (2/ 256- 257) .
[4] انظر «العبر» (4/ 300) وما بين الحاصرتين زيادة منه.

(6/542)


من أبي الفتح بن البيضاوي وطائفة، ولقن خلقا لا يحصون، وكان صالحا عابدا ورعا، مجاب الدعوة، يتقوت من كسب يده، وكان من الآمرين بالمعروف النّاهين عن المنكر، توفي في ربيع الآخر.
وفيها أبو الحجّاج يوسف بن عبد الرّحمن بن غصن الإشبيلي [1] .
أخذ القراءات عن شريح وجماعة، وحدّث عن ابن العربي، وتصدّر للإقراء، وكان آخر من قرأ القراءات على شريح، توفي في هذا العام أو في حدوده.
قاله في «العبر» .
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 300) و «معرفة القراء الكبار» (2/ 570) .

(6/543)


سنة ثمان وتسعين وخمسمائة
فيها تغلّب قتادة بن إدريس الحسيني على مكّة، وزالت دولة بني فليتة.
وفيها جاءت زلزلة عظيمة في شعبان شقّت قلعة حمص، ورمت المنظرة التي على القلعة وأخربت ما بقي من نابلس.
وفيها شرع الشيخ أبو عمر شيخ المقادسة في بناء الجامع بالجبل، وكان بقاسيون رجل فاميّ يقال له أبو داود محاسن، فوضع أساسه وبقي قامة، وأنفق عليه ما كان يملكه، وبلغ مظفّر الدّين كوكبوري صاحب إربل فبعث إلى الشيخ أبي عمر مالا فتممه، وأوقف عليه وقفا، وبعد ذلك أراد مظفر الدّين [أن] يسوق إليه ماء من برزة [1] وبعث إليه الماء، فقال [الملك] المعظم عيسى [بن العادل] : طريق الماء كلها قبور، كيف يجوز نبش عظام المسلمين اعملوا مدارا على بغل، ولا تؤذوا أحدا، واشتروا بالباقي وقفا، ففعلوا ذلك [2] .
وفيها توفي أحمد بن ترمش الخيّاط البغدادي [3] نقيب القاضي.
__________
[1] برزة: قرية كبيرة من قرى الغوطة إلى الشمال الشرقي من دمشق. انظر «معجم البلدان» (1/ 382- 383) .
قلت: وأصل الماء الذي يرد إلى برزة من قرية منين، يخترق أراضي قريتي حرنة ومعربة قبل أن يصل إليها.
[2] انظر «ذيل الروضتين» ص (29) وما بين حاصرتين زيادة منه.
[3] انظر «العبر» (4/ 121) .

(6/544)


روى عن قاضي المارستان، والكروخي، وجماعة، وتوفي بحلب.
وفيها أسعد بن أحمد بن أبي غانم الثّقفي الأصبهاني [1] الضرير.
سمع هو وأخوه زاهر الثقفي «مسند أبي يعلى» من أبي عبد الله الخلّال، وسمع هو من جعفر بن عبد الواحد الثقفي وجماعة، وكان فقيها معدّلا.
وفيها المؤيد أبو المعالي أسعد بن العميد بن أبي يعلى بن القلانسي التّميمي الدمشقي [2] الوزير. روى عن نصر الله المصّيصي وغيره، ومات في ربيع الأول، وكان صدر البلد.
وفيها الملك المعزّ إسماعيل بن سيف الإسلام طغتكين بن نجم الدّين أيوب [3] ، صاحب اليمن وابن صاحبها. كان مجرما مصرا على الخمر والظلم، ادعى أنه أموي وخرج وعزم على الخلافة، فوثب عليه أخوان من أمرائه فقتلاه، ويقال: إنه ادعى النبوّة ولم يصحّ، وولي بعده أخ له صبيّ اسمه الناصر أيوب. قاله في «العبر» .
وفيها الخشوعيّ، مسند الشام، أبو طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر الدّمشقي الأنماطي [4] .
ولد في صفر سنة عشر، وأكثر عن هبة الله بن الأكفاني وجماعة، وأجاز له الحريري، وأبو صادق المديني، وخلق من العراقيين والمصريين والأصبهانيين، وعمّر وبعد صيته، ورحل إليه، وكان صدوقا. توفي في سابع صفر.
وفيها أبو الثّناء حمّاد بن هبة الله بن حمّاد بن الفضل بن الفضيلي [5]
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 301) .
[2] «ذيل الروضتين» ص (31) وانظر «العبر» (4/ 301) .
[3] انظر «العبر» (4/ 301) .
[4] انظر «العبر» (4/ 302) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 355- 358) .
[5] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الفضلي» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» وهو مترجم فيه (1/ 434- 435) وفي «العبر» (4/ 302) .

(6/545)


الحرّاني التّاجر السفّار المحدّث الحافظ الحنبلي المؤرخ.
ولد في ربيع الأول سنة إحدى عشرة بحرّان، وسمع ببغداد من أبي القاسم بن السمرقندي، وأبي بكر بن الزّاغوني، وجماعة. وبهراة، ومصر، والإسكندرية من الحافظ السّلفي وغيره. وجمع «تاريخا» لحرّان [1] ، وحدّث به، وجمع جزءا فيمن اسمه حمّاد، وله شعر جيد، وحدّث بمصر، والإسكندرية، وبغداد، وحرّان. وممن روى عنه الشيخ موفق الدّين، وعبد القادر الرّهاوي، والعلم السّخاوي [2] المقرئ، والحافظ الضياء، وغيرهم، وتوفي يوم الأربعاء ثاني عشري ذي الحجّة بحرّان.
وفيها أبو محمد الحربي عبد الله بن أحمد بن أبي المجد الإسكاف [3] . روى «المسند» [4] عن ابن الحصين ببغداد وبالموصل، واشتهر ذكره، وتوفي في المحرم.
وفيها أبو بكر عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عطية المحاربي الغرناطي [5] المالكي المفتي، تفرّد بإجازة غالب بن عطية أخو جدّهم، وأبي محمد بن عتّاب، وسمع من القاضي عياض والكبار، وهو من بيت علم ورواية.
وفيها أبو الحسن العمري عبد الرحمن بن أحمد بن محمد البغدادي [6] القاضي. أجاز له أبو عبد الله البارع، وسمع من ابن الحصين وطائفة، وناب في الحكم، وتوفي في رمضان.
وفيها زين القضاة أبو بكر عبد الرحمن بن سلطان بن يحيى القرشي
__________
[1] في «آ» و «ط» : «بحرّان» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[2] تحرفت في «آ» إلى «السنجاري» .
[3] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 409- 410) و «العبر» (4/ 302) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 361- 362) .
[4] يعني «مسند الإمام أحمد» كما جاء مبينا في «سير أعلام النبلاء» .
[5] انظر «العبر» (4/ 302- 303) .
[6] انظر «العبر» (4/ 303) .

(6/546)


الدّمشقي [1] الشافعي. سمع من جدّه أبي الفضل القاضي يحيى الزّكي وجماعة، وأجاز له زاهر الشحامي وجماعة، وكان نعم الرجل فقها وفضلا ورئاسة وصلاحا، توفي في ذي الحجّة، رحمه الله.
وفيها عبد الرحيم بن أبي القاسم الجرجاني [2] أبو الحسن، أخو زينب الشعرية، ثقة صالح مكثر. روى «مسلما» [3] عن الفراوي، و «السنن والآثار» عن عبد الجبّار الخواري [4] و «الموطأ» عن السّيّدي [5] و «السنن الكبير» عن عبد الجبّار الدّهّان، وتوفي في المحرم.
وفيها الدّولعي- نسبة إلى الدّولعيّة، قرية بالموصل [6]- خطيب دمشق ضياء الدين عبد الملك بن زيد بن يس التغلبي الموصلي الشافعي وله إحدى وتسعون سنة. تفقّه بدمشق وسمع من الفقيه نصر الله المصيصي وببغداد من الكروخي، وكان مفتيا خبيرا بالمذهب. خطب دهرا ودرس بالغزالية وولي الخطابة بعده سبعا وثلاثين سنة ابن أخيه.
قال النووي في «طبقاته» : كان عبد الملك شيخ شيوخنا وكان أحد الفقهاء المشهورين والصلحاء الورعين. توفي في ربيع الأول ودفن بباب الصغير ونقل عنه في «الروضة» .
وفيها علي بن محمد بن علي بن يعيش، سبط ابن الدامغاني. روى عن
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 303) و «النجوم الزاهرة» (6/ 181) .
[2] انظر «العبر» (4/ 303) و «النجوم الزاهرة» (6/ 181) .
[3] يعني «صحيح مسلم» .
[4] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «الحواري» بالحاء المهملة، والتصحيح من «العبر» وهو عبد الجبّار بن محمد الخواري البيهقي. انظر ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (20/ 71- 72) .
[5] هو أبو محمد هبة الله بن سهل البسطامي النيسابوري، المعروف بالسّيّدي. انظر ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (20/ 14- 15) .
[6] انظر «معجم البلدان» (2/ 486) .

(6/547)


ابن الحصين وزاهر وتوفي في صفر، وكان متميزا جليلا. لقيه ابن عبد الدائم.
وفيها لؤلؤ الحاجب العادلي [1] من كبار الدولة. له مواقف حميدة بالسواحل، وكان مقدم المجاهدين المؤيدين الذين ساروا لحرب الفرنج الذين قصدوا الحرم النبوي في البحر وظفروا بهم. قيل إن لؤلؤا سار جازما بالنصر وأخذ معه قيودا بعدد الملاعين وكانوا ثلاثمائة وشيء، كلهم من الأبطال من كرك الشوبك مع طائفة من العرب المرتدة، فلما بقي بينهم وبين المدينة يوم أدركهم لؤلؤ وبذل الأموال للعرب فخامروا معه وذلّت الفرنج واعتصموا بجبل فترجل لؤلؤ وصعد إليهم بالناس، وقيل بل صعد في تسعة أنفس، فهابوه وسلّموا أنفسهم، فصفّدهم وقيّدهم كلّهم، وقدم بهم مصر، وكان يوم دخولهم يوما مشهودا، وكان لؤلؤ شيخا أرمنيا من غلمان القصر، فخدم مع صلاح الدّين، فكان أينما توجّه فتح ونصر، ثم كبر وترك، وكان يتصدق كل يوم بعدة قدور طعام وباثني عشر ألف رغيف، ويضعف ذلك في رمضان. توفي في صفر، رحمه الله تعالى.
وفيها ابن الوزّان عماد الدّين محمد بن الإمام أبي سعد عبد الكريم ابن أحمد الرّازي [2] شيخ الشافعية بالرّيّ، وصاحب «شرح الوجيز» .
قال ابن السمعاني: عالم محقق مدقق، تفقّه على والده، ثم على أبي بكر الخجندي، وجالس الشيخ أبا إسحاق.
وفيها ابن الزّكي قاضي الشّام محيي الدّين أبو المعالي محمد بن قاضي القضاة منتجب الدّين محمد بن يحيى القرشي [3] من ذريّة عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، الشافعي.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 304- 305) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 384- 385) .
[2] انظر «العبر» (4/ 305) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 47- 48) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 229- 237) و «العبر» (4/ 305) و «البداية والنهاية»

(6/548)


ولد سنة خمسين وخمسمائة، وروى عن الوزير الفلكي وجماعة، وكان فقيها إماما طويل الباع في الإنشاء والبلاغة، فصيحا، مفوّها، كامل السؤدد.
قال ابن خلّكان: كان ذا فضائل عديدة، من الفقه والأدب وغيرهما، وله النظم المليح والخطب والرسائل، وتولى القضاء بدمشق، وكذلك أبوه زكي الدّين، وجده مجد الدّين، وجد أبيه زكي الدّين، وهو أول من ولي من بيتهم، وولده زكي الدّين أبو العبّاس الطّاهر، ومحيي الدّين أبو الفضل يحيى، كانوا قضاتها، وكانت له عند السلطان صلاح الدّين المنزلة العالية، ولما فتح السلطان المذكور حلب ثامن صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة أنشده القاضي محيي الدّين قصيدة بائية من جملة أبياتها:
وفتحك القلعة الشهباء في صفر ... مبشّر بفتوح القدس في رجب
فكان كما قال، فإن القدس فتحت لثلاث بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة [1] ، فقيل لمحيي الدّين: من أين لك هذا؟ قال: أخذته من تفسير ابن برّجان [2] في قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ في أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ من بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ 30: 1- 4 [الرّوم: 1- 4] وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراج ذلك، وخطبته يوم فتح القدس [3] من أبلغ الخطب وأشهرها، فلا نطوّل بذكرها [4] ، وتوفي في سابع شعبان (13/ 32- 33) و «النجوم الزاهرة» (6/ 181- 182) .
__________
[1] انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (22) وتعليقي عليه، طبع دار ابن كثير.
[2] هو عبد السلام بن عبد الرحمن بن أبي الرجال اللّخمي الإفريقي الإشبيلي، المعروف بابن برّجان، المتوفى سنة (536) هـ، قال العلّامة الزركلي- طيّب الله ثراه-: وأكثر كلامه في «تفسيره» على طريق الصوفية، ولم يكمله. انظر «فوات الوفيات» (2/ 323) و «الأعلام» (4/ 6) .
[3] تحرفت في «ط» إلى «المقدس» .
[4] قلت: وقد ذكرها بتمامها ابن خلّكان في «وفيات الأعيان» فيحسن بالقارئ الرجوع إليه للاطلاع عليها.

(6/549)


بدمشق، ودفن من يومه بسفح قاسيون.
وفيها محمود بن عبد المنعم التّميمي الدّمشقي [1] . روى «معجم ابن جميع» عن جمال الإسلام، وتوفي في جمادى الأولى.
وفيها السبط أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن أبي سعيد الهمذاني [2] سبط ابن لال. روى عن أبيه وابن الحصين، وخلق. توفي في المحرم.
وفيها البوصيري أبو القاسم هبة الله بن علي بن سعود الأنصاري [الخزرجي المنستيري] [3] ، الكاتب الأديب، مسند الدّيار المصرية.
ولد سنة ست وخمسمائة، وسمع من أبي صادق المديني، ومحمد بن بركات السعيدي، وطائفة، وتفرّد في زمانه، ورحل إليه [4] ، توفي في ثاني صفر.
وفيها أبو غالب هبة الله بن عبد الله بن هبة الله بن محمد السّامري ثم البغدادي الحريمي ثم الأزجي [5] الفقيه الحنبلي الواعظ. سمع أبي البدر الكرخي وغيره، ولازم أبا الفرج بن الجوزي، وتفقّه وتكلّم، وأفتى ووعظ.
قال القادسي: كان فقيها مجوّدا واعظا دينا خيّرا. سمع منه ابن القطيعي، وروى عنه ابن خليل في «معجمه» وتوفي ليلة الخميس ثامن عشر المحرم، ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد قريبا من بشر الحافي، رضي الله عنهم أجمعين.
__________
[1] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 424) و «العبر» (4/ 305- 306) .
[2] انظر «العبر» (4/ 306) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 352- 353) .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (6/ 67- 69) و «العبر» (4/ 306) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 390) .
[4] قال ابن خلّكان: وهو آخر من روى عن أبي الفتح سلطان بن إبراهيم بن مسلم المقدسي في الأرض كلها.
[5] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 410) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 433- 434) .

(6/550)


سنة تسع وتسعين وخمسمائة
في ليلة السبت سلخ المحرم ماجت [1] النجوم في السماء شرقا وغربا، وتطايرت كالجراد المنتشر يمينا وشمالا، ودام [2] ذلك إلى الفجر، وانزعج الخلق، وضجّوا بالدعاء، ولم يعهد مثل ذلك إلّا عام البعث. قاله السيوطي في «حسن المحاضرة» [3] .
وفيها توفي أبو علي بن أشنانة [4] الحسن بن إبراهيم بن منصور الفرغاني ثم البغدادي الصوفي. روى عن ابن الحصين وغيره، وتوفي في صفر.
وفيها أبو محمد بن عليّان عبد الله بن محمد بن عبد القاهر الحربي [5] . روى عن ابن الحصين وجماعة، وتغيّر من السوداء في آخر عمره مديدة.
وفيها أبو الفتح القاشاني إسماعيل بن محمد بن محمد بن يوسف بن محمد بن الخليل المرّوذي الحافظ ابن أبي نصر. كان عالما فاضلا حافظا من المكثرين.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «هاجت» وما أثبته من «حسن المحاضرة» و «مرآة الجنان» .
[2] في «آ» و «ط» : «وأقام» والتصحيح من «حسن المحاضرة» و «مرآة الجنان» .
[3] (2/ 293) وفي «مرآة الجنان» (3/ 496) : «ولم يعهد ذلك إلا عند ظهور نبينا صلى الله عليه وسلم» وذلك ما أراده السّيوطي أيضا من قوله عام البعث- يعني بعثته صلى الله عليه وسلم.
[4] في «آ» و «ط» : «شنانة» والتصحيح من «العبر» (4/ 307) .
[5] انظر «العبر» (4/ 307) .

(6/551)


قال ابن ناصر الدّين في «بديعته» [1] :
ثمّ الفتى إسماعيل ذا القاشاني ... ثبت صدوق طيّب اللّسان
وفيها أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن أحمد [2] بن الصقّال الطيبي ثم البغدادي الأزجي [3] الفقيه الحنبلي، مفتي العراق، ويلقب موفق الدّين.
ولد في خامس عشري شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة، وسمع من ابن الطّلّاية، وابن ناصر، وأبي بكر بن الزّاغوني، وغيرهم. وقرأ الفقه على القاضي أبي يعلى الصغير، وأبي حكيم النّهرواني، وقيل: وعلى ابن المنّي أيضا. وبرع في الفقه مذهبا وخلافا وجدلا، وأتقن علم الفرائض والحساب، وكتب خطّا حسنا، وأفتى ودرّس وناظر، وكان من أكابر العدول وشهود الحضرة وأعيان المفتين المعتمد على أقوالهم في المحافل والمجالس، متين الديانة، حسن المعاشرة، طيب المفاكهة. وسمع منه القطيعي، وروى عنه ابن الدّبيثي، والحافظ الضياء، وابن النجار. وتوفي يوم الاثنين ثاني ذي الحجّة، ودفن بباب حرب.
وهو منسوب إلى الطّيب: بلدة قديمة بين واسط والأهواز [4] وينسب إليها الطّيبي شارح «الكشاف» أيضا.
وفيها أبو بكر مجد الدّين عبيد الله بن علي بن نصر بن حمرة بن
__________
[1] في «بديعة البيان عن موت الأعيان» (23) مصورة المكتبة الأحمدية بحلب.
[2] كذا في «آ» و «ط» : «إبراهيم بن أحمد بن محمد بن أحمد بن الصقال» وفي «التكملة» :
«إبراهيم بن محمد بن أحمد بن الصقال» وفي «الوافي بالوفيات» : «إبراهيم بن محمد بن الصقال» .
[3] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 467) و «الوافي بالوفيات» (6/ 137- 138) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 440- 442) .
[4] انظر «معجم البلدان» (4/ 52- 53) .

(6/552)


علي بن عبيد الله البغدادي التيمي [1] ، المعروف بابن المرستانية [2] الفقيه الحنبلي الأديب المحدّث المؤرخ. كان يذكر أنه من ولد أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، ويذكر نسبا متصلا إليه، وذكر أنه ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وسمع الحديث من أبي المظفّر بن الشبلي، وابن البطي، وابن بندار، وشهدة، وغيرهم. وقرأ كثيرا على المشايخ المتأخرين بعدهم، وحصّل الأصول، وعني بهذا الفنّ، وتفقّه في المذهب، وصنّف كتابا سمّاه «ديوان الإسلام في تاريخ دار السلام» قسّمه ثلاثمائة وستين كتابا، وله غير ذلك.
قال ابن النجار: كان قد قرأ كثيرا من علم الطب، والمنطق، والفلسفة، وكانت بينه وبين عبيد الله بن يونس صداقة، فلما أفضت [3] إليه الوزارة اختصّ به وقوي جاهه، وبنى دارا بدرب الشاكرية وسمّاها دار العلم، وجعل فيها [4] خزانة كتب وأوقفها على طلاب العلم، ورتب ناظرا على أوقاف المارستان العضدي، فلم تحمد سيرته، فقبض عليه وسجن في المارستان مدة مع المجانين مسلسلا وبيعت داره [5] دار العلم بما فيها من الكتب مع سائر أمواله وأطلق فصار يطبب الناس ويدور على المرضى في منازلهم، وصادف قبولا في ذلك فأثرى وعاد إلى حالة حسنة، وحصّل كتبا كثيرة، وكان القبض عليه بعد عزل ابن يونس والقبض عليه، وتتبع أصحابه.
وفي تلك الفتنة كانت محنة ابن الجوزي أيضا. وبالغ ابن النجار في الحطّ عليه بسبب ادعائه النسب إلى أبي بكر الصّدّيق ونسبه إلى أنه روى عن
__________
[1] تحرفت في «ط» إلى «التميمي» .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 442- 446) .
[3] في «ط» : «أفضيت» .
[4] في «آ» و «ط» : «وحصل فيه» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[5] لفظة «داره» لم ترد في «ذيل طبقات الحنابلة» الذي بين يدي.

(6/553)


مشايخ لم يدركهم واختلق طباقا على الكتب بخطوط مجهولة تشهد بكذبه وتزويره. قاله ابن رجب ثم انتصر له.
وفيها زين الدّين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجا بن غنائم الأنصاري الدّمشقي الفقيه الحنبلي الواعظ المفسر المعروف بابن نجية [1] نزيل مصر، سبط الشيخ أبي الفرج الشيرازي الجيلي.
ولد بدمشق سنة ثمان وخمسمائة فيما ذكره ابن نقطة، والمنذري، وغيرهما، وقال ابن الحنبلي: سنة عشر، وسمع بدمشق من أبي الحسن علي ابن أحمد بن قيس، وسمع درس خاله شرف الإسلام عبد الوهاب، وتفقّه، وسمع التفسير، وأحب الوعظ، وغلب عليه واشتغل به [2] .
قال ناصح الدّين: قال لي حفّظني خالي مجلس وعظ وعمري يومئذ عشر سنين، ثم نصب لي كرسيا في داره، وأحضر لي جماعة، وقال: تكلّم، فتكلمت، فبكى. قال: وكان ذلك المجلس يذكره وهو ابن تسعين سنة، وكان بطيء النسيان، يعظ بالعربية وغيرها، بعثه نور الدّين الشهيد رسولا إلى بغداد سنة أربع وستين وخلع عليه خلعة سوداء، فكان يلبسها في الأعياد، وسمع هناك الحديث من سعد الخير ابن محمد الأنصاري، وصاهره على ابنته فاطمة ونقلها معه إلى مصر، وسمع من غيره ببغداد، واجتمع بالشيخ عبد القادر [3] وغيره من الأكابر.
وقال سبط ابن الجوزي: كان ابن نجية قد اقتنى أموالا عظيمة، وتنعم تنعما زائدا، بحيث أنه كان في داره عشرون جارية للفراش تساوي كل جارية ألف دينار، وأما الأطعمة فكان يعمل في داره ما لا يعمل في دور الملوك،
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 436- 442) .
[2] في «آ» : «واشتهر به» .
[3] يعني الجيلاني.

(6/554)


وتعطيه الملوك والخلفاء أموالا عظيمة كثيرة. قال: ومع هذا مات فقيرا، كفّنه بعض أصحابه.
وذكر ابن الحنبلي: أن ابن نجا المذكور ضاق صدره في عمره من دين عليه وأن الملك العزيز عثمان لما عرف ذلك أعطاه ما يزيد على أربعة آلاف دينار مصرية. قال: وقال لي: ما احتجت في عمري إلّا مرتين.
وقال ناصح الدّين: قال لي والدي زين الدّين- أي صاحب الترجمة- أنا أسعد بدعاء والدتي، كانت صالحة حافظة، تعرف التفسير. قال زين الدّين: كنا نسمع من خالي التفسير ثم أجيء إليها فتقول: أيش فسّر أخي اليوم، فأقول: سورة كذا وكذا، فتقول: ذكر قول فلان، ذكر الشيء الفلاني؟ فأقول: لا، فتقول: ترك هذا، وكانت تحفظ كتاب «الجواهر» .
مجلدة تأليف والدها.
وسمع من ابن نجية خلق، منهم الحافظ عبد الغني [1] ، وابن خليل، والضياء المقدسي، وجماعات، وأجاز للمنذري وغيره، وتوفي في شهر رمضان ودفن في سفح المقطم.
وفيها عبد الوهّاب الحنفي أبو محمد بن النحّاس، المعروف بالبدر [2] .
قال ابن العديم: تفقّه وبرع في المذهب [3] ، وأفتى، وكان مجيدا في مناظرته، فريدا في محاورته، ناظر الفحول الواردين من وراء النهر وخراسان.
قدم القاهرة ودرّس بالسيوفيّة، ومات بها. قاله في «حسن المحاضرة» .
__________
[1] يعني المقدسي.
[2] في «آ» و «ط» : «المجرد» والتصحيح من «الجواهر المضية في طبقات الحنفية» (2/ 488) .
و «حسن المحاضرة» (1/ 464) .
[3] في «الجواهر المضية» : «وبرع في الفقه» .

(6/555)


وفيها علي بن حمزة أبو الحسن البغدادي الكاتب [1] حاجب باب النوبيّ. حدّث بمصر عن ابن الحصين، وتوفي في شعبان.
وفيها غياث الدّين الغوري سلطان غزنة أبو الفتح محمد بن سام بن حسين [2] ملك جليل عادل [3] محبّب إلى رعيته، كثير المعروف والصدقات، تفرّد بالممالك بعده أخوه السلطان شهاب الدّين.
وفيها ابن الشّهرزوري، قاضي القضاة، أبو الفضائل القاسم بن يحيى ابن أخي قاضي الشام كمال الدّين [4] ولي قضاء الشام بعد عمه قليلا، ثم لما تملّك العادل سار إلى بغداد، فولي بها القضاء والمدارس والأوقاف، وارتفع شأنه عند الناصر لدين الله إلى الغاية، ثم إنه خاف الدوائر فاستعفى، وتوجّه إلى الموصل، ثم قدم حماة، فولي قضاءها فعيب عليه ذلك، وكان جوادا ممدّحا، له شعر جيد ورواية عن السّلفيّ. توفي بحماة في رجب عن خمس وستين سنة، وحمل إلى دمشق فدفن بها.
وفيها الزّاهد أبو عبد الله القرشي محمد بن أحمد بن إبراهيم الأندلسي [5] الصوفي أحد العارفين وأصحاب الكرامات والأحوال. نزل بيت المقدس وبه توفي عن خمس وخمسين سنة، وقبره مقصود بالزيارة.
وفيها أبو بكر بن أبي جمرة محمد بن أحمد بن عبد الملك الأموي مولاهم القرشي [6] المالكي القاضي، أحد أئمة المذهب. عرض «المدونة» .
على والده، وله منه إجازة كما لأبيه إجازة من أبي عمرو الدّاني، وأجاز له أبو
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 308) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 396- 397) .
[2] انظر «العبر» (4/ 308) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 320- 322) .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «عال» والتصحيح من «العبر» .
[4] انظر «العبر» (4/ 308) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 393) .
[5] انظر «العبر» (4/ 309) و «النجوم الزاهرة» (6/ 184) .
[6] انظر «العبر» (4/ 309) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 398- 399) .

(6/556)


بحر بن العاص، وأفتى ستين سنة، وولي قضاء مرسية وشاطبة دفعات، وصنّف التصانيف، وكان أسند من بقي بالأندلس، توفي في المحرم.
وفيها الغزنوي الفقيه بهاء الدّين أبو الفضل محمد بن يوسف الحنفي [1] المقرئ. روى عن قاضي المارستان وطائفة، وقرأ القراءات على سبط الخيّاط، قرأ عليه بطرق «المنهج» السخاويّ [2] وغيره، ودرّس المذهب، وتوفي بالقاهرة في ربيع الأول.
وفيها أبو عبد الله محمد بن عثمان بن عبد الله بن عمر بن عبد الباقي ابن العكبري البغدادي الظّفري [3]- نسبة إلى الظّفريّة محلّة ببغداد [4]- الفقيه الحنبلي المحدّث الواعظ.
قال ابن النجار: جارنا بالظّفريّة. حفظ القرآن في صباه، وقرأه بالرّوايات على أبي بكر بن الباقلاني الواسطي وغيره، وتفقّه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وقرأ العربية على أبي البركات الأنباري، وابن الخشّاب، وصحب شيخنا أبا الفرج بن الجوزي، وقرأ عليه شيئا من مصنفاته في الوعظ وغيره، وسمع الحديث من أبي العبّاس أحمد بن محمد بن المرقّعاتي، وشهدة الكاتبة، وخلق كثير، وكان يجلس للوعظ ثم انقطع ببيته لا يخرج إلّا إلى الجمعة والجماعة، وكان يكثر الجلوس في المقابر. سمعت منه، وكان يسمع بقراءتي على مشايخنا، وكان صدوقا متدينا عفيفا، قليل المخالطة للناس، محبا للخلوة. وقال: ذكر أن مولده في سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، وتوفي ليلة الاثنين ثامن عشر جمادى الأولى.
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 309- 310) و «معرفة القراء الكبار» (2/ 579) .
[2] في «ط» : «للسخاوي» .
[3] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 456) و «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 435- 436) .
[4] انظر «معجم البلدان» (4/ 61) .

(6/557)


وفيها ابن المعطوش [1] مسند العراق أبو طاهر، المبارك بن المبارك ابن هبة الله الحريمي العطّار.
ولد سنة سبع وخمسمائة، وسمع من أبي علي بن المهدي، وأبي الغنائم بن المهتدي بالله، وبه ختم حديثهما، وسمع «المسند» كله ورواه، وتوفي في عاشر جمادى الأولى.
وفيها البرهان الحنفي أبو الموفق مسعود بن شجاع الأموي الدمشقي [2] مدرس النّورية والخاتونية، وقاضي العسكر. كان صدرا معظما مفتيا رأسا في المذهب. ارتحل إلى بخارى، وتفقّه هناك وعمّر دهرا. توفي في جمادى الآخرة وله تسع وثمانون سنة، وكان لا تغسل له فرجية بل يهبها ويلبس جديدة.
وفيها ابن الطّفيل أبو يعقوب يوسف بن هبة الله بن محمود الدمشقي [3] الصّوفي، شيخ صالح، له عناية بالرواية. رحل إلى بغداد، وسمع من أبي الفضل الأرموي، وابن ناصر، وطبقتهما، وأسمع ابنه عبد الرّحيم من السّلفي.
وفيها أبو بكر جمال الدّين محمد بن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن منصور المقدسي [4] الزاهد، أخو البهاء عبد الرحمن الآتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ولد سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وسمع الحديث بدمشق، ودخل مع
__________
[1] في «آ» و «ط» : «أبو المعطوس» وهو خطأ، والتصحيح من «العبر» (4/ 310) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 400) .
[2] انظر «العبر» (4/ 310) و «مرآة الجنان» (3/ 496) .
[3] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (1/ 457) و «العبر» (4/ 310) .
[4] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 442) .

(6/558)


أخيه بغداد وسمع بها وأقام بها مدة، واشتغل وحصّل فنونا من العلم ثم عاد.
وكان فقيها ورعا زاهدا، كثير الخشية والخوف من الله تعالى، حتّى كان يعرف بالزّاهد، وكان يبالغ في الطهارة وأمّ بدمشق بمسجد دار البطيخ، وهو مسجد السلاطين، وحجّ في آخر عمره، ثم توجّه إلى القدس، فأدركه أجله بنابلس.
قاله ابن رجب.

(6/559)


سنة ستمائة
فيها أخذت الفرنج فوّة [1] عنوة واستباحوها دخلوا من فم رشيد في النيل، فلا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم.
وفيها توفي العلّامة أبو الفتوح العجلي منتخب [2] الدّين أسعد بن أبي الفضائل محمود بن خلف الأصبهاني [3] الشافعي الواعظ، شيخ الشافعية. عاش خمسا وثمانين سنة، وروى عن جماعة، وكان يقنع وينسخ، وله كتاب «مشكلات الوجيز» و «تتمة التتمة» وترك الوعظ وألّف كتابا سماه «آفات الوعّاظ» .
قال ابن شهبة [4] : ولد بأصبهان في أحد الربيعين، سنة خمس عشرة وخمسمائة، وكان فقيها مكثرا من الرواية، زاهدا، ورعا، يأكل من كسب يده، يكتب ويبيع ما يتقوت [5] به لا غير. وكان عليه المعتمد بأصبهان في الفتوى، وتوفي في صفر بأصبهان.
__________
[1] فوّة: بليدة على شاطئ النيل من نواحي مصر قرب رشيد، بينها وبين البحر نحو خمسة فراسخ أو ستة، وهي ذات أسواق ونخل كثير. انظر «معجم البلدان» (4/ 280) .
[2] وفي بعض المصادر: «منتجب» .
[3] انظر «العبر» (4/ 311- 312) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 402- 403) .
[4] انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 30) .
[5] في «آ» و «ط» : «يتقوت» والتصحيح من «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة.

(6/560)


وفيها بقاء بن عمر بن حنّد [1] أبو المعمر الأزجي الدقّاق، ويسمى أيضا المبارك. روى عن ابن الحصين وجماعة، وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها أبو الفرج بن اللّحية جابر بن محمد بن يونس الحموي ثم الدمشقي [2] التاجر. روى عن الفقيه نصر المصّيصي وغيره.
وفيها ابن شرقيني أبو القاسم شجاع بن معالي البغدادي العرّاد القصباني [3] . روى عن ابن الحصين وجماعة، وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها أبو سعد بن الصّفّار عبد الله بن العلّامة أبي حفص عمر بن أحمد بن منصور النيسابوري الشافعي [4] فقيه متبحر أصولي، عامل بعلمه.
ولد سنة ثمان وخمسمائة، وسمع من جدّه لأمه أبي نصر بن القشيري، وسمع «سنن الدارقطني» بفوت من أبي القاسم الأبيوردي، وسمع «سنن أبي داود» من عبد الغافر بن إسماعيل. وسمع من طائفة كتبا كبارا. توفي في شعبان أو رمضان وله اثنتان وتسعون سنة.
وفيها الإمام تقي الدّين أبو محمد الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد ابن علي بن سرور المقدسي الجمّاعيلي [5] الحنبلي.
ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وهاجر صغيرا إلى دمشق بعد الخمسين، فسمع أبا المكارم بن هلال، وببغداد أبا الفتح بن البطّي وغيره،
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ابن جند» وما أثبته من «العبر» (4/ 312) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 414) .
[2] انظر «العبر» (4/ 312) .
[3] انظر «العبر» (4/ 312) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 414) وفيه: «ابن شدقيني الغراد» .
[4] انظر «العبر» (4/ 313) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 403- 404) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 144) .
[5] انظر «العبر» (4/ 313) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 443- 471) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 5- 34) ومقدمتي لكتابه «عمدة الأحكام» ص (17- 23) .

(6/561)


وبالإسكندرية من السّلفي. وهذه الطبقة، ورحل إلى أصبهان فأكثر بها سنة نيف وسبعين، وصنّف التصانيف الكثيرة الكبيرة الشهيرة، ولم يزل يسمع ويكتب إلى أن مات. وإليه انتهى حفظ الحديث متنا وإسنادا ومعرفة بفنونه، مع الورع والعبادة والتمسك بالأثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسيرته في جزءين ألّفها الحافظ الضياء.
قال ابن ناصر الدّين [1] : هو محدّث الإسلام وأحد الأئمة المبرّزين الأعلام، ذا ورع وعبادة وتمسك بالآثار، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، له كتاب «المصباح» في ثمانية وأربعين جزءا وغيره من المصنفات.
وقال ابن رجب: امتحن الشيخ ودعي إلى أن يقول لفظي [2] بالقرآن مخلوق، فأبى، فمنع من التّحديث، وأفتى أصحاب التأويل بإراقة دمه، فسافر إلى مصر وأقام بها إلى أن مات.
وقال فيه أبو نزار ربيعة بن الحسن:
يا أصدق النّاس في بدو وفي حضر ... وأحفظ النّاس فيما قالت الرّسل
إن يحسدوك فلا تعبأ بقائلهم ... هم الغثاء وأنت السّيّد البطل
وقال الضياء: ما أعرف أحدا من أهل السّنة رأى الحافظ عبد الغني إلّا أحبّه حبّا شديدا، ومدحه مدحا كثيرا.
وكان إذا مر بأصبهان يصطفّ [3] الناس في السوق فينظرون إليه، ولو أقام بأصبهان مدة وأراد أن يملكها لملكها من حبهم له ورغبتهم فيه، ولما وصل إلى مصر أخيرا كان إذا خرج يوم الجمعة إلى الجامع لا يقدر يمشي من كثرة الخلق يتبركون به ويجتمعون حوله.
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (171/ آ) .
[2] لفظة «لفظي» سقطت من «آ» .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «يعطف» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .

(6/562)


وقال الشيخ موفق الدّين: كان جوادا يؤثر بما تصل إليه يده سرّا وعلانية.
قال ولده الحافظ أبو موسى ابن بنت الشيخ أبي عمر بن قدامة زوجة الحافظ عبد الغني: قال لي والدي في مرضه الذي مات فيه: يا بني أوصيك بتقوى الله والمحافظة على طاعته، فجاء جماعة يعودونه فسلّموا عليه فردّ عليهم السلام وجعلوا يتحدثون، ففتح عينيه وقال: ما هذا الحديث؟ اذكروا الله وقولوا: لا إله إلا الله، فقالوها ثم قاموا، فجعل يذكر الله ويحرّك شفتيه بذكره، ويشير بعينه، فدخل رجل فسلّم عليه وقال له: ما تعرفني يا سيدي، فقال: بلى، فقمت لأناوله كتابا من جانب المسجد، فرجعت وقد خرجت روحه، وذلك يوم الاثنين الثالث والعشرون من ربيع الأول، ودفناه يوم الثلاثاء بالقرافة مقابل [1] قبر الشيخ أبي عمرو بن مرزوق.
وفيها أبو الفضل ركن الدّين عزيز بن محمد [2] بن العراقي القزويني الشافعي المعروف بالطاووسي [3] . كان إماما فاضلا مناظرا محجاجا قيّما في علم الخلاف، ماهرا فيه، اشتغل فيه على الشيخ رضي الدّين النيسابوري الحنفي صاحب «الطريقة» في الخلاف وبرز فيه، وصنّف ثلاث تعاليق «مختصرة» في الخلاف وثانية وثالثة مبسوطة، واجتمع عليه الطلبة بمدينة همذان، وقصدوه من البلاد البعيدة، وعلّقوا تعاليقه، وبنى له الحاجب جمال الدّين بهمذان مدرسة تعرف بالحاجبية، و «طريقته» الوسطى أحسن من «طريقتيه» الأخريين، لأن فقهها كثير وفوائدها غزيرة جمّة، وأكثر اشتغال الناس في هذا الزمان بها، واشتهر صيته في البلاد، وحملت طرائقه إليها، وتوفي
__________
[1] في «ط» : «مقابلة» .
[2] كذا في «آ» و «ط» و «العبر» : «عزيز بن محمد» وفي المصادر الأخرى «عرافي بن محمد» .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 258- 259) و «العبر» (4/ 313- 314) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 353) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 176- 178) .

(6/563)


بهمذان رابع عشر جمادى الآخرة. ولعله منسوب إلى طاووس بن كيسان التابعي. قاله ابن خلّكان.
وفيها فاطمة بنت سعد الخير بن محمد بن عبد الكريم [1] . ولدت بأصبهان سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، وسمعت حضورا من فاطمة الجوزدانية، ومن ابن الحصين، وزاهر الشحّامي، ثم سمعت من هبة الله بن الطّبر وخلق، وتزوّج بها أبو الحسن بن نجا الواعظ. روت الكثير بمصر، توفيت في ربيع الأول عن ثمان وسبعين سنة.
وفيها القاسم بن الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن المحدّث أبو محمد بن عساكر الدمشقي الشافعي [2] .
قال ابن شهبة: ولد في جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وكان محدّثا، حسن المعرفة، شديد الورع، ومع ذلك كان كثير المزاح، وتولى مشيخة دار الحديث النّورية بعد والده، فلم يتناول من معلومها [3] شيئا بل كان يرصده للواردين من الطلبة، حتّى قيل: لم يشرب من مائها ولا توضأ.
وقال الذهبي: سمع من جدّ أبويه القاضي الزّكي يحيى بن علي القرشي، وجمال الإسلام بن مسلم، وطبقتهما. وأجاز له الفراوي، وقاضي المارستان، وطبقتهما. وكان محدّثا فهما، كثير المعرفة، شديد الورع، صاحب مزاح وفكاهة، وخطّه ضعيف عديم الإتقان، وتوفي في صفر.
وفيها محمد بن صافي أبو المعالي البغدادي النقّاشي [4] . روى عن
__________
[1] انظر «العبر» (4/ 314) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 412- 413) .
[2] انظر «العبر» (4/ 314) و «سير أعلام النبلاء» (21/ 405- 411) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 42- 43) .
[3] يعني من وقفها.
[4] انظر «ذيل تاريخ بغداد» لابن الدبيثي (1/ 293- 294) و «التكملة لوفيات النقلة» (2/ 24) و (2/ 224) و «العبر» (4/ 315) .

(6/564)


أبي بكر المرزفي [1] وجماعة، وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها أبو البركات محمد بن أحمد التّكريتي الأديب، يعرف بالمؤيد [2] . كان في زمنه شخص نحويّ يعرف بالوجيه النّحوي حنبلي المذهب، فآذاه الحنابلة، فتحنّف، فآذاه الحنفية فانتقل إلى مذهب الشافعي، فجعلوه مدرّس النظامية في النحو، فعمل فيه المؤيد التّكريتي:
ألا مبلغ [3] عنّي الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي إليه الرسائل
تمذهبت للنّعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لمّا أعوزتك المآكل
وما اخترت رأي الشّافعيّ تديّنا ... ولكنما تهوى الذي هو حاصل
وعمّا قليل أنت لا شكّ صائر ... إلى مالك فافهم [4] لما أنا قائل
وفيها المبارك بن إبراهيم بن مختار بن تغلب الأزجي الطحّان بن السّيبيّ [5] . روى عن ابن الحصين وجماعة، وتوفي في شوال.
وفيها صنيعة الملك القاضي أبو محمد هبة الله بن يحيى بن علي بن حيدرة المصري، ويعرف بابن مشير المعدّل [6] . راوي كتاب «السّيرة» توفي في ذي الحجة.
وفيها، وجزم السيوطي أنه في التي قبلها، قال في «حسن
__________
[1] تحرفت في «آ» إلى «المزني» وفي «ط» إلى «المرزبي» والتصحيح من «ذيل تاريخ بغداد» و «العبر» .
[2] انظر «ذيل الروضتين» ص (36) - وفيه: «محمد بن أحمد بن سعيد البكري» - و «المحمدون من الشعراء وأشعارهم» ص (50- 51) طبع دار ابن كثير، وحاشية «إنباه الرواة» (3/ 255) .
[3] وفي رواية: «ومن مبلغ» .
[4] في «ذيل الروضتين» و «المحمدون» : «فافطن» .
[5] تحرفت نسبته في «آ» و «ط» إلى: «الشبيبي» وتصحفت في «العبر» (4/ 315) إلى «الشيبي» والتصحيح من «التكملة لوفيات النقلة» (2/ 41) .
[6] انظر «العبر» (4/ 315) و «حسن المحاضرة» (1/ 376) .

(6/565)


المحاضرة» [1] : أبو القاسم هبة الله بن معد بن عبد الكريم القرشي الدمياطي الشافعي، المعروف بابن البوري- نسبة إلى بورة، بلد قرب دمياط ينسب إليها السمك البوري [2]- تفقّه على ابن أبي عصرون، وابن الخلّ، ثم استقرّ بالإسكندرية، ودرّس بمدرسة السّلفي. انتهى.
وفيها لاحق بن أبي الفضل بن علي بن حيدرة [3] . روى «المسند» كلّه عن ابن الحصين، وتوفي في المحرم عن ثمان وثمانين سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[1] انظر «حسن المحاضرة» (1/ 408) .
[2] انظر «معجم البلدان» (1/ 506) .
[3] في «العبر» (4/ 9315) : «بن قندرة» .

(6/566)


تمّ بعون الله تعالى وتوفيقه تحقيقنا للمجلد السادس من كتاب «شذرات الذهب» للإمام ابن العماد الحنبلي والمؤذن يؤذن لصلاة عصر يوم الخميس في غرة شهر شعبان المعظم لعام 1409 هـ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأسأله تعالى أن ينفع بأعمالنا جميعها وأن يجعلها حجّة لنا يوم نعرض عليه عزّ وجل، وأن يعيننا على إتمام تحقيق بقية الكتاب بتأييد من لدنه جلّ جلاله.
محمود الأرناؤوط

(6/567)