شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة إحدى وعشرين
وتسعمائة
في حدودها توفي الشيخ شهاب الدّين أبو العبّاس أحمد بن حسين بن محمد
العليني المكي [1] نزيل المدينة الشافعي.
ولد سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة، وسمع على جماعة، وأجازه آخرون.
قال ابن طولون: أجازني في استدعاء بخطّ شيخنا النّعيمي مؤرّخ في سنة
عشرين وتسعمائة. قال: وربما اجتمعت به. انتهى وفيها بدر الدّين حسن بن
ثابت بن إسماعيل الزّمزميّ المكّي [2] خادم بئر زمزم، وسقاية العبّاس،
نزيل دمشق، الشافعي الإمام الحيسوب المفيد.
قال في «الكواكب» : أخذ العلم عن قريبه الشيخ إبراهيم الزّمزمي وغيره،
ثم اعتنى بعلم الزيارج، وبتصانيف الشيخ جلال الدّين السّيوطي، رحمه
الله تعالى.
وتوفي بالمدرسة البادرائية داخل دمشق في سابع عشر ربيع الأول تقريبا
سنة إحدى وعشرين وتسعمائة تحقيقا ودفن بمقبرة باب الصغير. انتهى وفيها
قاضي القضاة سري الدّين أبو البركات عبد البرّ بن قاضي القضاة محبّ
الدّين أبي الفضل محمد بن قاضي القضاة محبّ الدّين أيضا أبي الوليد
محمد بن الشّحنة [3] الحنفي.
__________
[1] ترجمته في «متعة الأذهان» (ق 4) ، و «الكواكب السائرة» (134) .
[2] ترجمته في «متعة الأذهان» (ق 79) ، و «الكواكب السائرة» (177) .
[3] ترجمته في «الضوء اللامع» ، و «متعة الأذهان» (ق 44) ، و «درّ
الحبب» (1/ 2/ 743- 747) و «الكواكب السائرة» (219) .
(10/141)
ولد بحلب سنة إحدى وخمسين وثمانمائة، ورحل
إلى القاهرة، فاشتغل في علوم شتّى على شيوخ متعددة ذكرهم السخاوي في
ترجمته في «الضوء اللامع» منهم والده وجدّه، ودرّس وأفتى، وتولى قضاء
حلب ثم قضاء القاهرة، وصار جليس السلطان الغوري وسميره.
قال الحمصي: كان عالما متقنا [1] للعلوم الشرعية والعقلية.
وقال ابن طولون: ولم يثن الناس عليه خيرا.
وذكر الحمصي أن عبيد السّلموني شاعر القاهرة هجاه بقصيدة قال في أولها:
فشا الزّور في مصر وفي جنباتها ... ولم لا وعبد البرّ قاضي قضاتها [2]
وعقد على السّلموني بسبب ذلك مجلس في مستهل محرم سنة ثلاث عشرة بحضرة
السلطان الغوريّ، وأحضر في الحديد، فأنكر، ثم عزّر بسببه بعد أن قرئت
القصيدة بحضرة السلطان وأكابر الناس وهي في غاية البشاعة والشّناعة،
والسّلموني المذكور كان هجاء خبيث الهجو ما سلم منه أحد من أكابر مصر
فلا يعدّ هجوه جرحا في مثل القاضي عبد البرّ، وقد كان له في ذلك العصر
حشمة، وفضل، وكان تلميذه القطب بن سلطان مفتي دمشق يثني عليه خيرا
ويحتج بكلامه في مؤلفاته، وكان ينقل عنه أنه أفتى بتحريم قهوة البن،
وله رحمه الله تعالى مؤلّفات كثيرة منها «شرح منظومة ابن وهبان» في فقه
أبي حنيفة النّعمان، ومنها «شرح الوهبانية» [3] في فقه الحنفية، و «شرح
منظومة جدّه أبي الوليد بن الشحنة» التي نظمها في عشرة علوم، وكتاب
لطيف في حوض دون ثلاثة أذرع هل يجوز فيه الوضوء، أولا وهل يصير مستعملا
بالتوضي فيه أولا، ومنها «الذخائر الأشرفية في ألغار الحنفية» . وله
شعر لطيف منه [4] :
__________
[1] في «أ» : (متفننا) وهو تحريف.
[2] في «ط» : (قضلتها) وهو تصحيف.
[3] في «أ» : (شرح الوجانية) .
[4] الأبيات في «الكواكب» (1/ 220) و «درّ الحبب» (1/ 2/ 747) .
(10/142)
أضار وها مناقبي الكبار [1] ... وبي والله
للدنيا الفخار
بفضل شائع وعلوم شرع ... لها في سائر الدنيا انتشار
ومجد شامخ في بيت علم ... مفاخرهم بها الركبان ساروا
وهمة لوذع منهم تسامى ... وفوق الفرقدين لها قرار
وفكر صائب في كلّ فن ... إلى تحقيقه أبدا يصار
وقال ناظما لأسماء البكّائين في غزوة تبوك [2] وهم الذين نزلت فيهم
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا
أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ من
الدَّمْعِ 9: 92 [التوبة: 94] .
ألا إنّ بكّاء الصّحابة سبعة ... لكونهم قد فارقوا خير مرسل
فعمرو أبو ليلى وعلية سالم ... كذا سلمة عرباض وابن مغفل
وذيّل عليه البدر الغزّي، فقال [3] :
كثعلبة عمرو وصخر وديعة ... وعبد بن عمرو وابن أزرق معقل
قال البدر المذكور: وكنت قبل أن أقف على بيتي القاضي عبد البرّ المذكور
قد استوفيت أسماءهم ونظمتها في هذه الأبيات [4] :
وفي الصّحب بكّاؤون بضعة عشر قد ... بكوا حزنا إذ فارقوا خير مرسل
فمنهم أبو ليلى وعمرو بن عتمة ... وصخر بن سلمان وربّع بمعقل
كذلك عبد الله وهو ابن أزرق ... كذاك ابن عمرو ثم نجل مغفل
وثعلبة وهو ابن زيد وسالم ... هو ابن عمير في مقال لهم جلي
أبو علية أو علية ووديعة ... وبالأمجد العرباض للعدّ أكمل
__________
[1] في «أ» : (الفحار) .
[2] البيتان في «الكواكب» (1/ 220) .
[3] البيت في «الكواكب» (1/ 220) .
[4] الأبيات في «الكواكب» (1/ 221) .
(10/143)
وذكر ابن الحنبلي في «تاريخه» أن القاضي
عبد البرّ نظم أبياتا في أسماء البكّائين المذكورين، وبيّن فيها اختلاف
المفسّرين وأهل السير فيهم، وشرحها في رسالة لطيفة.
ومن لطائفه قوله [1] :
حبشيّة ساءلتها عن جنسها ... فتبسّمت عن درّ ثغر جوهري
وطفقت أسأل عن نعومة ما طفا ... قالت فما تبغيه جنسي امحري
وتوفي يوم الخميس خامس شعبان بحلب.
وفيها تقريبا عزّ الدّين عبد العزيز بن عبد اللطيف بن أحمد بن جار الله
بن زايد بن يحيى بن محيا بن سالم المكي الشافعي، المعروف كسلفه بابن
زايد [2] .
ولد سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة بمكة، وحفظ القرآن العظيم، وسافر مع
أبيه في التجارة إلى الهند واليمن، وسواكن، وغيرها، وسمع على أبي الفتح
المراغي جميع «البخاري» خلا أبواب، وبعض «مسلم» وكتبا كثيرة، منها
«السنن الأربعة» وسمع على الحافظ تقيّ الدّين بن فهد، ومنه أشياء
كثيرة، وعلى الشّهاب الزّفتاوي «المسلسل بالأولية» و «جزء أيوب
السختياني» و «البردة» للبوصيري، وغير ذلك، وأجاز له جماعة منهم الحافظ
ابن حجر، وأحمد بن محمد بن أبي بكر الدّماميني، والعزّ عبد الرحيم بن
الفرات، والسعد الدّيري، وجماعة آخر.
وفيها- تقريبا- أيضا الحافظ عزّ الدّين أبو الخير وأبو فارس عبد العزيز
بن العمدة المؤرخ الرّحال نجم الدّين [3] أبي القاسم، وأبي حفص عمر بن
العلّامة الرّحلة الحافظ تقي الدّين أبي الفضل محمد بن محمد بن محمد
[بن محمد] [4]
__________
[1] البيتان في «الكواكب» (1/ 221) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 237- 238) .
[3] ترجمته في «الضوء اللامع» (4/ 224- 226) و (6/ 129) و «الكواكب
السائرة» (1/ 238- 239) و «فهرس الفهارس» (2/ 754- 756) .
[4] ما بينهما لم يرد في «ط» .
(10/144)
الشريف العلوي الشهير كسلفه بابن فهد
المكّي الشافعي.
ولد في الثلث الأخير من ليلة السبت سادس عشري شوال سنة خمسين وثمانمائة
بمكّة المشرّفة، وحفظ القرآن العظيم، و «الأربعين النووية» و «الإرشاد»
لابن المقري، و «ألفية ابن مالك» و «النّخبة» لابن حجر، و «التحفة
الوردية» و «الجرومية» وعرضها جميعها على والده وجدّه والثلاثة الأولى
على جماعة غيرهما، واستجاز له والده جماعة منهم ابن حجر، وأسمعه على
المراغي، والزّين الأسيوطي، والبرهان الزّمزمي وغيرهم، ثم رحل بنفسه
إلى المدينة المنورة، ثم إلى الدّيار المصرية، وسمع بهما، وبالقدس،
وغزّة، ونابلس، ودمشق، وصالحيتها، وبعلبك، وحماة، وحلب، وغيرها ممن لا
يحصى، وجدّ واجتهد وتميّز، ثم عاد إلى بلده، ثم رجع إلى مصر بعد نحو
أربع سنوات [1] وذلك في سنة خمس وسبعين، وقرأ على شيخ الإسلام زكريا،
والشّرف عبد الحق السّنباطي في «الإرشاد» وعلى السخاوي «ألفية الحديث»
وغيرها، ورجع إلى بلده، ثم سافر في موسم السنة التي تليها إلى دمشق،
وقرأ بها على الزّين خطّاب، والمحبّ البصروي، وكان قد أخذ عنه بمكة
أيضا، وحضر دروس التّقوي بن قاضي عجلون، وسافر إلى حلب، ثم رجع، وسافر
إلى القاهرة، ثم عاد إلى بلده، ثم عاد إلى القاهرة، ولازم السّخاوي،
وحضر دروس إمام الكاملية، والسّراج العبادي، ثم رجع إلى بلده، وأقام
بها ملازما للاشتغال والإشغال، ولازم فيها عالم الحجاز البرهان ابن
ظهيرة في الفقه والتفسير، وأخاه الفخر، والنّور الفاكهي في الفقه
وأصوله، وأخذ النحو عن أبي الوقت المرشدي، والسيد السّنهوري مؤرخ
المدينة، والنحو والمنطق عن العلّامة يحيى المالكي، وبرع في علم
الحديث، وتميّز فيه بالحجاز، مع المشاركة في الفضائل وعلو الهمّة
والتخلق بالأخلاق الجميلة، وصنّف عدة كتب، منها «معجم شيوخه» نحو ألف
شيخ، و «فهرست مروياته» و «جزء في المسلسل بالأولية» وكتاب فيه
المسلسلات التي وقعت له، و «رحلة» في مجلد، وكتاب «الترغيب والاجتهاد
في الباعث لذوي الهمم العلية
__________
[1] في «أ» : (سنين) .
(10/145)
على الجهاد» و «ترتيب طبقات القرّاء»
للذهبي، و «تاريخ» على السنين ابتدأ فيه من سنة اثنتين وسبعين
وثمانمائة.
وذكر ابن طولون أنه أجازه مرارا، وسمع منه الحديث المسلسل بالأولية، ثم
المسلسل بالمحمدين، ثم المسلسل بحرف [1] العين، وذلك يوم الاثنين سادس
ذي الحجة سنة عشرين وتسعمائة بزيارة دار الندوة. انتهى وفيها جمال
الدّين محمد بن محمد النّطاري [2] .
قال في «النّور» : كان نعم الرّجل، فقها، وعقلا، وصيانة، ودينا،
وأمانة، وبذلا للمعروف، كافا للأذى، معينا للملهوف، له صدقات جليلة
سرّا وعلانية، وكان قطب رحى المملكة السلطانية الظّافرية وعين الأعيان
في الجهة اليمانية.
ومن آثاره بناء المسجد ببيت الفقيه عجيل، عمره عمارة متقنة إلى الغاية،
وبني مدرسة بمدينة أب، ووقف عليها وقفا جليلا، وجملة من الكتب
النّفيسة، وله من الآثار الحسنة ما يجلّ عن الوصف.
وتوفي يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى بمدينة أب بعد أن
طلع إليها متوعكا من نحو شهر، وترك ولده الفقيه عبد الحق [3] عوضا عنه
بزبيد.
انتهى
__________
[1] في «أ» : (بحروف) .
[2] ترجمته في «النور السافر» (104- 105) .
[3] في «ط» : «المحق» وهو خطأ.
(10/146)
سنة اثنتين وعشرين
وتسعمائة
فيها زالت دولة الجراكسة بملوك بني عثمان خلّد الله دولتهم وأبّد
سيادتهم.
وفيها توفي القاضي برهان الدّين إبراهيم السّمديسي المصري الحنفي [1] .
قال في «الكواكب» : ولي نيابة القضاء والوظائف الدينية بالقاهرة، وناب
عن عمّه القاضي شمس الدّين السّمديسي في إمامة الغورية.
وتوفي يوم الاثنين سادس عشر جمادى الأولى وصلّي عليه في الجامع [2]
الأزهر. انتهى وفيها برهان الدّين أبو الوفاء إبراهيم بن زين الدّين
أبي هريرة عبد الرحمن بن شمس الدّين محمد بن مجد الدّين إسماعيل الكركي
الأصل القاهري [3] المولد والدار والوفاة، الحنفي إمام السلطان، ويعرف
بابن الكركي.
قال في «النّور السافر» : ولد وقت الزوال من يوم الجمعة تاسع شهر رمضان
سنة خمس وثلاثين وثمانمائة بالقاهرة، وأمه أم ولد جركسية، وحفظ القرآن،
و «أربعين النّووي» و «الشاطبية» و «مختصر القدوري» و «ألفية ابن مالك»
وغيرها.
وعرض محفوظاته على أئمة عصره، كالشهاب ابن حجر، والعلم البلقيني،
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 112) .
[2] في «أ» : (بالجامع) .
[3] ترجمته في «النور السافر» ص (108) .
(10/147)
والقلقشندي، واللولوي السقطي، وابن
الدّيري، وابن الهمام، وجماعة آخرين، وكتبوا كلّهم له، وسمع «صحيح
مسلم» أو أكثره على الزّين الزّركشي، وأقبل على العلم وتحصيله، فأخذ
الفقه والعربية عن الشمس إمام الشيخونية، وكذا أخذ عن النجم الغزّي،
والعزّ عبد السلام البغدادي، وسمع عليه «الشفا» وقرأ «الصحيحين» على
الشّهاب بن العطّار، وحضر دروس الكمال بن الهمام، ولازم التّقي الحصني،
والتّقي الشّمنّي، والكافيجي، وعظم اختصاصه بهم، وأخذ عن الشّمنّي
التفسير، وعلوم الحديث، والفقه، والأصلين، والعربية، والمعاني،
والبيان، ورتّبت له الوظائف الكثيرة، من جملتها دينار كل يوم، ونوه به
في قضاء الحنفية، وكان شأنه أعلى من ذلك إذ كان القضاة وغيرهم يترددون
إليه، ومال الأفاضل من الغرباء وغيرهم من الاستفادة منه والمباحثة معه،
ولم يزل يزيد اختصاصه بالسلطان قايتباي بحيث لم يتخلف عنه في سفر ولا
غيره.
قال السخاوي: إنه تمنى بحضرته الموت فانزعج من ذلك وقال: بل أنا أتمناه
لتقرأ عند قبري وتزورني، وصنّف، وأفتى، وحدّث، وروى، ونظم، ونثر،
ونقّب، وتعقب، وخطب، ووعظ، وقطع، ووصل، وقدّم، وأخر.
ومن تصانيفه فتاوى في الفقه مبوبة في مجلدين، و «حاشية على توضيح ابن
هشام» هذا كله مع الفصاحة، والبلاغة، وحسن العبارة، والضبط، وجودة
الخط، ولطف العشرة، والميل إلى النّادرة، واللطف، ومزيد الذكاء، وسرعة
البديهة، والاعتراف بالنّعمة، والطبع المستقيم، إلى أن تنكد خاطر
السلطان من جهته في سنة ست وثمانين فمنعه من الحضور في حضرته، فتوجه
للإقراء في بيته فنون العلم والفتيا، وحجّ ثلاث حجّات، وأخذ عن أهل
الحرمين، وأخذوا عنه. انتهى كلام صاحب «النّور» .
وقال ابن فهد: إنه تولى قضاء الحنفية بالقاهرة في زمن الأشرف بن
قايتباي في سنة ثلاث وتسعمائة، ثم عزل سنة ست، واستمرّ معزولا إلى أن
مات.
وقال في «الكواكب السائرة» : كانت وفاته يوم الثلاثاء خامس شعبان غريقا
تجاه منزله من بركة الفيل بسبب أنه كان توضأ بسلالم قيطونه فانفرك به
القبقاب
(10/148)
فانكفأ في البركة ولم يتفق أحد يسعفه
فاستبطأوه وطلبوه فوجدوا عمامته عائمة وفردة القبقاب على السّلّم
فعلموا سقوطه في البركة فوجدوه ميتا، ونال الشهادة، ودفن من الغد
بفسقيته [1] التي أنشأها بتربة الأتابك يشبك بقرب السلطان قايتباي،
وتردد الأمير طومان باي الذي صار سلطانا بعد موت الغوري إلى بيته وذهب
ماشيا إلى جنازته هو ومن بمصر من الأعيان. انتهى وفيها برهان الدّين
أبو الفتح إبراهيم بن علي بن أحمد القلقشندي [2] الشيخ الإمام العلّامة
المحدّث الحافظ الرّحلة القدوة الشافعي القاهري.
أخذ عن جماعة، منهم الحافظ ابن حجر، والمسند عزّ الدّين بن الفرات
الحنفي، وغيرهما، وخرّج لنفسه «أربعين حديثا» .
قال البدر العلائي: إنه آخر من يروي عن الشّهاب الواسطي، وأصحاب
الميدومي، والتّاج الشّرابشي، والتّقي الغزنوي، وعائشة الكنانية،
وغيرهم، وقال الشعراوي.
كان عالما صالحا زاهدا، قليل اللهو والمزاح [3] ، مقبلا على أعمال
الآخرة، حتى ربما يمكث اليومين والثلاثة لا يأكل، انتهت إليه الرئاسة
وعلو السّند في الكتب الستة والمسانيد والإقراء. قال: وكان لا يخرج من
داره إلّا لضرورة شرعية، وليس له تردد إلى أحد من الأكابر، وكان إذا
ركب بغلته وتطيلس يصير الناس كلّهم ينظرون إليه من شدّة الهيبة والخفر
الذي عليه.
وتوفي فقيرا بحصر البول يوم الثلاثاء عاشر جمادى الآخرة عن إحدى وتسعين
سنة لا تزيد يوما ولا تنقص يوما وصلي عليه بالجامع الأزهر، ودفن بتربة
الطويل خارج باب الحديد من صحراء القاهرة.
قال الشعراوي: وكأن الشمس كانت في مصر فغربت أي عند موته.
__________
[1] في «أ» : (بفسيقيته) .
[2] ترجمته في «متعة الأذهان» (ق 24) ، و «الكواكب السائرة» (1/ 108) ،
و «النور السافر» (110) .
[3] في «أ» : (والمزح) .
(10/149)
وفيها برهان الدّين إبراهيم بن موسى بن أبي
بكر بن الشيخ علي الطّرابلسي ثم الدمشقي [1] نزيل القاهرة الحنفي
الإمام العلّامة.
أخذ عن السّخاوي، والديمي، وغيرهما، وكان منقطعا في خلوة بالمؤيدية عند
الشيخ صلاح الدّين الطّرابلسي، ثم طلب العلم واشتغل، وترقى مقامه عند
الأتراك بواسطة اللّسان، ثم صار شيخ القجماسية.
وتوفي في آخر هذه السنة وصلّي عليه وعلى البرهانين ابن الكركي المتقدم،
وابن أبي شريف الآتي في السنة التي بعد هذه غائبة بجامع دمشق.
وفيها أحمد بن أبي بكر العيدروس [2] الشيخ الصّالح الولي العجيب.
قال في «النّور» : أمه بهية بنت الشيخ علي بن أبي بكر بن الشيخ عبد
الرحمن الشقّاف، وأمها فاطمة بنت الشيخ عمر المحضار بن الشيخ عبد
الرحمن الشقّاف فولده الشيخ عمر من الجهتين كما ولده أيضا الشيخ أبو
بكر بن عبد الرحمن مرتين وقد تميّز بهذا عن غيره من بني عمه كما أشار
إليه العلّامة بحرق حيث يقول فيه [3] :
أصيل [4] السّيادة لا ينتمي ... إلى جدّ [5] إلّا هو السّيّد
لئن شاركته بنو العيدروس ... بفخر هو الشمس لا يجحد
فقد خصّه الله من بينهم ... بآيات مجد له تشهد
حوى سرّ جدّيه من أمه ... فطاب له الفرع والمحتد
فهو الوارث لأبيه وجدّه وحامل الراية من بعده، وولي عهده، فقد قام
بالمقام أتمّ قيام، ونهض بما نهض به آباؤه الكرام فساد وجاد وبنى معاقل
المجد، وشاد
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 112) ، و «النور السافر» (111) .
[2] ترجمته في «النور السافر» (105) .
[3] الأبيات في «النور السافر» (105) .
[4] في «النور» : (أصل) ولا يستقيم بها الوزن.
[5] في «النور» : (حدّ) ولا يستقيم بها المعنى.
(10/150)
وأحيا الرواتب التي أسسها أبوه والأوراد،
وواظب [1] على إطعام الطعام وصلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء
والأيتام باذلا جاهه وماله في إيصال النّفع إلى أهل الإسلام، واتفق أن
ثمن الكسوة التي اشتراها في آخر ختمة لرمضان صلّاها بلغ خمسة آلاف
دينار أو أكثر وحكى أن خبز مطبخه كان إذا ركموه يبلغ إلى سطح الدار،
ودور عدن عالية جدا بحيث أنها تكون على ثلاثة قصور غالبا. قال الراوي:
فعجبت وقلت: ما كان بعدن إذ ذاك سائل. قالوا: لا ما كان في زمنه وزمن
والده في عدن سائل أصلا.
ومحاسنه- رحمه الله تعالى- أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر، ورثاه
العلّامة بحرق بمرثية حسنة منها [2] :
لمن تبنى مشيدات القصور ... وأيام الحياة إلى قصور
إلى أن قال:
وروّعت الأنام [3] بفقد شخص ... رزئت به على بشر كثير
شهاب ثاقب من نور بدر ... تبقي من شموس من بدور
وهي طويلة.
وتوفي في سلخ المحرم بعدن ودفن بها في قبة أبيه وعمره يومئذ أربعون سنة
تقريبا. انتهى ملخصا.
وفيها السيد أحمد البخاري [4] العارف بالله تعالى الشريف الحسيني.
قال في «الكواكب» : صحب في بدايته الشيخ العارف بالله تعالى خواجه عبيد
الله السّمرقندي، ثم صحب بأمره الشيخ الإلهي، وسار معه إلى بلاد
الرّوم، وترك أهله وعياله، ببخارى، وكان الشيخ الإلهي يعظّمه غاية
التعظيم، وعيّن له
__________
[1] في «أ» : (ووظب) وهو خطأ.
[2] القصيدة بكاملها في «النور السافر» (106- 107) .
[3] في «أ» : (الأيام) .
[4] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 152- 153) .
(10/151)
جانب يمينه، وكان يقول: إن السيد أحمد
البخاري صلّى بنا الفجر بوضوء العشاء ست سنين.
وسئل السيد أحمد عن نومه في تلك المدة. قال: كنت آخذ بغلة الشيخ وحماره
في صبيحة كل يوم وأصعد الجبل لنقل الحطب إلى مطبخ الشيخ، وكنت أرسلهما
ليرتعا في الجبل واستند إلى جبل [1] وأنام ساعة، وذهب بإذن شيخه إلى
الحجاز على التجريد والتوكل، وأعطاه الشيخ حمارا وعشرة دراهم، وأخذ من
سفرة الشيخ خبزة واحدة، ولم يصحب سوى ذلك إلا مصحفا ونسخة من «المثنوي»
فسرق المصحف، وباع «المثنوي» بمائة درهم، وكان مع ذلك على حسن حال وسعة
نفقة. وجاور بمكّة المشرّفة قريبا من سنة، ونذر أن يطوف بالكعبة كل يوم
سبعا ويسعى بين المروتين سبعا، وكان كل ليلة يطوف تارة ويجتهد أخرى،
وتارة يستريح، ولا ينام ساعة مع ضعف بنيته، وزار القدس الشريف وسكنه
مدة، ثم رجع إلى شيخه وخدمته ببلدة سيما، ثم وقع في نفسه زيارة مشايخ
القسطنطينية فاستأذن من شيخه فأذن له، فذهب إليها، ثم كتب إلى شيخه
يرغبه في سكناها، فرحل إليه شيخه، ثم لما مات شيخه كان خليفته في مقامه
ورغب الناس في خدمته حتّى تركوا المناصب واختاروا خدمته، وكان على
مجلسه الهيبة والوقار، وكان له أشراف على الخواطر، ولا يجري في مجلسه
ذكر الدنيا أصلا، وكانت طريقته الأخذ بالعزيمة، والعمل بالسّنّة،
والتجنب عن البدعة، والعزلة، والجوع، والصّمت، وإحياء الليل، وصوم
النهار، والمحافظة على الذكر الخفي.
وتوفي بقسطنطينية ودفن عند مسجده وقبره يزار ويتبرّك به، قيل: ولما وضع
في قبره توجه هو بنفسه إلى القبلة وصلى على النّبيّ صلّى الله عليه
وسلم. انتهى وفيها أحمد الزواوي [2] ، الشيخ الصّالح العابد.
أخذ الطريق عن الشيخ شعبان البلقطري، وكان ورده في اليوم والليلة عشرين
ألف تسبيحة وأربعين ألف صلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلم.
قال المناوي في «طبقات الأولياء» : كان عابدا، زاهدا، جزل الألفاظ،
__________
[1] في «أ» : (شجرة) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 152) .
(10/152)
لطيف المعاني، يفعل قوله في النّفوس ما لا
تفعله المثالث والمثاني، ولما سافر الغوري إلى قتال ابن عثمان جاء إلى
مصر ليرد ابن عثمان عنها، فعارضه بعض أوليائها فلحقه داء البطن، فتوجه
إلى دمنهور الوحش فمات في الطريق ودفن بدمنهور. انتهى وفيها بدر الدّين
حسن بن عطية بن محمد بن فهد العلوي الهاشمي المكّي الشافعي [1] الإمام
المسند.
ولد يوم الأربعاء تاسع المحرم سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة، وأخذ عن
والده وعمّه الحافظ تقي الدّين وأبي الفتح المراغي، وعبد الرحيم
الأسيوطي، وابن حجر العسقلاني، واجتمع به ابن طولون في سنة عشرين
وأجازه ولم يسمع منه، وتوفي في هذه السنة.
وفيها حسام الدّين حسين بن حسن بن عمر البيري ثم الحلبي الشافعي
الصّوفي [2] .
قال في «الكواكب» : وصفه شيخ الإسلام الوالد في رحلته وغيرها بالشيخ
الإمام الكبير العلّامة المفتي العارف بالله تعالى.
ولد ببيرة الفرات، ثم انتقل إلى حلب، وجاور بجامع الطواشي، ثم
بالأجيهية، ثم ولي في سنة أربع وتسعمائة النظر والمشيخة بمقام سيدي
إبراهيم بن أدهم، وكان له ذوق، ونظم، ونثر بالعربية والفارسية
والتركية، وله رسالة في القطب والإمام، وعرّب شيئا من «المثنوي» من
الفارسية وشيئا من «منطق الطير» من التركية منه:
اسمعوا يا سادتي صوت اليراع ... كيف يحكي عن شكايات الوداع
ومنه:
ما ترى قطّ حريصا قد شبع ... ما حوى الدّرّ الصدف حتى قنع
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 177) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 184) .
(10/153)
ومن شعره رضي الله عنه:
بقايا حظوظ النّفس في الطبع أحكمت ... كذلك أوصاف الأمور الذّميمة
تحيّرت في هذين والعمر قد مضى ... إلهي فعاملنا بحسن المشيئة
انتهى ملخصا.
وفيها المولى سعدي بن ناجي [1] بيك أخو المولى جعفر جلبي بن ناجي بيك
الرّومي الحنفي العالم الفاضل.
قرأ على جماعة من الموالي، منهم المولى قاسم الشهير بقاضي زاده،
والمولى محمد بن الحاج حسين، وبرع، واشتهرت فضائله، ودرّس في مدرسة
السلطان مراد خان الغازي ببروسا، ثم أعطي مدرسة الوزير علي باشا
بقسطنطينية، ثم إحدى الثمانية، ثم حجّ وعاد فأعطي تقاعدا بثمانين
عثمانيا.
وكان فاضلا في سائر الفنون، خصوصا العربية، وله باللسان العربي إنشاء
وشعر في غاية الجودة، وله حواش على «شرح المفتاح» للسيد الشريف، وحاشية
على «باب الشهيد من شرح الوقاية» لصدر الشريعة ونظم «عقائد النسفي»
بالعربية، وله رسائل [2] أخرى. قاله في «الكواكب» .
وفيها المولى عبد الرحمن [3] بن علي، المعروف بابن المؤيد الأماسي
الرّومي [4] الحنفي العالم العلّامة المحقّق الفهامة.
ولد بأماسية في صفر سنة ستين وثمانمائة، واشتغل بالعلم [5] ببلده، ولما
بلغ سنّ الشباب صحب السلطان أبا يزيد خان حين كان أميرا بأماسية، فوشى
به المفسدون إلى السلطان محمد خان والد السلطان أبي يزيد، فأمر بقتله،
فبلغ
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 208) و «الشقائق النعمانية» (197)
.
[2] في «أ» : «رسالة» .
[3] في «أ» : «عبد الرحيم» وما جاء في «ط» هو الصواب.
[4] ترجمته في «الشقائق النعمانية» (176) ، و «الطبقات السنية» (4/
292) ، و «الكواكب السائرة» (1/ 232) .
[5] في «أ» : «في العلم» .
(10/154)
السلطان أبا يزيد ذلك قبل وصول أمر والده
فأعطاه عشرة آلاف درهم وخيلا وسائر أهبة السفر، وأخرجه ليلا من أماسية
ووجهه إلى بلاد حلب، وكانت إذ ذاك في أيدي الجراكسة فدخلها سنة ثمان
وثمانين وثمانمائة، فأقام هناك مدة، واشتغل بها في النحو، فقرأ في
«المفصّل» [1] ، ثم أشار عليه بعض تجّار العجم أن يذهب إلى المولى جلال
الدّين الدّواني ببلدة شيراز، ووصف له بعض فضائله، فخرج مع تجّار
العجم، وقصد المنلا المذكور، فقرأ عليه زمانا كثيرا، وحصّل عنده من
العلوم العقلية، والعربية، والتفسير، والحديث، كثيرا، وأجازه، وشهد له
بالفضل التّام بعد أن أقام عنده سبع سنين، فلما بلغه جلوس السلطان أبي
يزيد على تخت السلطنة، سافر إلى الرّوم، فصحب موالي الرّوم، وتكلّم
معهم فشهدوا بفضله وعرضوه على السلطان فأعطاه مدرسة قلندرخانه
بالقسطنطينية، ثم إحدى [2] ، الثمانية، ثم قضاء القسطنطينية، ثم أدرنه،
ثم قضاء العسكر بولاية أناضولي [3] ، ثم بولاية روم إيلي، ثم عزل، وجرت
له محنة، ثم لما [4] تولى السلطان سليم خان أعاده إلى قضاء العسكر في
سنة تسع عشرة، وسافر معه إلى بلاد العجم لمحاربة الشاه إسماعيل، ثم عزل
عن قضاء العسكر بسبب اختلال حصل في عقله في شعبان سنة عشرين، وعيّن له
كل يوم مائتي درهم، ورجع إلى القسطنطينية معزولا، وكان قبل اختلاله
بالغا الغاية القصوى في العلوم العقلية والعربية، ماهرا في التفسير،
مهيبا، حسن الخطّ جدا، ينظم الشّعر بالفارسية والعربية، وله مؤلفات بقي
أكثرها في المسودات، منها رسالة لطيفة في المواضع المشكلة من علم
الكلام، ورسالة في تحقيق الكرة المدحرجة.
وتوفي بالقسطنطينية ليلة الجمعة خامس عشر شعبان، وقيل: في تاريخ وفاته
[5] :
__________
[1] في «ط» : «الفصل» وهو تحريف.
[2] في «أ» : «أحد» .
[3] في «أ» : «أناظولا» .
[4] ليست اللفظة في «أ» .
[5] الأبيات في «الشقائق والكواكب» .
(10/155)
نفسي الفداء لحبر حل حين قضى ... في روضة
وهو في الجنّات محبور
مقامه في علا الفردوس مسكنه ... أنيسه في الثّرى الولدان والحور
قل للّذي يبتغي تاريخ رحلته ... (نجل المؤيّد مرحوم ومغفور) [1]
وفيها قاضي القضاة محيى الدّين عبد القادر، المعروف بابن النّقيب
القاهري [2] الشافعي الإمام العلّامة.
قرأ على جماعة من الأعلام، منهم الكمال بن أبي شريف، وزكريا الأنصاري،
وتولى قضاء مصر مرارا [3] ، وكان لا يصلي الصّبح صيفا ولا شتاء إلّا في
الجامع الأزهر، يمشي كل يوم من المدرسة الناصرية إليه، وكان متواضعا،
سريع الدّمعة، وكان بيده مشيخة الخانقاه الصّلاحية سعيد السعداء،
وتدريس الظّاهرية الجديدة، برقوق بين القصرين، وكان مارّا بالقصبة ليلة
الاثنين حادي عشر ربيع الأول فرفسه بغل فانكسر ضلعه أو فخذه ومات في
اليوم الثاني.
وفيها تاج الدّين عبد الوهاب الذاكر المصري [4] الشيخ الصّالح المسلك
المربي المجد الدّاعي إلى الله تعالى.
ربي يتيما بمكتب مدرسة الحسامي، فلما ترعرع تعلّق على صنعة البناء، ثم
وفقه الله تعالى للاجتماع على الشيخ نور الدّين بن خليل عرف بابن عين
الغزال، فلازمه وصار يحضر المحافل، ويتردّد إلى الشيخ تقي الدّين
الأوجاقي، حتّى اشتهر، فجمع الناس، ولازم الذكر والخير، وأقرأ
«البخاري» و «الشفا» و «العوارف» بروايته لها عن العزّ بن الفرات، وعن
التّقي الأوجاقي، ونازع العلائي أن يكون سمع من العزّ بن الفرات، وكان
نيّر الوجه، حسن السّمت، كثير
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» و «الكواكب السائرة» : «ومغفور» ولا يصح العدد
فيها على حساب الجّمل، وفي «الشقائق» وهو الصواب:
نجل المؤيد مرحوم ومبرور 83 91 294 454 922
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 253) .
[3] في ط: «مرات» .
[4] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 258- 259) .
(10/156)
الشفاعات، شديد الاهتمام بقضاء حوائج
الناس، مجدا في العبادة، دائم الطّهارة، لا يتوضأ عن حدث إلا كل سبعة
أيام، وسائر طهاراته تجديد، وانتهى أمره آخرا إلى أنه كان يمكث اثني
عشر يوما لا يتوضأ عن حدث، ولم يعرض ذلك لأحد في عصره إلّا الشيخ أبي
السعود الجارحي، وامتحنه قوم دعوه وجعلوا يطعمونه سبعة أيام ولم يحدث،
ثم علم أنهم امتحنوه فدعا عليهم فانقلبت بهم المركب، فقيل له في ذلك،
فقال: لا غرق وإنما هو تأديب وينجون، فكان كذلك ثم ندم على الدعاء
عليهم، وقال: لا بد لي من المؤاخذة، فمرض أكثر من أربعين يوما، ومكث
خمسا وعشرين سنة لم يضع [1] جنبه على الأرض إنما ينام جالسا على حصير،
وقال عند موته: لي أربعون سنة أصلي الصبح بوضوء العشاء، وقد طويت
سجادتي من بعدي.
وتوفي يوم الخميس ثالث عشري جمادي الآخرة، ودفن بزاويته قريبا من حمّام
الدودحين. قاله في «الكواكب» .
وفيها عزّ الدّين الصّابوني الحلبي [2] الحنفي، المعروف بابن عبد الغني
ابن عمّ أبي بكر بن الموازيني.
كان خطيبا جيد الخطبة، ولي خطابة جامع الأطروش بحلب، فلما دخل السلطان
سليم خان حلب في هذه السنة صلى الجمعة بالجامع المذكور خلف المذكور
فحظي بسبب ذلك، ولم يلبث أن توفي في هذه السنة، وكان في قدميه اعوجاج
بحيث لا يتردّد في الشوارع إلّا راكبا.
وفيها عائشة بنت يوسف بن أحمد [3] بن ناصر بنت الباعوني المعروفة
بالباعونية الشيخة الصّالحة الأريبة العالمة العاملة أم عبد الوهاب
الدمشقية أحد أفراد الدّهر [4] ونوادر الزّمان فضلا وأدبا وعلما وشعرا
وديانة وصيانة.
__________
[1] في «أ» : «يضجع» وما هنا يوافق ما في الكواكب.
[2] ترجمته في «در الحبب» (1/ 2/ 894- 895) ، و «الكواكب السائرة» (1/
260) .
[3] ترجمتها في «در الحبب» (1/ 2/ 1060- 1069) ، و «متعة الأذهان»
(112- 113) ، و «الكواكب السائرة» (1/ 287- 292) .
[4] في «ط» : «الدهور» .
(10/157)
تنسكت على يد السيد الجليل إسماعيل
الخوارزمي، ثم على خليفة المحيوي يحيى الأرموي، ثم حملت إلى القاهرة،
ونالت من العلوم حظا وافرا، وأجيزت بالإفتاء والتدريس، وألّفت عدة
مؤلفات، منها «الفتح الحنفي» يشتمل على كلمات لدنيّة ومعارف سنية،
وكتاب «الملامح الشريفة والآثار المنيفة» يشتمل على إنشادات صوفية
ومعارف ذوقية، وكتاب «درر [1] الغائص في بحر المعجزات والخصائص» وهو
قصيدة رائية، وكتاب «الإشارات الخفية في المنازل العلية» وهي أرجوزة
اختصرت فيها «منازل السائرين» للهروي، وأرجوزة أخرى لخصت فيها «القول
البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع» للسخاوي، و «بديعية» وشرحتها،
وغير ذلك. ومن كلامها: وكان مما أنعم الله به عليّ أنني بحمده لم أزل
أتقلب في أطوار الإيجاد في رفاهية [2] لطائف البرّ الجواد إلى أن خرجت
إلى هذا العالم المشحون بمظاهر تجلياته الطافح بعجائب قدرته، وبدائع
إرادته، المشوب موارده بالأقدار والأكدار الموضوع بكمال القدرة والحكمة
للابتلاء والاختبار دار ممر لا بقاء لها إلى دار القرار فربّاني اللطف
الرّبّاني في مشهد النّعمة والسّلامة، وغذّاني بلبان مدد [3] التوفيق
لسلوك سبيل الاستقامة، وفي بلوغ درجة التمييز أهّلني الحقّ لقراءة
كتابه العزيز، ومن عليّ بحفظه على التمام ولي من العمر حينئذ ثمانية
أعوام، ثم لم أزل في كنف ملاطفات اللطيف حتى بلغت درجة التكليف في كلام
آخر.
ولما دخلت القاهرة ندبت لقضاء مآرب لها تتعلق بولد لها كان في صحبتها
المقر أبو [4] الثنا محمود بن أجا الحلبي صاحب دواوين الإنشاء بالديار
المصرية فأكرمها وولدها وأنزلها في حريمه، وكانت قد مدحته بقصيدة أولها
[5] :
روى البحر أصباب [6] العطا عن نداكم ... ونشر الصّبا عن مستطاب ثناكم
__________
[1] في «ط» : (در) .
[2] ليست اللفظة في «أ» .
[3] في «ط» : (مداد) وهو خطأ.
[4] في «أ» : (أبا) وهو خطأ.
[5] البيت في «در الحبب» (1/ 2/ 1064) و «الكواكب» (1/ 288) .
[6] جاء في حاشية «الكواكب» ما يلي: في الهامش بخط متأخر ما يلي: «لعل
صوابه أخبار» .
(10/158)
فعرضها على شيخ الأدباء السيد عبد الرحيم
العبّاسي القاهري فأعجب بها، وبعث إليها بقصيدة من بديع نظمه فأجابت
عنها بقصيدة مطلعها [1] :
وافت تترجم عن حبر هو البحر ... بديعة زانها مع حسنها الخفر
ومن شعرها [2] :
نزّه الطّرف في دمشق ففيها ... كلّ ما تشتهي وما تختار
هي في الأرض جنة فتأمّل ... كيف تجري من تحتها الأنهار
كم سما في ربوعها كلّ قصر ... أشرقت من وجوهها الأقمار
وتناغيك بينها صارخات [3] ... خرست [4] عند نطقها الأوتار
كلّها روضة وماء زلال ... وقصور مشيدة وديار
وذكر ابن الحنبلي: أنها دخلت حلب في هذه السنة والسلطان الغوري بها
لمصلحة لها كانت عنده، فاجتمع بها من وراء حجاب البدر السّيوفي،
وتلميذه الشمس السّفيري، وغيرهما. ثم عادت إلى دمشق وتوفيت بها في هذه
السنة.
وفيها السلطان الملك الأشرف أبو النّصر قانصوه بن عبد الله الجركسي
المشهور بالغوري [5] وسمّاه ابن طولون جندب، وجعل قانصوه لقبا له.
والغوري نسبة إلى طبقة الغور أحد الطبقات التي كانت بمصر معدة لتعليم
المؤدبين.
قال ابن طولون: كان يذكر أن مولده في حدود الخمسين وثمانمائة وترقي في
المناصب حتّى صار نائب طرسوس، فانتزعها منه جماعة السلطان أبي يزيد بن
__________
[1] البيت في «در الحبب» (1/ 2/ 1065) و «الكواكب» (1/ 288) .
[2] الأبيات في «الكواكب» (1/ 292) .
[3] في «الكواكب» : (صارحات) .
[4] في «ط» : (خرصت) تحريف.
[5] ترجمته.
(10/159)
عثمان فهرب منها وعاد إلى حلب، فلما انتصر
عسكر مصر على الأروام عاد إلى طرسوس مرة ثانية، ثم أخذها الأروام مع ما
والاها فهرب منها أيضا إلى حلب ثم نصر عسكر مصر ثانيا فعاد إليها مرة
ثالثة، ثم أعطي نيابة ملطية، فلما مات الملك الأشرف قايتباي رجع إلى
مصر ووقعت له أمور في دولة الملك الناصر بن قايتباي، ثم أعطاه تقدمة
ألف، ثم في دولة جان بلاط أعطاه رأس نوبة النّوب، ثم تنقّلت به الأحوال
إلى أن صار سلطانا.
قال الشيخ مرعي الحنبلي في كتابه «نزهة الناظرين» : تولى الملك يوم
الاثنين عيد الفطر مستهل شوال سنة ست وتسعمائة بعد أن هاب أمر الجلوس
على تخت الملك، وجعل بعضهم يحيل على بعض في الجلوس عليه، فاتفقوا على
الغوري لأنهم رأوه [1] ليّن العريكة، سهل الإزالة- أي وقت أرادوا- وليس
الأمر كما ظنوا، فقال لهم أقبل ذلك بشرط أن لا تقتلوني بل إذا أردتم
خلعي وافقتكم، فاستوثق منهم وبويع بقلعة الجبل بحضرة الخليفة المستنصر
بالله والقضاة الأربع وأصحاب الحلّ والعقد، فأقام سلطانا خمس عشرة سنة
وتسعة أشهر وخمسة وعشرين يوما، وكان ذا رأي وفطنة كثير الدّهاء والعسف
قمع الأمراء وأذل المعاندين، حتّى اشتد ملكه وهيبته فهادته الملوك
وأرسلت قصادها إليه كملك الهند، واليمن، والمغرب، والرّوم، والمشرق،
والعبد، والزّنج، وفكّ الأسرى منهم، وكان له المواكب الهائلة، ومهد
طريق الحجّ بحيث كان يسافر فيه النّفر اليسير، وكانت فيه خصال حسنة،
وكان يصرف لمطبخ الجامع الأزهر في رمضان ستمائة وسبعين دينارا، ومائة
قنطار عسل، وخمسمائة إردب قمح للخبز المفرق فيه.
وفي أيامه بنى دائرة الحجر الشريف وبعض أروقة المسجد الحرام وباب
إبراهيم، وجعل علوه قصرا شاهقا وتحته ميضأة، وبنى عدة خانات وآبار في
طريق [2] الحج المصري، منها خان في العقبة والأزلم وأنشأ مدرسة بسوق
الجملون بالقاهرة والتربة المقابلة لها والمئذنة المعتبرة بالجامع
الأزهر، والبستان
__________
[1] في «ط» : «يروه» .
[2] في «أ» : (طرق) .
(10/160)
تحت القلعة، والمنتزه العجيب بالملقة،
وأنشأ مجرى الماء من مصر إلى القلعة، وعمر بعض أبراج الإسكندرية، وغير
ذلك من جوامع وقصور ومنتزهات، إلا أنه كان شديد الطّمع، كثير الظّلم
والعسف، مصادرا للناس في أخذ أموالهم، وبطل الميراث في أيامه بحيث كان
إذا مات أحد أخذ ماله جميعا. كذا قال القطبي، فجمع أموالا عظيمة وخزائن
وأمتعة، وافتتح اليمن، واتخذ مماليك لنفسه، فصاروا يظلمون الناس،
وأظهروا الفساد وأضروا العباد وهو يغضي عنهم ويحكى أن بعض مماليكه
اشترى متاعا ولم يرض صاحبه بقيمته، فقال له: شرع الله، فضربه بالدبوس
فشج رأسه، وقال: هذا شرع الله فسقط مغشيا عليه، وذهب بالمتاع ولم يقدر
أحد يتكلم، فرفع بعض الصّالحين يديه ودعا على الجندي وعلى سلطانه
بالزوال، ثم قالت له نفسه: كيف يزول ملك هذا السلطان العظيم الذي ملأت
جنوده وسطوته الأرض فلم يمض إلا قليل، ثم وقعت فتنة [1] بينه وبين
السلطان سليم ملك الرّوم بسبب إسماعيل شاه، فقصد كل منهما الآخر في
عسكرين عظيمين، فالتقيا بموضع يسمّى مرج دابق شمالي حلب بمرحلة، خامس
عشري رجب، فانهزم عسكر الغوري بمكيدة خير بك والغزّالي من جماعته، وفقد
الغوري تحت سنابك الخيل في مرج دابق، وأقام السلطان سليم بعد الوقعة في
بلاد الشام أشهرا، وأمر بعمارة قبر الشيخ محيي الدّين بن عربي بصالحية
دمشق.
ثم تولى في تلك المدة بمصر الملك الأشرف طومان باي الجركسي ابن أخي
الغوري، ووقع بينه وبين السلطان سليم حروب يطول ذكرها، ثم سلّم نفسه
طائعا فقتل بباب زويلة، وأمر السلطان سليم بدفنه بجانب مدفن الغوري
المشهور.
وبه انقرضت دولة الجراكسة.
وفي آخر أيام الغوري في حدود العشرين ظهرت الفرنج البرتقال [2] على
بنادر [3] الهند استطرقوا إليها من بحر الظلمات من وراء جبال القمر
منابع النيل، فعاثوا في أرض الهند، ووصل أذاهم وفسادهم إلى جزيرة العرب
وبنادر اليمن
__________
[1] ليست اللفظة في «ط» .
[2] قلت: ويعرفون الآن بالبرتغال.
[3] في «أ» : (البرتقان على بندار) .
(10/161)
وجدّة، فلما بلغ السلطان الغوري ذلك جهّز
إليهم خمسين غرابا مع الأمير حسين الكردي، وأرسل معه فيها [1] عسكرا
عظيما من التّرك والمغاربة واللوند، وجعل له جدّة أقطاعا، وأمره
بتحصينها، فلما وصل حسين الكردي شرع في بناء سورها وإحكام أبراجها،
وهدم كثيرا من بيوت الناس، مع عسف وشدة ظلم، بحيث بنى السّور جميعه في
دون عام ثم توجه بعساكره إلى الهند في حدود سنة إحدى وعشرين، فاجتمع
بسلطان كجرات خليل شاه فأكرمه وعظّمه، وهرب الفرنج عن البنادر لما
سمعوا بوصوله، ثم عاد حسين الكردي على اليمن فافتتحها من بني طاهر
ملوكها، وقتل سلاطينها في هذه السنة، وترك بها نائبا في زبيد اسمه
برسباي الجركسي، وتمّ الأمر الذي لا مزيد عليه له وللسلطان الغوري،
وإذا تمّ أمر بدا نقصه، ثم عاد حسين إلى جدّة، وقدم مكّة، فبلغه زوال
دولة الغوري.
وورد أمر السلطان سليم بقتل حسين الكردي فأخذه شريف مكّة بغتة وقيّده،
وشمّت به، وأرسله لبحر جدّة فغرّقه فيه.
فائدة: تولى مصر اثنان وعشرون سلطانا مسهّم الرّق من الجراكسة وغيرهم،
أيبك التركماني، وقطر المعزي، والظّاهر بيبرس، وقلاوون، وكتبغا،
ولاجين، وبيبرس الجاشنكير، وبرقوق، والمؤيد شيخ، وططر، وبرسباي، وجقمق،
وإينال، وخشقدم، وبلباي، وتمربغا، وقايتباي، وقانصوه، وطومان باي،
وجنبلاط، والغوري، وطومان باي، ابن أخيه آخر الدولة المصرية الجركسية،
ومما قيل فيه:
وكان شخصا حسن المجالسة ... وهو انتهاء مدّة الجراكسه
وعدة [2] سلاطين الجراكسة اثنان وعشرون أيضا، ومدتهم مائة وثمان
وأربعون سنة، والله أعلم.
وفيها القاضي بدر الدّين محمد بن أبي العبّاس أحمد البهوتي [3] المصري
العالم الشافعي.
__________
[1] ليست اللفظة في «ط» .
[2] في «ط» : (عدد) .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 31- 32) .
(10/162)
كان من أعيان المباشرين بمصر، وكان ذا ثروة
ووجاهة زائدة، حتّى هابه بنو الجيعان وغيرهم من أرباب الديوان، وكان قد
عرض بعض الكتب في حياة والده على الشّرف المناوي، والجلال البكري،
والمحبّ بن الشّحنة والسّراج العبادي، وغيرهم، وكان ملازما للشيخ محمد
البكري النازل بالحسينية، وله فيه اعتقاد زائد، ولما دخل السلطان سليم
مصر وتطلب الجراكسة ببيوت مصر وجهاتها خشي القاضي بدر الدّين على نفسه
وعياله، فحسن عنده أن يتوجه بهم إلى مصر القديمة عند صهره نور الدّين
البكري فأنزلهم في الشختور [ثم أتى مسرعا لينزل معهم فوضع قدمه على
حافة الشختور] [1] فاختلت به فسقط في النيل، فغرق، فاضطربوا لغرقه
فانحدر الشختور إلى الوطاق العثماني فظنوا أنهم من الجراكسة المتشبهين
بالنساء، فأحاطوا بهم وسلبوهم ما معهم بعد التّفتيش فبينما هم كذلك إذ
أتى زوجه القاضي بدر الدّين المخاض فرحمها شخص بقرب قنطرة قيدار فوضعت
ولدا ذكرا في منزله، وكان القاضي بدر الدّين يتمنى ذلك وينذر عليه
النّذور فلم يحصل إلّا على هذا الوجه وأحيط بماله وبما [2] جمعه
فاعتبروا يا أولي الأبصار، وكان ذلك في آخر هذه السنة.
وفيها محمد بن حسن، الشهير بابن عنان [3] الشيخ العالم الصالح الناسك
العارف بالله تعالى الشافعي الجامع بين علمي الشريعة والحقيقة.
قال المناوي في «طبقاته» إمام تقدم في جامع الإيمان، وعارف أشرقت بضوء
شمسه الأكوان، كثير التعبد، غزير التهجد، وافر الجلالة عليه القبول أي
دلالة عالي الرّتبة، لا يقاس به غيره، ولا يشبه عظيما في الديانة
ممدودا من الله بالإعانة، سلك طريق الهداية، واعتنى بالتصوف أتمّ
عناية، أخذ عنه الشعراوي، وقال: ما رأيت مثله، وكان مشايخ عصره بين
يديه كالأطفال، وله كرامات منها أنه أشبع خمسمائة فقير من عجين أمه،
وكان نصف [4] ويبة ومنها أنه كان بالإسكندرية
__________
[1] ما بين الرقمين سقط من «ط» .
[2] في «آ» : «وما» .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 39- 40) .
[4] في «ط» : (وصف) وهو تحريف.
(10/163)
رجل إذا غضب على رجل قال: يا قمل، رح إليه
فيمتلئ قملا فلا ينام ويعجز عن تنقيته، فذهب إليه، وقال: ما تعمل يا
شيخ القمل، وأخذه بيده ورماه في الهواء فلم يعرف له خبر.
ومنها أنه سافر هو والشيخ أبو العبّاس الغمري، فاشتد الحرّ، وعطش
الغمري وليس هناك ماء فأخذ ابن عنان طاسة وغرف بها من الأرض اليابسة،
وقال:
اشرب، فقال الغمري: الظّهور يقطع الظّهور، فقال: لولا خوف الظّهور
جعلتها بركة يشرب منها إلى يوم القيامة.
ومنها أنه أتى برجل أكل محارتين فسيخا وحملين تمرا في ليلة واحدة، فوضع
له رغيفا صغيرا في فمه فلم تزل تلك أكلته كل يوم حتّى مات، وكانت
أوقاته مضبوطة لا يصغي لكلام أحد ويقول: كل نفس مقوم على صاحبه بسنة
وغضب من أهل بلاده لعدم قبولهم الأمر بالمعروف، فقدم مصر، وسكن بسطح
جامع الغمري، وكان كل مسجد أقام به لا يقيم إلا على سطحه شتاء وصيفا،
وكان يقول لصحبه احرصوا عليّ إيمانكم في هذا الزّمان فإنه لم يبق مع
غالب الناس عمل يعتمد عليه، وأما الأعمال الصالحة فقد تودّع منها لكثرة
العلل فيها.
وقال: من أراد أن يسمع كلام الموتى في قبورهم فليعمل على كتم الأسرار،
فإن المانع من سماعه عدم القدرة على الكتمان. ولما احتضر بسطح جامع باب
البحر مات نصفه الأسفل فصلّى وهو قاعد فأضجعوه لما فرغ، فما زال يهمهم
بشفتيه والسّبحة في يده حتّى صعدت روحه، وذلك في شهر ربيع الأول عن نحو
مائة وعشرين سنة ودفن خلف محراب جامع المقسم وبنى عليه ولده [1] الشيخ
أبو الصّفا قبة وزاوية.
وفيها شمس الدّين محمد بن رمضان [2] الشيخ الإمام العالم العلّامة
الدمشقي مفتي الحنفية بها.
__________
[1] في «ط» : (والده) وهو خطأ.
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 49- 50) .
(10/164)
قال الحمصي: كان قد انعزل عن الناس وتنصّل
[1] من حرفة الفقهاء، ولازم العزلة إلى أن مات.
قال النّجم الغزّي: وكان سبب عزلته انقطاعه إلى الله تعالى على يد سيدي
علي بن ميمون، وكانت وفاة صاحب الترجمة في تاسع ربيع الآخر بدمشق.
وفيها أبو الفتح محمد بن عبد الرحيم بن صدقة [2] الشيخ الواعظ المصري.
قال في «الكواكب» : كان يعظ بالأزهر وغيره إلّا أنه تزوج بامرأة زويلية
فافتتن بها فيما ذكره العلائي حتّى باع «فتح الباري» و «القاموس»
وغيرهما من النفائس، وركبته ديون كثيرة، ثم خالعها وندم، وأراد
المراجعة، فأبت عليه إلّا أن يدفع إليها خمسين دينارا فلم يقدر إلّا
على ثلاثين منها فلم تقبل فبعث بها إليها، وبعث معها سمّا قاتلا. وقال:
إن لم تقبلي الثلاثين وإلّا أتحسى هذا السّمّ، فردّتها عليه فتحسى
السّمّ، فمات من ليلته في ربيع الأول. انتهى وفيها جمال الدّين محمد بن
الفقيه موى الضجاعي [3] ، أحد المدرّسين بمدينة زبيد.
قال في «النور» : كان فقيها عالما فاضلا.
توفي بزبيد يوم الخميس الثاني من صفر. انتهى.
__________
[1] في «أ» : «وتنقل» ورواية «ط» أجود لذلك أثبتها.
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 55- 56) .
[3] ترجمته في «النور السافر» (107- 108) .
(10/165)
سنة ثلاث وعشرين
وتسعمائة
فيها توفي برهان الدّين أبو إسحاق إبراهيم بن الأمير ناصر الدّين محمد
بن أبي بكر بن علي بن أيوب، المعروف بابن أبي شريف المقدسي المصري
الشافعي [1] الشيخ الإمام والحبر الهمام العلّامة المحقّق والفهّامة
المدقّق شيخ مشايخ الإسلام ومرجع الخاص والعام.
ولد بالقدس الشريف سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، ونشأ بها، واشتغل بفنون
العلم على أخيه الكمال بن أبي شريف، ورحل إلى القاهرة فأخذ الفقه عن
العلم البلقيني، والشّمس القاياتي والأصول عن الجلال المحلّي، وسمع
عليه في الفقه أيضا، وأخذ الحديث عن شيخ الإسلام ابن حجر وغيره، وتزوج
بابنة قاضي القضاة شرف الدّين يحيى المناوي، وناب عنه في القضاء،
ودرّس، وأفتى، ونظم، ونثر، وصنّف، وترجمه صاحب «الأنس الجليل» فيه في
حياته. وقال: ولي المناصب السّنية وغيرها من الأنظار بالقاهرة
المحروسة، واشتهر أمره وبعد صيته، وصار الآن المعوّل عليه في الفتوى
بالدّيار المصرية. قال: وهو رجل عظيم الشأن، كثير التواضع، حسن اللقاء،
فصيح العبارة، ذو ذكاء مفرط، وحسن ونظم ونثر، وفقه نفس، وكتابة على
الفتوى نهاية في الحسن، ومحاسنه كثيرة، وترجمته وذكر مشايخه يحتمل
الإفراد بالتأليف، ولو ذكرت حقّه في الترجمة لطال الفصل، ثم قال: قدم
من القاهرة إلى بيت المقدس سنة ثمان وتسعين وثمانمائة بعد غيبة طويلة،
ثم عاد إلى وطنه بالقاهرة. انتهى وقال ابن طولون: قدم دمشق يوم الجمعة
ثاني الحجة سنة ثمان وتسعين وثمانمائة، ونزل بالسميساطية، وقرأنا عليه
فيها.
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 102- 105) و «الأعلام» (1/ 66) .
(10/166)
وقال النّعيمي: فوض إليه قضاء مصر في تاسع
عشر ذي الحجّة سنة ست وتسعمائة عوض محيي الدّين بن النّقيب، أي وبقي في
القضاء إلى سنة عشر وتسعمائة فعزل بالشّهاب بن الفرفور كما ذكره
الحمصي، ثم أنعم عليه الغوري بمشيخة قبته الكائنة قبالة مدرسته الغورية
بمصر، واستمرّ في المشيخة إلى سنة تسع عشرة فوقعت حادثة بمصر وهي أن
رجلا اتّهم أنه زنى بامرأة، فرفع أمرهما إلى حاجب الحجاب بالدّيار
المصرية الأمير انسباي فضربهما فاعترفا بالزّنا، ثم بعد ذلك رفع أمرهما
إلى السلطان الغوري فاحضرا بين يديه، فذكر أنهما رجعا عما أقرّا به من
الزّنا قبل، فعقد السلطان لذلك مجلسا جمع فيه العلماء والقضاة الأربع،
فأفتى صاحب الترجمة بصحة الرجوع، فغضب السلطان لذلك، وكان المستفتي
القاضي شمس الدّين الزّنكلوني الحنفي وولده، فأمر السلطان بهما فضربا
في المجلس حتّى ماتا تحت الضّرب، وأمر بشنق المتهمين بالزّنا على باب
صاحب الترجمة فشنقا، وعزل صاحب الترجمة من مشيخة القبّة الغورية
والقضاة الأربعة: الكمال الطّويل الشافعي، والسّري بن الشّحنة الحنفي،
والشّرف الدّميري المالكي، والشّهاب الشّيشني الحنبلي، واستمرّ صاحب
الترجمة ملازما لبيته والناس يقصدونه للأخذ عنه والاشتغال عليه في
العلوم العقلية والنّقلية.
قال الشعراوي: وكان من المقبلين على الله عزّ وجل ليلا ونهارا، لا يكاد
يسمع منه كلمة يكتبها عليه كاتب الشمال، وكان لا يتردد لأحد من الولاة
أبدا، وكان يتقوت من مصبنة له بالقدس ولا يأكل من معاليم مشيخة الإسلام
شيئا، وكان قوّالا بالحقّ، آمرا بالمعروف، لا يخاف في الله لومة لائم،
وكان الناس يقولون:
جميع ما وقع للغوري بسر الشيخ. انتهى ومن فوائده ما ذكره الزّين ابن
الشّماع في «عيون الأخبار» قال: وقد حضرت دروسه [1] بالقاهرة سنة إحدى
عشرة فأتى بفوائد كثيرة، وختم المجلس بنكتة فيها بشارة جليلة، فقال ما
حاصله: اختم المجلس ببشارة عظيمة ظهرت في قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 15: 49 [الحجر: 49] قال: قوله
تعالى:
__________
[1] في «أ» : (درسه) .
(10/167)
نَبِّئْ 15: 49 أي يا محمد عِبادِي 15: 49
شرّفهم بياء الإضافة إلى تقدس ذاته فأوقع ذكرهم بينه وبين نبيه فعباد
وقع ذكرهم بين ذكر نبيهم وذكر ربّهم لا ينالهم إن شاء الله تعالى ما
يضرهم بل المرجو من كرم الله تعالى أن يحصل لهم ما يسرّهم. انتهى.
ومن مؤلفاته «شرح المنهاج» في أربع مجلدات كبار وشرح الحاوي وكتاب في
الآيات التي فيها الناسخ والمنسوخ وغير ذلك ومن شعره من قصيدة ختم بها
«صحيح البخاري» [1] :
دموعي قد نمّت بسرّ غرامي ... وباح بوجدي للوشاة سقامي
فأضحى حديثي بالصّبابة مسندا ... ومرسل دمعي من جفوني هامي
وتوفي في فجر يوم الجمعة ليومين بقيا من المحرم، ودفن بالقرب من ضريح
الإمام الشافعي رضي الله عنه.
وفيها شمس الدّين أحمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن زهير بن خليل
الرّملي ثم الدمشقي [2] الشافعي الإمام العلّامة.
ولد بالرّملة في ربيع الأول سنة أربع وخمسين وثمانمائة، ونشأ بها، وكان
يعرف قديما بابن الحلاوي، وبابن الشّقيع، ثم تحول إلى دمشق، وحفظ
«المنهاج» و «ألفية» النحو والحديث و «الشّاطبيتين» و «الدّرة في
القراءات الثلاث» وعرض على جماعة، وأخذ عن ابن نبهان، وابن عراق، وأبي
زرعة المقدسي، وابن عمران، وعمر الطّيبي، والزّين [خطّاب، والنور]
الهيثمي [3] ، والمحبّ بن الشّحنة، وابن الهائم، وجعفر السّنهوري،
وآخرين، وسمع على الجمال عبد الله بن جماعة خطيب المسجد الأقصى
«المسلسل بالأولية» وغيره وناب في الحكم بدمشق فحسنت سيرته، وولي مشيخة
الإقراء بجامع بني أمية وبدار الحديث الأشرفية، و «بتربة الأشرفية»
وبتربة أم الصّامح بعد الباقعي، وكان لازمه حين إقامته بدمشق وأخذ عنه
كثيرا وعادى أهل بلده أو الكثير منهم بسببه.
__________
[1] البيتان في «الكواكب» (1/ 104) .
[2] ترجمته في «الكواكب» (1/ 131) وما بين حاصرتين مستدرك.
[3] صاحب «مجمع الزوائد» .
(10/168)
قال السخاوي: وقصدني في بعض قدماته إلى
القاهرة، وأخذ عني، وأنشدني قصيدة من نظمه امتدح فيها الخيضري، وكان
نائبه في إمامة مقصورة جامع بني أمية. قال: وبالجملة فهو خفيف مع
فضيلة. انتهى وقال في «الكواكب» : ناب في إمامة الجامع الأموي عن
العلّامة غرس الدّين اللّدي، ثم لمامات استقلّ بها، فباشرها سنين حتّى
مات، وانتهت إليه مشيخة الإقراء بدمشق، وكان له مشاركة جيدة في عدة من
العلوم، وله نظم حسن.
وتوفي يوم السبت عشري ذي الحجة، ودفن بمقبرة باب الصغير.
وفيها الحافظ شهاب الدّين أبو العبّاس أحمد بن [محمد بن] [1] أبي بكر
بن عبد الملك بن أحمد بن محمد بن حسين بن علي القسطلاني المصري [2]
الشافعي الإمام العلّامة الحجّة الرّحلة الفقيه المقرئ المسند.
قال السخاوي: مولده ثاني عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وثمانمائة
بمصر، ونشأ بها وحفظ القرآن، وتلا للسبع، وحفظ «الشاطبية» و «الجزرية»
و «الوردية» وغير ذلك، وذكر له عدة مشايخ، منهم الشيخ خالد الأزهري
النحوي، والفخر المقسمي، والجلال البكري، وغيرهم، وأنه قرأ «صحيح
البخاري» في خمسة مجالس على الشّاوي، وتلمذ له أيضا، وأنه قرأ عليه-
أعني السخاوي- بعض مؤلفاته، وأنه حجّ غير مرة، وجاور سنة أربع وثمانين
وسنة أربع وتسعين، وأنه أخذ بمكة عن جماعة منهم النّجم بن فهد، وولي
مشيخة مقام سيدي الشيخ أحمد الحرّار بالقرافة الصّغرى، وعمل تأليفا في
مناقب الشيخ المذكور سمّاه «نزهة الأبرار في مناقب الشيخ أبي العبّاس
الحرار» وكان يعظ بالجامع العمري وغيره، ويجتمع عنده الجمّ الغفير، ولم
يكن له نظير في الوعظ، وكتب بخطّه شيئا كثيرا لنفسه ولغيره، وأقرأ
الطلبة، وتعاطى الشهادة، ثم انجمع وأقبل على التأليف، وذكر من تصانيفه
«العقود السّنية في شرح المقدمة الجزرية» و «الكنز في وقف حمزة
__________
[1] ليس ما بين الرقمين في «أ» .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 126- 127) .
(10/169)
وهشام على الهمز» وشرحا على «الشاطبية» زاد
فيه زيادات ابن الجزري، مع فوائد غريبة وشرحا على «البردة» سمّاه
«الأنوار المضية» وكتاب سمّاه «نفائس الأنفاس في الصّحبة واللباس» و
«الروض الزاهر في مناقب الشيخ عبد القادر» و «تحفة السامع والقاري بختم
صحيح البخاري» ورسائل في العمل بالربع المجيب. انتهى ما ذكره السخاوي
ملخصا وقال في «النّور» : ارتفع شأنه بعد ذلك، فأعطى السعد في قلمه،
وكلّمه وصنّف التصانيف المقبولة التي سارت بها الرّكبان في حياته، ومن
أجلها شرحه على «صحيح البخاري» مزجا في عشرة أسفار كبار لعله أجمع
شروحه وأحسنها وألخصها، ومنها «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» وهو
كتاب جليل المقدار، عظيم الوقع، كثير النّفع، ليس له نظير في بابه،
ويحكى أن الحافظ السيوطي كان يغضّ منه ويزعم أنه يأخذ من كتبه ويستمد
منها ولا ينسب النقل إليها، وأنه ادعى عليه بذلك بين يدي شيخ الإسلام
زكريا، فألزمه ببيان مدعاه فعدّد مواضع قال: إنه نقل فيها عن البيهقي،
وقال: إنه للبيهقي عدة مؤلفات فليذكر لنا ذكره في- أي مؤلفاته- لنعلم
أنه نقل عن البيهقي ولكنه رأى في مؤلفاتي ذلك النقل عن البيهقي فنقله
برمته، وكان الواجب عليه أن يقول نقل السيوطي عن البيهقي.
وحكى الشيخ جار الله بن فهد أن الشيخ- رحمه الله- قصد إزالة ما في خاطر
الجلال السّيوطي فمشى من القاهرة إلى الروضة إلى باب السّيوطي، ودق
الباب فقال له: من أنت؟ فقال: أنا القسطلاني جئت إليك حافيا مكشوف
الرأس ليطيب خاطرك عليّ، فقال له: قد طاب خاطري عليك ولم يفتح له الباب
ولم يقابله.
قال في «النّور» : وبالجملة فإنه كان إماما حافظا متقنا، جليل القدر،
حسن التقرير والتحرير، لطيف الإشارة، بليغ العبارة، حسن الجمع
والتأليف، لطيف الترتيب والترصيف، زينة أهل عصره ونقاوة ذوي دهره، ولا
يقدح فيه تحامل معاصريه عليه، فلا زالت الأكابر على هذا في كل عصر.
توفي ليلة الجمعة سابع المحرم بالقاهرة ودفن بالمدرسة العينية جوار
منزله.
انتهى
(10/170)
وقال في «الكواكب» : كان موته بعروض فالج
نشأ له من تأثره ببلوغه قطع رأس إبراهيم بن عطاء الله المكّي بحيث سقط
عن دابته وأغمي عليه، فحمل إلى منزله، ثم مات بعد أيام. انتهى وفيها
شهاب الدّين أحمد بن محمد بن علي الرّملي ثم الدمشقي الشافعي [1] ،
الشهير بابن الملّاح.
ولد سنة تسع وخمسين وثمانمائة، وكان على جانب كبير من العلم والدّيانة
وصفاء القلب، إماما في القراءات.
تولى مشيخة الإقراء بالمدرسة السيبائية والإمامة بها، وناب في إمامة
الأموي مرات.
وتوفي يوم الاثنين تاسع عشر شهر [2] رمضان.
وفيها المولى شجاع الدّين إلياس العالم الفاضل الرّومي [3] .
كان من نواحي قسطموني، واشتغل بالعلم، وتقدّم في الفضل، حتى صار معيدا
للمولى خواجه زاده ثم اشتغل بالتدريس، حتّى صار مدرسا بإحدى الثمانية
ثم أعطي تقاعدا، وكان كريم النّفس، متخشعا مشتغلا بنفسه، منقطعا عن
الخلق، يقال: إنه تجاوز التسعين.
وتوفي في هذه السنة.
وفيها نور الدّين أبو الفتح جعفر بن الشيخ صارم الدّين أبي [4] إسحاق
إبراهيم السّنهوري [5] المصري الشافعي المقرئ البصير الإمام العلّامة.
أخذ القراءات عن الشيخ شهاب الدّين أبي جعفر الكيلاني، المعروف بالحافظ
وغيره.
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 127- 128) .
[2] ليست اللفظة في «أ» .
[3] ترجمته في «الشقائق النعمانية» (168- 169) ، و «الكواكب السائرة»
(1/ 162) .
[4] في «ط» : (أبو) .
[5] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 172) .
(10/171)
وفيها- أو في التي بعدها- المولى خضر بك بن
المولى أحمد باشا الرّومي الحنفي [1] الشيخ العارف.
تربي في حجر والده، وحصّل فضيلة وافرة من العلم، وصار مدرّسا بمدرسة
السلطان مراد الغازي ببروسا، وانتفع به الطلبة وفضلوا عنده، ثم مال إلى
التصوف وتهذيب الأخلاق، وصار خاشعا، وقورا، ساكنا مهيبا، متأدبا،
متواضعا مراعيا لجانب الشريعة، حافظا لآداب الطريقة، مقبولا عند الخاص
والعام إلى أن توفي.
قاله في «الكواكب» .
وفيها السلطان الملك الظّافر عامر بن عبد الوهاب [2] سلطان اليمن.
قال في «النور» : كان على جانب عظيم من الدّين والتّقوى والمشي في طاعة
الله تعالى، لا تعلم له صبوة، وكان ملازما للطهارة والتّلاوة والأوراد،
لا يفتر عن ذلك آناء الليل وأطراف النهار، كثير الصّدقات وفعل
المبرّات، ومآثره بأرض اليمن من بناء المساجد والمدارس وغير ذلك مخلّدة
لذكره على الدوام، وموجبة لحلوله دار السلام في جوار الملك العلّام،
استمرّ ملكا تسعا وعشرين سنة، وفيه وفي أخيه صلاح الدّين يقول العلّامة
[ابن] الدّيبع [3] :
تحطّم من ركن الصّلاح مشيده ... وقوّض [4] من بنيانه كلّ عامر
فما من صلاح فيه بعد صلاحه ... ولا عامر والله من بعد عامر
وتوفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر شهيدا رحمه الله تعالى
انتهى.
وفيها المولى حليمي عبد الحليم بن علي القسطموني [5] المولد الرّومي
الحنفي العالم الفاضل.
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 188) .
[2] ترجمته في «النور السافر» ص (188) .
[3] في «أ» : «الزيبع» والبيتان في «النور السافر» ص (119) .
[4] في «أ» : «وتقوض» ولا يستقيم بها الوزن.
[5] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 223) .
(10/172)
اشتغل بالعلم، وخدم المولى علاء الدّين
العربي، ثم ارتحل إلى بلاد العرب، وقرأ على علمائها، وحجّ، ثم سافر إلى
بلاد العجم، وقرأ على علمائها، وصحب الصوفية، وتربى عند شيخ يقال له
المخدومي، ثم عاد إلى بلاد الرّوم واستقرّ بها، ثم طلبه السلطان سليم
الفاتح قبل جلوسه على سرير السلطنة وجعله إماما له وصاحبا فرآه متفننا
في العلوم، متحليا بالمعارف، فلما جلس على سرير السلطنة نصّبه معلما
لنفسه، وعيّن له كل يوم مائة عثماني، وأعطاه قرى كثيرة، ودخل معه بلاد
الشام ومصر.
وتوفي بدمشق بعد عوده في صحبة سلطانه إليها من مصر يوم الجمعة عشري
شوال، ودفن بتربة الشيخ محيى الدّين بن عربي إلى جانب الشيخ محمد
البلخشي [1] من القبلة.
وفيها العارف بالله تعالى عبد الرحمن بن الشيخ علي بن أبي بكر العيدروس
[2] الشافعي.
ولد سنة خمسين وثمانمائة، وقرأ على والده وغيره من الأعلام، فمن جملة
ما قرأ على والده «الإحياء» أربعين مرة، وكان يغتسل لكل فرض، ومن
مجاهداته وهو صغير أنه كان يخرج هو وابن عمه إلى شعب من شعاب تريم يقال
له النّعير بعد مضي نصف الليل، فينفرد كل منهما يقرأ عشرة أجزاء في
صلاة، ثم يرجعان إلى منازلهما.
وكان يحفظ «الحاوي» في الفقه، و «الوردية» في النحو، وكان يغطي إحدى
يديه فلا يكشفها لأحد [3] فألحّ عليه بعضهم أن يخبره بالسبب، فقال: كنت
شاعرا وامتدحت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم بجملة قصائد، ثم اتفق أن
قلت قصيدة في مدح بعض أهل الدنيا فرأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلم في
النّوم وهو يعاتبني على ذلك، ثم أمر بقطع يدي فقطعت فشفع في الصّدّيق،
فعادت والتحمت فانتبهت والعلامة ظاهرة في يدي، ثم كشف له عن يده فإذا
محل القطع نور يتلألأ.
__________
[1] في «أ» : (البلخثي) وهو تحريف.
[2] ترجمته في «النور السافر» (112- 113) .
[3] ليست اللفظة في «ط» .
(10/173)
وممن أخذ عنه من أكابر العلماء الفقيه عبد
الله باقشير [1] والفقيه عمر باشيبان.
وتوفي في المحرّم بتريم ودفن بها. قاله في «النّور» .
وفيها زين الدين عبد الرحمن الصالحي الشافعي الإمام العالم الصالح
المحدث توفي بالقاهرة في صفر.
وفيها عبد الفتاح بن أحمد بن عادل باشا الحنفي العجمي [2] الأصل ثم أحد
موالي الرّوم.
كان عالما محقّقا، وله خط حسن.
قرأ على جماعة، منهم المولى محيي الدّين الإسكليبي، والمولى عبد الرحمن
بن المؤيد، ثم صار مدرّسا بمدرسة المولى يكان ببروسا، ثم بمدرسة أحمد
باشا بن ولي الدّين بها بمدرسة إبراهيم باشا بالقسطنطينية، ومات وهو
مدرّس بها.
وفيها كريم الدّين عبد الكريم بن الأكرم الدمشقي الحنفي [3] القاضي
الشيخ العلّامة.
توفي بمنزله بالعنابة خارج دمشق يوم الخميس سادس عشر صفر، ودفن بمقبرة
الشيخ أرسلان. قاله في «الكواكب» وفيها الشيخ عبد النّبي المغربي [4]
المالكي الشيخ الإمام العلّامة الحجّة القدوة الفهّامة مفتي السادة
المالكية بدمشق، أحد إخوان سيدي علي بن ميمون.
توفي بدمشق يوم الجمعة ثالث عشري شهر رمضان ووافق حضور جنازته بالجامع
الأموي حضور [5] السلطان سليم فصلّي عليه مع الجماعة.
__________
[1] في «أ» : (كبار العلماء الفقيه عبد الله باتشير) وفيه تحريف.
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 240) ، و «الطبقات السنية» (4/
362) .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 255) .
[4] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 256) .
[5] ليست اللفظة في «ط» .
(10/174)
وفيها ولي الله عبد الهادي الصّفوري [1] ثم
الدمشقي الشافعي الشيخ الصّالح الصّوفي المسلك المربي.
توفي بمنزله بمحلة قبر عاتكة يوم الأحد سادس عشر شوال، ودفن بتربة
بالقرب من مسجد الطالع بالمحلّة المذكورة وتعرف الآن بالدقّاقين وقبره
الآن ظاهر يزار.
وفيها محبّ الدّين المقدسي [2] إمام المسجد الأقصى الشيخ العلّامة.
قاله في «الكواكب» .
وفيها شمس الدّين محمد بن حسين الدّاديخي ثم الحلبي [3] الشافعي المقرئ
المجود.
كان ديّنا خيّرا، له أخلاق حسنة. أخذ القراءات عن مغربي كان بداديخ،
وبرع فيها وفي غيرها، وأخذ عن البازلي بحماة، وعن البدر السّيوفي بحلب
وهما أجلّ شيوخه، وكان يشغل الطلبة في قبّة بجامع عيسى ويؤدّب الأطفال.
وفيها كمال الدّين محمد بن العلّامة شمس الدّين محمد بن داود البازلي
الكردي الأصل الحموي [4] الشافعي الإمام العالم العلّامة.
قال الحمصي: باشر نيابة القضاء بدمشق ومشيخة المدرسة الشامية، وكان
عالما مفنّنا.
توفي بدمشق يوم السبت تاسع عشري شوال، وكان والده إذ ذاك حيّا.
انتهى وفيها شمس الدّين محمد بن نصير الدمشقي الميداني الضّرير المقرئ
[5] المجوّد العلّامة النّحوي.
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 256) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 306) .
[3] ترجمته في «در الحبب» (2/ 1/ 79) ، و «الكواكب السائرة» (1/ 40) .
[4] ترجمته في «متعة الأذهان» (ق 99) ، و «الكواكب السائرة» (1/ 20-
21) .
[5] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 72) وفيه «محمد بن نصر» .
(10/175)
كان من أهل العلم بالقراءات، وله في النحو
مؤلفات، منها كتاب مطول سمّاه «ذخر الطلاب في علم الإعراب» وكتاب مختصر
سمّاه «تنقيح اللّباب فيما لا بد أن يعتنى به في فنّ الإعراب» .
وكان فقيرا من الدّنيا، وكان ابن طولون يتردد إليه كثيرا، وانتفع به
جماعة.
وتوفي يوم الخميس قبل المغرب سابع عشري صفر ودفن بمقبرة الجوزة بمحلّة
الميدان.
قال في «الكواكب» : وفيها سادات كالشيخ إبراهيم القدسي كاتب المصاحف،
وكانت وفاته قبل القرن [1] العاشر في ثاني رمضان سنة أربع وتسعين
وثمانمائة. انتهى وفيها محيي الدّين محمد بن يعقوب الرّومي الحنفي،
الشهير باجه زاده الإمام العالم. [2] قرأ على علماء عصره، ثم وصل إلى
خدمة المولى خطيب زاده، ثم ولي الولايات، وتنقل فيها حتّى صار قاضي
بروسا، ثم عزل، ومات معزولا.
قال في «الشقائق» : كان عالما، فاضلا، ذكيا، سليم الطبع، مبارك النّفس
مقبلا على الخير متواضعا متخشعا صاحب كرم وأخلاق. انتهى وفيها مفتي
زبيد [3] وعالمها كمال الدين موسى بن زين العابدين بن أحمد بن أبي بكر
الرداد البكري الصّدّيق الشافعي [4] الجهبذ المصقع المدقّق.
قال في «النّور» : كان شافعي زمانه، ورئيس أقرانه علما وعملا، بحرا من
بحار العلم، وجبلا من جبال الدّين، له القدم الراسخة في المذهب والباع
الطويل في كل مشرب، رحل [5] إليه الطالبون، ورغب في الأخذ عنه
الراغبون، وتفقه
__________
[1] في «ط» : «قبل المغرب» خطأ.
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 72) .
[3] جاءت هذه الترجمة في الأصل بعد آخر ترجمتين في هذه السنة.
[4] ترجمته في «النور السافر» ، (115- 116) .
[5] في «أ» : «زهد» ولعلها مصحفة عن «نهد» رواية «النور السافر» .
(10/176)
بالقاضي الطّيب النّاشري، ونجم الدّين
المقري الجبائي وغيرهما، وروى فقه الإمام الشافعي من طريق العراقيين
والمراوزة عن الإمام علي بن عطيف نزيل مكة وأهل طبقته، وأفتى ودرّس،
وانتشر صيته في جميع الآفاق، واعترف له الأكابر بالإمامة، وقصد للفتوى
من كل نجد، وتهامة، وتفقه به الجلّة، منهم ابنه المحقّق فخر الدّين أبو
بكر، وأبو العباس الطبنداوي [1] ، وغيرهما، وله الأجوبة الرائقة
والبحوث الفائقة والمصنّفات المقبولة والشروح المتداولة المنقولة، منها
«الكوكب الوقّاد شرح الإرشاد» في أربع وعشرين مجلدا، وله شرح صغير على
«الإرشاد» وفتاوى جمعها ولده ورتبها ترتيبا حسنا، وزاد عليها زيادات لا
غناء عنها.
قال تلميذه الناشري: اتفق له ما لم يتفق لأحد قبله وذلك أنه زرع البرّ
في أرضه واستغله وحرث غيره، وكان غالب قوته في غالب الأحوال اللوز
والعسل، ومن نعم الله عليه أنه مكث أربعين سنة ما رزئ بأحد من بيته ولم
تخرج من بيته جنازة.
وتوفي عصر يوم الجمعة التاسع والعشرين من المحرم. انتهى وفيها نصوح
الطّوسي [2] العارف بالله تعالى.
قال في «الكواكب» : كان عالما صالحا، يحفظ القرآن العظيم، ويكتب الخطّ
الحسن، ثم انتسب إلى الطريقة الزّينبية، وخدم الشيخ تاج الدّين
القرماني، وبلغ عنده رتبة الإرشاد، وقعد على سجادة التربية بعد وفاة
الشيخ صفي الدّين في زاوية شيخه المذكور، ومات في وطنه. انتهى وفيها
شرف الدّين يونس بن إدريس بن يوسف الحلبي ثم الدمشقي [3] الشافعي
الصّوفي، الهمداني الخرقة، الصّالح المسلّك.
ولد بمدينة حلب سنة سبع وستين وثمانمائة، واشتغل على جماعة في عدة
__________
[1] في «ط» : «الضبذاوي» .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 311) وهذه الترجمة والتي تليها
تقدمتا على ترجمة مفتي زبيد المتقدمة في النسخة «آ» .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 320) ، و «متعة الأذهان» (ق 109)
.
(10/177)
فنون، وتوجه إلى مكة ثلاث مرات، وجاور في
حدود الثمانين، وسمع بها الحديث على السّخاوي، والمحبّ الطّبري وولده
أبي السعادات، وقرأ عليه في النحو، ولبس الخرقة الهمدانية، وتلقن الذكر
من السيد عبيد الله التّستري الهمداني، وصار له أتباع كثيرون يتداولون
الأوراد الصحيحة بالمدرسة الرّواحية بحلب، وهاجر إلى دمشق وأقام بدار
الحديث بقرب قلعة دمشق.
وتوفي بدمشق يوم الاثنين عشري [شعبان]
(10/178)
سنة أربع وعشرين
وتسعمائة
فيها توفي برهان الدّين إبراهيم بن قاسم بن محمد، الشهير بابن الكيّال
[1] الدمشقي الشافعي الفاضل المحدّث.
توفي يوم الثلاثاء حادي عشر صفر، ودفن بمقبرة باب الصغير. قاله في
«الكواكب» .
وفيها شهاب الدّين أحمد بن علي بن إبراهيم [2] الباعوني [3] الأصل من
قرية باعونة بالموصل الحلبي المولد والدار والوفاة الشاعر، المعروف
بابن الصوّاف، والمعروف أبوه بالصّغير- بالتصغير-.
كان أديبا شاعرا، ذكره جار الله بن فهد في رحلته إلى حلب سنة اثنتين
وعشرين وتسعمائة، وذكره في «معجم الشعراء» الذين [4] سمع منهم الشعر.
وأنشد له [5] :
روحي الفداء لذي لحاظ قد غدت ... بسوادها البيض الصّحاح مراضا
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 109) ، و «متعة الأذهان» (ق 26) .
[2] ترجمته في «الضوء اللامع» (2/ 257) ، و «در الحبب» (1/ 1/ 141) ، و
«الكواكب السائرة» (1/ 139) .
[3] في «در الحبب» : (الباغوزي الأصل- من باغوزا: قرية من قرى الموصل
... المعروف بابن الصّوّا) .
[4] في «أ» : (الذي) وهو خطأ.
[5] البيتان في «الكواكب» (1/ 139) ، و «در الحبب» (1/ 144) .
(10/179)
كالغصن قدّا والنّسيم لطافة ... والياسمين
ترافة [1] وبياضا
وله قصيدة التزم فيها واوين أول كل بيت وآخره مطلعها [2] :
وواد به [3] الغيد الحسان قد استووا ... وورد ظباء الحيّ في ظلّه ثووا
توفي بالحريق في داره بحلب.
وفيها شهاب الدّين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر الشهير
بابن بريّ الخالديّ البابي الحلبي ثم الدمشقي [4] الحنفي الصّوفي.
ولد في ثالث صفر سنة أربعين وثمانمائة، وكان من أعيان الناس الصلحاء.
وتوفي بدمشق يوم الأحد سادس عشر [5] رجب ودفن بمقبرة الحمرية.
وفيها زين الدّين عبد الرحمن بن جماعة المقدسي الشافعي [6] العلّامة
شيخ الصّلاحية بالقدس الشريف.
توفي بالقدس في هذه السنة، وصلّي عليه وعلى الشيخ عبد القادر الدشطوطي
غائبة بجامع بني أمية بدمشق يوم الجمعة ثاني عشر رمضان. قاله في
«الكواكب» .
وفيها الشيخ زين الدّين عبد القادر بن محمد الشيخ الصالح المعمّر
المعتقد المجرّد العفيف العارف بالله تعالى الدّشطوطي [7] كذا ضبطه
العلائي، وضبطه السخاوي في «الضوء» الطشطوطي- بطاءات مهملات بينهما شين
معجمة وواو، نسبة إلى دشطوط من قرى الصعيد-.
__________
[1] في «ط» : «براقة» وفي «الكواكب» : (تراقة) وكلاهما تحريف، وما
أثبته عن «در الحبب» . وترف النبات تروى «لسان العرب» (ترف) .
[2] البيت في «در الحبب» (1/ 1/ 141) ، وفي «الكواكب» (1/ 139) .
[3] في «أ» : (فيه) ولا يستوي بها الوزن.
[4] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 128) .
[5] في «أ» : «عشري» وليست اللفظتان في «الكواكب» .
[6] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 232) .
[7] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 246- 250) ، وفي «الضوء اللامع»
(4/ 300- 301) .
(10/180)
قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي في «طبقاته»
: هو المعروف بالكرامات المشهورة بخوارق الآيات البينات والكشف العام
والقبول التام عند الملوك فمن سواهم من الأعلام ذوو الصّفات التي
اشتهرت والعجائب التي بهرت عند ما ظهرت.
كان ضريرا وعمّر جوامع بمصر وقرارها، ووقف الناس عليها [1] أوقافا
كثيرة، ومن كلامه أوصيك بعدم الالتفات لغير الله تعالى في شيء من أمر
الدّارين، فإن جميع الأمور لا تبرز إلّا بأمره فارجع فيها لمن قدرها.
وقال: إذا استحكمت هيبة الله في قلب عبد أخذ عن إدراك التكليف، وقامت
به حالة حالت بينه وبين الحركة والصّلاة، وصار عليه كل بلاء أهون من
صلاة ركعتين.
وقال في بعض الكتب المنزلة يقول الله: «يا عبدي لو سقت لك ذخائر
الكونين فنظرت بقلبك إليها طرفة عين فأنت مشغول عنّا لا بنا» .
وكان صاحيا لكنه حافيا مكشوف الرأس، عليه جبّة حمراء، وكان لقبه بين
الأولياء صاحب مصر. توقف النيل ثم هبط أيام الوفاء ثلاثة أذرع فخاض في
البحر وقال: اطلع بإذن الله فطلع فورا، فاقتتل الناس عليه يتبركون به،
وحجّ ماشيا حافيا طاويا، فلما وصل باب السلام وضع خدّه على العتبة فما
أفاق، إلّا بعد ثلاث، وكان يرى مع الدليل تارة ومع السّاقة أخرى ويخفي
ويظهر، وكان قايتباي إذا زاره يمرّغ وجهه على أقدامه. وقال: طلبت من
الله مقام الحضور بين يديه فتجلى لي من حضرته أمر ذابت منه مفاصلي،
وصرت أطلب طلوع روحي فما أجاب، فتوسلت بالمصطفى صلّى الله عليه وسلم
فرحمني وأسدل عليّ الحجاب. ولما عمّر القبة التي دفن بها بزاويته صار
يقول للشيخ جلال الدّين البكري: أسرع فالوقت قرب، وقال له:
لا تجعل لأحد من الشهود والقضاة وظيفة في زاويتي إنما جعلت وقفها [2]
لمكشفي الركب من كل مقيم ووارد. انتهى
__________
[1] في «ط» : (عليه) .
[2] في «ط» : «إنما جعلتها وقفا» .
(10/181)
وبالجملة فمناقبه كثيرة.
وترجمه الحافظ السيوطي بالولاية، وألّف بسببه تأليفا في تطور الولي ذكر
في أوله أن سبب تأليفه أن رجلين من أصحاب الشيخ المذكور حلف كل واحد
منهما أن الشيخ عبد القادر بات عنده ليلة كذا، فرفع إليه سؤال في حكم
المسألة. قال:
فأرسلت إلى الشيخ عبد القادر وذكرت له القصة، فقال: لو قال أربعة إني
بتّ عندهم لصدقوا.
قال السيوطي: فأجبت بأنه لا يحنث واحد منهما، ثم حمل ذلك على تطور
الولي وهو جزء لطيف حافل نقل فيه كلام فحول العلماء، كابن السبكي،
والقونوي، وابن أبي المنصور، وعبد الغفّار القوصي، واليافعي رضي الله
تعالى عنهم وعنه.
وفيها قوام الدّين أبو يزيد [1] محمد بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر بن
نصر [2] بن عمر بن هلال الحبيشي الأصل الحلبي الشافعي العلّامة.
قال في «الكواكب» : كان عالما فاضلا مناظرا، له حدة في المناظرة، وذكاء
مفرط، وحفظ عجيب، حفظ «الشاطبية» وعرضها بحلب سنة ثلاث وثمانين
وثمانمائة، وسافر مع أبيه إلى بيت المقدس فعرض أماكن منها، ومن
«الرائية» على إمام الأقصى عبد الكريم بن أبي الوفا، ثم جاور بمكة
سنين، واشتغل بها، وسمع مع أبيه على الحافظ السخاوي، ثم عاد من مكة إلى
حلب، واشتغل على عالمها البدر السّيوفي، فقرأ عليه «الإرشاد» لابن
المقري، وسمع بقراءته الشيخ زين الدّين بن الشمّاع، ودرّس بجامع حلب
ووعظ به، وكان يأتي في وعظه بنوادر الفوائد. وسرد مرّة النّسب النّبوي
طردا وعكسا، ثم أعرض عن ذلك وصار صوفيا بسطاميا كأبيه يلف المئزر ويرخي
له عذبة رعاية للسّنّة، وكانت وفاته في حياة أبيه في شوال بحلب. انتهى
__________
[1] ترجمته في «الضوء اللامع» (7/ 191- 193) ، و «در الحبب» (1/ 2/
155- 157) ، و «الكواكب السائرة» (1/ 27) .
[2] في «أ» : «مضر» وكذا هي في «در الحبب» .
(10/182)
سنة خمس وعشرين
وتسعمائة
وفيها توفي شهاب الدّين أحمد بن القاضي محيي الدّين عبد القادر
النّبراوي [1] المصري الحنبلي الشّاب الفاضل.
توفي يوم الخميس خامس عشري ربيع الأول.
وفيها شهاب الدّين أبو العبّاس أحمد بن عبد الملك بن علي بن عبد الله
الموصلي [2] الشّيباني المقدسي ثم الدمشقي الشافعي الصّوفي الصالح
الورع الزّاهد العابد المحقّق المسلّك. أحد مشايخ الصّوفية بدمشق
والقدس، وشيخ زاويتي جدّه بهما.
ولد بالقدس في ربيع الأول سنة أربع وأربعين وثمانمائة، وأخذ عن القطب
الخيضري وغيره، ولبس الخرقة من ابن عمّه الشيخ زين الدّين عبد القادر
بلباسه لها من والده الشيخ إبراهيم بلباسه لها من يد والده الشيخ
العارف بالله تعالى سيدي أبي بكر الموصلي وهو جدّ المترجم أيضا.
قال ابن طولون: جالسته كثيرا بالجامع الأموي، وانتفعت به، وأجاز لي
شفاها غير مرّة، وكتبت عنه أشياء. انتهى وتوفي يوم الاثنين حادي عشري
ذي القعدة، ودفن جوار قبر الشيخ إبراهيم النّاجي بباب الصغير.
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 137) .
[2] ترجمته في «الضوء اللامع» (1/ 374) ، و «متعة الأذهان» (ق 6) ، و
«الكواكب السائرة» (1/ 137) .
(10/183)
وفيها شهاب الدّين أحمد الحسامي [1]
القاهري الشافعي الإمام العلّامة المحقّق المجد الصّوفي.
كان بارّا بأمّه، قائما بمصالحها، صابرا، متواضعا، يخدم نفسه ويشتري
حوائجه من السوق ويحملها بنفسه، ولا يمكّن أحدا يحملها عنه، وكان يتعمم
بالقطن من غير قصارة وثيابه قصيرة اقتداءا بالسّلف، وكان ملازما
للطهارة، لا يكاد يدخل عليه وقت وهو محدث، وكان كثير الصّمت، قليل
الكلام، تجلس معه اليوم واليومين فلا تسمع منه كلمة لغو، كثير الصّيام
والقيام، يقوم النصف الثاني من الليل كل ليلة، وكان يتورع عن صدقات
النّاس ولا يقبل هدية من أحد، وأخذ التصوف عن الشيخ علي المرصفي، وكان
يذهب إلى مجلسه كل يوم جمعة، وكان العلماء مع ذلك يرجعون إليه في
المعقولات ويعدلونه في العربية بابن مالك، وابن هشام.
وتوفي بالقاهرة يوم الثلاثاء خامس عشر ربيع الثاني.
وفيها- تقريبا- المولى إدريس بن حسام الدّين [البدليسي] العجمي [2] ثم
الرّومي الحنفي العالم الفاضل.
قال في «الشقائق» : كان موقّعا لديوان أمراء العجم، ولما حدثت فتنة ابن
أردويل ارتحل إلى الرّوم فأكرمه السلطان أبو يزيد غاية الإكرام، وعيّن
له مشاهرة ومسانهة، وعاش في كنف حمايته عيشة راضية، وأمره أن ينشئ
«تواريخ آل عثمان» بالفارسية فصنّفها، وكان عديم النّظير فاقد القرين
بحيث أنسى الأقدمين ولم يبلغ إنشاءه أحد من المتأخرين، وله قصائد
بالعربية والفارسية تفوت الحصر، وله رسائل عجيبة في مطالب متفرقة.
وبالجملة كان من نوادر الدهر ومفردات العصر. انتهى وفيها بدر الدّين
حسن بن إبراهيم بن أحمد بن خليل بن أحمد بن
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 153) .
[2] ترجمته في «الشقائق النعمانية» ص (190- 191) و «الكواكب السائرة»
(1/ 159- 160) وما بين الحاصرتين مستدرك منهما.
(10/184)
عثمان بن عيسى بن عمر بن علي بن سلامة
العجمي [1] الأصل المقدسي ثم الصالحي الحنبلي.
حفظ «المحرّر» للمجد بن تيمية وحلّه على شارحه الشيخ علاء الدّين
البغدادي، ولازم شيخ الحنابلة الشّهاب العسكري في الفقه، وقرأ «توضيح»
ابن هشام على الشّهاب بن شكم، ولازمه مدة طويلة، وتسبّب بالشهادة في
مركز العشر.
وتوفي يوم الخميس حادي عشر المحرم بالصالحية، ودفن بتربة القاضي علاء
الدّين الزواوي.
وفيها بدر الدّين حسن بن علي بن يوسف بن المختار الإربلي الأصل الحصكفي
[2] الحلبي الشافعي الشهير بابن السّيوفي العلّامة شيخ الإسلام.
ولد- تقريبا- كما ذكره السخاوي في «الضوء اللامع» في سنة خمسين
وثمانمائة بحصن كيفا، ونشأ به وحفظ القرآن العظيم، و «المنهاج» للنووي،
و «الإرشاد» لابن المقري و «ألفيتي» العراقي في الحديث، وفي «السيرة» و
«منهاج البيضاوي» الأصلي، و «الطوالع» له أيضا و «الشاطبية» و «الكافية
لابن الحاجب» و «الألفية لابن مالك» و «تصريف العزّي» و «الشمسية» وقرأ
«الشّاطبية» والقرآن العظيم بمضمونها على ابن مبارك شاه الهروي، وهو
علي الجلال الهروي، وهو على ابن الجزري، وقرأ على الهروي المذكور في
العروض، وأنهى عليه كتاب «القسطاس» للزمخشري. قرأه بحلب وقرأ أيضا بعض
السبع على أبي الحسن الجبرتي نزيل سطح الجامع الأزهر في دخلته إلى
القاهرة، وقرأ ثمن حزب أو دونه للأربعة عشر على الزّين جعفر السّنهوري،
وأخذ الفقه وغيره بها عن الشّمس الجوجري، وسمع عليه وأخذ بالقدس عن
الكمال بن أبي شريف، وأجازه وأخذ الفقه والحديث أيضا عن الشمس السّلامي
الحلبي بها والأصول والمنطق والمعاني والبيان عن علي قرا درويش،
والحديث أيضا عن البرهان الحلبي، وقرأ عليه «الصحيحين» و «الشفا»
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 176) و «السحب الوابلة» (148) .
[2] ترجمته في «الضوء اللامع» (3/ 118- 119) ، و «الكواكب السائرة» (1/
178- 180) .
(10/185)
وعن الشيخ نصر الله «كافية ابن الحاجب» وعن
منلا زادة «تفسير البيضاوي» والنحو عن المنلا عبد الرحمن الجامي، وحجّ
سنة ست وستين وثمانمائة فأخذ بمكة عن التّقي بن فهد، وسمع بدمشق على
الشيخ عبد الرحمن بن خليل الأذرعي، وأخذ عن البرهان البقاعي، وأجازه
بالإفتاء والتدريس جماعة وصار أعجوبة زمانه وواسطة عقد أقرانه، ثم
تصدّر ببلده للإفادة، وانتفع الناس به، وصار شيخ بلده ومفتيها ومحقّقها
ومدقّقها، مع الديانة والصّيانة.
قال في «الكواكب» : غير أنه كان يكثر الدعوى والتّبجح والمشاححة لطلبة
العلم في الألفاظ وغيرها، وكان طويل القامة، نيّر الشّيبة، مهيبا، يخضب
لحيته بالسواد في أول شيبه ثم ترك آخرا.
ومن مؤلفاته حاشية على «شرح المنهاج» للمحلّي وحاشية على «شرح الكافية
المتوسط» .
ومن شعره:
إذا ما نالت السّفهاء عرضي ... ولم يخشوا من العقلاء لوما
كسوت من السكوت فمي لثاما ... وقلت نذرت للرحمن صوما
وتوفي بحلب في ربيع الأول بعد أن ألمت به كائنة بغير حق من قبل قاضي
حلب زين العابدين محمد بن الفناري.
وفي «تاريخ ابن طولون» أنه مات قهرا بسبب تلك الكائنة ولم تطل [1] مدة
القاضي بعده.
وفيها شيخ الإسلام قاضي القضاة زين الدّين الحافظ زكريا بن محمد بن
أحمد بن زكريا الأنصاري [2] السنيكي ثم القاهري الأزهري الشافعي.
قال في «النور» : ولد سنة ست وعشرين وثمانمائة بسنيكة من الشرقية ونشأ
__________
[1] في «أ» : (تطلب) .
[2] ترجمته في «الضوء اللامع» (3/ 234- 239) ، و «متعة الأذهان» (ق 39-
40) ، و «الكواكب السائرة» (1/ 196- 207) و «النور السافر» (120- 124)
.
(10/186)
بها وحفظ القرآن، و «عمدة الأحكام» وبعض
«مختصر التبريزي» ثم تحول إلى القاهرة سنة إحدى وأربعين فقطن في جامع
الأزهر وكمل. حفظ «المختصر» ثم «حفظ المنهاج» الفرعي و «الألفية
النحوية» و «الشّاطبية» و «الرائية» وبعض «المنهاج الأصلي» ونحو النصف
من «ألفية الحديث» ومن «التسهيل» إلى كاد، وأقام بالقاهرة يسيرا ثم رجع
إلى بلده وداوم الاشتغال وجدّ فيه، وكان ممن أخذ عنه القاياتي والعلم
البلقيني والشّرف السّبكي والشّموس الوفائي، والحجازي، والبدرشي،
والشّهاب بن المجدي، والبدر النّسابة والزّين البوشنجي، والحافظ ابن
حجر، والزّين رضوان في آخرين، وحضر دروس الشرف المناوي، وأخذ عن
الكافيجي، وابن الهمام، ومن لا يحصى كثرة، ورجع إلى القاهرة فلم ينفك
عن الاشتغال والإشغال مع الطريقة الجميلة والتواضع وحسن العشرة والأدب
والعفّة والانجماع عن أبناء الدنيا، مع التقلل وشرف النّفس، ومزيد
العقل وسعة الباطن والاحتمال والمداراة، وأذن له غير واحد من شيوخه في
الإفتاء والإقراء، منهم شيخ الإسلام ابن حجر، وتصدى للتدريس في حياة
شيوخه، وانتفع به الفضلاء طبقة بعد طبقة، وشرح عدة كتب وألّف ما لا
يحصى كثرة، فلا نطيل بذكرها إذ هي أشهر من الشمس، وقصد بالفتاوى، وزاحم
كثيرا من شيوخه فيها، ورويته أحسن من بديهته وكتابته أمتن من عبارته،
وعدم مسارعته إلى الفتاوى يعد من حسناته، وله الباع الطويل في كلّ فنّ
خصوصا التصوف وولي تدريس عدة مدارس إلى أن رقي إلى منصب قضاء القضاة
بعد امتناع كثير وذلك في رجب سنة ست وثمانين واستمر قاضيا مدة ولاية
الأشرف قايتباي ثم بعد ذلك إلى أن كفّ بصره فعزل بالعمى، ولم يزل ملازم
التدريس والإفتاء والتصنيف وانتفع به خلائق لا يحصون، منهم ابن حجر
الهيثمي. وقال في «معجم مشايخه» : وقدمت شيخنا زكريا لأنه أجلّ من وقع
عليه بصري من العلماء العاملين والأئمة الوارثين وأعلى من عنه رويت
ودريت من الفقهاء الحكماء المهندسين، فهو عمدة العلماء الأعلام وحجّة
الله على الأنام، حامل لواء المذهب الشافعي على كاهله، ومحرّر مشكلاته،
وكاشف عويصاته، في بكره وأصائله، ملحق الأحفاد بالأجداد، المتفرد في
زمنه بعلو الإسناد كيف ولم يوجد في عصره إلّا من أخذ عنه مشافهة أبو
بواسطة أو بوسائط
(10/187)
متعددة، بل وقع لبعضهم أنه أخذ عنه مشافهة
تارة وعن غيره ممن بينه وبينه نحو سبع وسائط تارة أخرى، وهذا لا نظير
له في أحد من أهل عصره، فنعم هذا التمييز الذي هو عند الأئمة أولى به
وأحرى لأنه حاز به سعة التلامذة والأتباع وكثرة الآخذين عنه ودوام
الانتفاع. انتهى وتوفي- رحمه الله تعالى- يوم الجمعة رابع ذي الحجّة
بالقاهرة، ودفن بالقرافة بالقرب من الإمام الشافعي رضي الله عنه، وجزم
في «الكواكب» بوفاته في السنة التي بعدها، وقال: عاش مائة وثلاث سنين
انتهى.
وفيها عبد الله بن أحمد باكثير- بفتح الكاف وكسر المثلثة- الحضرمي [1]
ثم المكيّ الشافعي.
قال في «النّور» : ولد في سنة ست أو سبع وأربعين وثمانمائة بحضر موت،
ونشأ بها سبع سنين، ونقله والده إلى غيل باوزير فحفظ القرآن في سنة
وعمره ثمان سنين، وحفظ «المنهاج» و «البهجة» لابن الوردي، و «خلاصة ابن
ظفر» و «ألفية ابن مالك» وغيرها ثم سأل والده الاجتماع بشيخ من الصوفية
فأشار عليه بالشيخ عبد الله العيدروس فتوجه إلى تريم وأخذ عنه وتربى
على يديه وكان يقول لو أجتمع شيوخ الرسالة في جانب الحرم، وأنا في
جانبه الآخر ما كنت أهتز إلى ما [2] عندهم لما ملأني به الشريف، يعني
الشيخ عبد الله، ورحل إلى مكة وأقام بها إلى أن مات، ولقي جماعة من
العلماء وأجيز بالإفتاء والتدريس، فتصدى لذلك، وانتفع الناس به ونثر
ونظم من ذلك «الدّرر اللوامع في نظم جمع الجوامع» ، «تتمة التمام» و
«سفك المدام في عقائد الإسلام» .
ومن شعره:
من كان يعلم أن كل مشاهد ... فعل الإله فما له أن يغضبا
بل واجب أن يرتضي ما شاهدت ... عيناه من ذاك الفعال ويطربا
وكان كثير الفوائد، عالما، عاملا، عين المدرّسين بمكة، مع الزّهد
__________
[1] ترجمته في «النور السافر» (125) .
[2] ليست اللفظة في «ط» .
(10/188)
والصّلاح والعفّة والاحتمال والسكون
والانجماع عن أبناء الدنيا.
وتوفي بمكة ليلة السبت الثالث عشر ربيع الثاني، ودفن بالمعلاة وخلّف
نحو عشرة أولاد ذكورا وإناثا. انتهى وفيها السيد تاج الدّين عبد الوهاب
بن أحمد السيد الشريف [1] بن نقيب الأشراف وأمّه الفاضلة البارعة زينب
بنت الباعوني.
أخذ الفقه عن الشيخ برهان الدّين الطّرابلسي الحنفي المصري بها، وقرأ
عليه مصنّفه في الفقه على طريقة المجمع، وتردّد إلى سيدي محمد بن عراق
إلى أن توفي ليلة السبت في ربيع الأول بصالحية دمشق عن نحو ثلاثين سنة،
وصلّي عليه بمدرسة أبي عمر ودفن بالروضة.
وفيها علاء الدّين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الرحيم بن محمد بن علي
بن إبراهيم بن مسعود بن محمد الحصكفي الموصلي الشافعي [2] العلّامة
المفنّن المتقن.
قطن دمشق أولا مع أبيه، وقرأ بها على الشيخ عماد الدّين، المعروف بخطيب
السّقيفة، والبرهان بن المعتمد، وغيرهما، وحجّ ماشيا، ثم قطن حلب، وقرأ
بها على الفخر عثمان الكردي، والبدر السّيوفي، والشمس البازلي، وغيرهم،
ودرّس بها، وأفاد وأفتى، وجلس بمكتب الشهادة بحلب تحت قلعتها، وتردد
الطلبة إلى وتلقى منه جمع جمّ من الأفاضل، حتّى ترقى بعضهم إلى
الإفادة، ثم لما أبطلت الدولة العثمانية مكاتب الشهود ترك ذلك وأقبل
على الاشتغال والإشغال، وكان له يد طولى في النحو، والصّرف، والمنطق،
والعروض، والقوافي، وله تقرير حسن في الفقه ومشاركة كلّية في الأدب.
وشعره لطيف منه:
تمرّ الليالي والحوادث تنقضي ... كأضغاث أحلام ونحن رقود
وأعجب من ذا أنّها كلّ ساعة ... تجدّ بنا سيرا ونحن قعود
وله ملغزا:
__________
[1] ترجمته في «متعة الأذهان» (ق 58) ، و «الكواكب السائرة» (1/ 257) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (1/ 264- 266) .
(10/189)
يا إماما في النّحو شرقا وغربا ... من له
باب [1] سرّه المكنون
أيّما اسم قد جاء ممنوع صرف ... وأتى الجرّ فيه والتنوين
وأجاب هو عنه بقوله:
علم كان للمؤنّث جمعا ... سالما جمع ذين فيه يكون
وأجاب عن قول بعض فضلاء النحو:
سلّم على شيخ النحاة وقل له ... عندي سؤال من يجبه يعظم
أنا إن شككت وجدتموني جازما ... وإذا جزمت فإنني لم أجزم
بقوله:
قل في الجواب بأنّ إن في شرطها ... جزمت ومعناها التردّد فاعلم
وإذا بجزم الحكم إن شرطية ... وقعت ولكن شرطها لم يجزم
وتوفي يوم الثلاثاء سابع شوال.
وفيها فاطمة بنت يوسف التادفي [2] الحنبلي الحلبي.
قال ابن الحنبلي: وهو ابن أخيها كانت من الصّالحات الخيرات، وكان لها
سماع من الشيخ المحدّث برهان الدّين، وكانت قد حجّت مرتين، ثم عادت إلى
حلب وأقلعت عن ملابس نساء الدنيا بل عن الدنيا بالكلية ولبست العباءة
وزارت بيت المقدس ثم حجت ثالثة وتوفيت بمكة المشرفة. انتهى وفيها شمس
الدّين أبو عبد الله محمد بن داود البازلي الكردي ثم الحموي [3]
الشافعي شيخ الإسلام مفتي المسلمين العلّامة.
ولد في ضحوة يوم الجمعة سنة خمس وأربعين وثمانمائة في جزيرة ابن عمر،
ونشأ بها، وانتقل إلى أذربيجان فحفظ بها كثيرا من الكتب، منها «الحاوي
__________
[1] في «الكواكب» «بان» .
[2] ترجمتها في «در الحبب» (1/ 2/ 22) وفيه «التاذفي» و «الكواكب
السائرة» (1/ 293) .
[3] ترجمته في «در الحبب» (1/ 2/ 203) ، و «الضوء اللامع» (7/ 240) ، و
«الكواكب السائرة» (1/ 47) .
(10/190)
الصغير» و «عقائد النّفسي» و «عروض
الأندلسي» و «الشمسية» و «كافية ابن الحاجب» و «تصريف العزّي» وأخذ
المعقولات عن منلا ظهير، ومنلا محمد القتجفاني، ومولانا عثمان الباوي،
والمنقولات عن والده وغيره وقدم الشام سنة تسعين وثمانمائة، وحجّ سنة
خمس وتسعين وعاد من الحجاز إلى حماة فقطنها وكان زاهدا متقشفا كثير
العبادة يصوم الدهر ويلازم التدريس وألّف عدة مؤلفات منها «حاشية شرح
جمع الجوامع» للمحلّي، وكتاب سمّاه «غاية المرام في رجال البخاري إلى
سيد الأنام» وكتاب «تقدمة العاجل لذخيرة الآجل» و «أجوبة شافية» عن
إشكالات كانت ترد عليه وأسئلة ترفع إليه.
وتوفي بحماة رحمه الله تعالى.
وفيها شمس الدّين محمد بن علي بن الدّهن الحلبي الشافعي [1] المعمّر،
شيخ القراء والإقراء بحلب، وإمام الحجازية بجامعها الكبير.
قرأ على جماعة، منهم منلا سليمان بن أبي بكر المقري الهروي وغيره، وكان
من العلماء المنوّرين.
وفيها قاضي القضاة جلال الدّين محمد بن قاسم المصري المالكي [2]
العلّامة.
قال الشعراوي: كان كثير المراقبة لله في أحواله، وكانت أوقاته كلها
معمورة بذكر الله تعالى، وشرح «المختصر» و «الرسالة وانتفع به خلائق لا
يحصون، وولاه الغوري القضاء مكرها، وكان حسن الاعتقاد في طائفة القوم.
قال: وكان أكثر أيامه صائما لا يفطر في السنة إلا العيدين وأيام
التشريق، وكان حافظا للسانه في حقّ أقرانه لا يسمع أحدا يذكرهم إلّا
ويبجلهم.
توفي بمصر في هذه السنة.
وفيها محبّ الدّين أبو الثناء محمود بن محمد بن محمود بن خليل بن أجا
__________
[1] ترجمته في «در الحبب» (1/ 2/ 274) ، و «الكواكب السائرة» (1/ 58) .
[2] ترجمته في «متعة الأذهان» (92) ، و «الكواكب السائرة» (1/ 70) .
(10/191)
التّدمري الأصل الحلبي ثم القاهري الحنفي
[1] ، كاتب الأسرار الشريفة بالممالك الإسلامية، المعروف بابن أجا.
قال السخاوي: ولد سنة أربع وخمسين وثمانمائة بحلب، واشتغل بالعلم في
القاهرة إلى سنة ثمان وثمانين، ثم زار بيت المقدس، ورجع إلى حلب،
وتميّز بالذكاء ولطف العشرة، وولي قضاء حلب في شهر رمضان سنة تسعين،
وحجّ سنة تسعمائة، ثم رجع إلى حلب وطلبه السلطان الغوري، وولاه كتابة
السّر بالقاهرة عوضا عن ابن الجيعان في أول ولايته سنة ست وتسعمائة،
واستمرّ فيها إلى آخر الدولة الجركسية، وهو آخر من ولي كتابة السرّ، ثم
حجّ في دولته سنة عشرين، فقرأ عليه المسند جار الله بن فهد عشرين حديثا
عن عشرين شيخا وخرّجها له في جزء سمّاه «تحقيق الرجا لعلو المقر بن
أجا» ثم عاد إلى القاهرة فشكا مدة فركب إليه السلطان وزاره لمحبته له
ثم سافر صحبة الغوري إلى حلب سنة اثنتين وعشرين وأقام بها حتى قتل
الغوري فرجع إلى القاهرة فولاه السلطان طومان باي كتابة السّر بها ثم
لما دخل السلطان سليم إليها أكرمه وعرض عليه وظيفته فاستعفى منها
واعتذر بكبر سنه وضعف يديه، ثم سأل السلطان سليم الإقامة بحلب فأجابه
وعاد معه إلى حلب، واستقرّ في منزله إلى أن توفي بها، وكان ذا هيبة
وشكالة حسنة وشيبة نيّرة، ظريفا، كيسا، يحب التواريخ، ويرغب في خلطة
الأكابر ومدحه الناس كثيرا بالمدائح الحسنة، منهم عائشة الباعونية حين
قدمت عليه القاهرة بقصيدتها الرائية التي أولها:
حنيني لسفح الصّالحية والجسر ... أهاج الهوى بين الجوانح والصّدر
وتوفي بحلب في العشر الأول من شهر رمضان.
وفيها أو في التي بعدها نهالي بن عبد الله الرّومي الحنفي [2] المولى
الفاضل المشتهر بهذا اللقب.
__________
[1] ترجمته في «الضوء اللامع» (10/ 147) ، و «در الحبب» (1/ 2/ 451-
461) ، و «الكواكب السائرة» (1/ 303) .
[2] ترجمته في «الشقائق النعمانية» (254) ، وفيه (المولى الشهير
نبهاني) وفي «الكواكب السائرة»
(10/192)
قال في «الشقائق» : ولم نعرف [1] اسمه،
وكان عتيقا لبعض الأكابر، وقرأ في صغره مبادئ العلوم، ثم خدم العلماء،
وفاق على أقرانه ومهر في العربية والأصول والتفسير، وكان له نظم
بالعربية والتركية والفارسية، ووصل إلى خدمة المولى محمد بن الحاج حسن،
ودرّس بالمدرسة التي بناها المولى المذكور بالقسطنطينية، ثم بمدرسة
مصطفى باشا بالقسطنطينية أيضا، ثم فرغ عن التدريس، وسافر إلى الحجّ،
فلما أتمّ الحجّ مرض، فعاهد الله تعالى إن صحّ من مرضه لم يعاود
التدريس، وندم على ما مضى من عمره في الاشتغال بغير الله تعالى،
فأدركته المنية في مرضه ذلك بمكّة المشرّفة ودفن بها.
__________
(1/ 312) وفيه (نهالي بن عبد الله) .
[1] في «أ» : (يعرف) وما في «ط» موافق لما في «الشقائق» .
(10/193)
|