شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة ست وعشرين
وسبعمائة
فيها في شعبانها أخذ ابن تيميّة وحبس بقلعة دمشق في قاعة ومعه أخوه عبد
الرحمن [1] يؤنسه، وعزّروا [2] جماعة من أصحابه، منهم ابن القيّم.
وفيها توفي زين الدّين أبو بكر بن يوسف المزّي بن الحريري الشافعي [3]
.
كان عالما، متواضعا، مقرئا بالسبع. أخذ عن الزّواوي، وحفظ الفقه،
والنحو، وحدّث عن خطيب مردا، والبكري، وابن عبد الدائم. وله جهات.
وكان مقرئا، مدرّسا.
توفي بدمشق في ربيع الأول عن ثمانين سنة.
وفيها الخطيب المسند تقيّ الدّين أحمد بن إبراهيم بن عبد الله ابن أبي
عمر المقدسي الحنبلي [4] .
__________
[1] سترد ترجمته في وفيات سنة (747) ص (262) .
[2] جاء في «لسان العرب» (عزر) : التّعزير: ضرب دون الحدّ، لمنع الجاني
من المعاودة وردعه من المعصية.
قلت: ولكن أين جماعة ابن تيميّة من المعصية! ما عزّروا إلّا لأنهم
اتبعوا الحقّ الذي كان يدعو إليه شيخهم بالحجّة الدّامغة في ذلك الوقت.
[3] انظر «ذيول العبد» ص (146) و «الدّرر الكامنة» (1/ 468) و «غاية
النهاية» (1/ 184- 185) وفيه: «أبو بكر بن سيف» .
[4] انظر «ذيول العبر» ص (146) و «الدّرر الكامنة» (1/ 92) .
(8/127)
سمع من خطيب مردا «السيرة» وسمع من
اليلداني والبكري، ومحمد بن عبد الهادي حضورا. ومن إبراهيم بن خليل.
وأجاز له السبط وجماعة.
وكان يخطب جيدا بالجامع المظفّري.
وتوفي في جمادى الآخرة عن بضع وسبعين سنة.
وفيها المعمّرة أمة الرّحمن ستّ الفقهاء بنت الشيخ تقي الدّين إبراهيم
بن علي بن الواسطي [1] الصّالحية المحدّثة.
سمعت «جزء ابن عرفة» من عبد الحقّ حضورا. وسمعت من إبراهيم بن خليل
وغيره، وأجاز لها جعفر الهمذاني، وكريمة، وأحمد بن المعزّ، وابن
القسطي، وعدد كثير.
وكانت مشاركة، صالحة مباركة. روت الكثير.
وهي والدة فاطمة بنت الدّباهي.
توفيت في ربيع الآخر عن ثلاث وتسعين سنة.
وفيها الفاضل الأديب الحسن بن أحمد بن زفر الإربلي [2] .
سافر، وتغرّب، ودخل إلى بلاد العجم، واشتغل بالطبّ، واستوطن دمشق،
وأقام بها صوفيا بدويرة حمد [3] إلى أن مات.
وكان يعرف النّحو، والأدب، والتاريخ.
ومن شعره:
وإذا المسافر آب مثلي مفلسا ... صفر اليدين من الذي رجّاه
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (146) و «مرآة الجنان» (4/ 276) و «أعلام
النساء» (2/ 161- 162) .
[2] انظر «البداية والنهاية» (14/ 125) و «الأعلام» (2/ 181) .
[3] دويرة حمد: دار كانت بباب البريد بدمشق تعرف بدويرة حمد، أوقفها
أبو الفرج حمد بن عبد الله ابن علي المقرئ، المتوفى سنة (401) هـ. انظر
«مختصر تاريخ دمشق» (7/ 252- 253) و «سير أعلام النبلاء» (17/ 149) .
(8/128)
وخلا عن الشيء الذي يهديه لل ... إخوان عند
لقائهم إيّاه
لم يفرحوا بقدومه وتثقّلوا ... بوروده وتكرّهوا لقياه
وإذا أتاهم قادما بهديّة ... كان السّرور بقدر ما أهداه
وفيها الزّاهد الكبير الشيخ حمّاد التّاجر بن القطّان [1] .
كان يقرئ القرآن، ويحكي عجائب عن الفقراء. وفيه زهد، وتعفّف، ويحضر
السّماع، ويصيح. وله وقع في القلوب.
توفي بالعقيبة عن ست وتسعين سنة.
وفيها الشيخ علاء الدّين علي بن محمد السّكاكري الشاهد [2] .
كان رأسا في كتابة الشّروط، وفيه شهامة وحطّ على الكبار، ولكنه متحرّز
في الشهادة. ساء ذهنه بأخرة، وأجاز له عبد العزيز بن الزّبيدي، وهبة
الله ابن الواعظ، وغيرهما.
وسمع من ابن عبد الدائم وجماعة.
وتوفي في المحرّم عن ثمانين سنة.
وفيها خطيب المدينة وقاضيها سراج الدّين عمر بن أحمد بن طراد الخزرجي
المصريّ الشافعي [3] .
حدّث عن الرّشيد، وأجازه الشّرف المرسي، والمنذري. وتفقّه بابن عبد
السلام قليلا، ثم بالسّديد التّزمنتي، والنّصير بن الطبّاخ، وخطب
بالمدينة أربعين سنة، ثم سافر إلى مصر ليتداوى، فأدركه الموت بالسّويس
عن تسعين سنة.
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (147- 148) و «مرآة الجنان» (4/ 276) و «غربال
الزمان» ص (594) و «البداية والنهاية» (14/ 125) و «الدّرر الكامنة»
(2/ 74) .
[2] انظر «ذيول العبر» ص (144) و «الدّرر الكامنة» (3/ 113) .
[3] انظر «ذيول العبر» ص (145) و «مرآة الجنان» (4/ 275) و «الدّرر
الكامنة» (3/ 149) و «التحفة اللطيفة» (4/ 124) .
(8/129)
وفيها العالم المسند شمس الدّين محمد بن
أحمد بن أبي بن الهيجاء بن الزّرّاد الصّالحي [1] .
روى شيئا كثيرا، وتفرّد.
قال الذهبي: وخرجت له «مشيخة» .
روى عن البلخي، ومحمد ابن عبد الهادي، واليلداني، وخطيب مردا، والبكري.
وكان يروي «المسند» و «السيرة» و «مسند أبي عوانة» و «الأنواع
والتقاسيم» و «مسند أبي يعلى» وأشياء. وافتقر واحتاج، وتغيّر ذهنه قبل
موته، ولم يختلط.
وتوفي بقاسيون عن ثمانين سنة.
وفيها شمس الدّين أبو عبد الله محمد بن مسلّم بن مالك بن مزروع بن جعفر
الزّيني الصّالحي [2] ، الفقيه الحنبلي، قاضي قضاة المدينة المنورة.
ولد سنة اثنتين وستين وستمائة، وتوفي أبوه سنة ثمان وستين، وكان من
الصّالحين، فنشأ يتيما، فقيرا. وكان قد حضر على ابن عبد الدائم، وعمر
الكرماني. وسمع من ابن البخاري وطبقته. وأكثر عن ابن الكمال، وعني
بالحديث، وتفقّه، وأفتى، وبرع في العربية. وتصدّى للاشتغال والإفادة،
واشتهر اسمه، مع الدّيانة، والورع، والزّهد، والاقتناع باليسير. ثم بعد
موت القاضي تقي الدّين سليمان ورد تقليده للقضاء في صفر سنة ست عشرة
موضعه فتوقف في القبول، ثم استخار الله تعالى وقبل بعد أن شرط أن لا
يلبس خلعة حرير، ولا يركب في المواكب.
قال الذهبي في «معجمه» : برع في المذهب والعربية، وأقرأ [3] الناس
مدّة.
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (148) و «المعجم المختص» ص (223- 224) . و
«الوافي بالوفيات» (2/ 147) و «الدّرر الكامنة» (3/ 376) .
[2] انظر «ذيول العبر» ص (149) و «معجم الشيوخ» (2/ 283- 284) و
«المعجم المختص» ص (264- 265) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 380) و
«الدّرر الكامنة» (4/ 258) .
[3] تحرّفت في «المعجم المختص» إلى: «وقرأ» فلتصحح.
(8/130)
على ورع، وعفاف، ومحاسن جمة. ثم ولي القضاء
بعد تمنّع [1] فشكر وحمد، ولم يغيّر زيّه. واجتهد في الخير، وفي عمارة
أوقاف الحنابلة. وكان من قضاة العدل والحقّ، لا يخاف في الله لومة
لائم.
وهو الذي حكم على ابن تيميّة بمنعه من الفتيا بمسائل الطّلاق وغيرها
مما يخالف المذهب.
وقد حدّث، وسمع منه جماعة، وخرّج له المحدّثون تخاريج عدّة، وحجّ ثلاث
مرّات، ثم حجّ رابعة فتمرض في طريقه، فورد المدينة المنورة يوم الاثنين
ثالث عشري ذي القعدة وهو ضعيف، فصلّى في المسجد، وسلّم على النّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم، وكان بالأشواق إلى ذلك في مرضه، ثم مات عشية ذلك
اليوم، وصلّي عليه بالرّوضة الشريفة، ودفن بالبقيع شرقي قبر عقيل [2] ،
رضي الله عنه.
وفيها كمال الدّين محمد بن علي بن عبد القادر التّميمي الهمذاني ثم
المصريّ الشافعي [3] .
حدّث عن النّجيب وجماعة، وقرأ عليه ولده الإمام نور الدّين «صحيح
البخاري» وله عليه حواش بخطّه المنسوب.
وكان إماما قاضيا.
توفي بمصر عن إحدى وسبعين سنة.
وفيها الصّدر الكبير قطب الدّين موسى ابن الشيخ الفقيه أبي عبد الله
محمد بن أبي الحسين عبد الله اليونيني الحنبلي المؤرخ [4] .
ولد بدمشق سنة أربعين وستمائة، وسمع من أبيه، ومن ابن عبد الدائم، وعبد
العزيز شيخ شيوخ حماة.
__________
[1] تحرّفت في «المعجم المختص» إلى «بعد منع» فلتصحح.
[2] يعني عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه.
[3] انظر «ذيول العبر» ص (145) و «الدرر الكامنة» (4/ 68) و «حسن
المحاضرة» (1/ 393) .
[4] انظر «ذيول العبر» ص (145- 146) و «معجم الشيوخ» (2/ 348) و
«البداية والنهاية» (14/ 126) و «الدّرر الكامنة» (4/ 382) .
(8/131)
وبمصر من الرّشيد العطّار. وإسماعيل بن
صارم، وجماعة.
وأجاز له ابن رواج، والبشيري.
قال الذهبي: كان عالما، فاضلا، مليح المحاضرة، كريم النّفس، معظّما،
جليلا، حدّثنا بدمشق، وبعلبك، وجمع «تاريخا» حسنا ذيّل به على «مرآة
الزمان» .
واختصر «المرآة» . قال: وانتفعت بتاريخه، ونقلت منه فوائد جمّة، وقد
حسنت في آخر عمره حالته، وأكثر من العزلة والعبادة، وكان مقتصدا في
لباسه وزيّه، صدوقا في نفسه، مليح الشّيبة، كثير الهيبة، وافر الحرمة.
توفي ببعلبك عن ست وثمانين سنة، ودفن عند أخيه بباب سطحا.
وفيها جمال الدّين يوسف بن عبد المحمود بن عبد السّلام البغدادي [1]
المقرئ الفقيه الحنبلي، الأديب النّحوي المتفنن.
قرأ بالروايات، وسمع الحديث من محمد بن حلاوة، وعلي بن حصين، وعبد
الرزّاق بن الفوطي وغيرهم.
وقرأ بنفسه على ابن الطبّال، وأخذ عن ابن القوّاس شارح «ألفية ابن
معطي» الأدب، والعربية، والمنطق، وغير ذلك. وتفقه بالشيخ تقي الدّين
الزّريرانيّ [2] .
وكان معيدا عنده بالمستنصرية.
قال الطّوفي [3] : استفدت منه كثيرا، وكان نحويّ العراق ومقرئه، عالما
بالأدب، له حظّ من الفقه، والأصول، والفراض، والمنطق.
وقال ابن رجب: نالته في آخر عمره محنة، واعتقل بسبب موافقته الشيخ
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (148) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 379) و
«غاية النهاية» (2/ 397) و «الدّرر الكامنة» (4/ 464) و «المقصد
الأرشد» (3/ 140) بتحقيق الأستاذ الدكتور عبد الرحمن العثيمين، طبع
مكتبة الرّشد في الرياض.
[2] تحرفت في «آ» إلى «الزبداني» وفي «ط» إلى «الزيزراني» والتصحيح من
«ذيل طبقات الحنابلة» و «المقصد الأرشد» .
[3] هو سليمان بن عبد القوي الطوفي الصّرصري، تقدمت ترجمته في وفيات
سنة (716) من هذا المجلد ص (71) .
(8/132)
تقي الدّين بن تيميّة في مسألة الزّيارة
وكتابته عليها مع جماعة من علماء بغداد.
وتخرّج به جماعة.
وتوفي في حادي عشر شوال، ودفن بمقبرة الإمام أحمد.
وفيها كبير السّادة الأشراف ناصر الدّين يونس بن أحمد الحسيني الدمشقي
[1] ، عن إحدى وثمانين سنة. وكان رئيسا، وسيما.
حدّث عن خطيب مردا، وذكر للنّقابة.
وفيها هلك قتلا بالسّيف ناصر بن أبي الفضل [2] الهيتي الصّالحي [2] [3]
ضربت عنقه لثبوت زندقته على قاضي القضاة شرف الدّين بن مسلم الحنبلي،
ونقل الثبوت إلى قاضي القضاة شرف الدّين المالكي، فأنفذه وحكم بإراقة
دمه، وعدم قبول توبته وإن أسلم مع العلم بالخلاف، وطلع معه عالم عظيم
فصلّى ركعتين، وضربت عنقه. وكان في ابتداء أمره من أحسن الناس صورة،
حسن الصّوت، وعاشر الكبار، وانتفع بهم. وكان كثير المزح والمجون. ولما
كبر اجتمع بمحلولي العقيدة، مثل ابن المعمار، والباجر بقي، والنّجم بن
خلّكان، وغيرهم.
فانحلّت عقيدته، وتزندق من غير علم، فشهد عليه. فهرب إلى بلاد الرّوم،
ثم قدم حلب، واجتمع بالشيخ كمال الدّين ابن الزّملكاني، فأكرمه،
واستتابه [4] ثم ظهر منه زندقة عظيمة، فسيّره إلى دمشق فضربت عنقه، وهو
من أبناء الستين، وفرح الناس بذلك.
ثم ضربت عنق توما الرّاهب [5] الذي أسلم من ثلاث سنين وارتدّ سرّا، ثم
أفشى ذلك عند المالكي، فقتل [6] وأحرق ولم يتكهل، وهو بعلبكي.
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (144) و «الدّرر الكامنة» (4/ 486) .
[2] ما بين الرقمين سقط من «ط» .
[3] انظر «ذيول العبر» ص (143) و «البداية والنهاية» (14/ 122) و
«الدّرر الكامنة» (4/ 386) .
[4] تصحفت في «آ» إلى «فاستنابه» .
[5] انظر «ذيول العبر» ص (143) .
[6] لفظة: «فقتل» سقطت من «ذيول العبر» مصدر المؤلف فلتستدرك.
(8/133)
وفيها هلك المعمّر فضل الله بن أبي الفخر
بن الصقاعي [1] النّصراني الكاتب ببستانه بأرزة [2] ودفن في مقابر
النّصارى، وكان خبيرا في صناعته، باشر ديوان المرتجع، ثم نقل إلى ديوان
البريم، ثم انقطع عن ذلك كلّه. وكانت عنده فضيلة في دينه، جمع الأناجيل
الأربعة، إنجيل متّى، ومرقّص، ولوقا، ويوحنا.
وجعلها إنجيلا واحدا في كتاب بألسنة مختلفة، عبراني، وسرياني، وقبطي،
ورومي. وذكر في كل فصل ما قاله الآخر، وذكر اختلاف الحواريين، وبيّن
عباراتهم.
وكان يقول: إنه يحفظ التوراة، والإنجيل، والمزامير. وكان المكين بن
العميد النّصراني [3] قد عمل «تاريخا» من أول العالم إلى سنة ثمان
وخمسين وستمائة، فكتبه ابن الصقاعي بخطّه، وذيّل عليه إلى سنة عشرين
وسبعمائة، واختصر «تاريخ ابن خلّكان» وذيّل عليه [4] وعمل «وفيات
المطربين» وغير ذلك، وقارب مائة سنة.
__________
[1] انظر «الدّرر الكامنة» (3/ 233) و «الأعلام» (5/ 153) وانظر تعليق
العلّامة الزركلي عليه فهو مفيد نافع.
[2] قال العلّامة محمد كرد علي في كتابه «غوطة دمشق» ص (162) : أرزة:
كانت مكان حي الشهداء في طريق الصالحية. متصلة بسويقة صاروجا: تمتد إلى
عقبة جوزة الحدباء. رأى خرائبها ابن طولون، وكانت عامرة بعض الشيء في
القرن العاشر- يعني الهجري-.
[3] هو جرجس بن العميد بن إلياس، المعروف بالمكين، أو «الشيخ» المكين،
ويقال له: ابن العميد، مؤرّخ من كتّاب النصارى السريان، أصله من تكريت،
ومولده بالقاهرة، ونشأ بدمشق. له كتاب «المجموع المبارك جزآن، الأول في
التاريخ القديم إلى ظهور الإسلام مخطوط، والثاني تاريخ المسلمين من من
بدء الإسلام إلى عصر الملك الظاهر بيبرس، وقد ترجم إلى اللاتينية
والفرنسية.
مات سنة (672) هـ. عن «الأعلام» للزركلي (2/ 116) .
[4] قلت: وهو المعروف ب «تالي وفيات الأعيان» وقد طبعه المعهد الفرنسي
للدراسات العربية بدمشق منذ سنوات.
(8/134)
سنة سبع وعشرين
وسبعمائة
فيها توفي الشيخ نجم الدّين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن مكّي بن ياسين
القرشي المخزومي القمولي- بالفتح والضم نسبة إلى قمولة بلد بصعيد مصر-
المصري الشافعي [1] .
قال الإسنوي: تسربل بسربال الورع والتّقى، وتعلّق بأسباب الرّقى
فارتقى، وخاض [2] مع الأولياء، فركب في فلكهم ولزمهم [3] حتّى انتظم في
سلكهم.
كان إماما في الفقه، عارفا بالأصول والعربية، صالحا، سليم الصّدر، كثير
الذّكر والتلاوة، متواضعا، متودّدا، كريما، كبير المروءة، شرح «الوسيط»
شرحا مطوّلا أقرب تناولا من شرح ابن الرّفعة وإن كان كثير الاستمداد
منه، وأكثر فروعا منه أيضا، بل لا أعلم كتابا في المذهب أكثر مسائل
منه، سمّاه «البحر المحيط في شرح الوسيط» ثم لخّص أحكامه خاصة، ك
«تلخيص الروضة» من الرّافعي، سمّاه «جواهر البحر» وشرح «مقدمة ابن
الحاجب» في النحو شرحا مطوّلا. وشرح «الأسماء الحسنى» في مجلد. وكمّل
«تفسير ابن الخطيب» وتولى تدريس الفخرية بالقاهرة ونيابة الحكم.
توفي في رجب ودفن بالقرافة.
__________
[1] انظر «الطالع السعيد» ص (125- 127) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/
332- 333) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 332- 334) .
[2] كذا في «آ» و «طبقات الشافعية» للإسنوي مصدر المؤلف: «وخاض» وفي
«ط» : «وغاص» .
[3] تحرفت في «آ» و «ط» إلى «وأكرمهم» والتصحيح من «طبقات الشافعية»
للإسنوي.
(8/135)
وفيها الرئيس العابد الأمين ضياء الدّين
إسماعيل بن عمر بن الحموي الدمشقي [1] الكاتب.
سمع من خطيب القرافة، وشيخ الشيوخ، وكان ذا حظّ من صيام وقيام وإطعام
وإيثار تام، بصيرا بالحساب، شارف الجامع مدّة والخزانة، وتوفي بدمشق في
صفر عن اثنتين وتسعين سنة.
وفيها الملك أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن
محمد الهنتاني المغربي، ويعرف باللّحياني [2] وقد وزر أبوه لابن عمّه
المستنصر بتونس مدة.
اشتغل زكريا في الفقه، والنحو، فبرع في ذلك، وتملّك تونس [3] ، وحجّ
سنة تسع وسبعمائة، ورجع. فبايعوه في سنة إحدى عشرة ولقّبوه بالقائم
بأمر الله، فاستمر سبع سنين، ثم تحوّل إلى طرابلس المغرب، وأخذت منه
تونس، فتوجّه إلى الإسكندرية في سنة إحدى وعشرين، فسكنها. وكان قد أسقط
ذكر المهدي المعصوم- أعني ابن تومرت- من الخطب.
وتوفي بالثّغر عن بضع وثمانين سنة.
وفيها المفتي الزّاهد القدوة شرف الدّين عبد الله بن عبد الحليم بن عبد
السّلام بن [4] عبد الله بن [4] أبي القاسم الخضر بن محمد بن تيميّة
الحرّاني ثم الدمشقي [5] الحنبلي الفقيه الإمام المتقن أبو محمد أخو
الشيخ تقي الدّين.
ولد في حادي عشر محرم سنة ست وستين وستمائة بحرّان، وقدم مع أهله إلى
دمشق رضيعا، فحضر بها على ابن أبي اليسر وغيره، ثم سمع ابن علّان، وابن
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (153) و «البداية والنهاية» (14/ 130) و
«الدّرر الكامنة» (1/ 374) .
[2] انظر «ذيول العبر» ص (152) و «الدّرر الكامنة» (2/ 113) و «النجوم
الزاهرة» (9/ 268) .
[3] تصحيف في «ط» إلى «يونس» .
[4] ما بين الرقمين سقط من «ط» .
[5] انظر «ذيول العبر» ص (103) و «معجم الشيوخ» (1/ 323- 324: و
«المعجم المختص» ص (121- 122) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 382- 384) و
«الدّرر الكامنة» (2/ 266) و «المقصد الأرشد» (2/ 41- 42) .
(8/136)
الصّيرفي. وخلقا. وسمع «المسند» [1] و
«الصحيحين» وكتب «السنن» وتفقه في المذهب، حتّى أفتى، وبرع أيضا في
الفرائض، والحساب، وعلم الهيئة، وفي الأصلين، والعربية. وله مشاركة
قويّة في الحديث. ودرّس بالحنبلية مدة. وكان صاحب صدق وإخلاص، قانعا
باليسير، شريف النّفس، شجاعا، مقداما، مجاهدا، زاهدا، ورعا، يخرج من
بيته ليلا ويأوي إليه نهارا، ولا يجلس في مكان معيّن بحيث يقصد فيه،
لكنه يأوي المساجد المهجورة خارج البلد، فيختلي فيها [2] للصّلاة،
والذّكر.
وكان كثير العبادة، والتألّه، والمراقبة، والخوف من الله تعالى، ذا
كرامات وكشوف. كثير الصّدقات والإيثار بالذهب والفضة في حضره وسفره، مع
فقره وقلّة ذات يده. وكان رفيقه في المحمل في الحج يفتش رحله فلا يجد
فيه شيئا ثم يراه يتصدق بذهب كثير جدا، وهذا أمر مشهور معروف عنه.
وحجّ مرات متعددة. وكان له يد طولى في معرفة تراجم السّلف ووفياتهم في
التواريخ المتقدمة والمتأخرة. وجلس مع أخيه مدّة في الدّيار المصرية،
وقد استدعي غير مرّة وحده للمناظرة، فناظر وأفحم الخصوم، وسئل عنه
الشيخ كمال الدّين بن الزّملكاني، فقال: هو بارع في فنون عديدة، من
الفقه، والنّحو، والأصول، ملازم لأنواع الخير وتعليم العلم. حسن
العبارة، قويّ في دينه، مليح البحث، صحيح الذّهن، قوي الفهم، رحمه
الله. قاله ابن رجب.
وذكره الذهبي في «المعجم» وغيره، وأثنى عليه كثيرا.
توفي- رحمه الله تعالى- يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى بدمشق،
وصلّي عليه الظهر بالجامع [3] وحمل إلى القلعة، فصلّى عليه أخواه تقي
الدّين، وعبد الرحمن، وغيرهما، صلّى عليه أخواه في السّجن لأن التكبير
عليه كان يبلغهم، وكان وقتا مشهودا. ثم صلّي عليه مرة ثالثة ورابعة،
وحمل على الرؤوس والأصابع، فدفن في مقابر الصّوفية.
__________
[1] يعني «مسند الإمام أحمد بن حنبل» .
[2] أقول: الصواب أن يقال: «فيخلو فيها» (ع) .
[3] «يعني بالجامع الأموي» .
(8/137)
وفيها الشيخ عزّ الدّين عبد العزيز بن أحمد
بن عثمان بن عيسى بن عمر بن الخضر [الهكّاري] الكردي الشافعي، ويعرف
بابن خطيب الأشمونيّين [1] .
قال ابن شهبة: سمع من عبد الصّمد ابن عساكر بمكّة، وسمع بدمشق وغيرها
من جماعة، وتفقه وتفنن، وفاق الأقران. وكان قد عيّن لقضاء دمشق بعد موت
ابن صصرى، فلم يتفق. ودرّس، وأفتى، وصنّف على حديث الأعرابي الذي جامع
في رمضان كتابا نفيسا، مشتملا على ألف فائدة وفائدة [2] . وولي قضاء
قوص، وقضاء المحلّة. ثم قدم القاهرة فمات بها في رمضان. انتهى.
وقال السّبكي: له تصانيف كثيرة حسنة، وأدب وشعر.
وفيها المعمّر شمس الدّين محمد بن أحمد بن منعة بن مطرّف القنوي ثم
الصّالحي [3] .
سمع من عبد الحق حضورا، ومن ابن قميرة، والمرسي، واليلداني. وأجاز له
الضّياء الحافظ، وابن يعيش النّحوي، وروى جملة، وتفرّد.
وتوفي في المحرّم عن اثنتين وتسعين سنة.
وفيها النّور علي بن عمر بن أبي بكر الواني [4] الصوفي [5] .
سمع من ابن رواح، والسبط، والمرسي، وتفرّد بعوالي. وكان ديّنا، خيّرا،
أضرّ ثم أبصر.
وتوفي بمصر في المحرّم عن اثنتين وتسعين سنة.
وفيها قاضي القضاة صدر الدّين علي بن الإمام صفي الدّين
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية الكبرى» (10/ 82- 84) و «البداية والنهاية»
(14/ 131) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 346- 347) و «الدّرر
الكامنة» (2/ 368) . و «حسن المحاضرة» (1/ 424) ولفظة «الهكّاري»
مستدركة من مصادر الترجمة.
[2] قلت: واسم كتابه المشار إليه «الكلام على حديث المجامع» كما في
«الدّرر الكامنة» .
[3] انظر «ذيول العبر» ص (151- 152) و «الوافي بالوفيات» (2/ 149) و
«الدّرر الكامنة» (3/ 369) .
[4] تحرفت في «ط» إلى «الداني» .
[5] انظر «ذيول العبر» ص (152) و «الدّرر الكامنة» (3/ 90) .
(8/138)
أبي القاسم بن محمد بن عثمان بن محمد
البصراوي الحنفي [1] .
ولد في رجب سنة اثنتين وأربعين وستمائة بقلعة بصرى، وكان من أكابر
علماء الحنفية. اشتغل على قاضي القضاة شمس الدّين بن عطاء، ودرّس في
المقدّمية، والخاتونية البرّانية، والنّورية. وولي القضاء. وكان
متحريّا في أحكامه، متّعه الله بسمعه، وبصره، وجميع حواسه، إلى أن توفي
ببستانه بأرض سطرا [2] .
وفيها شمس الدّين أبو عبد الله محمد بن علي بن القاسم بن أبي العزّ بن
الوّرّاق الموصلي [3] المقرئ، الفقيه الحنبلي، المحدّث النّحويّ، ويعرف
بابن الخروف.
ولد في حدود الأربعين وستمائة بالموصل، وقرأ بها القراءات على عبد الله
بن إبراهيم الجزريّ الزّاهد، وقصد الإمام أبا عبد الله شعلة ليقرأ عليه
فوجده مريضا مرض الموت، ثم رحل ابن خروف إلى بغداد بعد الستين، وقرأ
بها القراءات بكتب كثيرة في السّبع والعشر على الشيخ عبد الصّمد بن أبي
الجيش، ولازمه مدّة طويلة. وقرأ القراءات أيضا على أبي الحسن بن
الوجوهي، وسمع الحديث منهما، ومن ابن وضّاح.
وذكر الذهبي: أنه حفظ «الخرقي» [4] وعني بالحديث. وقرأ في التفسير على
الكواشي المفسر بالموصل. وقرأ بها أيضا على الغزنويّ «معالم التنزيل»
للبغوي.
وتصدّى للإقراء والإشغال ببلده مدّة. وقرأ عليه جماعة.
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (153- 154) و «قضاة دمشق» ص (195) و «الجواهر
المضية» (2/ 586» و «الدّرر الكامنة» (3/ 96) و «الدارس في تاريخ
المدارس» (1/ 621) .
[2] سطرا: من قرى دمشق: قال العلّامة محمد كرد علي في «غوطة دمشق» ص
(172) : قال دهمان:
إنها كانت في الطريق المقابل لباب جامع القصب، ويعرف هذا الطريق بجادة
عاصم، ويخترقه شارع بغداد، ثم يقابله بالجهة الشمالية جادة الخطيب، وكل
ذلك من سطرا. وانظر «معجم البلدان» (3/ 220) .
[3] انظر «المعجم المختص» ص (247) و «معرفة القراء الكبار» (2/ 726) و
«الوافي بالوفيات» (4/ 229) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 381) و «المقصد
الأرشد» (2/ 478) و «الدّرر الكامنة» (4/ 195) .
[4] يعني «مختصر الخرقي» وقد سبق التعريف به في المجلد الرابع ص (186)
.
(8/139)
وقدم الشام سنة سبع عشرة، فسمع منه
الذّهبي، والبرزالي. وذكره في «معجمه» وأثنى عليه، وسمع منه أيضا أبو
حيّان، وعبد الكريم الحلبي، وذكره في «معجمه» . ورجع إلى بلده الموصل
فتوفي بها في ثامن جمادى الأولى، ودفن بمقبرة المعافى بن عمران، رضي
الله عنه.
وفيها الشيخ كمال الدّين أبو المعالي محمد بن علي بن عبد الواحد بن عبد
الكريم بن خلف بن نبهان الأنصاري [1] الشافعي ابن خطيب زملكا، ويعرف
بابن الزّملكاني.
ولد في شوال سنة سبع، وقيل: ست وستين وستمائة. وسمع من جماعة، وطلب
الحديث بنفسه، وكتب الطّباق بخطّه. وقرأ الفقه على الشيخ تاج الدّين
الفزاري، والأصول على بهاء الدّين بن الزّكي، والصّفي الهندي، والنّحو
على بدر الدّين بن مالك. وجوّد الكتابة على نجم الدّين ابن البصيص،
وكتب الإنشاء مدة، وولي نظر الخزانة مدة، ووكالة بيت المال، ونظر
المارستان. ودرّس بالعادلية الصّغرى، وتربة أمّ الصّالح. ثم بالشامية
البرّانية، والظاهرية الجوّانية، والعدراويّة، والرّواحية، والمسرورية،
وجلس بالجامع للاشغال وله تسع عشرة سنة. أرّخ ذلك شيخه الشيخ تاج
الدّين. ثم ولي قضاء حلب سنة أربع وعشرين بغير رضاه، ودرّس بها
بالسّلطانية، والسّيفية، والعصرونية، والأسدية. ثم طلب إلى مصر ليشافهه
السّلطان بقضاء الشام، فركب البريد، فمات قبل وصوله إلى مصر.
ومن مصنّفاته «الرّدّ على ابن تيميّة في مسألة الزّيارة» و «الرّدّ
عليه في مسألة الطلاق» قال ابن كثير: في مجلد. قال: وعلّق قطعة كبيرة
من «شرح المنهاج» للنووي. وله كتاب في «فضل الملك على البشر» .
قال الذهبي في «معجمه المختص» : شيخنا، عالم العصر، طلب بنفسه،
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (154) و «المعجم المختص» ص (246- 247) و «معجم
الشيوخ» ص (244) و «النجوم الزاهرة» (9/ 270» و «الوافي بالوفيات» (4/
214) و «فوات الوفيات» (4/ 7- 11) و «طبقات الشافعية الكبرى» (9/ 190-
207) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 13) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي
شهبة (2/ 383) و «الدّرر الكامنة» 4/ 74- 76) .
(8/140)
وقرأ على الشيوخ، ونظر في الرّجال والعلل.
وكان عذب القراءة، سريعا. وكان من بقايا المجتهدين، ومن أذكياء زمانه.
ودرّس وأفتى، وصنّف وتخرّج به الأصحاب.
وقال ابن كثير: انتهت إليه رئاسة المذهب تدريسا وإفتاء ومناظرة. برع،
وساد أقرانه، وحاز قصب السّبق عليهم بذهنه الوقّاد، وتحصيله الذي أسهره
ومنعه الرّقاد. وعبارته التي هي أشهى من السّهاد، وخطّه الذي هو أنضر
من أزاهير المهاد، إلى أن قال: أما دروسه في المحافل فلم أسمع أحدا من
الناس يدرّس أحسن منه، ولا أجلّ من عبارته، وحسن تقريره، وجودة
احترازاته، وصحة ذهنه، وقوة قريحته، وحسن نظره.
توفي في رمضان ببلبيس، وحمل إلى القاهرة، ودفن جوار قبّة الشافعي، رضي
الله عنه.
وفيها فخر الدّين محمد بن محمد بن محمد المعروف بابن الصّقلي [1]- ضبطه
بعضهم بفتح الصّاد والقاف، وبعضهم بفتح الصّاد وكسر القاف، نسبة إلى
جزيرة صقلية في بحر الرّوم- الشافعي.
تفقه في القاهرة على الشيخ قطب الدّين السّنباطي، وناب في القضاء بظاهر
القاهرة. وصنف «التنجيز في الفقه» وهو «التعجيز» إلّا أنه يزيد فيه
التصحيح على طريقة النّووي، ويشير إلى تصحيح الرّافعي بالرّموز، وزاد
فيه بعض قيود.
قال السبكي: كان فقيها، فاضلا، دينا، ورعا.
توفي بالقاهرة في ذي القعدة.
وفيها القاضي الأديب شمس الدّين محمد بن الشّهاب محمود [2] كاتب
السّرّ. توفي في شوال عن ثمان وخمسين سنة.
__________
[1] انظر «طبقات الشافعية الكبرى» (9/ 247) و «طبقات الشافعية» للإسنوي
(2/ 148) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 392- 393) و «الدّرر
الكامنة» (4/ 236) و «حسن المحاضرة» (1/ 424) .
[2] انظر «ذيول العبر» ص (154- 155) و «النجوم الزاهرة» (9/ 268) و
«الدّرر الكامنة» (4/ 251) .
(8/141)
سنة ثمان وعشرين
وسبعمائة
فيها نقض رخام الحائط القبلي من ناحية جامع دمشق الغربية، فوجد الحائط
منحدبا فنقض كأنه تغير من زلزلة فأخرب إلى الأرض مساحة خمسين ذراعا،
فبني، وأحدث فيه محراب للحنفية، وجدّد ترخيم حيطان الجامع سوى
المقصورة، وأركان القبّة.
وفيها توفي الإمام القدوة عزّ الدّين إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن
الحسيني العراقي [1] الشّافعي، من ولد موسى الكاظم.
سمع من والده، وحليمة بنت ولد جمال الإسلام، والباذرائي، وجماعة.
وأجاز له ابن يعيش، وابن رواج.
ونسخ بالأجرة، وتفرّد، مع التّقوى، والعلم، والورع.
توفي بالثّغر في المحرّم عن تسعين سنة.
وفيها شيخ الإسلام تقي الدّين أبو العبّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد
السّلام ابن عبد الله بن تيميّة الحرّاني [2] الحنبلي، بل المجتهد
المطلق.
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (156) و «دول الإسلام» (2/ 236) و «المنهل
الصافي» (1/ 24) و «الدّرر الكامنة» (1/ 10) .
[2] انظر «ذيول العبر» ص (157- 158) و «دول الإسلام» (2/ 237) و
«الإعلام بوفيات الأعلام» ص (308) و «المعجم المختص» ص (25- 27) و
«معجم الشيوخ» (1/ 56- 57) و «النجوم الزاهرة» (9/ 271- 272) و «الوافي
بالوفيات» (7/ 15- 33) و «فوات الوفيات» (1/ 74- 80) و «ذيل طبقات
الحنابلة» (2/ 387- 408) و «الدّرر الكامنة» (1/ 144- 160) و «المقصد
الأرشد»
(8/142)
ولد بحرّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأول،
سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم به والده وبأخويه عند استيلاء التتار على
البلاد إلى دمشق سنة سبع وستين [1] ، فسمع الشيخ بها ابن عبد الدائم،
وابن أبي اليسر، والمجد بن عساكر، ويحيى بن الصّيرفي، والقاسم الإربلي،
والشيخ شمس الدّين ابن أبي عمر، وغيرهم. وعني بالحديث، وسمع «المسند»
مرّات، والكتب الستة. و «معجم الطبراني الكبير» وما لا يحصى من الكتب
والأجزاء. وقرأ بنفسه، وكتب بخطّه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم
في صغره، فأخذ الفقه والأصول عن والده، وعن الشيخ شمس الدّين بن أبي
عمر، والشيخ زين الدّين بن المنجّى، وبرع في ذلك، وناظر، وقرأ العربية
على ابن عبد القوي. ثم أخذ «كتاب سيبويه» فتأمله وفهمه، وأقبل على
تفسير القرآن الكريم فبرّز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض، والحساب،
والجبر، والمقابلة، وغير ذلك من العلوم. ونظر في الكلام والفلسفة،
وبرّز في ذلك على أهله، وردّ على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه
الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة. وأفتى من قبل
العشرين أيضا.
وأمدّه الله بكثرة الكتب، وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبطء
النسيان، حتّى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيئا فينساه. ثم توفي
والده وله إحدى وعشرون سنة، فقام بوظائفه بعده مدة، فدرّس بدار الحديث
التنكزية المجاورة لحمّام نور الدّين الشهيد في البزورية في أول سنة
ثلاث وثمانين، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدّين بن الزّكي، والشيخ
تاج الدّين الفزاري، وابن المرحّل، وابن المنجّى، وجماعة، فذكر درسا
عظيما في البسملة، بحيث بهر الحاضرين، وأثنوا عليه جميعا.
قال الذهبي: وكان الشيخ تاج الدّين الفزاري يبالغ في تعظيم الشيخ تقي
الدّين، بحيث إنه علّق بخطّه درسه بالتنكزية.
__________
(1/ 132- 140) و «الدارس في تاريخ المدارس» (1/ 75- 77) ، وقد ترجم له
ترجمة وافية والدي الأستاذ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله نشرت
في صدر رسالته «الأحاديث الموضوعة» المطبوعة في الكويت بتحقيقي.
[1] يعني سنة (667) هـ.
(8/143)
ثم جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على
منبر أيام الجمع لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أول القرآن، فكان يورد
في المجلس من حفظه نحو كرّاسين أو أكثر. وبقي يفسّر في سورة نوح عدّة
سنين أيام الجمع.
وقال الذهبي في «معجم شيوخه» : شيخنا، وشيخ الإسلام، وفريد العصر،
علما، ومعرفة، وشجاعة، وذكاء، وتنويرا إلهيا، وكرما، ونصحا للأمة،
وأمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر.
سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب، وخرّج، ونظر في الرجال
والطبقات، وحصّل ما لم يحصّله غيره، وبرع في تفسير القرآن، وغاص في
دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر وقّاد [1] إلى مواضع الإشكال ميّال،
واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقلّ من يحفظ
ما يحفظ من الحديث معزوّا إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضار له وقت
إقامة الدّليل. وفاق النّاس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى
الصّحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم
دليله عنده. وأتقن العربية أصولا وفروعا، وتعليلا واختلافا. ونظر في
العقليات، وعرف أقوال المتكلمين. وردّ عليهم، ونبّه على خطئهم وحذّر،
ونصر السّنّة بأوضح حجج وأبهر براهين، وأوذي في ذات الله من المخالفين،
وأخيف في نصر السّنّة المحضة، حتّى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل
التّقوى على محبته والدعاء له. وكبت أعداءه، وهدى به رجالا كثيرة من
أهل الملل والنّحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبا،
وعلى طاعته. وأحيا به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم خصوصا في
كائنة التتار، وهو أكبر من أن ينبّه على سيرته مثلي، فلو حلّفت بين
الرّكن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه.
انتهى كلام الذهبي.
وكتب الشيخ كمال الدّين ابن الزملكاني تحت اسم «ابن تيميّة» : كان إذا
سئل عن فنّ من العلم ظنّ الرائي والسّامع أنه لا يعرف غير ذلك الفنّ،
وحكم أن أحدا لا يعرفه مثله. وكان الفقهاء من سائر الطّوائف إذا جالسوه
استفادوا في
__________
[1] لفظة «وقاد» لم ترد في «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 389) وهو المصدر
الذي نقل عنه المؤلف.
(8/144)
مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحدا
فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشّرع أو
غيرها إلّا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. وكتب
الحافظ ابن سيّد الناس في «جواب سؤالات الدّمياطي» في حقّ ابن تيميّة:
ألفيته ممن أدرك من العلوم حظا. وكاد [1] يستوعب السّنن والآثار حفظا.
إن تكلّم في التفسير، فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك
غايته، أو ذاكر [2] بالحديث فهو صاحب علمه، وذو روايته، أو حاضر
بالنّحل والملل لم ير أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته.
برز في كل فنّ على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه
مثل نفسه.
وقال الذهبي في «تاريخه الكبير» بعد ترجمة طويلة: بحيث يصدق عليه أن
يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث.
وترجمه ابن الزّملكاني أيضا ترجمة طويلة وأثنى عليه ثناء عظيما، وكتب
تحت ذلك:
ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلّت عن الحصر
هو حجّة لله باهرة ... هو بيننا أعجوبة الدّهر
هو آية للخلق ظاهرة ... أنوارها أربت على الفجر
وللشيخ أثير الدين أبي حيّان النّحوي لما دخل الشيخ مصر واجتمع به
فأنشد أبو حيّان:
لمّا رأينا تقيّ الدّين لاح لنا ... داع إلى الله فردا ما له وزر
على محيّاه من سيما الألى صحبوا ... خير البريّة نور دونه القمر
حبر تسربل منه دهره حبرا ... بحر تقاذف من أمواجه الدّرر
قام ابن تيميّة في نصر شرعتنا ... مقام سيّد تيم إذ عصت مضر
__________
[1] في «آ» و «ط» : «وكان» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» مصدر
المؤلف.
[2] في «آ» و «ط» : «أودان» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» .
(8/145)
فأظهر الدّين إذ آثاره درست ... وأخمد
الشّرك إذ طارت له شرر
يا من تحدّث عن علم الكتاب أصخ ... هذا الإمام الذي قد كان ينتظر
يشير بهذا إلى أنه المجدد.
وممن صرّح بذلك الشيخ عماد الدّين الواسطي، وقد توفي قبل الشيخ. وقال
في حقّ الشيخ بعد ثناء طويل جميل ما لفظه: فو الله، ثم والله، ثم
والله، لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيميّة، علما، وعملا،
وحالا، وخلقا واتّباعا، وكرما، وحلما، وقياما في حقّ الله عند انتهاك
حرماته، أصدق النّاس عقدا، وأصحهم علما، وعزما، وأنفذهم وأعلاهم في
انتصار الحقّ وقيامه همة، وأسخاهم كفّا، وأكملهم اتباعا لنبيّه محمد
صلّى الله عليه وسلّم. ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النّبوة
المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلّا هذا الرجل، يشهد القلب الصحيح
أن هذا هو الاتباع حقيقة.
وقال الشيخ تقي الدّين بن دقيق العيد، وقد سئل عن ابن تيمية بعد
اجتماعه به،: كيف رأيته؟ فقال: رأيت رجلا سائر العلوم بين عينيه، يأخذ
ما شاء منها ويترك ما شاء، فقيل له: فلم لا تتناظرا؟ قال: لأنه يحب
الكلام وأحبّ السّكوت.
وقال برهان الدّين بن مفلح في «طبقاته» [1] : كتب العلّامة تقي الدّين
السّبكي إلى الحافظ الذّهبي في أمر الشيخ تقي الدّين بن تيميّة،
فالمملوك يتحقق [أن] قدره وزخارة بحره وتوسعته في العلوم الشرعية
والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وأنه [2] بلغ من ذلك كل المبلغ الذي
يتجاوزه الوصف، والمملوك يقول ذلك دائما، وقدره في نفسي أكبر من ذلك
وأجلّ، مع ما جمعه الله تعالى له من الزّهادة، والورع، والدّيانة،
ونصرة الحقّ، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السّلف، وأخذه
من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزّمان، بل في أزمان.
انتهى.
__________
[1] انظر «المقصد الأرشد» (1/ 136) ولفظة «أن» مستدركة منه.
[2] لفظة «وأنه» لم ترد في «المقصد الأرشد» فلتستدرك.
(8/146)
وقال العلّامة الحافظ ابن ناصر الدّين في
«شرح بديعته» [1] بعد ثناء جميل وكلام طويل: حدّث عنه خلق، منهم
الذهبي، والبرزالي، وأبو الفتح بن سيد الناس، وحدّثنا عنه جماعة من
شيوخنا الأكياس.
وقال الذهبي في عدّ مصنّفاته المجوّدة: وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن
تبلغ خمسمائة مجلدة.
وأثنى عليه الذهبي وخلق بثناء حميد [2] ، منهم الشيخ عماد الدّين
الواسطي العارف، والعلّامة تاج الدّين عبد الرحمن الفزاري، وابن
الزّملكاني، وأبو الفتح ابن دقيق العيد [3] .
وحسبه من الثناء الجميل قول أستاذ أئمة الجرح والتعديل أبي الحجّاج
المزّي الحافظ الجليل، قال عنه: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه،
وما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه.
وترجمه بالاجتهاد وبلوغ درجته، والتمكن في أنواع العلوم والفنون، ابن
الزملكاني، والذّهبي، والبرزالي، وابن عبد الهادي، وآخرون.
ولم [4] يخلّف بعده من يقاربه في العلم والفضل. انتهى كلام ابن ناصر
الدّين ملخصا.
وكان الشيخ العارف بالله أبو عبد الله ابن قوام يقول: ما أسلمت معارفنا
إلّا على يد ابن تيمية.
وقال ابن رجب: كانت العلماء، والصّلحاء، والجند، والأمراء، والتّجار،
وسائر العامّة تحبه، لأنه منتصب لنفعهم ليلا ونهارا، بلسانه، وعلمه.
__________
[1] يعني في «التبيان شرح بديعة البيان» (185/ ب- 186/ آ) .
[2] في «آ» : «جميل» وما جاء في «ط» موافق لما في «التبيان شرح بديعة
البيان» مصدر المؤلف.
[3] في «آ» و «ط» : «وأبو الفتح وابن دقيق العيد» وهو خطأ والتصحيح من
«التبيان شرح بديعة البيان» مصدر المؤلف، فابن دقيق العيد كان يكنى
بأبي الفتح.
[4] في «آ» و «ط» : «ولا» والتصحيح من «التبيان شرح بديعة البيان» مصدر
المؤلف.
(8/147)
ثم قال ابن رجب وغيره: ذكر نبذة من مفرداته
وغرائبه:
اختار ارتفاع الحدث بالمياه المعتصرة كماء الورد ونحوه.
والقول بأن المائع لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلّا أن يتغير قليلا كان
أو كثيرا.
والقول بجواز المسح على النّعلين والقدمين وكل ما يحتاج في نزعه من
الرّجل إلى معالجة باليد أو بالرّجل الأخرى، فإنه يجوز المسح عليه مع
القدمين.
واختار أن المسح على الخفّين لا يتوقت مع الحاجة، كالمسافر على البريد
ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إلى الديار المصرية على خيل البريد، ويتوقت
مع إمكان النزع وتيسره.
واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها.
واختار جواز التيمم لخشية [1] فوات الوقت في حق غير المعذور، كمن أخّر
الصلاة عمدا حتّى تضايق وقتها. وكذا من خشي فوات الجمعة والعيدين وهو
محدث.
واختار أن المرأة إذا لم يمكنها الاغتسال في البيت وشق عليها النزول
إلى الحمّام وتكرره، أنها تتيمم وتصلي.
واختار أن لا حدّ لأقلّ الحيض ولا لأكثره، ولا لأقلّ الطّهر بين
الحيضتين، ولا لسنّ الإياس [من الحيض] [2] ، وأن ذلك يرجع [3] إلى ما
تعرفه كل امرأة من نفسها.
واختار أن تارك الصلاة عمدا لا يجب عليه القضاء، ولا يشرع له، بل يكثر
من النوافل [4] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «بخشية» والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 404)
.
[2] ما بين الحاصرتين مستدرك من «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 405) .
[3] في «ذيل طبقات الحنابلة» : «وأن ذلك راجع» .
[4] أقول: أي لا يمكنه أن يتدارك ما فاته إلّا بالإكثار من صالح
الأعمال. (ع) .
(8/148)
وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله، كما
هو مذهب الظّاهرية.
واختار القول بأن البكر لا تستبرأ وإن كانت كبيرة، كما هو قول ابن عمر
واختاره البخاري صاحب «الصحيح» .
والقول بأن سجود التلاوة لا يشترط له وضوء، كما هو مذهب ابن عمر
واختيار البخاري.
والقول بأن من أكل في شهر رمضان معتقدا أنه ليل وكان نهارا لا قضاء
عليه كما هو الصحيح عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وإليه ذهب بعض
التابعين وبعض الفقهاء بعدهم.
والقول بجواز المسابقة بلا محلّل وإن أخرج المتسابقان.
والقول باستبراء المختلعة بحيضة، وكذلك الموطوءة بشبهة، والمطلقة آخر
ثلاث تطليقات.
والقول بإباحة وطء الوثنيات بملك اليمين.
وجواز طواف الحائض، ولا شيء عليها إذا لم يمكنها أن تطوف طاهرا.
والقول بجواز بيع الأصل بالعصير، كالزيتون بالزيت، والسّمسم بالسّيرج.
والقول بجواز بيع ما يتخذ من الفضة للتحلي وغيره كالخاتم ونحوه بالفضة
متفاضلا، وجعل الزايد من الثمن في مقابلة الصّنعة والقول.
ومن أقواله المعروفة المشهورة التي جرى بسبب الإفتاء بها محن وقلاقل
قوله بالتكفير في الحلف بالطلاق، وأن الطّلاق الثلاث لا يقع إلّا
واحدة، وأن الطلاق المحرّم لا يقع، وله في ذلك مؤلفات كثيرة لا تنحصر
ولا تنضبط.
وقال ابن رجب: مكث الشيخ معتقلا في القلعة من شعبان سنة ست وعشرين إلى
ذي القعدة سنة ثمان وعشرين، ثم مرض بضعة وعشرين يوما، ولم يعلم أكثر
الناس بمرضه، ولم يفجأهم إلّا موته.
وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشري ذي القعدة، ذكره مؤذن القلعة
(8/149)
على منارة الجامع، وتكلّم به الحرس على
الأبرجة، فتسامع الناس بذلك، وبعضهم علم به في منامه، واجتمع الناس حول
القلعة حتّى أهل الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق، ولا فتحوا كثيرا
من الدكاكين، وفتح باب القلعة.
واجتمع عند الشيخ خلق كثير من أصحابه يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زين
الدّين عبد الرحمن أنه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة،
وشرعا في الحادية والثمانين، وانتهيا إلى قوله تعالى: إِنَّ
الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ
مُقْتَدِرٍ 54: 54- 55 [القمر: 54- 55] .
فشرع حينئذ الشيخان الصّالحان عبد الله بن المحبّ الصّالحي، والزّرعيّ
الضّرير- وكان الشيخ يحب قراءتهما- فابتدأ من سورة الرحمن حتى ختما
القرآن.
وخرج من عنده من كان حاضرا إلّا من يغسّله ويساعد على تغسيله، وكانوا
جماعة من أكابر الصّالحين وأهل العلم، كالمزّي وغيره، وما فرغ من
تغسيله حتّى امتلأت القلعة وما حولها بالرّجال، فصلّى عليه بدركات
القلعة الزّاهد القدوة محمد بن تمّام، وضجّ الناس حينئذ بالبكاء،
والثناء، والدعاء بالتّرحم.
وأخرج الشيخ إلى جامع دمشق، وصلّوا عليه الظّهر، وكان يوما مشهودا [1]
لم يعهد بدمشق مثله، وصرخ صارخ: هكذا تكون جنائز أئمة السّنّة، فبكى
الناس بكاء كثيرا، وأخرج من باب البريد، واشتد الزحام، وألقى الناس على
نعشه مناديلهم، وصار النّعش على الرؤوس يتقدم تارة ويتأخر أخرى، وخرجت
جنازته من باب الفرج، وازدحم الناس على أبواب المدينة جميعا للخروج،
وعظم الأمر بسوق الخيل، وتقدم في الصلاة عليه هناك أخوه عبد الرحمن،
ودفن وقت العصر أو قبلها بيسير إلى جانب أخيه شرف الدّين عبد الله
بمقابر الصّوفية. وحزر من حضر جنازته بمائتي ألف، ومن النساء بخمسة عشر
ألفا. وختمت له ختمات كثيرة، رحمه الله ورضي عنه.
__________
[1] تحرفت في «ط» إلى «مشهوا» .
(8/150)
وفيها شهاب الدّين أبو العبّاس أحمد بن
يحيى بن محمد بن بدر الجزري ثم الصّالحي [1] المقرئ الفقيه الحنبلي.
ولد في حدود السبعين وستمائة، وقرأ بالروايات على الشيخ جمال الدّين
البدوي [2] وسمع من جماعة من أصحاب ابن طبرزد، والكندي، ولزم المجد
التّونسي. وأخذ عنه علم القراءات، حتى مهر فيها، وأقبل على الفقه، وصحب
القاضي ابن مسلم مدة وانتفع به.
وكان من خيار الناس، دينا، وعقلا، وحياء، ومروءة، وتعففا.
اقرأ القراءات، وحدّث.
وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. قاله ابن رجب.
وفيها أبو العبّاس أحمد بن محمد بن عبد الولي بن جبارة المقدسي [3]
المقرئ الفقيه [4] الحنبلي الأصولي النحوي شهاب الدّين بن الشيخ تقي
الدّين.
ولد سنة سبع أو ثمان وأربعين وستمائة، وسمع من خطيب مردا، حضورا، وابن
عبد الدائم.
وارتحل إلى مصر بعد الثمانين، فقرأ بها القراءات على الشيخ حسن
الرّاشدي، وصحبه إلى أن مات. وقرأ الأصول على شهاب الدّين القرافي
المالكي، والعربية على بهاء الدّين بن النّحاس، وبرع في ذلك. وتفقه في
المذهب.
وقدم دمشق، ثم تحوّل إلى حلب، وأقرأ بها.
__________
[1] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 408) و «غاية النهاية» (1/ 148) و
«الدّرر الكامنة» (1/ 333- 334) .
[2] تحرفت في «ط» إلى «البدري» .
[3] انظر «معرفة القراء الكبار» (2/ 746) و «معجم الشيوخ» (1/ 6) و
«ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 386) و «غاية النهاية» (1/ 122) و «الدّرر
الكامنة» (1/ 276) .
[4] تحرفت في «ط» إلى «الفقه» .
(8/151)
ثم استوطن بيت المقدس. وتصدّر لإقراء
القراءات والعربية، وصنّف شرحا كبيرا ل «الشاطبية» ، وشرحا آخر ل
«الرائية» في الرسم، وشرحا ل «ألفية ابن معطي» وصنّف «تفسيرا» وأشياء
في القراءات. ذكره الذهبي في «معجم شيوخه» فقال: كان إماما، مقرئا،
بارعا، فقيها، نحويا، نشأ إلى اليوم في صلاح ودين وزهد. سمعت منه مجلس
البطاقة، وانتهت إليه مشيخة بيت المقدس.
وذكر البرزالي أنه حجّ وجاور بمكة، وأنه يعدّ في العلماء الصّالحين
الأخيار، وقال: قرأت عليه بدمشق والقدس عدة أجزاء.
وتوفي بالقدس سحر يوم الأحد رابع رجب، وذكر الدّبيثي أنه مات فجأة.
وفيها الشيخ جمال الدّين عبد الله بن محمد بن علي ابن العاقولي الواسطي
[1] الشّافعي، مدرّس المستنصرية.
قال ابن قاضي شهبة في «طبقاته» : مولده في رجب سنة ثمان وثلاثين
وستمائة، وسمع الحديث من جماعة، واشتغل وبرع.
وقال ابن كثير: درّس بالمستنصرية مدة طويلة، نحو أربعين سنة، وباشر نظر
الأوقاف، وعيّن لقضاء القضاة في وقت، وأفتى من سنة سبع وخمسين وإلى أن
مات، وذلك إحدى وسبعون سنة، وهذا شيء غريب جدا. وكان قويّ النّفس، له
وجاهة في الدولة، كم كشفت به كربة عن النّاس بسعيه وقصده.
وقال السّبكي: ولي قضاء القضاة بالعراق.
وقال الكتبي: انتهت إليه رئاسة الشافعية ببغداد، ولم يكن يومئذ من
يماثله ولا يضاهيه في علومه وعلو مرتبته، وعيّن لقضاء القضاة فلم يقبل.
توفي في شوال ببغداد وله تسعون سنة وثلاثة أشهر، ودفن بداره، وكان
وقفها على شيخ وعشرة صبيان يقرؤون القرآن، ووقف عليها أملاكه كلّها.
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (157) و «النجوم الزاهرة» (9/ 274) و «طبقات
الشافعية الكبرى» (10/ 43) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 235- 236) و
«طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 344- 345) و «الدّرر الكامنة» (2/
299) .
(8/152)
وفيها الفقيه المعمّر جمال الدّين عبد
الرحمن بن أحمد بن عمر بن شكر المقدسي الحنبلي [1] .
ولد في رمضان سنة تسع وثلاثين وستمائة، وسمع من النّور البلخي،
والمرسي، ومحمد بن عبد الهادي، وطائفة.
توفي بالصّالحية في ذي القعدة.
وفيها عفيف الدّين أبو عبد الله محمد بن عبد المحسن بن أبي الحسن
البغدادي، ابن الخراط الحنبلي [2] .
قال الذهبي: الإمام الواعظ، مسند العراق، شيخ المستنصرية.
مولده في ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
سمع من عجيبة كثيرا، وابن الخير، وابن قميرة، وأخيه، وطائفة. وتفرّد.
ومات ببغداد في جمادى الأولى.
وفيها قاضي القضاة شمس الدّين محمد بن عثمان بن أبي الحسن الدّمشقي
الحنفي بن الحريري [3] .
ولد في صفر سنة ثلاث وخمسين وستمائة، وحدّث عن ابن الصّيرفي، والقطب بن
عصرون، وابن أبي اليسر.
وكان عادلا، مهيبا، صارما، ديّنا، رأسا في المذهب.
وتوفي بمصر في جمادى الآخرة.
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (158) و «الدّرر الكامنة» (2/ 224) .
[2] انظر «ذيول العبر» ص (156- 157) و «معجم الشيوخ» (2/ 225- 226) و
«ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 384- 386) و «الدّرر الكامنة» (4/ 27) و
«المقصد الأرشد» (2/ 462- 463) .
[3] انظر «ذيول العبر» ص (157) و «الوافي بالوفيات» (4/ 90) و «الجواهر
المضية» (2/ 250- 251) و «الدّرر الكامنة» (4/ 39- 40) .
(8/153)
سنة تسع وعشرين
وسبعمائة
فيها توفي العلّامة شيخ الإسلام برهان الدّين إبراهيم بن شيخ الشّافعية
تاج الدّين عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري المصري الأصل
الشافعي بل شافعيّ الشّام [1] .
ولد في شهر ربيع الأول سنة ستين وستمائة. وسمع الكثير من ابن عبد
الدائم، وابن أبي اليسر، وعدّة، وله مشيخة خرّجها العلائي، وأخذ عن
والده، وبرع، وأعاد في حلقته، وأخذ النحو عن عمّه شرف الدّين، ودرّس
بالبادرائية بعد وفاة أبيه، وخلفه في إشغال الطلبة والإفتاء، ولازم
الإشغال والتّصنيف، وحدّث بالصحيح مرات، وعرض عليه القضاء فامتنع،
وباشر الخطابة بعد موت عمّه مدة يسيرة، ثم تركها، وصنّف «التعليقة على
التّنبيه» في نحو عشر مجلدات، وله «تعليقة» على مختصر ابن الحاجب في
الأصول، وله مصنّفات أخر.
ذكره الذهبي في «المعجم المختص» وقال: انتهت إليه معرفة المذهب ودقائقه
ووجوهه، مع علمه متون الأحكام وعلم الأصول والعربية، وغير ذلك، وسمع
الكثير وكتب مسموعاته. وكان يدري علوم الحديث، مع الدّين والورع، وحسن
السّمت، والتّواضع.
توفي بالبادرائية في جمادى الأولى ودفن بباب الصغير عند أبيه وعمه.
__________
[1] قلت: ويعرف بابن الفركاح. انظر «ذيول العبر» ص (160- 161) و «طبقات
الشافعية الكبرى» (9/ 312- 313) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 290) و
«طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 314- 318) و «الدّرر الكامنة» (1/
34- 35) .
(8/154)
وفيها مجد الدين أبو الفداء إسماعيل بن
محمد بن إسماعيل بن الفرّاء الحرّاني ثم الدمشقي [1] الفقيه الحنبلي،
شيخ المذهب.
ولد سنة خمس أو ست وأربعين وستمائة بحرّان. وقدم دمشق مع أهله سنة إحدى
وسبعين، فسمع بها الكثير من ابن أبي عمر، وابن الصّيرفي، والكمال عبد
الرحيم، وابن البخاري، والإربلي، وابن حامد الصّابوني، وغيرهم.
وطلب بنفسه، وسمع «المسند» والكتب الكبار، وتفقه بالشيخ شمس الدّين ابن
أبي عمر وغيره، ولازمه حتّى برع في الفقه.
وتصدّى للإشغال والفتوى مدة طويلة، وانتفع به خلق كثير. مع الدّيانة
والتّقوى، وضبط اللسان، والورع في المنطق وغيره واطّراح التكلّف في
الملبس وغيره.
قال الطّوفي: كان من أصلح خلق الله وأدينهم، كأنّ على رأسه الطير. وكان
عالما بالفقه، والحديث، وأصول الفقه، والفرائض، والجبر، والمقابلة.
وقال الذهبي: كان شيخ الحنابلة.
وقال غيره: يقال: إنه أقرأ «المقنع» مائة مرة.
وكان عديم التكلّف، يحمل حاجته بنفسه، وليس له كلام في غير العلم، ولا
يخالط أحدا، وأوقاته محفوظة.
وقال هو: ما وقع في قلبي الترفّع على أحد من الناس، فإني أخبر بنفسي
ولست أعرف أحوال الناس.
وقال ابن رجب: كان سريع الدّمعة، سمعت بعض شيوخنا يذكر عنه أنه كان لا
يذكر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في دروسه إلّا ودموعه جارية، ولا
سيما إن ذكر شيئا من الرقائق أو أحاديث الوعيد ونحو ذلك.
__________
[1] انظر «معجم الشيوخ» (1/ 179) و «ذيول العبر» ص (161) و «ذيل طبقات
الحنابلة» (2/ 408- 410) و «الدّرر الكامنة» (1/ 377- 378) و «المقصد
الأرشد» (1/ 272- 273) .
(8/155)
وقد قرأ عليه عامة أكابر شيوخنا ومن قبلهم،
حتّى الشيخ تقي الدين الزّريرانيّ [1] شيخ العراق وحدّث. وسمع منه
جماعة، منهم: الذهبي وغيره.
وتوفي ليلة الأحد تاسع جمادى الأولى بالمدرسة الجوزية، ودفن بمقابر
الباب الصّغير.
وفيها الصّاحب الأمجد رئيس الشام عزّ الدّين حمزة بن المؤيد بن
القلانسي الدمشقي [2] .
كان محتشما، معظّما، متنعّما. عمل الوزارة وغيرها. وروى عن البرهان،
وابن عبد الدائم.
وتوفي في ذي الحجّة عن ثمانين سنة وأشهر. قاله في «العبر» .
وفيها الإمام تقي الدّين أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن
إسماعيل بن أبي البركات بن مكّي بن أحمد الزّريراتيّ [1] ثم البغدادي
[3] الحنبلي فقيه العراق ومفتى الآفاق.
ولد في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وستمائة.
وحفظ القرآن وله سبع سنين، وسمع الحديث من إسماعيل بن الطبّال وخلائق.
وتفقه ببغداد على جماعة، منهم: الشيخ مفيد الدّين الحربي وغيره، ثم
ارتحل إلى دمشق، فقرأ بها المذهب على الشيخ زين الدّين بن المنجّى،
والشيخ مجد الدّين الحرّاني، ثم عاد إلى بلده.
وبرع في الفقه وأصوله، ومعرفة المذهب، والخلاف، والفرائض، ومتعلقاتها.
__________
[1] تحرفت في «آ» و «ط» في الموضعين إلى «الذريراتي» بالذال والتصحيح
من «ذيل طبقات الحنابلة» و «المقصد الأرشد» كما سبقت الإشارة إلى ذلك
من قبل. انظر ص (132) من هذا المجلد.
[2] انظر «ذيول العبر» ص (163) و «النجوم الزاهرة» (9/ 280) و «الدّرر
الكامنة» (2/ 75- 76) .
[3] انظر «ذيل طبقات الحنابلة» 2/ 410- 412) و «الدّرر الكامنة» (2/
289- 290) و «المقصد الأرشد» (2/ 55- 56) .
(8/156)
وكان عارفا بأصول الدّين، وبالحديث،
وبأسماء الرجال، والتواريخ، وباللغة، والعربية، وغير ذلك، وانتهت إليه
معرفة الفقه بالعراق.
وكان يحفظ «الهداية» و «الخرقي» وذكر أنه طالع «المغني» للشيخ موفق
الدّين ثلاثا وعشرين مرة، وكان يستحضر أكثره، وعلّق عليه حواشي وفوائد.
قال ابن رجب: انتهت إليه رئاسة العلم ببغداد من غير مدافع، وأقرّ له
الموافق والمخالف، وكان الفقهاء من سائر الطوائف يجتمعون به، ويستفيدون
منه في مذاهبهم، ويتأدّبون معه، ويرجعون إلى قوله، ويردّهم عن فتاويهم،
فيذعنون له، ويرجعون إلى ما يقوله، حتّى ابن المطهّر شيخ الشيعة، كان
الشيخ يبيّن له خطأه في نقله لمذهب الشيعة فيذعن له.
ويوم وفاته قال الشيخ شهاب الدّين عبد الرحمن بن عسكر شيخ المالكية:
لم يبق ببغداد من يراجع في علوم الدّين مثله.
وقرأ عليه جماعة من الفقهاء، وتخرّج به أئمة، وأجاز لجماعة، وولي
القضاء.
توفي ببغداد ليلة الجمعة ثاني عشري جمادى الأولى ودفن بمقابر الإمام
أحمد قريبا من القاضي أبي يعلى، رحمهم الله تعالى.
وفي حدودها نجم الدّين أبو الفضل إسحاق بن أبي بكر بن ألمى بن أطز [1]
التّركي ثم المصري [2] الفقيه الحنبلي المحدّث الأديب الشاعر.
ولد سنة سبعين وستمائة [3] . وسمع بمصر من الأبرقوهي، ورحل، وسمع
بالإسكندرية من القرافي، وبدمشق من أبي الفوارس. وإسماعيل بن الفرّاء،
وبحلب من سنقر الزّيني، وتفقه. وقال الشعر الحسن، وسمع منه الحافظ
الذهبي
__________
[1] في «ط» : «أطر» .
[2] انظر «معجم الشيوخ» (1/ 170) و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 414- 415)
و «الدّرر الكامنة» (1/ 357) و «الوافي بالوفيات» (8/ 405) .
[3] تحرفت في «ط» إلى «سبعمائة» .
(8/157)
بحلب، ثم دخل العراق بعد السبعمائة، وتنقّل
في البلاد، وسكن أذربيجان، ولم تكن سيرته هناك مشكورة، وبقي إلى حدود
هذه السنة ولم تتحقق سنة وفاته، وليس له في الزّهد والعلم مشبه سوى
الحسن البصري، وابن المسيّب. قاله ابن رجب.
وفيها قاضي القضاة علاء الدّين علي بن إسماعيل بن يوسف القونوي الشافعي
[1] قاضي القضاة، وشيخ الشيوخ، فريد العصر.
ولد بمدينة قونوة [2] سنة ثمان وستين وستمائة. واشتغل هناك، وقدم دمشق
في أول سنة ثلاث وتسعين فازداد بها اشتغالا، وسمع الحديث من جماعة،
وتصدر للإشغال بالجامع، ودرّس بالإقبالية، ثم تحوّل سنة سبعمائة إلى
مصر، وسمع بها من جماعة، ولازم ابن دقيق العيد، وأثنى عليه ثناء بالغا،
مع شدة احترازه في الألفاظ، وتولى بالقاهرة تدريس الشّريفية، ومشيخة
الميعاد بالجامع الطولوني، وولي مشيخة الشيوخ في سنة عشر وسبعمائة،
وانتصب للاشغال، وازدحم عليه الناس إلى أن تخرّج به خلق كثير. وصنّف
شرحه المشهور على «الحاوي» وصنّف مصنّفا في «حياة الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام في قبورهم» .
ذكره الذهبي في «المعجم المختص» [3] فقال: قدم علينا دمشق في أوائل سنة
ثلاث وتسعين، فحضر المدارس وبهرت فضائله، ودرّس وأفتى، وأعاد [4]
وأفاد، وبرع في عدة علوم، وتخرّج به أئمة. مع الوقار، والورع، وحسن
السّمت، ولطف المحاورة، وجميل الأخلاق. قلّ أن ترى العيون مثله.
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (162) و «الإعلام بوفيات الأعلام» ص (308) و
«النجوم الزاهرة» (9/ 279) و «طبقات الشافعية الكبرى» (10/ 132- 136) و
«طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 334- 336) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي
شهبة (2/ 356- 359) و «الدّرر الكامنة» (1/ 24- 28) .
[2] كذا في «آ» و «ط» و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة مصدر المؤلف:
«قونوة» ولعلها «قونية» التي تقع في الجنوب الأوسط من تركية المعاصرة.
[3] لم أجد ترجمته في «المعجم المختص» المطبوع الذي بين أيدينا فلعل
ترجمته قد سقطت منه، والله أعلم.
[4] في «ط» : «وأعادوا» وهو خطأ.
(8/158)
وذكر له تلميذه الشيخ جمال الدّين الإسنوي
ترجمة حسنة، وقال: كان أجمع من رأيناه للعوم، مع الاتّساع فيها، خصوصا
العلوم العقلية واللّغوية، لا يشار بها إلّا إليه، ولا يحال فيها إلّا
عليه، وولي القضاء بدمشق ومشيخة الشيوخ، وباشر على النّمط الذي كان
عليه بالدّيار المصرية، مع الحرمة، والنّزاهة، والإشغال، والتّحديث،
إلى أن توفي بدمشق في ذي القعدة، ودفن بجبل قاسيون.
وفيها الصّدر نجم الدّين علي بن محمد بن هلال الأزدي [1] .
حدّث عن ابن البرهان، والقاضي صدر الدّين بن سني الدولة، والزّين خالد
والكرماني.
وطلب وحصّل الأصول، وولي نظر الأيتام، وكان تامّ الشكل حسن البزّة، ذا
كرم وتحمّل.
ومات بدمشق في ربيع الآخر عن ثمانين سنة.
وفيها القاضي نجم الدّين أبو عبد الله محمد بن عقيل بن أبي الحسن بن
عقيل البالسي ثم المصري [2] الشافعي شارح «التنبيه» .
ولد سنة ستين وستمائة، وسمع بدمشق من جماعة، واشتغل وفضل، ثم دخل
القاهرة، وسمع من ابن دقيق العيد، ولازمه، وناب في الحكم بمصر، ودرّس
بالمعزّية والطّبيبرسية، وكان قويّ النّفس، كثير الإيثار مع التقلل،
وانتفع به طلبة مصر، ودارت عليه الفتيا بها.
قال الذهبي: كان إماما زاهدا.
وقال السبكي في «الطبقات الكبرى» : شارح «التنبيه» ، واختصر «كتاب
الترمذي» في الحديث، وكان أحد أعيان الشافعية. ديّنا وورعا.
__________
[1] انظر «المعجم المختص» ص (170- 171) و «ذيول العبر» ص (160) و
«الدّرر الكامنة» (3/ 114- 115) .
[2] انظر «ذيول العبر» ص (159- 160) و «النجوم الزاهرة» (9/ 280) و
«طبقات الشافعية الكبرى» (9/ 252) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 290-
291) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 381- 383) و «الوافي
بالوفيات» (4/ 98) و «الدّرر الكامنة» (4/ 50) .
(8/159)
وقال الإسنوي: كان له في التّقوى سابقة
قدم، وفي الورع رسوخ قدم، وفي العلم آثار هي أوضح للسّارين من نار على
علم.
كان فقيها، محدّثا، ورعا، قوّاما في الحقّ.
توفي في المحرم بالقاهرة ودفن بالقرافة الصّغرى.
وفيها بدر الدّين أبو اليسر محمد بن محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق
بن خليل بن مقلد بن جابر الأنصاري الدمشقي الإمام الزاهد ابن قاضي
القضاة عز الدّين المعروف بابن الصائغ الشافعي [1] .
مولده في المحرّم سنة ست وسبعين وستمائة، وقرأ «التنبيه» ولازم الشيخ
برهان الدّين الفزاري زمانا، وسمع الكثير، وحدّث، وسمع منه البرزالي،
وخرّج له جزءا [2] من حديثه، وحدّث به، ودرّس بالعمادية والدماغية.
وجاءه التقليد بقضاء القضاة في سنة سبع وعشرين فامتنع، وأصرّ على
الامتناع فأعفي.
ثم ولي خطابة القدس، ثم تركها.
قال الذهبي: الإمام، القدوة، العابد. كان مقتصدا في أموره، كثير
المحاسن، حجّ غير مرّة.
وقال ابن رافع: كان على طريقة حميدة، وعنده عبادة واجتماع وملازمة
للصلحاء والأخيار، وإعراض عن المناصب. وكان معظّما، مبجّلا، وقورا.
توفي بدمشق في جمادى الأولى، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون.
وفيها العلّامة ناظر الجيش معين الدّين هبة الله بن مسعود بن حشيش [3]
.
__________
[1] انظر «المعجم المختص» ص (261- 262) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي
شهبة (2/ 388- 389) و «الدارس في تاريخ المدارس» (1/ 238) .
[2] في «آ» و «ط» : «أجزاء» والتصحيح من «طبقات الشافعية» لابن قاضي
شهبة مصدر المؤلف.
[3] انظر «المعجم المختص» ص (292- 293) و «ذيول العبر» ص (162) و
«النجوم الزاهرة (9/ 280) و «الدّرر الكامنة» (5/ 177) .
(8/160)
روى عن ابن البخاري وغيره، وله نظم ونثر،
وقوة أدوات.
توفي بمصر عن ثلاث وستين سنة.
وفيها المسند المعمّر فتح الدّين يونس بن إبراهيم بن عبد القوي الكناني
العسقلاني ثم المصري الدّبابيسي [1] .
كان آخر من روى عن ابن المقيّر بالسماع وبالإجازة، وعن المخيل، وحمزة
بن أوس، وظافر بن شحم، وعدة، وتفرّد، وروى الكثير، وكان عاقلا منورا.
توفي بمصر في جمادى الأولى وقد جاوز التسعين بيسير.
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (161- 162) و «الدّرر الكامنة» (4/ 484) .
(8/161)
سنة ثلاثين وسبعمائة
فيها توفي مسند الدّنيا شهاب الدّين أحمد بن أبي طالب بن نعمة بن حسن
الصّالحي الحجّار ابن الشّحنة [1] . من قرية من قرى وادي بردى بدمشق.
انفرد بالرواية عن الحسين الزّبيدي. وبين سماعه للصحيح وموته مائة سنة.
وسافر إلى القاهرة مرتين مطلوبا مكرما ليحدّث بها.
قال البرزالي: مولده سنة ثلاث وعشرين وستمائة وعمّر مائة عام وسبعة
أعوام، وانفرد في الدنيا [2] بالإسناد عن الزّبيدي.
وكان أميّا، يوم لا يسمع عليه يخرج إلى الجبل مع الحجّارين يقطع
الحجارة، وألحق أولاد الأولاد بالأجداد، وكان ربما خرج الطلبة إليه وهو
يقطع الحجارة ليسمعهم فيقول: اقرؤوا على الفروة. وكان إذا قلب عليه سند
حديث يقول: لم أسمعه هكذا، وإنما سمعته كذا وكذا، طبق ما في «الصحيح» .
وقال الذهبي: حدّث يوم موته، وسمع من ابن الزّبيدي، وابن اللّتي، وأجاز
له ابن روزبه، وابن القطيعي، وعدة. ونزل الناس بموته درجة.
ومات بصالحية دمشق في الخامس والعشرين من صفر، ودفن بالتربة المحوط
عليها بمحلّة تعرف بالسكة بالقرب من زاوية الدومي جوار جامع الأفرم.
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (164) و «معجم الشيوخ (1/ 118- 120) و «النجوم
الزاهرة» (9/ 281) و «الدّرر الكامنة» (1/ 142- 143) و «القلائد
الجوهرية» ص (412- 414) طبع مجمع اللغة العربية بدمشق.
[2] في «ط» : «بالدنيا» .
(8/162)
وفيها سيف الدّين بهادر آص المنصوري [1] .
كان من أمراء الألوف بدمشق وقبته خارج باب الجابية، ودفن بها وقد نيّف
على السبعين.
وفيها المعمّر زين الدّين أيوب بن نعمة النّابلسي ثم الدمشقي الكحّال
[2] .
حدّث عن المرسي، والرّشيد العراقي، وعبد الله بن الخشوعي، وجماعة.
وتفرّد، وحدّث بمصر ودمشق.
ومات في ذي الحجّة عن أزيد من تسعين سنة.
وفيها فخر الدّين أبو عمرو عثمان بن علي بن عثمان بن إبراهيم بن
إسماعيل بن يوسف بن يعقوب الطّائي الحلبي الشّافعي، المعروف بابن خطيب
جبرين [3] .
مولده بالقاهرة في ربيع الأول سنة اثنتين وستين وستمائة، تفقه على ابن
بهرام قاضي حلب وغيرها. قرأ عليه «التعجيز» بقراءته له على مصنّفه،
وقرأ على القاضي شرف الدّين البارزي وغيرهما، ودرّس، وأفتى، وأشغل
الناس بالعلم بحلب وانتفع به، وشرح «مختصر ابن الحاجب» و «الحاوي
الصغير» ولم يكمله و «التعجيز» و «الشامل الصغير» للقزويني، و «البديع»
لابن السّاعاتي، وله منسك ومصنّفات أخر.
وولي وكالة بيت المال بحلب وقضاء القضاة بها بعد شمس الدّين بن
النّقيب، ووقع بينه وبين نائب حلب فكاتب فيه فطلب إلى مصر بسبب حكومة
فأدركه أجله هناك.
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (164) و «النجوم الزاهرة» (9/ 281- 282) و
«الدّرر الكامنة» (1/ 497) و «الدارس في تاريخ المدارس» (2/ 228) .
[2] انظر «معجم الشيوخ» (1/ 86) و «ذيول العبر» ص (166) و «الدّرر
الكامنة» (1/ 434- 435) .
[3] انظر «ذيول العبر» ص (165- 166) و «طبقات الشافعية الكبرى» (10/
126- 127) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/ 393- 394) و «طبقات
الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 351- 353) و «الدّرر الكامنة» (2/ 443-
446) .
(8/163)
وقال الكتبي: تخرّج به الفقهاء والقرّاء،
واشتهر اسمه.
وتوفي بالقاهرة في المحرم ودفن بمقبرة الصّوفية.
وجبرين: بالجيم والباء والراء المكسورة قرية من قرى حلب [1] .
والصحيح في وفاته أنه في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة كما جزم به
الإسنويّ، وابن قاضي شهبة، وغيرهما.
وفيها قاضي القضاة فخر الدّين أبو عمرو عثمان ابن محمد بن عبد الرّحيم
بن إبراهيم بن هبة الله بن المسلم الجهني الحموي، المعروف بابن البارزي
[2] الشافعي، قاضي حلب.
ولد بحماة سنة ثمان وستين وستمائة، وناب عن عمّه القاضي شرف الدّين
بحماة. وتولّى قضاء حمص مدة، ثم عاد إلى حماة وولي خطابة الجامع بها ثم
ولي قضاء حلب.
قال الذهبي: حدّث ب «مسند الشافعي» عن ابن النّصيبي وحفظ كتبا وأفتى.
وذكره ابن حبيب، وأثنى عليه وقال: كان عارفا بمشكلات «الحاوي» وله عليه
شرح يفيد السامع والراوي.
توفي بحلب فجأة في صفر ودفن خارج باب المقام.
وفيها المحدّث الزّاهد فخر الدّين عثمان [3] .
قال الذهبي: ابن شيخنا الحافظ أحمد بن الظّاهري، حضر ابن علّاق،
والنّجيب، وكان مكثرا ارتحل به أبوه ونسخ هو بخطه وحدّث.
وتوفي بمصر في رجب عن ستين سنة سوى أشهر.
__________
[1] انظر «معجم البلدان» (2/ 101- 102) .
[2] انظر «ذيول العبر» ص (165) و «الدّرر الكامنة» (2/ 448- 449) .
[3] انظر «المعجم المختص» ص (153) و «ذيول العبر» ص (165) و «الدّرر
الكامنة» (2/ 436- 437) .
(8/164)
وفيها قاضي مكّة ومفتيها نجم الدّين محمد
بن محمد بن الشيخ محبّ الدّين الطّبري الشافعي [1] .
ولد سنة ثمان وخمسين وستمائة. وسمع من جدّه الشيخ محبّ الدّين، ومن عمّ
جدّه يعقوب بن أبي بكر الطّبري، والفاروثي، وغيرهم.
قال الإسنوي والسّبكي: كان فقيها شاعرا.
وقال الكتبي: كان شيخا، فاضلا، فقيها، مشهورا، يقصد بالفتاوى من بلاد
الحجاز واليمن، وكان له النّظم الفائق، والنثر الرّائق، ولم يخلّف في
الحرمين مثله.
توفي بمكّة في جمادى الآخرة ودفن بقية باب المعلاة [2] .
__________
[1] انظر «ذيول العبر» ص (165) و «الوافي بالوفيات» (2/ 146) و «طبقات
الشافعية الكبرى» (10/ 267- 268) و «طبقات الشافعية» للإسنوي (2/ 180-
181) و «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (2/ 387- 388) و «الدّرر
الكامنة» (4/ 162- 163) .
[2] في «آ» و «ط» : «باب المعلى» والصواب ما أثبته، وقد سبق التنبيه
على ذلك من قبل.
(8/165)
|