شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة ست وثلاثين
وستمائة
فيها توفي أبو العبّاس القسطلّاني ثم المصري [1] الفقيه المالكي،
الزاهد القدوة، أحمد بن علي، تلميذ الشيخ أبي عبد الله القرشي. سمع من
عبد الله ابن برّي، ودرّس بمصر وأفتى، ثم جاور بمكة مدة، وتزوج بعد موت
شيخه زوجته الصّالحة الجليلة [2] أمّ ولده قطب الدّين.
حكي أن أهل المدينة أجدبوا، فاتفق رأيهم أن يستسقوا يوما والغرباء
يوما، فاستسقى أهل المدينة يومهم فلم يسقوا، ثم عمل هو طعاما للضعفاء
واستسقى مع المجاورين فسقوا، وله مؤلّف جمع فيه كلام شيخه القرشي وبعض
شيوخه وبعض كراماته. توفي بمكة المشرّفة في جمادى الآخرة وقبره يزار
بها في الشعب الأيسر.
وفيها صاحب ماردين، أرتق بن ألبي الأرتقي التركماني [3] تملّك ماردين
بضعا وثلاثين سنة، وكان فيه عدل ودين في الجملة. قتله غلمانه بمواطأة
ابن ابنه، وتملّك بعده ابنه نجم الدّين غازي.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 148) و «تاريخ الإسلام» (64/ 261) و «الإعلام
بوفيات الأعلام» ص (264) و «مرآة الجنان» (4/ 94) و «النجوم الزاهرة»
(6/ 314) و «حسن المحاضرة» (1/ 455) .
[2] لفظة «الجليلة» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «المنتخب» (161/ ب) .
[3] انظر «تاريخ الإسلام» (64/ 262- 263 و 300- 301) و «العبر» (5/
148- 149) و «النجوم الزاهرة» (6/ 314) .
(7/313)
وفيها التّاج أسعد بن المسلّم بن مكّي بن
علّان القيسي الدمشقي [1] . توفي في رجب عن ست وتسعين سنة. روى عن ابن
عساكر، وأبي الفهم بن أبي العجائز، وكان من كبار العدول، وهو أسنّ من
أخيه السّديد.
وفيها أبو الخير بدل بن أبي المعمّر بن إسماعيل التّبريزي [2] ،
المحدّث الحافظ الثقة الرحّال.
ولد بعد الخمسين وخمسمائة، وسمع من أبي سعد بن أبي عصرون وجماعة، ورحل
فأكثر عن اللبّان، والصيدلاني، وسمع بنيسابور، ومصر، والعراق، وكتب
وتعب، وخرّج، وولي مشيخة دار الحديث بإربل، فلما أخذتها التتار قدم حلب
وبها توفي في جمادى الأولى.
وفيها أبو الفضل جعفر بن علي بن هبة الله الهمداني الإسكندراني [3]
المالكي المقرئ الأستاذ المحدّث.
ولد سنة ست وأربعين وخمسمائة، وقرأ القراءات على عبد الرحمن بن خلف
صاحب ابن الفحّام، وأكثر عن السّلفي وطائفة، وكتب الكثير، وحصّل،
وتصدّر للإقراء، ثم رحل في آخر عمره، فروى الكثير بالقاهرة ودمشق، وبها
توفي في صفر وقد جاوز التسعين.
وفيها ابن الصّفراوي جمال الدّين أبو القاسم عبد الرحمن بن
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 149) و «تاريخ الإسلام» (64/ 263- 264) و «النجوم
الزاهرة» (6/ 314) .
[2] انظر «العبر» (5/ 149) و «تاريخ الإسلام» (64/ 264- 265) و
«الإعلام بوفيات الأعلام» ص (263) .
[3] انظر «العبر» (5/ 149) و «تاريخ الإسلام» (64/ 265- 267) و
«الإعلام بوفيات الأعلام» ص (263) .
(7/314)
عبد المجيد بن إسماعيل بن عثمان بن يوسف بن
حفص الإسكندراني [1] الفقيه المالكي المقرئ.
ولد في أول سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وقرأ القراءات على ابن خلف الله
[2] ، وأحمد بن جعفر الغافقيّ، واليسع [بن عيسى] بن حزم، وابن الخلوف
[3] .
وتفقه على أبي طالب صالح بن بنت معافى، وسمع الكثير من السّلفي وغيره،
وانتهت إليه رئاسة الإقراء والفتوى ببلده، وطال عمره وبعد صيته.
توفي في الخامس والعشرين من ربيع الآخر.
وفيها أبو الفتوح وأبو الفرج وأبو عمر ضياء الدين عثمان بن [أبي] نصر
[4] بن منصور بن هلال البغدادي المسعودي، الفقيه الحنبلي، الواعظ
المعروف بابن الوتّار.
ولد سنة خمسين وخمسمائة تقريبا. وسمع من أبي الفتح بن المنّي وغيره،
وتفقه عليه، ووعظ وشهد عند قاضي القضاة عبد الرزاق ابن ابن الشيخ عبد
القادر، وأفتى. وكان فاضلا، فقيها، إماما، عالما، حسن
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 150) و «تاريخ الإسلام» (64/ 272- 274) و «النجوم
الزاهرة» (6/ 314) .
[2] هو أبو القاسم عبد الرحمن بن خلف الله بن محمد بن عطية القرشي
المالكي المؤدّب توفي قريبا من سنة (572 هـ) . انظر ترجمته في «غاية
النهاية في طبقات القراء» (1/ 367- 368) .
[3] هو أبو الطيب عبد المنعم بن يحيى بن خلف بن نفيس بن الخلوف الحميري
الغرناطي، يعرف بابن الخلوف. مات سنة (586) هـ. انظر «غاية النهاية في
طبقات القراء» (1/ 471- 472) .
[4] في «آ» و «ط» و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 217) : «عثمان بن نصر»
والتصحيح من «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 507) و «تاريخ الإسلام» (64/
277) .
(7/315)
الأخلاق. أجاز للمنذري، وابن أبي الجيش،
والقاسم بن عساكر، والحجّار، وغيرهم، وتوفي في سابع عشري جمادى الأولى
ببغداد وقد ناهز التسعين والمسعودي: نسبة إلى المسعودة، محلّة شرقي
بغداد [1] وفيها عسكر بن عبد الرحيم بن عسكر بن أسامة أبو عبد الرحيم
العدويّ النّصيبيّ [2] من بيت مشيخة وحديث ودين، وله أصحاب وأتباع.
رحل في الحديث، وسمع من سليمان الموصلي وطبقته، وله مجاميع حسنة.
توفي في المحرّم.
وفيها الصّاحب جمال الدّين علي بن جرير الرّقّي [3] الوزير. وزر
للأشرف، ثم للصالح إسماعيل، وتوفي في جمادى الآخرة بدمشق. قاله في
«العبر» .
وفيها عماد الدّين بن الشيخ- هو الصاحب الرئيس أبو الفتح- عمر ابن شيخ
الشيوخ صدر الدّين محمد بن عمر الجويني ثم الدمشقي [4] الشّافعي.
ولي تدريس الشافعي، ومشهد الحسين، ومشيخة الشيوخ بالدّيار المصرية.
وقام بسلطنة الجواد، ثم دخل الدّيار المصرية، فلامه صاحبها العادل أبو
بكر، فردّ، وهمّ بخلع الجواد من السلطنة، فلم يمكنه، وجهّز عليه من
الإسماعيلية من قتله في جمادى الأولى وله خمس وخمسون سنة.
__________
[1] قلت: وتعرف ب «مسعودة المأمونية» . انظر «معجم البلدان» (5/ 126) .
[2] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 495- 496) و «العبر» (5/ 150) و
«تاريخ الإسلام» (64/ 278- 279) و «النجوم الزاهرة» (6/ 314- 315) .
[3] انظر «العبر» (5/ 150) و «تاريخ الإسلام» (64/ 279) .
[4] انظر «العبر» (5/ 150- 151) و «تاريخ الإسلام» (64/ 280- 283) و
«سير أعلام النبلاء» (23/ 97- 99) و «طبقات الشافعية الكبرى» (8/ 342)
.
(7/316)
وفيها أبو الفضل بن السّبّاك محمد بن محمد
بن الحسن البغدادي [1] ، أحد وكلاء القضاة. روى عن ابن البطّي، وأبي
المعالي [ابن] اللّحاس، وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها شرف الدّين أبو المكارم، محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن
أبي القاسم بن صدقة، قاضي القضاة، الإسكندري المصري الشافعي، المعروف
بابن عين الدولة [2] .
ولد بالإسكندرية في جمادى الآخرة، سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
وقدم القاهرة في سنة ثلاث وسبعين، واشتغل على العراقي شارح «المهذّب»
وحفظ «المهذّب» وناب في القضاء، ثم ولي قضاء القاهرة والوجه البحري سنة
ثلاث عشرة وستمائة، ثم جمع له العملان سنة سبع عشرة وستمائة، ثم عزل عن
قضاء مصر خاصة قبل وفاته بشهر، وكان ذكيا، كريما، متدينا، ورعا، قانعا
باليسير. من بيت رئاسة تولى الإسكندرية من أعمامه وأخواله ثمانية أنفس.
قال المنذري: وكان عارفا بالأحكام، مطلعا على غوامضها، وكتب الخطّ
الجيد، وله نظم ونثر. وكان يحفظ من شعر المتقدمين والمتأخرين جملة.
وقال غيره: نقل المصريون عنه كثيرا من النوادر والزوائد، كان يقولها
بسكون وناموس.
__________
[1] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 502- 503) و «العبر» (5/ 151) و
«سير أعلام النبلاء» (23/ 42- 43) و «تاريخ الإسلام» (64/ 286- 287) .
[2] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 590- 591) و «سير أعلام النبلاء»
(23/ 105- 106) و «تاريخ الإسلام» (64/ 388- 390) و «طبقات الشافعية
الكبرى» (8/ 63- 66) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 544) و «طبقات
الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 109- 110) و «حسن المحاضرة» (1/ 412)
ووفاته في جميعها سنة تسع وثلاثين وستمائة.
(7/317)
ومن شعره:
وليت القضاء وليت القضا ... ء لم يك شيئا تولّيته
فأوقعني في القضاء القضا [1] ... وما كنت قدما تمنّيته
توفي في هذه السنة وجزم ابن قاضي شهبة أنه توفي في ذي القعدة سنة تسع
وثلاثين [2] .
وفيها الزّكي البرزالي أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن أبي يدّاس
[3] الإشبيلي. الحافظ الجوّال. محدّث الشام ومفيده. سمع بالحجاز، ومصر،
والشام، والعراق، وأصبهان، وخراسان والجزيرة، فأكثر.
وجمع فأوعى، وأول طلبه سنة اثنتين وستمائة، وأقدم شيوخه عين الشمس
الثقفية، ومنصور الفراوي. وأقام بمسجد فلوس [4] بدمشق زمانا طويلا.
وتوجّه إلى حلب، فأدركه أجله بحماة في رمضان، وله ستون سنة، وهو والد
الشيخ علم الدّين البرزالي.
__________
[1] كذا رواية هذه الشطرة في «ط» و «تاريخ الإسلام» و «طبقات الشافعية»
للإسنوي و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة:
فأوقعني في القضاء القضا
وفي «آ» :
فأوقعني القضاء في القضا
وفي «طبقات الشافعية الكبرى» :
وقد ساقني للقضاء القضا
[2] قلت: وهو ما أجمع عليه أصحاب المصادر التي ترجمت له كما نبّهت على
ذلك من قبل.
[3] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «بداش» وفي «العبر» بطبعتيه إلى «بدّاس»
والتصحيح من «التكملة» لوفيات النقلة» (3/ 514) و «سير أعلام النبلاء»
(23/ 55) وضبط في «تاريخ الإسلام» (64/ 288) بضم الياء فيصحح، ونسبته
إلى قبيلة برزالة بالمغرب.
[4] انظر «ثمار المقاصد في ذكر المساجد» ص (128) وتعليق الدكتور محمد
أسعد طلس عليه.
(7/318)
وفيها جمال الدّين بن الحصيري [1] ، شيخ
الحنفية أبو المحامد محمود بن أحمد بن عبد السيد البخاري. روى «صحيح
مسلم» عن أصحاب الفراوي، ودرّس بالنّورية بدمشق خمسا وعشرين سنة. وصنّف
الكتب الحسان، منها: «شرح الجامع الكبير» [2] . وكان من العلماء
العاملين، كثير الصّدقة، غزير الدّمعة. انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي
حنيفة.
توفي في صفر بدمشق ودفن بمقابر الصّوفية.
وفيها العلّامة الحافظ يوسف بن عمر بن صقير- ويقال بالسين أيضا-
الواسطي. كان من الحفّاظ الأعيان. قاله ابن ناصر الدّين [3] .
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 152) و «الجواهر المضية» (2/ 155) طبعة حيدرآباد،
وجاء فيه:
والحصيري: نسبة إلى محلة ببخارى يعمل فيها الحصير، كان ساكنا بها. قال
المنذري: قال لي الصدر الخلاطي: سمعته يقول: مولدي ببخارى سنة ست
وأربعين وخمسمائة.
[2] وهو للإمام المجتهد أبي عبد الله محمد بن حسن الشيباني الحنفي
المتوفى سنة مائة وسبع وثمانين هجرية. قال الشيخ أكمل الدين: هو كاسمه
لجلائل مسائل الفقه، جامع كبير، قد اشتمل على عيون الروايات ومتون
الدرايات، بحيث كاد أن يكون معجزا ولتمام لطائف الفقه منجزا. انظر «كشف
الظنون» (1/ 567- 570) .
[3] في «التبيان شرح بديعة البيان» (176/ ب) وانظر «تاريخ الإسلام»
(64/ 292) .
(7/319)
سنة سبع وثلاثين
وستمائة
فيها هجم الصّالح إسماعيل في صفر على دمشق فملكها وتسلّم القلعة،
واعتقلوا الصالح أيوب بالكرك أشهرا، فطلبه أخوه العادل من الناصر داود،
وبذل فيه مائة ألف دينار، وكذا طلبه الصّالح إسماعيل، فامتنع الناصر،
ثم اتفق معه وحلّفه وأخذه وسار به إلى الدّيار المصرية، فمالت
الكامليّة إليه، وقبضوا على العادل، وتملّك الصّالح نجم الدّين أيوب،
ورجع النّاصر بخفي حنين.
وفيها أنزل الكامل إلى تربته بجامع دمشق من قلعتها، وفتح لها شبابيك
إلى الجامع.
وفيها توفي الخوييّ [1]- بضم الخاء المعجمة وفتح الواو وتشديد الياء
الأولى نسبة إلى خوي مدينة بأذربيجان من إقليم تبريز [2]- قاضي القضاة
شمس الدّين أحمد بن خليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى المهلّبي الشّافعي
أبو العبّاس.
ولد في شوال سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، ودخل خراسان وقرأ بها الأصول
على القطب المصري، صاحب الإمام فخر الدّين.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 152- 153) و «تاريخ الإسلام» (64/ 295) و «طبقات
الشافعية الكبرى» (8/ 16- 17) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 500-
501) .
[2] انظر «معجم البلدان» (2/ 408) .
(7/320)
قال ابن السّبكي في «طبقاته الكبرى» : وقرأ
الفقه على الرّافعي، وعلم الجدل على علاء الدّين الطّاووسي [1] . وسمع
الحديث من جماعة، وولي قضاء القضاء بالشام، وله كتاب في الأصول، وكتاب
فيه رموز حكمية، وكتاب في النحو، وكتاب في العروض، وفيه يقول أبو شامة:
أحمد بن الخليل أرشده الل ... هـ لما أرشد [2] الخليل بن أحمد
ذاك مستخرج العروض وهذا ... مظهر السّرّ منه والعود أحمد
وقال الذهبي: كان فقيها، إماما، مناظرا، خبيرا بعلم الكلام، أستاذا في
الطبّ والحكمة، ديّنا، كثير الصلاة والصيام. توفي في شعبان، ودفن بسفح
قاسيون.
وفيها الصّدر علاء الدّين أبو سعد ثابت بن محمد بن أبي بكر الخجندي
[3]- بضم الخاء المعجمة وفتح الجيم وسكون النون ومهملة، نسبة إلى خجندة
مدينة بطرف سيحون- ثم الأصبهاني سمع «الصحيح» [4] حضورا في الرابعة من
أبي الوقت [السّجزي] ، وبقي إلى هذا الوقت بشيراز.
وفيها أبو العبّاس بن الرّوميّة أحمد بن محمد بن مفرّج بن عبد الله
الأموي مولاهم الأندلسي الإشبيلي الزّهري النّباتي [5] الحافظ. كان
حافظا
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الطّوسي» والتصحيح من «طبقات الشافعية
الكبرى» و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 177) .
[2] في «آ» و «ط» : «كما أرشد» وما أثبته من «ذيل الرّوضتين» ص (169) و
«طبقات الشافعية الكبرى» (8/ 17) .
[3] انظر «العبر» (5/ 153) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 59- 60) و
«تاريخ الإسلام» (64/ 302- 303) .
[4] يعني «صحيح البخاري» .
[5] انظر «سير أعلام النبلاء» (23/ 58- 59) و «الدّيباج المذهب» (1/
191- 192) و «التبيان شرح بديعة البيان» لابن ناصر الدّين (177/ آ) .
(7/321)
صالحا مصنّفا، من الأثبات، ظاهريّ المذهب،
مع ورع. وكان يحترف من الصيدلة لمعرفته الجيدة بالنبات. قاله ابن ناصر
الدّين.
وفيها أمين الدّين أبو الغنائم، سالم بن الحسن بن هبة الله الشّافعي
التّغلبي الدمشقي [1] . رحل به أبوه، وسمّعه من ابن شاتيل وطبقته، وسمع
هو بنفسه. وولي المارستان، والمواريث، والأيتام، وتوفي في جمادى الآخرة
وله ستون سنة، ودفن بتربته بقاسيون، وخلّف ذرية صالحة أبقت ذكره.
وفيها الملك المجاهد أسد الدّين شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شادي [2]
، صاحب حمص. توفي بها في رجب.
قال ابن خلّكان: مولده سنة تسع وستين وخمسمائة، وتوفي يوم الثلاثاء
تاسع رجب بحمص، ودفن بتربة [3] داخل البلد، وكانت له أيضا الرّحبة،
وتدمر، وماكسين من بلد الخابور. وخلّف جماعة من الأولاد، فقام مقامه في
الملك ولده الملك المنصور ناصر الدّين إبراهيم. انتهى.
وفيها أبو القاسم عبد الرحيم بن يوسف بن هبة الله بن الطّفيل الدّمشقي
[4] . توفي بمصر في ذي الحجّة، وروى عن السّلفي.
وفيها أبو محمد وأبو الفضل عفيف الدّين عبد العزيز بن دلف [5] بن
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 153) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 60- 61) و
«تاريخ الإسلام» (64/ 306- 307) .
[2] انظر «وفيات الأعيان» (2/ 479- 480) و «المختصر في أخبار البشر»
(2/ 165) و «العبر» (5/ 153) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 221) و «تاريخ
الإسلام» (64/ 307- 308) .
[3] في «وفيات الأعيان» : «بتربته» .
[4] انظر «العبر» (5/ 153) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 43- 44) و
«النجوم الزاهرة» (6/ 317) .
[5] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «دنف» .
(7/322)
أبي طالب بن دلف بن القاسم البغدادي [1]
الحنبلي، المقرئ الناسخ الخازن.
ولد سنة إحدى أو اثنتين وخمسين وخمسمائة. وقرأ بالرّوايات الكثيرة على
أبي الحارث أحمد بن سعيد العسكري وغيره، وسمع الحديث من أبي علي
الرّحبي وغيره، وكتب الكثير بخطّه الحسن لنفسه وللناس، وشهد عند
الرّيحاني زمن الناصر، وكان الخليفة الناصر أذن لولده الظّاهر برواية
«مسند الإمام أحمد» عنه بالإجازة، وأذن لأربعة من الحنابلة بالدخول
إليه للسماع، عبد العزيز هذا منهم، فحصل له به أنس، فلما أفضت إليه
الخلافة ولّاه النظر في ديوان التركات الحشرية، فسار فيها أحسن سيرة،
وردّ تركات كثيرة على الناس.
قال النّاصح بن الحنبلي [2] : كان إماما في القراءة، وفي علم الحديث.
سمع الكثير، وكتب بخطه الكثير، وهو يصوم الدّهر، لقيته ببغداد في
المرتين.
وقال ابن النجار: كان كثير العبادة، دائم الصوم والصلاة وقراءة القرآن
مذ كان شابا، وإلى حين وفاته. وكان مسارعا إلى قضاء حوائج الناس والسعي
بنفسه إلى دور الأكابر في الشفاعات وفكّ العناة، وإطلاق المعتقلين بصدر
منشرح وقلب طيب، وكان محبا لإيصال الخير إلى الناس ودفع الضرّ عنهم،
كثير الصدقة والمعروف، والمواساة بماله حال فقره وقلّة ذات يده وبعد
يساره وسعة ذات يده. وكان على قانون واحد في ملبسه لم يغيره، وكان ثقة،
__________
[1] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (3 ك 526) و «تاريخ الإسلام» (64/
313- 314) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 44- 46) و «الإعلام بوفيات
الأعلام» ص (264) .
[2] في «الاستسعاد بمن لقيته من صالحي العباد في البلاد» وترجمته في
القسم المنشور منه ضمن كتاب «شذرات من كتب مفقودة في التاريخ» ص (190)
استخراج وتحقيق الدكتور إحسان عبّاس.
(7/323)
صدوقا، نبيلا، غزير الفضل، أحسن الناس
تلاوة للقرآن، وأطيبهم نغمة.
وكذلك في قراءة الحديث.
وتوفي ليلة الاثنين السادس والعشرين من صفر ببغداد، ودفن بجانب معروف
الكرخي.
وفيها- وجزم ابن ناصر الدّين [1] أنه في التي قبلها- أبو بكر محمد ابن
إسماعيل بن محمد بن خلفون الحافظ [2] الأزدي الأندلسي الأونبي [3] .
كان حافظا متقنا للأسانيد والأخبار، مصنّفا.
وفيها ابن الكريم الكاتب شمس الدّين محمد بن الحسن بن محمد ابن علي
البغدادي [4] المحدّث الأديب الماسح المتفنن. روى عن ابن بوش، وابن
كليب، وخلق. وسكن دمشق، وكتب الكثير بخطّه. توفي في رجب عن سبع وخمسين
سنة.
وفيها ابن الدّبيثي- بضم الدال المهملة وفتح الموحدة التحتية وسكون
المثناة التحتية ومثلثة، نسبة إلى دبيثا قرية بواسط- الحافظ المؤرخ
المقرئ الحاذق أبو عبد الله محمد بن سعيد بن يحيى الواسطي [5] الشافعي.
ولد سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وسمع من أبي طالب الكناني، وابن شاتيل،
وعبد المنعم بن الفراوي، وطبقتهم. وقرأ القراءات على
__________
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (176/ ب) .
[2] لفظة «الحافظ» لم ترد في «ط» .
[3] تصحفت نسبته في «آ» و «ط» و «التبيان شرح بديعة البيان» إلى
«الأوبني» والتصحيح من «تذكرة الحفّاظ» (3/ 1400) و «سير أعلام
النبلاء» (23/ 71) و «تاريخ الإسلام» (64/ 284) .
[4] انظر «العبر» (5/ 153- 154) و «تاريخ الإسلام» (64/ 319- 320) .
[5] انظر «العبر» (5/ 154) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 68- 70) و
«الإعلام بوفيات الأعلام» ص (264) و «مرآة الجنان» (4/ 95- 97) .
(7/324)
جماعة، وتفقه على أبي الحسن هبة الله بن
البوقي، وأتقن العربية، وتقدم وساد، وعلّق الأصول والخلاف، وعني
بالحديث ورجاله، وصنّف كتابا في تاريخ واسط، و «ذيلا» [1] على «مذيّل»
ابن السمعاني وأسمعهما، وله معرفة بالأدب والشعر. وله شعر جيد، وقد
أثنى على حفظه وذهنه واستحضاره الحافظ الضياء المقدسي، وابن نقطة، وابن
النجار. وقال: هو شيخي، وهو آخر الحفّاظ المكثرين، ما رأت عيناي مثله
في حفظ التواريخ، والسير، وأيام الناس، وأضرّ في آخر عمره.
وقال ابن الأهدل: وأنشد لنفسه:
خبرت بني الأيام طرّا فلم أجد ... صديقا صدوقا مسعدا في النوائب
وأصفيتهم منّي الوداد فقابلوا ... صفاء ودادي بالعدا والشوائب
وما اخترت منهم صاحبا وارتضيته ... فأحمده في فعله والعواقب
وقال في «العبر» : توفي في ثامن ربيع الآخر ببغداد.
وفيها تقي الدّين محمد بن طرخان بن أبي الحسن السّلمي الدّمشقي
الصّالحي الحنبلي [2] .
ولد بقاسيون سنة إحدى وستين وخمسمائة، وروى عن ابن صابر، وأبي المجد
البانياسي، وطائفة. وخرّج لنفسه «مشيخة» ، وكان فقيها، جليلا، متودّدا.
وسمع بمكّة، والمدينة، واليمن، وحدّث، وتوفي في تاسع المحرّم بالجبل.
وفيها أبو طالب بن صابر الدّمشقي محمد بن أبي المعالي عبد الله ابن عبد
الرحمن بن أحمد بن علي بن صابر السّلمي الصّوفي [3] الزاهد. روى
__________
[1] حقق الأستاذ الدكتور بشار عواد معروف الجزء الأول منه ونشرته وزارة
الإعلام العراقية سنة (1394) هـ.
[2] انظر «العبر» (5/ 154) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (264) .
[3] انظر «العبر» (5/ 154- 155) و «تاريخ الإسلام» (64/ 323- 324) و
«الإعلام بوفيات الأعلام» ص (264) .
(7/325)
عن أبيه وجماعة، وصار شيخ الحديث بالعزّيّة
[1] .
قال ابن النجار: لم أر إنسانا كاملا غيره، زاهدا، عابدا، ورعا، كثير
الصلاة والصيام. توفي في سابع المحرم.
وفيها ابن الهادي محتسب دمشق، رشيد الدّين أبو الفضل محمد بن عبد
الكريم بن يحيى القيسي الدمشقي [2] . شيخ وقور مهيب عفيف. سمع ابن
عساكر، وأبا المعالي بن صابر، وتوفي في جمادى الآخرة عن سبع وثمانين
سنة.
وفيها الرّشيد النيسابوري محمد بن أبي بكر بن علي الحنفي [3] الفقيه.
سمع بمصر من أبي الجيوش عساكر [بن علي] ، والتاج المسعودي، وجماعة.
ودرّس، وناظر، وعاش سبعا وسبعين سنة. وولي قضاء الكرك والشوبك، ثم درّس
بالمعينية [4] ، وتوفي في خامس ذي القعدة.
وفيها شرف الدّين أبو البركات بن المستوفي المبارك بن أحمد بن أبي
البركات اللّخمي الإربلي [5] وزير إربل وفاضلها ومؤرخها.
ولد سنة أربع وستين وخمسمائة، وسمع من عبد الوهاب ابن حبّة، وحنبل [بن
عبد الله] ، وابن طبرزد، وخلق. وكان بيته مجمع الفضلاء، وله يد
__________
[1] هي المدرسة العزّية البرانية. انظر «الدارس في تاريخ المدارس» (1/
555) .
[2] انظر «العبر» (5/ 155) و «تاريخ الإسلام» (64/ 324) .
[3] انظر «العبر» (5/ 155) و «تاريخ الإسلام» (64/ 328) وما بين
الحاصرتين زيادة منه، و «الجواهر المضية» (2/ 35- 36) طبع حيدر أباد.
[4] انظر «الدارس في تاريخ المدارس» (1/ 589) .
[5] انظر «وفيات الأعيان» (4/ 147- 152) و «العبر» (5/ 155- 156) و
«سير أعلام النبلاء» (23/ 49- 53) و «تاريخ الإسلام» (64/ 329- 331) و
«الإعلام بوفيات الأعلام» ص (264) و «المختار من تاريخ ابن الجزري» ص
(175) و «مرآة الجنان» (4/ 95- 97) و «البداية والنهاية» (13/ 139) .
(7/326)
طولى في النثر والنظم، ونفس كريمة كبيرة،
وهمّة عليّة. شرح ديواني أبي تمام والمتنبي في عشر مجلدات، وله غير
ذلك. وديوان شعر منه في تفضيل البياض على السّمرة:
لا تخدعنّك سمرة غرّارة ... ما الحسن إلّا للبياض وجنسه
فالرّمح يقتل بعضه من غيره ... والسيف يقتل كلّه من نفسه
وله:
يا ربّ قد عظمت جناية عينه ... وعتا بما أبداه من أنواره
فاشف السّقام المستكنّ بطرفه ... واستر محاسن وجهه بعذاره
سلم بقلعة إربل من التتار، ثم سكن الموصل وبها مات في المحرم.
قال ابن الأهدل: جمع لإربل «تاريخا» في أربع مجلدات، وله «المحصّل» على
أبيات المفصّل في مجلدين. وله كتاب «سرّ الصنعة» وكتاب سمّاه [1] «أبا
قماش [2] » جمع فيه آدابا ونوادر، وأرسل دينارا إلى شاعر على يد رجل
يقال له الكمال، وكان الدينار مثلوما، فتوهم الشاعر أن الكمال نقّصه،
فكتب:
يا أيّها المولى الوزير ومن به ... في الجود حقّا تضرب الأمثال
أرسلت بدر التمّ عند كماله ... حسنا فوافى العبد وهو هلال
ما عابه [3] النّقصان إلّا أنّه ... بلغ الكمال كذلك الآجال
فأجاز الشاعر وأحسن إليه.
__________
[1] تحرفت في «ط» إلى «سماد» .
[2] تحرفت في «مرآة الجنان» إلى «حماش» .
[3] في «وفيات الأعيان» و «مرآة الجنان» : «ما غاله» .
(7/327)
ورثاه بعضهم فقال:
أبا البركات لو درت المنايا ... بأنّك فرد عصرك لم تصبكا
كفى الإسلام رزءا فقد شخص ... عليه بأعين الثقلين يبكى
انتهى.
وفيها ضياء الدّين بن الأثير الصّاحب العلّامة أبو الفتح، نصر الله بن
محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشّيباني الجزري [1] ،
الكاتب البليغ، صاحب «المثل السائر» [2] . انتهت إليه كتابة الإنشاء
والتّرسل، ومن جملة محفوظاته شعر أبي تمّام، والبحتري، والمتنبي. وزر
بدمشق للملك الأفضل فأساء وظلم، ثم هرب، ثم كان معه بسميساط سنوات. ثم
خدم الظّاهر صاحب حلب، فلم يقبل عليه. فتحوّل إلى الموصل، وكتب الإنشاء
لصاحبها محمود بن عزّ الدّين مسعود، ولأتابكه لؤلؤ، وذهب رسولا في آخر
أيامه إلى الخليفة فمات ببغداد في ربيع الآخر، وكان بينه وبين أخيه عزّ
الدّين مقاطعة كلّيّة. قاله في «العبر» .
قلت: ومن شعره:
ثلاثة [3] تعطي الفرح ... كأس وكوز وقدح
ما ذبح الزّقّ لها ... إلّا وللهمّ ذبح
وقال ابن خلّكان: ولما كملت [4] له الأدوات قصد جناب الملك النّاصر
__________
[1] انظر «المستفاد من ذيل تاريخ بغداد» للدمياطي ص (405- 406) و
«وفيات الأعيان» (5/ 389- 397) و «العبر» (5/ 156) و «سير أعلام
النبلاء» (23/ 72- 73) و «تاريخ الإسلام» (64/ 332) و «الإعلام بوفيات
الأعلام» ص (264) .
[2] وهو من مصادر كتابنا هذا، وقد طبع طبعة جيدة متقنة مفهرسة في دار
نهضة مصر بالقاهرة في أربع مجلدات بتحقيق الدكتور أحمد الحوفي،
والدكتور بدوي طبانة.
[3] في «آ» و «ط» : «ثلاث» وما أثبته من «وفيات الأعيان» .
[4] في «آ» : «وكلمت» وهو خطأ.
(7/328)
صلاح الدّين. وكان يومئذ شابا، فاستوزره
ولده الملك الأفضل نور الدّين علي، وحسنت حاله عنده.
ولما توفي صلاح الدّين، واستقلّ ولده الأفضل بمملكة دمشق، استقلّ ضياء
الدّين بالوزارة وردّت إليه أمور الناس، وصار الاعتماد في جميع الأحوال
عليه، ولما أخذت دمشق من الملك الأفضل وانتقل إلى صرخد، وكان ضياء
الدّين قد أساء العشرة على أهلها، فهمّوا بقتله، فأخرجه الحاجب محاسن
بن عجم [مستخفيا] [1] في صندوق.
ولما استقرّ الأفضل في سميساط عاد إلى خدمته، وأقام عنده مدة، ثم فارقه
واتصل بخدمة أخيه الملك الظاهر صاحب حلب، فلم يطل مقامه عنده، فخرج
مغاضبا [2] وعاد إلى الموصل، فلم يستقر حاله، فورد إربل فلم يستقم
حاله، فسافر إلى سنجار ثم عاد إلى الموصل واتخذها دار إقامته [3] .
ولقد ترددت إلى الموصل من إربل أكثر من عشر مرّات، وهو مقيم بها، وكنت
أودّ الاجتماع به لآخذ عنه شيئا، لما [4] كان بينه وبين الوالد من
المودة الأكيدة، فلم يتفق ذلك.
ولضياء الدّين من التصانيف الدّالة على غزارة فضله وتحقيق نبله، كتابه
الذي سمّاه «المثل السائر» في أدب الكتاب والشاعر، وهو في مجلدين.
جمع فيه فأوعب [5] ، ولم يترك شيئا يتعلق بفنّ الكتابة إلّا ذكره. ولما
فرغ من تصنيفه كتبه الناس عنه، ومحاسنه كثيرة.
__________
[1] مستدركة من «وفيات الأعيان» .
[2] في «وفيات الأعيان» : «مغضبا» .
[3] كذا في «ط» و «وفيات الأعيان» : «دار إقامته» وفي «آ» : «دار
إقامة» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «ولمّا» والصواب ما في كتابنا.
[5] في «آ» و «ط» : «فأوعى» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
(7/329)
وكانت ولادته بجزيرة ابن عمر، انتهى ملخصا.
وقال ابن الأهدل: كان هو وأخواه أبو السعادات، وعزّ الدّين كلّهم نجباء
رؤساء، لكل منهم تصانيف، وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها أبو محمد عبد العزيز بن بركات بن إبراهيم الخشوعي الدّمشقي [1] ،
إمام الرّبوة. روى عن أبيه، وأبي القاسم ابن عساكر، وتوفي في ثامن ربيع
الآخر.
وفيها أبو الحسن الحرالي [2] علي بن أحمد بن الحسن التّجيبي المرسي [3]
. كان عارفا، متقنا للنحو والكلام والمنطق. سكن حماة، وله تفسير عجيب
[4] . قاله في «العبر» .
وفيها قشتمر [5] [سلطان بغداد] ومقدّم العساكر، جمال الدّين الخليفتي
النّاصري. توفي في ذي القعدة.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 157) و «تاريخ الإسلام» (64/ 312- 313) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الحرّاني» والتصحيح من مصادر الترجمة.
[3] انظر «العبر» (5/ 157) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 47) و «عنوان
الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية» ص (143- 155)
بتحقيق الأستاذ عادل نويهض، طبع دار الآفاق الجديدة ببيروت.
[4] قال صاحب «عنوان الدراية» : سلك فيه سبيل التحرير، وتكلم عليه لفظة
لفظة، وحرفا حرفا.
[5] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «قستمر» بالسين المهملة والتصحيح من
«العبر» وما بين الحاصرتين مستدرك منه (5/ 157) و «تاريخ الإسلام» (64/
317) .
(7/330)
سنة ثمان وثلاثين
وستمائة
فيها سلّم الملك الصالح إسماعيل قلعة الشّقيف للفرنج لغرض في نفسه،
فمقته المسلمون، وأنكر عليه ابن عبد السلام، وأبو عمرو بن الحاجب،
فسجنهما، وعزل ابن عبد السلام من خطابة دمشق. قاله في «العبر» [1] .
وفيها توفي أبو علي أحمد بن محمد بن محمود بن المعزّ الحرّاني ثم
البغدادي الصّوفي [2] . روى عن ابن البطّي، وأحمد بن المقرّب، وجماعة.
وتوفي في المحرّم.
وفيها نجم الدّين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن خلف بن راجح المقدسي
الحنبلي [3] ثم الشافعي [4] ، صاحب التصانيف. روى عن ابن صدقة الحرّاني
وجماعة، وسافر إلى همذان، فلزم الرّكن الطّاووسي، حتّى
__________
[1] (5/ 157- 158) .
[2] انظر «العبر» (5/ 158) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 73- 74) و
«الإعلام بوفيات الأعلام» ص (265) .
[3] قال الإسنوي: ويعرف بالحنبلي لأنه كان في صباه كذلك.
قلت: لكن ما جاء في ترجمته حول هذا الموضوع عند ابن قاضي شهبة يشير إلى
أن تحوله إلى المذهب الشافعي قد تأخر إلى أن بلغ منزلة رفيعة بين أهل
العلم.
[4] انظر «العبر» (5/ 158) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 75- 76) و
«الإعلام بوفيات الأعلام» ص (265) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 448-
449) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 89- 90) .
(7/331)
صار معيده، ثم سافر إلى بخارى، وبرع في علم
الخلاف، وطار اسمه وبعد صيته، وكان يتوقّد ذكاء، ومن جملة محفوظاته
«الجمع بين الصحيحين» [1] .
وكان صاحب أوراد وتهجد.
توفي في خامس شوال.
وفيها جمال الملك أبو الحسن علي بن مختار بن نصر بن طغان العامري
المحلّي ثم الإسكندراني، المعروف بابن الجمل [2] . روى عن السّلفي
وغيره، وتوفي في شعبان.
وفيها أبو بكر محيي الدّين محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطّائي
الأندلسي [3] ، العارف الكبير، ابن عربي، ويقال: ابن العربي.
قال الشعراوي في كتاب «نسب الخرقة» : كان مجموع الفضائل، مطبوع الكرم
والشمائل، قد فضّ له فضله ختام كلّ فنّ وبلّ له وبله رياض ما شرد من
العلوم وعنّ، ونظمه عقود العقول وفصوص الفصول، وحسبك بقول زرّوق وغيره
من الفحول، ذاكرين بعض فضله: هو أعرف بكل فنّ من أهله، وإذا أطلق الشيخ
الأكبر في عرف القوم فهو المراد.
ولد بمرسية، سنة ستين وخمسمائة، ونشأ بها، وانتقل إلى إشبيلية سنة ثمان
وسبعين، ثم ارتحل وطاف البلدان، فطرق بلاد الشام والرّوم والمشرق، ودخل
بغداد وحدّث بها بشيء من مصنّفاته، وأخذ عنه بعض الحفّاظ، كذا ذكره ابن
النجار في «الذيل» .
__________
[1] وهو للإمام الحميدي كما جاء مبينا في «تاريخ الإسلام» (64/ 338) .
[2] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «الجبل» والتصحيح من «العبر» (5/ 158) و
«سير أعلام النبلاء» (23/ 77) .
[3] انظر «سير أعلام النبلاء» (23/ 48- 49) و «تاريخ الإسلام» (64/
352- 359) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (265) و «طبقات الأولياء» لابن
الملقن ص (469- 470) .
(7/332)
وقال الشيخ عبد الرؤوف المناوي في «طبقات
الأولياء» له: وقال الحافظ ابن حجر في «لسان الميزان» [1]- وهو ممن كان
يحطّ عليه ويسيء الاعتقاد فيه-: كان عارفا [2] بالآثار والسّنن، قويّ
المشاركة في العلوم. أخذ الحديث عن جمع، وكان يكتب الإنشاء لبعض ملوك
المغرب، ثم تزهّد وساح، ودخل الحرمين والشام، وله في كل بلد دخلها
مآثر. انتهى.
وقال بعضهم: برز منفردا مؤثرا للتخلّي والانعزال عن الناس ما أمكنه،
حتى إنه لم يكن يجتمع به إلّا الأفراد، ثم آثر التآليف، فبرزت عنه
مؤلّفات لا نهاية لها، تدلّ على سعة باعه، وتبحّره في العلوم الظّاهرة
والباطنة، وأنه بلغ مبلغ الاجتهاد في الاختراع والاستنباط، وتأسيس
القواعد والمقاصد التي لا يدريها ولا يحيط بها إلّا من طالعها بحقّها،
غير أنه وقع له في بعض تضاعيف تلك الكتب كلمات كثيرة أشكلت ظواهرها،
وكانت سببا لإعراض كثيرين لم يحسنوا الظنّ به، ولم يقولوا كما قال
غيرهم من الجهابذة المحقّقين، والعلماء العاملين، والأئمة الوارثين: إن
ما أوهمته تلك الظواهر ليس هو المراد، وإنما المراد أمور اصطلح عليها
متأخر وأهل الطريق غيرة عليها، حتّى لا يدّعيها الكذّابون، فاصطلحوا
على الكناية عنها بتلك الألفاظ الموهمة خلاف المراد، غير مبالين بذلك،
لأنه لا يمكن التعبير عنها بغيرها.
قال المناوي: وقد تفرّق الناس في شأنه شيعا، وسلكوا في أمره طرائق قددا
[3] فذهبت طائفة إلى أنه زنديق لا صدّيق، وقال قوم: إنه واسطة عقد
الأولياء، ورئيس الأصفياء، وصار آخرون إلى اعتقاد ولايته وتحريم النظر
في كتبه.
__________
[1] انظر «لسان الميزان» (5/ 311- 315) .
[2] في «لسان الميزان» : «عالما» .
[3] أي سلكوا في أمره طرائق مقطوعة. انظر «لسان العرب» (قدد) .
(7/333)
أقول: منهم الشيخ جلال الدّين السيوطي، قال
في مصنّفه «تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي» : والقول الفيصل في ابن
العربي اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه، فقد نقل عنه هو أنه قال:
نحن قوم يحرم النظر في كتبنا.
قال السيوطي: وذلك لأن الصوفية تواضعوا على ألفاظ اصطلحوا عليها،
وأرادوا بها معان غير المعاني المتعارفة منها، فمن حمل ألفاظهم على
معانيها المتعارفة بين أهل العلم الظاهر كفر، نصّ على ذلك الغزّالي في
بعضه كتبه، وقال: إنه شبيه بالمتشابه من القرآن والسّنّة، من حمله على
ظاهره كفر.
وقال السيوطي أيضا في الكتاب المذكور: وقد سأل بعض أكابر العلماء بعض
الصوفية في عصره: ما حملكم على أن اصطلحتم على هذه الألفاظ التي يستشنع
ظاهرها؟ فقال: غيرة على طريقنا هذا أن يدعيه من لا يحسنه ويدخل فيه من
ليس من أهله، إلى أن قال: وليس من طريق القوم إقراء المريدين كتب
التصوف، ولا يؤخذ هذا العلم من الكتب، وما أحسن قول بعض العلماء لرجل
قد سأله أن يقرأ عليه «تائية ابن الفارض» فقال له: دع عنك هذا، من جاع
جوع القوم، وسهر سهرهم، رأى ما رأوا، ثم قال في آخر هذا التصنيف: إن
الشيخ برهان الدّين البقاعي قال في «معجمه» : حكى لي الشيخ تقي الدّين
أبو بكر بن أبي الوفاء المقدسي الشافعي، قال- وهو أمثل الصوفية في
زماننا- قال: كان بعض الأصدقاء يشير عليّ بقراءة كتب ابن عربي، وبعض
يمنع من ذلك، فاستشرت الشيخ يوسف الإمام الصّفدي في ذلك، فقال: اعلم يا
ولدي- وفّقك الله- أن هذا العلم المنسوب إلى ابن عربي ليس بمخترع له،
وإنما هو كان ماهرا فيه، وقد ادعى أهله أنه لا تمكن معرفته إلّا
بالكشف، فإذا فهم المريد مرماهم فلا فائدة في تفسيره، لأنه إن كان
المقرّر والمقرّر له مطلعين على ذلك، فالتقرير تحصيل الحاصل، وإن
(7/334)
كان المطلع أحدهما، فتقريره لا ينفع الآخر،
وإلّا فهما يخبطان خبط عشواء، فسبيل العارف عدم البحث عن هذا العلم،
وعليه السلوك فيما يوصل إلى الكشوف عن الحقائق، ومتى كشف له عن شيء
علمه. ثم قال: استشرت الشيخ زين الدّين الخافي، بعد أن ذكرت له كلام
الشيخ يوسف، فقال: كلام الشيخ يوسف حسن، وأزيدك أن العبد إذا تخلّق ثم
تحقّق ثم جذب، اضمحلت ذاته، وذهبت صفاته، وتخلّص من السوي، فعند ذلك
تلوح له بروق الحقّ بالحقّ، فيطلع على كل شيء، ويرى الله عند كل شيء،
فيغيب [1] بالله عن كل شيء ولا شيء [2] سواه، فيظن أن الله عين كل شيء،
وهذا أول المقامات، فإذا ترقى عن هذا المقام وأشرف على مقام أعلى منه،
وعضده التأييد الإلهي، رأى أن الأشياء كلها فيض وجوده تعالى لا عين
وجوده، فالناطق حينئذ بما ظنّه في أول مقام، إما محروم ساقط، وإما نادم
تائب، وربّك يفعل ما يشاء. انتهى.
ولقد بالغ ابن المقري في «روضته» فحكم بكفر من شكّ في كفر طائفة ابن
عربي، فحكمه على طائفته بذلك دونه [3] ، يشير إلى أنه إنما قصد التنفير
عن كتبه، وإن من لم يفهم كلامه ربما وقع في الكفر باعتقاده خلاف
المراد، إذ للقوم اصطلاحات أرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة،
فمن حمل ألفاظهم على معانيها المتعارفة بين أهل العلم الظّاهر ربما كفر
كما قاله الغزالي.
ثم قال المناوي: وعوّل جمع على الوقف والتسليم، قائلين: الاعتقاد صبغة،
والانتقاد حرمان، وإمام هذه الطائفة شيخ الإسلام النّووي، فإنه استفتي
__________
[1] كذا في «ط» و «المنتخب» (163/ ب) : «فيغيب» وفي «آ» : «فيغضب» .
[2] في «آ» و «ط» : «ولا شيئا» والتصحيح من «المنتخب» .
[3] في «المنتخب» (163/ ب) : «فحكمه على طائفته دون، بذلك يشير ... » .
(7/335)
فيه فكتب: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها
ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ 2: 134 الآية [البقرة: 134] ،
وتبعه على ذلك كثيرون، سالكين سبيل السّلامة، وقد حكى العارف زرّوق عن
شيخه النوري، أنه سئل عنه فقال: اختلف فيه من الكفر إلى القطبانية،
والتسليم واجب، ومن لم يذق ما ذاقه القوم ويجاهد مجاهداتهم لا يسعه من
الله الإنكار عليهم. انتهى.
وأقول: وممن صرّح بذلك من المتأخرين الشيخ أحمد المقري المغربي، قال في
كتابه «زهر الرّياض في أخبار عياض» [1] : والذي عند كثير من الأخيار في
أهل هذه الطريقة التسليم، ففيه السّلامة، وهي أحوط من إرسال العنان
وقول يعود على صاحبه بالملامة، وما وقع لابن حجر، وأبي حيّان في
«تفسيره» من إطلاق اللّسان في هذا الصّدّيق وأنظاره، فذلك من غلس
الشيطان، والذي أعتقده ولا يصح غيره، أن الإمام ابن عربي وليّ صالح،
وعالم ناصح، وإنما فوّق إليه سهام الملامة من لم يفهم كلامه، على أنه
دسّت في كتبه مقالات قدره يجل عنها، وقد تعرض من المتأخرين ولي الله
الرّباني سيدي عبد الوهاب الشّعراني [2]- نفعنا الله به- لتفسير كلام
الشيخ على وجه يليق، وذكر من البراهين على ولايته ما يثلج صدور أهل
التحقيق، فليطالع ذلك من أراده، والله وليّ التوفيق. انتهى كلام
المقري.
ثم قال المناوي: وفريق قصد بالإنكار عليه وعلى أتباعه الانتصار لحظ
نفسه، لكونه وجد قرينه وعصريّه يعتقده وينتصر له، فحملته حميّة
الجاهلية على معاكسته، فبالغ في خذلانه وخذلان أتباعه ومعتقديه، وقد
شوهد عود الخذلان والخمول على هذا الفريق وعدم الانتفاع بعلومهم
وتصانيفهم على
__________
[1] ليس بين يدي.
[2] سترد ترجمته في حوادث سنة (973) من المجلد العاشر إن شاء الله
تعالى.
(7/336)
حسنها. قال: وممن كان [1] يعتقده سلطان
العلماء ابن عبد السلام، فإنه سئل عنه أولا فقال: شيخ سوء كذّاب لا
يحرّم فرجا، ثم وصفه بعد ذلك بالولاية، بل بالقطبانية، وتكرر ذلك منه.
وحكي عن اليافعيّ أنه كان يطعن فيه ويقول: هو زنديق، فقال له بعض
أصحابه يوما: أريد أن تريني القطب، فقيل: هو هذا، فقيل له: فأنت تطعن
فيه، فقال: أصون ظاهر الشرع، ووصفه في «إرشاده» بالمعرفة والتحقيق،
فقال: اجتمع الشيخان الإمامان العارفان المحقّقان الربّانيّان
السّهروردي، وابن عربي، فأطرق كل منهما ساعة، ثم افترقا من غير كلام،
فقيل لابن عربي: ما تقول في السّهروردي؟ فقال: مملوء سنّة من فرقه إلى
قدمه، وقيل للسّهروردي، ما تقول فيه؟ قال: بحر الحقائق.
ثم قال المناوي: وأقوى ما احتج به المنكرون، أنه لا يؤوّل [2] إلّا
كلام المعصوم، ويردّه قول النّوويّ في «بستان العارفين» [3] بعد نقله
عن أبي الخير التّيناتي [4] واقعة ظاهرها الإنكار: قد يتوهم من يتشبه
بالفقهاء ولا فقه عنده، أن ينكر هذا، وهذا جهالة وغباوة، ومن يتوهم ذلك
فهو جسارة منه على إرسال الظنون في أولياء الرحمن. فليحذر العاقل من
التعرض لشيء من ذلك، بل حقّه إذا لم يفهم حكمهم المستفادة، ولطائفهم
المستجادة، أن يتفهمها ممن يعرفها، وربما رأيت من هذا النوع مما يتوهم
فيه من لا تحقيق عنده أنه مخالف، ليس مخالفا، بل يجب تأويل أفعال
أولياء الله [تعالى] .
إلى هنا كلامه.
__________
[1] لفظة «كان» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» .
[2] في «ط» : «لا يأول» .
[3] ص (181) من طبعة الشيخ محمد الحجّار، وقد نقل المؤلف عنه بتصرف.
[4] تحرفت نسبته في «آ» و «ط» إلى «التبياني» والتصحيح من «اللباب في
تهذيب الأنساب» (1/ 234) وقال ابن الأثير: ويعرف بالأقطع.
(7/337)
وإذا وجب تأويل أفعالهم وجب تأويل أقوالهم،
إذ لا فرق، وكان المجد صاحب «القاموس» عظيم الاعتقاد في ابن عربي،
ويحمل كلامه على المحامل الحسنة، وطرّز شرحه ل «البخاريّ» بكثير من
كلامه. انتهى.
وأقول: ومما يشهد بذلك، ما أجاب به على سؤال رفع إليه، لفظه:
ما تقول العلماء- شدّ الله بهم أزر الدّين ولمّ بهم شعث المسلمين- في
الشيخ محيي الدّين بن العربي، وفي كتبه المنسوبة إليه، ك «الفتوحات» و
«الفصوص» وغيرهما، هل تحلّ قراءتها وإقراؤها للناس أم لا؟ أفتونا
مأجورين. فأجاب- رحمه الله رحمة واسعة-: اللهم أنطقنا بما فيه رضاك،
الذي أقوله في حال المسؤول عنه، وأعتقده وأدين الله سبحانه وتعالى به،
أنه كان شيخ الطريقة حالا وعلما، وإمام الحقيقة حدّا ورسما، ومحيي رسول
المعارف فعلا واسما، إذا تغلغل فكر المرء في طرف من بحره [1] غرقت فيه
خواطره في عباب لا تدركه الدّلاء، وسحاب تتقاصر عنه الأنواء، وأما
دعواته فإنها تخرق السبع الطباق، وتفترق بركاته فتملأ الآفاق، وإني
أصفه، وهو يقينا فوق ما وصفته، وغالب ظني أني ما أنصفته:
وما عليّ إذا ما قلت معتقدي ... دع الجهول يظنّ الجهل عدوانا
والله تالله بالله العظيم ومن ... أقامه حجّة لله برهانا
إنّ الذي قلت بعض من مناقبه ... ما زدت إلّا لعلّي زدت نقصانا
وأما كتبه فإنها البحار الزّواخر، جواهرها لا يعرف لها أول من آخر، ما
وضع الواضعون مثلها، وإنما خصّ الله بمعرفتها أهلها، فمن خواص كتبه أنه
من لازم مطالعتها والنظر فيها انحلّ فهمه لحلّ المشكلات وفهم المعضلات،
وهذا ما وصلت إليه طاقتي في مدحه، والحمد لله رب العالمين.
__________
[1] كذا في «ط» : «بحره» وفي «آ» : «مجده» .
(7/338)
وكذلك أجاب ابن كمال باشا [1] بما صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لمن جعل من عباده العلماء المصلحين،
وورثة الأنبياء والمرسلين، والصلاة والسلام على محمد المبعوث لإصلاح
الضّالين والمضلّين، وآله وأصحابه المجدّين لإجراء الشرع المبين.
وبعد: أيّها النّاس! اعلموا أن الشيخ الأعظم، المقتدى الأكرم، قطب
العارفين، وإمام الموحدين، محمد بن علي بن العربي الطائي الأندلسي،
مجتهد كامل، ومرشد فاضل، له مناقب عجيبة، وخوارق غريبة، وتلامذة كثيرة،
مقبولة عند العلماء والفضلاء، فمن أنكره فقد أخطأ، وإن أصرّ في إنكاره
فقد ضلّ، يجب على السلطان تأديبه، وعن هذا الاعتقاد تحويله، إذا
السلطان مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وله مصنّفات كثيرة،
منها: «فصوص حكمية» و «فتوحات مكّية» وبعض مسائلها معلوم اللفظ
والمعنى، وموافق للأمر الإلهيّ والشرع النبوي، وبعضها خفي عن إدراك أهل
[2] . الظّاهر دون أهل الكشف والباطن، فمن لم يطّلع على المعنى المرام
يجب عليه السكوت في هذا المقام، لقوله تعالى:
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ به عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا 17: 36 [الإسراء:
36] ، والله الهادي إلى سبيل الصواب، وإليه المرجع والمآب. انتهى.
وكلا الجوابين مكتوب في ضريح المترجم فوق رأسه، والله أعلم.
ثم قال المناوي: وأخبر الشّعراوي عن بعض إخوانه أنه شاهد رجلا أتى ليلا
بنار ليحرق تابوته فخسف به وغاب بالأرض، فأحسن أهله، فحفروا فوجدوا
رأسه، فكلما حفروا نزل في الأرض، فعجزوا وأهالوا عليه التراب.
__________
[1] لعله نقل هذا الكلام عن كتابه «طبقات المجتهدين» وهو مخطوط لم يطبع
بعد كما ذكر الزركلي في ترجمته من كتابه «الإعلام» (1/ 133) .
[2] لفظة «أهل» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» .
(7/339)
قال [1] : ومن تأمل سيرة ابن عربي [2]
وأخلاقه الحسنة وانسلاخه من حظوظ نفسه وترك العصبية، حمله ذلك على
محبته واعتقاده، ومما وقع له أن رجلا من دمشق فرض على نفسه أن يلعنه كل
يوم عشر مرات، فمات، وحضر ابن عربي جنازته ثم رجع فجلس ببيته وتوجه
للقبلة، فلما جاء وقت الغداء أحضر إليه فلم يأكل، ولم يزل على حاله إلى
بعد العشاء، فالتفت مسرورا وطلب العشاء وأكل، فقيل له في ذلك، فقال:
التزمت مع الله أني لا آكل ولا أشرب حتّى يغفر لهذا الذي يلعنني، وذكرت
له سبعين ألف لا إله إلا الله، فغفر له.
وقد أوذي الشيخ كثيرا في حياته وبعد مماته بما لم يقع نظيره لغيره، وقد
أخبر هو عن نفسه بذلك، وذلك من غرر كراماته، فقد قال في «الفتوحات» كنت
نائما في مقام إبراهيم، وإذا بقائل من الأرواح- أرواح الملأ الأعلى-
يقول لي عن الله: ادخل مقام إبراهيم، إنّه كان أوّاها حليما [3] ،
فعلمت أنه لا بد أن يبتليني بكلام في عرضي من قوم، فأعاملهم بالحلم.
قال: ويكون أذى كثيرا، فإنه جاء بحليم بصيغة المبالغة، ثم وصفه
بالأوّاه، وهو من يكثر منه التأوّه لما يشاهد من جلال الله. انتهى.
وقال الصّفي بن أبي منصور: جمع ابن عربي بين العلوم الكسبية والعلوم
الوهبية، وكان غلب عليه التوحيد علما وخلقا وخلقا، لا يكترث بالوجود
مقبلا كان أو معرضا.
وقال تلميذه الصّدر القونوي الرّومي [4] : كان شيخنا ابن عربي متمكنا
من
__________
[1] القائل المناوي.
[2] تحرفت في «ط» إلى «ابن عرابي» .
[3] وذلك محاكاة لقوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ 9:
114 [التّوبة: 114] .
[4] هو محمد بن إسحاق بن محمد بن يوسف بن علي القونوي الرّومي، صدر
الدّين، صوفي من كبار تلامذة الشيخ محيي الدّين بن العربي، تزوّج ابن
عربي أمّه، وربّاه، له مصنّفات في
(7/340)
الاجتماع بروح من شاء من الأنبياء
والأولياء الماضين، على ثلاثة أنحاء، إن شاء الله، استنزل روحانيته في
هذا العالم، وأدركه متجسدا في صورة مثالية شبيهة بصورته الحسّية
العصرية، التي كانت له في حياته الدّنيا، وإن شاء الله، أحضره في نومه،
وإن شاء انسلخ عن هيكله واجتمع به [1] ، وهو أكثر القوم كلاما في
الطريق، فمن ذلك ما قال: ما ظهر على العبد إلّا ما استقرّ في باطنه،
فما أثّر فيه سواه، فمن فهم هذه الحكمة وجعلها مشهودة أراح نفسه من
التعلق بغيره، وعلم أنه لا يؤتى عليه بخير ولا شرّ إلّا منه، وأقام
العذر لكل موجود. وقال: إذا ترادفت عليك الغفلات وكثرة النوم، فلا تسخط
ولا تلتفت لذلك، فإن من نظر الأسباب مع الحقّ أشرك. كن مع الله بما
يريد لا مع نفسك بما تريد، لكن لا بد من الاستغفار.
وقال [2] : علامة الراسخ أن يزداد تمكنا عند سلبه، لأنه مع الحقّ بما
أحبّ، فمن وجد اللذّة في حال المعرفة دون السلب فهو مع نفسه غيبة
وحضورا.
وقال [2] : من صدق في شيء وتعلقت همته بحصوله، كان له عاجلا أو آجلا،
فإن لم يصل إليه في الدنيا فهو له في الآخرة. ومن مات قبل الفتح رفع
إلى محلّ همته.
وقال [2] : العارف يعرف ببصره ما يعرفه غيره ببصيرته، ويعرف ببصيرته ما
لا يدركه أحد إلّا نادرا، ومع ذلك فلا يأمن على نفسه من نفسه، فكيف
يأمن على نفسه من مقدور ربّه، وهذا مما قطع الظهور سَنَسْتَدْرِجُهُمْ
من حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ 7: 182 [الأعراف: 182] .
وقال [2] : لا ينقص العارف قوله لتلميذه: خذ هذا العلم الذي لا تجده
__________
التصوف. مات سنة ستمائة وثلاث وسبعون. انظر «طبقات الشافعية الكبرى»
(8/ 45) و «الأعلام» (6/ 30) .
[1] أقول: كل هذا من المبالغات التي لا تجوز. (ع) .
[2] القائل ابن العربي.
(7/341)
عند غيري ونحوه مما فيه تزكية نفسه، لأن
قصده حث المتعلم على القبول.
وقال: كلام العارف على صورة السّامع بحسب قوة استعداده وضعفه، وشبهته
القائمة بباطنه.
وقال: كل من ثقل عليك الجواب عن كلامه فلا تجبه، فإن وعاءه ملآن لا يسع
الجواب.
وقال: من صحّ له قدم في التوحيد، انتفت عنه الدعاوى من نحو رياء
وإعجاب، فإنه يجد جميع الصفات المحمودة لله لا له، والعبد لا يعجب بعمل
غيره ولا بمتاع غيره.
وقال: من ملكته نفسه عذّب بنار التدبير، ومن ملكه الله عذّب بنار
الاختبار، ومن عجز عن العجز، أذاقه الله حلاوة الإيمان، ولم يبق عنده
حجاب.
وقال: من أدرك من نفسه التغيّر والتبديل في كل نفس، فهو العالم بقوله
تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ 55: 29 [الرّحمن: 29] .
وقال: من طلب دليلا على وحدانية الله تعالى، كان الحمار أعرف بالله
منه.
وقال: الجاهل لا يرى جهله لأنه في ظلمته، والعالم لا يرى علمه لأنه في
ضياء نوره، ولا يجري شيء إلّا بغيره، فالمرآة تخبرك بعيوب صورتك
وتصدقها [1] مع جهلك بما أخبرت به، والعالم يخبرك بعيوب نفسك مع علمك
بما أخبرك به وتكذبه، فماذا بعد الحقّ إلّا الضلال.
وقال: حسن الأدب في الظّاهر آية حسنه في الباطن، فإيّاك وسوء الظنّ
والسلام.
__________
[1] كذا في «ط» و «المنتخب» (165/ ب) : «وتصدقها» وفي «آ» : «وتصدقك» .
(7/342)
وقال: معنى الفتح عندهم كشف حجاب النّفس،
أو القلب، أو الرّوح، أو السر لما في الكتاب والسّنّة.
وقال: وربما فهم أحدهم من اللفظ ضد ما قصده المتكلم. سمع بعض علماء
بغداد رجلا من شربة الخمر ينشد:
إذا العشرون من شعبان ولّت ... فواصل شرب ليلك بالنّهار
ولا تشرب بأقداح صغار ... فإنّ الوقت ضاق على الصّغار
فهام على وجهه في البرّيّة، حتّى مات.
وقال: كثيرا ما تهبّ في قلوب العارفين نفحات الهيبة، فإن نطقوا بها
جهّلهم كمّل العارفين، وردّها عليهم أصحاب الأدلة من أهل الظّاهر، وغاب
عن هؤلاء أنه تعالى كما أعطى أولياءه الكرامات التي هي فرع المعجزات،
فلا بدع أن تنطق ألسنتهم بعبارات تعجز العلماء عن فهمها.
وقال: من لم يقم بقلبه تصديق ما يسمعه من كلام القوم، فلا يجالسهم، فإن
مجالستهم بغير تصديق سمّ قاتل.
وقال: شدة القرب حجاب، كما أن غاية البعد حجاب، وإن كان الحقّ أقرب
إلينا من حبل الوريد، فأين السبعون ألف حجاب.
وقال: لا تدخل الشبهة في المعارف والأسرار الربّانيّة، وإنما محلّها
العلوم النظرية.
وقال: نهاية العارفين منقولة غير معقولة، فما ثمّ عندهم إلّا بداية
وتنقضي أعمارهم، وهم مع الله على أول قدم.
وقال: كلّ من آمن بدليل فلا وثوق بإيمانه، لأنه نظريّ، فهو معرّض
للقوادح، بخلاف الإيمان الضروري الذي يوجد في القلب ولا يمكن دفعه، وكل
علم حصل عن نظر وفكر لا يسلم من دخول الشبه عليه ولا الحيرة فيه.
(7/343)
وقال: شرط الكامل، الإحسان إلى أعدائه وهم
لا يشعرون، تخلّقا بأخلاق الله، فإنه دائم الإحسان إلى من سمّاهم
أعداءه، مع جهل الأعداء به.
وقال: شرط الشيخ أن يكون عنده جميع ما يحتاجه المريد في التربية لا
ظهور كرامة، ولا كشف باطن المريد.
وقال: الشفقة على الخلق أحقّ بالرّعاية من الغيرة في الله، لأن الغيرة
لا أصل لها في الحقائق الثبوتية، لأنها من الغيرية، ولا غيرية هناك
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها 8: 61 [الأنفال: 61]
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها 42: 40 [الشّورى: 40] فجعل
القصاص سيئة، أي أن ذلك الفعل سيء مع كونه مشروعا، وكل ذلك تعظيما لهذه
النشأة التي تولى الحقّ خلقها بيده، واستخلفها في الأرض، وحرّم على
عباده السّعي في إتلافها بغير إذنه.
وقال: الصّوفي، من أسقط الياءات الثلاث، فلا يقول: لي، ولا عندي، ولا
متاعي، أي لا يضيف لنفسه شيئا.
وقال: «الدّعاء مخّ العبادة» [1] وبالمخ تكون القوة للأعضاء، فلذا
تتقوى به عبادة العابدين.
وقال: تحفّظ من لذّات الأحوال، فإنها سموم قاتلة، وحجب مانعة.
وقال: لا يغرنّك إمهاله [2] ، فإن بطشه شديد، والشقيّ من اتّعظ بنفسه.
__________
[1] رواه الترمذي رقم (3368) في الدعوات. باب ما جاء في فضل الدعاء من
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وفي سنده عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف.
ويغني عنه حديث «الدّعاء هو العبادة» من حديث النّعمان بن بشير رضي
الله عنه، رواه الترمذي رقم (3369) في الدعوات: باب رقم (2) وابن ماجة
رقم (3828) في الدعاء: باب فضل الدعاء، وهو حديث صحيح.
[2] يعني الله تعالى.
(7/344)
لا يغرنّك من خالف فجوزي بإحسان المعارف،
ووقف في أحسن المواقف، وتجلّت له المشاهد، هذا كله مكر به واستدراج من
حيث لا يعلم، قل له إذا احتجّ عليك بنفسه:
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار
وقال: لا يصح لعبد مقام المعرفة بالله وهو يجهل حكما واحدا من شرائع
الأنبياء، فمن ادعى المعرفة واستشكل حكما واحدا في الشريعة المحمدية أو
غيرها فهو كاذب.
وقال: أجمعت الطائفة على أن العلم بالله عين الجهل به تعالى.
وقال: إذا ذكر الله الذّاكر ولم يخشع قلبه، ولا خضع عند ذكره إيّاه، لم
يحترم الجناب الإلهي، ولم يأت بما يليق به من التعظيم، وأول ما تمقته
جوارحه وجميع أجزاء بدنه.
وقال: الأسماء الإلهية كلها التي عليها يتوقف وجود العالم أربعة لا
غير: الحيّ، القادر، المريد، العالم. وبهذه الأسماء ثبت كونه إلها.
وقال: أخبرني من أثق به، قال: دخلت على رجل فقيه، عالم متكلم، فوجدته
بمجلس فيه الخمر وهو يشرب، ففرغ النبيذ، فقيل له: انفذ إلى فلان يأتي
بنبيذ، فقال: لا، فإني ما أصررت على معصية قطّ، ولي بين الكأسين توبة
ولا أنتظره، فإذا حصل بيدي أنظر هل يوفقني ربّي فأتركه أو يخذلني
فأشربه، ثم قال- أعني ابن عربي-: فهكذا العلماء. انتهى كلام المناوي
ملخصا [1] .
وأقول: ومن كلامه أيضا:
ما نال من جعل الشّريعة جانبا ... شيئا ولو بلغ السّماء مناره
__________
[1] أقول: وفي كلامه كله مبالغات لا يقرها الإسلام. (ع) .
(7/345)
ومن شعره الرائق قوله:
حقيقتي همت بها ... وما رآها بصري
ولو رآها لغدا ... قتيل ذاك الحور
فعند ما أبصرتها ... صرت بحكم النّظر
فبتّ مسحورا بها ... أهيم حتّى السّحر
يا حذري من حذري ... لو كان يغني حذري
والله ما هيّمني ... جمال ذاك الخفر
يا حسنها من ظبية ... ترعى بذات الخمر
إذا رنت أو عطفت ... تسبي عقول البشر
كأنّما أنفاسها ... أعراف مسك عطر
كأنها شمس الضّحى ... في النّور أو كالقمر
إن سفرت أبرزها ... نور صباح مسفر
أو سدلت غيّبها ... ظلام ذاك الشّعر
يا قمر تحت دجى ... خذي فؤادي أو ذري
عسى لكي أبصركم ... إن [1] كان حظي نظري
وكان يقول: أعرف الاسم الأعظم، وأعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق
الكسب، وكان مجتهدا مطلقا بلا ريب.
قال في رائيته:
لقد حرّم الرّحمن تقليد مالك ... وأحمد والنّعمان والكلّ فاعذروا
وقال أيضا في نونيته:
لست ممن يقول قال ابن حزم ... لا ولا أحمد ولا النّعمان
__________
[1] في «ط» : «إذ» .
(7/346)
وهذا صريح بالاجتهاد المطلق، كيف لا وقد
قال: عرضت أحاديثه- صلى الله عليه وسلم جميعها عليه، فكان يقول عن
أحاديث: صحّت من جهة الصناعة ما قلتها، وعن أحاديث ضعفت من جهتها
قلتها، وإذا لم يكن مجتهدا فليس لله مجتهد.
إن لم تره فهذه آثاره
هذا وما نقم عليه أحد فيما أعلم بغير ما فهمه من كلامه من الحلول أو
الاتحاد، وما تفرّع عليهما من كفر أو إلحاد، وساحته النزهة منهما،
وشأوه أبعد شأوا عنهما، وكلامه بنفسه يشهد بهذا.
خلي افتراك فذاك خلي لا ذا
قال في «فتوحاته المكية» التي هي قرة عين السادة الصوفية، في الباب
الثاني والتسعين ومائتين: من أعظم دليل على نفي الحلول والاتحاد الذي
يتوهمه بعضهم، أن تعلم عقلا أن القمر ليس فيه من نور الشمس شيء، وأن
الشمس ما انتقلت إليه بذاتها، وإنما كان القمر محلا لها، كذلك [1]
العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حلّ فيه.
وقال أيضا فيها في الباب الثامن والسبعين، كما نقله عنه الشعراني في
كتابه «اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر» : إن الله تعالى لم
[2] يوجد العالم لافتقاره إليه، وإنما الأسباب في حال عدمها الإمكاني
لها طلبت وجودها ممن هي مفتقرة إليه بالذات، وهو الله تعالى، لا تعرف
غيره، فلما طلبت بفقرها الذاتي من الله تعالى أن يوجدها، قبل الحقّ
سؤالها، لا من حاجة قامت به إليها، لأنها كانت مشهودة له تعالى في حال
عدمها النّسبي كما
__________
[1] في «ط» : «فلذلك» .
[2] لفظة «لم» لم ترد في «آ» .
(7/347)
هي مشهودة له في حال وجودها سواء، فهو
يدركها- سبحانه- على ما هي عليه في حقائقها حال وجودها وعدمها، بإدراك
واحد، فلهذا لم يكن إيجاده للأشياء عن فقر، بخلاف العبد، فإن الحقّ
تعالى لو أعطاه جزء «كن» وأراد إيجاد شيء لا يوجده إلّا عن فقر إليه
وحاجة، فما طلب العبد إلّا ما ليس عنده، فقد افترق إيجاد العبد عن
إيجاد الحقّ تعالى، قال: وهذه مسألة لو ذهبت عينك جزاء لتحصيلها لكان
قليلا في حقّها، فإنها مزلّة قدم، زلّ فيها كثير من أهل الله تعالى،
والتحقوا فيها بمن ذمّهم الله تعالى في قوله: لَقَدْ سَمِعَ الله
قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ 3:
181 [آل عمران: 181] [1] انتهى. فإن قلت: قد نقل بعضهم عن الشيخ أنه
كان ينشد:
الكلّ مفتقر ما الكلّ مستغني ... هذا هو الحقّ قد قلنا ولا نكني [2]
فالجواب: إن هذا ومثله من المدسوس عليه في كتاب «الفصوص» وغيره، فإن
هذا يكذّبه الناقل عنه خلاف ذلك. انتهى كلام الشعراني.
توفي- رحمه الله ورضي عنه- في الثاني والعشرين من ربيع الآخر بدمشق، في
دار القاضي محيي الدّين بن الزّكي، وحمل إلى قاسيون فدفن في تربته
المعلومة الشريفة، التي هي قطعة من رياض الجنّة، والله تعالى أعلم.
وفيها أمين الدّين أبو بكر وأبو عبد الله، أحمد بن محمد بن طلحة بن
الحسن بن طلحة بن حسّان البصري الأصل البغدادي المصري [3] الفقيه
الحنبلي، المحدّث المعدّل.
__________
[1] قلت: وقد تحرفت الآية في «آ» و «ط» إلى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ
... 5: 17.
[2] قلت: جاء في هامش «ط» ما نصه: «أقول: ليس في هذا البيت نص أنه
بالكل حتّى الله، بل المراد من المخلوقات، ولا حاجة إلى الجواب بأنه
مدسوس» . لكتابه داود كما في هامش الأصل.
[3] انظر «تاريخ الإسلام» (64/ 336- 337) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/
220- 221) .
(7/348)
ولد سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة تقريبا، وطلب
الحديث، وسمع الكثير من ابن كليب، وذاكر ابن كامل، وأبي الفرج بن
الجوزي، وابن المعطوش وخلق كثير من هذه الطبقة. وكتب بخطه كثيرا،
وتفقّه في المذهب، وتكلّم في الخلاف، وحصّل طرفا صالحا من الأدب، وسافر
إلى بلاد فارس، والرّوم، ومصر، وشهد عند ابن اللّمغاني [1] . وله
مجموعات وتخاريج في الحديث، وجمع الأحاديث السباعيات والثمانيات التي
له، و «معجما» لشيوخه. وحدّث ببغداد وغيرها. ذكر ذلك ابن النجار. وقال:
سمعت منه وهو فاضل، عالم، ثقة، صدوق، متدين، أمين، نزه، حسن الطريقة،
جميل السيرة، طاهر السّريرة، سليم الجانب. مسارع إلى فعل الخير، محبوب
إلى الناس. انتهى.
توفي ليلة الأحد ثالث ربيع الأول ببغداد.
وفيها تقي الدّين أبو عبد الله يوسف بن عبد المنعم بن نعمة بن سلطان بن
سرور بن رافع بن حسن بن جعفر المقدسي النابلسي [2] ، الفقيه الحنبلي
المحدّث.
ولد سنة ست وثمانين وخمسمائة تقديرا ببيت المقدس، وسمع بدمشق من ابن
طبرزد وغيره.
قال المنذري: ترافقنا [3] في السماع كثيرا، وكان على طريقة حسنة.
توفي [في] عاشر ذي القعدة بمدينة نابلس.
__________
[1] هو قاضي القضاة كمال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن عبد السلام بن
إسماعيل اللّمغاني ثم البغدادي، المتوفي سنة (649) هـ. انظر «سير أعلام
النبلاء» (23/ 250) .
[2] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 564) و «تاريخ الإسلام» (64/
365- 366) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 221) .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «توافقنا» والتصحيح من «التكملة» و «الذيل»
.
(7/349)
سنة تسع وثلاثين
وستمائة
فيها توفي الشّمس بن الخبّاز النّحوي أبو عبد الله أحمد بن الحسين ابن
أحمد بن معالي الإربلّي ثم الموصلي [1] الضرير، صاحب التصانيف الأدبية.
توفي في رجب بالموصل وله خمسون سنة [2] . قاله في «العبر» .
وفيها المارستاني أبو العبّاس أحمد بن يعقوب بن عبد الله البغدادي [3]
الصّوفي، قيّم جامع المنصور. روى عن أبي المعالي بن اللّحّاس وحفدة
العطّاري [4] ، وجماعة، وتوفي في ذي الحجّة.
وفيها أبو العبّاس أحمد بن محفوظ بن مهنّا بن شكر بن الصّافيوني [5]
الرّصافي البغدادي [6] الحنبلي، الفقيه المحدّث. سمع الكثير، وعني
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 159) و «تاريخ الإسلام» (64/ 367) و «النجوم
الزاهرة» (6/ 342) .
[2] لفظة «سنة» سقطت من «آ» .
[3] انظر «العبر» (5/ 159) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 77- 80) و
«تاريخ الإسلام» (64/ 368- 369) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (265) .
[4] تحرفت لفظة «العطاري» إلى «العطاردي» في «آ» و «ط» والتصحيح من
«السير» و «تاريخ الإسلام» وهو محمد بن أسعد العطاري الشهير ب «حفدة» ،
انظر «تكملة الإكمال» لابن نقطة (2/ 46- 47) والمصادر المذكورة في
هامشه.
[5] كذا في «آ» و «ط» «الصافيوني» وفي «ذيل طبقات الحنابلة» مصدر
المؤلف «الصابوني» .
[6] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 223) .
(7/350)
بالسماع، وكتب الطباق بخطّه، وهو حسن،
وتفقّه على القاضي أبي صالح نصر بن عبد الرزّاق، وكان خيّرا، صالحا،
متعبّدا. توفي يوم الأحد تاسع عشر صفر، ودفن بمقبرة معروف الكرخي.
وفيها تقي الدّين إسحاق بن طرخان بن ماضي، الفقيه الشافعي الشاغوري [1]
، آخر من حدّث، عن حمزة بن كروّس [2] . توفي في رمضان بالشاغور.
وفيها النّفيس بن قادوس القاضي أبو الكرم أسعد بن عبد الغني العدوي
المصري [3] ، آخر من روى عن الشريف أبي الفتوح الخطيب، وأبي العبّاس بن
الحطيئة [4] . توفي في ذي الحجّة وله ست وتسعون سنة.
وفيها أبو الطاهر إسماعيل بن ظفر [5] بن أحمد بن إبراهيم بن مفرج بن
منصور بن ثعلب بن عيينة بن ثابت بن بكّار بن عبد الله بن شرف ابن مالك
بن المنذر بن النّعمان بن المنذر المنذري النابلسي [6] ، الدمشقي
المولد، المحدّث الحنبلي.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 159) و «تاريخ الإسلام» (64/ 370- 371) و
«الإعلام بوفيات الأعلام» ص (265) .
[2] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «كروش» والتصحيح من «تاريخ الإسلام» وانظر
«سير أعلام النبلاء» (20/ 392) وقد ضبطت فيه «كرّوس» بفتح الكاف وتشديد
الراء. قال ابن نقطة في «تكملة الإكمال» باب (كروّس وكدوّش) : أما
«كروّس» : بفتح الكاف والراء، والواو المشدّدة، وآخره سين مهملة.
[3] انظر «العبر» (5/ 159- 160) و «تاريخ الإسلام» (64/ 371- 372) .
[4] في «آ» و «ط» «ابن الحطية» وما أثبته من «تاريخ الإسلام» .
[5] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «مظفر» والتصحيح من مصادر الترجمة.
[6] انظر «سير أعلام النبلاء» (23/ 81) و «تاريخ الإسلام» (64/ 373-
374) ، و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 224- 225) ونسبه الذهبي في «تاريخ
الإسلام» إلى النعمان بن المنذر ملك عرب الشام.
(7/351)
ولد سنة أربع وسبعين وخمسمائة بدمشق،
وارتحل في طلب الحديث إلى الأمصار، فسمع بمكّة من ابن الحصري، وبمصر من
البوصيري، والأرتاحي، والحافظ عبد الغني [1] وجماعة، وببغداد من
المبارك بن كليب، وابن الجوزي، وغيرهما. وبأصبهان من أبي المكارم
اللّبّان وغيره، وبخراسان من عبد المنعم الفراوي، والمؤيد الطّوسي،
وجماعة. وبنيسابور من أبي سعد الصفّار وغيره، وبحرّان من الحافظ عبد
القادر الرهّاوي، وانقطع إليه مدة.
وكتب الكثير بخطه، وحدّث بالكثير.
قال المنذري: سمعت منه بحرّان ودمشق، وكتب عنه ابن النجار ببغداد،
وقال: كان شيخا صالحا.
وقال عمر بن الحاجب: كان عبدا صالحا، صاحب كرامات، ذا مروءة، مع فقر
مدقع، صحيح الأصول. روى عنه الحافظ الضياء، والمنذري، والبرزالي،
والقاضي سليمان بن حمزة. وتوفي في رابع شوال بسفح قاسيون ودفن به.
وفيها الإسعردي [2] أبو الرّبيع سليمان بن إبراهيم بن هبة الله بن رحمة
الحنبلي [3] المحدث، خطيب بيت لهيا.
ولد بإسعرد سنة سبع وستين وخمسمائة، ورحل فسمع بدمشق من الخشوعي، وابن
طبرزد، وجماعة كثيرة. وبمصر من البوصيري وغيره،
__________
[1] يعني المقدسي رحمه الله تعالى.
[2] قال ابن ناصر الدّين: وكانوا يؤذونه، فيكشطون الدال، فيبقى
الأسعري- وقد تصحفت في «توضيح المشتبه» إلى الأشعري- فيغضب.
قلت: «القائل ابن ناصر الدّين) : ووجدت نسبة سليمان هذا بخطّه:
السعردي، فكأنّه- والله أعلم- لما أوذي بكشط الدال كتب: السعردي لتزول
العلّة مع كشط الدال.
[3] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 576- 577) و «العبر» (5/ 160) و
«تاريخ الإسلام» (64/ 377- 378) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 223) و
«توضيح المشتبه» (1/ 223- 224) وقد تأخرت هذه الترجمة في «ط» إلى عقب
الترجمة التالية.
(7/352)
وبالإسكندرية من ابن علّاس [1] ، وانقطع
إلى الحافظ عبد الغني المقدسي مدة، وتخرّج به، وسمع منه الكثير، وكتب
بخطّه كثيرا. وكان كثير الإفادة، حسن السيرة. سئل عنه الحافظ الضياء
فقال: خيّر ديّن ثقة. وأقام ببيت لهيا، وتولى إمامتها وخطابتها.
قال المنذري: اجتمعت به ولم يتفق لي السماع منه، وأفادنا إجازة عن
جماعة من شيوخ المصريين وغيرهم، شكر الله سعيه، وجزاه خيرا.
توفي في ثاني عشري ربيع الآخر ببيت لهيا.
ورحمة اسم أم أبي [2] جدّه وبها عرف جدّه.
وفيها أبو علي الحسن بن إبراهيم بن هبة الله بن دينار المصري الصّائغ
[3] . روى عن السّلفي، ومات في جمادى الآخرة عن تسع وثمانين سنة.
وفيها أبو المعالي عماد الدّين عبد الرحمن بن مقبل [4] . العلّامة قاضي
القضاة الواسطي الشافعي [5] .
ولد سنة سبعين وخمسمائة، وتفقه، فدرّس وأفتى، وناب في القضاء عن أبي
صالح الجيلي، ثم ولي بعده القضاء، ودرّس بالمستنصرية، ثم عزل عن الكلّ
سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، فتزهّد، وتعبد، ثم ولي مشيخة رباط في سنة
خمس وثلاثين، وحدّث عن ابن كليب، وتوفي في ذي القعدة.
__________
[1] هو عبد الرحمن بن مكي بن حمزة بن موقّى الأنصاري السعدي الثغري،
ويعرف بابن علّاس، المتوفى سنة (599) هـ. انظر «سير أعلام النبلاء»
(21/ 392- 393) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (247) .
[2] لفظة «أبي» سقطت من «آ» .
[3] انظر «النجوم الزاهرة» (6/ 344) وقد تقدمت ترجمته في «ط» إلى ما
قبل ترجمة الإسعردي التي قبلها.
[4] تحرفت «ابن مقبل» في «ا» و «ط» إلى «ابن نفيل» والتصحيح من مصادر
الترجمة.
[5] انظر «العبر» (5/ 161) و «تاريخ الإسلام» (64/ 379- 380) و «طبقات
الشافعية الكبرى» (8/ 187) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 553- 554) .
(7/353)
وفيها عبد السّيّد بن أحمد الضّبّي [1] ،
خطيب بعقوبا. روى عن يحيى ابن ثابت، وأحمد المرقّعاتي، وتوفي في صفر،
وله تسع وسبعون سنة.
وفيها أبو محمد سيف الدّين عبد الغني بن فخر الدّين أبي عبد الله محمد
بن تيميّة الحرّاني [2] الحنبلي، خطيب حرّان وابن خطيبها الفخر.
ولد في ثاني صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بحرّان، وسمع بها من والده،
وعبد القادر الرّهاوي وغيرهما. ورحل إلى بغداد، فسمع من ابن سكينة،
وابن طبرزد، وغيرهما. وأخذ الفقه عن غلام ابن المنّي [3] وغيره، ورجع
إلى حرّان، وقام مقام أبيه بعد وفاته، فكان يخطب، ويعظ، ويدرّس، ويلقي
التفسير في الجامع على الكرسي.
قال ابن حمدان: كان خطيبا، فصيحا، رئيسا، ثابتا، رزين العقل، وله تصنيف
«الزوائد على تفسير الوالد» و «إهداء القرب إلى ساكني الترب» .
قال: ولم أسمع منه، ولا قرأت عليه شيئا. وسمعت بقراءته على والده
كثيرا.
توفي في سابع المحرّم بحرّان.
وفيها البدر علي بن عبد الصّمد بن عبد الجليل الرّازي [4] ، المؤدّب
بمكتب جاروخ بدمشق. روى عن السّلفي «ثمانين» [5] الآجري، وتوفي في ربيع
الآخر.
__________
[1] انظر «العبر» (5/ 161) و «تاريخ الإسلام» (64/ 380) .
[2] انظر «العبر» (5/ 161) و «تاريخ الإسلام» (64/ 381) و «ذيل طبقات
الحنابلة» (2/ 222) .
[3] هو إسماعيل بن علي بن حسين البغدادي الأزجي المأموني، يعرف
بالرّفّاء المناظر، ويعرف أيضا بغلام ابن المني. مات سنة (610 هـ) وقد
تقدمت ترجمته في ص (76) من هذا المجلد.
[4] تحرفت نسبته في «آ» و «ط» إلى «المرازقي» والتصحيح من «العبر» (5/
161) و «تاريخ الإسلام» (64/ 384) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 79) .
[5] في «ط» : «ثماني» والصواب ما جاء في «آ» وانظر «الرسالة المستطرفة»
ص (104) .
(7/354)
وفيها أبو فضيل قايماز المعظّمي مجاهد
الدّين [1] والي البحيرة.
روى عن السّلفي، ومات في سلخ شوال.
وفيها شرف الدّين بن الصّفراوي [2] قاضي قضاة مصر أبو المكارم محمد بن
القاضي [الرّشيد علي بن القاضي] أبي المجد حسن الإسكندراني ثم المصري
الشافعي.
ولد بالإسكندرية سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وقدم القاهرة فناب في
القضاء سنة أربع وثمانين عن نصر الدّين بن درباس، ثم ناب عن غير واحد،
وولي قضاء الدّيار المصرية في سنة سبع عشرة وستمائة، وتوفي في تاسع عشر
ذي القعدة.
وفيها ابن نعيم القاضي أبو بكر محمد بن يحيى بن مظفّر البغدادي
الشافعي، المعروف بابن الحبير [3] .
ولد سنة تسع وخمسين، وسمع من شهدة وجماعة، وكان من أئمة الشافعية، صاحب
ليل وتهجّد، وحجّ، طويل الباع في النظر والجدل، ولي تدريس النظامية
مدة.
قال الإسنويّ: كان إماما، عارفا بالمذهب ودقائقه وتحقيقاته، وله اليد
الطّولي في الجدل والمناظرة، ديّنا، خيّرا، كثير التّلاوة [والتّهجّد،
والحجّ] .
عليه وقار وسكينة، وتفقه على المجير [4] البغدادي بعد أن كان حنبليا،
وناب
__________
[1] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 588) و «العبر» (5/ 162) و
«تاريخ الإسلام» (64/ 386- 387) .
[2] انظر «العبر» (5/ 162) وما بين الحاصرتين مستدرك منه.
[3] انظر «تكملة الإكمال» لابن نقطة (2/ 12) و «التكملة لوفيات النقلة»
(3/ 586- 587) و «العبر» (5/ 162) و «تاريخ الإسلام» (64/ 391- 392) و
«طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 449- 450) وما بين الحاصرتين في الترجمة
زيادة منه.
[4] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «المحبر» والتصحيح من «طبقات الشافعية»
للإسنوي (1/ 271 و 450) .
(7/355)
في القضاء عن ابن فضلان، وحدّث، وتوفي في
سابع شوال.
وفيها الكمال بن يونس، العلّامة أبو الفتح موسى بن يونس بن محمد بن
منعة بن مالك الموصلي [1] الشّافعي، أحد الأعلام.
ولد سنة إحدى وخمسين بالموصل، وتفقه على والده، وببغداد على معيد
النّظامية السّديد السّلماسي، وبرع عليه في الأصول والخلاف، وقرأ النحو
على ابن سعدون القرطبي، والكمال الأنباري.
وأكب على الاشتغال بالعقليات، حتّى بلغ فيها الغاية، وكان يتوقّد ذكاء،
ويموج بالمعارف، حتّى قيل: إنه كان يتقن أربعة عشر فنّا، واشتهر ذكره،
وطار صيته وخبره، ورحلت الطلبة إليه من الأقطار، وتفرّد بإتقان علم
الرّياضي، ولم يكن له في وقته نظير.
قال ابن خلّكان: كان يتهم في دينه لكون العلوم العقلية غالبة عليه، كما
قال العماد المغربي فيه:
وعاطيته صهباء من فيه مزجها ... كرقّة شعري أو كدين ابن يونس
وقال ابن خلّكان أيضا: ولقد رأيته بالموصل في شهر رمضان، سنة ست وعشرين
وستمائة، وترددت إليه دفعات عديدة، لما كان بينه وبين الوالد- رحمه
الله- من المؤانسة والمودّة الأكيدة، ولم يتفق لي الأخذ عنه لعدم
الإقامة وسرعة الحركة إلى الشام، وكان الفقهاء يقولون: إنه يدري أربعة
وعشرين علما [2] دراية متقنة، فمن ذلك المذهب، وكان فيه أوحد أهل
زمانه، وكان جماعة من الحنفية يشتغلون عليه بمذهبهم، ويحلّ لهم
__________
[1] انظر «وفيات الأعيان» (5/ 311- 318) و «العبر» (5/ 162- 163) و
«سير أعلام النبلاء» (23/ 85- 87) و «تاريخ الإسلام» (64/ 394- 397) و
«الإعلام بوفيات الأعلام» ص (265) .
[2] في «وفيات الأعيان» : «فنّا» .
(7/356)
مسائل [1] «الجامع الكبير» أحسن حلّ، مع ما
هي عليه من الإشكال المشهور. وكان يتقن فنّي [2] الخلاف العراقي
والبخاري، وأصول الفقه والدّين، ولما وصلت كتب فخر الدّين الرّازي إلى
الموصل- وكان بها إذ ذاك جماعة من الفضلاء- لم يفهم أحد اصطلاحه فيها
سواه، وكذلك «الإرشاد» للعميدي، لمّا وقف عليها [حلّها] في ليلة واحدة
وأقرأها [3] على ما قالوه.
وبالجملة فقد كان كمال الدّين كما قال الشاعر:
وكان من العلوم بحيث يقضى ... له في كلّ علم [4] بالجميع
واستخرج في علم الأوقات [5] طرقا لم يهتد إليها أحد. وكان يحفظ من
التواريخ وأيام العرب ووقائعهم والأشعار والمحاضرات شيئا كثيرا. وكان
أهل الذّمة يقرؤون عليه التوراة والإنجيل، ويشرح لهما هذين الكتابين
شرحا يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله.
وبالجملة فإنّ مجموع ما كان يعرف من العلوم لم يكن يسمع عن أحد ممن كان
تقدمه أنه جمع مثله.
وتوفي- رحمه الله تعالى- بالموصل رابع عشر شعبان. انتهى كلام ابن
خلّكان ملخصا [6] .
__________
[1] لفظة «مسائل» سقطت من «آ» .
[2] في «ط» : «فنّ» وهو خطأ.
[3] في «آ» : «وقرأها» وما جاء في «ط» موافق لما في «وفيات الأعيان» .
[4] في «وفيات الأعيان» : «فنّ» .
[5] في «ط» و «وفيات الأعيان» : «في علم الأوفاق» .
[6] قلت: وفيها على الصواب مات قاضي القضاة أبو المكارم محمد بن عبد
الله بن الحسن الإسكندري المصري المعروف بابن عين الدولة، وقد وهم
المؤلّف- رحمه الله تعالى- فأورد ترجمته في سنة (ست وثلاثين وستمائة)
وقد نبّهت على وهمه عند التعليق على ترجمته ص (317) فراجعها.
(7/357)
سنة أربعين وستمائة
فيها جهّز الملك الصالح أيوب عسكره وعليهم كمال الدّين ابن الشيخ لأخذ
دمشق من عمّه الصّالح إسماعيل، فمات مقدّم العسكر كمال الدّين بغزّة،
ويقال: إنه سمّ.
وفيها توفي الزّين أحمد [1] بن عبد الملك بن عثمان المقدسي الحنبلي
الشّروطي الناسخ [2] . روى عن يحيى الثقفي، والبوصيري، وابن المعطوش
[3] وطبقتهم. وطلب وكتب الأجزاء.
توفي في رمضان عن ثلاث وستين سنة.
وفيها أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ أبي طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر
الدّمشقي الخشوعي [4] . آخر من سمع من عبد الواحد بن هلال، وما يدرى ما
سمع من ابن عساكر. توفي في رجب وله اثنتان وثمانون سنة.
وفيها آسية [بنت عبد الواحد] المقدسية [5] ، والدة السيف بن المجد.
قال أخوها الضياء: ما في زماننا مثلها، لا تكاد تدع قيام الليل.
__________
[1] لفظة «أحمد» سقطت من «العبر» بطبعتيه فتستدرك.
[2] انظر «العبر» (5/ 164) و «تاريخ الإسلام» (64/ 402) .
[3] تصحفت في «آ» و «ط» إلى «المعطوس» والتصحيح من مصادر الترجمة.
[4] انظر «العبر» (5/ 164) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 102- 103) و
«تاريخ الإسلام» (64/ 405- 406) .
[5] انظر «العبر» (5/ 164) و «تاريخ الإسلام» (64/ 406- 407) وما بين
الحاصرتين زيادة منه.
(7/358)
وفيها الجهة [1] الأتابكية، امرأة الأشرف
موسى، صاحبة المدرسة والتّربة بجبل قاسيون تركان بنت الملك عز الدّين
مسعود بن قطب الدّين مودود بن أتابك زنكي.
وفيها جمال النّساء بنت أحمد بن أبي سعد الغرّاف البغدادية [2] سمعت من
ابن البطّي، وأحمد بن محمد الكاغدي، وبقية عشرة شيوخ، وتوفيت في جمادى
الأولى.
وفيها أبو محمد الحسن بن الأكرم، عرف بابن الزّاهد، العلوي الأديب.
ومن شعره:
صدّ عنّي وجاء شيئا فريّا ... فنبذت الكرى مكانا قصيّا
ورعيت النّجوم في الليل حتّى ... بات طرفي موكّلا بالثّريّا
وبراني الأسى فقلت لقلبي ... ذق أليم الغرام ما دمت حيّا
كيف تهوى من لا يرقّ لصب ... قد كوت قلبه الصّبابة كيّا
يا طبيب القلوب عالج مريضا ... يشتكي من جفاك داء دويّا
ترك الحزم من أحب كحبي ... من بني التّرك ظالما تركيّا
يا بخيلا بوصله ولعمري ... ضيّق العين لا يكون سخيّا
وفيها سعيدة بنت عبد الملك بن يوسف بن محمد بن قدامة [3] .
روت بالإجازة عن العثماني [4] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «الحجة» وما أثبته من «العبر» (5/ 164) و «تاريخ
الإسلام» (64/ 408) .
[2] انظر «العبر» (5/ 165) و «تاريخ الإسلام» (64/ 408- 409) و «مرآة
الجنان» (4/ 104) و «غربال الزمان» ص (520) وقد تصحفت «الغرّاف» إلى
«العرّاف» في «آ» و «ط» والتصحيح من مصادر الترجمة.
[3] انظر «العبر» (5/ 165) و «تاريخ الإسلام» (64/ 410) .
[4] هو أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن يحيى الأموي الدّباجي
العثماني، المتوفى سنة-
(7/359)
وفيها عائشة بنت المستنجد بالله [1] بن
المقتفي، وأخت المستضيء، وعمّة النّاصر. عمّرت دهرا، وماتت في ذي
الحجّة.
وفيها عبد الحميد بن محمد بن سعد الصّالحي الطّيّان [2] . روى عن يحيى
الثّقفي، وتوفي في رجب.
وفيها ابن أبيه [3] عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن الدّجّاجية.
روى عن الحافظ ابن عساكر، ومات في المحرّم.
وفيها أبو محمد عبد العزيز بن مكّي بن كرسا البغدادي [4] . روى عن ابن
البطّي وجماعة، وتوفي في ربيع الآخر.
وفيها صاحب المغرب أبو محمد بن المأمون، واسمه عبد الواحد ابن إدريس
المؤمني [5] ، صاحب مراكش. ولي الأمر سنة ثلاثين وستمائة، وأعاد ذكر
ابن تومرت في الخطبة ليستميل قلوب الموحدين. توفي غريقا في صهريج
بستانه [6] ، وولي بعده أخوه المعتضد علي.
وفيها العلم بن الصّابوني أبو الحسن علي بن محمود بن أحمد المحمودي
الجوّيثي [7] الصّوفي، والد الجمال بن الصّابوني، المحدّث. أجاز
__________
[ (-) ] (572) وقد تقدمت ترجمته في المجلد السادس ص (399- 400) .
[1] انظر «العبر» (5/ 165) و «تاريخ الإسلام» (64/ 412- 413) .
[2] انظر «العبر» (5/ 165) و «تاريخ الإسلام» (64/ 413- 414) .
[3] انظر «العبر» (5/ 165) و «تاريخ الإسلام» (64/ 416) وقال الذهبي
فيه: المعروف بابن الدّجاجية، وبابن أبيه.
[4] انظر «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 601) و «تاريخ الإسلام» (64/
416) و «العبر» (5/ 165) .
[5] انظر «العبر» (5/ 165- 166) و «تاريخ الإسلام» (64/ 419) .
[6] في «تاريخ الإسلام» : «في صهريج بستان له بمرّاكش» .
[7] تحرفت نسبته في «آ» و «ط» إلى «الحزني» والتصحيح من «العبر» (5/
166) و «تاريخ الإسلام» (64/ 420) وانظر «الإعلام بوفيات الأعلام» ص
(266) .
(7/360)
له أبو المطهّر الصيدلاني، وابن البطّي،
وطائفة. وسمع من السّلفي، وكان عدلا، جليلا، وافر الحرمة.
توفي في شوال عن أربع وثمانين سنة.
وفيها ابن شفنين [1] ، الشّريف أبو الكرم محمد بن عبد الواحد بن أحمد
بن أحمد الهاشمي العبّاسي المتوكلي، مسند العراق.
أجاز له أبو بكر بن الزّاغوني، ونصر بن نصر العكبري، وأبو الوقت
[السّجزي] ، ومحمد بن عبيد الله الرّطبي. وسمع من يحيى بن السّدنك.
وتوفي في رجب وله إحدى وتسعون سنة، وكان سريّا نبيلا.
وفيها المستنصر بالله أبو جعفر منصور بن الظّاهر بأمر الله محمد بن
النّاصر أحمد بن المستضيء حسن بن المستنجد يوسف بن المقتفي العبّاسي
[2] .
ولد سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وهو ابن تركية، واستخلف في رجب سنة
ثلاث وعشرين وستمائة، فحمدت سيرته.
وكان أشقر، ضخما، قصيرا، وخطه الشّيب، فخضب بالحناء، ثم تركه.
وكان جوادا، كريما، رحيما، سمحا، عادلا. بنى مدرسة المستنصرية ووقفها
على المذاهب الأربعة، وفيها المارستان والحمّام، وليس في الدّنيا
مثلها، وهي بالعراق كجامع دمشق.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «شفين» والتصحيح من «العبر» (5/ 166) و
«تاريخ الإسلام» (64/ 424- 425) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (266) .
[2] انظر «العبر» (5/ 166- 167) و «سير أعلام النبلاء» (23/ 155- 168)
و «تاريخ الإسلام» (64/ 427- 431) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (266)
.
(7/361)
وبنى المساجد، والخوانك، والخانات في
الطّرق، ولم يكن للمال عنده قدر. بنى أبوه الناصر بركة وترك فيها
المال، وكان يقول: ترى أعيش حتّى أملأها، فلما ولي المستنصر كان يقول:
ترى أعيش حتّى أفرغها.
وتوفي بكرة الجمعة عاشر جمادى الآخرة وحزن الناس عليه حزنا عظيما،
وبويع لولده عبد الله المستعصم بالله
.
(7/362)
|