شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وخمسين وثمانمائة
في أثناء شوّالها وقعت صاعقة هائلة ببيت المقدس.
وفيها توفي برهان الدّين إبراهيم بن أحمد بن محمد بن محمد بن محمد الخجنديّ [1] المدني العالم، وقد جاوز السبعين.
وفيها الشيخ تقي الدّين أبو بكر بن شهاب الدّين أحمد بن محمد بن قاضي شهبة الشافعي [2] صاحب «طبقات الشافعية» .
كان إماما، علّامة، تفقه بوالده وغيره، وسمع من أكابر أهل عصره، وأفتى ودرّس وجمع وصنّف.
من مصنّفاته «شرح المنهاج» و «لباب التهذيب» و «الذيل على تاريخ ابن كثير» [3] و «المنتقى من تاريخ الإسكندرية» للنّويري، و «المنتقى من الأنساب»
__________
[1] تحرفت ترجمته في «آ» إلى «الجحدري» والصواب ما جاء في «ط» وترجمته في «الضوء اللامع» (1/ 24) و «التبر المسبوك» ص (188) و «التحفة اللطيفة» (1/ 105) و «نظم العقيان» ص (15) و «البدر الطالع» (1/ 24) و «الأعلام» (1/ 29) .
[2] ترجمته في «الضوء اللامع» (1/ 21- 24) و «النجوم الزاهرة» (15/ 523) و «البدر الطالع» (1/ 164) .
[3] وقد قام بتحقيقه الأستاذ الدكتور عدنان درويش وحصل على درجة الدكتوراه بإخراجه المجلد الثالث منه بإتقان يقتدى به فيه لجودته، ونشره المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق عام 1399 هـ.
وقد فرغ من تحقيق المجلدين الأول والثاني منذ فترة قريبة وشرع بطبعهما المعهد المذكور وسوف يصدران قريبا كما أكد لي الدكتور درويش نفع الله تعالى به.

(9/392)


لابن السمعاني، و «المنتقى من نخبة الدّهر في عجائب البرّ والبحر» و «المنتقى من تاريخ ابن عساكر» [1] وغير ذلك.
وتوفي بدمشق فجأة يوم الخميس حادي عشر ذي القعدة.
وفيها القآن معين الدّين شاه رخ بن تيمور لنك صاحب سمرقند وبخارى وغيرهما [2] .
وفيها القاضي عزّ الدّين عبد الرحيم بن القاضي ناصر الدّين [محمد بن عبد الرحيم] علي بن الحسين [3] الحنفي [4] الإمام المسند المعمّر، المحدّث الرّحلة المؤرّخ، المعروف بابن الفرات.
ولد سنة تسع وخمسين وسبعمائة بالقاهرة، وسمع بها من والده، والحسين بن عبد الرحمن بن سباع التّكريتي [5] ، وغيرهما وأجاز له العزّ بن جماعة، والصّلاح الصّفدي، وابن قاضي الجبل، وغيرهم. تجمعهم «مشيخة» تخريج الإمام المحدّث سراج الدّين عمر بن فهد.
وحدّث سنين، وتفرّد بأشياء عوال، وسمع منه الأعيان والفضلاء، وصار رحلة زمانه.
قال ابن تغري بردي: وأجاز لي بجميع مسموعاته ومروياته، وكانت له معرفة تامة بالفقه والأحكام، وناب في الحكم بالقاهرة سنين إلى أن توفي بها في أواخر ذي الحجّة.
وفيها ركن الدّين عمر بن قديد الحنفي النّحوي [6] .
__________
[1] وهو جدير بالنشر.
[2] ترجمته في «الضوء اللامع» (3/ 292) و «الدليل الشافي» (1/ 340) .
[3] في بعض المصادر: «ابن الحسن» .
[4] ترجمته في «الضوء اللامع» (4/ 186) و «النجوم الزاهرة» (15/ 524) و «الدليل الشافي» (1/ 410) و «التبر المسبوك» ص (192- 193) و «نظم العقيان» ص (127) و «معجم الشيوخ» لابن فهد ص (139- 140) . وما بين الحاصرتين مستدرك منها.
[5] تحرفت نسبته في «آ» إلى «الشربتي» .
[6] ترجمته في «الضوء اللامع» (6/ 113) و «بغية الوعاة» (2/ 222) .

(9/393)


قال السيوطي: كان علّامة بارعا فاضلا عالما بالأصول، والنحو، والتصريف [1] وغيرها.
لازم الشيخ عزّ الدّين ابن جماعة، وأخذ عنه عدة فنون، وتصدّر للإقراء، وتخرّج به جماعة، وله «حواش» و «تعاليق» و «فوائد» .
وكان منقطعا عن أبناء الدّنيا، طارحا للتكلّف، متقشفا في ملبسه. انتهى.
__________
[1] في «ط» : «والصرف» .

(9/394)


سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة
فيها توفي شيخ الإسلام علم الأعلام أمير المؤمنين في الحديث حافظ العصر شهاب الدّين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد، الشهير بابن حجر [1] ، نسبة إلى آل [2] حجر- قوم تسكن الجنوب الآخر على بلاد الجريد وأرضهم قابس- الكناني العسقلاني الأصل المصري المولد، والمنشأ، والدار، والوفاة، الشافعي.
ولد في ثاني عشري شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، ومات والده وهو حدث السنّ فكفله بعض أوصياء والده [3] إلى أن كبر، وحفظ القرآن العظيم، وتعانى المتجر، وتولع بالنظم، وقال الشعر الكثير المليح إلى الغاية، ثم حبّب الله إليه طلب الحديث، فأقبل عليه، وسمع الكثير بمصر وغيرها، ورحل، وانتقى، وحصّل.
__________
[1] ترجمته في «الضوء اللامع» (2/ 36- 40) و «طبقات الحفاظ» ص (547) و «التبر المسبوك» ص (230- 236) و «الذيل على رفع الإصر» ص (75- 89) و «حسن المحاضرة» (1/ 363) و «الدليل الشافي» (2/ 64) و «معجم الشيوخ» لابن فهد ص (70) و «نظم العقيان» ص (45- 53) و «بدائع الزهور» (2/ 339- 340) و «درة الحجال» (1/ 64- 72) و «النجوم الزاهرة» (15/ 532) و «الذيل التام على دول الإسلام» الورقة (87) من المخطوط، وهو قيد التحقيق الآن.
يقوم بتحقيقه صاحبي الأستاذ حسن إسماعيل مروة، وقد فرغ من المجلد الأول منه، وقمت بمراجعته والتقديم له وسوف يصدر قريبا إن شاء الله تعالى.
[2] لفظة «آل» سقطت من «آ» .
[3] في «الضوء اللامع» : «ونشأ يتيما في كنف أحد أوصيائه الزكي الخروبي» .

(9/395)


وسمع بالقاهرة: من السّراج البلقيني، والحافظين ابن الملقّن والعراقي، وأخذ عنهم الفقه أيضا. ومن البرهان الأبناسي، ونور الدّين الهيثمي، وآخرين.
وبسرياقوس [1] : من صدر الدّين الإبشيطي.
وبغزّة: من أحمد بن محمد الخليلي.
وبالرّملة: من أحمد بن محمد الأيكي.
وبالخليل: من صالح بن خليل بن سالم.
وببيت المقدس: من شمس الدّين القلقشندي، وبدر الدّين بن مكّي، ومحمد المنبجي، ومحمد بن عمر بن موسى.
وبدمشق: من بدر الدّين بن قوام البالسي، وفاطمة بنت المنجّى التّنوخية، وفاطمة بنت عبد الهادي، وعائشة بنت عبد الهادي، وغيرهم.
وبمنى: من زين الدّين أبي بكر بن الحسين.
ورحل إلى اليمن بعد أن جاور بمكة، وأقبل على الاشتغال والإشغال والتصنيف، وبرع في الفقه والعربية، وصار حافظ الإسلام.
قال بعضهم: كان شاعرا، طبعا، محدّثا صناعة، فقيها تكلّفا، انتهى إليه معرفة الرجال واستحضارهم ومعرفة العالي والنّازل، وعلل الأحاديث، وغير ذلك.
وصار هو المعوّل عليه في هذا الشأن في سائر الأقطار، وقدوة الأمّة، وعلّامة العلماء، وحجة الأعلام، ومحيي السّنّة. وانتفع به الطلبة، وحضر دروسه وقرأ عليه غالب علماء مصر، ورحل الناس إليه من الأقطار، وأملى بخانقاه بيبرس نحوا من عشرين سنة ثم انتقل لما عزل عن منصب القضاء بالشّمس القاياتي إلى دار الحديث الكاملية بين القصرين، واستمرّ على ذلك. وناب في الحكم عن جماعة، ثم ولاه الملك الأشرف برسباي قضاء القضاة الشافعية بالدّيار المصرية عن
__________
[1] سرياقوس: من أعمال القليبوية بنواحي القاهرة. انظر «معجم البلدان» (3/ 218) و «التحفة السّنية» ص (10) .

(9/396)


علم الدّين البلقيني بحكم عزله، وذلك في سابع عشري محرم سنة سبع وعشرين، ثم لا زال يباشر القضاء ويصرف مرارا كثيرة إلى أن عزل نفسه سنة مات في خامس عشري جمادى الآخرة، وانقطع في بيته ملازما للاشغال والتصنيف.
ومن مصنّفاته: «تغليق التعليق» [1] وصل في تعليقات البخاري، وهو أول تصانيفه، وهو كتاب نفيس وشرح «البخاري» في نيف وعشرين مجلدا سمّاه «فتح الباري» وصنّف له مقدمة في مجلد ضخم [2] . [3] وكتاب «فوائد الاحتفال في بيان أحوال الرجال المذكورين في البخاري زيادة على «تهذيب الكمال» في مجلد ضخم [3] . وكتاب «تجريد التفسير من صحيح البخاري على ترتيب السور» [4] وكتاب «تقريب الغريب وإتحاف المهرة بأطراف العشرة» في ثمان مجلدات، ثم أفرد منه «أطراف مسند الإمام أحمد» وسمّاه «أطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي» في مجلدين [5] و «أطراف الصحيحين» و «أطراف المختارة» للضياء مجلد ضخم، و «تهذيب تهذيب الكمال» للحافظ المزّي في ست مجلدات، ومختصرة «تقريب التهذيب» مجلد ضخم [6] وكتاب «تعجيل المنفعة برواية رجال الأئمة الأربعة» أصحاب المذاهب [7] و «الإصابة في تمييز الصحابة» خمس مجلدات. و «لسان الميزان وتحرير الميزان» و «تبصير المنتبه بتحرير المشتبه» مجلد ضخم، و «طبقات الحفّاظ» في مجلدين. و «الدر الكامنة في المائة الثامنة» و «إنباء الغمر بأنباء العمر» و «قضاة مصر» مجلد ضخم، و «الكافي الشاف في تحرير أحاديث الكشّاف» مجلد، و «الاستدراك عليه» مجلد آخر.
__________
[1] نشره المكتب الإسلامي في بيروت محققا تحقيقا جيدا قبل سنوات قليلة.
[2] لفظة «ضخم» لم ترد في «ط» .
[3، 3] ما بين الرقمين سقط من «آ» وهذا الكتاب جدير بالنشر إذا وجد.
[4] وهذا أيضا لم ينشر بعد من مصنفاته وهو جدير بالنشر إذا وجد.
[5] في «ط» : «في مجلدات» .
[6] نشر قديما في مصر بتحقيق فضيلة الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف، ونشر منذ سنوات قليلة في بيروت نشرة جيدة متقنة بتحقيق الأستاذ الفاضل محمد عوامة.
[7] أراد بذلك الأئمة المجتهدين المتبوعين أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، رحمهم الله وجزاهم كل خير عنّا وعن المسلمين جميعا.

(9/397)


و «التمييز في تخريج أحاديث الوجيز» مجلدين، و «الدراية في منتخب تخريج أحاديث الهداية» و «الإعجاب ببيان الأسباب» مجلد ضخم، و «الأحكام لبيان ما في القرآن من الإبهام» و «الزّهر المطوّل في بيان الحديث المعدل» و «شفاء الغلل في بيان العلل» و «تقريب النهج بترتيب الدرج» و «الأفنان في رواية القرآن» و «المقترب في بيان المضطرب» و «التعريج على التدريج» و «نزهة القلوب في معرفة المبدل من المقلوب» و «مزيد النفع بما رجح فيه الوقف على الرفع» و «بيان الفصل بما رجّح فيه الإرسال على الوصل» و «تقويم السناد بمدرج الإسناد» و «الإيناس بمناقب العباس» و «توالي التأسيس بمعاني ابن إدريس» و «المرجة الغيثية عن الترجمة اللّيثية» و «الاستدراك على الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء» مجلد [1] و «تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب الأصلي» مجلدين، و «تحفة الظّراف بأوهام الأطراف» [2] مجلد، و «المطالب العالية من رواية المسانيد الثمانية» [3] و «التعريف الأوحد بأوهام من جمع رجال المسند» [4] و «تعريف أولي التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس» وكتاب «الإعلام بمن ولي مصر في الإسلام» و «تعريف الفئة بمن عاش مائة من هذه الأئمة» و «القصد الأحمد فيمن كنيته أبو الفضل واسمه أحمد» و «إقامة الدلائل على معرفة الأوائل» والخصال المكفّرة للذنوب المقدّمة والمؤخرة» و «الشمس المنيرة في معرفة الكبيرة» و «الإتقان في فضائل القرآن» مجلد، و «الأنوار بخصائص المختار» و «الآيات النّيّرات للخوارق المعجزات» و «النبأ الأنبه في بناء الكعبة» و «القول المسدّد في
__________
[1] وهو جدير بالنشر إذا وجد نظرا لما فيه من الفوائد النافعة والتعقيبات الماتعة، يسّر الله تعالى إخراجه.
ونشره.
[2] قلت: لعله أراد «النّكت الظراف على الأطراف» المنشور بهامش «تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف» الذي حققه فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الصمد شرف الدّين ونشرته الدار القيمة في بمباي بالهند ثم أعاد نشره مصورا كما هو المكتب الإسلامي ببيروت عام (1403 هـ) .
[3] قام بتحقيقه فضيلة الأستاذ الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي رحمه الله ونشر في الكويت منذ سنوات، ثم أعادت نشره دار المعرفة ببيروت مصورا عام (1407 هـ) وألحقت به مجلدا للفهارس العامة أعده الأخ الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي نفع الله تعالى به.
[4] وهو جدير بالنشر إن وجدت أصوله الخطية.

(9/398)


الذّب عن المسند» و «بلوغ المرام بأدلة الأحكام» و «بذل الماعون في فضل [1] الطّاعون» و «المنحة فيما علّق به الشافعي القول على الصحة» و «الأجوبة المشرقة على الأسئلة المفرقة» و «منسك الحج» و «شرح مناسك المنهاج» و «تصحيح الرّوضة» كتب منه ثلاث مجلدات، و «نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر» وشرحها «نزهة النظر بتوضيح نخبة الفكر» و «الانتفاع بترتيب الدارقطني على الأنواع» و «مختصر البداية والنهاية» لابن كثير [2] ، و «تخريج الأربعين النووية بالأسانيد العلية» و «الأربعين المتباينة» و «شرح الأربعين النووية» و «ترجمة النووي» ، وغير ذلك.
وله ديوان شعر.
ومن شعره:
أحببت وقّادا كنجم طالع ... أنزلته برضا الغرام فؤادي
وأنا الشّهاب فلا تعاند عاذلي ... إن ملت نحو الكواكب الوقّاد
وكان- رحمه الله تعالى- صبيح الوجه، للقصر أقرب، ذا لحية بيضاء، وفي الهامة نحيف الجسم، فصيح اللّسان، شجي الصوت، جيد الذكاء، عظيم الحذق، رواية للشعر وأيام من تقدمه ومن عاصره، هذا مع كثرة الصّوم، ولزوم العبادة، واقتفاء السّلف الصالح، وأوقاته مقسمة للطلبة، مع كثرة المطالعة والتأليف والتصدي للإفتاء والتصنيف.
وتوفي ليلة السبت ثامن عشري ذي الحجّة ودفن بالرّميلة. وكانت جنازته حافلة [3] مشهودة [4] .
وفيها الأمير سيف الدّين أبو محمد تغري برمش بن عبد الله الجلالي
__________
[1] في «ط» : «بفضل» وما جاء في «آ» موافق لما في «كشف الظنون» (1/ 237) .
[2] وهذا الكتاب هام جدا وجدير بالنشر إن توفرت أصوله الخطية.
[3] لفظة «حافلة» سقطت من «آ» .
[4] في «ط» : «مشهورة» .

(9/399)


المؤيدي [1] الفقيه الحنفي، نائب القلعة بالديار المصرية.
قال هو: قدم بي الخواجا جلال الدّين من بلادي إلى حلب، فاشتراني جقمق بحلب ولي سبع أو ثمان سنين، وأتى بي إلى الدّيار المصرية، وقدّمني إلى أخيه الأمير [2] جاركس القاسمي المصارع، فأقمت عنده إلى أن خرج عن طاعة الملك الناصر فرج، واستولى الناصر على مماليكه، فأخذني فيمن أخذ، وجعلني من جملة المماليك السّلطانية الكتابية بالطبقة بقلعة الجبل، إلى أن قتل الناصر، واستولى المؤيد شيخ على الدّيار المصرية [3] اشتراني فيمن [3] اشتراه من المماليك الناصرية، وأعتقني، وجعلني جمدارا مدة طويلة.
قال صاحب «المنهل» : استمر تغري برمش إلى أول رجب سنة أربع وأربعين وثمانمائة فأنعم عليه بإمرة عشرة، ونيابة القلعة، فباشر ذلك بحرمة وافرة، وصار معدودا من أعيان الدولة، وقصدته الناس لقضاء حوائجهم، ثم أخذ أمره في انتقاص لسوء تدبيره، وصار يتكلّم في كل وظيفة، ويداخل السلطان فيما لا يعنيه، فتكلّم فيه من له رأس عند السلطان وهو لا يعلم، إلى أن أمر بنفيه إلى القدس في السنة التي قبل هذه، فذهب إلى القدس، وأقام به إلى أن توفي به.
وكان له فضل ومعرفة بالحديث، لا سيما أسماء الرجال، فإنه كان بارعا في ذلك، وكانت له مشاركة جيدة في الفقه، والتاريخ، والأدب، محسنا لفنون الفروسية، فصيحا باللغة العربية والتركية، ومقداما، محبا لطلبة العلم وأهل الخير، متواضعا، كثير الأدب، جهوري الصّوت، أشقر، ضخما، للقصر أقرب. كثّ اللّحية، بادره الشيب. قرأ «صحيح البخاري» على القاضي محب الدّين بن نصر الله الحنبلي، و «صحيح مسلم» على الزّين الزركشي، و «السنن الصّغرى» للنسائي على الشّهاب الكلوتاتي، و «سنن ابن ماجة» على شمس الدّين محمد
__________
[1] ترجمته في «الضوء اللامع» (3/ 33) و «النجوم الزاهرة» (15/ 530) و «الدليل الشافي» (1/ 219) و «المنهل الصافي» (4/ 68- 74) .
[2] لفظة «الأمير» سقطت من «آ» .
[3، 3] ما بين الرقمين سقط من «آ» .

(9/400)


المصري، و «سنن أبي داود» على الحافظ ابن حجر. وقرأ ما لا يحصى على من لا يحصى. وتفقه بسراج الدّين قارئ الهداية، وبسعد الدّين الديري.
وتوفي في ثالث شهر رمضان عن نيف وخمسين سنة.
وفيها زين الدّين أبو النّعيم- بفتح النون المشددة- رضوان بن محمد بن يوسف بن سلامة بن البهاء بن سعيد العتبي [1] الشافعي المستملي المصري [2] البارع، مفيد القاهرة.
ولد في رجب سنة تسع وستين وسبعمائة بمينة عقبة الجيزة، ونشأ بها، ثم دخل القاهرة، واشتغل بها في عدة علوم، وتلا بالسبع على الإمام نور الدّين الدّميري المالكي سبع ختمات، ثم بالسبع، وقراءة يعقوب على الشمس الغماري، وأجاز له ثم بالثمان المذكورة على ركن الدّين الأشعري المالكي. وتفقه بالشّمس العراقي، والشمس الشّطنوفي، والشمس القليوبي، والصّدر الأمشيطي، والعزّ بن جماعة، وغيرهم. وأخذ النحو عن شمس الدّين الشّطّنوفي، والغماري، والشمس البساطي. وكتب عن الزّين العراقي مجالس كثيرة من أماليه، وسمع الحديث من التّقي بن حاتم، والبرهان الشامي، وابن الشّحنة، وخلائق. ثم حبّب إليه الحديث، فلازم السماع من أبي الطّاهر بن الكويك. فأكثر عنه، ولازم الحافظ ابن حجر، وكتب عنه الكثير، وتفقه به أيضا، وحجّ ثلاث حجّات، وجاور مرتين.
وسمع بمكّة من الزّين المراغي وغيره، وخرّج لبعض الشيوخ ولنفسه «الأربعين المتباينات» وغير ذلك. وكان ديّنا، خيّرا، متواضعا، غزير المروءة، رضي الخلق، ساكنا، بشوشا، طارحا للتكلّف، سليم الباطن.
توفي عصر يوم الاثنين ثالث رجب بالقاهرة.
__________
[1] في «آ» : «العقبي» .
[2] ترجمته في «الضوء اللامع» (3/ 33- 34) و «التبر المسبوك» ص (237- 238) و «النجوم الزاهرة» (15/ 530- 532) و «بدائع الزهور» (2/ 267) و «الدليل الشافي» (1/ 219) و «حوادث الدهور» (1/ 193) و «الذيل التام على دول الإسلام» (2/ 8) من المنسوخ.

(9/401)


وفيها قطب الدّين محمد بن عبد القوي [1] بن محمد بن عبد القوي [1] البجائي، ثم المكّي المالكي [2] شاعر مكة.
كان إماما أديبا ماهرا.
توفي في ذي الحجّة، وقد جاوز التسعين، والله أعلم.
__________
[1، 1] ما بين الرقمين سقط من «آ» .
[2] ترجمته في «الضوء اللامع» (7/ 71) و «معجم الشيوخ» لابن فهد ص (233- 234) .

(9/402)


سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة
فيها توفي ألوغ بك بن القآن معين الدّين شاه رخّ [1] ، صاحب هراة، ابن الطّاغية تيمور لنك، وقيل: اسمه تيمور على اسم جدّه، وقيل: محمد، صاحب سمرقند، فريد دهره ووحيد عصره في العلوم العقلية، والهيئة، والهندسة، طوسي زمانه، الحنفي المذهب.
ولد في حدود تسعين وسبعمائة، ونشأ في أيام جدّه، وتزوج في أيامه أيضا.
وعمل له جدّه العرس المشهور. ولما مات جدّه تيمور وآل الأمر إلى أبيه شاه رخ ولّاه سمرقند وأعمالها فحكمها نيّفا وثلاثين سنة، وعمل بها رصدا عظيما انتهى به إلى سنة وفاته، وقد جمع لهذا الرّصد علماء هذا الفنّ من سائر الأقطار، وأغدق عليهم الأموال، وأجرى [2] لهم الرواتب الكثيرة، حتى رحل إليه علماء الهيئة والهندسة من البلاد البعيدة، وهرع إليه كل صاحب فضيلة، وهو مع هذا يتلفت إلى من يسمع به من العلماء في الأقطار ويرسل يطلب من سمع به هذا، مع علمه الغزير وفضله الجمّ واطلاعه الكبير وباعه الواسع في هذه العلوم، مع مشاركة جيدة إلى الغاية في فقه الحنفية، والأصلين، والمعاني، والبيان، والعربية، والتاريخ، وأيام الناس. قيل: إنه سأل بعض حواشيه ما تقول الناس عنّي وألحّ عليه، فقال:
يقولون: إنك ما تحفظ القرآن الكريم، فدخل من وقته وحفظه في أقل من ستة أشهر حفظا متقنا. وكان أسنّ أولاد أبيه، واستمر بسمرقند إلى أن خرج عن طاعته ولده
__________
[1] ترجمته في «الضوء اللامع» (7/ 265) و «الدليل الشافي» (1/ 154) .
[2] في «ط» : «وأجزل» .

(9/403)


عبد اللطيف، وسببه أنه لما ملك المترجم هراة طمع عبد اللطيف أن يوليه هراة فلم يفعل، وولاه بلخ، ولم يعطه من مال جدّه شاه رخ شيئا. وكان ألوغ بك هذا مع فضله وغزير علمه مسيكا، فسأمته أمراؤه لذلك، وكاتبوا ولده عبد اللطيف في الخروج عن طاعته، وكان في نفسه ذلك، فانتهز الفرصة وخرج عن الطّاعة، وبلغ أباه الخبر فتجرّد لقتاله، والتقى معه، وفي ظنّه أن ولده لا يثبت لقتاله، فلما التقى الفريقان وتقابلا هرب جماعة من أمراء ألوغ بك إلى ابنه، فانكسر ألوغ بك وهرب على وجهه، وملك ولده سمرقند، وجلس على كرسي والده أشهرا ثم بدا لألوغ بك العود إلى سمرقند، ويكون الملك لولده، ويكون هو كآحاد الناس، واستأذن ولده في ذلك فأذن له، ودخل سمرقند وأقام بها، إلى أن قبض عبد اللطيف على أخيه عبد العزيز وقتله صبرا في حضرة والده ألوغ بك فعظم ذلك عليه، فإنه كان في طاعته وخدمته حيث سار، ولم يمكنه الكلام فاستأذن [1] ولده عبد اللطيف في الحجّ فأذن له، فخرج قاصدا للحجّ إلى أن كان عن سمرقند مسافة يوم أو يومين، وقد حذّر بعض الأمراء ابنه منه، وحسّن له قتله، فأرسل إليه بعض أمرائه ليقتله، فدخل عليه مخيّمه واستحيا أن يقول: جئت لقتلك، فسلّم عليه ثم خرج، ثم دخل ثانيا وخرج، ثم دخل ففطن ألوغ بك، وقال له: لقد علمت بما جئت به فافعل ما أمرك به، ثم طلب الوضوء وصلّى، ثم قال: والله لقد علمت أن هلاكي على يد ولدي عبد اللطيف هذا من يوم ولد، ولكن أنساني القدر ذلك، والله لا يعيش بعدي إلّا خمسة أشهر ثم يقتل أشرّ قتلة، ثم سلّم نفسه فقتله المذكور، وعاد إلى ولده.
وقتل ولده عبد اللطيف بعد خمسة أشهر.
وفيها زين الدّين أبو محمد بن عبد الرحمن بن الشيخ شهاب الدّين أحمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن علي بن عيّاش المقرئ المسند الزّاهد المعمّر، الشهير بابن عيّاش [2] .
__________
[1] في «ط» : «فأذن» وهو خطأ.
[2] ترجمته في «الضوء اللامع» (4/ 59) و «معجم الشيوخ» لابن فهد ص (122) .

(9/404)


ولد بدمشق في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، وأخذ القراءات عن أبيه إفرادا وجمعا، وقرأ عليه ختمة جامعة للقراءات العشرة بما تضمنه كتاب «ورقات» المهرة في تتمة قراءات الأئمة العشرة» تأليف والده، وقرأ على الشيخ شمس الدّين محمد بن أحمد العسقلاني «القراءات العشرة» فساوى والده في علو السّند، وذلك لما رحل إلى القاهرة سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ثم رحل إلى مكة المشرّفة واستوطنها وانتصب بها لإقراء القراءات بالمسجد الحرام كلّ يوم، وانتفع به عامة الناس، وصار رحلة زمانه، وتردّد إلى المدينة المنوّرة، وجاور بها غير مرّة، وتصدى بها أيضا للإقراء، وأقام بها سنين، ثم عاد إلى مكة واستمر إلى أن مات بها في هذه السنة.
وفيها قاضي قضاة الحرمين، الشريف الحسيب سراج الدّين أبو المكارم عبد اللطيف بن أبي الفتح محمد بن أحمد بن أبي عبد الله محمد الحسني الفاسي الأصل المكّي الحنبلي [1] .
ولد في شعبان سنة تسع وثمانين وسبعمائة بمكّة المشرّفة، ونشأ بها، وسمع الحديث على العفيف النّشاوري، والجمال الأميوطي، وإبراهيم بن صديق، وغيرهم. وأجاز له السّراج البلقيني، والحافظان الزّين العراقي، والنّور الهيثمي، والسّراج ابن الملقّن، والبرهان الشامي، وأبو هريرة ابن الذّهبي، وأبو الخير ابن العلائي، وجماعة، وخرّج له التّقي ابن فهد «مشيخة» وولي إمامة الحنابلة بالمسجد الحرام، وقضاء مكة المشرّفة، ثم جمع له بين قضاء الحرمين الشريفين مكة والمدينة سنة سبع وأربعين وثمانمائة، واستمرّ إلى أن مات. وهو أول من ولي قضاء الحنابلة بالحرمين، ودخل بلاد العجم غير مرّة. وكان له حظّ وافر عند الملوك والأعيان.
وتوفي بعلة الإسهال، ورمي الدّم في ضحى يوم الاثنين سابع شوال بمكة المشرّفة، ودفن بالمعلاة.
__________
[1] ترجمته في «الضوء اللامع» (4/ 333) و «النجوم الزاهرة» (15/ 546) و «معجم الشيوخ» لابن فهد ص (144) و «السحب الوابلة» ص (244) .

(9/405)


وفيها قاضي القضاة أمين الدّين أبو اليمن محمد بن محمد بن علي النّويري المكّي الشافعي [1] قاضي مكّة وخطيبها.
باشر خطابة مكّة عدة سنين، ثم ولّي قضاءها في سنة اثنتين وأربعين، ثم عزل، ثم ولّي. ومات قاضيا وخطيبا بمكة في هذه السنة.
وفيها شرف الدّين يحيى بن أحمد بن عمر الحموي الأصل الكركي القاهري، ويعرف بابن العطّار [2] الشافعي المفنّن.
توفي في ذي الحجّة عن أزيد من أربع وستين سنة.
وفيها شرف الدين يحيى بن سعد الدّين محمد بن محمد المناوي المصري الشافعي [3] قاضي القضاة.
ولد بالقاهرة، وبها نشأ تحت كنف والده، وكان والده يتعانى الخدم الديوانية، وتزوّج وليّ الدّين العراقي بابنته أخت المترجم، فحبّب لصاحب الترجمة طلب العلم لصهارته بالولي العراقي، فاشتغل وتفقّه بجماعة من علماء عصره، وأخذ المعقول عن الكمال بن الهمام وغيره، وبرع في الفقه، وشارك في غيره، وأفتى ودرّس، وعرف بالفضيلة والدّيانة، واشتهر ذكره. وولي تدريس الصّلاحية. ثم ولي قضاء قضاة الشافعية بعد علم الدّين البلقيني فلم يمتنع بل ابتهج بذلك، وأظهر السّرور، ثم غيّر ملبسه ومركبه، وترك ما كان عليه أولا من التقشف والتواضع، وسلك طريق من تقدمه من القضاة من مراعاة الدولة وامتثال ما يأمرونه به، ومال إلى المنصب ميلا كلّيا بخلاف ما كان يظنّ به، واستكثر من
__________
[1] ترجمته في «الضوء اللامع» (9/ 144) و «النجوم الزاهرة» (15/ 546) و «معجم الشيوخ» لابن فهد ص (269) .
[2] ترجمته في «الضوء اللامع» (10/ 217) و «النجوم الزاهرة» (15/ 544) و «التبر المسبوك» ص (294) .
[3] تنبيه: كذا أرخ المؤلف وفاته في هذه السنة (853) وقد تبع في ذلك ابن تغري بردي في «الدليل الشافي» (2/ 780) . ثم أعاد الترجمة له سنة (871) ص (463) من هذا المجلد وهو الصواب.

(9/406)


النّواب. وولي جماعة كثيرة، وانقسم الناس في أمره إلى قادح ومادح، وكانت ولايته القضاء قبيل موته بيسير.
وتوفي بالقاهرة في ثاني رجب.
وفيها أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن إسماعيل المغربي الأندلسي ثم القاهري، ويعرف بالرّاعي المالكي [1] .
كان إماما عالما، ولد بغرناطة سنة نيّف وثمانين وسبعمائة، واشتغل بالفقه، والأصول، والعربية، ومهر فيها، واشتهر اسمه بها، وسمع من أبي بكر بن عبد الله بن أبي عامر، وأجاز له جماعة، ودخل القاهرة سنة خمس وعشرين وثمانمائة، واستوطنها، وحجّ، ثم رجع إلى القاهرة، وأقرأ بها، وانتفع به جماعة، وأمّ بالمؤيدية، وله نظم حسن، وشرح «الألفية» و «الجرومية» وحدّث عنه ابن فهد وغيره، وأضرّ بأخرة.
وتوفي في سابع عشري ذي الحجّة.
وفيها- بل في التي قبلها كما جزم به السّيوطي- زين الدّين عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن يحيى السّندبيسيّ [2]- بفتح السين المهملة، وسكون النون، وفتح الدال المهملة، وكسر الموحدة، وسكون التحتية، آخره سين مهملة- النّحوي ابن النّحوي.
ولد سنة ثمان وثمانين وسبعمائة تقريبا، وبرع في الفنون، لا سيما في العربية. وكان أخذها عن الزّين الفارسكوري، وأخذ الحديث عن الولي العراقي، وسمع من الحلاوي، وابن الشّحنة، والسّويداوي، وجماعة. وأجاز له ابن العلاء، وابن الذّهبي، وخلق.
__________
[1] ترجمته في «الضوء اللامع» (9/ 203) و «نيل الابتهاج» ص (310) .
[2] ترجمته في «الضوء اللامع» (4/ 150) و «بغية الوعاة» (2/ 89) وفيهما: «مات ليلة الأحد سابع عشر صفر سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة» و «معجم الشيوخ» لابن فهد ص (133- 134) .

(9/407)


وكان عالما، فاضلا، بارعا، مواظبا على الاشتغال، حسن الدّيانة، كثير التواضع، أقرأ الناس، وحدّث ب «جامع الحاكم» [1] . وسمع منه النّجم بن فهد وغيره.
وتوفي ليلة الأحد سابع عشر صفر.
__________
[1] يريد «المستدرك على الصحيحين» .

(9/408)


سنة أربع وخمسين وثمانمائة
فيها توفي شهاب الدّين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم [1] .
قال ابن تغري بردي: الإمام، العالم، العلّامة، [البارع] ، المفنّن، الأديب، الفقيه، اللّغوي، النحوي، المؤرخ، الدمشقي، الحنفي، المعروف بابن عربشاه.
كان إمام عصره في المنظوم والمنثور، تردّد إلى القاهرة غير مرة، وصحبني في بعض قدومه إلى القاهرة، وانتسج بيننا صحبة أكيدة ومودة، وأسمعني كثيرا من مصنّفاته نظما ونثرا، بل غالب ما نظمه ونثره [2] وألّفه، وكان له قدرة على نظم العلوم، وسبكها في قالب المديح والغزل، وسيظهر لك فيما كتبه لي لمّا استجزته، كتبه بخطّه، وأسمعنيه من لفظه غير مرة، وهو هذا:
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 1: 1 الحمد الله الذي زيّن مصر الفضائل بجمال يوسفها العزيز، وجعل حقيقة ذراه مجاز أهل الفضل فحلّ به كل مجاز ومجيز، أحمده حمد من طلب إجازة كرمه فأجاز، وأشكره شكرا أوضح لمزيد نعمه علينا سبيل المجاز، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله يجيب سائله، ويثيب آمله، ويطيب لراجيه نائله، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، سيّد من روى عن ربّه وروي عنه، والمقتدى لكل من أخذ عن العلماء وأخذ منه صلى الله عليه ما رويت الأخبار، ورؤيت الآثار، وخلّدت أذكار الأبرار في صحائف الليل والنهار، وعلى آله وأصحابه وتابعيه وأحزابه، وسلّم، وكرّم، وشرّف، وعظم.
__________
[1] ترجمته في «الضوء اللامع» (2/ 126) و «النجوم الزاهرة» (15/ 549) و «الدليل الشافي» (1/ 80- 81) و «المنهل الصافي» (2/ 131- 145) .
[2] لفظة «ونثره» لم ترد في «المنهل الصافي» فستدرك من هنا.

(9/409)


وبعد: فقد أجزت الجناب الكريم العالي [1] ، ذا القدر المنيف الغالي، والصدر الذي هو بالفضائل حالي، وعن الرذائل خالي، المولوي الأميري الكبيري الأصيلي العريقيّ الكاملي الفاضلي المخدومي [الجماليّ] أبا المحاسن، الذي ورد فضائله وفواضله غير آسن، يوسف بن المرحوم المقرّ الأشرف الكريم العالي المولوي الأميري الكبيري المالكي المخدومي السّيفي تغري بردي الملكي الظاهري، أدام الله جماله وبلّغه [2] من المرام كماله، وهو ممن تغذّى بلبان الفضائل، وتربى في حجر قوابل الفواضل، وجعل اقتناء العلوم دأبه، ووجه إلى مدين الآداب ركابه، وفتح إلى دار الكمالات بابه، وصيّر أحرازها في خزائن صدره اكتسابه، فحاز بحمد الله تعالى حسن الصّورة والسيرة، وقرن بضياء الأسرّة صفاء السّريرة، وحوى السّماحة، والحماسة، والفروسية، والفراسة، ولطف العبارة والبراعة، والعرابة واليراعة، والشهامة والشجاعة، فهو أمير الفقهاء، وفقيه الأمراء، وظريف الأدباء، وأديب الظّرفاء:
فمهما تصفه صف وأكثر فإنّه ... لأعظم ممّا قلت فيه وأكبر [3]
فأجزت له معولا عليه- أحسن الله إليه- أن يروي عني هذه المنظومة المزبورة المرقومة، التي سمّيتها «جلوة الأمداح الجمالية في حلّتي العروض والعربية» عظّم الله تعالى شأن من أنشئت فيه، وحرسه بعين عنايته وذويه، وسائر ما تجوز لي وعني روايته، وينسب إلى علمه ودرايته، من منظوم ومنثور، ومسموع ومسطور، بشروطه المعتبرة، وقواعده المحرّرة، عموما، وما أذكر لي من مصنّفات خصوصا، فمن ذلك «مرآة الأدب في علمي المعاني والبيان» منها بعد ذكر الخطبة في تقسيم العربية وذكر فائدته وأقسامه:
بدر تأدّب حتّى كلّه أدب ... يقول من يهو وصلي يكتسب أدبي
__________
[1] كذا في «ط» و «المنهل الصافي» : «الكريم العالي» وفي «آ» : «العالي الكريم» .
[2] في «ط» : «وأبلغه» .
[3] تنبيه: ورد هذا البيت نثرا ضمن سياق الإجازة في «النجوم الزاهرة» و «المنهل الصافي» فليصحح، وفيهما: «وأكثر» مكان «وأكبر» .

(9/410)


بدا بتاج جمال في حلى أدب ... تسربل الفضل بين العجب والعجب
يصن كلامي وخطّي في معاهدتي ... عن الخطا إنّني بدر من العرب
هذا وقدر علومي كالبروج [1] علا ... فمن ينلها يصر في الفضل كالشّهب
أصولها مثل أبواب الجنان زهت ... ينال من نالها ما رام من رتب
خذ بكر نظم تجلّت وجهها غزل ... وروحها العلم والجثمان من أدب
فريد لفظي إذا ما رمت جوهره ... ترى الصّحاح كثغر زين بالشّنب
وإن تصرّف من عقد ومن عقد ... إلى عقود فهذا الصّرف كالذّهب
لفظي من الشّهد مشتقّ بخطّي ذا ... سيف فدونك علم الضّرب والضّرب
أصل المعاني إذا ما رمت من كلمي ... فقل هي الدّرّ واقصد نحونا تصب
معناي زاد على حسني فصنّف في ... علم المعاني وفي حسني وفي حسبي
طورا أبين كما طورا أبين لذا ... فنّ البيان غدا مرآة مطّلبي
طبعي وشعري وأوزاني يناط بها ... علم العروض مناط الودّ بالسّبب
حسني وظرفي وآدابي قد انتظمت ... نظم القوافي فخذ علمي وسل نسبي
قد أخلف [2] البان قدّي حين خطّ على ... خدّي لريحان خطّ ليس في الكتب
هذا على أصل حسني يستزاد فلا ... تعب ودونك علم الخطّ لا تخب
في وصفي النّظم والنّثر البديع فخذ ... علم القريض مع الإنشاء والخطب
وإن تحاضر فحاضر في مغازلتي ... واحفظ تواريخ ما أمليه من نخب
واقصد بديع معانيّ الّتي بهرت ... عند البيان عقول العجم والعرب
إنّي أنا البدر سار في منازله ... مكمّل الحسن بين الرّأس والذّنب
ومن ذلك «العقد الفريد في علم التوحيد» وأوله بعد الخطبة:
سبى القلب ظبيّ من بني العلم أغيد ... له مقلة كحلى وخدّ مورّد
__________
[1] جاء في هامش «ط» ما نصه: «يشير إلى تقسيم العربية إلى اثني عشر قسما. كما في هامش الأصل» .
[2] كذا في «آ» و «المنهل الصافي» : «قد أخلف» وفي «ط» : «قد خلّف» .

(9/411)


أوحّد من أنشاه للخلق فتنة ... فيسأل ما التّوحيد وهو يعربد
فقلت له: الإيمان بالله من يرى ... لحاظك باري الخلق والكون يشهد
فبالكتب والأملاك والرّسل صل فتى ... براه هواك القاتل المتعمّد
وإن تفنني هجرا أقم يوم بعثتي ... وقد نشر الأموات والحوض يورد
وقد كوّرت شمس وشقّقت السّما ... وكلّ الورى نحو القصاص تحشّدوا
وقد نصب الميزان وامتدّ جسرهم ... وأقبلت في ثوب الجمال تردّد
أنادي وقد شبّثت كفّي بذيله ... وتضريج أكفاني ولحظك يشهد
حبيبي بم استحللت قتل مبرّأ ... وما ذنبه إلّا ضنّي فيك مكمل.
فقال: أما هذا بتقدير من قضى ... وحكم مضى ما فيه قطّ تردّد
فقلت: بلى والخير والشّر قدّرا ... وكلّ بتقدير المهيمن مرصد
فقال: فمن هذا الّذي ذاك حكمه ... وتقديره صفه لكميا أوحّد
فقلت: إله واحد لا مشارك ... له، لم يلد، كلّا، ولا هو والد
واستطردت من ذلك إلى ذكر الصّفات وتنزيه الذات إلى أن قلت:
هو الله من أنشاك للخلق فتنة ... ليسفك من جفنيه سيف مهنّد
ومن: مصنّفاتي المنثورة تاريخ تمرلنك «عجائب المقدور في نوائب تيمور» [1] .
ومنها: «فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظّرفاء» . ومنها «خطاب الإهاب [2] الناقب وجواب الشّهاب الثاقب» . ومنها: «الترجمان المترجم بمنتهى الأرب في لغة الترك والعجم والعرب» .
ومن النظم القصيدة المسماة «العقود النصيحة» أولها:
لك الله هل ذنب فيعتذر الجاني ... بلى صدق ما أنهاه إنّي بكم فاني
__________
[1] نشرته مؤسسة الرسالة ببيروت منذ سنوات قليلة بتحقيق الأخ الفاضل الأستاذ أحمد فائز الحمصي.
[2] تحرفت في «آ» إلى «الأوهاب» .

(9/412)


ومن سوء حظّ الصّبّ أن يلعب الهوى ... بأحشائه، والحبّ يومي بولعان
ومن شيم الأحباب قتل محبّهم ... إذا علموه فيهم صادقا عاني
ومن ذلك: «غرة السّير في دول الترك والتتر» .
وكان عند كتابة هذه الإجازة لم يتم. واقتصر في «التذكرة» على هذه المصنّفات العشرة للوجازة لا للإجازة.
هذا، وأما مولدي فداخل دمشق ليلة الجمعة الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة تسعين وسبعمائة، ثم ذكر ترجمة طويلة لنفسه.
قال صاحب «المنهل» : ومن نظمه معمّى [1] :
وجهك الزّاهي كبدر ... فوق غصن طلعا
واسمك الزّاكي كمشكا ... ة سناها لمعا
في بيوت أذن اللّ- ... هـ لها أن ترفعا
عكسها [2] صحّفه تلقى ... الحسن فيها أجمعا
وتوفي يوم الاثنين [3] خامس رجب بالقاهرة عن اثنتين وستين سنة وستة أشهر وعشرين يوما. انتهى.
وفيها كمال الدّين محمد بن صدقة المجذوب الصّاحي [4] ، الولي المكاشف الدمياطي الأصل ثم المصري الشافعي.
اشتغل، وحفظ «التنبيه» و «الألفية» وتكسّب بالشهادة بمصر، ثم حصل له جذب، وظهرت عليه الأحوال الباهرة والخوارق الظاهرة، وتوالت كراماته، وتتابعت آياته، واشتهر صيته، وعظم أمره، وهرع الأكابر لزيارته، وانقاد له الأماثل، حتّى الفقهاء، كالكمال إمام الكاملية وغيره.
__________
[1] وقال ابن تغري بردي في «الدليل الشافي» : «ومن شعره معميا في اسم جامعه» .
[2] في «ط» : «عكسه» .
[3] لفظة «الاثنين» سقطت من «آ» .
[4] ترجمته في «الضوء اللامع» (7/ 270) .

(9/413)


ومن كراماته أن رجلا سأله حاجة فأشار بتوقفها على خمسين دينارا، فأرسلها إليه، فوصل القاصد إليه بها، فوجده قاعدا بباب الكاملية، فبمجرّد وصوله إليه أمره بدفعها لامرأة مارّة بالشارع لا تعرف، فأعطاها إيّاها، فانكشف بعد ذلك أن ولدها كان في الترسيم على ذلك المبلغ بعينه لا يزيد ولا ينقص عند من لا رحمة عنده، بحيث خيف عليه التلف.
توفي بمصر وصلّي عليه في محفل حافل، ودفن بالقرافة بجوار قبر الشيخ أبي العبّاس الخرّاز. قاله المناوي في «طبقات الأولياء»
.

(9/414)


سنة خمس وخمسين وثمانمائة
في خامسها بويع بالخلافة القائم بأمر الله حمزة بن المتوكل على الله بعد وفاة أخيه المستكفي بالله سليمان بن المتوكل على الله [1] بويع سليمان هذا بالخلافة يوم موت أخيه المعتضد بالله [2] وذلك في سنة خمس وأربعين وثمانمائة، وأقام في الملك عشر سنين، وبلغ من العزّ فوق أخيه، وحمل السلطان نعشه.
وفيها توفي كمال الدّين أبو المناقب أبو بكر بن ناصر الدّين محمد بن سابق الدّين أبي بكر بن فخر الدّين عثمان بن ناصر الدّين محمد بن سيف الدّين خضر بن نجم الدّين أيوب بن ناصر الدّين محمد بن الشيخ العارف بالله همام الدّين الهمامي الخضيري السّيوطي الشافعي [3] .
قال ولده في «طبقات النحاة» : ولد في أوائل القرن بسيوط، واشتغل بها، ثم قدم القاهرة بعد عشرين وثمانمائة، فلازم الشيوخ شيوخ العصر، [ودأب] إلى أن برع في الفقه، والأصلين، والقراآت، والحساب، والنحو، والتصريف، والمعاني، والبيان، والمنطق، وغير ذلك، ولازم التدريس والإفتاء. وكان له في الإنشاء اليد الطّولى. وكتب الخطّ المنسوب، وصنّف «حاشية» على «شرح الألفية» لابن
__________
[1] ترجمته في «تاريخ الخلفاء» ص (511- 513) و «النجوم الزاهرة» (16/ 1) و «الدليل الشافي» (1/ 320) و «المنهل الصافي» (5/ 183- 184) .
[2] ترجمته في «تاريخ الخلفاء» ص (509- 511) و «الدليل الشافي» (1/ 296) .
[3] ترجمته في «الضوء اللامع» (11/ 72- 73) و «حسن المحاضرة» (1/ 441) و «بغية الوعاة» (1/ 472) و «التبر المسبوك» ص (356- 357) و «نظم العقيان» ص (95- 96) و «حوادث الدهور» (2/ 344) .

(9/415)


المصنّف حافلة في مجلدين، وكتابا في القراآت، وحاشية على «العضد» . وتعليقا على «الإرشاد» لابن المقرئ، وكتابا في صناعة التوقيع، وغير ذلك.
أخبرني بعض أصحابه أن الظّاهر جقمق عيّنه مرّة لقضاء القضاة بالديار المصرية، وأرسل يقول للخليفة المستكفي بالله: قل لصاحبك يطلع نوليه. فأرسل الخليفة قاصدا إلى الوالد [1] يخبره بذلك فامتنع.
قال الحاكي: فكلّمته في ذلك، فأنشدني:
وألذّ من نيل الوزارة أن ترى ... يوما يريك مصارع الوزراء
ومن نجباء تلامذته الشيخ فخر الدّين المقدسي، وقاضي مكّة برهان الدّين بن ظهيرة، وقاضيها نور الدّين بن أبي اليمن، وقاضي المالكية محيي الدّين بن تقي الدّين [2] ، والعلّامة محيي الدّين بن مصيفح في آخرين.
مات ليلة الاثنين وقت أذان العشاء خامس صفر، ودفن بالقرافة قريبا من الشّمس الأصفهاني. انتهى.
وفيها أمير المدينة أميان بن مانع بن علي بن عطية الحسيني [3] .
توفي في جمادى الآخرة، واستقرّ بعده زبيري [4] بن قيس.
وفيها جمال الدّين أبو محمد بن عبد الله بن الشيخ الإمام العالم محبّ الدّين أبي عبد الله محمد بن هشام الأنصاري المصري الحنبلي [5] القاضي.
كان من أهل العلم، ومن أعيان فقهاء الديار المصرية وقضاتها، باشر القضاء
__________
[1] في «آ» : «قاصدا للوالد» .
[2] لفظة «الدين» سقطت من «ط» .
[3] ترجمته في «النجوم الزاهرة» (16/ 5- 6) و «الضوء اللامع» (2/ 321) .
[4] في «آ» و «ط» : «زيري» وما أثبته من «الضوء اللامع» وفي «النجوم الزاهرة» : «زبير» .
[5] ترجمته في «الضوء اللامع» (5/ 56) و «السحب الوابلة» ص (266) و «المنهج الأحمد» الورقة (494) .

(9/416)


نيابة عن قاضي القضاة محبّ الدّين بن نصر الله، ثم عن قاضي القضاة بدر الدّين البغدادي، فوقعت حادثة أوجبت تغيّر خاطر بدر الدّين المذكور عليه، فعزله عن القضاء، ثم صار يحسن إليه ويبره إلى أن توفي بمصر في المحرّم الحرام.
وفيها الشيخ عبد الواحد البصير المقرئ الحنبلي الوفائي [1] .
توفي بدرب الحجاز الشريف في عوده من الحجّ بالعلا [2] .
وفيها قاضي القضاة شمس الدّين محمد بن أحمد بن سعيد المقدسي الحنبلي [3] قاضي مكّة المشرّفة.
ولد بكفر لبد من أعمال نابلس في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، وسكن مدينة حلب قديما ودمشق، وسمع على الأعيان، وقرأ على ابن اللحّام، والتّقي ابن مفلح، والحافظ زين الدّين بن رجب، وكان عالما، خيّرا، كتب الشروط، ووقّع على الحكّام دهرا طويلا، وتفرّد بذلك، وصنّف التصانيف الجيدة، منها «سفينة الأبرار الحاملة للآثار والأخبار» ثلاث مجلدات في الوعظ، وكتاب «الآداب» وكتاب «المسائل المهمة فيما يحتاج إليه العاقل في الخطوب المدلهمّة» وكتاب «كشف الغمّة في تيسير الخلع لهذه الأمة» و «المنتخب الشافي من كتاب الوافي» اختصر فيه «الكافي» للموفق. وجاور بمكّة مرارا، وجلس بالحضرة النبوية بالمدينة الشريفة بالرّوضة، واستجازه الأعيان، وآخر مجاوراته سنة ثلاث وخمسين، فمات قاضي مكّة في تلك السنة فجهّز إليه الولاية في أوائل سنة أربع وخمسين، فاستمر بها قاضيا نحو سنة.
وتوفي في أوائل هذه السنة وخلّف دنيا ولا وارث له، رحمه الله تعالى.
__________
[1] ترجمته في «المنهج الأحمد» الورقة (494) .
[2] جاء في «المعانم المطالبة» ص (282) ما نصه: العلا- بالضم والقصر- موضع بناحية وادي القرى.
نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى تبوك. وعلّق عليه محققه العلّامة الشيخ حمد الجاسر بقوله:
أصبح هذا الموضع بلدة كبيرة الآن.
[3] ترجمته في «الضوء اللامع» (6/ 309) و «التبر المسبوك» ص (363) و «معجم الشيوخ» لابن فهد ص (204- 205) وفيه: «المقدسي ثم الحلبي الحنبلي» .

(9/417)


وفيها القاضي شمس الدّين محمد بن محمد بن خالد بن زهر الحمصي الحنبلي [1] .
قرأ «المقنع» وشرحه على والده، وأصول ابن الحاجب، و «ألفية ابن مالك» .
على غيره، وأذن له القاضي علاء الدّين ابن المغلي بالإفتاء، وولي القضاء بحمص بعد وفاة والده، واستمرّ قاضيا إلى أن توفي بها في ذي القعدة ودفن بباب تدمر.
وفيها بدر الدّين أبو الثناء، وأبو محمد، محمود بن القاضي شهاب الدّين أحمد بن القاضي شرف الدّين موسى بن أحمد بن حسين بن يوسف بن محمود العينتابي الأصل والمولد والمنشأ المصري الدار والوفاة، الحنفي، المعروف بالعيني [2] .
قال تلميذه ابن تغري بردي: هو العلّامة، فريد عصره ووحيد دهره، عمدة المؤرّخين، مقصد الطّالبين قاضي القضاة.
ولد سادس عشري شهر رمضان سنة اثنتين وستين وسبعمائة في درب كيكن.
ونشأ بعينتاب، وحفظ القرآن العظيم، وتفقّه على والده وغيره، وكان أبوه قاضي عينتاب.
وتوفي بها في سنة أربع وثمانين وسبعمائة.
ورحل صاحب الترجمة إلى حلب، وتفقه بها أيضا، وأخذ عن العلّامة جمال الدّين يوسف بن موسى الملطي الحنفي وغيره، ثم قدم القدس، فأخذ عن العلاء السّيرامي لأنه صادفه زائرا به، ثم صحبه معه إلى القاهرة في سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، وأخذ عنه علوما جمّة، ولازمه إلى وفاته، وأقام بمصر مكبّا على
__________
[1] ترجمته في «الضوء اللامع» (9/ 79) وفيه: «محمد بن محمد بن خالد بن موسى، ويعرف بابن زهرة» و «السحب الوابلة» ص (434) و «المنهج الأحمد» الورقة (494) .
[2] ترجمته في «النجوم الزاهرة» (16/ 8) و «الضوء اللامع» (10/ 131) و «بغية الوعاة» (2/ 275) و «الدليل الشافي» (2/ 721- 722) و «حسن المحاضرة» (1/ 473) و «معجم الشيوخ» ص (292- 295) .

(9/418)


الاشتغال والإشغال [1] . وولي حسبة القاهرة بعد محن جرت له من الحسدة، وعزل عنها غير مرة، وأعيد إليها. ثم ولي عدة تداريس ووظائف دينية، واشتهر اسمه، وبعد صيته، وأفتى، ودرّس، وأكب على الأشغال والتصنيف، إلى أن ولي نظر الأحباس، ثم قضاء قضاة الحنفية بالديار المصرية يوم الخميس سابع عشري ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وثمانمائة، فباشر ذلك بحرمة وافرة وعظمة زائدة، لقربه من الملك الأشرف برسباي، واستمرّ فيه إلى سنة اثنتين وأربعين، وكان فصيحا باللغتين العربية والتركية. وقرأ وسمع ما لا يحصى من الكتب والتفاسير، وبرع في الفقه، والتفسير، والحديث، واللغة، والنحو، والتصريف، والتاريخ.
ومن مصنّفاته: «شرح البخاري» في أكثر من عشرين مجلدا، و «شرح الهداية» و «شرح الكنز» و «شرح مجمع البحرين» و «شرح تحفة الملوك» في الفقه، و «شرح الكلم الطّيب» لابن تيمية، و «شرح قطعة من سنن أبي داود» و «قطعة كبيرة من سيرة ابن هشام» و «شرح العوامل المائة» و «شرح الجاربردي» وله كتاب في «المواعظ والرقائق» في ثمان مجلدات، و «معجم مشايخه» مجلد.
و «مختصر الفتاوى الظهيرية» و «مختصر المحيط» و «شرح التّسهيل» لابن مالك مطولا ومختصرا، و «شرح شواهد ألفية ابن مالك» شرحا مطولا وآخر مختصرا، وهو كتاب نفيس احتاج إليه صديقه وعدوه، وانتفع به غالب علماء عصره فمن بعدهم، و «شرح معاني الآثار» للطحاوي في اثنتي عشرة مجلدة، وله كتاب «طبقات الشعراء» و «طبقات الحنفية» و «التاريخ الكبير» [2] على السنين في عشرين مجلدا، واختصره في ثلاث مجلدات، و «التاريخ الصغير» في ثمان مجلدات، وعدة تواريخ أخر. وله «حواش على شرح ألفية بن مالك» و «حواش على شرح السيد عبد الله» و «شرح عروض ابن الحاجب» و «اختصر تاريخ ابن خلكان» . وله غير ذلك. وكان أحد أوعية العلم، وأخذ عنه من لا يحصى. ولما أخرج عنه نظر
__________
[1] لفظة «والاشغال» سقطت من «آ» .
[2] وهو معروف ب «عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان» وقد نشرت منه بعض الأجزاء في مصر بتحقيق الدكتور عبد الرزاق الطنطاوي القرموط.

(9/419)


الأحباس في سنة ثلاث وخمسين عظم عليه ذلك لقلّة موجودة، وصار يبيع من أملاكه وكتبه، إلى أن توفي ليلة الثلاثاء رابع ذي الحجّة بالقاهرة، وصلّي عليه بالجامع الأزهر، ودفن بمدرسته التي بقرب داره، وكثر أسف الناس عليه، رحمه الله تعالى

(9/420)