شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة إحدى وسبعين وتسعمائة
فيها كان سيل عظيم بمكّة المشرّفة بل سيول، فدخل السّيل الحرم الشريف، وعلا على الركن اليماني ذراعا، فقال مؤرّخا لذلك الأديب صلاح الدّين القرشي:
يا سائلي تاريخ سيل طمى ... علا على الرّكن اليماني ذرا
وفيها توفي، تقريبا إن لم يكن تحديدا، برهان الدّين إبراهيم بن محمد بن إبراهيم التّسيلي- بفتح المثناة الفوقية وبالمهملة وبعد المثناة التحتية لام- الصّالحي الشافعي [1] الإمام العالم المحدّث المسند العارف بالله تعالى.
أخذ عن الإمام محمد بن علي الحنفي الصّالحي الإمام، وسمع منه [2] ومن غيره [3] من الأعلام ما لا يحصى، ودأب وحصّل، وشاع ذكره، وبعد صيته بعلو الإسناد، وأخذ عنه الأعيان، منهم شيخ شيوخنا الشيخ إبراهيم بن الأحدب، وأثنى عليه بالعلم، ووصفه بالتصوف والولاية.
وبالجملة فقد كان آية من آيات الله تعالى، علما، وعملا، وزهدا، وورعا، وعلو سند، رحمه الله تعالى.
وفيها- تقريبا- شهاب الدّين أحمد بن أحمد بن حمزة الرّملي الأنصاري الشافعي [4] ، الإمام العالم العلّامة، شيخ الإسلام، تلميذ القاضي زكريا.
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 86) .
[2] في «ط» : «منهم» .
[3] في «آ» و «ط» : «ومن غيرهم» وما أثبته يقتضيه السياق.
[4] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 119- 120) و «الأعلام» (1/ 120) و «معجم المؤلفين» (1/ 147- 148) .

(10/525)


أخذ الفقه عنه، وعن طبقته، وكان من رفقاء البدر الغزّي، وأخذ عنه النور الزيّادي، والنور الحلبي [1] وأضرابهما، وأقرأ وأفتى، وخرّج وصنّف، ومن مصنّفاته «شرح الزبد لابن أرسلان» و «شرح منظومة البيضاوي» في النكاح، ورسالة في شروط الإمامة، و «شرح شروط الوضوء» وغير ذلك. قاله ولده. وقال: توفي في بضع وسبعين وتسعمائة.
وفيها حسين بن علي الحصكفي الشافعي [2] الإمام العالم.
قال في «الكواكب» : مولده سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة، ونظم «تصريف العزّي» وهو ابن أربع عشرة سنة، وقرّظ له عليه شيخ الإسلام الوالد. انتهى وفيها المولى عبد الباقي بن المولى علاء الدّين العربي الحلبي الحنفي [3] اشتغل بطلب العلوم، حتى وصل إلى مجلس المفتي علاء الدّين الجمالي، وصار ملازما منه، ثم تنقّلت به الأحوال إلى أن ولي قضاء حلب، ثم قضاء مكّة، ثم قضاء بروسة، ثم قضاء القاهرة، ثم قضاء مكة ثانيا.
وكان من أعلام العلماء، صاحب يد في العلوم، وربى أكابر من أعيان الرّوم.
وكان كثير العناية بالدرس، وجمع الأماثل، صاحب اشتهار كثير، حتى قيل لم يبلغ أحمد مبلغه في الاشتهار والظهور.
وكان يلقي مدة إقامته سبعة دروس أو ثمانية، لكنه كان في غاية الحرص على حبّ الرئاسة والجاه، وقد بذل في تحصيل قضاء العسكر أموالا عظيمة، منها أنه كان بنى زمن قضائه ببرسا حمّاما عاليا على ماء جار من غرائب الدنيا يحصّل منه مال عظيم في كل سنة، فوهبه للوزير رستم باشا فلم يثمر له بثمرة.
وتوفي بحلب في الطاعون ولم يعقب. قاله في «ذيل الشقائق» .
__________
[1] كذا في «ط» و «المنتخب» لابن شقدة بنسختيه: «والنور الحلبي» وفي «آ» : «والبرهان الحلبي» .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 143- 145) .
[3] ترجمته في «درّ الحبب» (1/ 2/ 739- 743) و «العقد المنظوم» ص (360- 362) .

(10/526)


وفيها المولى عبد الرحمن بن جمال الدّين الحنفي، الشهير بشيخ زاده [1] الإمام العلّامة.
قال في «العقد المنظوم» : ولد بقصبة مرزيقون [2] ، وطلب العلم، وخدم العلماء، كالمولى حافظ العجمي، والمولى محمد القراباغي [3] ، وحصّل طرفا من العلم، ثم اتصل بخدمة عرب جلبي، فأخذ عنه، وأقام على قدم الإقدام، واهتم في تحصيل المعارف، فمهر في العلوم العربية، والفنون الأدبية، وتميّز في الحديث والتفسير والوعظ، ثم ولي مدرسة دار الحديث بقصبة أبي أيوب الأنصاري، وخطابة جامع قاسم باشا.
وكان حسن النغم، طيب الألحان. ومن جملة من يتغنى بالقرآن، ثم عيّن له وظائف الوعظ والتذكير في عدة جوامع، وتميّز على أقرانه.
وكان من جلّة العلماء وأكابر الفضلاء، ويكفيه من الفخر ما كتب له به أبو السعود أفندي المفتي في صورة إجازته، وهو هذا: اللهم ربّ الأرباب، مالك الرّقاب، منزل الكتاب، محقّ الحقّ وملهم الصواب، صلّ وسلم على أفضل من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وعلى آله الأوتاد وصحبه الأقطاب، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهّاب. وبعد: فلما توسمت في رافع هاتيك الأرقام زين العلماء الأعلام الألمعي الفطن اللّبيب، واللّوذعي اللّقن الأريب، ذي الطبع الوقّاد، والذّهن القوي النقّاد، العاطف لأعنّة عزائمه إلى ابتغاء مرضاة الله تعالى من غير عاطف يثنيه، والصارف لأزمة مراده نحو تحصيل زلفاه بلا صارف يلويه، الساعي في تكميل النفس بالكمالات العلية بحسب قوتيه النظرية والعملية، سليل المشايخ الأخيار، نجل العلماء الأبرار، مولانا الشيخ عبد الرحمن بن قدوة العارفين الشيخ جمال الدّين وفقه الله تعالى لما يحبه ويرضاه، وأتاح له في أولاه وأخراه ما هو أولاه وأحراه، دلائل نبل ظاهر في الفنون، ومخائل فضل باهر في
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (362- 364) .
[2] في «ط» : «من زيقون» وهو من التحريف الطباعي.
[3] في «ط» : «القراماني» وهو تحريف.

(10/527)


معرفة الكتاب المكنون، أجزت له في مطالعة الكتب الفاخرة واقتناص العلوم الزاخرة [1] التي ألّفها أساطين أئمة التفسير من كل وجيز وبسيط، وصنّفها سلاطين أسرة التقرير من كل شامل ومحيط، واستخراج ما في بطونها [2] من الفوائد البارعة، واستنباط ما في تضاعيفها من الفوائد [3] الرائعة، وسوغت له إفادتها للمقتبسين من أنوارها [الرائقة] تفسيرا وتقريرا، وإفاضتها على المغتنمين من مغانم آثارها عظة وتذكيرا، على ما نظمه بنان البيان في سمط السطور، ورقمه يراعة البراعة في طي رقها المنشور، حسبما [4] أجاز لي شيخي ووالدي المرحوم بحر المعارف ولجة العلوم، صاحب النفس المطمئنة القدسية، محرز الملكات الإنسية، المنسلخ من النعوت الناسوتية، الفاني في أحكام الشئون اللاهوتية، العارف لأطوار خطرات النفس، الواقف على أسرار الحضرات الخمس، مالك زمام الهداية والإرشاد، حجّة الخلق على كافة العباد، محيي الحقيقة والشريعة [5] والدّين محمد بن مصطفى العمادي، المجاز له من قبل مشايخه الكبار، لا سيما أستاذه الجليل المقدار، الجميل الآثار، الحبر السّامي والبحر الطامي، الصّنديد الفريد والنحرير المجيد، عمّ والدي علاء الملّة والدّين، المولى الشهير بعلي القوشجي، صاحب «الشرح الجديد للتجريد» وأستاذي العلّامة العظيم الشأن والفهامة الجلي العنوان الإمام الهمام السميدع القمقام، نسيج وحده ووحيد عهده، عبقري لا يوجد له مثال، أو حدي تضرب بمآثره الأمثال، المولى البارع الأمجد أبو المعالي عبد الرحمن بن علي المؤيد [6] المجاز له من قبل أستاذه المشهور جلالة قدره فيما بين الجمهور، المعروف فضائله لدى القاصي والداني، جلال الملّة والدّين محمد بن أسعد الدواني، المجاز له من قبل أساتذته [7] العظام، الذين من زمرتهم
__________
[1] في «آ» و «ط» : «واختياض المعالم الزاخرة» وما أثبته من «العقد المنظوم» مصدر المؤلف.
[2] في «آ» : «ما في مطلوبها» وفي «العقد المنظوم» : «ما في مطاويها» .
[3] في «العقد المنظوم» : «من الفرائد» .
[4] في «آ» و «ط» : «حيثما» والتصحيح من «العقد المنظوم» .
[5] في «العقد المنظوم» : «محيي الشريعة والحقيقة» .
[6] كذا في «آ» و «العقد المنظوم» وفي «ط» : «علي بن المؤيد» .
[7] في «آ» : «أساتذة» .

(10/528)


والده العلي القدر سعد الملّة والدّين أسعد الصّدّيقي، المجاز له من قبل مشايخه الفهام، لا سيما أستاذه علّامة العالم مسلم الفضل بين جماهير الأمم، الغني عن التعريف على الإطلاق، المشتهر بلقبه الشريف في أكناف الآفاق، زين الملّة والدّين علي المحقق الجرجاني، وأستاذي الماجد الخطير النّقاب المحدّث النحرير، ذو القدر الأتم والفخر الأتم أبو الفضائل سيدي محمد بن محمد، المجاز له من قبل أستاذه الفاضل وشيخه الكامل، ذو النسب السّامي والفضل العصامي، المولى الشهير بحسن جلبي، محشّي «شرح المواقف» و «التلويح» و «المطول» المجاز له من جهة شيخه الأجل وأستاذه الشامخ المحل وحيد عصره وأوانه، وفريد دهره وزمانه، علاء المجد والدّين، المشهور بالمولى على الطوسي، صاحب كتاب «الذخر» وغيره، والله سبحانه أسأل مكبا على وجه الذل والمهانة ساجدا على جبهة الضراعة والاستكانة أن يفيض عليهم سجال عفوه وغفرانه، وشآبيب رحمته ورضوانه، ويهدينا سبل الهدى ومناهج الرشاد، ويقينا مصارع السوء يوم التناد، إنه رؤوف بالعباد. كتبه العبد الفقير إلى الله سبحانه [1] ، الراجي من جنابه عفوه وغفرانه، أبو السعود الفقير، عفى عنه.
وتوفي شيخ زاده في هذه السنة. انتهى وفيها بدر الدّين حسين بن السيد كمال الدّين محمد بن السيد عزّ الدّين حمزة بن السيد شهاب الدّين أحمد بن علي بن محمد السيد الشريف الحسيني الشافعي الدمشقي [2] .
ولد سنة ست وعشرين وتسعمائة، وأخذ عن والده وغيره، وكان مدرّسا في الشامية الجوانية والجامع الأموي، وفيه انحصر نسب هذا البيت من الذكور، وكانت وفاته بعد صلاة الجمعة سابع عشر [3] ذي القعدة، ودفن بتربة والده بالقرب من سيدي بلال الحبشي.
__________
[1] في «آ» : «إليه سبحانه» .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 143) .
[3] في «ط» : «سابع عشري» .

(10/529)


وفيها السيد وجيه الدّين عبد الرحمن بن حسين بن الصّدّيق الأهدل اليمني الشافعي [1] .
قال في «النور» : ولد سنة إحدى وتسعين وثمانمائة بمدينة زبيد، ونشأ بها، وقرأ القرآن، وصحب جماعة من المشايخ، ونصّبه الشيخ المعروف بابن إسماعيل الجبرتي شيخا وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وظهرت عليه آثار بركة المشايخ الصالحين، وفتح عليه فتوح العارفين، حتى لحق من قبله، وساد أهله، وتضاءلت عليه [2] المشايخ الأكابر، وشهدت له بالتقدم على الأوائل والأواخر، فأصبح فريد دهره ووحيد عصره، منقطع النّظير، متصلا بجدّه بالأثير، كثرت أتباعه وأصحابه من المشايخ والعلماء والقضاة والأمراء والوزراء والأغنياء والفقراء.
وكان كثير الإنفاق، ميسرة عليه الأرزاق، ما قصده سائل فخاب، ولا أمه وافد إلا ورجع بزلفى وحسن مآب، وهو مع ذلك على قدم التوكل والفتح الرّباني، وكان مشاركا في كثير من العلوم، وجمع كتبا كثيرة في فنون شتّى.
وكان إذا خرج من بيته تزدحم عليه الناس تلتمس بركته.
ومن كراماته أنه جاءه مريض قد عظم بطنه [3] من الاستسقاء فقرب إليه طعاما وأمره أن يأكله جميعه ففعل ما أمره فزال عنه ذلك المرض في الحال [4] .
وكراماته لا تنحصر.
وتوفي بزبيد في جمادى الأولى وقبره بها مشهور مزور، وعليه قبة حسنة.
انتهى.
وفيها علاء الدّين علي بن إسماعيل بن موسى بن علي بن حسن بن
__________
[1] ترجمته في «النور السافر» ص (275- 276) .
[2] في «آ» : «له» وما أثبته من «النور السافر» وقد سقطت اللفظة من «ط» .
[3] لفظة «بطنه» سقطت من «ط» .
[4] في «النور السافر» : «فحسب إن فعل ما أمره زال عنه ذلك المرض في الحال» .

(10/530)


محمد الدمشقي الشافعي [1] الشهير بابن عماد الدّين، وبابن الوس- بكسر الواو وتشديد السين المهملة- الإمام العلّامة.
كان أبوه سمسارا في القماش بسوق جقمق، وولد صاحب الترجمة ليلة السبت خامس عشري رجب سنة سبع عشرة وتسعمائة، ولازم في الفقه الشيخ تقي الدّين القاري وغيره، وأخذ الحديث عن جماعات، منهم الشّهاب الحمصي ثم الدمشقي، والبرهان البقاعي، وأخذ العربية عن الشمس ابن طولون، والكمال ابن شقير، والأصول عن المولى أمير جان التبريزي حين قدم دمشق، والكلام والحكمة عن منلا حبيب الله الأصفهاني، والعربية أيضا والتفسير عن الشيخ مغوش المغربي، وأخذ عن خلائق، وحجّ، وقرأ على قاضي مكّة ابن أبي كثير، وولي نيابة القضاء بمحكمة الميدان، ثم نيابة الباب مدة طويلة، وأقامه بعض قضاة القضاة مقامه، وسافر إلى الرّوم، فعجب علماء الرّوم من فطانته وفضيلته، مع قصر قامته وصغر جثّته، وسموه كجك [2] علاء الدّين، وكانوا يضربون المثل به، وأعطي ثم تدريس دار الحديث الأشرفية بثلاثين عثمانيا.
قال ابن طولون: وهو درس متجدد لم يكن بالدار المذكورة سوى مشيخة الحديث، ثم أعرض عن نيابة القضاء، وأقبل على التدريس، وغلبت عليه المعقولات، وعمل حواشي على «شرح الألفية» لابن المصنّف.
وكان يقرئ، ويدرّس، ويفتي.
وكان يحفظ القرآن العظيم ويكثر تلاوته، وانتفع به كثيرون، منهم الشيخ إسماعيل النابلسي، والشيخ عماد الدّين، والشمس بن المنقار، والمنلا أسد، وغيرهم.
ومن شعره:
لولا ثلاث هنّ لي بغية ... ما كنت أرضى أنني أذكر
عزّ رفيع وتقى زائد ... والعلم عني في الملا ينشر
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 182- 186) و «معجم المؤلفين» (7/ 37) .
[2] في «ط» : «جك» وهو خطأ.

(10/531)


ومنه:
قل لأبي الفتح إذا جئته ... قول عجول غير مستأن
أدرك بني البرش على برشهم ... قد منعوا من قهوة البن
وتوفي بدمشق بعد ظهر يوم الثلاثاء ثالث عشر ربيع الآخر، وحضر جنازته قنالي زاده.
وفيها غرس الدّين جلبي بن إبراهيم بن أحمد الحنفي [1] الإمام العلّامة.
نشأ بمدينة حلب، وطلب العلم، وجد واجتهد، فبلغ ما قصد، وقرأ بحلب على الشيخ حسن السيوفي، ثم ارتحل ماشيا إلى دمشق، وأخذ فيها الطب عن ابن المكي، وانتقل إلى القاهرة ماشيا أيضا، فاشتغل بها على ابن عبد الغفّار، أخذ عنه الحكميات والرياضيات والعلوم العقلية، وأخذ علوم الدّين عن القاضي زكريا، وفاق أقرانه، وسار بذكره الركبان، ورفع منزلته الملك الغوري، ولما وقع بينه وبين سلطان الرّوم حضر الوقعة مع الجراكسة، إلى أن استولى السلطان سليم على الدّيار المصرية، وتم الأمر جيء بابن الغوري، وصاحب الترجمة أسيرين فعفا عنهما، وصحبهما إلى قسطنطينية فاستوطنها المترجم، وشرع في إشاعة معارفه، حتّى اشتغل عليه كثير من ساداتها.
وكان رأسا في جميع العلوم خصوصا الرياضيات، صاحب فنون غريبة.
وكان مشهورا بالبخل في التعليم، ولم يقبل مدة عمره وظيفة.
وكان يلبس لباسا خشنا وعمامة صغيرة، ويقنع بالنّزر من القوت، ويكتسب بالتطبب.
ومن مصنفاته «التذكرة في علم الحساب» و «متن» و «شرح» في الفرائض، و «حاشية على فلكيات شرح المواقف» و «حاشية على الجامي» إلى آخر
__________
[1] مختلف في اسمه بين المصادر، وقد ترجم له صاحب «العقد المنظوم» ص (357- 360) و «درّ الحبب» (1/ 1/ 590- 594) و «إعلام النبلاء» (6/ 57- 62) .

(10/532)


المرفوعات، و «حاشية على شرح النّفيسي للموجز في الطب» و «شرح جزءين من تفسير القاضي البيضاوي» وكتاب في علم الزايرجة، و «شرح القصيدة الميمية» للمفتي أبي السعود، وأتي به إليه فعانقه، وأكرمه غاية الإكرام، ولما نظر إلى ما كتبه استحسنه وأعطاه جائزة سنية.
وفيها المولى محمد بن المفتي أبي السعود [1] .
ربّي في حجر والده، وأخذ عنه العلوم، حتى برع فيها، واستدل بطيب الأصل على طيب الثمر، ثم أخذ عن المولى محيي الدّين الفناري، ثم تنقّل في المدارس، إلى أن قلّد قضاء دمشق، فحسنت سيرته، ثم قضاء حلب، ثم بعد مضي سنة انتقل إلى رحمة الله تعالى في حياة أبيه وما أناف [2] عمره على أربعين سنة.
وفيها رضي الدّين أو عبد الله محمد بن إبراهيم بن يوسف بن عبد الرحمن، المعروف بابن الحنبلي الحنفي الحلبي [3] الإمام العلّامة المؤرّخ.
أخذ عن الخناجري، والبرهان الحلبي، وعن أبيه وآخرين، وقد استوفى مشايخه في «تاريخه» [4] وحجّ سنة أربع وخمسين وتسعمائة، ودخل دمشق، وانتفع به جماعة من الأفاضل بدمشق، كشيخ الإسلام محمود البيلوني، والشمس بن المنقار، وأخذ عنه جماعات، منهم العلّامة أحمد بن المنلا، والقاضي محبّ الدّين.
وكان إماما، بارعا، مفنّنا، مسندا، مصنّفا، وله مؤلفات في عدة فنون، منها «حاشية على شرح تصريف العزّي» للتفتازاني، و «شرح على النزهة في الحساب»
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (364- 366) .
[2] في «ط» : «وما ناف» .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 42- 43) و «إعلام النبلاء» (6/ 62- 72) و «الأعلام» (5/ 302- 303) و «معجم المؤلفين» (8/ 223- 224) .
[4] المعروف ب «درّ الحبب في تاريخ أعيان حلب» وقد طبع في وزارة الثقافة بدمشق بين عامي 1972- 1974 بتحقيق الأستاذين محمود الفاخوري ويحيى عبارة، وهي طبعة جيدة متقنة نافعة.

(10/533)


و «الكنز المظهر في حلّ المضمر» و «مخايل الملاحة في مسائل المساحة» و «شرح المقلتين في مساحة القلّتين» و «كنز من حاجي وعمّى في الأحاجي والمعمّى» و «درّ الحبب في تاريخ حلب» .
ونظم الشعر فمنه قوله مضمنا:
بالله إن نشوات شمطاء الهوى ... نشأت فكن للناس أعظم ناس
متغزّلا في هالك بجماله ... بل فاتك بقوامه المياس
واشرب مدامة حب حب وجهه ... كاس ودع نشوات خمر الطّاس
وإذا شربت [1] من المدام وشربها ... فاجعل حديثك كلّه في الكاس
وله:
يا من لمضطرم الأوا ... م حديثه المروي ري
أروي شمائلك العظا ... م لرفقة حضروا لدي
عليّ أنال شفاعة ... تسدى لدى العقبى إلى
وإذا شفعت لذنبه ... ولأنت لم تنعت بلي
حاشا شمائلك اللطي ... فة أن ترى عونا علي
وتوفي يوم الأربعاء [2] ثالث عشر [2] جمادى الأولى، ودفن بمقابر الصالحين بالقرب من قبر الشيخ الزاهد محمد الخاتوني بين قبريهما نحو عشرة أذرع.
وفيها شمس الدّين محمد بن محمد بن محمد بن علي بن أبي اللطف الحصكفي الأصل المقدسي الشافعي [3] الإمام العلّامة، عالم بلاد القدس الشريف، وابن عالمها، وأخذ الخطباء بالمسجد الأقصى.
__________
[1] في «إعلام النبلاء» : «وإذا جلست» .
[2] ما بين الرقمين من «إعلام النبلاء» وفي «الكواكب السائرة» : «خامس ... » وانظر تعليق محققة.
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 10- 11) .

(10/534)


كان كأبيه وجدّه علّامة، فهّامة، جليل القدر، رفيع المحلّ، شامل البرّ للخاصة والعامة، كثير السّخاء، وافر الحرمة، ديّنا، صالحا، ماهرا في الفقه وغيره. تفقه على والده، ورحل إلى مصر، فأخذ عن علمائها، كالقاضي زكريا، والنّور المحلّي، ودخل دمشق بعد موت عمّه الشيخ أبي الفضل لاستيفاء ميراثه، فخطب بالجامع الأموي يوم الجمعة حادي عشري ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين وتسعمائة.
وتوفي ببيت المقدس في رجب.

(10/535)


سنة اثنتين وسبعين وتسعمائة
فيها توفي العلّامة عبد الله بن أحمد الفاكهي المكّي الشافعي النحوي [1] قال في «النور» : أمه أم ولد حبشية وولد سنة تسع وتسعين وثمانمائة وكان من كبار العلماء، مشاركا في جميع العلوم، وله مصنّفات مفيدة، منها «شرح الأجرومية» و «شرح على متممتها» [2] للحطّاب أجاد فيها [3] كل الإجادة، وشرح على «قطر ابن هشام» [4] في غاية الحسن، وصنّفه عام ستة عشر وتسعمائة، وعمره حينئذ ثمان عشرة سنة [5] . ولما سار إلى مصر وجد جماعة يقرؤونه وقد أشكل عليهم محلّ منه، فأجاب عن الإشكال، فلم يثقوا بالجواب لعدم علمهم بأنه مصنّفه حتّى أخبرهم أنه هو الشارح، واستشهد على ذلك من كان هناك من المكّيين و «شرح الملحة» واستنبط حدودا للنحو في نحو كراسة ثم شرحها أيضا في كراريس ولم يسبق إلى مثل ذلك.
وبالجملة فإنه لم يكن له نظير في زمانه في علم النحو، فإنه كان فيه آية من آيات الله تعالى. انتهى ملخصا وفيها عبد الله بن عمر بن عبد الله بن أحمد مخرمة اليمني الشافعي [6] .
__________
[1] ترجمته في «النور السافر» ص (277- 278) و «الأعلام» (4/ 69) و «معجم المؤلفين» (6/ 28) .
[2] في «آ» و «ط» : «متمميها» وما أثبته من «النور السافر» مصدر المؤلف.
[3] في «ط» : «فيهما» .
[4] المعروف ب «قطر الندى» .
[5] لفظة «سنة» سقطت من «ط» .
[6] ترجمته في «النور السافر» ص (278- 279) و «الأعلام» (4/ 110) و «معجم المؤلفين» (6/ 95) .

(10/536)


أخذ عن والده وعمّه العلّامة الطّيب، والقاضي عبد الله باسرومي، وكان يقول: إني استفدت من هذا الولد أكثر مما استفاد مني، وجدّ واجتهد، حتى برع، وانتصب للتدريس والفتوى، وصار عمدة يرجع إلى فتواه، وانتهت إليه رئاسة العلم والفتوى في جميع جهات اليمن، وقصد بالفتاوى من الجهات النازحة والأقاليم البعيدة، وأخذ عنه الأعلام، منهم محمد بن عبد الرحيم باجابر، وأبحاثه في كتبه وأجوبته تدلّ على قوة فطنته وغزارة مادته، وكانت تغلب عليه الحرارة حتّى على طلبته، وكان فيه على ما قيل بأو [1] مفرط، والكمال لله.
وكان ناثرا، ناظما، فصيحا، مفوها.
ومن تصانيفه كتاب ينكّت فيه على «شرح المنهاج» للهيتمي في مجلدين، و «فتاوى» في مجلد ضخم، و «المصباح لشرح [2] العدة والسلاح» و «شرح الرحبية» و «ذيل على طبقات الشافعية» للإسنوي، ورسالتان في الفلك والميقات، ورسالة في الربع المجيب، وغير ذلك.
ومن شعره:
قلت: سلام الله من مغرم ... ما إن سلا عنكم فقالوا سلا
فقلت هل ترضون لي وقفة ... قالوا فما تطلب قلت الكلا
ومنه:
الواو من صدغه في العطف يطمعني ... والسّيف من لحظه يومي إلى العطب
فحينما حرت قام الهجر ينشدني ... السّيف أصدق أنباء من الكتب [3]
ومنه:
قالت: أراك من الذكا في غاية ... جلّت عن الإسهاب والإطناب
__________
[1] البأو: الكبر والفخر. انظر «لسان العرب» (بأي) .
[2] لفظة «الشرح» سقطت من «آ» .
[3] الشطر الثاني من البيت مستعار من البيت الشهير لأبي تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حدّه الجدّ بين الجدّ واللعب

(10/537)


فعلام تبدي في الأمور تغابيا ... فأجبت: سيّد قومه المتغابي
وتوفي بعدن ليلة الاثنين لعشر مضت من رجب عن خمس وستين سنة.
وفيها السّيّد الشريف عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان العبّاسي البيروتي ثم الدمشقي الصوفي [1] .
قال في «الكواكب» : جاور بمكة نحو عشرين سنة، وكان يعتمر كل يوم مرة أو مرتين مع كبر سنه، وربما اعتمر في اليوم والليلة خمس مرات، قيل: كان يطوف في اليوم والليلة مائة أسبوع [2] ولم يزل على [2] الصوم والعبادة إلى أن توفي بمكّة ودفن بالمعلاة.
وفيها شمس الدّين محمد الطّبلني- بضم الطاء المهملة والباء الموحدة وإسكان اللام، ثم نون نسبة إلى طبلنة قرية من قرى تونس- المغربي المالكي [3] الإمام العلّامة، تلميذ الشيخ مغوش.
برع في العربية والمنطق، وشرح «مقامات الحريري» ، وحشّى «توضيح ابن هشام» .
وتوفي بطرابلس خامس عشر صفر.
وفيها المولى مصلح الدّين بن المولى محيي الدّين، المشتهر بابن المعمار الحنفي [4] الإمام العلّامة.
قال في «ذيل الشقائق» : توفي أبوه قاضيا بحلب، فوجه هو همته إلى العلوم، وقرأ على المولى محيي الدّين، الشهير بالمعلول، والشيخ محمد جوي زاده، ثم صار ملازما من المولى خير الدّين معلم السلطان سليمان، ثم تنقّل في
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 166- 167) .
[2] ما بين الرقمين لم يرد في «ط» وكانت العبارة في «ط» على النحو التالي: «مائة أسبوع من الصوم والعبادة» .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 77) .
[4] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (366- 368) و «معجم المؤلفين» (12/ 286) .

(10/538)


المدارس إلى أن قلّد قضاء برسا، ثم قضاء أدرنة، ثم قضاء قسطنطينية، ثم قضاء المدينة المنورة.
وكان عالما، عاملا، قليل الكبر، كثير الانشراح، محبّا للمفاكهة والمزاح، وقد علّق حواشي على «حاشية حسن جلبي على التلويح» و «حواش على الدّرر والغرر» ولم تتم، ولما انفصل عن المدينة المنورة وعاد وبلغ [1] مصر أدركته منيته في شوال. انتهى
__________
[1] كان النص في «آ» و «ط» : «ولما انفصل عن المدينة المنورة وعاد، فلما بلغ» والتصحيح من «العقد المنظوم» مصدر المؤلف.

(10/539)


سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة
فيها توفي تاج الدّين إبراهيم بن عبد الله الحميدي الحنفي [1] .
قال في «العقد المنظوم» : اشتغل بالعلوم، وأفنى عنفوان شبابه في ذلك، وتلقى من الأفاضل كالمولى صاروكرز [2] ، وصار منه ملازما، ثم تنقل في المدارس، وكتب حاشية على صدر الشريعة ردّ فيها على المولى ابن كمال باشا في مواضع كثيرة، ثم كتب رسالة وجمع فيها من مواضع ردّه عليه ستة عشر موضعا.
وقال في أول ديباجتها: اعلموا معاشر طلاب اليقين، سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، إن المختصر الذي سوّده الحبر الفاضل والبحر الكامل، الشهير بابن كما باشا، رحمه الله، وسمّاه بالإصلاح والإيضاح مع خروجه عن سنن [3] الفلاح والصّلاح باشتماله على تصرفات فاسدة واعتراضات غير واردة، من السهو والزّلل، والخبط والخلل، لإتيانه بما لا ينبغي وتحرزه عما ينبغي، مشتمل على كثير من المسائل المخالفة للشرع، بحيث لا يخفى بعد التنبه [4] للأصل والفرع، ولا ينبغي الانقياد لحقيقتها للمبتدي ولا العلم بها للمنتهي، لوجود خلافها صريحا في الكتب المعتبرات من المطوّلات والمختصرات، ثم كتب منها نسختين دفع إحداهما إلى الوزير محمد باشا الصّوفي وكان ينتسب إليه، والثانية إلى الوزير الكبير رستم باشا، فلما أخذها طلب قراءتها، فلما وصل إلى تشنيعه على المولى
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (371- 373) و «معجم المؤلفين» (1/ 52) .
[2] في «آ» : «صادكوز» وفي «ط» : «صار كوز» وما أثبته من «العقد المنظوم» مصدر المؤلف.
[3] لفظة «سنن» لم ترد في «آ» .
[4] في «ط» : «بعد التنبيه» .

(10/540)


المزبور تغيّر غاية التغيّر بسبب أنه كان قرأ على المولى المزبور، وكان ذلك سببا لخموله ثم تنبه له الدهر، فولي المدارس إلى أن صار مفتيا بأماسية.
وكان بحر المعارف، ولجّة العلوم، بارعا في العلوم العقلية والنقلية، خصوصا الفقه، قانعا باليسير، سخيا، وأخذ عنه الأجلاء، وكثر الازدحام عليه، وكتب حاشية على بعض المواضع من «شرح المفتاح» للسيد يردّ فيها على المولى ابن كمال باشا في المواضع التي يدّعي التفرّد فيها، وله عدة رسائل على مواضع من «شرح التجريد» للشريف، وله «شرح لمتن [1] المراح» .
وتوفي في أول الربيعين. انتهى وفيها أحمد بن علوي بن محمد بن علي بن جحدب [2] بن عبد الرحمن [2] ابن محمد بن عبد الله بن علوي بن باعلوى اليمني الزاهد.
قال في «النور» : كان يعدّ في حكم رجال الرسالة لشدة ورعه وتقشفه واستقامته وحسن طريقته، وله في الزهد والتّقلل من الدنيا حكايات لعلها لا توجد في تراجم كبار الأولياء، ولم يتقدموه إلّا بالسبق في الزمان.
ومن كراماته أنه لما حجّ رؤي يشرب من ماء البحر، فقيل له في ذلك، فقال: أليس كل أحد يشربه، فأخذ بعضهم ما بقي في الإناء فشربه، فإذا هو حلو، وكفّ بصره في آخر عمره، وحصل عليه قبل انتقاله بأربعة أيام جذبة من جذبات الحقّ اندهش بها [3] عقله، وتحيّر لبّه، وانغمر بها سرّه، وأخذ عن نفسه، فكان يقوم إلى الصلاة بطريق العادة وهو مأخوذ عن حسّه، وربما صلى إلى غير القبلة.
وتوفي ببلده تريم يوم الثلاثاء ثامن عشر شهر رمضان.
وفيها شهاب الدّين أبو العبّاس أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن
__________
[1] في «ط» : «على متن» .
[2] في «ط» : «ابن جحدب بن محمد» وفي «آ» : «ابن جحدب اليمني بن محمد» وما أثبته من «النور السافر» .
[3] في «ط» : «دهش بها» .

(10/541)


حجر- نسبة على ما قبل إلى جدّ من أجداده كان ملازما للصمت فشبّه بالحجر- الهيتمي السّعدي الأنصاري الشافعي [1] الإمام العلّامة البحر الزاخر.
ولد في رجب سنة تسع وتسعمائة في محلّة أبي الهيتم من إقليم الغربية بمصر المنسوب إليها، ومات أبوه وهو صغير، فكفله الإمامان الكاملان شمس الدّين بن أبي الحمائل، وشمس الدّين الشّنّاوي، ثم إن الشمس [2] الشّنّاوي نقله من محلّة أبي الهيتم إلى مقام سيدي أحمد البدوي، فقرأ هناك في مبادئ العلوم، ثم نقله في سنة أربع وعشرين إلى جامع الأزهر، فأخذ عن علماء مصر، وكان قد حفظ القرآن العظيم في صغره.
وممن أخذ عنه شيخ الإسلام القاضي زكريا، والشيخ عبد الحق السنباطي، والشمس المشهدي، والشمس السّمهودي، والأمين الغمري، والشّهاب الرّملي، والطبلاوي، وأبو الحسن البكري، والشمس اللقاني الضيروطي، والشّهاب بن النّجار الحنبلي، والشّهاب بن الصائغ في آخرين.
وأذن له بالإفتاء والتدريس وعمره دون العشرين، وبرع في علوم كثيرة من التفسير، والحديث، والكلام، والفقه أصولا وفروعا، والفرائض، والحساب، والنحو، والصرف، والمعاني، والبيان، والمنطق، والتصوف.
ومن محفوظاته «المنهاج الفرعي» ومقروءاته لا يمكن حصرها، وأما إجازات المشايخ له فكثيرة جدا استوعبها في «معجم مشايخه» وقدم إلى مكة في آخر سنة ثلاث وثلاثين، فحجّ وجاور بها، ثم عاد إلى مصر، ثم حجّ بعياله في آخر سنة سبع وثلاثين، ثم حجّ سنة أربعين، وجاور من ذلك الوقت بمكة، وأقام بها يدرّس ويفتي ويؤلّف.
__________
[1] ترجمته في «النور السافر» ص (287- 292) ووفاته فيه سنة (974) و «الكواكب السائرة» (3/ 111- 112) و «الأعلام» (1/ 234) و «معجم المؤلفين» (2/ 152) ومقدمة التحقيق لكتاب المترجم «تحرير المقال في آداب وفوائد يحتاج إليها مؤدبو الأطفال» ص (13- 15) تحقيق الأستاذ محمد سهيل الدّبس بإشرافي، طبع دار ابن كثير.
[2] في «آ» : «ثم إن الشيخ» .

(10/542)


ومن مؤلفاته «شرح المشكاة» و «شرح المنهاج» وشرحان على «الإرشاد» و «شرح الهمزية البوصيرية» و «شرح الأربعين النواوية» و «الصواعق المحرقة» و «كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع» و «الزواجر عن اقتراف الكبائر» و «نصيحة الملوك» و «شرح [مختصر] الفقيه» [1] عبد الله بأفضل الحاج المسمى «المنهج القويم في مسائل التعليم» و «الأحكام في قواطع الإسلام» و «شرح العباب» المسمى ب «الإيعاب» ، و «تحذير الثقات عن أكل الكفتة والقات» وشرح قطعة صالحة من «ألفية ابن مالك» و «شرح مختصر أبي الحسن البكري» في الفقه، و «شرح مختصر الروض» و «مناقب أبي حنيفة» وغير ذلك.
وأخذ عنه من لا يحصى كثرة، وازدحم الناس على الأخذ عنه وافتخروا بالانتساب إليه.
وممن أخذ عنه مشافهة شيخ مشايخنا البرهان بن الأحدب.
وبالجملة فقد كان شيخ الإسلام خاتمة العلماء الأعلام، بحرا لا تكدره الدّلاء، إمام الحرمين كما أجمع عليه الملأ، كوكبا سيّارا في منهاج سماء الساري، يهتدي به المهتدون تحقيقا لقوله تعالى: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ 16: 16 [النحل: 16] واحد العصر، وثاني القطر، وثالث الشمس والبدر، أقسمت المشكلات ألا تتضح إلّا لديه وأكدت المعضلات أليتها أن لا تنجلي إلا عليه، لا سيما وفي الحجاز عليها قد حجر، ولا عجب فإنه المسمى بابن حجر.
وتوفي- رحمه الله تعالى- بمكّة في رجب، ودفن بالمعلاة في تربة الطّبريين.
وفيها المولى صالح بن جلال الحنفي [2] .
قال في «العقد المنظوم» : كان أبوه من كبار [3] ، قضاة القصبات، ونشأ هو مشغولا بالعلم وأربابه، واهتم بالتحصيل، وقرأ على الأجلاء، وصار ملازما من
__________
[1] في «آ» و «ط» : «ألفية» وما أثبته من «النور السافر» مصدر المؤلف ولفظة «مختصر» مستدركة منه.
[2] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (368- 370) و «معجم المؤلفين» (5/ 5) .
[3] لفظة «كبار» لم ترد في «آ» .

(10/543)


المولى خير الدّين معلّم السلطان سليمان، ثم تنقّل في المدارس والمناصب، إلى أن ولي قضاء حلب، ثم قضاء دمشق، ثم قضاء مصر، ثم كفّ فتقاعد بمدرسة أبي أيوب الأنصاري بمائة درهم.
وكان مشاركا في أكثر العلوم، له منها حظّ وافر، زكي النفس، كثير السخاء، محسنا متفضلا، كتب حواشي على «شرح المواقف» وعلى «شرح الوقاية» لصدر الشريعة، وعلى «شرح المفتاح» للشريف الجرجاني، وجمع «لطائف علماء الروم ونوادرهم» .
وله «ديوان شعر» و «ديوان إنشاء» كلاهما بالتركي. انتهى وفيها الشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراوي الشافعي [1] .
قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي في «طبقاته» : هو شيخنا الإمام العالم [2] العامل العابد الزاهد الفقيه المحدّث الأصولي الصوفي المربّي المسلّك، من ذريّة محمد بن الحنفيّة.
ولد ببلده ونشأ بها، ومات أبواه [3] وهو طفل، ومع ذلك ظهرت فيه علامة النجابة ومخايل الرئاسة والولاية، فحفظ القرآن و «أبا شجاع» [4] و «الأجرومية» وهو ابن نحو سبع أو ثمان، ثم انتقل إلى مصر سنة إحدى عشرة وتسعمائة وهو مراهق، فقطن بجامع الغمري، وجدّ واجتهد، فحفظ عدة متون، منها «المنهاج» و «الألفية» و «التوضيح» و «التلخيص» [5] و «الشاطبية» و «قواعد ابن هشام» بل حفظ «الروض إلى القضاء» وذلك من كراماته.
وعرض ما حفظ على علماء عصره، ثم شرع في القراءة، فأخذ عن الشيخ
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 176- 177) و «الأعلام» (4/ 180- 181) و «جامع كرامات الأولياء» (2/ 134- 139) و «معجم المؤلفين» (6/ 218- 219) .
[2] لفظة «العالم» لم ترد في «ط» .
[3] في «ط» : «أبوه» .
[4] أي «متنه» .
[5] لفظة «والتلخيص» سقطت من «آ» .

(10/544)


أمين الدّين إمام جامع الغمري، قرأ عليه ما لا يحصى كثرة، منها الكتب الستة، وقرأ على الشمس الدواخلي، والنّور المحلّي، والنّور الجارحي، ومنلا على العجمي، وعلى القسطلاني، والأشموني، والقاضي زكريا، والشّهاب الرّملي ما لا يحصى أيضا.
وحبّب إليه الحديث، فلزم الاشتغال به، والأخذ عن أهله، ومع ذلك لم يكن عنده جمود المحدّثين، ولا لدونة النقلة، بل هو فقيه النظر صوفي الخبر، له دربة بأقوال السّلف ومذاهب الخلف، وكان ينهى عن الحطّ على الفلاسفة وتنقيصهم، وينفّر ممن يذمهم، ويقول هؤلاء عقلاء، ثم أقبل على الاشتغال بالطريق، فجاهد نفسه مدة، وقطع العلائق الدنيوية، ومكث سنين لا يضطجع على الأرض ليلا ولا نهارا، بل اتخذ له حبلا بسقف خلوته يجعله في عنقه ليلا حتى لا يسقط، وكان يطوي الأيام المتوالية، ويديم الصوم، ويفطر على أوقية من الخبز، ويجمع الخروق من الكيمان فيجعلها مرقعة يستتر بها، وكانت عمامته من شراميط الكيمان وقصاصة الجلود، واستمر كذلك حتى قويت روحانيته، فصار يطير من صحن الجامع الغمري إلى سطحه، وكان يفتتح مجلس الذكر عقب العشاء فلا يختمه إلّا عند الفجر، ثم أخذ عن مشايخ الطريق، فصحب الخواص، والمرصفي، والشناوي فتسلّك بهم، ثم تصدى للتصنيف، فألّف كتبا، منها «مختصر الفتوحات» و «سنن البيهقي الكبرى» و «مختصر تذكرة القرطبي» و «الميزان» و «البحر المورود في المواثيق والعهود» و «كشف الغمّة عن جميع الأمة» و «المنهج المبين في أدلة المجتهدين» و «البدر المنير في غريب أحاديث البشير النذير» و «مشارق الأنوار القدسية في العهود المحمدية» و «لواقح الأنوار واليواقيت» و «الجواهر في عقائد الأكابر» و «الجوهر المصون في علوم الكتاب المكنون» و «طبقات ثلاث» و «مفحم الأكباد في مواد الاجتهاد» و «لوائح الخذلان على من لم يعمل بالقرآن» و «حدّ الحسام على من أوجب العمل بالإلهام» و «البرق [1] الخاطف لبصر من عمل بالهواتف» و «رسالة الأنوار» في آداب
__________
[1] في «ط» : «والبراق» .

(10/545)


العبودية، و «كشف الرّان عن أسئلة الجان» و «فرائد القلائد في علم العقائد» و «الجواهر والدّرر» و «الكبريت الأحمر في علوم الكشف الأكبر» و «الاقتباس في القياس» و «فتاوى الخواص» و «العهود ثلاثة» وغير ذلك.
وحسده طوائف، فدسوا عليه كلمات يخالف ظاهرها الشرع، وعقائد زائغة، ومسائل تخالف الإجماع، وأقاموا عليه القيامة، وشنّعوا وسبّوا، ورموه بكل عظيمة فخذلهم الله وأظهره عليهم.
وكان مواظبا على السّنّة، مبالغا في الورع، مؤثرا ذوي الفاقة على نفسه حتى بملبوسه، متحملا للأذى، موزعا أوقاته على العبادة ما بين تصنيف وتسليك وإفادة، واجتمع بزاويته من العميان وغيرهم نحو مائة، فكان يقوم بهم نفقّه وكسوة.
وكان عظيم الهيبة، وافر الجاه والحرمة، تأتي إلى بابه الأمراء. وكان يسمع لزاويته دويّ كدوي النحل ليلا ونهارا.
وكان يحيي ليلة الجمعة بالصلاة على المصطفى صلّى الله عليه وسلم، ولم يزل مقيما على ذلك، معظما في صدور الصدور، إلى أن نقله الله تعالى إلى دار كرامته.
ومن كلامه: دوروا مع الشرع كيف كان لامع الكشف، فإنه قد يخطئ وقال: ينبغي إكثار مطالعة كتب الفقه عكس ما عليه المتصوفة الذين لاحت لهم بارقة من الطريق فمنعوا مطالعته وقالوا: إنه حجاب جهلا منهم.
وقال: كل إنسان لا يعذّب في النار إلّا من الجزء الناري الذي هو أحد أركان بدنه [1] .
وقال: ذهب بعض أهل الكشف إلى أن جميع الحيوان لهم تكليف إلهي برسول منهم في ذواتهم لا يشعر به إلّا من كشف عن بصره، فإن لله الحجّة على خلقه، فلا يعذّب أحدا إلا جزاء، فلا إشكال في إيلام الدواب.
وقال: الجبر آخر ما تنتهي إليه المعاذير، وذلك سبب مآل أهل الرحمة إلى الرحمة.
__________
[1] قلت: ليس على ذلك دليل من الكتاب والسّنّة وآراء الجمهور من السّلف والخلف.

(10/546)


وتوفي- رحمه الله- في هذه السنة، ودفن بجانب زاويته بين السورين.
وقام بالزاوية بعده ولده الشيخ عبد الرحمن لكنه أقبل على جمع المال ثم توفي في سنة إحدى عشرة بعد الألف. انتهى ملخصا وفيها المولى كمال الدّين، المعروف بدده خليفة الحنفي [1] الإمام العلّامة.
قال في «ذيل الشقائق» : كان من أولاد الأتراك، ومن أصحاب البضائع، وعالج صنعة الدباغة سنين حتى أناف عمره على العشرين، مقيما ببلدة أماسية على ذلك، فاتفق أن صنع لمفت من علماء العصر وليمة ببلده، فذهب متطفلا، فلما باشروا أمر الطعام طلبوا من يجمع لهم الحطب، فرأوا صاحب الترجمة قائما بزي الدّباغين، فأشار المفتي إلى صاحب الترجمة، وقال: ليذهب هذا الجاهل، فعلم حينئذ وخامة الجهل، وتأثر تأثيرا عظيما من الإزدراء به، ثم تضرّع إلى الله تعالى وطلب منه الخلاص من ربقة الجهل، وباع حانوته، واشترى مصحفا، وذهب إلى باب المفتي، وبدأ في القراءة، وقام في الخدمة، حتّى ختم القرآن العظيم، وتوجهت همّته إلى طلب العلم، فأكب على الاشتغال، حتّى صار معيدا للمولى سنان الدّين، المشتهر باقلق [2] ، ثم تولى عدة مدارس، ثم عيّن مفتيا ببعض الجهات، ثم تقاعد.
وكان عالما فاضلا، آية في الحفظ والإحاطة، له اليد الطولى في الفقه والتفسير، وكتب «حاشية على شرح تصريف العزي» للتفتازاني، وبسط فيه الكلام، وله منظومة في الفقه وعدة رسائل في فنون عديدة. انتهى ملخصا وفيها المولى محيي الدّين الشهير بابن الإمام [3] .
نشأ طالبا للعلم، مكبّا عليه، وقرأ على جماعات، منهم المولى كمال
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (374- 375) .
[2] ترجمته في «العقد المنظوم» : «المشتهر بالق» .
[3] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (370) .

(10/547)


وغيره، ثم تنقّل في الوظائف إلى أن قلّد قضاء حلب بلا رغبة منه في ذلك ولا طلب، فباشره قدر سنتين، ولم يتلفّظ بلفظ حكمت، ثم صار مفتيا بأماسية.
وكان من العلماء العاملين، والفضلاء الكاملين، يحقّق كلام القدماء، ويدقّق النظر في مقالات الفضلاء، وقد علّق على أكثر الكتب المتداولة حواشي إلا أنه لم يتيسر له جمعها وتبييضها.
وتوفي في أول الرّبيعين.

(10/548)


سنة أربع وسبعين وتسعمائة
فيها توفي المولى تاج الدّين إبراهيم المناوي الحنفي [1] .
قال في «العقد المنظوم» : قرأ على علماء زمانه، حتى اتصل بابن كمال باشا، فتقيّد به، وصار ملازما منه، وحصّل، وبرع، ودرّس بعدة من المدارس، إلى أن وصل إلى إحدى المدارس [2] الثمان، وتولى مدرسة السلطان سليمان بدمشق والإفتاء بها.
وكان عالما، ديّنا، فقيها، لين الجانب، صحيح العقيدة، حميد [3] الأخلاق.
وتوفي بدمشق. انتهى وفيها- أو في التي بعدها جزم بالأول في «النّور السافر» وبالثاني في «الأعلام» - السلطان سليمان خان بن السلطان سليم خان [4] الحادي عشر من ملوك بني عثمان. قال في «الأعلام» : كان سلطانا سعيدا ملكا، أيده الله لنصر الإسلام تأييدا.
ولي السلطنة بعد وفاة أبيه السلطان سليم خان في سنة ست وعشرين
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (383) .
[2] لفظة «المدارس» سقطت من «ط» .
[3] في «آ» : «جيد» .
[4] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (375- 381) و «النور السافر» ص (292- 298) و «تاريخ الدولة العلية العثمانية» ص (198- 251) .

(10/549)


وتسعمائة، وجلس على تخت السلطنة وما دمي أنف أحد ولا أريق في ذلك محجمة من دم، ومولده الشريف سنة تسعمائة، واستمر في السلطنة تسعا وأربعين سنة، وهو سلطان غاز في سبيل الله، مجاهد لنصرة دين الله، مرغم أنوف عداه بلسان سيفه وسنان قناه.
كان مؤيدا في حروبه ومغازيه، مسددا في آرائه ومعازيه، مسعودا في معانيه ومغانيه، مشهودا في مواقعه [1] ومراميه، أيّان سلك ملك، وأنى توجّه فتح وفتك، وأين سافر سفر وسفك، وصلت سراياه إلى أقصى الشرق والغرب، وافتتح البلدان الشاسعة الواسعة بالقهر والحرب، وأخذ الكفّار والملاحدة بقوة الطعان والضرب، وكان مجدد دين هذه الأمة المحمدية في القرن العاشر، مع الفضل الباهر، والعلم الزاهر، والأدب الغض الذي يقصر عن شأوه كل أديب وشاعر، إن نظم نضد [2] عقود الجواهر، أو نثر آثر منثور [3] الأزاهر، أو نطق قلّد الأعناق نفائس الدّر الفاخر، له ديوان فائق بالتركي، وآخر عديم النظير بالفارسي، تتداولهما بلغاء الزمان وتعجز أن تنسج على منواله فضلاء الدوران.
وكان رؤوفا، شفوقا، صادقا، صدوقا، إذا قال صدق، وإذا قيل له صدّق، لا يعرف الغلّ والخداع، ويتحاشى عن سوء الطباع، ولا يعرف المكر والنّفاق، ولا يألف مساوئ الأخلاق، بل هو صافي الفؤاد، صادق الاعتقاد، منّور الباطن، كامل الإيمان، سليم القلب، خالص الجنان:
وما تناهيت في بثي محاسنه ... إلّا وأكثر مما قلت ما أدع
وأطال في ترجمته وترجمة أولاده، وذكر غزواته، فذكر له أربع عشرة غزوة انتصر وفتح في جميعها، وذكر كثيرا من مآثره، فمن ذلك الصّدقة الرّومية التي هي الآن مادة حياة أهل الحرمين الشريفين، فإنه أضاف إليها من خزائنه الخاصة مبلغا كبيرا، ومنها صدقات الجوالي وهي جمع جالية، ومعناه ما يؤخذ من أهل الذّمة في
__________
[1] في «ط» : «في وقائعه» .
[2] لفظة «نضد» سقطت من «ط» .
[3] في «ط» : «منشور» .

(10/550)


مقابلة استمرارهم في بلاد الإسلام تحت الذّمة وعدم جلائهم عنها، وهي من أحلّ الأموال ولأجل حلّها جعلت وظائف للعلماء والصلحاء والمتقاعدين من الكبراء.
ومنها إجراء العيون، ومن أعظمها إجراء عين عرفات إلى مكّة المشرّفة.
ومنها بمكّة المدارس الأربعة السليمانية.
ومنها تكيته ومدرسته العظيمة الشأن الكائنة بمرجة دمشق [1] إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة. انتهى ملخصا، ومن أراد البسط الزائد فليراجع «الأعلام» .
__________
[1] قلت: وهي قائمة إلى الآن وتعرف ب «التكية السليمانية» وتعدّ من أهم المعالم الأثرية العثمانية بدمشق.

(10/551)


سنة خمس وسبعين وتسعمائة
قال في «النور» [1] : فيها غرق مركب بالهند [في خوركنباته] فكان فيه عشرة من السادة آل بالعلوي فكانوا من جملة من غرق وحصلت لهم الشهادة [بسبب ذلك] .
وفيها توفي أبو الضّياء عبد الرحمن بن عبد الكريم بن إبراهيم بن علي ابن زياد الغيثي المقصري [2]- نسبة إلى المقاصرة بطن من بطون عك بن عدنان- الزّبيدي مولدا ومنشأ ووفاة، الشافعي مذهبا الأشعري معتقدا الحكمي [3] خرقة، اليافعي تصوفا، وفي ذلك يقول رحمه الله تعالى:
أنا شافعيّ في الفروع ويافع ... ي في التّصوف أشعريّ المعتقد
وبذا أدين الله ألقاه به ... أرجو به الرّضوان في الدّنيا وغد
ولد في رجب سنة تسعمائة، وحفظ القرآن و «الإرشاد» وأخذ عن محمد بن موسى الضّجاعي، وأحمد المزجد، وتلميذه الطنبذاوي وبه تخرّج وانتفع، وأذن له في التدريس والإفتاء، فدرّس وأفتى في حياته، وأخذ التفسير والحديث والسير عن الحافظ وجيه الدّين بن الدّيبع وغيره، والفرائض عن الغريب الحنفي والأصول عن جمال الدّين يحيى قتيب [4] ، والعربية عن محمد مفضّل اللحّاني، وجدّ واجتهد، حتّى صار عينا من أعيان الزمان، يشار إليه بالبنان، وقصدته الفتاوى من شاسع
__________
[1] انظر «النور السافر» ص (319) وما بين الحاصرتين زيادة منه.
[2] ترجمته في «النور السافر» ص (305- 314) و «الأعلام» (3/ 311) و «معجم المؤلفين» (5/ 145- 146) .
[3] تحرفت اللفظة في «ط» إلى «الحاكمي» .
[4] في «آ» و «ط» : «قبيب» وما أثبته من «النور السافر» مصدر المؤلف.

(10/552)


البلاد، وضربت إليه آباط الإبل من كل ناد، وعقدت عليه الخناصر، وتلمذت له الأكابر، وحجّ وزار القبر الشريف، فاجتمع بفضلاء الحرمين، ودرّس فيهما، واشتغل بالإفتاء من وفاة شيخه أبي العباس الطنبذاوي، وذلك سنة ثمان وأربعين وتسعمائة، وكان من الفقر على جانب عظيم، بحيث كان- كما أخبر عن نفسه- يصبح وليس عنده قوت يومه، حتى اتفق أن زوجته وضعت وليس عنده شيء، حتى عجز عن المصباح، وباتوا كذلك.
وفي سنة أربع وستين نزل في عينيه ماء فكفّ بصره، فاحتسب ورضي، وقال: مرحبا بموهبة الله وجاءه قداح فقال له أنا أصلح بصرك، وقال بعض أهل الثروة وأنا أنفق عليك وعلى عيالك مدة ذلك فامتنع، وقال: شيء ألبسنيه الله لا أتسبب في إبطاله. ومع ذلك كان على عادته من التدريس والإفتاء والتصنيف.
ومن مصنّفاته «إثبات سنّة [1] رفع اليدين عند الإحرام، والركوع، والاعتدال، والقيام من الركعتين» وكتاب «فتح المبين في أحكام تبرع المدين» و «المقالة الناصة على صحة ما في الفتح والذيل والخلاصة وهذه الكتب الثلاثة» صنّفها بسبب ما وقع بينه وبين ابن حجر في عدم بطلان تبرع المدين، وله كتاب «النخبة في الأخوة والصحبة» و «الأدلة الواضحة في الجهر بالبسملة وأنها من الفاتحة» وهو كتاب مشتمل على مناقب الأئمة الأربعة، و «التقليد وأحكام رخص الشريعة» وله كتاب «إقامة البرهان على كميّة التراويح في رمضان» و «كشف الغمّة عن حكم المقبوض عما في الذمة وكون الملك فيه موقوفا عند الأئمة» و «مزيل العناء في أحكام الغناء» و «سمط اللآل في كتب الأعمال» و «كشف النّقاب عن أحكام المحراب» وله غير ذلك مما لا يعدّ كثرة.
وتوفي بزبيد ليلة الأحد حادي عشر رجب. قاله في «النور» وفيها عزّ الدّين أبو نصر عبد السلام بن شيخ الإسلام وجيه الدّين عبد الرحمن بن عبد الكريم بن زياد اليمني الشافعي [2] .
__________
[1] لفظة «سنّة» سقطت من «ط» .
[2] ترجمته في «النور السافر» ص (314- 315) و «معجم المؤلفين» (5/ 225) .

(10/553)


ولد سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة، ونشأ في حجر والده، وتغذى بدّر علومه وفوائده، وقرّت به عينه، وتفقه بوالده كثيرا، ورأس على الأكابر صغيرا، ودرّس وأفتى في حياة أبيه، وصنّف مصنّفات لا يستغني عنها فقيه، وكتب معاصر وأبيه على فتاويه، وانفرد بعد والده بالإفتاء، مع زحمة البلد بأثمة شتّى. وكان من الولاية والعلم على جانب عظيم.
ومن مصنّفاته «شرح على مولد السيد حسين بن الأهدل» و «شرح لوداع ابن الجوزي» مات عنهما مسودتين، و «تشنيف الأسماع بحكم الحركة في الذكر والسماع» و «القول النافع القويم لمن كان ذا قلب سليم» و «التحرير الواضح الأكمل في حكم الماء المطلق والمستعمل» و «المطالع الشمسية» .
وبالجملة فإنه كان مفتي الأنام، وعلّامة الأعلام.
توفي في ثاني عشر شوال. قاله في «النور» أيضا وفيها علي المتقي بن حسام الدّين الهندي ثم المكّي [1] .
كان من العلماء العاملين وعباد الله الصالحين، على جانب عظيم من الورع والتّقوى والاجتهاد في العبادة، ورفض السّوى، وله مصنّفات عديدة [2] وكرامات كثيرة.
وتوفي بمكّة المشرّفة بعد مجاورته بها مدة طويلة.
__________
[1] ترجمته في «النور السافر» ص (315- 319) و «أبجد العلوم» (3/ 223- 224) طبع وزارة الثقافة بدمشق و «كنز العمال» (16/ 776- 788) و «الأعلام» (4/ 309) و «معجم المؤلفين» (7/ 59) و «حركة التأليف باللغة العربية في الإقليم الشمالي الهندي» ص (80) ، وقد أفرد الشيخ عبد القادر بن أحمد الفاكهي مناقبه في تأليف سمّاه: «القول النقي في مناقب المتقي» .
[2] قال العيدروس في «النور السافر» ص (317) : «ومؤلفاته كثيرة نحو مائة مؤلف ما بين صغير وكبير» .
قلت: أهمها المصنّفات التالية:
1- «كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال» جمع فيه أهم مصادر الحديث النبوي فبلغت الأحاديث المودعة فيه (46624) حديثا عليها مدار العمل في الغالب لدى المشتغلين بفنّ التخريج والتحديث. وقد طبع هذا الكتاب الجليل في مدينة حلب المحروسة عام 1397 هـ بعناية الشيخين الفاضلين بكري الحياني وصفوة السقا، وهي طبعة جيدة نافعة، وقام بإعداد فهارس شاملة لأطراف

(10/554)


وفيها الشيخ محمد بن خليل بن قيصر القبيباتي الحنبلي الصّوفي [1] الفاضل الصّالح المعتقد.
توفي في هذه السنة وقد جاوز المائة، رحمه الله تعالى.
وفيها المولى محمد بن عبد الوهاب بن عبد الكريم، الشهير بعبد الكريم زاده الحنفي [2] الإمام العلّامة.
قال في «العقد المنظوم» : كان جدّه عبد الكريم قاضيا بالعسكر في دولة السلطان محمد خان، وولي أبوه عبد الوهاب الدفتر دارية في عهد السلطان سليم خان، ونشأ هو غائصا في بحار العلوم ولجج المعارف، طالبا لدرر الفضائل واللطائف، واشتغل على إسرافيل زادة، وجوي زادة، وابن كمال باشا، والمولى أبي السعود، وغيرهم، وتبحّر وتمهّر، وفاق أقرانه، وطار صيته في الآفاق، وجمع أشتات العلوم، وتنقّل في المدارس على عادة أمثاله، إلى أن صار طودا من المعارف نحوا وعربية وأدبا وفقها، وغير ذلك، حلو المفاكهة، طيب المعاشرة.
وكان من عادته أن لا يكتب بالقلم الذي يكتب به اسم الله تعالى، ولا ينام ولا يضطجع في بيت كتبه تعظيما للعلم.
ومن تصانيفه عدة «مقامات» على منوال الحريري، و «حاشية على تفسير البيضاوي» من أوله إلى سورة طه، و «حواش على حاشية المولى جلال الدّين الدواني للتجريد» وكتب أشياء أخر إلا أنها لم تظهر بعد موته.
__________
الأحاديث الواردة فيه الأستاذان الفاضلان نديم مرعشلي وأسامة مرعشلي وصدرت في مجلدين كبيرين عن الشركة المتحدة للتوزيع بدمشق عام (1404 هـ) .
2- «مختصر كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال» وقد طبع قديما على هامش «مسند الإمام أحمد بن حنبل» .
3- «المواهب العلية في الجمع بين الحكم القرآنية والحديثية» وهو مخطوط لم ينشر بعد.
4- «منهج العمال في سنن الأقوال» وهو مخطوط لم ينشر بعد وتحتفظ مكتبة الرباط بنسخة منه تحت رقم (د 255) . قاله العلّامة الزركلي.
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 59- 60) و «النعت الأكمل» ص (133- 136) و «مختصر طبقات الحنابلة» للشطي ص (95- 96) .
[2] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (384- 390) .

(10/555)


وكان ينظم بعدة لغات نظما جيدا منه:
كفاني كفاف النّفس ما أنا قاصد ... إلى دولة فيها الأنام خصام
فهل هي إلا نحو طيف لناعس ... وهل هي إلا ما يراه نيام
فيا عجبا للمرء يعقد قلبه ... على شهوات ضرهنّ [1] لزام
ولله صعلوك قنوع بحظّه ... وما معه عند اللئام لوام
قناعته أغنته عن كلّ حاجة ... فذاك أمير والزمان غلام
وتوفي في سابع عشري رمضان.
وفيها القاضي أبو الفتح محمد بن محمد بن عبد السلام بن أحمد الرّبعي التونسي الخروبي [2] لإقامته بإقليم الخروب بدمشق [3] ، نزيل دمشق المالكي الإمام العلّامة المفنّن.
قال في «الكواكب» : ولد ليلة الاثنين غرّة شهر ربيع الأول سنة إحدى وتسعمائة، ودخل دمشق قديما وهو شاب، فكان يتردّد إلى ضريح الشيخ محيي الدّين بن عربي، وأخذ عن شيخ الإسلام الوالد.
وكان فقيها أصوليا، يفتي الناس على مذهبه وفتاويه مقبولة، وله حرمة ووجاهة.
وكان علّامة في النحو، والصّرف، والمعاني، والبيان، والبديع، والعروض، والمنطق، وأكثر العلوم العقلية والنقلية.
وكان له الباع الطويل في الأدب ونقد الشعر، وشعره في غاية الحسن إلّا أنه كان متكيفا، يأكل البرش والأفيون، لا يكاد يصحو منه، وربما قرأ الناس عليه في
__________
[1] في «آ» و «ط» : «صرمهن» وهو تحريف والتصحيح من «العقد المنظوم» مصدر المؤلف.
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 21- 26) .
[3] قلت: كان إقليم الخروب من أعمال دمشق قديما وهو الآن في الجنوب الشرقي من لبنان. انظر «غوطة دمشق» للعلّامة الأستاذ محمد كرد علي ص (108) .

(10/556)


علوم شتّى وهو يسرد، فإذا فرغ القارئ من قراءته المقالة فتح عينيه وقرر العبارة أحسن تقرير.
وكان على مذهب الشعراء من التظاهر بمحبّة الأشكال والصور الحسنة، حتى رمي واتّهم.
وكان هجاء يتفق له النكات في هجائه وفي شعره، ولو على نفسه.
وكان يقع في حقّ العلماء والأكابر وإذا وصله من أحدهم نوال مدحه وأثنى عليه، وكانوا يخافون من لسانه. وولي نيابة القضاء بالمحكمة الكبرى زمانا طويلا، مع الوظائف الدينية، وحمل عنه الناس العلم وانتفعوا به، وأنبل من تخرّج به في الشعر والعربية العلّامة [1] درويش ابن طالو مفتي الحنفية بدمشق. انتهى ملخصا ومن شعره مؤرخا عمارة الحمام الذي بناه مصطفى باشا تحت قلعة دمشق:
لما كملت عمارة الحمّام ... وازداد به حسن دمشق الشّام
قالت طربا وأرخت منشدة ... (حمّامك أصل راحة الأجسام) [2]
ومنه مواليا موجها بأسماء الكواكب السبعة:
كم صدغ عقرب على مريخ خدّك دب ... وقوس حاجبك دايم مشتريه الصّب
وكم أسد شمس حسنك يا قمر قد حب ... والعاذل الثور في زهرة جمالك سب
وتوفي قاضيا في غرّة شوال ودفن بمقبرة باب الفراديس، وكانت له جنازة مشهودة حمل بها مصطفى باشا الوزير وهو إذ ذاك متولي الشام، ورثاه بعض أدباء عصره مؤرّخا وفاته فقال:
مذ عالم الدّنيا قضى نحبه ... منتقلا نحو جوار الإله
قد أغلق [3] الفضل له بابه ... مؤرّخا [4] مات أبو الفتح آه
__________
[1] لفظة «العلّامة» سقطت من «آ» .
[2] مجموعها في حساب الجمّل (975) .
[3] في «آ» و «ط» : «فأغلق» وما أثبته من «الكواكب السائرة» مصدر المؤلف.
[4] مجموعها في حساب الجمّل (975) .

(10/557)