شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وخمسين وتسعمائة
فيها توفي الشيخ شهاب الدّين أحمد بن محمد بن داود المنزلاوي الشافعي [1] ، الشيخ الصّالح الزّاهد الورع.
كان محدّثا، فقيها، صوفيا، كريما، يخدم الفقراء بنفسه- كما كان والده- ويقري الضيوف، وتظهر عليه خوارق في ذلك، فربما يجعل الماء والأرز في القدر، فيجعل الله فيه الدسم من لبن وغيره، حتى يقول الضيف: ما ذقت ألذّ منه، وربما ملأ الإبريق من البئر شيرجا أو عسلا.
وكانت له هيبة عند الحكّام، وكان قائما بشعار السّنّة في بلاد المنزلة ودمياط، بحيث لا يقدر أحد أن يتظاهر فيهما بمعصية أو ترك صلاة.
توفي بالمنزلة عن نيّف وثمانين سنة، ودفن عند والده.
وفيها- تقريبا- شهاب الدّين أحمد بن العلّامة سراج الدّين عمر البارزي الحموي الشافعي [2] المعمّر الإمام الفاضل.
وفيها أمير شريف العجمي المكّي [3] العلّامة في الطبّ.
قدم دمشق سنة تسع وأربعين وتسعمائة، متوجها إلى الرّوم.
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 100) ، و «الطبقات الكبرى» للشعراني (2/ 187- 188) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 114- 115) .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 124) .

(10/412)


قال ابن طولون: وبلغني أنه شرح «رسالة الوجود» للسيد الشريف، وشرح «الفصوص» [1] للمحيي الدين العربي. انتهى.
وفيها بدر الدّين حسن بن إسكندر بن حسن بن يوسف بن حسن النّصيبي الحلبي، ثم المصري [2] الضّرير الشافعي، المعروف بالشيخ حسن.
ولد سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، وكان عالما بارعا في الفقه، والقراآت، والنحو، والتجويد.
قال الشعراوي: شيخي وقدوتي إلى الله تعالى، العلّامة الورع الزّاهد.
كان عالما، عاملا، حافظا لمتون الكتب الشرعية وآلاتها على ظهر قلب، حافظا للسانه، ملازما لشأنه، مواظبا على الطهارة الظّاهرة والباطنة، غزير الدمعة، لا يسمع آية أو حديثا أو شيئا من أحوال الساعة وأهوال يوم القيامة إلّا بكى، حتى أرحمه من شدة البكاء.
قال: وكان كريم النّفس، جميل المعاشرة، أمّارا بالمعروف، لا يداهن أحدا في دين الله تعالى، وهو أكثر أشياخي [3] نفعا لي، قرأت عليه القرآن، و «المنهاج» و «الألفية» و «الشاطبية» و «التوضيح» و «جمع الجوامع» و «تلخيص المفتاح» و «قواعد الإعراب» .
وتوفي بمصر ودفن خارج باب النصر. انتهى ملخصا وفيها المولى عبد العزيز بن زين العابدين الحنفي [4] أحد موالي الرّوم، الشهير بابن أم ولد شهرة جدّه لأمّه.
__________
[1] يعني «فصوص الحكم» وقد نشر قديما في مطبعة دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة في جزأين بمجلد واحد سنة (1365 هـ) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 134- 135) .
[3] في «ط» : «أشياخه» .
[4] ترجمته في «الشقائق النعمانية» ص (244) و «در الحبب» (1/ 2/ 807- 816) ، و «الكواكب السائرة» (2/ 168- 169) .

(10/413)


اشتغل بالعلم، وحصّل، واتصل بخدمة المولى ابن المؤيد، ودرّس بمدرسة داود باشا بالقسطنطينية، ثم بدار الحديث بأدرنة، ثم ولي قضاء حلب، ثم صار مفتيا ومدرّسا بأماسية، ثم ترك المناصب، وتقاعد، فعيّن له كل يوم سبعون عثمانيا.
وكان عالما، كاملا، شاعرا، لطيفا.
ومن شعره ما كتبه على وثيقة وهو قاض بمغنيسا:
هذه حجّة مبانيها [1] ... أسست بالوثاق تأسيسا
صحّ عندي جميع فحواها ... لن ترى في السطور تلبيسا
ثم عبد العزيز وقّعها ... قاضيا في ديار مغنيسا
قال ابن الحنبلي: كان فاضلا، فصيحا، حسن الخط، لطيف الشعر باللسان العربي، بديع المحاضرة، جميل المذاكرة. انتهى وتوفي بالقسطنطينية.
وفيها الشيخ زين الدّين عمر العقيبي [2] العارف بالله تعالى، المربي المسلك الحموي الأصل، ثم العقيبي الدمشقي، المعروف بالإسكاف.
كان في بدايته إسكافا يصنع النّعال الحمر، ثم صاحب الشيخ علوان الحموي، وبقي على حرفته، غير أنه كان ملازما للذّكر أو الصّمت، ثم غلبت عليه الأحوال، فترك الحرفة، وأقبل على المجاهدات، ولزم خدمة أستاذه الشيخ علوان، حتى أمره أن يذهب إلى دمشق ويرشد الناس.
وكان كثير المجاهدات، شديد التّقشف، ورعا.
وكان أمّيّا، لكن ببركة صدقه فتح الله عليه في الكلام في طريق القوم والتكلم على الخواطر التي يشكوها إليه الفقراء.
__________
[1] تحرفت في «ط» إلى «مباينها» .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 229- 233) ، و «جامع كرامات الأولياء» (2/ 224- 225) .

(10/414)


وكان مدة إقامته بدمشق، يسافر لزيارة شيخه في كل سنة مرة، يقيم بحماة ثلاثة أيام ويرجع.
قال الشيخ إبراهيم بن الأحدب: وأخذت عنه الطريق، وانتفعت به، وانتفع به كثير من الناس. انتهى وكان يعامل أصحابه ومريديه، بالمجاهدات الشاقة على النّفوس، وكان ربما أمر بعضهم بالركوب على بعير، ويعلّق في عنقه بعض الأمتعة، ويأمر آخر أن يقود به البعير وهما يجهران بذكر الله تعالى، كما هو المشهور من طريقته، وله أحوال خارقة.
ومن جملة مريديه وملازميه الشيخ محمد الزّغبي المجذوب المعتقد، وكان للشيخ عمر ولدان، وكان عيسى باشا كافل دمشق من جملة معتقديه، وأخذ عنه الطريق.
وتوفي الشيخ عمر في هذه السنة، ودفن بزاويته بمحلّة العقيبة، وظهر في الشمس تغيّر وظلمة شبه الكسوف يوم موته.
وفيها أقضى القضاة محبّ الدّين محمد بن قاضي القضاة سري الدّين عبد البرّ بن محمد بن الشّحنة المصري [1] المولد والمنشأ الحنفي.
كان أسمر، من سرية أبيه المسماة غزال، واشتغل بالعلم على أبيه وغيره، وولي نيابة الحكم عنده [2] ثم نيابة الحكم عنه [2] ، ثم قدم إلى [3] حلب عند انقضاء الدولة الجركسية، بعد أن حجّ وجاور.
وكان مقداما، محتشما، حسن الملبس، لطيف العمامة، حسن المطارحة، لطيف الممازحة، رقيق الطبع، سريع الشّعر مع حسنه ورقته في الجملة.
__________
[1] ترجمته في «در الحبب» (2/ 1/ 256- 258) ، و «الكواكب السائرة» (2/ 40) ، و «إعلام النبلاء» (5/ 500- 501) .
[2] ما بين الرقمين سقط من «آ» .
[3] لفظة «إلى» سقطت من «ط» .

(10/415)


ومن شعره في مليح اسمه إبراهيم:
يا حبيبي صل معنّي ... ذاب وجدا وغراما
وارحمن صبّا كساه ... غزل عينيك سقاما
ورماه عن قسيّ ال ... حاجب اللّحظ سهاما
أنحلته رقّة الخص ... ر نحولا حيث هاما
لا يرى إلّا خيالا ... إن تقل [1] فيه نظاما
لم يذق من يوم غبتم ... عنه لا أكلا ولا ما
أطلقت عيناه نهرا ... طلّقت منه المناما
أوقدت حشو [2] حشاه ... نار خدّيك ضراما
عجبا للنّار فيه ... وبه حزت المقاما
إنّ بعد الوصل عادت ... بك بردا وسلاما
وتوفي بحلب ليلة الأحد تاسع شعبان قبيل الفجر، ودفن بتربة موسى الحاجب خارج باب المقام.
وفيها قاضي القضاة، عفيف الدّين محمد بن علي بن عمر بن علي بن جنغل- بضم الجيم، والغين المعجمة، بينهما نون ساكنة- الحلبي المالكي [3] آخر قضاة المالكية بحلب، وابن قضاتها.
ولد يوم الأربعاء تاسع عشري شوال سنة أربع وسبعين وثمانمائة، وتفقه بالشيخ علي المكناسي [4] المغربي المالكي، وولي القضاء من قبل السلطان
__________
[1] كذا في «آ» و «ط» و «الكواكب السائرة» : «إن تقل» وفي «درّ الحبب» : «إن يقل» .
[2] في «آ» و «ط» : «حشي» وما أثبته من «درّ الحبب» و «الكواكب السائرة» .
[3] ترجمته في «درّ الحبب» (2/ 276- 278) و «الكواكب السائرة» : (2/ 48) و «إعلام النبلاء» (5/ 499- 500) .
[4] كذا في «آ» و «الكواكب السائرة» وإحدى نسخ «درّ الحبب» كما في حاشيته: «المكناسي» . وفي «ط» و «درّ الحبب» و «إعلام النبلاء» : «الكناسي» .

(10/416)


الأشرف قايتباي تاسع عشري شوال سنة سبع وتسعين وهو ابن نيف وعشرين سنة، ثم انكفّ عن المناصب في الدولة العثمانية، ولزم بيته آخرا في رفاهية وطيب عيش، والمسلمون سالمون من يده ولسانه، ولم يكن يخرج من بيته إلّا لصلاة الجمعة والعيدين، وربما شهد بعض الجنائز.
وتوفي في [1] نهار الأربعاء ثاني شوال.
وفي حدودها عصام الدّين إبراهيم بن محمد بن عرب شاه [2] من ذرّيّة أبي إسحاق الإسفراييني- وإسفرايين [3] قرية من قرى خراسان.
كان أبوه قاضيا بها وجدّه في أيام أولاد تيمور- وهو من بيت علم، ونشأ هو طالبا للعلم [4] ، فحصّل وبرع، وفاق أقرانه، وصار مشارا إليه بالبنان.
وكان بحرا في العلوم، له التصانيف الحسنة النافعة في كل فنّ، خرج في أواخر عمره من بخارى إلى سمرقند لزيارة الشيخ العارف خواجه عبيد الله النّقشبندي، فمرض بها مدة اثنين وعشرين يوما، ثم قضى نحبه عن اثنتين وسبعين سنة. وكان آخر ما تلفظ به: الله.
وازدحم الناس للصلاة عليه ودفن بسمرقند قرب الشيخ المذكور.
وفيها جمال الدّين أبو مخرمة محمد بن عمر باقضام الفروعي الشافعي [5] يجتمع مع الفقيه عبد الله بن أحمد مخرمه في الأب السادس.
ولد ببلدة الهجرين من اليمن ونشأ بها، ثم ارتحل إلى عدن لطلب العلم، فأخذ عن إماميها الفقيه عبد الله بن أحمد مخرمه، والفقيه محمد بن أحمد فضل، ثم ارتحل إلى زبيد وأخذ عن علمائها، ثم رجع إلى عدن ولازم الإمام عبد الله بن
__________
[1] لفظة «في» لم ترد في «آ» .
[2] ترجمته في «الأعلام» (1/ 66) ووفاته فيه (945) وانظر حاشيته.
[3] لفظة «وإسفرايين» سقطت من «ط» .
[4] في «ط» : «العلم» .
[5] ترجمته في «النور السافر» ص (238- 239) .

(10/417)


أحمد مخرمه وولده العلّامة شهاب الدّين أحمد، وانتفع بهما، وتخرّج عليهما.
ولما وصل العلّامة محمد بن الحسين القمّاط قاضيا على عدن، ثم بعده العلّامة أحمد بن عمر المزجد قاضيا أيضا، لازم كلّا منهما، ولم يزل مجتهدا حتى فاق أقرانه في الفقه، وصار في عدن هو المشار إليه، والعلم المعوّل عليه، واحتاج الناس إلى علمه، وقصدوه بالفتوى من النواحي البعيدة، لكنه قد كان [1] يتساهل في الفتاوى ويترك المراجعة، لا سيما في أواخر عمره، فاختلفت أجوبته وتناقضت فتاويه، وكان ذلك مما عيب عليه، ثم كان السلطان عامر بن داود- وهو آخر ملوك بني طاهر بعدن- استماله في آخر عمره وأحسن إليه لأغراض فاسدة عزم عليها، فكان إذا عزم على أمر فاسد يتعلق بالشرع أرسل إليه من يشاوره في كتب سؤال في القضية، فيجيبه إلى ذلك، ويكتب على سؤالاتهم أجوبة توافق أغراضهم، فيتوصلون بها إلى مفاسد لا تحصى، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وتوفي ببلدة الهجرين، سامحه الله تعالى.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ولكنه كان قد» وأثبت لفظ «النور السافر» مصدر المؤلّف، ولا حاجة للفظة «قد» في السياق هنا.

(10/418)


سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة
وفيها توفي المولى بير أحمد بن حمزة، الشهير بابن بليس الحنفي [1] الفاضل.
اشتغل بالعلم، وحصّل، ودرّس ببعض المدارس، ثم بمدرسة إسكوب، ثم وصل إلى إحدى الثمان، ثم صار قاضيا بمصر، ثم أعطي تقاعدا عنها بمائة عثماني، ومات على ذلك، وخلّف دنيا طائلة، وكتبا نفيسة.
وفيها علاء الدّين أبو الحسن علي بن جلال الدّين محمد البكري الصّدّيقي [2] الشافعي، الشيخ الإمام المحدّث، نادرة الزّمان وأعجوبة الدهر، الصوفي الأستاذ.
أخذ الفقه والعلوم عن القاضي زكريا، والبرهان بن أبي شريف، وغيرهما.
وأخذ التصوف عن الشيخ رضي الدّين الغزّي العامري، والشيخ عبد القادر الدشطوطي.
قال الشّعراوي: أخذ العلم عن جماعة من مشايخ الإسلام والتصوف عن الشيخ رضي الدّين الغزّي، وتبحر في علوم الشريعة، من فقه، وتفسير، وحديث، وغير ذلك.
وكان إذا تكلم في علم منها، كأنه بحر زاخر، لا يكاد السّامع يحصل من كلامه على شيء ينقله منه لوسعه إلّا أن يكتبه.
__________
[1] ترجمته في «الشقائق النعمانية» ص (243) و «الكواكب السائرة» (2/ 106) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 194- 197) .

(10/419)


قال: وأخبرني من لفظه، ونحن بالمطاف أنه بلغ درجة الاجتهاد المطلق.
وقال: إنما أكتم ذلك عن الأقران خوفا من الفتنة بسبب ذلك، كما وقع للجلال السيوطي.
قال: وكانت مدة اشتغاله على الأشياخ نحو سنتين، ثم جاء الفتح من الله، فاشتغل بالتأليف. انتهى ومن مؤلفاته «شرح المنهاج» و «شرح الروض» و «شرح العباب» للمزجد، و «حاشية على شرح المحلّى» .
قال الشعراوي: وهو أول من حجّ من علماء مصر في محفّة، ثم تبعه الناس.
قال: وحججت معه مرة فما رأيت أوسع خلقا ولا أكثر صدقة في السرّ والعلانية منه.
وكان لا يعطي أحدا شيئا نهارا إلّا نادرا، وأكثر صدقته ليلية.
وكان له الإقبال العظيم من الخاص والعام.
وشاع ذكره في أقطار الأرض مع صغر سنّة.
وكان له كرامات كثيرة، وخوارق، وكشوفات، وترجمه الناس بالقطبية العظمى، ويدلّ على ذلك ما أخبرنا به الشيخ خليل الكشكاوي.
قال: رأيت الشيخ أبا الحسن البكري، وقد تطور، فكان كعبة مكان الكعبة، ولبس سترها كما يلبس الإنسان القميص.
قال: وكان له النظم السائغ في علوم التوحيد، وأطلعني مرة على «تائية» عملها نحو خمسة آلاف بيت، أوائل دخوله في طريق القوم، ثم إنه غسلها وقال:
إن أهل زماننا لا يحتملون سماعها لقلّة صدقهم في طلب الطريق. انتهى ومن شعره «التائية المشهورة» التي أولها:
بوجودكم تتجمّل الأوقات ... وبجودكم تتنزّل الأقوات
وهي طويلة مشهورة.

(10/420)


وتوفي- رحمه الله تعالى- بالقاهرة ودفن بجوار الإمام الشافعي رضي الله عنهما.
وفيها- تقريبا- المولى محيي الدّين محمد بن بهاء الدّين بن لطف الله [1] الصّوفي الحنفي الإمام العلّامة المحقّق المعمّر المنّور، أحد الموالي الرّومية، الشهير ببهاء الدّين زاده.
قرأ على المولى مصلح الدّين القسطلاني، ثم على المعرّف معلّم السلطان أبي يزيد، ثم مال إلى التصوف، فخدم العارف محيي الدّين الإسكليبي، وأجازه ب «الإرشاد» وجلس مدة في وطنه بالي كسرى، ثم عاد إلى القسطنطينية، وجلس في زاوية شيخه المذكور بعد موت المولى عبد الرحيم بن المؤيد.
وكان عالما بالعلوم الشرعية والفرعية، ماهرا في العلوم العقلية، عارفا بالتفسير والحديث والعربية، زاهدا، ورعا، ملازما لحدود الشريعة، مراعيا لآداب الطريقة، جامعا بين علوم الشرع ومعارف الحقيقة، أمّارا بالمعروف، لا تأخذه في الله لومة لائم.
ومن تصانيفه: «شرح الأسماء الحسنى» و «تفسير القرآن العظيم» و «شرح الفقه الأكبر» للإمام الأعظم، جمع فيه بين طريق الكلام وطريق التصوف، وله في التصوف رسائل كثيرة، وحجّ في سنة إحدى وخمسين، فدخل بلاد الشام.
وتوفي ببلدة قيصرية، ودفن بها عند قبر الشيخ إبراهيم القيصري، وهو شيخ شيخه.
وفيها شمس الدّين محمد بن علي بن القلوجي الدمشقي [2] الشافعي الواعظ المقرئ، أخو الشيخ أحمد القلوجي الآتي وأسنّ منه، إلا أنه توفي شابا.
أخذ عن البدر الغزّي، والتّقي القاري، والسعد الذّهبي، وغيرهم، ومكث في القاهرة سنين في الاشتغال، ثم قدم دمشق يوم السبت ثاني عشري رمضان سنة
__________
[1] ترجمته في «الشقائق النعمانية» ص (259- 260) و «الكواكب السائرة» (2/ 29- 30) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 48- 49) .

(10/421)


تسع وثلاثين وتسعمائة، ثم شرع يعظ تحت قبّة النّسر بالأموي عقب صلاة الجمعة، وابتدأ يوم عيد الفطر، وتكلّم على أول الأعراف [1] .
وكان شابا، ذكيا، واعظا، يفتي ويدرّس في الشامية البرانية، وأمّ بمقصورة الأموي، شريكا للشّهاب الطّيبي.
وكان عارفا بالقراءات.
وتوفي بدمشق ليلة السبت سادس عشر رمضان، ودفن بباب الصغير، وتأسف الناس عليه.
__________
[1] أي سورة الأعراف.

(10/422)


سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة
فيها توفي الشيخ شهاب الدّين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد الأنطاكي الحلبي الحنفي، المعروف بابن حمارة [1] الإمام العلّامة الورع.
ولد بأنطاكية سنة إحدى وسبعين وثمانمائة، ونشأ بها، وحفظ القرآن العظيم، وتخرّج في صنعة التوقيع بجدّة.
وأخذ النحو، والصرف، عن الشيخ علاء الدّين العداسي الأنطاكي، والمنطق، والكلام، والأصول عن منلا محيي الدّين بن عرب الأنطاكي الحنفي، ثم قدم حلب، ولازم فيها البدر السيوفي، واشتغل في القراآت على الشيخ محمد الداديخي، وتعاطى صنعة الشهادة، ثم صار مدرسّا في توسعة جامع الضروري بحلب، وحجّ، وأجاز له بمكّة المحدّث عبد العزيز بن الحافظ نجم الدّين بن فهد، وبالقاهرة القاضي زكريا، والشيخ شهاب الدّين القسطلاني.
ولم يزل مكبّا على التدريس، والتحديث، والتكلم على الأحاديث النبوية بالعربي والتركي بالجامع المذكور.
وعرض عليه تدريس السلطانية بحلب فأعرض عنه، وولي خطابة الجامع المذكور، والحلاوية، والإفتاء بحلب، ثم حجّ ثانيا، فتحرك عليه وجع النقرس وهو بدمشق، وكان يعتريه أحيانا، واستمر به حتى دخل المدينة فخفّ عنه.
قال ابن الحنبلي: وكان له الخطّ الحسن والتحشية اللطيفة على حواشي الكتب، ولم تكن له خبرة بأساليب أهل الدنيا، مع الصّلاح الزائد.
__________
[1] ترجمته في «درّ الحبب» (1/ 1/ 111- 120) و «إعلام النبلاء» (5/ 510- 512) و «الكواكب السائرة» (2/ 97) وفيه: «ابن حمادة» وهو تحريف.

(10/423)


وله من التآليف «منسك لطيف» .
وتوفي يوم عرفة طلوع الفجر وهو يتلو القرآن.
وفيها بدر الدّين حسن، الشهير بابن الينابيعي الحلبي [1] الشافعي المقرئ.
قال ابن الحنبلي: كان عالما، فاضلا، تلميذا للبدر السيوفي وغيره، وأدرك الشيخ جاكير صاحب الزاوية المشهورة بسرمين، وأخذ عنه القراآت، وكان من العارفين بها.
وتوفي في هذه السنة وقد قارب المائة وقوته محفوظة.
وفيها- تقريبا- السيد عفيف الدّين حسين بن عبد القادر بن محمد بن عبد القادر بن يحيى بن أحمد بن محمد بن نصر بن عبد الرزّاق بن القطب الكبير سيدي عبد القادر الكيلاني الحلبي ثم الحموي [2] الشافعي، سبط النّظام التادفي الحنبلي.
ولد بحلب سنة ست وعشرين وتسعمائة، ثم قطن حماة، وقرأ في الفقه، وسمع الحديث على الشّهاب البازلي، وسافر إلى دمشق، فتلقاه الفقراء والمشايخ وبعض الأعيان، ولبس منه الخرقة جماعة، وحصل له القبول من عيسى باشا نائب دمشق، وصار له حلقة في الجامع الأموي بعد صلاة الجمعة، ثم عاد إلى حماة، فودّعه الناس في يوم مشهود، ثم سافر إلى الرّوم، فطلبه السلطان سليمان، فدخل عليه، فأمره بالجلوس وأمر له بعشرين عثمانيا في زوائد عمارة والده بدمشق فأبى، ثم قبل بعد التصميم عليه، ثم عاد فدخل حلب سنة اثنتين وخمسين.
وتوفي بحماة.
__________
[1] ترجمته في «درّ الحبب» (1/ 2/ 531- 532) و «الكواكب السائرة» (2/ 138) .
[2] ترجمته في «درّ الحبب» (1/ 2/ 558- 560) و «الكواكب السائرة» (2/ 138- 139) و «إعلام النبلاء» (6/ 86- 87) .

(10/424)


وفيها سعد الدّين سعد بن علي بن الدّبل- بالدال المهملة ثم الموحدة من تحت- الأنصاري الحلبي ثم الدمشقي الحنفي [1] .
قال ابن طولون: هو مدرّس الماردانية بالجسر الأبيض بسفح قاسيون.
اشتغل، وحصّل، وبرع، وتفقه، وولي القضاء بحلب نيابة، ثم قدم دمشق، ونزل بالخانقاه السّميساطية، ونظم الشعر بالعربي، والتركي، والفارسي، ونظم قصيدة في قاضي دمشق السيد عربية ملمعة باللسانين وشكره عليها.
وتوفي يوم السبت سلخ صفر سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة، وجد مرميا على باب الخانقاة المذكورة تحت روشن خلوته بها وإبهاماه مربوطان وهو مخنوق، ولم يعلم له غريم، ودفن بتربة باب الفراديس، ولعله في عشر السبعين. انتهى وفيها- ظنا- المولى سنان چلبي [2] أحد الموالي الرّومية الحنفي الإمام العلّامة.
ترقى في التداريس، ثم أعطي قضاء دمشق، فدخلها في صفر سنة تسع وأربعين وتسعمائة، وحكم فيها نحو ثلاث سنين وحمدت سيرته في قضائها.
وفيها عبد الوهاب بن أبي بكر اللّيموني الغزّي الأصل الحلبي [3] المولد الشافعي الصّوفي الهمداني الخرقة.
أحد أكابر حفّاظ القرآن العظيم بحلب، لبس الخرقة، وتلقّن الذّكر من الشيخ يونس بن إدريس، وألمّ ب «الشاطبية» وأقرأ فيها، وأمّ بجامع حلب.
وتوفي في رمضان.
وفيها الشيخ علي البحيري [4] .
قال المناوي في «طبقاته» : هو ذو العلم الكثير، والزهد الجمّ الغفير،
__________
[1] ترجمته في «درّ الحبب» (1/ 2/ 657- 660) و «الكواكب السائرة» (2/ 146- 147) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 149) .
[3] ترجمته في «درّ الحبب» (1/ 2/ 867- 868) و «الكواكب السائرة» (2/ 186) .
[4] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 216) و «الطبقات الكبرى» للشعراني (2/ 169- 170) .

(10/425)


والخوف الذي ليس له في عصره نظير، لا يكاد يغيب شيء من أحوال القيامة عنه، وكثيرا ما يقول نسأل الله السلامة، ومنذ نشأ لم يضع له زمان ولا وضع جنبه على الأرض، مدى الأزمان، ولا ظفر الفراغ منه بأمان.
وقال الشعراوي: صحبته نحو عشرين سنة، وكان جامعا بين الشريعة والحقيقة، أخذ علم الظّاهر عن جمع، منهم ابن الأقطع.
وكان أكثر إقامته بالرّيف، يدور البلاد فيعلّم الناس دينهم ويرشدهم.
وكان يفتي في الوقائع التي لا نقل فيها بأجوبة حسنة فيعجب منها علماء مصر.
وكان يهضم نفسه، وإذا زاره عالم أو فقير يبكي ويقول: يزورك مثل فلان يا فضيحتك بين يدي الله.
وإذا سئل الدعاء يقول: كلّنا نستغفر الله ثم يدعو.
وكان يلام على كثرة الدعاء فيقول: وهل خلقت النار إلا لمثلي.
وحكى عنه مناقب كثيرة.
وتوفي في شوال ودفن بزاوية سيدي محمد المنير خارج الخانقاة السّرياقوسية.
وفيها زين الدّين عمر بن نصر الله [1] الشيخ، العالم، الزاهد، العارف بالله تعالى، الصالحي الدمشقي الحنفي.
وكان من أهل العلم، والصّلاح، طارحا للتّكلّف، يلبس العباءة، قانعا باليسير، يرجع إليه في مذهبه.
وكان القطب بن سلطان يستعين به في تأليف ألّفه في فقه الحنفية.
وتوفي مقهورا لما رآه من ظهور المنكرات وحدوث المحرّمات وضرب اليسق على الأحكام.
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 227- 228) .

(10/426)


وكانت وفاته في سادس رجب ودفن بسفح قاسيون بالصالحية.
وفيها السيد قطب الدّين أبو الخير عيسى بن محمد بن عبيد الله بن محمد الشريف [1] العلّامة المحقّق المدقّق الحسني الحسيني الأيجي الشافعي الصّوفي، المعروف بالصّفوي، نسبة إلى جدّه لأمّه السيد صفي الدّين والد الشيخ معين الدّين الأيجي الشافعي، اصحب «التفسير» .
ولد سنة تسعمائة، واشتغل في النحو والصرف على أبيه، وتفقّه به، وأخذ عنه «الرسالة» الصغرى والكبرى للسيد الشريف في المنطق، ثم لازم الشيخ أبا الفضل الكازواني، صاحب «الحاشية على تفسير البيضاوي» و «الشرح على إرشاد القاضي شهاب الدّين الهندي» بكجرات من بلاد الهند، فقرأ عليه «المختصر» و «المطول» وغيرهما، وأجاز له ثم فارقه، وسمع بالهند أيضا على أبي الفضل الأستراباذي أشياء بقراءة غيره، ورحل إلى دلّي [2] ، وحضر مجالس علمائها وبحث معهم فظهر فضله، وأكرمه السلطان إبراهيم بن إسكندرشاه، وأدرك الجلال الدّواني وأجاز له، ثم حجّ وجاور بمكة سنين، وزار قبر النّبي صلّى الله عليه وسلم.
وصحب بالمدينة الشيخ الزّاهد أحمد بن موسى الشّيشني المجاور بها، وأرخى له العذبة، وأذن له في ذلك، ثم دخل بلاد الشام في حدود سنة تسع وثلاثين، وأخذ عنه جماعة من أهل دمشق وحلب، ودرّس بدمشق في «شرح الكافية للرضي» وكان يعتمد على كلام الشيخ جمال الدّين بن مالك ما لا يعتمد على كلام ابن هشام.
وزار بدمشق قبور الصالحين، وزار بيت المقدس، وسافر إلى الرّوم مرتين، وأنعم عليه السلطان سليمان بخمسين عثمانيا في خزينة مصر، ثم رجع إلى حلب فقدمها الشيخ محمد الأيجي للقائه، وعادا جميعا إلى دمشق، وأخذ عنه بحلب ابن الحنبلي ولبس منه الخرقة، وتلقّن الذّكر، ثم دخل مصر واستوطنها.
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 233- 235) و «درّ الحبب» (1/ 2/ 1045- 1056) و «الأعلام» (5/ 108) و «معجم المؤلفين» (8/ 32) .
[2] قلت: ويقال لها «دهلي» أيضا وتعرف الآن ب «دلهي» وهي عاصمة دولة الهند المعاصرة.

(10/427)


وله مؤلفات، منها «شرح مختصر على الكافية» و «شرح الغرّة» في المنطق للسيد الشريف، و «شرح الفوائد الضيائية» في المعاني والبيان.
قال ابن الحنبلي: وهو مما لم يكمله، و «مختصر النهاية» لابن الأثير في نحو نصف حجمها، و «تفسير من سورة عم إلى آخر القرآن» وكان من أعاجيب الزمان، رحمه الله تعالى.
وفيها شمس الدّين أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد الشهير بابن طولون الدمشقي الصّالحي [1] الحنفي الإمام العلّامة المسند المؤرّخ.
ولد بصالحية دمشق بالسهم الأعلى قرب مدرسة الحاجبية سنة ثمانين وثمانمائة تقريبا، وسمع وقرأ على جماعة، منهم القاضي ناصر الدّين بن زريق، والسّراج بن الصّيرفي، والجمال ابن المبرّد، والشيخ أبو الفتح المزّي، وابن النّعيمي في آخرين، وتفقّه بعمّه الجمال ابن طولون وغيره، وأخذ عن السيوطي إجازة مكاتبة في جماعة من المصريين وآخرين من أهل الحجاز.
وكان ماهرا في النحو، علّامة في الفقه، مشهورا بالحديث، وولي تدريس الحنفية بمدرسة شيخ الإسلام أبي عمر، وإمامة السّليمية بالصالحية، وقصده الطلبة في النحو، ورغب الناس في السماع منه، وكانت أوقاته معمورة بالتدريس، والإفادة، والتأليف، وكتب بخطّه كثيرا من الكتب، وعلّق ستين جزءا، سمّاها بالتعليقات، كل جزء منها يشتمل على مؤلفات كثيرة، أكثرها من جمعه، ومنها كثير من تأليفات شيخه السيوطي.
وكان واسع الباع في غالب العلوم المشهورة، حتى في التعبير والطب،
__________
[1] ترجمته في «الفلك المشحون بأحوال محمد بن طولون» وقد ترجم فيه لنفسه بقلمه وهو أهم مصادر ترجمته و «الكواكب السائرة» (2/ 52- 54) و «الأعلام» (6/ 291) و «معجم المؤلفين» (11/ 51- 52) ومقدمتنا لكتابه «إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين» ص (30- 37) الطبعة الثانية إصدار مؤسسة الرسالة بيروت ومقدمة الأستاذ الشيخ محمد أحمد دهمان لكتابه «القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية» (1/ 9- 19) الطبعة الأولى، ومقدمة الأستاذ نزار أباظة لكتابه «فصّ الخواتم فيما قيل في الولائم» ص (6- 27) .

(10/428)


وأخذ عنه جماعة من الأعيان وبرعوا في حياته، كالشهاب الطّيبي شيخ الوعّاظ والمحدّثين، والعلاء بن عماد الدّين، والنجم البهنسي خطيب دمشق، ومن آخرهم الشيخ إسماعيل النابلسي مفتي الشافعية، والزين بن سلطان مفتي الحنفية، والشّهاب العيثاوي [1] مفتي الشافعية، والشّهاب [1] بن أبي الوفا مفتي الحنابلة، والقاضي أكمل بن مفلح، وغيرهم.
ومن شعره:
ارحم محبّك يا رشا ... ترحم من الله العلي
فحديث دمعي من جفا ... ك مسلسل بالأوّل
ومنه:
ميلوا عن الدّنيا ولذّاتها ... فإنّها ليست بمحموده
واتّبعوا الحقّ كما ينبغي ... فإنها الأنفاس معدودة
فأطيب المأكول من نحلة ... وأفخر الملبوس من دوده
وتوفي يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى ودفن بتربتهم عند عمّه القاضي جمال الدّين بالسفح قبلي الكهف والخوارزمية، ولم يعقّب أحدا.
وفيها محيي الدّين محمد الحنفي الرّومي، المعروف بإمام خانة [2] لكونه إمام قلندرخانة.
كان بارعا في العلم أصولا وفروعا، وعربية وتفسيرا، ثم تصوّف، فصحب الشيخ حبيب القرماني، والشيخ ابن أبي الوفاء، والسيد أحمد البخاري، ثم صار إمام وخطيب جامع قلندرخان، وانقطع إلى الله تعالى، ولازم بيته، وكان مباركا، صحيح العقيدة، محافظا على حدود الشريعة.
قال في «الشقائق» : وكان شيخا هرما، سألته عن سنّة فقال: مائة أو أقلّ منها
__________
[1] ما بين الرقمين سقط من «آ» .
[2] ترجمته في «الشقائق النعمانية» ص (324) و «الكواكب السائرة» (2/ 74) .

(10/429)


بسنتين [1] ، وعاش بعد ذلك مقدار ثمان سنين، رحمه الله تعالى.
وفي حدودها شمس الدّين محمد القهستاني الحنفي [2] المفتي ببخارى، وهو من شركاء المولى عصام الدّين.
وكان إماما، عالما، زاهدا، فقيها، متبحرا، جامعا، يقال: إنه ما نسي قطّ ما طرق به سمعه [3] ، وله شرح لطيف على «الوقاية» ألّفه برسم الملك البطل الشجاع العالم العامل المستنصر السلطان [4] ابن السلطان [4] أبي المغازي عبيد الله خان السّيبكي.
وقهستان: قصبة من قصبات خراسان [5] .
__________
[1] في «آ» و «ط» : «أو أقلّ سنين» والتصحيح من «الشقائق النعمانية» مصدر المؤلف.
[2] ترجمته في «الأعلام» (7/ 11) و «معجم المؤلفين» (9/ 179) و «معجم المطبوعات العربية» (2/ 1533) .
[3] في «ط» : «ما طرق بسمعه» .
[4] ما بين الرقمين سقط من «آ» .
[5] قهستان ويقال «قوهستان» : معناه موضع الجبال، وهي الجبال التي بين هراة ونيسابور. انظر خبرها في «معجم البلدان» (4/ 416) و «الأنساب» (10/ 264 و 269) و «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (108- 109) بتحقيقي وإشراف والدي الأستاذ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله تعالى، طبع دار ابن كثير.

(10/430)


سنة أربع وخمسين وتسعمائة
فيها توفي القاضي برهان الدّين إبراهيم بن أحمد الأخنائي الشافعي الدمشقي [1] الإمام العلّامة.
كان من العلماء والرؤساء، ماسكا زمام الفقهاء، أحد قضاة العدل، يلبس أحمد الثياب وأفخرها، ويركب حسان الخيل.
اشتغل أولا على القاضي برهان الدّين بن المعتمد، ورافق تقي الدّين القاري عليه وعلى غيره في الاشتغال، وأخذ عن الكمال بن حمزة، وكانت له ديانة، ومهابة، ووقار.
وتوفي ليلة الأربعاء سابع رجب، ودفن بتربته المعمورة قرب جامع جرّاح [2] .
وفيها برهان الدّين إبراهيم بن العلّامة زين الدّين حسن بن عبد الرحمن بن محمد الحلبي الشافعي، الشهير بابن العمادي [3] الشيخ الإمام [4] شيخ الإسلام [4] .
ولد بحلب بعد الثمانين وثمانمائة، ونشأ بها، وأخذ العلوم عن جماعة من أهلها، وممن ورد إليها منهم والده، والشمس البازلي، والشيخ أبو بكر الحبيشي،
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 78- 79) .
[2] في «الكواكب السائرة» : «بغرب جامع جرّاح» .
[3] ترجمته في «درّ الحبب» : (1/ 1/ 74- 83) و «الكواكب السائرة» (2/ 79- 80) .
[4] ما بين الرقمين سقط من «ط» .

(10/431)


ومظفّر الدّين الشّيرازي نزيل حلب، وقرأ «المطوّل» وبعض العضد على البدر بن السيوفي، والفقه وغيره عن المحيوي عبد القادر الأبّار وغيرهم.
وجدّ واجتهد، حتى فضل في فنون، ودرّس وأفتى ووعظ، مع الدّيانة، والسكون، ولين الجانب، وحسن الخلق.
وحجّ من طريق القاهرة، وأخذ عن جماعة من أهلها، كالقاضي زكريا، والبرهان بن أبي شريف والنّور المحلّي، والشّهاب القسطلاني، وقرأ عليه «شرحه على البخاري» و «المواهب اللّدنية» وغيرهما، وأخذ بمكّة عن العزّ بن فهد، وابن عمّه الخطيب، وغيرهما، ولقى بها من مشايخ القاهرة عبد الحق السّنباطي، وعبد الرحيم بن صدقة، وأخذ عنهما، وأخذ بغزّة عن شيخها الشّهاب بن شعبان، ثم أكب على إفادة الوافدين إليه في العربية، والقراآت، والفقه وأصوله، والحديث وعلومه، والتفسير، وغير ذلك، وكان لا يردّ أحدا من الطلبة، وإن كان بليدا، وأفتى، وكان لا يأخذ على الفتوى شيئا، وانتهت إليه رئاسة الشافعية بحلب.
وتوفي يوم الجمعة في رجب، ودفن وراء المقام الإبراهيمي خارج باب المقام.
وفيها جار الله بن عبد العزيز بن عمر بن محمد بن محمد بن فهد الهاشمي [1] المكّي الشافعي الإمام العلّامة المسند المؤرّخ.
ولد ليلة السبت العشرين من رجب سنة إحدى وتسعين وثمانمائة، بمكّة، ونشأ بها في كنف أبويه، فحفظ القرآن العظيم وكتبا، منها «الأربعين النواوية» و «المنهاج الفقهي» وسمع من السّخاوي، والمحبّ الطّبري، وأجاز له جماعة، كعبد الغني البساطي وغيره، ولازم والده في القراءة والسماع، وتوجه معه للمدينة وجاورا بها سنة تسع وتسعمائة، وسمع بها من لفظ والده تجاه الحجرة الشريفة
__________
[1] ترجمته في «الضوء اللامع» (3/ 52) و «النور السافر» ص (241- 242) و «درّ الحبب» (1/ 1/ 434- 436) و «الكواكب السائرة» (2/ 131) و «الأعلام» (6/ 209) و «معجم المؤلفين» (3/ 107) .

(10/432)


الكتب الستة، و «الشفا» لعياض، وغيرها، وعلى السيد السّمهودي بعضها، وتاريخه «الوفا» و «فتاواه» وألبسه خرقة التصوف، ولما عاد إلى مكّة أكثر على والده من قراءة الكتب الكبار والأجزاء الصغار، وانتفع بإرشاده، وخرّج الأسانيد والمشيخات لجماعة من مشايخه وغيرهم، واستوفى ما عند مشايخ بلده من السّماع [1] ، ورحل إلى مصر، والشام، وبيت المقدس، وحلب، واليمن، وأخذ بها وبغيرها من البلدان عن نحو السبعين من المسندين، وأجازه خلق كثيرون جمعهم في مجمع حافل، ولازم الشيخ عبد الحق السّنباطي، وخرّج له «مشيخة» اغتبط بها، وكذا المحبّ النّويري وغيرهما، من الأكابر، وبرع في العلوم العقلية، والشرعية، ودخل بلاد الرّوم، ورزق الأولاد، وحدّث بالحرمين وغيرهما.
وتوفي ليلة الثلاثاء خامس عشر جمادى الآخرة.
وفيها- ظنّا- المولى داود بن كمال أحد موالي الرّوم [2] .
قال في «الشقائق» : كان عالما، فاضلا، ذكيا مدقّقا، له يد طولى في العلوم، كريم الطبع، مراعيا للحقوق، قوّالا بالحقّ، لا يخاف في الله لومة [3] لائم.
اشتغل في طلب العلم حتّى توصّل إلى خدمة المولى الفاضل ابن الحاج حسن، ثم انتقل إلى خدمة المولى ابن المؤيد، ثم ولي التداريس، ثم صار قاضيا بمدينة بروسا مرّتين، ثم اختار التقاعد، فعيّن له كل يوم مائة درهم عثماني، ولم يشتغل بالتّصنيف، ومات على ذلك.
وفيها شاهين بن عبد الله الجركسي [4] العابد الزاهد، بل الشيخ العارف بالله تعالى، الدّال عليه والمرشد إليه.
__________
[1] في «آ» : «واستوفى ما عند مشايخه من السماع» .
[2] ترجمته في «الشقائق النعمانية» ص (239) و «الكواكب السائرة» (2/ 142- 143) .
[3] في «آ» : «لومة» ولفظة «لائم» لم ترد فيها.
[4] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 150- 151) و «الطبقات الكبرى» للشعراني (2/ 184) .

(10/433)


كان من مماليك السلطان قايتباي، وكان مقرّبا عنده، فسأل السلطان أن يعتقه ويخليه لعبادة ربّه ففعل، وساح إلى بلاد العجم وغيرها، وأخذ الطريق عن سيدي أحمد بن عقبة اليمني المدفون بحوش السلطان برقوق، فلما مات صحب نحو ستين شيخا ولما دخل العجم أخذ عن سيدي عمر روشني بتبريز، ثم رجع إلى مصر، وأقام بالمحل الذي دفن فيه من جبل المقطّم، وبنى له فيه معبدا. وكان لا ينزل إلى مصر إلّا لضرورة شديدة، ثم انقطع لا ينزل من الجبل سبعا وأربعين سنة، واشتهر بالصّلاح في الدولتين، وكان أمراء مصر وقضاتها وأكابرها يزورونه [1] ويتبركون به، وكان يغتسل لكل صلاة.
ومن كراماته أنه قام للوضوء بالليل فلم يجد ماء فبينما هو واقف وإذا بشخص طائر في الهواء وفي عنقه قربة ماء فأفرغها في الخابية ثم رجع طائرا نحو النيل.
وتوفي في شوال ودفن بزاويته في الجبل، وبني السلطان عليه قبّة، ووقف على مكانه أوقافا.
وفيها السيد عبد الرحمن بن حسين الرّومي الحسيني الحنفي [2] أحد الموالي الرّومية.
ولد سنة أربع وستين وثمانمائة، وقرأ في شبابه على المولى محيي السّاموني، والمولى على الفناري، وغيرهما، ثم صار مدرّسا بمدرسة جند بك بمدينة بروسا.
وكان بارعا في العلوم العقلية، مشاركا في غيرها من العلوم، محقّقا، مدقّقا، زاهدا، ورعا، راضيا من العيش بالقليل، ثم غلب عليه الانقطاع إلى الله والتوجه إلى الحقّ وترك التدريس، فعيّن له كل يوم خمسة عشر عثمانيا فقنع بها، ولم يقبل الزيادة عليها، وانقطع بمدينة بروسا، وحكى عن نفسه أنه مرض في مدينة أدرنة وهو ساكن في بيت وحده وليس عنده أحد، فكان في كل ليلة ينشقّ له
__________
[1] في «ط» : «يزورنها» وهو خطأ.
[2] ترجمته في «الشقائق النعمانية» ص (235- 237) و «الكواكب السائرة» (2/ 159- 160) .

(10/434)


الجدار ويخرج منه رجل يمرّضه ثم يذهب، فلما برئ من المرض قال له الرجل:
لا أجيء إليك بعد هذا.
وتوفي بمدينة بروسا.
وفيها محيي الدّين محمد إلياس الحنفي [1] أحد الموالي الرّومية، الشهير بجوي زاده، المولى العالم العلّامة.
قرأ على علماء عصره، ووصل إلى خدمة سعدي جلبي وبالي الأسود، وصار معيدا لدرسه، ثم تنقّل في المدارس حتى أعطي إحدى الثمان، ثم صار قاضيا بمصر، وعاد منها، وقد أعطي قضاء العساكر الأناضولية، ثم صار مفتيا بالقسطنطينية، ثم تقاعد عن [2] الفتيا، وعيّن له كل يوم مائتا عثماني، وكان سبب عزله عن الفتوى انحراف الملك عليه بسبب إنكاره على الشيخ محيي الدّين [بن] العربي، ثم صار بعد التقاعد مدرّسا بإحدى الثمان، ثم قاضيا بالعساكر الروم إيلية [3] ، وكان مرضي السيرة، محمود الطريقة، طارحا للتكلّف، متواضعا، مقبلا على الاشتغال بالعلم، مواظبا على الطاعات، مثابرا على العبادات، قوّالا بالحقّ، لا يخاف في الله لومة لائم، حافظا للقرآن العظيم، له يد طولى في الفقه، والتفسير، والأصول، ومشاركة في سائر العلوم، سيفا من سيوف الحقّ [4] قاطعا، فاصلا بين الحقّ [4] والباطل، حسنة من حسنات الأيام وله «تعليقات» ولكنها لم تشتهر.
مرض رحمه الله تعالى بعد صلاة العشاء فلم يمض نصف الليل حتّى مات.
وفيها المولى محمد بن عبد الأول التّبريزي [5] أحد موالي الرّوم الحنفي.
رأى الجلال الدّواني وهو صغير، وقرأ على والده قاضي حنفية مدينة تبريز،
__________
[1] ترجمته في «الشقائق النعمانية» ص (265- 266) و «الكواكب السائرة» (2/ 28- 29) .
[2] في «ط» : «من» .
[3] في «الكواكب السائرة» : «الرومتلية» .
[4] ما بين الرقمين سقط من «آ» .
[5] ترجمته في «الشقائق النعمانية» ص (289) و «الكواكب السائرة» (2/ 39) و «معجم المؤلفين» (1/ 122) .

(10/435)


ودخل في حياة والده الرّوم فعرضه المولى ابن المؤيد على السلطان أبي يزيد لسابقة بينه وبين والده فأعطاه مدرسة، ثم تدريس إحدى المدرستين المتجاورتين بأدرنة، ثم بإحدى الثمان، وعزل ثم أعطي إحداهن ثانيا، ثم أضرّت عيناه، فأعطي تقاعدا بثمانين درهما.
وكان فاضلا، زاهدا، صحيح العقيدة، له «حاشية على شرح هداية الحكمة» لمولانا زاده.
وفيها شمس الدّين محمد بن علي بن عطية الحموي الشافعي [1] الإمام العلّامة الأوحد، المحقّق الفهّامة، شيخ الإسلام ابن شيخ الإسلام، العارف بالله ابن العارف بالله.
أخذ العلوم الظّاهرة والباطنة عن أبيه، وعن كثير من الواردين إليه، ولقّنه والده الذكر، وألبسه الخرقة، وكان قد ابتلي في صغره بسوء الفهم والحفظ، حتى ناهز الاحتلام، وفهمه في إدبار، فبينما هو ليلة من الليالي عند السّحر، إذا هو بوالده قد أخذته حالة، فأخذ في إنشاد شيء من كلام القوم، فلما سرّي عنه، خرج من بيته، وأخذ في الوضوء في إناء واسع من نحاس، فلما فرغ والده من وضوئه أخذ الشيخ شمس الدّين ماء وضوء والده وشربه فوجد بركته وتيسر عليه الفهم والحفظ من يومئذ، ولم يتوقف عليه بعد ذلك شيء من المطالب القلبية كما ذكر ذلك صاحب الترجمة في رسالته التي ألّفها في علم الحقيقة، وأكملها في سنة ثلاث وأربعين، وسمّاها «تحفة الحبيب» ، وكان يعظ بحماة بعد والده ويدرّس في العلوم الشرعية والعقلية، وتشتكي [2] إليه الخواطر فيجيب عنها.
وكان في وعظه وفصاحته وبلاغته آية.
وحجّ هو وأخوه أبو الوفا سنة ثمان وثلاثين، وعمل مجلسه بعد عوده في مجلس القصب خارج دمشق، وهرعت أهل دمشق إليه.
__________
[1] ترجمته في «درّ الحبب» (2/ 1/ 170- 177) و «الكواكب السائرة» (2/ 50- 52) و «الأعلام» (6/ 291- 292) .
[2] في «آ» و «ط» : «وتشكي» وما أثبته من «الكواكب السائرة» مصدر المؤلف.

(10/436)


قال ابن الحنبلي [1] : ومما من الله به على صاحب الترجمة سرعة الإنشاء بحيث لو أخذ في وضوء صلاة الجمعة، وطلب منه أن يخطب لعمل على البديهة في سرّه خطبة عجيبة [غريبة] ، وخطب بها حالا، ولم يتوقف على رسمها ورقمها [2] مآلا.
قال: وكان دمث الأخلاق، جمالي المشرب، عنده طرف جذبة [3] .
وبالجملة فقد كان من خيار الأخيار [4] ، وآثاره من بديع الآثار [5] ، ولله درّه فيما أنشدنيه من شعره:
تنفّس قلب الصّب في كلّ ساعة ... لأكؤس همّ ذا الزّمان أدارها
إلى الله أشكو أنّ كل قبيلة ... من الناس قد أفنى الحمام خيارها
وتوفي بمدينة حماة في أوائل رمضان، رحمه الله تعالى.
وفيها المولى شمس الدّين محمد بن العلّامة على الفناري الحنفي [6] أحد الموالي الرّومية.
قرأ على والده في شبابه، وبعد وفاته على المولى خطيب زاده، والمولى أفضل الدّين، وترقّى في المدارس حتى صار مفتيا أعظم، واشتغل بإقراء التفسير والتّصنيف، وألّف عدة رسائل، وحواش على «شرح المفتاح» للسيد، وغير ذلك.
وكان آية في الفتوى، باهرا فيها، وله احتياط في المعاملة مع الناس، متحرزا عن حقوق العباد، محبّا للفقراء والصلحاء، لا تأخذه في الله لومة لائم.
توفي بالقسطنطينية، ودفن بجوار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
__________
[1] انظر «درّ الحبب» (2/ 1/ 172) وقد نقل المؤلف عنه بتصرف وما بين الحاصرتين مستدرك منه.
[2] لفظة «ورقمها» لم ترد في نسخة «درّ الحبب» الذي بين يدي.
[3] في «آ» و «ط» : «جذب» والتصحيح من «درّ الحبب» مصدر المؤلف.
[4] في «آ» و «ط» : «من أخيار الأخيار» وما أثبته من «درّ الحبب» .
[5] في «درّ الحبب» : «من أثير بديع الآثار» وانظر حاشيته.
[6] ترجمته في «الشقائق النعمانية» ص (229- 230) و «الكواكب السائرة» (2/ 52) و «معجم المؤلفين» (11/ 73) .

(10/437)


وفيها شمس الدّين محمد بن يعقوب الصّفدي [1] الشافعي، الشيخ الإمام شيخ الإسلام، عالم صفد ومفتيها، سبط ابن حامد.
قرأ، وحصّل في بلده وغيرها، ورحل إلى دمشق للطلب، فقرأ على الكمال بن حمزة، والكمال العيثاوي، وغيرهما، ورحل إلى مصر، فأخذ عن أكابر علمائها.
وكان كثير الرحلة إلى دمشق، شديد المحبّة لأهلها، عالما، عاملا، ذا مهابة، وجلالة، وكلمة نافذة.
توفي في أواخر ذي الحجّة بصفد.
وفيها شرف الدّين يحيى بن أبي بكر بن إبراهيم بن محمد العقيلي الحلبي الحنفي، المعروف بابن أبي جرادة [2]- نسبة إلى أبي جرادة، حامل لواء أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يوم النّهروان، وكان اسم أبي جرادة عامرا- كان صاحب الترجمة حسن الشكل، نيّر الشّيبة، كثير الرفاهية، ولي عدة مناصب بحلب.
مولده سنة إحدى وسبعين وثمانمائة ووفاته في هذه السنة.
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 62) .
[2] ترجمته في «درّ الحبب» (2/ 2/ 544- 545) و «الكواكب السائرة» (2/ 259) .

(10/438)


سنة خمس وخمسين وتسعمائة
فيها توفي بدر الدّين حسن بن قاضي القضاة جلال الدّين عمر بن محمد الحلبي الشافعي، المعروف بابن النّصيبي [1] .
ولد سنة سبع وتسعمائة، واشتغل بالعلم مدة على العلاء الموصلي، والبرهان اليشبكي، وغيرهما، ثم رحل لأجل المعيشة إلى الرّوم، فصار يكتب القصص التي ترفع للسلطان بالتركية على أحسن وجه، ثم تقرّب إلى نيشانجي الباب العالي، فقرّبه، وأحبّه، وتولى بهيبته نظر الأوقاف بحلب، ونظر الحرمين، والبيمارستان الأرغوني، ثم وشي به إلى عيسى باشا لما دخل حلب مفتشا على ما بها من المظالم، وقيل له: إنّ عليه ما ينوف على عشر كرات، فاختفى منه مدة، وشدّد عيسى باشا في طلبه، فتمثل بين يديه ملقيا سلاحه، ثم عاد من عنده سليما، وتولى نظر الأمور السلطانية بحلب بعد وفاة عيسى باشا، فهابه الأمراء والكتّاب، حتى تولى إسكندر بيك دفتر دارية حلب، فأظهر عليه أموالا كثيرة بمعونة أهل الديوان وأخذها منه، حتى لم يبق معه ولا الدرهم الفرد.
وتوفي مسموما، ودفن بمقبرة سيدي على الهروي خارج باب المقام بحلب.
وفيها- تقريبا- المولى شعثل أمير الحنفي [2] أحد الموالي الرّومية العلّامة.
__________
[1] ترجمته في «درّ الحبب» (1/ 2/ 533- 538) و «الكواكب السائرة» (2/ 136) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 151) .

(10/439)


كان مدرّسا بإحدى الثمان، ثم ولي قضاء دمشق، فدخلها في ربيع الثاني سنة اثنتين وخمسين، واستمر قاضيا بها نحو سنتين، وحمدت سيرته، وكانت له صلابة في أحكامه وحرمة وافرة، رحمه الله تعالى.
وفيها المولى صالح جلبي بن جلال الدّين الأماسي [1] الجلدي- بفتحتين نسبة إلى جلد من أعمال أماسية- الحنفي أحد الموالي الرّومية العلّامة.
ترقى في التدريس إلى إحدى الثمان، ثم أعطي قضاء حلب، فدخلها يوم الخميس ثالث شوال سنة إحدى وخمسين، ثم عزل منها في ثاني عشري ذي القعدة، ثم ولي قضاء دمشق، فدخلها في رجب سنة أربع وخمسين، وباشر الأحكام بها نحو سنة.
وكان محمود السيرة، ذا تواضع وأخلاق حسنة.
قال ابن الحنبلي: وكان ممن منع شرب القهوة بحلب على الوجه المحرم من الدور المراعى في شرب الخمر وغيره، وكنت عنده يوم منع ذلك، فسأل أيشربونها [2] بالدور، فقلت نعم، والدور كما شاع باطل.
وأنشدته من نظمي:
وقهوة البنّ أضحى ... بها الحمى غير عاطل
لكنّهم شربوها ... بالدّور والدّور باطل
وفيها أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد الكيزواني، الحموي [3] الصّوفي المسلّك المربّي، العارف بالله تعالى، منسوب إلى كازوا، فقياس النسبة الكازواني، لكن اشتهر بالكيزواني. وكان يقول: أنا الكي زواني.
__________
[1] ترجمته في «درّ الحبب» (1/ 2/ 700- 701) و «الكواكب السائرة» (2/ 152- 153) .
[2] في «درّ الحبب» : «أتشربونها» .
[3] ترجمته في «الشقائق النعمانية» ص (325) و «درّ الحبب» (1/ 2/ 906- 915) و «الطبقات الكبرى» للشعراني (2/ 180) و «الكواكب السائرة» (2/ 201- 204) و «ريحانة الألبا» (1/ 441) و «إعلام النبلاء» (5/ 517- 522) و «الأعلام» (4/ 258) و «معجم المؤلفين» (7/ 28) .

(10/440)


ولد- تقريبا- في عاشر رجب سنة ثمان وثمانين وثمانمائة، وتوجّه صحبة الشيخ علوان الحموي إلى بروسا من بلاد الرّوم، وأقام في صحبته عند سيدي علي بن ميمون، وانتفع به، وتهذّب بأخلاقه، ودخل حلب، وجلس في مجلس التسليك، فاجتمع عليه خلق كثير، ودخل دمشق، ونزل بالصالحية، وكان له اطلاع على الخواطر، عابدا، قانتا.
قال ابن الحنبلي: وتوفي بين مكّة والطائف- أي في هذه السنة- وحمل إلى مكّة فدفن بها.
وأورد له الشعراوي في «الطبقات الكبرى» :
القصد رمز فكن ذكيا ... والرّسم سرّ [1] على الأشاير
فلا تقف مع حروف رسم ... كلّ المظاهر لها ستاير
وفيها شمس الدّين محمد بن إسماعيل بن محمد بن علي بن إدريس العجلوني الدّيموني الشافعي [2] قاضي عجلون.
قال في «الكواكب» : كان من أخص جماعة شيخ الإسلام الوالد وتلاميذه، قسّم عليه «المنهاج» و «التنبيه» و «المنهج» وغير ذلك، وسمع عليه جانبا من «صحيح البخاري» بقراءة الشيخ برهان الدّين البقاعي، وقرأ عليه شيئا كثيرا، وقال عنه: إنه من الفضلاء المتمكنين، ذو يد طولى في القراآت، والفقه، ومشاركة حسنة في الحديث، والأصول، والنحو، وغير ذلك. وكتب له إجازة مطوّلة أذن له فيها بالإفتاء والتدريس. انتهى وفيها أقضى القضاة أبو اليمن محمد بن القاضي محبّ الدّين محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن قاضي عجلون الشافعي [3] الإمام العالم.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ستر» وما أثبته من «الطبقات الكبرى» للشعراني مصدر المؤلف.
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 27- 28) .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 8) .

(10/441)


قال في «الكواكب» : كان من العلماء الكمّل والصلحاء الكبار، له في اليوم والليلة ختمات لكتاب الله تعالى، لا يفتر عن القراءة في ممشاه وقعوده، نيّر الوجه، حسن الشكل، ولي القضاء مدة يسيرة، نيابة عن ابن عمّه قاضي القضاة نجم الدّين بن قاضي عجلون، وكان يباشر عنه الخطابة بالجامع الأموي، وكان يلبس الثياب الحسنة، وفي آخر عمره طرح التكلّف، ولبس الثياب الخشنة، واستوى عنده كلاهما.
وتوفي بعد العشاء [1] ليلة الخميس سابع عشر جمادى الآخرة، ودفن بباب الصغير بمقبرة أهله قريبا من قبر [2] عمه شيخ الإسلام تقي الدّين.
وفيها مروان المجذوب [3] .
كان في أول أمره قاطع الطريق ببلاد الشرقية من مصر، وكان مشهورا بالفروسية، ثم لما جذب كان يدور في أسواق دمشق وتظهر عليه للناس كرامات وخوارق، وكان إذا خطر لأحد ممن يصادفه معصية أو عمل بمعصية يصكّه حتى يدع خاطره، وربما منعه بعضهم فشلّت يده.
وتوفي بمصر ودفن بجانب النّبهاويّ [4] خارج باب الفتوح.
وفيها السيد الشريف ولي بن الحسين العجمي الشّرواني الشافعي، المعروف بوالده [5] .
حجّ من بلاده، وعاد فدخل دمشق وحلب سنة تسع وعشرين وتسعمائة، وقرأ بحلب «صحيح البخاري» على البرهان العمادي تاما، وقرأ عليه بها جماعة منهم ابن الحنبلي.
__________
[1] في «ط» : «بعد عشاء» .
[2] لفظة «قبر» سقطت من «ط» .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 250) و «جامع كرامات الأولياء» (2/ 250) .
[4] في «ط» : «البنهاوي» .
[5] ترجمته في «درّ الحبب» (2/ 2/ 531- 532) و «الكواكب السائرة» (2/ 257) .

(10/442)


قال: قرأت عليه في «متن الجغميني» في الهيئة [1] ، وانتفعت به، وهو أول إشغالي [2] بهذا الفنّ، ثم رحل إلى بلاده، وحدّث بها.
واشتهر بالمحدّث، وكان يعرف البيان معرفة حسنة، وتوفي ببلاده.
__________
[1] ويعرف «متنه» الذي أشار إليه المؤلف ب «الملخص» أيضا، وهو مختصر مشهور مرتب على مقدمة ومقالتين. انظر «كشف الظنون» (2/ 1819) .
[2] كذا في «آ» و «ط» : «إشغالي» وفي «درّ الحبب» : «وهو أول أستاذ لي» .

(10/443)