شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة ست عشرة وستمائة
فيها تحركت التّتار- وهم نوع من التّرك مساكنهم جبال طغماج [1] من نحو الصين، يسجدون للشمس عند طلوعها ولا يحرّمون شيئا، ولا يحصون كثرة- فخارت قوى السلطان خوارزم شاه، وتقهقر بين أيديهم ببلاد ما وراء النهر، وانجفل الناس بخوارزم شاه وأمرت أمّه بقتل من كان محبوسا من الملوك بخوارزم، وكانوا بضعة عشر نفسا، ثم سارت بالخزائن إلى قلعة ايلال بمازندران، ووصل خوارزم شاه إلى همذان في نحو عشرين ألفا، وتقوضت أيامه.
وفي أول العام خرّب الملك المعظّم سور بيت المقدس خوفا وعجزا من الفرنج أن تملكه، فشرعوا في هدم السور في أول يوم من المحرّم، وضج الناس، وخرج النساء المخدرات، والبنات، والشيوخ، والعجائز، والشباب إلى الصخرة والأقصى، فقطعوا شعورهم وخرجوا هاربين، وتركوا أموالهم وما شكّوا أن الفرنج يصبحوهم، فهرب بعضهم إلى مصر، وبعضهم إلى الكرك، وبعضهم إلى دمشق، ومات خلق من الجوع والعطش، ونهبت الأموال التي كانت لهم بالقدس، وأبيع القنطار الزيت بعشرة دراهم، والرطل النحاس بنصف درهم، وذم الناس الملك المعظم، فقال بعضهم:
__________
[1] مدينة مشهورة كبيرة من بلاد الترك. انظر «آثار البلاد وأخبار العباد» ص (411) .

(7/118)


في رجب حلّل المحرّم [1] ... وأخرب القدس في المحرّم
واستخدم القبط والنصارى ... وبعد ذا وزر المكرّم
وقال مجد الدّين قاضي الطّور:
مررت على القدس الشّريف مسلّما ... على ما تبقّى من ربوع وأنجم [2]
ففاضت دموع العين منّي صبابة ... على ما مضى من عصره [3] المتقدّم
وقد رام علج أن يعفّي رسومه ... وشمّر عن كفّي لئيم مذمّم
فقلت له شلّت يمينك خلّها ... لمعتبر أو سائل أو مسلّم
فلو كان يفدى بالنّفوس فديته ... بنفسي وهذا الظّنّ في كلّ مسلم [4]
وفي شعبان أخذت الفرنج دمياط بعد ما حصر أهلها ووقع فيهم الوباء، وعجز الكامل عن نصرهم، فطلبوا من الفرنج الأمان وأن يخرجوا منها بأهلهم وأموالهم في القساقسة [5] وحلفوا لهم على ذلك، ففتحوا لهم الأبواب، فدخلوا وغدروا بأهلها، ووضعوا فيهم السيف، قتلا وأسرا، وباتوا في الجامع يفجرون بالنساء ويفتضّون البنات، وأخذوا المنبر والمصحف وبعثوا بهما إلى الجزائر.
وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن محمد بن سيّدهم الأنصاري الدمشقي، المعروف بابن الهرّاس [6] . سمع من نصر الله المصّيصي وغيره، وتوفي في شعبان.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «لحميا» والتصحيح من «تاريخ الإسلام» (62/ 24) .
[2] في «تاريخ الإسلام» : «كأنجم» .
[3] في «تاريخ الإسلام» : «عصرنا» .
[4] رواية الشطرة الثانية في «تاريخ الإسلام» :
... وهذا صحيح الظّنّ في كلّ مسلم
[5] جمع قس، وهو رئيس من رؤساء النصارى في الدّين والعلم، وكذا القسيس بكسر القاف.
انظر «مختار الصحاح» (قسس) .
[6] انظر «العبر» (5/ 60) و «تاريخ الإسلام» (62/ 260) .

(7/119)


وفيها أبو البشائر إسحاق بن هبة الله بن صالح [1] قاضي خلاط. كان فقيها شافعيا عالما، حسن الكلام في الوعظ والتذكير، من محاسن القضاة، يرجع إلى دين. قدم إربل وتوفي بها.
ومن شعره:
قال الهلال وعندي في مجالستي ... بدر بوجه على شمس الضّحى سادا
ليس الهلاك بمحبوب لذي أرب ... وإن حببناه أحيانا وأعيادا
هذا يزيد حياتي في مجالستي ... وذاك ينقص عمري كلّما زادا
وفيها ابن ملاعب زين الدّين أبو البركات داود بن أحمد بن محمد ابن منصور بن ثابت بن ملاعب الأزجي [2] وكيل القضاة. روى عن الأرموي، وابن ناصر، وطائفة. توفي في جمادى الآخرة بدمشق.
وفيها ريحان بن تيكان بن موسك الحربي [3] الضرير. مات في صفر وله بضع وتسعون سنة. روى عن أحمد بن الطّلّاية، والمبارك بن أحمد الكندي.
وفيها ستّ الشام الخاتون أخت الملك العادل بنت أيوب [4] . كانت عاقلة، كثيرة البرّ والصدقة، بابها ملجأ للقاصدين، وهي أم حسام الدّين، وتزوّجها محمد بن شيركوه صاحب حمص، وبنت لها مدرسة وتربة بالعونية على الشرف الشمالي من دمشق، وأوقفت دارها قبيل موتها مدرسة، وهي التي إلى جانب المارستان النّوري، وأوقفت عليها أوقافا كثيرة، وتوفيت في
__________
[1] انظر «تاريخ الإسلام» (62/ 262) .
[2] انظر «العبر» (5/ 60) و «تاريخ الإسلام» (62/ 265- 266) .
[3] انظر «العبر» (5/ 60) و «تاريخ الإسلام» (62/ 267) .
[4] انظر «العبر» (5/ 61) و «تاريخ الإسلام» (62/ 267- 268) .

(7/120)


ذي القعدة، ودفنت بتربتها بالعونية، وكان كافور الحسامي [1] خادمها، وكان لها نيف وثلاثون محرما من الملوك سوى أولادهم، فإخوتها صلاح الدّين، والعادل، وسيف الإسلام وولده.
وفيها أبو منصور بن الرزّاز سعيد بن محمد ابن العلّامة المفتي سعيد بن محمد بن عمر البغدادي [2] . روى «البخاري» عن أبي الوقت، وحضر أبا الفضل الأرموي.
وفيها العلّامة أبو البقاء محب الدّين عبد الله بن الحسين بن أبي البقاء العكبري الأزجي الضرير الحنبلي النحوي الفرضي [3] . صاحب التصانيف.
قرأ القراءات على ابن عساكر البطائحي، وتأدب على ابن الخشّاب، وتفقه على أبي يعلى الصغير، وروى عن ابن البطّي وطائفة، وحاز قصب السبق في العربية، وتخرّج به خلق.
ذهب بصره في صغره بالجدري، وكان دينا ثقة. قاله في «العبر» .
وقال ناصح الدّين بن الحنبلي: كان إماما في علوم القرآن، إماما في الفقه، إماما في اللغة، إماما في النحو، إماما في العروض، إماما في الفرائض، إماما في الحساب، إماما في معرفة المذهب، إماما في المسائل النظريات. وله في هذه الأنواع من العلوم مصنفات مشهورة.
__________
[1] مترجم في «وفيات الأعيان» (1/ 307) .
[2] انظر «العبر» (5/ 61) .
[3] انظر «العبر» (5/ 61) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 91- 93) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (253) و «تاريخ الإسلام» (62/ 270- 272) و «نكت الهميان» ص (178- 180) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 109- 120) و «المنهج الأحمد» الورقة (346) (مخطوط) من القسم الذي لم ينشر بعد، و «شذرات من كتب مفقودة» ص (187) .

(7/121)


قال: وكان معيد الشيخ [1] أبي الفرج بن الجوزي. وكان متدينا، قرأت عليه كتاب «الفصيح» لثعلب من حفظي.
وقال ابن أبي الجيش: كان يفتي في تسعة علوم، وكان أوحد زمانه في النحو، واللغة، والحساب، والفرائض، والجبر، والمقابلة، والفقه، وإعراب القرآن، والقراءات الشاذة، وله في كل هذه العلوم تصانيف كبار، وصغار، ومتوسطات، وذكر أنه قرأ عليه كثيرا.
وقال ابن النجار [2] : قرأت عليه كثيرا من مصنفاته، وصحبته مدة، وكان حسن الأخلاق، متواضعا، كثير المحفوظ، محبّا للاشتغال والأشغال ليلا ونهارا، ما تمضي عليه ساعة بلا اشتغال أو إشغال حتى إن زوجته تقرأ له بالليل كتب الأدب وغيرها.
وقال غيره: كان إذا أراد أن يصنّف كتابا أحضرت له عدة مصنّفات في ذلك الفنّ وقرئت عليه، فإذا حصّله في خاطره أملاه.
وقال ابن رجب: من تصانيفه: «تفسير القرآن» و «إعراب القرآن» في مجلدين، و «إعراب الشواذ» و «متشابه القرآن» و «إعراب الحديث» وكتاب «التعليق في مسائل الخلاف» في الفقه، و «شرح الهداية» لأبي الخطّاب في الفقه، وكتاب «المرام في نهاية الأحكام» في المذهب، وكتاب «مذاهب الفقهاء» وكتاب «الناهض في علم الفرائض» وكتاب «بلغة الرائض في علم الفرائض» و «المنقح من الخطل في علم الجدل» و «الاعتراض على دليل التلازم [ودليل التنافي] [3] » و «الاستيعاب في أنواع الحساب» و «اللّباب في
__________
[1] في «آ» : «وكان معيد الشيخ» وأثبت لفظ «ط» و «ذيل طبقات الحنابلة» و «شذرات من كتب مفقودة» .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن البخاري» وهو خطأ، والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[3] ما بين الحاصرتين مستدرك من «ذيل طبقات الحنابلة» .

(7/122)


البناء والإعراب» و «شرح الإيضاح» [1] و «شرح اللّمع» و «شرح خطب ابن نباتة» و «شرح المقامات الحريرية» و «شرح الحماسة» و «شرح ديوان المتنبّي» وغير ذلك.
ومن شعره:
صاد قلبي على العقيق غزال ... ذو نفار وصاله ما ينال
فاتر الطرف تحسب الجفن منه ... ناعسا والنّعاس منه مزال [2]
توفي ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر، ودفن بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب، رحمه الله تعالى.
وفيها ابن شاس العلّامة جمال الدّين أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار الجذاميّ السعديّ المصريّ [3] ، شيخ المالكية، وصاحب كتاب «الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة» . كان من كبار الأئمة العاملين، حجّ في أواخر عمره ورجع فامتنع من الفتيا إلى أن مات مجاهدا في سبيل الله، في حدود رجب.
وفيها عبد الرحمن بن محمد بن علي بن يعيش [4] الصّدر أبو الفرج الأنباري، أخو أبي الحسن علي [5] . روى عن عبد الوهاب الأنماطي وغيره، وعمّر تسعين سنة. توفي في شعبان.
__________
[1] يقوم بتحقيقه صديقي الفاضل الأستاذ المحقّق يحيى ميرعلم لنيل درجة الدكتوراه من قسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب بجامعة دمشق.
[2] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «مدال» .
[3] انظر «العبر» (5/ 61- 62) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 98- 99) و «تاريخ الإسلام» (62/ 272- 273) .
[4] انظر «العبر» (5/ 62) و «تاريخ الإسلام» (62/ 274- 275) .
[5] كذا في «آ» و «ط» و «العبر» : «أخو أبي الحسن علي» وفي «تاريخ الإسلام» : «سبط قاضي القضاء أبي الحسن علي بن محمد بن الدامغاني» .

(7/123)


وفيها أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن مسعود ابن النّاقد البغدادي [1] المقرئ الصالح. قرأ القراءات على أبي الكرم الشّهرزوري وغيره، وسمع من أبي سعد البغدادي، والأرموي. توفي في شوال.
وفيها الافتخار الهاشمي أبو هاشم عبد المطلب بن الفضل العبّاسي البلخي ثم الحلبي [2] الحنفي، إمام المذهب بحلب. سمع بما وراء النهر من القاضي عمر بن علي المحمودي، وأبي شجاع البسطامي وجماعة، وبرع في المذهب، وناظر وصنّف، وشرح «الجامع الكبير» [3] وتخرّج به الأصحاب، وعاش ثمانين سنة. توفي في جمادى الآخرة.
وفيها عثمان بن مقبل بن قاسم الياسري ثم البغدادي [4] ، الفقيه الحنبلي الواعظ، أبو عمر، جمال الدّين. من أهل الياسريّة من قرى بغداد على نهر عيسى [5] .
قدم بغداد وسمع بها من ابن الخشّاب وشهدة، وطبقتهما ومن دونهما، وتفقه على أبي الفتح بن المنّي، ووعظ ولازم الوعظ.
ذكره ابن أبي الجيش في شيوخه، وقال: له تصانيف. وقد حدّث، وسمع منه جماعة.
وقال ابن الحنبلي: مات ضاحي نهار الحادي والعشرين من ذي الحجة، ودفن بباب حرب.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 62) و «تاريخ الإسلام» (62/ 275- 276) .
[2] انظر «العبر» (5/ 62) و «تاريخ الإسلام» (62/ 277- 278) .
[3] وهو للإمام المجتهد أبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، صاحب إمام الفقهاء أبي حنيفة النعمان. انظر «كشف الظنون» (1/ 567) .
[4] انظر «تاريخ الإسلام» (62/ 279) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 122) .
[5] انظر «معجم البلدان» (5/ 425) .

(7/124)


وفيها عماد الدّين أبو القاسم علي بن القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر [1] .
ولد سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وسمع من أبيه، وعبد الرحمن بن الخرقي، وإسماعيل الجنزوي [2] ورحل إلى خراسان، فكان آخر من رحل إليها من المحدّثين، وأكثر عن المؤيد الطّوسي ونحوه، وكان صدوقا ذكيا فهما حافظا مجدّا في الطلب، إلا أنه كان يتشيع، وقد خرجت عليه الحراميّة في قفوله من خراسان فجرحوه، وأدركه الموت ببغداد في جمادى الأولى. قاله في «العبر» .
وفيها صاحب سنجار الملك المنصور، قطب الدّين محمد بن عماد الدّين زنكي بن آق سنقر [3] . تملّك سنجار مدة، وحاصره الملك العادل أياما، ثم رحل عنه بأمر الخليفة. توفي في صفر.
وتملّك بعده ولده عماد الدّين شاهنشاه أشهرا، ومات قبله أخوه عمر، وتملّك بعده مديدة، ثم سلّم سنجار إلى الأشرف، ثم مات.
وفيها أبو الحسن علي بن أبي زيد بن محمد بن علي النحوي، المعروف بالفصيحي، الإستراباذي [4] .
أخذ النحو عن عبد القاهر صاحب «الجمل الصغرى» [5] ، وتبحر فيه
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 62- 63) و «تاريخ الإسلام» (62/ 281- 282) .
[2] تصحفت في «آ» إلى «الجيزوي» وفي «ط» إلى «الخبزوي» والتصحيح من «العبر» و «تاريخ الإسلام» .
[3] انظر «العبر» (5/ 63) .
[4] انظر «معجم الأدباء» (15/ 66- 75) و «وفيات الأعيان» (3/ 337) .
[5] في «آ» و «ط» : «الجبل الصقري» والتصحيح من «وفيات الأعيان» وسماه حاجي خليفة في «كشف الظنون» (1/ 602) : «الجمل في النحو» وسماه عبد اللطيف بن محمد رياض زاده في «أسماء الكتب» ص (126) : «الجمل» وعلق محققه الدكتور محمد ألتونجي في حاشيته بقوله: طبع في دمشق.

(7/125)


حتى صار أعرف أهل زمانه، وقدم بغداد واستوطنها، ودرّس النحو بالمدرسة النظامية مدة، وانتفع به خلق كثير، ومن جملة من أخذ عنه ملك النّحاة [1] الحسن بن صافي.
وروى عنه أبو طاهر السّلفي قال: جالسته ببغداد وسألته عن أحرف في [2] العربية.
وقال أنشدني لبعض النّحاة:
النّحو شؤم كلّه فاعلموا ... يذهب بالخير [3] من البيت
خير من النحو وأصحابه ... ثريدة تعمل بالزيت
توفي يوم الأربعاء ثالث عشر ذي الحجة ببغداد.
قال ابن خلّكان: ولم أعرف أنسبه بالفصيحي إلى كتاب «الفصيح» لثعلب أم لشيء آخر؟
وفيها أبو عبد الله نصير الدّين محمد بن عبد الله بن الحسين السّامرّي، الفقيه الفرضي الحنبلي، ويعرف بابن سنينة- بسين مهملة مضمومة ونونين مفتوحتين بينهما ياء تحتية ساكنة [4]-.
قال ابن النجار: ولد سنة خمس وثلاثين وخمسمائة بسامرا.
وسمع من ابن البطّي، وأبي حكيم النّهرواني، وغيرهما ببغداد، وتفقّه على أبي حكيم ولازمه، وبرع في الفقه والفرائض، وصنّف فيهما تصانيف
__________
[1] تصحفت في «ط» إلى «ملك النجاة» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «من» .
[3] في «وفيات الأعيان» : «بالخبز» .
[4] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (2/ 470- 471) و «تاريخ الإسلام» (62/ 288) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 144- 145) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 121- 122) .

(7/126)


مشهورة، منها كتاب «المستوعب» في الفقه، وكتاب «الفروق» وكتاب «البيان» [1] في الفرائض.
وولي القضاء بسامرا وأعمالها مدة، ثم ولي القضاء والحسبة ببغداد، ثم عزل عن القضاء وبقي على الحسبة، ثم عزل عنها وولي إشراف ديوان الزّمام وعزل أيضا. ولقّب في أيام ولايته «معظّم الدّين» ولما عزل لزم بيته مدة، ثم أذن له بالعود إلى بلده فعاد إليها، ثم رجع إلى بغداد في آخر عمره وبها توفي.
قال ابن النجار: كان شيخا جليلا فاضلا نبيلا حسن المعرفة بالمذهب والخلاف، له مصنفات فيها حسنة، وما أظنه روى شيئا من الحديث.
وذكر ابن السّاعي المؤرخ أنه كتب عنه، وأجاز للشيخ عبد الرحيم بن الزّجّاج [2] .
توفي ليلة الثلاثاء سابع عشري رجب ودفن بمقبرة باب حرب.
وفي كتابيه «المستوعب» و «الفروق» فوائد جليلة ومسائل غريبة.
وفيها أبو الحسين تاج الدّين يحيى بن [أبي] علي [منصور] بن الجرّاح ابن الحسين بن محمد بن داود [3] .
كتب في ديوان الإنشاء بالدّيار المصرية مدة طويلة، وكان خطّه في غاية الجودة، وكان فاضلا أديبا متقنا، له فطرة حسنة، وشعر جيد رائق، ورسائل أنيقة. سمع الحديث بثغر الاسكندرية على السّلفي، وسمع الناس عليه، وله
__________
[1] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «البستان» .
[2] في «آ» و «ط» : «ابن الدجاج» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[3] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (2/ 472- 473) و «وفيات الأعيان» (6/ 254- 258) و «تاريخ الإسلام» (62/ 294- 295) وما بين الحاصرتين مستدرك منها.

(7/127)


لغز في الدّملج [1] الذي تلبسه النساء، وهو: ما شيء قلبه حجر، ووجهه قمر، إن نبذته صبر، واعتزل البشر، وإن أجعته رضي بالنّوى، وانطوى على الخوى، وإن أشبعته قبّل قدمك، وصحب خدمك، وإن علقته ضاع، وإن أدخلته السوق أبى أن يباع، وإن أظهرته جمّل المتاع، وأحسن الإمتاع، وإن شددت ثانيه وحذفت منه القافية كدر الحياة، وأوجب التخفيف في الصلاة، وأحدث وقت العصر الضجر، ووقت الفجر الخدر، وجمع بين حسن العقبى وقبح الأثر، وإن فصلته دعا لك وأبقى [2] ، ما إن ركبته هالك، وربما بلّغك آمالك، وكثّر مالك وأحسن بعون المساكين مآلك، والسلام.
وكانت ولادته خامس عشر شوال سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وتوفي خامس شعبان بدمياط.
__________
[1] جاء في «المعجم الوسيط» (1/ 297) : الدّملج والدّملوج: سوار يحيط بالعضد.
[2] كذا في «آ» و «وفيات الأعيان» . وفي «ط» : «وإن» .

(7/128)


سنة سبع عشرة وستمائة
في رجبها كانت وقعة البرلّس [1] بين الكامل والفرنج، وكان نصرا عزيزا، قتل من الملاعين عشرة آلاف، وانهزموا إلى دمياط.
وفيها أخذت التتار خراسان وقتلوا أهلها، وكانوا أخذوا بخارى وسمرقند وقتلوا وما أبقوا، ثم عبروا نهر جيحون، وأبادوا ما هناك قتلا وسبيا وتخريبا إلى حدود العراق، بعد أن هزموا جيوش خوارزم شاه ومزقوهم، ثم عطفوا إلى قزوين فاستباحوها، ثم سارت فرقة كبيرة إلى أذربيجان فاستباحوها، وحاصروا تبريز وبها ابن البهلوان، فبذل لهم أموالا وتحفا، فرحلوا عنه ليشتوا على الساحل، فوصلوا إلى موغان [2] ، وحاربوا الكرج وهزموهم في ذي القعدة من هذه السنة.
ثم ساروا إلى مراغة، فأخذوها [3] بالسيف. ثم كروا نحو إربل،
__________
[1] جاء في حاشية «النجوم الزاهرة» (6/ 248) : البرلس من الثغور المصرية القديمة الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، بين دمياط ورشيد، وإليها تنسب بحيرة البرلس الواقعة في شمال مديرية الغربية. وانظر «معجم البلدان» (1/ 402) .
[2] في «ط» : «مرغان» وهو خطأ.
قال القزويني في «آثار البلاد وأخبار العباد» ص (564) موغان: ولاية واسعة بها قرى ومروج بآذربيجان. وفي «تاريخ الإسلام» (62/ 42) : «مفرقان» وهو تحريف فتصحح.
[3] في «ط» : «فأخذوا» .

(7/129)


فاجتمع لحربهم عسكر العراق والموصل مع صاحب إربل فهابوهم، وعرّجوا إلى همذان، فحاربهم أهلها أشد محاربة في العام المقبل، وأخذوها بالسيف وأحرقوها. ثم نزلوا على بيلقان [1] وأخذوها بالسيف، وقتلوا بلا استثناء، ثم حاربوا الكرج أيضا وقتلوا منهم نحو ثلاثين ألفا. ثم سلكوا طرقا وعرة في جبال دربند شروان [2] وانبثوا في تلك الأراضي وبها اللّان، واللكز، وطوائف من التّرك، وفيهم قليل مسلمون، فاجتمعوا والتقوا وكانت الدّبرة على اللّان. ثم بيّتوا القفجاق وقتلوا وسبوا وأقاموا بتلك الدّيار، ووصلوا إلى سوادق [3] وهي مدينة القفجاق فملكوها، وأقاموا هناك إلى سنة عشرين وستمائة.
ولما تمكّن الطاغية جنكزخان، وعتا وتمرّد، وأباد الأمم، وأذلّ العرب والعجم، قسّم عساكره، وجهز كل فرقة إلى ناحية من الأرض، ثم عادت إليه أكثر عساكره إلى سمرقند، فلا يقال: كم أباد هؤلاء من بلد، وإنما يقال:
كم بقي.
وكان خوارزم شاه محمد بطلا مقداما هجّاما، وعسكره أوباشا [4] ليس لهم ديوان ولا إقطاع، بل يعيشون من النهب والغارات. وهم تركيّ كافر، أو مسلم جاهل، لم يعرفوا تعبئة العسكر في المصافّ، ولم يدمنوا إلّا على
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «سلفان» والتصحيح من «العبر» (5/ 65) و «تاريخ الإسلام» (62/ 43) وانظر «آثار البلاد وأخبار العباد» ص (513) .
[2] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «سروان» والتصحيح من «العبر» و «تاريخ الإسلام» .
[3] تحرفت في «العبر» بطبعتيه إلى «سوراق» بالراء فتصحح، وانظر «الكامل» لابن الأثير (12/ 386) و «تاريخ الإسلام» (62/ 44) . قال ابن الأثير في «الكامل» : سوداق مدينة القفجاق وهي على بحر الخزر. وهو المعروف الآن ببحر قزوين.
[4] في «العبر» طبع الكويت: «أوشابا» وفي «العبر» طبع بيروت: «أو شابا» وقد فصل محققه بين «أو» و «شابا» ! وصواب اللفظة كما أراده صاحب «العبر» : «أو شابا» .
قال الفيروزآبادي في «القاموس المحيط» (وشب) : الأوشاب: الأوباش والأخلاط واحده:
وشب بالكسر.

(7/130)


المهاجمة، ولا لهم زرديّات ولا عدد جيدة [1] . ثم إنه كان يقتل بعض القبيلة ويستخدم باقيها، ولم يكن فيه شيء من المداراة ولا التؤدة لا لجنده ولا لعدوّه، وتحرّش بالتتار وهم يغضبون على من يرضيهم، فكيف بمن يغضبهم ويؤذيهم، فخرجوا عليه وهم بنو أب وأولو كلمة مجتمعة وقلب واحد ورئيس مطاع، فلم يمكن أن يقف مثل خوارزم شاه بين أيديهم، ولكل أجل كتاب، فطووا الأرض، وكلّت أسلحتهم وتكلكلت أيديهم مما قتلوا من النساء والأطفال، فضلا عن الرجال، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 قال ابن الأثير [2] : والتتار نوع من التّرك يسجدون للشمس عند شروقها، ويأكلون لحم بني آدم والدواب لا غير، ويأتي المرأة غير واحد، فإذا جاءت بولد لا يعرف من أبوه. ومساكنهم جبال طغماج [3] من نحو الصين.
ملكوا الدّنيا في سنة واحدة. دوابهم التي تحمل أثقالهم تحفر الأرض وتأكل شروش العشب [4] ولا تعرف الشعير.
وفيها توفي قاضي القضاة زكي الدّين [الطّاهر] بن قاضي القضاة محيي الدّين محمد بن الزّكي القرشي الدمشقي [5] . ولي قبل ابن الحرستاني، ثم بعده، وكان ذا هيبة وحشمة وسطوة، وكان الملك المعظّم يكرهه. فاتفق أن زكي الدّين طالب جابي العزيزيّة [6] بالحساب، فأساء الأدب
__________
[1] في «العبر» بطبعتيه: «ولا عدد جند» .
[2] انظر «الكامل» لابن الأثير (12/ 360) وقد نقل عنه بتصرف واختصار.
[3] طغماج: مدينة مشهورة كبيرة من بلاد الترك ذات قرى كثيرة. انظر «آثار البلاد وأخبار العباد» ص (411) .
[4] في «الكامل» لابن الأثير: «وتأكل عروق النبات ... » .
[5] انظر «العبر» (5/ 67) و «تاريخ الإسلام» (62/ 302- 304) وما بين الحاصرتين مستدرك منهما.
[6] العزيزية: من مدارس الشافعية التي كانت قديما بدمشق الشام. انظر «الدارس في تاريخ المدارس» للنعيمي (1/ 382) .

(7/131)


بين يديه [1] ، فأمر بضربه بين يديه، فوجد المعظّم سبيلا إلى أذيّته، فبعث إليه بخلعة أمير قباء وكلّوته [2] وألزمه بلبسهما في مجلس حكمه ففعل، ثم قام فدخل ولزم بيته ثم مات كمدا.
يقال: إنه رمى قطعا من كبده، ومات في صفر كهلا وندم المعظّم.
وفيها الشيخ عبد الله اليونيني، وهو ابن عثمان بن عبد العزيز بن جعفر [3] ، الزاهد الكبير، أسد الشام. كان شيخا كبيرا [4] مهيبا طوالا، حادّ الحال، تامّ الشجاعة، أمّارا بالمعروف، نهاء عن المنكر، كثير الجهاد، دائم الذّكر، عظيم الشأن، منقطع القرين، صاحب مجاهدات وكرامات. كان الأمجد صاحب بعلبك يزوره، فكان يهينه ويقول يا أميجد [5] أنت تظلم وتفعل. وهو يعتذر إليه، وقيل: كان قوسه ثمانين رطلا، وما كان يبالي بالرجال قلّوا أم كثروا.
وكان ينشد هذه الأبيات ويبكي [6] :
شفيعي إليكم طول شوقي إليكم ... وكل كريم للشفيع قبول
وعذري إليكم أنني في هواكم ... أسير ومأسور الغرام ذليل
__________
قال أبو شامة في «ذيل الروضتين» ص (117- 118) : جابي المدرسة المضروب هو السديد خطيب عقربا، واسمه: سالم بن عبد الرزاق بن يحيى بن عمر بن كامل العقرباني.
[1] كذا في «آ» و «ط» : «فأساء الأدب بين يديه» وفي «العبر» : «فأساء الأدب عليه» وفي «تاريخ الإسلام» : فأغلظ له في الخطاب» .
[2] في «آ» و «ط» : «وكالوته» والتصحيح من «العبر» بطبعتيه و «ذيل الروضتين» و «تاريخ الإسلام» .
[3] انظر «العبر» (5/ 67- 68) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 101- 103) و «تاريخ الإسلام» (62/ 304- 312) .
[4] لفظة «كبيرا» لم ترد في «ط» و «العبر» مصدر المؤلف.
[5] كذا في «آ» و «ط» : «يا أميجد» وفي «العبر» بطبعتيه و «تاريخ الإسلام» : «يا مجيد» .
[6] الأبيات في «العبر» و «تاريخ الإسلام» (62/ 311) .

(7/132)


فإن تقبلوا عذري فأهلا ومرحبا ... وإن لم تجيبوا [1] فالمحبّ حمول
سأصبر لا عنكم ولكن عليكم ... عسى لي إلى ذاك الجناب وصول
قاله في «العبر» .
وقال السخاوي: اقتات سنة بثلاثة دراهم، اشترى بدرهم دقيقا، وبدرهم سمنا، وبدرهم عسلا، ولتّه وجعله ثلاثمائة وستين كبّة، كان يفطر كل ليلة على كبّة. وقيل: إنه عمل مرة مجاهدة تسعين يوما، يفطر كل ليلة على حمّصة حتّى لا يواصل. وكان يأكل كل عشرة أيام أكلة.
وعن الشيخ علي الشبلي قال: احتاجت زوجتي إلى مقنعة، فقلت:
عليّ دين خمسة دراهم، فمن أين أشتري لك مقنعة؟ فنمت فرأيت من يقول لي: إذا أردت أن تنظر إلى إبراهيم الخليل فانظر إلى الشيخ عبد الله بن عبد العزيز، فلما أصبحت أتيته بقاسيون، فقال لي: ما لك يا علي؟ اجلس، وقام إلى منزله وعاد ومعه مقنعة في طرفها خمسة دراهم، فأخذتها ورجعت [2] .
انتهى.
وقال ابن شهبة في «تاريخ الإسلام» : أصله من قرية من قرى بعلبك يقال لها: يونين [3] . كان صاحب رياضات وكرامات ومجاهدات، ولم يقم لأحد قطّ تعظيما لله تعالى، ولا ادّخر، ولا لمس بيده دينارا ولا درهما، زاهدا عفيفا، ما لبس قطّ سوى الثوب الخام وقلنسوة من جلود الغنم تساوي نصف درهم.
وقال القاضي يعقوب قاضي البقاع: كنت يوما بدمشق عند الجسر الأبيض في مسجد هناك وقت الحرّ، وإذا بالشيخ عبد الله قد نزل يتوضأ وإذا
__________
[1] في «آ» و «ط» : «وإن لم تحنوا» وما أثبته من «العبر» و «تاريخ الإسلام» .
[2] أقول: ليس معنى ذلك، أنه يعلم الغيب، فإنه لا يعلم ذلك إلا الله تعالى، وإنما جاءت عفوا. (ع) .
[3] قال الزّبيدي في «تاج العروس» (يون) : يقال لها «يونان» و «يونين» بالضم.

(7/133)


بنصرانيّ عابر على الجسر ومعه بغل عليه حمل خمر، فعثر البغل على الطريق ووقع الحمل على الطريق وليس في الطريق أحد، فصعد الشيخ وصاح بي: يا فقيه تعال، فجئت، فقال: عاوني، فعاونته حتّى حمّل الحمل على البغل، وذهب النصراني، فقلت في نفسي: مثل الشيخ يفعل هذا! ثم مشيت خلف البغل إلى العقيبة، فجاء إلى دكان الخمّار وحطّ الحمل وفتح الظروف، فإذا هي قد صارت خلّا، فقال الخمّار: ويحك هذا خلّ، فبكى وقال:
والله ما كانت إلّا خمرا [1] ، وإنما أنا أعرف العلّة، ثم ربط البغل في الحال وصعد إلى الجبل إلى عند الشيخ فدخل عليه وقال: يا سيدي أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وصار فقيرا من فقرائه.
ولما قدم الشيخ حمص للغزاة قدّم له [2] الملك المجاهد أسد الدّين حصانا من خيله، فركبه الشيخ ودخل في العدو، فعمل العجائب، وما قامت غزاة بالشام قطّ إلّا حضرها.
ولما كان يوم الجمعة في عشر ذي الحجّة، صلى الصبح بجامع بعلبك، واغتسل قبل صلاة الجمعة. وجاء داود المؤذن وكان يغسّل الموتى، فقال: ويحك يا داود، أنظر كيف تكون غدا؟ فما فهم داود، وقال: يا سيدي غدا نكون في خفارتك، وصعد الشيخ إلى المغارة، وكان قد أمر الفقراء أن يقطعوا صخرة عند اللّوزة التي كان ينام بجانبها، فقطعوها، فأصبح الشيخ، فصلى الصبح، وصعد إلى الخصرة والفقراء يتممون قطعها والسّبحة في يده، فطلعت الشمس وقد فرغوا منها والشيخ نائم والسّبحة في يده، فجاء خادم من القلعة في شغل فرآه قاعدا نائما، فما تجاسر أن يوقظه، فطال عليه ذلك، فقال: يا عبد الصمد! ما أقدر أقعد أكثر من هذا، فتقدم وقال: يا سيدي فما تكلّم فحركه، فإذا هو ميت، فارتفع الصياح، وجاء صاحب بعلبك فرآه على
__________
[1] أقول: هذا من المبالغات التي لا سند لها. (ع) .
[2] لفظة «له» لم ترد في «ط» .

(7/134)


تلك الحال فقال: ابنوا عليه بنيانا وهو على حالته، فقالوا: اتّباع السّنّة أولى، وجاء داود المؤذن فغسّله عند اللّوزة، وذلك يوم السبت وقد تجاوز الثمانين سنة، وقبره يزار ببعلبك، رحمه الله.
وفيها أبو المظفّر بن السمعاني فخر الدّين عبد الرحيم بن الحافظ أبي سعيد عبد الكريم بن الحافظ أبي بكر محمد بن الإمام أبي المظفّر منصور بن محمد التميمي المروزي [1] الشافعي الفقيه المحدّث، مسند خراسان.
ولد سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وروى كتبا كبارا، منها «البخاري» و «مسند الحافظ أبي عوانة» و «سنن أبي داود» و «جامع الترمذي» و «تاريخ الفسوي» و «مسند الهيثم بن كليب» . سمع من وجيه الشحّامي، وأبي الأسعد القشيري، وخلق. رحّله أبوه إليهم بمرو، ونيسابور، وهراة، وبخارى، وسمرقند، ثم خرّج له أبوه «معجما» في ثمانية عشر جزءا، وكان مفتيا عارفا بالمذهب، وروى الكثير، ورحل الناس إليه، وسمع منه الحافظ أبو بكر الحازمي، ومات قبله بدهر، وحدّث عنه الأئمة: ابن الصلاح، والضياء المقدّسي، والزّكي البرزالي، والمحب بن النجّار. وخرّج لنفسه «أربعين حديثا» وانتهت إليه رئاسة الشافعية ببلده، وختم به البيت السمعاني. عدم في دخول التتار ومرّ في آخر العام.
وفيها قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى العلوي الحسنيّ [2] ، صاحب مكّة أبو عزيز [3] . عاش أكثر من ثمانين سنة.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 68- 69) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 107- 109) و «تاريخ الإسلام» (62/ 313- 316) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الحسيني» والتصحيح من المصادر المذكورة في التعليق التالي.
[3] انظر «العبر» (5/ 69) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 159- 160) و «تاريخ الإسلام» (62/ 323- 324) و «العقد الثمين» (7/ 39- 61) .

(7/135)


وفيها خوارزم شاه محمد بن تكش السلطان الكبير علاء الدين [1] . كان ملكا جليلا أصيلا، عالي الهمّة، واسع الممالك، كثير الحروب، ذا ظلم وجبروت وغور ودهاء. تسلطن بعد والده علاء الدّين تكش، فدانت له الملوك، وذلّت له الأمم، وأباد أمة الخطا، واستولى على بلادهم إلى أن قهر بخروج التتار الطغماجية عسكر جنكزخان، واندفع قدّامهم، فأتاه أمر الله من حيث لا يحتسب، فما وصل إلى الرّيّ إلّا وطلائعهم على رأسه، فانهزم إلى قلعة برجين [2] وقد مسّه النصب، فأدركوه وما تركوه يبلع ريقه، فتحامل إلى همذان، ثم إلى مازندران، وقعقعة سلاحهم قد ملأت مسامعه، فنزل ببحيرة هناك، ثم مرض بالإسهال، وطلب الدواء فأعوزه، ومات. فقيل: إنه حمل إلى دهستان في البحر.
وأما ابنه جلال الدّين [3] فتقاذفت به البلاد وألقته بالهند، ثم رمته الهند إلى كرمان، وقيل: بلغ عدد جيشه ثلاثمائة ألف، وقيل: أكثر من ذلك.
وفيها أبو عبد الله شهاب الدّين محمد بن أبي المكارم الفضل بن بختيار بن أبي نصر البعقوبي [4] الخطيب الواعظ الحنبلي ويعرف بالحجّة [5] .
__________
[1] انظر «الكامل في التاريخ» (12/ 371- 372) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 139- 143) و «تاريخ الإسلام» (62/ 326- 337) و «العبر» (5/ 69- 70) .
[2] في «بلدان الخلافة الشرقية» ص (187) : وتعرف اليوم «أسّار لك» .
[3] أخباره مبسوطة في أماكن متفرقة من الجزء الثاني عشر من «الكامل في التاريخ» .
[4] تصحفت في «آ» و «ط» و «ذيل طبقات الحنابلة» إلى «اليعقوبي» والتصحيح من «التكملة لوفيات النقلة» .
واليعقوبي: نسبة إلى «بعقوبا» قرية كبيرة كالمدينة بينها وبين بغداد عشر فراسخ. انظر «معجم البلدان» (1/ 453) .
[5] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 13- 14) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 123) .

(7/136)


ذكر أن مولده في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ببعقوبا [1] ، وسمع ببغداد من ابن الجوزي وطبقته، ومن أبي الوقت، والشيخ عبد القادر [2] وولي الخطابة ببلده بعقوبا [3] ، وحدّث بها وبإربل وغيرهما، وحدّث بأحاديث فيها وهم، فعرف الخطأ فيها فترك روايتها، وصنّف كتاب «غريب الحديث» و « «شرح العبادات الخمس» لأبي الخطّاب وقرأه على أبي الفتح بن المنّي سنة إحدى وثمانين، وكتب له عليه، قرأه على مصنّفه الشيخ الأجل العالم الفقيه بهاء الدّين حجّة الإسلام قراءة عالم بما فيه من غرائب الفوائد وعجائب الفرائد.
توفي في جمادى الأولى بدقوقا ودفن بها.
وفيها صدر الدّين، شيخ الشيوخ، أبو الحسن، محمد بن شيخ الشيوخ عماد الدّين عمر بن علي الجويني [4] .
برع في مذهب الشافعي، وسمع من يحيى الثقفي، ودرّس وأفتى، وزوّجه شيخه القطب النيسابوري بابنته فأولدها الإخوة الأمراء الأربعة، ثم ولي بمصر تدريس الشافعي، ومشهد الحسين، وبعثه الكامل رسولا يستنجد بالخليفة وجيشه على الفرنج، فأدركه الموت بالموصل. أجاز له أبو الوقت [السّجزيّ] وجماعة، وكان كبير القدر.
وفيها الشيخ الكبير الشهير، كبير الشأن، ظاهر البرهان، المبارك على أهل زمانه، محمد بن أبي بكر الحكمي اليمني [5] ، نفع الله به. نشأ في
__________
[1] في «آ» و «ط» : «بيعقوبا» وهو تصحيف والتصحيح من «التكملة لوفيات النقلة» .
[2] يعني الجيلاني.
[3] في «آ» و «ط» : «يعقوبا» .
[4] انظر «العبر» (5/ 70- 71) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 79- 80) و «تاريخ الإسلام» (62/ 340- 341) ولفظة «السجزي» التي بين الحاصرتين زيادة منه.
[5] انظر «غربال الزمان» ص (500- 501) .

(7/137)


السلوك في بلده المصبرا- بفتح الميم وسكون الصاد المهملة وكسر الباء الموحدة وقبل الألف راء، بلدة من نواحي رحبان- وبها قبر والده، ثم انتقل إلى ذوال ثم إلى سهام، وصحب بها الفقيه العالم الصالح المصلح محمد بن حسين البجليّ، وأخذ خرقة التصوف القادرية عن الشيخ علي الحداد، وسكن مع البجلي في عواجة حتّى مات هناك، ومات البجليّ بعده سنة إحدى وعشرين وستمائة، وقبراهما متلاصقان، وإلى جانبهما علي بن الحسين البجلي، ولهما زاوية محترمة، وذكر واسع، وكرامات جمّة، وذريّة أخيار، نعدد فيهم الصلحاء العلماء، وبصحبتهما ومحبتهما في الله يضرب المثل.
قاله ابن الأهدل.
وفيها صاحب حماة الملك المنصور محمد بن المظفّر تقي الدّين عمر بن شاهنشاه بن أيوب [1] . سمع من أبي الطاهر بن عوف، وجمع «تاريخا» على السنين في مجلدات.
وقد تملّك حماة بعده ولده الناصر قلج أرسلان، فأخذها منه الكامل وسجنه ثم أعطاها لأخيه الملك المظفّر.
وفيها المؤيد بن محمد بن علي بن حسن رضي الدّين أبو الحسن الطّوسي [2] المقرئ، مسند خراسان.
ولد سنة أربع وعشرين وخمسمائة [3] ، وسمع «صحيح مسلم» من الفراوي، و «صحيح البخاري» من جماعة، وعدة كتب وأجزاء، وانتهى إليه علو الإسناد بنيسابور، ورحل إليه من الأقطار.
توفي ليلة الجمعة العشرين من شوال.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 71) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 146- 147) و «تاريخ الإسلام» (62/ 341- 343) .
[2] انظر «العبر» (5/ 71) و «تاريخ الإسلام» (62/ 346- 348) .
[3] لفظة «وخمسمائة» لم ترد في «ط» .

(7/138)


وفيها ناصر بن مهدي الوزير نصير الدّين العجمي [1] قدم من مازندران سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فوزر للخليفة الناصر سنتين ثم قبض عليه سنة أربع وستمائة، وعاش إلى هذا الوقت، توفي في جمادى الأولى.
وفيها ابن هلالة الحافظ عبد العزيز بن الحسين [2] كان حافظا نقادا مجودا.
قال ابن ناصر الدين في «بديعته» [3] :
ثمّ فتى هلالة الطّبيري ... يفوح زهر خيره الكثير
وأثنى عليه في شرحها.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 71) و «تاريخ الإسلام» (62/ 348) .
[2] انظر «تاريخ الإسلام» (62/ 316- 317) و «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (173/ ب) .
[3] (24/ آ) مصورة المكتبة الأحمدية بحلب.

(7/139)


سنة ثمان عشرة وستمائة
استهلت والدّنيا تغلي بالتتار، وتجمّع إلى السلطان جلال الدّين بن خوارزم شاه كل عساكره، والتقى تولي خان بن جنكزخان، فانكسر تولي خان وأسر من التتار خلق وقتل آخرون ولله الحمد، فقامت قيامة جنكزخان، واشتد غضبه إذ لم ينهزم له جيش قبلها، فجمع جيشه وسار بهم إلى ناحية السّند، فالتقاه جلال الدّين في شوال من السنة، فانهزم جيشه أيضا وثبت هو وطائفة، ثم ولى جنكزخان منهزما وكادت الدائرة تدور عليه لولا كمين عشرة آلاف خرجوا على المسلمين، فطحنت الميمنة وأسروا [1] ولد السلطان جلال الدين فتبدد نظامه وتقهقر إلى حافة السّند.
وأما بغداد فانزعج أهلها، وقنت المسلمون، وتأهب الخليفة واستخدم، وأنفق الأموال.
وفيها تملّك التتار مراغة وخرّبوها وأحرقوها، وقتلوا أكثر أهلها، وساروا إلى بلاد الروس.
وفيها سار الملك الأشرف ينجد أخاه الكامل، وسار معه عسكر الشام.
وخرجت الفرنج من دمياط بالفارس والراجل أيام زيادة النيل، فنزلوا
__________
[1] في «ط» : «وأسرو» وهو خطأ، وفي «العبر» : «وأسر» .

(7/140)


على ترعة، فبثق المسلمون عليها النيل، فلم يبق لهم وصول إلى دمياط، وجاء الأسطول فأخذوا مراكب الفرنج، وكانوا مائة كند [1] وثمانمائة فارس، فيهم صاحب عكا وخلق من الرجّالة، فلما عاينوا الخذلان تطلبوا الصلح على أن يسلّموا دمياط إلى الكامل، فأجابهم، ثم جاءه أخواه بالعساكر في رجب، فعمل سماطا عظيما، وأحضر ملوك الفرنج وأنعم عليهم، ووقف في خدمته المعظّم والأشرف، وكان يوما مشهودا، وقام راجح الحلّي [2] فأنشد قصيدة منها:
ونادى لسان الكون في الأرض رافعا ... عقيرته في الخافقين ومنشدا
أعبّاد عيسى إن عيسى وحزبه ... وموسى جميعا ينصران محمّدا
وأشار إلى الإخوة الثلاثة.
وفيها توفي الشيخ الزاهد القدوة نجم الدّين أبو الجناب الخيوقي أحمد بن عمر بن محمد [3] الصوفي المحدّث، شيخ خوارزم، ويقال له الكبرى. رحل [إلى] الأقطار راكبا وماشيا، وأدرك من المشايخ ما لا يحصى كثرة، ولبس خرقة التصوف النهر جورية من الشيخ إسماعيل القصري والسّهروردية للتبرك من الشيخ أبي ناصر عمّار بن ياسر، وسبق أقرانه في صغره إلى فهم المشكلات والغوامض، فلقبوه الطّامة الكبرى، ثم كثر استعماله، فحذفوا الطّامة وأبقوا الكبرى [4] .
وخيوق المنسوب إليها من قرى خوارزم.
__________
[1] جاء في حاشية «تاريخ الإسلام» (62/ 55) ما نصه: الكند: هو الكونت، ويجمعها المؤرخون المسلمون آنذاك على كنود.
[2] سترد ترجمته في ص (217) من هذا المجلد.
[3] انظر «العبر» (5/ 73) و «تاريخ الإسلام» (62/ 353- 355) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 111- 114) و «غربال الزمان» ص (501- 502) .
[4] وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (62/ 353) : سمعت أبا العلاء الفرضي يقول: إنما هو نجم الكبراء، ثم خفّف وغيّر، وقيل: نجم الدّين الكبرى.

(7/141)


سمع بهمذان من الحافظ أبي العلاء، وبالإسكندرية من السّلفي، وعني بمذهب الشافعي والتفسير، وله «تفسير» في اثنتي عشرة مجلدة، واجتمع به الإمام فخر الدّين الرّازي فاعترف بفضله.
قال عمر بن الحاجب: طاف البلاد، وسمع بها الحديث، واستوطن خوارزم، وصار شيخ تلك الناحية، وكان صاحب حديث وسنّة، ملجأ للغرباء، عظيم الجاه، لا يخاف في الله لومة لائم.
وقال ابن الأهدل: استشهد- رضي الله عنه- بخوارزم في فتنة التتار، وذلك أن سلطانها لما فرّ [1] ، جمع الشيخ أصحابه وكانوا نحو ستين، فقال لهم: ارتحلوا إلى بلادكم، فإنه قد خرجت نار من المشرق تحرق إلى قرب المغرب، وهي فتنة عظيمة ما وقع في هذه الأمة مثلها، فقال له بعضهم: لو دعوت برفعها، فقال: هذا قضاء محكم لا ينفع فيه الدعاء. فقالوا له: تخرج معنا، فقال: إني أقتل هاهنا [2] ، فخرج أصحابه.
فلما دخل الكفّار البلد، نادى الشيخ وأصحابه الباقون: الصلاة جامعة، ثم قال: قوموا نقاتل في سبيل الله، ودخل البيت ولبس خرقة شيخه، وحمل على العدو فرماهم بالحجارة، ورموه بالنبل، وجعل يدور ويرقص حتّى أصابه سهم في صدره فنزعه ورمى به نحو السماء، وفار الدم وهو يقول: إن أردت فاقتلني بالوصال أو بالفراق، ثم مات، ودفن في رباطه، رحمه الله تعالى.
وفيها عبد الرحيم بن النّفيس بن هبة الله بن وهبان بن رومي بن سلمان بن محمد بن سلمان بن صالح بن محمد بن وهبان السّلمي الحديثي ثم البغدادي أبو نصر [3] الفقيه الحنبلي المحدّث.
ولد في عاشر ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة ببغداد، وسمع الكثير
__________
[1] في «ط» : «لما قد» وهو خطأ وفي «غربال الزمان» : «لما مرّ» .
[2] أقول: هذا أيضا من المبالغات، ولا يعلم الغيب إلا الله. (ع) .
[3] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 128- 130) .

(7/142)


من أبي الفتح بن شاتيل وخلق، وبالغ في الطلب، وارتحل فيه إلى الشام، والجزيرة، ومصر، والعراق، وخراسان، وما وراء النهر، وخوارزم، وتفقه في المذهب، وتكلّم في مسائل الخلاف. وحدّث ببغداد ودمشق وغيرهما.
قال ابن النجار: كان مليح الخطّ، صحيح النقل والضبط، حافظا، متقنا، ثقة، صدوقا، له النظم والنثر الجيد. كان من أكمل الناس ظرفا ولطفا، وحسن خلق، وطيب عشرة وتواضع، وكمال مروءة، ومسارعة إلى قضاء حوائج الإخوان.
ومن شعره:
سلوا فؤادي هل صفا شربه ... منذ [1] نأيتم عنه أو راقا؟
وهل يسلّيه إذا غبتم ... إن أودع التسليم أوراقا؟
قتل شهيدا في فتنة التتار بخراسان.
وفيها أبو القاسم عبد الغني بن قاسم بن عبد الرزاق بن عيّاش الهلباوي المقدسي الأصل المصري [2] ، الفقيه الحنبلي الزاهد.
سمع بمصر من البوصيري وغيره، وتفقّه في المذهب، وانقطع إلى الحافظ عبد الغني [3] ولازمه، وكتب عنه كثيرا من مصنّفاته وغيرها. ذكر ذلك المنذري. وقال: سمع معنا من جماعة من شيوخنا، وصحب جماعة من المشايخ، وكان صالحا مقبلا على مصالح نفسه، منفردا، قانعا باليسير، يظهر التجمل مع ما هو عليه من الفقر، وحدّث.
وتوفي ليلة ثامن عشر صفر ودفن من الغد بسفح المقطّم.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «مذ» وما أثبتناه يقتضيه الوزن.
[2] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 35) و «تاريخ الإسلام» (62/ 365) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 123- 124) وقد تحرفت «الهلباوي» فيه إلى «الهناوي» .
[3] يعني المقدسي كما جاء مبينا في «التكملة» .

(7/143)


وفيها عبد المعزّ بن محمد بن أبي الفضل بن أحمد أبو روح الهرويّ البزّاز ثم الصوفي [1] ، مسند العصر.
ولد سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، وسمع من تميم الجرجاني، وزاهر الشحّامي وطبقتهما، وله «مشيخة» في جزء. روى شيئا كثيرا، واستشهد في دخول التتار هراة في ربيع الأول، وهو آخر من كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعة أنفس ثقات. قاله في «العبر» .
وفيها أبو محمد عبد العزيز بن عبد الملك الشيباني الدمشقي [2] الحافظ. تكلم فيه ابن النجار بعدم تحريره في الحديث، وفقد بنيسابور لما دخلتها التتار بالسيف.
قال ابن ناصر الدّين [3] :
مثاله المفقود ذا الشيباني ... عبد العزيز اللّين المباني
أي الضعيف.
وفيها أبو الحسن علي بن ثابت بن طالب بن الطالباني البغدادي الأزجي [4] الفقيه الحنبلي الواعظ موفق الدّين.
سمع ببغداد من صالح ابن الرحلة، وشهدة، وسمع بالموصل من خطيبها أبي الفضل، وتفقه ببغداد على ابن المنّي، واشتغل بالموصل بالخلاف على ابن يونس الشافعي، وأقام بحرّان مدة عند الخطيب ابن تيمية، ثم جرى بينه وبينه نكد، فقدم دمشق ثم رجع وأقام برأس العين من أرض الجزيرة ووعظ هناك، وانتفع به.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 74) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 114- 115) .
[2] انظر «تاريخ الإسلام» (62/ 365) و «التبيان شرح بديعة البيان» (174/ آ) .
[3] في «بديعة البيان» (24/ آ) مصورة المكتبة الأحمدية بحلب.
[4] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 125- 128) .

(7/144)


قال ابن نقطة: سمعت منه وسماعه صحيح.
وقال المنذري: له اختيارات في المذهب.
وفيها القاسم بن المفتي أبي سعد عبد الله بن عمر أبو بكر بن الصفّار النيسابوري [1] الشافعي الفقيه.
روى عن جدّه العلّامة عمر بن أحمد الصفّار، ووجيه الشّحّامي، وأبي الأسعد القشيري، وطائفة، وكان مولده سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة.
استشهد في دخول التتار نيسابور في صفر.
وفيها الشهاب محمد بن خلف بن راجح بن بلال بن هلال بن عيسى بن موسى بن الفتح بن زريق المقدسي ثم الدمشقي [2] الإمام أبو عبد الله الحنبلي الفقيه المناظر.
ولد سنة خمسين وخمسمائة بجمّاعيل، ثم قدم دمشق وسمع بها من أبي المكارم بن هلال. وقدم مصر فسمع بها بالإسكندرية من السّلفي وأكثر عنه. وقدم بغداد فسمع من ابن الخشّاب، وشهدة وطبقتهم، وتفقه بها في المذهب والخلاف على ابن المنّي حتى برع. وكان بحاثا مناظرا مفحما للخصوم، ذا حظ من صلاح وأوراد وسلامة صدر. أمّارا بالمعروف نهّاء عن المنكر.
قال المنذري: لقيته بدمشق وسمعت منه، وكان كثير المحفوظات، متحريا في العبادات، حسن الأخلاق.
وقال أبو المظفّر سبط ابن الجوزي: كان زاهدا عابدا ورعا، فاضلا في
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 74- 75) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 139) .
[2] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 36- 37) و «العبر» (5/ 75) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 124- 125) .

(7/145)


فنون العلوم، وحفظ «المقامات الحريرية» في خمسين ليلة فتشوش خاطره، وكان يغسل باطن عينيه حتّى قلّ نظره. وكان سليم الصدر من الأبدال، ما خالف أحدا قطّ، رأيته يوما وقد خرج من جامع الجبل، فقال له إنسان:
ما تروح إلى بعلبك؟ فقال: بلى، فمشى من ساعته إلى بعلبك بالقبقاب.
وقال أبو شامة: كنت أراه يوم الجمعة قبل الزوال يجلس في درج المنبر السفلي بجامع الجبل، وبيده كتاب من كتب الحديث وأخبار الصالحين يقرؤه على الناس، إلى أن يؤذن المؤذن للجمعة.
وتوفي يوم الأحد سلخ صفر، ودفن بسفح قاسيون.
وفيها أبو عبد الله محمد بن عمر بن عبد الغالب العثماني المحدّث الدمشقي [1] . ديّن، صالح ورع. روى عن أحمد بن حمزة بن الموازيني، وابن كليب، وطبقتهم. توفي بالمدينة النبوية في المحرّم [2] كهلا.
وفيها أبو نصر موسى بن الشيخ عبد القادر الجيلي [3] .
روى عن أبيه، وابن ناصر، وسعيد بن البنّا، وأبي الوقت. وسكن دمشق، وكان عريا من العلم. توفي في أول جمادى الآخرة عن ثمانين سنة قاله في «العبر» .
وفيها أبو الفتوح برهان الدّين نصر بن محمد بن علي بن أبي الفرج أحمد بن الحصري الهمذاني البغدادي الحنبلي [4] المقرئ المحدّث الحافظ الزاهد الأديب. نزيل مكة.
ولد في شهر رمضان سنة ست وثلاثين وخمسمائة. وقرأ القرآن
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 75) و «تاريخ الإسلام» (62/ 384- 385) .
[2] في «آ» و «ط» : «في الحرم» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» و «تاريخ الإسلام» .
[3] انظر «العبر» (5/ 75) و «تاريخ الإسلام» (62/ 389) .
[4] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 130- 132) و «شذرات من كتب مفقودة» ص (204) .

(7/146)


بالروايات على أبي بكر بن الزّاغوني، وأبي الكرم الشهرزوري، وابن السمين، وابن الدجّاجي، وجماعة.
وسمع الحديث الكثير من أبي الوقت [السجزي] وغيره وخلق كثير.
منهم الشيخ عبد القادر [1] ، وعني بهذا الشأن، ثم خرج من بغداد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة فاستوطنها وأمّ بها بالحنابلة، وكان شيخا صالحا متعبدا.
قال ابن الدّبيثي: كان ذا معرفة بهذا الشأن [2] ونعم الشيخ كان، عبادة، وثقة.
قال ابن النجار- هو خاتمة أصحابه-: كان حافظا حجة نبيلا، جمّ الفضائل، كثير المحفوظ، من أعلام الدّين وأئمة المسلمين.
حدّث بالكثير ببغداد، ومكة، وسمع منه خلق كثير من الأئمة والحفاظ [3] ، منهم الدّبيثي، وابن نقطة، وابن النجار، والضياء، والبرزالي، وابن خليل.
وقال ابن الحنبلي: مات بالمهجم من أرض اليمن في شهر ربيع الآخر، وكان خروجه إلى اليمن بأهله لقحط وقع بمكة. وكان ذا عائلة، فنزح بهم إلى اليمن. في نحو سنة ثمان عشرة، أي هذه السنة.
وفيها هبة الله بن الخضر بن هبة الله بن أحمد بن طاووس السّديد أبو محمد الدمشقي [4] .
سمّعه أبوه من نصر الله المصّيصي، وابن البن، وكان كثير التلاوة.
توفي في جمادى الأولى.
__________
[1] يعني الجيلاني.
[2] يعني علوم الحديث.
[3] في «ط» : «من الأئمة الحفاظ» .
[4] انظر «تاريخ الإسلام» (62/ 390- 391) و «العبر» (5/ 76) .

(7/147)


وفيها أبو الدّر ياقوت بن عبد الله [1] الموصلي [2] الكاتب المجيد المشهور، الملقب أمين الدّين، المعروف بالملكي، نسبة إلى السلطان ملكشاه. سكن الموصل، وأخذ النحو عن ابن الدهّان، وكان ملازما قراءة «ديوان» المتنبي و «المقامات» وكتب بخطّه الكثير، وانتشر خطّه في الآفاق، وكان خطّه في نهاية الحسن، ولم يؤدّ أحد طريقة ابن البوّاب مثله، مع فضل غزير ونباهة، وكان مغرى بنقل «صحاح» الجوهري، وكتب منها نسخا كثيرة كل نسخة في مجلد، وكتب عليه خلق كثير وانتفعوا به، وكانت له سمعة كثيرة في زمنه، مات في هذه السنة وقد أسنّ وتغيّر خطّه كثيرا.
وفيها سالم بن سعادة الحمصي [3] الشاعر، مات بحلب.
ومن شعره:
وروض أريض من شقيق ونرجس ... لنوريهما من تحت قضب الزّبرجد
خدود عقيق تحت خالات عنبر ... وأجفان درّ حول أحداق عسجد
وفيها جلال الدّين [الحسن، حفيد] الحسن [بن] الصّبّاح [4] ، صاحب الألموت، وكردكوه [5] ، وهو مقدّم الإسماعيلية، وكان قد أظهر شريعة الإسلام من الأذان وغيره وولّى بعده ولده الأكبر.
__________
[1] تنبيه: في «آ» و «ط» : «ياقوت المستعصمي بن عبد الله الموصلي» وهو وهم من المؤلف رحمه الله، والصواب حذف لفظة «المستعصمي» لأنها سبقت إلى ذهن المؤلف فإن ياقوتا المستعصمي مات سنة (698) كما سيأتي في أواخر أحداثها من هذا الكتاب ص (773) لذا قمت بحذفها.
[2] انظر «وفيات الأعيان» (6/ 119- 122) و «النجوم الزاهرة» (5/ 283) .
[3] لم أقف على ترجمة له فيما بين يدي من المصادر.
[4] انظر «الكامل في التاريخ» (12/ 405) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 158- 159) و «تاريخ الإسلام» (62/ 358) وما بين الحاصرتين مستدرك منه.
[5] في «آ» و «ط» : «ودردكوه» وما أثبته من «الكامل في التاريخ» .

(7/148)


سنة تسع عشرة وستمائة
فيها توفي أبو طالب أحمد بن عبد الله بن الحسين بن حديد الكناني الإسكندراني المالكي [1] .
روى عن السّلفي وجماعة، وهو من بيت قضاء وحشمة. توفي في جمادى الآخرة.
وفيها ابن الأنماطي الحافظ تقي الدّين أبو الطاهر إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن المصري الشافعي [2] .
قال عمر بن الحاجب: كان إماما ثقة حافظا، مبرّزا، واسع الرواية، وعنده فقه وأدب ومعرفة بالشعر وأخبار الناس. قال: وسألت الحافظ الضياء عنه فقال: حافظ ثقة مفيد إلّا أنه كان كثير الدعابة مع المرد.
وقال ابن النجار [3] : ولد سنة سبعين وخمسمائة، واشتغل من صباه، وتفقّه وأقرأ الأدب [4] وسمع الكثير، وقدم دمشق سنة ثلاث وتسعين، ثمّ حجّ سنة إحدى وستمائة وقدم مع الركب، وكانت له همّة وافرة وجدّ واجتهاد
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 76) و «تاريخ الإسلام» (62/ 395- 396) .
[2] انظر «العبر» (5/ 76) و «تاريخ الإسلام» (62/ 399- 400) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 134- 135) .
[3] في «آ» و «ط» : «ابن البخاري» والتصحيح من «طبقات الشافعية» للإسنوي.
[4] في «طبقات الشافعية» للإسنوي: «وافر الأدب» .

(7/149)


ومعرفة كاملة، وحفظ وفصاحة، وفقه، وسرعة فهم، واقتدار على النّظم والنثر. وكان معدوم النظير في وقته [1] .
قال الضياء: بات صحيحا فأصبح لا يقدر على الكلام أياما، واتصل به ذلك حتّى مات في رجب.
وفيها ثابت بن مشرّف أبو سعد [2] الأزجي البنّاء المعمار [3] . روى عن ابن ناصر والكروخي وطبقتهما فأكثر، وحدّث بدمشق وحلب، وتوفي في ذي الحجّة.
وفيها الشيخ عليّ بن [أبي بكر محمد بن عبد الله بن] إدريس اليعقوبيّ [4] الزاهد، صاحب الشيخ عبد القادر الكيلاني، سيّد زاهد عابد ربّاني متألّه، بعيد الصيت. توفي في ذي القعدة.
وفيها أبو الفضائل شهاب الدّين عبد الكريم بن نجم بن عبد الوهاب ابن عبد الواحد الشيرازي الدمشقي بن الحنبلي [5] الفقيه الحنبلي، أخو ناصح الدّين [عبد الرّحمن الآتي ذكره إن شاء الله تعالى، وهو أصغر من الناصح بتسع سنين. سمع ببغداد من نصر الله] [6] القزّاز. وأجاز له الحافظ أبو موسى المديني وغيره، وتفقّه، وبرع، وأفتى، وناظر، ودرّس بمدرسة جدّه بدمشق، وهي الحنبلية جوار الرواحية سكن بني الأسطواني.
__________
[1] في «ط» : «لي وقته» وهو خطأ.
[2] لفظة «أبو سعد» سقطت من «آ» .
[3] انظر «العبر» (5/ 76- 77) و «تاريخ الإسلام» (62/ 400- 401) .
[4] انظر «العبر» (5/ 77) و «تاريخ الإسلام» (62/ 409- 410) و «النجوم الزاهرة» (6/ 254) وما بين الحاصرتين مستدرك منهما وقد سقط من «العبر» بطبعتيه فيستدرك.
[5] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 132- 133) .
[6] ما بين الحاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» و «ذيل طبقات الحنابلة» .

(7/150)


قال أبو شامة: هو أخو البهاء والناصح، وهو أصغرهم، وكان أبرعهم في الفقه والمناظرة والمحاكمات، بصيرا بما يجري عند القضاة في الدعاوى والبينات.
وقال ابن السّاعي في «تاريخه» : كان فقيها، فاضلا، خيّرا، عارفا بالمذهب والخلاف.
وقال غيره: كان ذا قوة وشهامة، وانتزع مسجد الوزير من يد العلم السخاوي، وبقي للحنابلة.
توفي في [1] سابع ربيع الأول ودفن بسفح قاسيون.
وفيها العلّامة كمال الدّين علي بن محمد بن يوسف بن النّبيه [2] ، الكاتب الشاعر، صاحب ديوان رسائل الملك الأشرف موسى بن العادل، وله ديوان شعر مشهور كله ملح، فمن شعره:
بدر تمّ له من الشّعر هاله ... من رآه من المحبّين هاله
قصر الليل حين زار ولا غر ... وغزال غارت عليه الغزالة
يا نسيم الصّبا عساك تحمّل ... ت لنا من سكان نجد رسالة
كلّ مسعولة المراشف بيضا ... ء حمتها سمر القنا العسّاله
وله:
أمانا أيّها القمر المطلّ ... فمن جفنيك أسياف تسلّ
يزيد جمال وجهك كلّ يوم ... ولي جسد يذوب ويضمحلّ
يميل بطرفه التركيّ عنّي ... صدقتم إنّ ضيق العين بخل
__________
[1] لفظة «في» سقطت من «ط» .
[2] انظر «فوات الوفيات» (3/ 66- 73) و «تاريخ الإسلام» (62/ 410) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 178) .

(7/151)


أيا ملك [1] القلوب فتكت فيها ... وفتكك في الرّعية لا يحلّ
قليل الوصل يقنعها فإن لم ... يصبها وابل منه فطلّ
وله:
لماك والخدّ النّضر ... ماء الحياة والخضر
أخذتني يا تاركي ... أخذ عزيز مقتدر
أحلت سلواني على ... ضامن قلب منكسر
ونمت عن ذي أرق ... إذا غفا النّجم سهر
قد أضحت الترك به ... ذا العربيّ تفتخر [2]
وليّ عهد البدر إن ... غاب فإنّي منتظر
في خلقه وخلقه ... ما في الغزال والنّمر
ترعاه أحداق الورى ... فحيثما سار تسر
وفيها أبو العبّاس الخضر بن نصر الإربلي [3] الفقيه الشافعي، تفنن في العلوم، مع الزهد والورع، وهو أول من درّس بإربل، وله تصانيف حسان في التفسير والفقه، وله كتاب ذكر فيه ستا وعشرين خطبة للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلها مسندة، وانتفع به خلق كثير. قاله ابن الأهدل.
__________
[1] في «آ» : «أيا مالك» .
[2] رواية البيت في «فوات الوفيات» :
قلبي على الترك به ... ذا البدويّ يفتخر
[3] تنبيه: كذا أورد المؤلف ترجمته هنا في حوادث سنة (619) هـ وهو وهم منه تبع فيه ابن الأهدل وابن الأهدل تبع في ذلك اليافعي في «مرآة الجنان» (4/ 45- 46) وقد تبعهم في ذلك أيضا العامري في «غربال الزمان» ص (502) والصواب أنه مات سنة (567) والمتوفى سنة (619) إنما هو ابن أخيه (نصر بن عقيل) الذي سيترجم المؤلف له بعد قليل. انظر «وفيات الأعيان» (2/ 237- 238) و «طبقات الشافعية الكبرى» (7/ 83) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 118- 119) .

(7/152)


وفيها الحافظ محمد بن عبد الواحد بن إبراهيم بن مفرج الغافقي الملّاحي الأندلسي الغرناطي المالكي أبو القاسم [1] .
كان إماما، حافظا، مكثرا، من الأثبات. قاله ابن ناصر الدّين.
وفيها أبو القاسم نصر بن عقيل بن نصر الإربلي [2] .
ولد بإربل سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، وتفقه بها على عمه أبي العبّاس الخضر المتوفى في هذا العام أيضا [3] ، ثم توجه إلى بغداد سنة ستمائة، فآذاه متوليها [4] مظفّر الدّين، واستولى على أملاكه، فتوجه إلى الموصل سنة ست وستمائة، فأقبل عليه صاحبها الأتابك نور الدّين أرسلان شاه بن مسعود، وأحسن إليه، ورتّب له كفايته، ولم يزل مكرّما إلى أن مات بها في رابع عشر ربيع الآخر. ذكره التفليسي.
وفيها الشيخ يونس بن يوسف بن مساعد الشّيباني المخارقي القنيّي [5]- نسبة إلى القنيّة، قرية من نواحي ماردين [6]- وهذا شيخ الطائفة اليونسية أولي الشّطح وقلة العقل وكثرة الجهل، أبعد الله شرّهم.
وكان- رحمه الله- صاحب حال وكشف. يحكى عنه كرامات. قاله في «العبر» .
__________
[1] انظر «سير أعلام النبلاء» (22/ 162- 163) و «تاريخ الإسلام» (62/ 415- 416) و «التبيان شرح بديعة البيان» (174/ آ) .
[2] انظر «طبقات الشافعية الكبرى» (8/ 388) و «تاريخ الإسلام» (62/ 419) .
[3] سبق أن نبهت عند التعليق على ترجمة (الخضر بن نصر) المتقدمة قبل قليل إلى وهم المؤلف رحمه الله تعالى في إيراده مع وفيات هذا العام، وأن الصواب وفاته سنة (567) هـ.
[4] في «آ» و «ط» : «بتوليها» وما أثبته يقتضيه السياق.
[5] انظر «وفيات الأعيان» (7/ 256- 257) و «العبر» (5/ 77- 78) و «تاريخ الإسلام» (62/ 424- 426) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 178- 179) .
[6] قال ابن خلّكان: القنيّة: تصغير قناة.

(7/153)


وقال ابن خلّكان: سألت رجلا من أصحابه عنه فقال: كنا مسافرين والشيخ يونس معنا، فنزلنا في الطريق بين سنجار وعانة، وهي مخوفة فلم يقدر أحد منا ينام من شدة الخوف، ونام الشيخ يونس، فلما انتبه قلنا له:
كيف قدرت تنام؟ فقال: والله ما نمت حتّى جاء إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، وتدرك القفل، ورحلنا سالمين ببركة الشيخ يونس [1] .
ومن شعره مواليا:
أنا حميت الحمى وأنا سكنت [2] فيه ... وأنا رميت الخلائق في بحار التّيه
من كان يبغي العطا منّي أنا أعطيه ... أنا فتى ما أداني من به تشبيه
وله:
إذا صرت [3] سندانا فصبرا على الذي ... ينالك من مكروه دقّ المطارق
لعلّ اللّيالي أن تعيدك ضاربا ... فتضرب أعناق العدا بالبوارق
توفي بقريته القنيّة وقد ناهز التسعين، وقبره مشهور هناك.
__________
[1] هذا من المبالغات التي لا يقرها شرعنا الحنيف.
[2] كذا في «آ» و «ط» ، وفي «وفيات الأعيان» و «تاريخ الإسلام» : «سكنتو» .
[3] في «ط» : «إذا صوت» وهو تحريف.

(7/154)


سنة عشرين وستمائة
فيها كانت الملحمة الكبرى بين التتار وبين القفجاق والرّوس، وثبت الجمعان أياما، ثم انتصرت التتار وغسلوا [1] أولئك بالسيف.
وفيها توفي الشيخ أبو علي الحسن بن زهرة الحسيني النّقيب [2] ، رأس الشيعة بحلب، وعزّهم وجاههم وعالمهم. كان عارفا بالقراءات، والعربية، والأخبار، والفقه، على رأي القوم، وكان متعينا للوزارة، ونفذ رسولا إلى العراق وغيرها، واندكت الشيعة بموته.
وفيها الحسين [3] بن يحيى بن أبي الردّاد المصري، ويسمى أيضا محمدا [4] . كان آخر من روى بنفس مصر عن ابن رفاعة. توفي في ذي القعدة.
وفيها الشيخ موفق الدّين المقدسي أحد الأئمة الأعلام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي [5] صاحب التصانيف.
ولد بجمّاعيل سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وهاجر مع أخيه الشيخ أبي عمر سنة إحدى وخمسين، وحفظ القرآن، وتفقه، ثم ارتحل إلى بغداد،
__________
[1] في «آ» و «ط» : «وغلّوا» والتصحح من «العبر» بطبعتيه.
[2] انظر «العبر» (5/ 78) و «تاريخ الإسلام» (429- 430) .
[3] في «آ» و «ط» : «الحسن» والتصحيح من «العبر» و «تاريخ الإسلام» .
[4] انظر «العبر» (5/ 78- 79) و «تاريخ الإسلام» (430- 431) .
[5] انظر «العبر» (5/ 79- 80) و «تاريخ الإسلام» (62/ 434- 448) و «سير أعلام النبلاء» (22/ 165- 173) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 133- 149) و «القلائد الجوهرية» (2/ 465- 470) طبعة المجمع.

(7/155)


فأدرك الشيخ عبد القادر [1] ، فسمع منه، ومن هبة الله الدقّاق، وابن البطّي وطبقتهم، وتفقه على ابن المنّي حتّى فاق على الأقران، وحاز قصب السبق، وانتهى إليه معرفة المذهب وأصوله، وكان مع تبحّره في العلوم ويقينه، ورعا زاهدا تقيّا ربّانيا، عليه هيبة ووقار، وفيه حلم وتؤدة، وأوقاته مستغرقة للعلم والعمل، وكان يفحم الخصوم بالحجج والبراهين، ولا يتحرّج ولا ينزعج، وخصمه يصيح ويحترق.
قال الحافظ الضياء: كان تامّ القامة، أبيض، مشرق الوجه، أدعج العينين، كأن النّور يخرج من وجهه لحسنه، واسع الجبين، طويل اللّحية، قائم الأنف، مقرون الحاجبين، لطيف اليدين [2] ، نحيف الجسم، إلى أن قال: رأيت الإمام أحمد في النوم فقال: ما قصّر صاحبكم الموفق في شرح «الخرقي» [3] .
وسمعت أبا عمرو [4] بن الصلاح المفتي يقول: ما رأيت مثل الشيخ الموفق.
وسمعت شيخنا أبا بكر بن غنيمة المفتي ببغداد يقول: ما أعرف أحدا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلّا الشيخ الموفق.
قلت: جمع له الضياء ترجمة في جزءين، ثم قال: توفي في يوم عيد الفطر. قاله جميعه في «العبر» .
وذكر الناصح بن الحنبلي [5] : أنه حجّ سنة أربع وسبعين وخمسمائة،
__________
[1] يعني الجيلاني رحمه الله تعالى وهو عبد القادر بن موسى، وقد توفي ببغداد سنة (561) هـ.
[2] في «آ» و «ط» : «لطيف البدن» وما أثبته في «العبر» .
[3] يعني «مختصر الخرقي» ومعلوم أنه شرحه في كتابه العظيم «المغني» وسوف يذكر المؤلف ذلك بعد قليل.
[4] في «ط» : «أبا عمر» وهو خطأ.
[5] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 134) و «شذرات من كتب مفقودة» ص (186) وما بين الحاصرتين مستدركة منه.

(7/156)


ورجع مع وفد العراق إلى بغداد، وأقام بها [سنة] . واشتغلنا جميعا على الشيخ أبي الفتح [بن المنّي] ثم رجع إلى دمشق واشتغل بتصنيف كتاب «المغني في شرح الخرقي» فبلغ الأمل في إتمامه، وهو كتاب بليغ في المذهب، عشر مجلدات، تعب عليه وأجاد فيه، وجمّل به [1] المذهب. وقرأه عليه جماعة، وانتفع بعلمه طائفة كثيرة.
قال: ونشأ على سمت [2] أبيه وأخيه، في الخير، والعبادة، وغلب عليه الاشتغال بالفقه والعلم.
وقال سبط ابن الجوزي: كان إماما في فنون كثيرة، ولم يكن في زمانه- بعد أخيه أبي عمر، والعماد [3]- أزهد ولا أورع [4] منه. وكان كثير الحياء، عزوفا [5] عن الدّنيا وأهلها، هينا، لينا، متواضعا، محبا للمساكين، حسن الأخلاق، جوادا، سخيا، من رآه كأنما رأى بعض الصحابة، وكأن النّور يخرج من وجهه. كثير العبادة، يقرأ كل يوم وليلة سبعا من القرآن، ولا يصلي ركعتي السّنّة إلّا في بيته اتباعا للسّنّة. وكان يحضر مجالسي دائما بجامع دمشق وقاسيون.
وقال أبو شامة: كان شيخ الحنابلة موفق الدّين إماما من أئمة المسلمين، وعلما من أعلام الدّين في العلم والعمل، وصنّف كتبا حسانا في الفقه وغيره، عارفا بمعاني الأخبار والآثار. سمعت عليه أشياء، وجاءه مرّة الملك العزيز بن الملك العادل يزوره، فصادفه يصلي، فجلس بالقرب منه
__________
[1] لفظة «به» سقطت من «آ» .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «سمعت» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[3] أقول: أخوه أبو عمر: هو محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، المتوفى سنة (607) هـ وقد تقدم صفحة (50) .
والعماد: هو إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، أخو الحافظ عبد الغني المقدسي، توفي سنة (614) هـ وقد تقدم صفحة (105) من هذا المجلد (ع) .
[4] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «أروع» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .
[5] في «ط» : «عفوفا» وهو تحريف.

(7/157)


إلى أن فرغ من صلاته، ثم اجتمع به ولم يتجوز في صلاته. ومن أظرف [1] ما حكي عنه: أنه كان يجعل في عمامته ورقة مصرورة، فيها رمل يرمّل به ما يكتبه للناس من الفتاوى والإجازات وغيرها، فاتفق ليلة أن [2] خطفت عمامته، فقال لخاطفها: يا أخي خذ من العمامة الورقة المصرورة بما فيها وردّ العمامة أغطي بها رأسي وأنت في أوسع الحلّ مما في الورقة، فظن الخاطف أنها فضة، ورآها ثقيلة، فأخذها وردّ العمامة، وكانت صغيرة عتيقة، فرأى أخذ الورقة خيرا منها بدرجات، فخلّص الشيخ عمامته بهذا الوجه اللّطيف.
وقال أبو العباس بن تيمية: ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من الشيخ الموفق، رحمه الله.
وقال الضياء: كان- رحمه الله تعالى- إماما في القرآن، إماما في التفسير، إماما في علم الحديث ومشكلاته، إماما في الفقه، بل أوحد زمانه [فيه، إماما] [3] في علم الخلاف، أوحد زمانه في الفرائض، إماما في أصول الفقه، إماما في النحو، إماما في الحساب، إماما في النجوم السّيّارة والمنازل.
قال: ولما قدم بغداد قال له الشيخ أبو الفتح بن المنّي: اسكن هنا، فإن بغداد مفتقرة إليك، وأنت تخرج من بغداد ولا تخلّف فيها مثلك.
وكان العماد [4] يعظّم الموفق تعظيما كثيرا، ويدعو له، ويقعد بين يديه، كما يقعد المتعلم من العالم.
__________
[1] في «ط» : «ومن أطرف» .
[2] لفظة «أن» لم ترد في «آ» و «ذيل طبقات الحنابلة» .
[3] ما بين الحاصرتين سقط من «آ» .
[4] يعني عماد الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد بن سرور المقدسي، أخو الحافظ عبد الغني المقدسي، المتوفى سنة (614) هـ وقد تقدم صفحة (105) .

(7/158)


وقال ابن غنيمة: ما أعرف أحدا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلّا الموفق.
وقال أبو عمرو بن الصلاح: ما رأيت مثل الشيخ الموفق.
وقال الشيخ عبد الله اليونيني: ما أعتقد أن شخصا ممن رأيته حصل له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي يحصّل بها الكمال سواه، فإنه- رحمه الله- كان إماما كاملا في صورته ومعناه، من الحسن، والإحسان، والحلم، والسؤدد، والعلوم المختلفة، والأخلاق الحميدة، والأمور التي ما رأيتها كملت في غيره. وقد رأيت من كرم أخلاقه وحسن عشرته، ووفور حلمه، وكثرة علمه، وغزير فضله وفطنته [1] ، وكمال مروءته، وكثرة حيائه، ودوام بشره، وعزوف نفسه عن الدّنيا وأهلها، والمناصب وأربابها، ما قد عجز عنه كبار الأولياء، فإن رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- قال: «ما أنعم الله تعالى على عبد نعمة أفضل من أن يلهمه ذكره» [2] فقد ثبت بهذا أن إلهام الذكر أفضل [من] الكرامات، وأفضل الذكر ما يتعدى نفعه إلى العباد، وهو تعليم العلم والسّنّة، وأعظم من ذلك وأحسن ما كان جبلّة وطبعا، كالحلم، والكرم، والفضل [3] ، والعقل، والحياء، وكان قد جبله الله على خلق شريف، وأفرغ عليه المكارم إفراغا، وأسبغ عليه النّعم، فلطف به في كل حال.
وقال ابن رجب: كان كثير المتابعة للمنقول في باب الأصول وغيره، لا يرى إطلاق ما لم يؤثر من العبارات، ويأمر بالإقرار والإمرار لما جاء في
__________
[1] في «ط» : «وغزير فطنته» .
[2] ذكره الحافظ المنذري في «الترغيب والترهيب» (2/ 400) من رواية ابن أبي الدنيا عن أبي ذرّ رضي الله عنه بلفظ «ما من يوم وليلة إلا ولله عز وجل فيه صدقة يمنّ بها على من يشاء من عباده، وما من الله على عبد بأفضل من أن يلهمه ذكره» وصدّره بلفظ روي، وهذا دليل على ضعفه كما ذكر في مقدمته للكتاب، فهو حديث ضعيف.
وهو قطعة من حديث أبي ذر ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/ 236- 237) وقال:
رواه البزّار وفيه حسين بن عطاء، ضعّفه أبو حاتم وغيره، وذكره ابن حبّان في «الثقات» وقال:
يخطئ ويدلس.
[3] لفظة «والفضل» لم ترد في «ذيل طبقات الحنابلة» .

(7/159)


الكتاب والسّنّة من الصفات من غير تغيير ولا تكييف، ولا تمثيل ولا تحريف، ولا تأويل ولا تعطيل.
ومن تصانيفه في أصول الدّين «البرهان في مسألة القرآن» و «جواب مسألة وردت من صرخد في القرآن» جزء، و «الاعتقاد» [1] جزء، و «مسألة العلو» جزءان، و «ذم التأويل» جزء، و «كتاب القدر» جزءان، و «منهاج القاصدين في فضائل الخلفاء الراشدين» و «رسالة إلى الشيخ فخر الدّين بن تيمية في عدم تخليد أهل البدع في النار» و «مسألة في تحريم النظر في كتب أهل الكلام» .
ومن تصانيفه في الحديث « [مختصر العلل للخلّال» مجلد ضخم، و «مشيخة شيوخه» أجزاء كثيرة.
ومن تصانيفه في الفقه: «المغني» في عشر مجلدات، و «الكافي» [2] أربع مجلدات، و «المقنع» [3] مجلد] [4] و «مختصر الهداية» مجلد.
و «العمدة» مجلد صغير، و «مناسك الحج» جزء، و «ذم الوسواس» جزء، وفتاوى ومسائل منثورة، ورسائل شتى كثيرة [5] و «الروضة في أصول الفقه» مجلد.
__________
[1] واسمه الكامل «لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد» وقد طبع في دمشق عام (1391) هـ بمكتبة دار البيان بتحقيق والدي الأستاذ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله، ثم نشرته مكتبة الهدى في الرياض نشرة جديدة عام (1408) هـ اشتملت على زيادات وفوائد نافعة كتبها والدي في حواشي الكتاب. وهو كتاب صغير الحجم جمّ الفوائد لو عمل الإنسان بما فيه لكفاه إن شاء الله عن الخوض في الكتب المطولات في هذا الباب.
[2] وقد قام بتحقيقه والدي حفظه الله بالاشتراك مع زميله الأستاذ الشيخ شعيب الأرناؤوط، ونشره المكتب الإسلامي بدمشق في ثلاث مجلدات كبار عام (1382) هـ.
[3] وهو مطبوع في مصر طبعة قديمة صورت مرات عدة، وقد حصلت على مصورتين لنسختين خطيتين نفيستين منه.
[4] ما بين الحاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[5] في «آ» و «ط» : «ورسائل شيء كثير» وما أثبته من «ذيل طبقات الحنابلة» .

(7/160)


وله في اللغة والأنساب ونحو ذلك مصنفات. وله «كتاب التوابين» [1] و «كتاب المتحابين في الله» و «كتاب الرّقة والبكاء» وغير ذلك.
وانتفع بتصانيفه المسلمون عموما، وأهل المذهب خصوصا، وانتشرت واشتهرت بحسن قصده وإخلاصه، ولا سيما كتابه «المغني» فإنه عظم النفع به، حتّى قال الشيخ عزّ الدّين بن عبد السلام: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم [2] مثل «المجلّى و «المحلّى» [3] وكتاب «المغني» للشيخ موفق الدّين بن قدامة في جودتهما وتحقيق ما فيهما.
ونقل عنه أيضا أنه قال: ما طابت نفسي بالفتيا حتّى صار عندي نسخة «المغني» مع أنه كان يسامي الشيخ في زمانه.
وقال سبط ابن الجوزي: أنشدني الموفق لنفسه:
أبعد بياض الشّعر أعمر مسكنا ... سوى القبر إني إن فعلت لأحمق
يخبّرني شيبي بأني ميّت ... وشيكا وينعاني إليّ فيصدق
يخرّق عمري كل يوم وليلة ... فهل مستطيع رفو [4] ما يتخرّق [5]
كأني بجسمي فوق نعشي ممدّدا ... فمن ساكت أو معول يتحرّق
إذا سئلوا عني أجابوا وأعولوا ... وأدمعهم تنهلّ هذا الموفّق
وغيّبت في صدع من الأرض ضيّق ... وأودعت لحدا فوقه الصخر مطبق
__________
[1] وقد طبع في المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق أول مرة بتحقيق جورج المقدسي، ولكن تلك الطبعة جاءت خالية من الضبط والإتقان والشرح والبيان والتخريج والتوضيح والتعليق على المواطن المهمة، فتصدى لتحقيق ذلك كله والدي حفظه الله وصدرت الطبعة التي حققها منه عن دار البيان بدمشق عام (1389) هـ، ثم صورت مرات كثيرة في دور نشر مختلفة ببيروت. وقد قمت باختصاره بالاشتراك مع الأستاذ حسن مروة، ونشرته دار الخير بدمشق.
[2] قوله: «في العلم» لم يرد في «آ» .
[3] وهما للإمام ابن حزم الأندلسي، وقد شرح «المجلّى» بكتابه «المحلّى» . انظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 194) .
[4] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «رفق» .
[5] في «البداية والنهاية» لابن كثير (13/ 100) : «فهل مستطاع رقع ما يتخرق» . (ع) .

(7/161)


ويحثو عليّ التّرب أوثق صاحب ... ويسلمني للقبر من هو مشفق
فيا ربّ كن لي مؤنسا يوم وحشتي ... فإني لما أنزلته لمصدّق
وما ضرّني أني إلى الله صائر ... ومن هو من أهلي أبرّ وأرفق
ومن شعره أيضا:
لا تجلسنّ بباب من ... يأبى عليك دخول داره
وتقول حاجاتي إلي ... هـ يعوقها إن لم أداره
اتركه واقصد ربّها ... تقضى وربّ الدار كاره
وتفقه على الشيخ موفق الدّين خلق كثير، منهم ابن أخيه الشيخ شمس الدّين عبد الرحمن. وروى عنه جماعة من الحفّاظ وغيرهم، منهم ابن الدّبيثي، والضياء، وابن خليل، والمنذري، وعبد العزيز بن طاهر بن ثابت الخيّاط المقرئ.
وتوفي- رحمه الله تعالى- بمنزله بدمشق يوم السبت يوم عيد الفطر، وصلّي عليه من الغد، وحمل إلى سفح قاسيون فدفن به، وكان جمع عظيم لم ير مثله.
قال عبد الرحمن بن محمد [1] العلوي: كنا بجبل بني هلال، فرأينا على قاسيون ليلة العيد ضوءا عظيما، فظننا أن دمشق قد احترقت، وخرج أهل القرية ينظرون إليه، فوصل الخبر بوفاة الموفق، وسمّيت تربته بالروضة لأنه رؤي بعض الموتى المدفونون هناك في سرور عظيم، فسئل عن ذلك فقال: كنا في عذاب، فلما دفن عندنا الموفق صارت تربتنا روضة من رياض الجنة [2] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «محمد بن عبد الرحمن» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» و «القلائد الجوهرية» .
[2] أقول: في هذه القصة أيضا مبالغات. (ع) .

(7/162)


وقال سبط ابن الجوزي: كان له أولاد: محمد، ويحيى، وعيسى، ماتوا كلّهم في حياته، وله بنات. ولم يعقب من ولد الموفق سوى عيسى، خلّف ولدين صالحين وماتا وانقطع عقبه.
وفيها أبو أحمد عبد الحميد بن مرّي بن ماضي المقدسي [1] الفقيه الحنبلي، نزيل بغداد. سمع الكثير من ابن كليب وطبقته، وحدّث عنه بنسخة ابن عرفة، سمعها منه الحافظ الضياء، وتفقه في المذهب، وكان حسن الأخلاق، صالحا، خيّرا، متوددا.
توفي ليلة الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة، ودفن بباب حرب.
قال ابن النجار: أظنه جاوز الخمسين بيسير.
وفيها فخر الدّين أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الإمام المفتي الدمشقي الشافعي شيخ الشافعية بالشام [2] .
ولد سنة خمسين وخمسمائة، وسمع من عمّيه الصائن، والحافظ أبي القاسم، وحسّان الزيّات، وطائفة. وبرع في المذهب على القطب النيسابوري، وتزوج بابنته، ودرّس بالجاروخية، ثم بالصلاحية بالقدس، ثم بالتقوية بدمشق، وكان يقيم بالقدس أشهرا وبدمشق أشهرا، وكان لا يملّ أحد من رؤيته لحسن سمته واقتصاده في لباسه، ولطفه ونور وجهه، وكثرة ذكره لله تعالى.
قال ابن شهبة: كان لا يخلو لسانه من ذكر الله تعالى، وأريد على أن يلي القضاء فامتنع، وجهّز أهله للسفر إلى ناحية حلب، وأشار بتولية ابن الحرستاني.
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 133) .
[2] انظر «سير أعلام النبلاء» (22/ 187- 190) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة، (2/ 67- 69) .

(7/163)


وقال أبو المظفّر [1] : كان زاهدا، عابدا، ورعا، منقطعا إلى العلم والعبادة، حسن الأخلاق، قليل الرغبة في الدّنيا.
وقال عمر بن الحاجب: صنّف في الفقه والحديث مصنفات، وتفقه عليه جماعة، منهم: عز الدّين بن عبد السلام، وكان إماما، زاهدا، ثقة، كثير التهجد، غزير الدمعة، حسن الأخلاق، كثير التواضع، قليل التعصب. سلك طريق أهل اليقين، وكان يطرّح التكلف، وعرضت عليه مناصب ولايات دينية فأباها. توفي في رجب، ودفن بطرف مقابر الصوفية الشرقي مقابل قبر ابن الصّلاح، جوار تربة شيخه القطب.
وفيها الأمير مبارز الدّين سنقر الصّلاحي [2] . كان مقيما بحلب، ثم انتقل إلى ماردين، فخاف منه الأشرف وشكا حاله للمعظّم، فخدعه ووعده بأن يوليه مهما اختار، وجهّز إليه ابنه، فحضر إلى الشام، فالتقاه المعظم ولم ينصفه، وتفرّق عنه أصحابه، فمرض من شدة غبنه ونزل في دار شبل الدولة بالصالحية، ومات غبنا، فقام شبل الدولة بأمره أحسن قيام، واشترى له تربة على رأس زقاق الخانقاه عند المصنع ودفنه بها، وكان المبارز محبّبا إلى الناس ولم يكن في زمنه أكرم منه.
وفيها محمد [بن سليمان] بن قتلمش السّمرقندي [3] . كان حاجبا للخليفة، وبرع في علم الأدب، وكان مغرى بالنرد والقمار.
__________
[1] يعني سبط ابن الجوزي.
[2] انظر «تاريخ الإسلام» (62/ 432) .
[3] انظر «معجم الأدباء» (18/ 205- 206) و «المحمدون من الشعراء وأشعارهم» بتحقيق صديقي العزيز الأستاذ رياض عبد الحميد مراد، مصورة دار ابن كثير، و «الوافي بالوفيات» (3/ 125) وما بين الحاصرتين مستدرك منها.

(7/164)


ومن شعره:
لا والذي سخّر قلبي لها ... عبدا كما سخّر لي قلبها
ما فرحي في حبّها [1] غير أن ... تبيح [2] لي عن هجرها قلبها
ومنه أيضا:
ومقرطق [3] وجدي عليه كردفه ... وتجلّدي والصّبر عنه كخصره
نادمته في ليلة من شعره ... أجلو محاسنه بشمعة ثغره
وفيها صاحب المغرب السلطان المستنصر بالله أبو يعقوب يوسف بن محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن القيسيّ [4] . لم يكن في آل عبد المؤمن أحسن منه ولا أفصح ولا أشغف باللّذات. ولي الأمر عشر سنين بعد أبيه، ومات ولم يعقب.
__________
[1] تحرفت في «ط» إلى: «حبه» .
[2] في «آ» و «ط» : «يتيح» وما أثبته من «الوافي بالوفيات» ورواية البيت في «معجم الأدباء» :
ما فرحي في حبّها غير أن ... زيّن عندي هجرها قلبها
[3] كذا في «آ» و «ط» : «ومقرطق» وفي «الوافي بالوفيات» : «ومقرطف» بالفاء.
[4] انظر «تاريخ الإسلام» (62/ 465- 467) و «العبر» (5/ 81) .

(7/165)