شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة إحدى عشرة
وستمائة
فيها توفي جمال الدّين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن محمد بن الحسين بن
الفرّاء الحنبلي البغدادي [1] القاضي بن القاضي أبي يعلى [بن القاضي]
أبي حازم بن القاضي أبي يعلى الكبير.
ولد بواسط، إذ كان أبوه قاضيها [2] بعد الأربعين وخمسمائة بقليل، وسمع
الكثير من أبي بكر بن الزّاغوني، وسعيد بن البنا، وأبي الوقت، وابن
البطّي، وخلق كثير. وعني بالحديث، وكتب بخطّه الكثير لنفسه وللناس،
وشهد عند ابن الدّامغاني.
قال ابن القادسي: كان خيّرا من أهل الدّين، والصّيانة، والعفّة،
والدّيانة. وحدّث، وسمع منه ابن الدّبيثي وغيره، وتوفي ليلة الجمعة
ثاني عشري شعبان ودفن عند أبيه بباب حرب.
وفيها الركن عبد السّلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الكيلاني [3]
ويلقب بالرّكن، وتقدم ذكر أبيه وجدّه.
ولد ليلة ثامن ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وسمع
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 76- 77) وما بين الحاصرتين مستدرك
منه.
[2] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «قاضيا بها» .
[3] انظر «تاريخ الإسلام» (62/ 70- 71) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 55-
56) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 71- 73) .
(7/83)
الحديث من جدّه، وابن البطّي، وشهدة
وغيرهم. وقرأ وكتب، وتفقّه بجدّه، ودرّس بمدرسة جدّه. وكان حنبليا،
وولي عدة ولايات، وكان أديبا، كيّسا، مطبوعا عارفا بالمنطق، والفلسفة،
والتنجيم، وغير ذلك من العلوم الرديّة، وبسبب ذلك نسب إلى عقيدة
الأوائل، حتى قيل: إن والده رأى عليه يوما ثوبا بخاريّا فقال: والله
هذا عجيب [1] !! ما زلنا نسمع البخاريّ ومسلم، فأمّا البخاريّ وكافر
[2] ، فما سمعناه. وكان أبوه كثير المجون والمداعبة، كما تقدم.
وكان عبد السّلام أيضا غير ضابط للسانه، ولا مشكور في طريقته وسيرته،
يرمى بالفواحش والمنكرات، وقد جرت عليه محنة في أيام الوزير ابن يونس،
فإنه كبس دار عبد السّلام هذا وأخرج منها كتبا من كتب الفلاسفة، ورسائل
إخوان الصفا، وكتب السحر، والنارنجات [3] ، وعبادة النجوم، واستدعى ابن
يونس العلماء، والفقهاء، والقضاة، والأعيان، وكان ابن الجوزي معهم،
وقرئ في بعضها مخاطبة زحل يقول: أيها الكوكب المضيء المنير، أنت تدبّر
الأفلاك، وتحيي وتميت، وأنت إلهنا، وفي حق المريخ من هذا الجنس، وعبد
السلام حاضر، فقال ابن يونس: هذا حطّك؟
قال: نعم، قال: لم كتبته؟ قال: لأردّ [4] على قائله، ومن يعتقده، فأمر
بإحراق كتبه، فجلس قاضي القضاة، والعلماء، وابن الجوزي معهم على سطح
مسجد مجاور لجامع الخليفة يوم الجمعة، وأضرموا نارا عظيمة تحت المسجد،
وخرج الناس من الجامع، فوقفوا على طبقاتهم والكتب على سطح المسجد، وقام
أبو بكر بن المارستانية، فجعل يقرأ كتابا كتابا من مخاطبات الكواكب
ونحوها، ويقول: العنوا من كتبه، ومن يعتقده [5] وعبد السلام
__________
[1] في «آ» و «ط» : «هذا عجب» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[2] يريد أن ثوبك ثوب بخاريّ واعتقادك اعتقاد الكفّار.
[3] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «والنارنجة» .
[4] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «الأرده» .
[5] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «من كتبها ومن يعتقدها» .
(7/84)
حاضر، فتصيح [1] العوام باللّعن، فتعدى
اللّعن إلى الشيخ عبد القادر، بل وإلى الإمام أحمد، وظهرت الأحقاد
الصّدرية [2] .
ثم حكم القاضي بتفسيق عبد السلام ورمى طيلسانه، وأخرجت مدرسة جدّه من
يده ويد أبيه عبد الوهاب، وفوّضت إلى الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي.
قال ابن القادسي- بعد ذكر ذلك-: ثم أودع عبد السلام الحبس مدة، ولما
أفرج عنه أخذ خطّه بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله،
وأن الإسلام حقّ وما كان عليه باطل، وأطلق.
ثم لما قبض على ابن يونس، ردّت مدرسة الشيخ عبد القادر إلى ولده عبد
الوهاب، وردّ ما بقي من كتب عبد السلام التي أحرق بعضها، وقبض على
الشيخ أبي الفرج بسعي عبد السلام هذا، ونزل عبد السلام معه في السفينة
إلى واسط، واستوفى بالكلام منه والشيخ ساكت. ولما وصل إلى واسط عقد
مجلس حضره القضاة والشهود، وادعى عبد السلام على الشيخ بأنه تصرّف في
وقف المدرسة، واقتطع من مالها، وأنكر الشيخ ذلك، وكتب محضر بما جرى،
وأمر الشيخ بالمقام بواسط، ورجع عبد السلام.
وذكره ابن النجار في «تاريخه» وذمّه ذما بليغا، وذكر أنه لم يحدّث
بشيء، وأنه توفي يوم الجمعة لثمان خلون من رجب، ودفن شرقي بغداد.
وفيها أبو محمد بن الأخضر الحافظ المتقن، مسند العراق، عبد العزيز بن
محمود بن المبارك الجنابذي- بضم الجيم وفتح النون وموحدة
__________
[1] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «فيصيح» .
[2] في «آ» و «ط» : «البدرية» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .
(7/85)
ثم معجمة، نسبة إلى جنابذ، ويقال كونابذ،
قرية بنيسابور- الحنبلي ثم البغدادي [1] .
ولد يوم الخميس ثامن عشر رجب، سنة أربع وعشرين وخمسمائة ببغداد، وأول
سماعه سنة ثلاث وخمسمائة. سمع بإفادة أبيه وأستاذه ابن بكروس من القاضي
أبي بكر بن عبد الباقي، وأبي القاسم بن السّمرقندي، وخلق. وسمع هو
بنفسه من أبي الفضل الأرموي، وابن الزّاغوني، وابن البنا، وابن ناصر
الحافظ، وأبي الوقت، وطبقتهم، ومن بعدهم، وبالغ في الطلب، وقرأ بنفسه،
وكتب بخطّه، وحصّل الأصول، ولازم أبا الحسن بن بكروس الفقيه، وابن
ناصر، وانتفع بهما، ولم يزل يسمع ويقرأ على الشيوخ لإفادة الناس إلى
آخر عمره.
قال ابن النجار: صنّف مجموعات حسنة في كل فنّ، ولم يكن في أقرانه أكثر
سماعا منه ولا أحسن أصولا، كأنها الشمس وضوحا وعليها أنوار الصدق.
وبارك الله له في الرّواية، حتّى حدّث بجميع مسموعاته [2] ومروياته.
صحبته مدة طويلة، وقرأت عليه الكثير من الكتب الكبار والأجزاء، وأكثر
ما جمعه وخرّجه، وعلّقت عنه، واستفدت منه كثيرا، وكان ثقة حجة نبيلا،
ما رأيت في شيوخنا سفرا و [لا] حضرا مثله، في كثرة مسموعاته ومعرفته
بمشايخه، وحسن أصوله وحفظه وإتقانه.
وكان أمينا، متدينا، جميل الطريقة، عفيفا، أريد على أن يشهد عند القضاة
فأبى ذلك، وكان من أحسن النّاس خلقا، وألطفهم طبعا، من محاسن
البغداديين وظرفائهم، ما يملّ جليسه منه.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 38) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 79- 82) .
[2] لفظة «مسموعاته» لم ترد في «ذيل طبقات الحنابلة» .
(7/86)
وقال المنذري: حدّث نحوا من ستين سنة،
وصنّف تصانيف مفيدة، وانتفع به جماعة، ولنا منه إجازة، وكان حافظ
العراق في وقته.
وقال ابن رجب: ومن تصانيفه «المقصد الأرشد في ذكر من [1] روى عن
[الإمام] أحمد» في مجلدين، وكتاب «تنبيه اللّبيب وتلقيح فهم المريب في
تحقيق أوهام الخطيب» و «تلخيص وصف الأسماء في اختصار الرسم والترتيب»
أجزاء كثيرة، رأيت منه الجزء العشرين.
وروى عنه ابن الجوزي، وابن الدّبيثي، وابن نقطة، وابن النجّار، والضياء
المقدسي، والبرزالي، وابن خليل، وغيرهم من أكابر الحفّاظ، وتوفي ليلة
السبت بين العشاءين، سادس شوال، ودفن بمقبرة باب حرب.
وفيها أبو محمد عبد المحسن بن يعيش بن إبراهيم بن يحيى الحرّاني [2] ،
الفقيه الحنبلي. سمع بحرّان من أبي ياسر بن أبي حبّة، ورحل إلى بغداد،
فسمع من ابن كليب، وابن الجوزي، وطبقتهما. وقرأ المذهب والخلاف، حتّى
تميّز، وأقام ببغداد مدة، ثم عاد إلى حرّان، فأقام بها، ثم قدم بغداد
حاجّا سنة عشر وستمائة، وحدّث بها، وسمع منه بعض الطلبة، ثم رجع إلى
حرّان، فتوفي بها وهو شاب.
وفيها علي بن المفضّل بن علي الإمام الحافظ المفتي شرف الدّين أبو
الحسن اللّخمي المقدسي ثم الإسكندراني [3] الفقيه المالكي.
ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وتفقه على أبي طالب صالح [بن إسماعيل]
بن بنت معافى، وأبي طاهر بن عوف، وأكثر إلى الغاية عن
__________
[1] في «آ» : «فيمن» .
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 82) .
[3] انظر «العبر» (5/ 38- 39) و «تاريخ الإسلام» (62/ 77- 79) وما بين
حاصرتين زيادة منه.
(7/87)
السّلفي والموجودين، ورحل سنة أربع وسبعين،
فكتب عن الموجودين، وسكن في أواخر عمره بمصر، ودرّس بالصّاحبية، وصنّف
التصانيف الحسان. توفي في غرة شعبان.
وفيها الخطيب المالقي أبو بكر عبد الله بن الحسن بن أحمد الأنصاري
القرطبي، الحافظ المالكي. كان إماما من الثقات. قاله ابن ناصر الدّين
[1] .
وفيها أبو المظفّر مهذّب الدّين محمد بن علي بن نصر بن البلّ الدّوري
[2] الواعظ الحنبلي.
ولد سنة ست عشرة أو سبع عشرة وخمسمائة بالدّور- وهي دور الوزير ابن
هبيرة بدجيل- ونشأ بها، ثم قدم بغداد واستوطنها، وسمع بها من ابن ناصر
الحافظ، وابن الطّلّاية، والوزير ابن جهير، وابن الزّاغوني، وأبي الوقت
وجماعة كثيرة، وقال الشعر، وفتح عليه في الوعظ، حتّى صار يضاهي ابن
الجوزي ويزاحمه في أماكنه. ولما اعتقل ابن الجوزي بواسط خلا للدّوري
الجو، فكان يعظ مكانه.
قال ابن نقطة [3] : سمعت منه وكان شيخا صالحا متعبدا.
وقال المنذري [4] : حدّث، وعمّر، وعجز عن الحركة، ولزم بيته إلى أن
مات، وهو ابن أربع أو خمس وتسعين سنة، وكان شيخا صالحا متعبّدا.
__________
[1] في التبيان «شرح بديعة البيان» (172/ ب) وزاد هناك: «ويكنى أيضا
أبا عبد الله. حدّث عن عدة، منهم أبوه، وأبو بكر بن الجد، وأبو عبد
الله بن رزقون. وعنه أبو القاسم بن الطيلسان وآخرون. حافظا متقنا، من
الثقات، ذا معرفة بالجرح والتعديل ووجوه القراءات» .
[2] انظر «تاريخ الإسلام» (62/ 83- 84) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 74-
76) .
[3] انظر «تكملة الإكمال» (1/ 316) بتحقيق الدكتور عبد القيوم عبد رب
النّبي.
[4] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (2/ 308- 309) .
(7/88)
والبلّ: بفتح الباء الموحدة وتشديد اللام.
انتهى.
وقال ابن رجب: توفي يوم الثلاثاء ثاني عشر شعبان.
وكان له ولد اسمه محمد يكنى أبا عبد الله. كانت له معرفة جيدة بالحساب
وأنواعه، والمساحة، والفرائض، وقسمة التركات. وأقرأ ذلك مدة، وسمع من
ابن البطّي وغيره، وشهد عند ابن الشّهرزوري. توفي شابا في حياة أبيه
يوم الاثنين رابع عشري شوال، سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.
وفيها أبو بكر بن الحلاوي عماد الدّين محمد بن معالي بن غنيمة البغدادي
[1] المأموني، المقرئ الفقيه الحنبلي الزاهد. سمع من أبي الفتح ابن
الكروخي، وابن ناصر، وأبي بكر بن الزّاغوني، وغيرهم. وتفقّه على أبي
الفتح بن المنّي، وبرع في المذهب، حتّى قال الذهبي: هو شيخ الحنابلة في
زمنه ببغداد، وعليه تفقه الشيخ المجد جدّ شيخنا ابن تيمية.
وقال ابن القادسي: كانت له اليد الباسطة في المذهب والفتيا، وكان
ملازما لزاويته في المسجد، قليل المخالطة إلّا لمن عساه أن [2] يكون من
أهل الدّين، ما ألم بباب أحد من أرباب الدّنيا، وما قبل لأحد هدية،
وكان أحد الأبدال الذين يحفظ الله بهم الأرض ومن عليها.
وقال النّاصح بن الحنبلي: كان زاهدا عالما فاضلا، مشتغلا بالكسب من
الخياطة، ومشتغلا بالعلم، يقرئ القرآن احتسابا.
وقال ابن رجب: له تصانيف، منها: «المنير في الأصول» وعليه تفقّه مجد
الدّين بن تيمية، ويحيى بن الصّيرفي. وسمع منه هو، وابن القطيعي، وتوفي
ليلة الجمعة ثامن عشري رمضان، ودفن بباب حرب.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 39) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 77- 79) و «شذرات
من كتب مفقودة» ص (200) .
[2] لفظة «أن» لم ترد في «ط» و «ذيل طبقات الحنابلة» .
(7/89)
وفيها أبو الحسن علي بن أبي بكر بن علي
الهروي الأصل الموصلي المولد السائح [1] المشهور، نزيل حلب.
طاف البلاد، وأكثر من الزيارات.
قال ابن خلّكان [2] : لم يترك برّا ولا بحرا ولا سهلا ولا جبلا من
الأماكن التي يمكن قصدها ورؤيتها إلّا رآها [3] . ولما سار ذكره بذلك
واشتهر به، ضرب به المثل فيه.
وله مصنفات، منها: كتاب «الإشارات في [معرفة] الزيارات» وكتاب «الخطب
الهروية» وغير ذلك.
وتوفي في العشر الأوسط من رمضان في مدرسته. انتهى ملخصا.
__________
[1] انظر «تاريخ الإسلام» (62/ 79- 80) .
[2] انظر «وفيات الأعيان» (3/ 346- 347) وما بين الحاصرتين زيادة منه.
[3] في «وفيات الأعيان» : «إلا رآه» .
(7/90)
سنة اثنتي عشرة
وستمائة
فيها أخذت أنطاكية من الفرنج، أخذها كيكاووس ملك الرّوم [1] .
وفيها ثارت الكرج وبدّعوا بأذربيجان، وقتلوا وسبوا، وأسروا نحو مائة
ألف.
وفيها توفي ابن الدّبيقيّ أبو العبّاس أحمد بن يحيى بن بركة البزّاز
[2] ببغداد، وله بضع وثمانون سنة. روى عن قاضي المارستان، وابن زريق
القزّاز، وجماعة، وهو ضعيف، ألحق اسمه في أماكن، توفي في ربيع الآخر.
وفيها سليمان بن محمد بن علي الموصلي [3] الفقيه أبو الفضل الصّوفي.
ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وسمع من إسماعيل بن السّمرقندي، ويحيى
بن الطّرّاح، وطائفة، وتوفي في ربيع الأول.
وفيها أبو محمد بن حوط الله الحافظ عبد الله بن سليمان بن داود بن حوط
الله الأنصاري الأندلسي [4] .
__________
[1] انظر «تاريخ الإسلام» (62/ 11) .
[2] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (2/ 330) و «تاريخ الإسلام» (62/ 92-
94) و «العبر» (5/ 40) .
[3] انظر «العبر» (5/ 40) و «تاريخ الإسلام» (62/ 98- 99) .
[4] انظر «العبر» (5/ 40- 41) و «تاريخ الإسلام» (62/ 99- 101) .
(7/91)
ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وسمع من أبي
الحسن بن هذيل، وابن حبيش، وخلق كثير.
وكان موصوفا بالإتقان، حافظا لأسماء [1] الرجال. صنّف كتابا في تسمية
شيوخ البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، ولم يتمّه.
وكان إماما في العربية، والترسل، والشعر.
ولي قضاء إشبيلية، وقرطبة، وأدّب أولاد المنصور صاحب المغرب بمرّاكش.
توفي في ربيع الأول.
وفيها عبد الله بن أبي بكر بن أحمد بن أحمد بن طليب أبو علي الحربي [2]
.
روى عن عبد الله بن أحمد بن يوسف. توفي في ذي الحجة.
وفيها ابن منينا أبو محمد عبد العزيز بن معالي بن غنيمة البغدادي
الأشناني [3] .
آخر من حدّث بالعراق عن قاضي المارستان، وسمع من جماعة.
توفي في ذي الحجة عن سبع وثمانين سنة.
وفيها الحافظ أبو محمد عبد القادر [بن عبد الله] الرّهاوي [4] الحنبلي.
__________
[1] تحرفت في «ط» إلى «لا سيما» .
[2] انظر «العبر» (5/ 41) و «تاريخ الإسلام» (62/ 101) .
[3] انظر «العبر» (5/ 41) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 33) .
[4] انظر «ذيل الروضتين» ص (90- 91) و «العبر» (5/ 41- 42) و «تاريخ
الإسلام» (62/ 104- 106) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 71- 75) و «ذيل
طبقات الحنابلة» (2/ 82- 86) .
(7/92)
كان مملوكا لبعض أهل الموصل فأعتقه، وحبّب
إليه فنّ الحديث، فسمع الكثير، وصنّف وجمع، وله «الأربعون المتباينة
الإسناد والبلاد» وهو أمر ما سبقه إليه أحد ولا يرجوه بعده محدّث لخراب
البلاد.
سمع بأصبهان من مسعود الثقفي، وبهمذان من أبي العلاء الحافظ، وأبي زرعة
المقدسي، وبهراة من عبد الجليل بن أبي سعد، وبمرو، ونيسابور، وسجستان،
وبغداد، ودمشق، ومصر. قاله في «العبر» .
وقال ابن خليل [1] : كان حافظا، ثبتا، [كثير السماع] كثير التصنيف،
[متقنا] ختم به [علم] الحديث.
وقال أبو شامة: كان صالحا، مهيبا، زاهدا، خشن العيش، ورعا، ناسكا.
وقال ابن رجب: هو محدّث الجزيرة. ولد في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين
وخمسمائة بالرّها، ثم أصابه سبي [2] لما فتح زنكي الرّها سنة تسع
وثلاثين، فاشتراه بنو فهم الحرّانيّون وأعتقوه.
وقال الدّبيثي: كان صالحا، كثير السماع، ثقة، كتب الناس عنه كثيرا،
وأجاز لنا مرارا.
وقال ابن النجار: كان حافظا، متقنا، فاضلا، عالما، ورعا، متدينا،
زاهدا، عابدا، صدوقا، ثقة، نبيلا، على طريقة السّلف الصالح. لقيته
بحرّان وكتبت عنه جزءا واحدا، انتخبته من عوالي مسموعاته في رحلتي
الأولى.
وقال ابن رجب: سمع منه خلق كثير من الحفّاظ والأئمة، منهم: أبو
__________
[1] انظر «تاريخ الإسلام» (62/ 105) وما بين الحاصرتين في الخبر زيادة
منه.
[2] في «آ» و «ط» : «سباء» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
(7/93)
عمرو بن الصّلاح، وحدّث عنه ابن نقطة، وأبو
عبد الله البرزالي، والضياء، وابن خليل، وابن عبد الدائم، وأبو عبد
الله بن حمدان الفقيه، وهو خاتمة أصحابه. توفي- رحمه الله- يوم السبت
ثاني جمادى الأولى بحرّان.
وفيها أبو محمد عبد المنعم بن محمد بن الحسين بن سليمان الباجسرائي [1]
ثم البغدادي. الفقيه الحنبلي.
ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة بباجسرا. وقدم بغداد في صباه، فسمع من
شهدة وغيرها، وقرأ الفقه على أبي الفتح بن المنّي، ولازمه حتى برع،
وقرأ الأصول، والخلاف، والجدل، على محمد [بن علي] النّوقاني [2]
الشافعي، وصحب ابن الصقّال، وصار معيدا لمدرسته، ثم درّس بمسجد شيخه
ابن المنّي بالمأمونية مدة، وكان يؤم بمسجد الآجرة.
وشهد عند قاضي القضاة ابن الشهرزوري.
وكان فقيها فاضلا، حافظا للمذهب، حسن الكلام في مسائل الخلاف، متدينا،
حسن الطريقة. ذكر ذلك ابن النجار، وقال: سمع معنا أخيرا من مشايخنا
فأكثر، وكان حسن الأخلاق، متوددا. روى عنه أبو عبد الله ابن الدّبيثي،
وابن السّاعي بالإجازة، وقال: أنشدني هذين البيتين:
إذا أفادك إنسان بفائدة ... من العلوم فأدمن شكره أبدا
وقل فلان جزاه الله صالحة ... أفادنيها وألق الكبر والحسدا
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الباجسري» وما أثبته من «تاريخ الإسلام» (62/ 107)
و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 86) وانظر «الأنساب» (2/ 17) .
[2] في «آ» : «البرقاني» وفي «ط» : «التوقاني» وفي «ذيل طبقات
الحنابلة» : «البوقاني» وجميعه خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء»
(21/ 248) و «طبقات الشافعية الكبرى» (7/ 29) و «طبقات الشافعية»
للإسنوي (2/ 499) وما بين الحاصرتين زيادة من المصادر المذكورة.
(7/94)
توفي- رحمه الله- يوم الاثنين ثامن عشر
جمادى الأولى، ودفن بباب حرب.
وفيها أبو الفتح عبد الوهاب بن بزغش- بالباء الموحدة المضمومة، وبالزاي
والغين والشين المعجمات- العيبيّ بكسر العين المهملة وفتح الياء آخر
الحروف وكسر الموحدة، نسب لذلك لأن أباه كان يحمل العيب التي فيها كتب
الرسائل [1]- المقرئ البغدادي الحنبلي، ختن الشيخ أبي الفرج ابن
الجوزي.
ولد سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة تقديرا. وقرأ القرآن [2] بالروايات
الكثيرة على سعد الله بن الدّجاجي وغيره، وسمع الحديث الكثير من أبي
الوقت وخلق كثير، وعني بالحديث، وحصّل الأصول، وتفقّه في المذهب.
قال ابن النجار: كان حسن المعرفة بالقراءات، حسن الأداء، طيّب النّغمة،
ضابطا، له معرفة بالوعظ، يحسن الكلام في مسائل الخلاف. كتبنا عنه، وكان
صدوقا، حسن الطريقة، متدينا، فقيرا، صبورا، وزمن في آخر عمره وانقطع في
بيته مدة.
وقال ابن نقطة: [هو] ثقة لكنه أخرج أحاديث مما قرب سنده، ولا يعرف
الرّجال، فربما سقط من الإسناد رجلان أو أكثر، وهو لا يدري.
وقال [ابن] القادسي: حدّث، وسمع منه جماعة.
وتوفي ليلة الخميس خامس ذي القعدة، وصلّى عليه من الغد محيي الدّين بن
الجوزي ودفن بباب حرب.
__________
[1] قال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (62/ 108) : المعروف ب «قطينة» .
وقال ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 88) : كان يلقب قطينة
لبياضه.
[2] كذا في «ط» و «ذيل طبقات الحنابلة» وفي «آ» : «وقرأ القراءات» .
(7/95)
وفيها أبو الحسن بن الصبّاغ القدوة العارف
علي بن حميد الصعيدي [1] . صحب الشيخ عبد الرحيم القناوي [2] وتخرّج
به، وكان والده صباغا، وكان يعيب عليه عدم معاونته له وانقطاعه إلى أهل
التصوف، فأخذ يوما الثياب التي عند والده جميعها، وطرحها في زير واحد،
فصاح عليه والده، وقال: أتلفت ثياب الناس! وأخرجها، فإذا كل ثوب على
اللون الذي أراد صاحبه، فحينئذ اشتهر أمره وصحبه خلائق.
قال ابن الأهدل: وكان لا يصحب إلّا من رآه مكتوبا في اللّوح المحفوظ من
أصحابه [3] . وسأله إنسان الصحبة والخدمة له، فقال له: ما بقي عندنا
وظيفة نحتاجك لها إلا أن تجيء كل يوم بحزمة من الحلفاء، فقال:
نعم، فكان يأخذ المحش فيأتي كل يوم بحزمة، ثم ملّ وترك، فرأى القيامة
قامت وأشرف على الوقوع في النار، وإذا حزمة الحلفاء تحته مارة به على
النّار وهو فوقها حتى أخرجته، فجاء إلى الشيخ، فلما رآه قال: ما قلنا
لك ما عندنا خدمة تصلح سوى الحلفاء، فاستغفر وعاد إلى الخدمة. وله
مناقب كثيرة. انتهى.
وقال في «العبر» [4] : انتفع به خلق كثير.
توفي في نصف شعبان ودفن برباطه بقناء [5] من الصعيد، رحمه الله.
انتهى.
__________
[1] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (2/ 340) و «تاريخ الإسلام» (62/
111- 112) و «مرآة الجنان» (3/ 24- 26) و «النجوم الزاهرة» (6/ 215) .
[2] قلت: ويقال له «القنائي» أيضا. انظر «حسن المحاضرة» (1/ 515) .
[3] قلت: هذه مبالغة من مبالغات الصوفية، فكيف يرى اللوح المحفوظ أمثال
المترجم ولم يره أفضل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نسأل الله
العفو والعافية.
[4] (5/ 42) .
[5] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «فناء» والتصحيح من «العبر» .
(7/96)
وفيها أبو عبد الله بن البناء الشيخ أبو
النّجيب نور الدّين محمد بن أبي المعالي عبد الله بن موهوب بن جامع
البغدادي [1] الصوفي. صحب الشيخ أبا النّجيب السّهروردي، وسمع من ابن
ناصر، وابن الزّاغوني، وطائفة. وكتب سماعاته، وحدّث بالعراق، والحجاز،
ومصر، والشام، واستقر بالسميساطية إلى أن توفي في ذي القعدة عن ست
وسبعين سنة.
وفيها ابن الجلاجلي كمال الدّين أبو الفتوح محمد بن علي بن المبارك
البغدادي [2] . التاجر الكبير. سمع من هبة الله بن أبي شريك الحاسب
وغيره، وتوفي ببيت المقدس في رمضان.
وفيها الوجيه بن الدهّان أبو بكر المبارك بن المبارك بن أبي الأزهر
الواسطي [3] الضرير النحوي.
ولد سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، وسمع ببغداد من أبي زرعة، ولزم
الكمال عبد الرحمن الأنباري، وأبا محمد بن الخشّاب، وبرع في العربية،
ودرّس النحو بالنّظّامية، وكان حنبليا فتحوّل حنفيا، وقيل: تحوّل أيضا
شافعيا، وفيه أبيات سائرة [4] . توفي في شعبان ببغداد.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 43) و «النجوم الزاهرة» (6/ 215) .
[2] انظر «العبر» (5/ 43) .
[3] انظر «العبر» (5/ 43) و «تاريخ الإسلام» (62/ 119- 121) .
[4] قالها فيه المؤيد أبو البركات محمد بن أحمد التكريتي المتوفى سنة
(599) ، وهي:
ومن مبلغ عنّي الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي لديه الرّسائل
تمذهبت للنّعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لمّا أعوزتك المآكل
وما اخترت رأي الشّافعيّ ديانة ... ولكنّما تهوى الذي هو حاصل
وعمّا قليل أنت لا شكّ صائر ... إلى مالك فافطن لما أنا قائل
وانظر «ذيل تاريخ بغداد» لابن الدّبيثي (1/ 137- 138) و «تاريخ
الإسلام» (62/ 120) .
(7/97)
وفيها موسى بن سعيد [1] أبو إسماعيل
الهاشمي البغدادي [2] ابن الصّيقل. سمع من إسماعيل بن السمرقندي، وأبي
الفضل الأرموي، وكان صدرا معظما ولي [حجابة باب النّوبي، ثم] نقابة
الكوفة.
توفي في جمادى الأولى.
وفيها يحيى بن ياقوت البغدادي [الفرّاش] [3] ، المجاور بمكة. روى عن
إسماعيل بن السمرقندي، وعبد الجبّار بن أحمد بن توبة، وجماعة، وتوفي في
جمادى الآخرة، رحمه الله.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «موسى بن سعد» والتصحيح من «تاريخ الإسلام» (62/
123) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 53) و «العبر» (5/ 44) وما بين
الحاصرتين زيادة منه.
[2] تحرفت في «ط» إلى «البغداويّ» .
[3] ما بين الحاصرتين زيادة من «العبر» (5/ 44) مصدر المؤلف، وانظر
«تاريخ الإسلام» (62/ 124) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 53) .
(7/98)
سنة ثلاث عشرة
وستمائة
قال ابن الأثير [1] : فيها وقع بالبصرة برد [كثير] قيل: إن أصغره
كالنارنجة [الكبيرة] ، وأكبره ما يستحي الإنسان أن يذكر.
وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن الحسين البغدادي [2] ، أخو
الفخر إسماعيل غلام ابن المنّي. سمع الحديث، وتفقه في مذهب الحنابلة
على أخيه، وتكلّم في مسائل الخلاف، وكان فقيها صالحا. توفي ثاني عشر
ربيع الأول، ودفن عند أخيه بمقبرة الإمام أحمد.
وفيها إسماعيل بن عمر بن بكر المقدسي [3] أبو إسحاق وأبو القاسم وأبو
الفضل، ويلقب محب الدّين، الحنبلي. سمع بدمشق من أبي اليمن الكندي
وغيره، وبمصر من البوصيري والحافظ عبد الغني [4] ، وببغداد من ابن
الأخضر وطبقته، وبأصبهان من أبي عبد الله محمد بن مكّي وغيره، وكانت
رحلته مع الضياء بعد الستمائة. وعني بالحديث، ووصفه جماعة بالحافظ،
وتفقّه وحدّث، وتوفي في ثامن عشر شوال.
__________
[1] انظر «الكامل في التاريخ» (12/ 314- 315) وما بين حاصرتين زيادة
منه، و «العبر» (5/ 44) ولفظة «الكبيرة» مستدركة منه.
[2] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 89) .
[3] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 90) .
[4] يعني المقدسي صاحب «الكمال» وغير، رحمه الله تعالى.
(7/99)
وفيها الشيخ شرف الدّين أبو الحسن أحمد بن
عبيد الله بن قدامة المقدسي [1] الحنبلي.
ولد سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وسمع من أبي الفرج ابن كليب وغيره،
وحدّث، وكان فقيها فاضلا ديّنا عاملا، جمع الله له بين حسن الخلق
والخلق، والأمانة والمروءة، وقضاء حوائج الإخوان، والكرم، والإحسان إلى
الضعفاء والمرضى وقضاء حوائجهم، والتهجد.
وكان يقول الحقّ ولا يحابي أحدا. توفي ليلة رابع عشر ذي القعدة ودفن من
الغد بسفح قاسيون، ورؤيت له منامات حسنة جدا، ورثاه غير واحد، ولما
توفي هؤلاء الثلاثة الأحبار [2] المقدسيون، المحبّ، والعزّ [3] ،
والشّرف، في مدة متقاربة، رثاهم شيخ الإسلام موفق الدّين بقوله:
مات المحبّ ومات العزّ والشّرف ... أئمة سادة ما منهم خلف
كانوا أئمة علم يستضاء بهم ... لهفي على فقدهم لو ينفع اللهف
ما ودّعوني غداة البين إذ رحلوا ... بل أودعوا قلبي الأحزان وانصرفوا
وهي طويلة.
وفيها العلّامة تاج الدّين الكندي أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد بن
الحسن البغدادي [4] ، المقرئ النحويّ اللغويّ. شيخ الحنفية والقرّاء
والنّحاة بالشام، ومسند العصر.
ولد سنة عشرين وخمسمائة، وأكمل القراءات العشرة، وله عشرة
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 92- 93) .
[2] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «الأخيار» .
[3] في «آ» : «المعز» .
[4] انظر «إنباه الرواة» (2/ 10- 14) و «تاريخ الإسلام» (62/ 134- 141)
و «العبر» (5/ 44) .
(7/100)
أعوام، وهذا ما لا نعلمه تهيأ لأحد سواه.
اعتنى به سبط الخيّاط، فأقرأه وحرص عليه، وجهّزه إلى أبي القاسم هبة
الله بن الطّبر، فقرأ عليه بست [1] روايات، وإلى أبي منصور ابن خيرون،
وأبي بكر خطيب الموصل، وأبي الفضل بن المهتدي بالله. فقرأ عليهم
بالروايات الكثيرة. وسمع من ابن الطّبر، وقاضي المارستان، وأبي منصور
القزّاز، وخلق، وأتقن العربية على جماعة، وقال الشعر الجيد، ونال الجاه
الوافر، فإن الملك المعظم كان مديما للاشتغال عليه، وكان ينزل إليه من
القلعة.
توفي في سادس شوال، ونزل الناس بموته درجة في القراءات وفي الحديث،
لأنه آخر من سمع من القاضي أبي بكر، والقاضي أبو بكر آخر من سمع من أبي
محمد الجوهري، والجوهري آخر من روى عن القطيعي، والقطيعي آخر من روى عن
الكريمي وجماعة. قاله في «العبر» .
قلت ومن شعره [2] :
تمنّيت في عصر [3] الشّبيبة أنّني ... أعمّر والأعمار لا شكّ أرزاق [4]
فلمّا أتاني ما تمنّيت [5] ساءني ... من العمر ما قد كنت أهوى وأشتاق
وها أنا في إحدى وتسعين حجّة ... لها في إرعاد مخوف وإبراق
يقولون ترياق لمثلك نافع ... وما لي إلّا رحمة الله ترياق
وفيها عبد الرحمن بن علي الزّهري الإشبيلي [6] أبو محمد، مسند الأندلس
في زمانه. روى «صحيح البخاري» سماعا من أبي الحسن شريح،
__________
[1] في «ط» : «ست» .
[2] انظر «الأبيات في وفيات الأعيان» (2/ 341- 342) و «تاريخ الإسلام»
(62/ 139) .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «عشر» والتصحيح من «تاريخ الإسلام» .
[4] في «آ» : «رزاق» .
[5] في «تاريخ الإسلام» : «فلما أتى ما قد تمنيت» .
[6] انظر «العبر» (5/ 46) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 55) .
(7/101)
وعاش بعد ما سمعه ثمانين سنة، وهذا شيء لا
نعلمه وقع لأحد بالأندلس غيره. توفي في آخر هذا العام.
وفيها الملك الظاهر غازي [بن يوسف] [1] ، صاحب حلب، ولد السلطان صلاح
الدّين يوسف بن أيوب.
ولد بمصر سنة ثمان وستين وخمسمائة، وحدّث عن عبد الله بن برّي وجماعة،
وكان بديع الحسن، كامل الملاحة، ذا غور ودهاء ورأي ومصادقة لملوك
النواحي، فيوهمهم أنه لولا هو لقصدهم عمه العادل، ويوهم عمه أنّه لولا
هو لاتفق عليه الملوك وشاقوه، وكان سمحا جوادا، تزوّج بابنتي عمّه.
قال ابن خلّكان [2] : كان ملكا، مهيبا، حازما، متيقظا، كثير الاطلاع
على أحوال رعيته وأخبار الملوك، عالي الهمّة، حسن التدبير والسياسة،
باسط العدل، محبا للعلماء، مجيزا للشعراء. أعطاه والده مملكة حلب في
سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة بعد أن كانت لعمّه الملك العادل، فنزل
عنها وتعوّض غيرها.
ويحكى عن سرعة إدراكه أشياء حسنة، منها: أنه جلس يوما لعرض العسكر،
وديوانيّ [3] الجيش بين يديه، فكان كلما حضر واحد من الأجناد سأله
الديوانيّ [3] عن اسمه لينزلوه حتّى حضر واحد فسألوه، فقبّل الأرض، فلم
يفطن أحد من أرباب الديوان لما أراد، فعاودوا سؤاله [4] ، فقال الملك
الظاهر: اسمه غازي، وكان كذلك، وتأدب الجندي أن يذكر اسمه لما كان
موافقا اسم السلطان، وعرف هو مقصوده، وله من هذا الجنس شيء
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 46) و «تاريخ الإسلام» (62/ 151- 155) وما بين
الحاصرتين زيادة منه.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 6) .
[3] في «وفيات الأعيان» : «وديوان» و «الديوان» وما جاء في كتابنا هو
الصواب.
[4] في «آ» و «ط» : «فعاود وسأله» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
(7/102)
كثير، وتوفي بقلعة حلب ليلة الثلاثاء
العشرين من جمادى الآخرة، ودفن بالقلعة.
ثم بنى الطواشيّ شهاب الدّين أتابك ولده الملك العزيز مدرسة تحت
القلعة، وعمر فيها تربة ونقله إليها. والعجب أنه دخل حلب مالكا لها في
الشهر بعينه واليوم سنة اثنتين وثمانين [وخمسمائة] . انتهى ملخصا.
وكانت وفاته بالإسهال، وتسلطن بعده ولده الملك العزيز وله ثلاثة أعوام.
وفيها الجاجرمي، مؤلّف «الكفاية» في الفقه، الإمام معين الدّين أبو
حامد محمد بن إبراهيم الفقيه الشافعي.
قال ابن خلّكان [1] : كان إماما، فاضلا، متقنا، مبرّزا. سكن نيسابور،
ودرّس بها، وصنّف في الفقه كتاب «الكفاية» وهو في غاية الإيجاز، مع
اشتماله على أكثر المسائل [2] التي تقع في الفتاوى، وهو في مجلد واحد.
وله كتاب «إيضاح الوجيز» أحسن فيه، وهو مجلدين، وله طريقة مشهورة في
الخلاف والفوائد [3] المشهورة منسوبة إليه. واشتغل عليه الناس وانتفعوا
به بكتبه من بعده، خصوصا «القواعد» فإن الناس أكبوا على الاشتغال بها.
وتوفي بكرة نهار الجمعة عاشر رجب بنيسابور.
والجاجرمي: بفتح الجيمين وسكون الراء، نسبة إلى جاجرم، بلدة بين
نيسابور وجرجان خرج منها جماعة من العلماء [4] . انتهى.
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 265) .
[2] في «آ» و «ط» : «على كثير المسائل» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «والقواعد» .
[4] انظر «معجم البلدان» (2/ 92) .
(7/103)
وفيها العزّ [1] محمد بن الحافظ عبد الغني
بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ابن الحافظ أبو الفتح.
ولد سنة ست وستين وخمسمائة، ورحل إلى بغداد، وهو مراهق، فسمع من ابن
شاتيل [2] وطبقته، وسمع بدمشق من أبي الفهم عبد الرحمن بن أبي العجائز
وطائفة، وكتب الكثير، وعني بالحديث. وارتحل إلى أصبهان وغيرها، وكان
موصوفا بحسن القراءة وجودة الحفظ والفهم.
قال الضياء: كان حافظا، فقيها، حنبليا، ذا فنون. ثم وصفه بالديانة
المتينة، والمروءة التّامة.
وقال أبو شامة [3] : صحب الملك المعظّم عيسى، وسمع بقراءته [4] الكثير،
وكان حافظا، ديّنا، زاهدا، ورعا.
وقال الذهبي: روى عنه ابنا تقي الدّين أحمد، وعز الدّين عبد الرحمن،
والحافظ ضياء الدّين، والشهاب القوصي، والشيخ شمس الدّين عبد الرحمن بن
أبي عمر، وابن البخاري، وآخرون.
توفي- رحمه الله- ليلة الاثنين، تاسع عشر شوال، ودفن بسفح قاسيون.
قال الحافظ الضياء: قال بعضهم: كنا نقرأ عنده ليلة مات، فرأيت على بطنه
نورا مثل السّراج.
__________
[1] في «العبر» (5/ 47) طبع الكويت: «العزيز» وهو خلاف لما في المصادر
الأخرى، وأبعد محقق «العبر» طبع بيروت فبدّل «العز» إلى «العزيز» ،
ولقبه «عز الدين» كما في «تاريخ الإسلام» (62/ 158) واختصر إلى «العز»
في بعض المصادر.
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «ابن شامل» والتصحيح من «العبر» و «تاريخ
الإسلام» .
[3] انظر «ذيل الروضتين» ص (99) .
[4] في «آ» : «بقراءة» .
(7/104)
سنة أربع عشرة
وستمائة
ايها توفي أبو الخطّاب بن واجب أحمد بن محمد بن عمر القيسي البلنسي،
الإمام المالكي.
ولد سنة سبع وثلاثين وخمسمائة. وأكثر عن جدّه أبي حفص بن واجب، وابن
هذيل، وابن قزمان صاحب ابن الطلّاع، وطائفة. وأجاز له أبو بكر بن
العربي.
قال [ابن] الأبّار: هو حامل راية الرواية بشرق الأندلس، وكان متقنا،
ضابطا، نحويا، عالي الإسناد، ورعا، قانتا، له عناية كاملة بصناعة
الحديث.
ولي القضاء ببلنسية وشاطبة غير مرة، ومعظم روايتي عنه. انتهى.
وفيها الشيخ العماد أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي [1]
الحنبلي، أخو الحافظ عبد الغني.
ولد بجمّاعيل سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وهاجر سنة إحدى وخمسين مع
أقاربه، وسمع من عبد الواحد بن هلال وجماعة، وببغداد من شهدة، وصالح بن
الرّحلة، وبالموصل من خطيبها، وحفظ «الخرقي» [2]
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 49- 55) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 93- 106) و
«تاريخ الإسلام» (62/ 173- 183) .
[2] يعني «مختصر الخرقي» .
(7/105)
و «الغريب» للعزيزي. وألقى الدروس، وناظر،
واشتغل، وقرأ القراءات على أبي الحسن البطائحي، وكان متصديا لإقراء
القرآن والفقه، ورعا، تقيا، متواضعا، سمحا، مفضالا، صوّاما، قوّاما،
صاحب أحوال وكرامات، موصوفا بطول الصلاة.
قال الشيخ الموفق: ما فارقته إلّا أن يسافر، فما عرفته أنه عصى الله
معصية.
وقال الحافظ الضياء: كان عالما بالقرآن، والنحو، والفرائض، وغير ذلك من
العلوم. وصنّف كتاب «الفروق» في المسائل الفقهية. وكان من كثرة اشتغاله
وإشغاله لا يتفرغ للتصنيف والكتابة، وكان يشغل بالجبل إذا كان الشيخ
موفق الدّين في المدينة، فإذا صعد الموفق نزل هو فأشغل بالمدينة.
وكان يشغل بجامع دمشق من الفجر إلى العشاء لا يخرج إلّا لما لا بد له
منه.
يقرئ القرآن والعلم، فإذا لم يبق له من يشتغل عليه اشتغل بالصلاة، وكان
داعية إلى السّنّة، وتعلّم العلم والدّين، وما علم أنه أدخل نفسه في
شيء من أمر الدنيا، ولا تعرض له، ولا نافس فيها. وكان يحترز في الفتاوى
احترازا كثيرا. وكان كثير الورع والصدق، سمعته يقول لرجل: كيف ولدك؟
فقال:
يقبّل يدك، فقال: لا تكذب. وكان كثير الأمر بالمعروف، والنهي عن
المنكر، خرج مرّة إلى قوم من الفسّاق فكسر ما معهم، فضربوه ونالوا منه،
حتّى غشي عليه، فأراد الوالي ضرب الذين نالوا منه، فقال: إن تابوا
ولزموا الصلاة فلا تؤذهم [1] ، وهم في حلّ من قبلي، فتابوا ورجعوا عما
كانوا عليه.
وسمعت الإمام أبا إبراهيم محاسن بن عبد الملك التّنوخي يقول: كان الشيخ
العماد جوهرة العصر، وكان كثير التواضع، يذمّ نفسه ويقول: ايش
__________
[1] في «آ» و «ط» : «فلا تؤذيهم» والصواب ما أثبتناه.
(7/106)
يجيء مني، وكان يكثر في دعائه من قول:
اللهم اجعل عملنا صالحا واجعله لوجهك الكريم خالصا ولا تجعل لأحد فيه
شيئا.
اللهم خلّصني من مظالم نفسي، ومظالم كل شيء قبل الموت، ولا تمتني ولأحد
عليّ مظلمة يطلبني بها بعد الموت. ولا بد من الموت فاجعله على توبة
نصوح بعد الإخلاص من مظالم نفسي ومظالم العباد قتلا في سبيلك على سنتك
وسنة رسولك، شهادة يغبطني بها الأولون والآخرون، واجعل النّقلة إلى روح
وريحان [ومستراح] في جنّات النعيم، ولا تجعلها إلى نزل من حميم وتصلية
جحيم.
قال الضياء: توفي- رحمه الله- ليلة الخميس وقت عشاء الآخرة، وكان صلى
تلك الليلة المغرب بالجامع ثم مضى إلى البيت، وكان صائما فأفطر على شيء
يسير، ولما جاءه الموت جعل يقول: يا حيّ يا قيوم برحمتك أستغيث،
واستقبل القبلة وتشهّد ومات.
وقال سبط ابن الجوزي: غسّل وقت السحر، وأخرجت جنازته إلى جامع دمشق،
فما وسع الناس الجامع، وصلى عليه الموفق بحلقة الحنابلة بعد جهد جهيد،
وكان يوما لم ير في الإسلام مثله. كان أول الناس عند مغارة الدّم ورأس
الجبل إلى الكهف، وآخرهم بباب الفراديس. وما وصل إلى الجبل إلى آخر
النهار. قال: وتأملت الناس من أعلى قاسيون إلى الكهف إلى قريب الميطور
[1] ، لو رمى الإنسان عليهم إبرة لما ضاعت.
فلما كان في الليل نمت وأنا متفكر في جنازته، وذكرت أبيات سفيان الثوري
التي أنشدها في المنام:
__________
[1] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «الميظور» وتحرفت في «ذيل طبقات الحنابلة»
إلى «المنظور» والتصحيح من «غوطة دمشق» ص (181) للعلّامة الأستاذ محمد
كرد علي، طيّب الله ثراه، وقال فيه: الميطور: في أرض الصالحية آخر
حدودها تحت نهر يزيد.
(7/107)
نظرت إلى ربّي كفاحا فقال لي ... هنيئا
رضائي عنك يا بن سعيد
فقد كنت قوّاما إذا أقبل الدّجى ... بعبرة مشتاق وقلب عميد
فدونك فاختر أيّ قصر تريده ... وزرني فإني منك غير بعيد
وقلت: أرجو أن العماد يرى ربّه كما رآه سفيان عند نزول حفرته، ونمت
فرأيت العماد في النوم وعليه حلّة خضراء، وعمامة خضراء، وهو في مكان
متسع كأنه روضة، وهو يرقى في درج مرتفعة، فقلت: يا عماد الدّين، كيف
بت؟ فإني والله متفكر [1] فيك، فنظر إليّ وتبسم على عادته، وقال:
رأيت إلهي حين أنزلت حفرتي ... وفارقت أصحابي وأهلي وجيرتي
فقال: جزيت الخير عنّي فإنني ... رضيت فها عفوي لديك ورحمتي
دأبت [2] زمانا تأمل الفوز والرّضى ... فوقّيت نيراني ولقّيت جنّتي
قال: فانتبهت مرعوبا وكتبت الأبيات.
وتوفي- رحمه الله ورضي عنه- فجأة في سابع عشر ذي القعدة.
وفيها عبد الله بن عبد الجبّار العثماني أبو محمد الاسكندراني [3]
التاجر المحدّث. سمع من السّلفي فأكثر، وتوفي في ذي الحجة عن سبعين
سنة.
وفيها ابن الحرستاني، قاضي القضاة جمال الدّين أبو القاسم عبد الصمد بن
محمد بن أبي الفضل الأنصاري الخزرجي الدمشقي [4] الشافعي.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «مفكر» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[2] تحرفت في «ذيل طبقات الحنابلة» إلى «رأيت» فتصحح.
[3] انظر «ذيل الروضتين» ص (106- 108) و «تاريخ الإسلام» (62/ 189-
190) و «النجوم الزاهرة» (6/ 221) .
[4] انظر «العبر» (5/ 50- 51) و «تاريخ الإسلام» (62/ 193- 197) و «سير
أعلام النبلاء» (22/ 80- 84) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/
71- 73) .
(7/108)
ولد سنة عشرين وخمسمائة، وسمع سنة خمس
وعشرين من عبد الكريم بن حمزة، وجمال الإسلام [1] ، وطاهر بن سهل
الإسفراييني والكبار. ودرّس وأفتى، وبرع في المذهب، وانتهى إليه علو
الإسناد، وكان صالحا عابدا من قضاة العدل.
قال ابن شهبة: تفرّد بالروايات عن أكثر شيوخه، ورحل إلى حلب وتفقّه بها
على المحدّث الفقيه أبي الحسن المرادي [2] ، وناب في القضاء عن ابن أبي
عصرون، ثم ولي قضاء الشام في آخر عمره سنة اثنتي عشرة، ودرّس
بالعزيزية، وكان يجلس للحكم بالمجاهدية. وكان إماما عارفا بالمذهب،
ورعا، صالحا، محمود الأحكام، حسن السيرة، كبير القدر.
وقال أبو شامة: حدثني الشيخ عز الدّين بن عبد السّلام أنه لم ير أفقه
منه، وعليه كان ابتداء اشتغاله، ثم صحب فخر الدّين بن عساكر، فسألته
عنهما فرجح ابن الحرستاني وقال: إنه كان يحفظ كتاب «الوسيط» للغزالي.
قال: ولما طلب للقضاء امتنع من الولاية حتى ألحوا عليه فيها، وكان
صارما عادلا على طريقة السلف في لباسه وعفته، بقي في القضاء سنتين
وسبعة أشهر.
وقال سبط ابن الجوزي: كان زاهدا عفيفا عابدا ورعا نزها، لا تأخذه في
الله لومة لائم، اتفق أهل دمشق على أنه ما فاتته صلاة بجامع دمشق في
جماعة إلّا إذا كان مريضا.
توفي في رابع ذي الحجة، وهو ابن خمس وتسعين سنة.
__________
[1] هو علي بن المسلّم السّلمي الدمشقي. انظر ترجمته في «طبقات
الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 345- 346) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «المراري» والتصحيح من «طبقات الشافعية»
لابن قاضي شهبة.
(7/109)
وفيها علي بن محمد بن علي الموصلي [1] أبو
الحسن، أخو سليمان. سمع من الحسين سبط الخيّاط، وأبي البدر الكرخي،
وجماعة.
وتوفي في جمادى الآخرة.
وفيها ابن جبير الكناني، الإمام الرئيس محمد بن أحمد بن جبير البلنسي
[2] . نزيل شاطبة.
ولد سنة أربعين وخمسمائة، وسمع من أبيه، وعلي بن أبي العيش المقرئ،
وأجاز له أبو الوليد بن الدبّاغ، وحجّ فحدّث في طريقه.
قال [ابن] الأبّار: عني بالآداب فبلغ فيها الغاية، وتقدم في صناعة
النظم والنثر، ونال بذلك دنيا عريضة، ثم زهد ورحل مرتين إلى المشرق،
وفي الثالثة توفي بالإسكندرية في شعبان.
وفيها أبو عبد الله بن سعادة الشّاطبي [3] المعمّر محمد بن عبد العزيز
ابن سعادة. أخذ قراءة نافع عن أبي عبد الله بن غلام الفرس، والقراءات
عن ابن هذيل، وأبي بكر محمد بن أحمد بن عمران. وسمع من ابن النّعمة،
وابن عاشر، وأبي عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة. أكثر عنه [ابن]
الأبّار، وكان مولده سنة ست عشرة وخمسمائة أو قبل ذلك، وتوفي بشاطبة في
شوال.
وفيها الشجاع محمود الدّماغ [4] : كانت له ثروة عظيمة، وقف مدرسة
للشافعية والحنفية داخل باب الفرج، تعرف بالدّماغية.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 51) .
[2] انظر «العبر» (5/ 51) وهو صاحب «الرّحلة» الشهيرة. وقال العلّامة
الزركلي رحمه الله في «الأعلام» (5/ 320) : يقال: إنه لم يصنّف كتاب
«الرّحلة» وإنما قيّد معاني ما تضمنته، فتولى ترتيبها بعض الآخذين عنه.
[3] انظر «معرفة القراء الكبار» (2/ 605) و «العبر» (5/ 51- 52) .
[4] انظر «تاريخ الإسلام» (62/ 209) .
(7/110)
سنة خمس عشرة
وستمائة
فيها جاءت رسل جنكزخان ملك التتار محمود الخوارزمي، وعلي البخاري
بتقدمة مستظرفة إلى خوارزم شاه، وتطلب [1] منه المسالمة والهدنة،
فاستمال خوارزم شاه محمودا الخوارزمي وقال: أنت منا وإلينا، وأعطاه
معضدة جوهر، وقرّر [2] معه أن يكون عينا للمسلمين. ثم قال له: أصدقني،
أيملك جنكزخان طمغاج الصين؟ قال: نعم. قال: فما ترى؟ قال: الهدنة.
فأجاب، وسرّ جنكزخان بإجابته. واستقرّ الحال إلى أن جاء من بلاده تجّار
إلى ما وراء النهر وعليها خال خوارزم شاه، فقبض عليهم وأخذ أموالهم
شرها منه. ثم كاتب خوارزم شاه يقول: إنهم تتار في زيّ التجار، وقصدهم
يجسّوا البلاد، ثم جاءت رسل جنكزخان إلى خوارزم شاه تقول: إن كان ما
فعله خالك بأمره فسلّمه إلينا، وإن كان بأمرك فالعذر قبيح، وستشاهد ما
تعرفني به، فندم خوارزم شاه وتجلّد، وأمر بالرّسل فقتلوا لِيَقْضِيَ
الله أَمْراً كانَ مَفْعُولًا 8: 42 [الأنفال: 42] . فيا لها من حركة
عظيمة الشؤم أجرت بكل قطرة بحرا من الدماء.
وفيها توفي محدّث بغداد أبو العبّاس البندنيجي- بفتح الباء الموحدة
والمهملة وسكون النون الأولى وكسر الثانية ثم تحتية وجيم، نسبة إلى
__________
[1] في «العبر» بطبعتيه: «ويطلب» .
[2] في «آ» و «ط» : «وقدّر» والتصحيح من «العبر» بطبعتيه.
(7/111)
بندنيجين [1] بلفظ المثنى بلد قرب بغداد-
أحمد بن أحمد بن أحمد بن كرم [2] بن غالب البغدادي الأزجي، الحافظ
المحدّث المعدّل الحنبلي.
ولد في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وتلقّن القرآن من أبي
حكيم النّهرواني، وقرأه [3] بالروايات على أبي الحسن البطائحي وغيره.
وسمع الحديث الكثير من أبي بكر بن الزّاغوني، وأبي الوقت، وخلق.
قال الدّبيثي: كان وافر السماع، كثير الشيوخ، حسن الأصول، حدّث بالكثير
وسمع منه جماعة.
وقال ابن ناصر الدّين [4] : هو محدّث بغداد. كان حافظا مكثرا، لكنه غير
عمدة، رماه ابن الأخضر وكذّبه وقبله غيره.
وقال ابن رجب في «طبقاته» [5] : توفي معه في ثالث عشر [6] رمضان أبو
محمد عبد الكافي بن بدر بن حسّان الأنصاري الشّامي الأصل المصري
النجّار الحنبلي، وكان صالحا كثير الصيام والتعبد. سمع من البوصيري،
والأرتاحي، وعبد الغني الحافظ [7] ، وربيعة بن نزار، وغيرهم، وعلّق عنه
المنذري شيئا. توفي وله نحو الستين سنة. انتهى.
__________
[1] انظر «معجم البلدان» (1/ 499) قال ياقوت: موضع يسمّى وندنيكان
وعرّب على البندنيجين ولم يفسر معناه ... وحدثني العماد بن كامل
البندنيجي الفقيه قال: البندنيجين اسم يطلق على عدة محال متفرقة غير
متصلة البنيان، بل كل واحدة منفردة لا ترى الأخرى، لكن نخل الجميع
متّصلة، وأكبر محلّة فيها يقال لها باقطنايا ... وقد خرج منها خلق من
العلماء، محدّثون وشعراء وفقهاء وكتّاب.
[2] تحرف في «آ» و «ط» إلى «ابن كر» والتصحيح من «العبر» (5/ 55) و
«تاريخ الإسلام» (62/ 216) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 108) .
[3] في «آ» و «ط» و «قرأ» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[4] في «التبيان شرح بديعة البيان» (173/ ب) .
[5] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 109) .
[6] في «ط» : «عشري» .
[7] يعني الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله تعالى.
(7/112)
أي ودفن الأول بباب حرب من بغداد والثاني
بالمقطّم من مصر.
وفيها الشمس العطّار أبو القاسم أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد السّلمي
البغدادي الصيدلاني [1] ، نزيل دمشق.
ولد سنة ست وأربعين وخمسمائة، وسمع الناس منه «صحيح البخاري» غير مرّة.
وكان ثقة. توفي في شعبان.
وفيها صاحب الموصل السلطان الملك القاهر عز الدّين أبو الفتح مسعود بن
السلطان نور الدّين أرسلان شاه بن مسعود الأتابكي [2] .
ولد سنة تسعين وخمسمائة، وتملّك بعد أبيه، وله سبع عشرة سنة، وكان
موصوفا بالملاحة والعدل والسماحة، قيل: إنّه سمّ ومات في ربيع الآخر
وله خمس وعشرون سنة، وعظم [على] الرّعية فقده.
وولي بعده بعهد منه ولده نور الدّين أرسلان شاه، ويسمّى أيضا عليّا،
وله عشر سنين، فمات في أواخر السنة أيضا.
وفيها زينب الشّعريّة الحرّة أمّ المؤيّد [3] بنت أبي القاسم عبد
الرحمن بن الحسين بن أحمد بن سهل الجرجاني ثم النيسابوري الشعري [4]
الصّوفي.
ولدت سنة أربع وعشرين [وخمسمائة] ، وسمعت من ابن الفراوي
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 55) و «تاريخ الإسلام» (62/ 218- 219) .
[2] انظر «العبر» (5/ 55- 56) ولفظة «على» مستدركة منه و «تاريخ
الإسلام» (62/ 244- 245) .
[3] تصحفت في «ط» إلى «المؤبد» بالباء.
[4] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 344- 345) و «سير أعلام النبلاء» (22/
85- 86) و «العبر» (5/ 56) و «الأعلام» (3/ 66) .
(7/113)
عبد الله لا من أبيه، ومن زاهر الشّحّامي،
وعبد المنعم بن القشيري [1] ، وطائفة.
توفيت في جمادى الآخرة وانقطع بموتها إسناد عال.
وفيها أبو القاسم الدّامغاني [2] . قاضي القضاة، عبد الله بن الحسين
ابن أحمد بن علي بن قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني، الفقيه الحنفي
[3] العلّامة عماد الدّين. سمع من تجنّي الوهبانية، وولي القضاء
بالعراق سنة ثلاث وستمائة إلى أن عزل سنة إحدى عشرة، وتوفي في ذي
القعدة.
وفيها القاضي شرف الدّين بن الزّكي القرشي أبو طالب، عبد الله بن زين
القضاة عبد الرحمن بن سلطان بن يحيى بن علي الدّمشقي الشافعي.
قال ابن شهبة [4] : ناب في القضاء عن ابن عمّه القاضي محيي الدّين ابن
الزّكي، وعن أبيه زكي الدّين الطاهر، ودرّس بالرواحية، فكان أول من
درّس بها. ودرّس بالشامية البرانية.
وقال ابن كثير [5] : إنه أول من درّس بها أيضا.
__________
[1] تحرفت في «آ» إلى «القيري» .
[2] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (2/ 448) و «ذيل الروضتين» ص (110) و
«تاريخ الإسلام» (62/ 225- 226) و «العبر» (5/ 56) و «البداية
والنهاية» (13/ 82) و «الجواهر المضية في طبقات الحنفية» (2/ 301- 303)
.
[3] قلت: وهو الصواب، ولكن وصفه المنذري في «التكملة» والذهبي في
«تاريخ الإسلام» بأنه شافعي المذهب. وعقب الأستاذ الدكتور بشار عواد
معروف على ذلك في المصدرين بقوله:
والمعروف عن بيت الدامغاني أنهم من رؤساء الحنفية المشهورين.
[4] لم أجد ترجمته في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة الذي بين يدي،
وأظن المؤلف- رحمه الله- قد وهم فأحال عليه، والصواب أنه نقل عن
«العبر» فالكلام بتمامه فيه (5/ 56) وهو مترجم أيضا في «طبقات
الشافعية» للإسنوي (1/ 535) .
[5] نقل المؤلف هذا الكلام عن «طبقات الشافعية» لابن كثير، وهو غير
متوفر بين أيدينا، وترجم له في «البداية والنهاية» (13/ 81) .
(7/114)
وقال سبط ابن الجوزي: كان فقيها نزها لطيفا
عفيفا.
وقال الشهاب القوصي: كان ممن زاده الله بسطة في العلم والجسم.
توفي في شعبان.
وفيها الشّهاب فتيان بن علي بن فتيان بن ثمال الأسدي الحنفي الدمشقي
المعروف بالشّاغوري.
قال ابن خلّكان [1] : كان فاضلا شاعرا ماهرا، خدم الملوك ومدحهم وعلّم
أولادهم. وله ديوان شعر فيه مقاطيع حسان، وأقام مدة بالزّبداني [2] وله
فيها أشعار لطيفة، فمن ذلك قوله في جهة الزّبداني- وهي أرض فيحاء جميلة
المنظر، تتراكم عليها الثلوج في زمن الشتاء، وتنبت أنواع الأزهار في
أيام الربيع، ولقد أحسن فيها كل الإحسان وهي-:
قد أجمد الخمر كانون بكل قدح ... وأخمد الجمر في الكانون حين قدح
يا جنّة الزّبداني أنت مسفرة ... عن كلّ حسن إذا وجه الزّمان كلح
فالثّلج قطن عليه السّحب تندفه [3] ... والجوّ يحلجه والقوس قوس قزح
وله وقد دخل إلى حمّام ماؤها شديد الحرارة، وكان قد شاخ:
أرى ماء حمّامكم كالحميم ... نكابد منه عناء وبؤسا
وعهدي بكم تسمطون الجداء [4] ... فما بالكم تسمطون التّيوسا
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 24- 26) و «تاريخ الإسلام» (62/ 237-
238) .
[2] الزّبداني: بلدة كبيرة تقع إلى الشمال الغربي من دمشق، تبعد عنها
قرابة (45) كيلو مترا، ذات طبيعة جميلة ومناخ معتدل، تنتج أصنافا
مختلفة من أجود أنواع الفواكه، ويقصدها أغنياء أهل دمشق وغيرها من
حواضر العرب للاصطياف. وانظر «معجم البلدان» (3/ 130) .
[3] في «آ» و «ط» : «مندفة» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
[4] في «آ» و «ط» : «الجدي» وأثبت لفظ «وفيات الأعيان» .
(7/115)
وله:
علام تحرّكي والحظّ ساكن ... وما نهنهت في طلب ولكن
أرى نذلا تقدّمه المساوي ... على حرّ تؤخّره المحاسن
توفي بدمشق ودفن بمقابر باب الصغير.
وفيها صاحب الرّوم الملك الغالب عزّ الدّين كيكاوس بن كيخسرو ابن قلج
أرسلان السّلجوقي، سلطان قونية، وأقصرا، وملطية، وأخو السلطان علاء
الدّين كيقباذ [1] . كان ظلوما غشوما سفّاكا للدماء، قيل: إنه مات فجأة
مخمورا فأخرجوا أخاه علاء الدّين وملّكوه بعده، وذلك في شوال. قاله في
«العبر» [2] .
وفيها ركن الدّين أبو حامد محمد بن العميد الفقيه الحنفي السمرقندي [3]
، مصنّف الطريقة العميدية المشهورة. كان إماما في الخلاف، وشرح
«الإرشاد» وصنف كتاب «النفائس» وكان حسن الأخلاق، كثير التواضع. توفي
في جمادى الآخرة ببخارى.
وفيها شهاب الدّين عبد الرحمن بن عمر بن أبي نصر بن علي بن عبد الدّائم
بن الغزّالي البغدادي [4] الحنبلي الواعظ أبو محمد.
ولد في جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وسمع الكثير بإفادة
أبيه وبنفسه من الحافظ ابن ناصر، وسعد بن البنا، وأبي بكر بن
الزّاغوني، وأبي الوقت، وغيرهم. وعني بهذا الشأن، وله في الخطّ طريقة
__________
[1] في «آ» و «ط» : « «كبعباد» هكذا مهملة من دون تنقيط، والتصحيح من
«العبر» و «سير أعلام النبلاء» (22/ 138) .
[2] (5/ 57) .
[3] انظر «العبر» (5/ 57) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 76- 77 و 97- 98)
.
[4] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 106) .
(7/116)
حسنة معروفة، ووعظ مدة، ومال إلى مدح
الحلّاج وتعظيمه، ولقد أخطأ في ذلك.
قال ابن النجّار: سمعت بقراءته كثيرا وسمعت منه، وكان سريع القراءة
والكتابة، إلّا أنه قليل المعرفة بأسماء المحدّثين، وحدّث وسمع منه
جماعة، وأجاز المنذريّ [1] وغيره، وروى عنه ابن الصّيرفي، وتوفي يوم
[2] الثلاثاء نصف شعبان ودفن بباب حرب.
وفيها السلطان الملك العادل سيف الدّين أبو بكر محمد بن الأمير نجم
الدّين أيوب بن شاذي [3] .
ولد ببعلبك حال ولاية أبيه عليها، ونشأ في خدمة نور الدّين مع أبيه،
وكان أخوه صلاح الدّين يستشيره ويعتمد على رأيه وعقله ودهائه، ولم يكن
أحد يتقدم عليه عنده، ثم تنقلت به الأحوال واستولى على الممالك، وسلطن
ابنه الكامل على الدّيار المصرية، وابنه المعظّم على الشام، وابنه
الأشرف على الجزيرة، وابنه الأوحد على خلاط، وابن ابنه المسعود على
اليمن، وكان ملكا جليلا سعيدا، طويل العمر، عميق الفكر، بعيد الغور،
جمّاعا للمال، ذا حلم وسؤدد وبرّ كثير، وكان يضرب المثل بكثرة أكله،
وله نصيب من صوم وصلاة، ولم يكن محبّبا إلى الرّعية لمجيئة بعد
الدولتين النّورية والصلاحية. وقد حدّث عن السّلفي، وخلّف سبعة عشر
ابنا، تسلطن منهم الكامل، والمعظّم، والأشرف، والصالح، وشهاب الدّين
غازي صاحب ميّافارقين، وتوفي في سابع جمادى الآخرة وله بضع وسبعون سنة.
__________
[1] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «للمنذريّ» .
[2] لفظة «يوم» سقطت من «ط» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» : «ليلة» .
[3] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 74- 79) و «العبر» (5/ 58) .
(7/117)
|