شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة ست وسبعين
وتسعمائة
فيها توفي عبد العزيز الزّمزمي المكّي [1] الإمام العلّامة.
قال في «النور» : ولد سنة تسعمائة، وكان من علماء مكّة وفضلائها
وأكابرها ورؤسائها، وله النظم البديع الرائق، منه قوله في قصيدته
المسماة ب «الفتح المبين في مدح سيد المرسلين» :
فاز بالرّفع مقلق لك وشا ... كيف ترقى وأفحم الشّعراء
وبخفض الجنان جوزي منشي ... ذكر الملتقى جزاء وفاء
جئت من بعد ذا وذاك أخيرا ... فلهذا نظمي على الفتح جاء
وكان له جاريتان إحداهما اسمها غزال، والأخرى دام السّرور، فاتفق أنه
باعهما ثم ندم على ذلك، فقال:
بجاريتيّ كنت قرير عين ... وأفق مسرّتي بهما منير
فنفّر صرف أيّامي غزالي ... فلا دامت ولا دام السّرور
وله غير ذلك مما لا يحصى.
وكان من أجلاء عصره، رحمه الله تعالى. انتهى وفيها مصلح الدّين،
المشتهر بداود زاده الحنفي [2] الإمام العلّامة.
قال في «العقد المنظوم» : قرأ على أفاضل عصره، منهم محيي الدّين قطب
الدّين زاده الحنفي [3] ، وصار ملازما من المولى خير الدّين معلّم
السلطان سليمان، ثم تنقّل في المدارس، إلى أن قلّد قضاء المدينة
المنورة.
__________
[1] ترجمته في «النور السافر» ص (320- 324) وقد أرخ وفاته سنة (976) .
[2] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (392) .
[3] لفظة «الحنفي» لم ترد في «ط» و «العقد المنظوم» مصدر المؤلف
وانفردت بها «آ» .
(10/558)
ويحكى أنه لما دخل الحرم أعتق مماليكه
واجتهد في أداء مناسك الحجّ. وكان صاحب يد في العلوم، سهل القياد، صحيح
الاعتقاد، سمحا، جوادا، إلا أن فيه خصلة ابن حزم الذي قيل فيه: لسان
ابن حزم وسيف الحجّاج شقيقان [1] ، وعلّق حواشي في أثناء دروسه على بعض
المواضع من «شرح المفتاح» للشريف الجرجاني.
وتوفي بعد أن تمّم أعمال حجّه بمكّة المشرّفة، ودفن بالبقيع. انتهى
وفيها القاضي كمال الدّين محمد بن القاضي شهاب الدّين أحمد بن يوسف بن
أبي بكر الزّبيدي [2] الصّفدي ثم الدمشقي الحنفي، الشهير بابن الحمراوي
[3] .
قال في «الكواكب» : قال والدي: حضر كثيرا من دروسي، وذكر أن مولده سنة
تسع وتسعمائة، وتولى وظائف متعددة، كنظر النظّار، ونظر الجامع الأموي،
والحرمين الشرفين. وكان الحرب بينه وبين السيد تاج الدّين وولده محمود
[4] قائمة، وكان هو المؤيد عليهما.
وكان من رؤساء دمشق وأعيانها المعدودين، جوادا، له في كل يوم أول
النهار وآخره مائدة توضع بألوان الأطعمة المفتخرة، وكان ذا مهابة وحشمة
ووجاهة، لا تردّ شفاعته في قليل ولا كثير، وكان ينفع الناس بجاهه ويكرم
القادمين إلى دمشق من أعيان أهل البلاد، ويتردد إليه الفضلاء والأعيان.
وكان باب الخضر [5] الذي يمر منه إلى الطواقية ضيقا فوسّعه من ماله.
وللشعراء فيه مدائغ طنّانة.
وتوفي نهار الاثنين رابع عشر ربيع الأول ودفن بباب الصغير.
__________
[1] أي كان يقع في الناس كثيرا.
[2] في «ط» : «الزبيري» وهو تحريف.
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 43- 44) .
[4] في «ط» : «وولده محمد» وهو خطأ.
[5] كذا في «آ» و «ط» و «الكواكب السائرة» مصدر المؤلف: «باب الخضر»
ولم أقف على ذكر له فيما بين يدي من المصادر.
(10/559)
سنة سبع وسبعين
وتسعمائة
فيها كما قال في «النور» [1] : توفي السلطان بدر بن السلطان عبد الله
بن السلطان جعفر الكثيري سلطان حضرموت.
ولد سنة اثنتين وتسعمائة، وولي السلطنة وهو شاب، وطالت مدته، وحسنت
سيرته، وكان جميل الأخلاق، جوادا، وافر العقل، جميل الصورة، كان كاسمه
بدرا منيرا مقداما، هزبرا محظوظا جدا، بحيث لا يقصد بابا مغلقا إلّا
انفتح، ولا يقدم [2] على أمر مهم [3] إلا اتضح.
وتوفي في آخر شعبان بعد أن قبض عليه ولده السلطان عبد الله وحجر عليه
حتى مات، وتولى بعده.
وفيها زين الدّين عبد الرحمن بن محمد بن عبد السّلام بن أحمد البتروني
ثم الطرابلسي ثم الحلبي الشافعي ثم الحنفي [4] الإمام العلّامة
الصّوفي، واعظ حلب ووالد مفتيها الشيخ أبي الجود.
قرأ على الشيخ علوان الحموي وغيره من علماء عصره، وجدّ واجتهد، فبلغ ما
قصد، ونظم «تصريف الزّنجاني» في أرجوزة، وشرح «الجزرية» وكتب على
«تائية ابن حبيب» تعليقة استمد فيها من شرح شيخه الشيخ علوان.
__________
[1] انظر «النور السافر» ص (327- 329) .
[2] في «ط» : «ولا يتقدم» وهو خطأ.
[3] في «النور السافر» الذي بين يدي: «على أمر مبهم» وهو خطأ.
[4] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 163) و «درّ الحبب» (1/ 2/ 768-
773) و «معجم المؤلفين» (5/ 180) .
(10/560)
وفيها محيي الدّين يحيى بن عبد القادر بن
محمد النّعيمي الشافعي [1] الفقيه المحدّث الإمام العلّامة.
ولد سنة اثنتين وتسعمائة، وأخذ عن والده وغيره، وعني بالحديث أتمّ
عناية، وبرع في الفقه وغيره، وأخذ عنه الشيخ شمس الدّين الميداني
وغيره، وكان من محاسن الدّنيا، رحمه الله تعالى.
وفيها شمس الدّين محمد بن عبد الوهاب الأبّار الدمشقي العاتكي الشافعي
الخطيب التبريزي [2] الشيخ الإمام العالم الصّالح.
كان من العلماء العاملين، والورثة الكاملين، والجلّة المتعبدين، رحمه
الله تعالى.
وفيها شمس الدّين محمد بن محمد الشّربيني القاهري الشافعي [3] الخطيب
الإمام العلّامة.
قال في «الكواكب» : أخذ عن الشيخ أحمد البرلسي الملقّب عميرة، والنّور
المحلّي، والنّور الطهواني، والشمس محمد بن عبد الرحمن بن خليل النشلي
[4] الكردي، والبدر المشهدي، والشّهاب الرّملي، والشيخ ناصر الدّين
الطّبلاوي، وغيرهم، وأجازوه بالإفتاء والتدريس، فدرّس وأفتى في حياة
أشياخه، وانتفع به خلائق لا يحصون، وأجمع أهل مصر على صلاحه، ووصفوه
بالعلم والعمل، والزهد والورع، وكثرة النّسك والعبادة.
وشرح كتاب «المنهاج» و «التنبيه» شرحين عظيمين، جمع فيهما تحريرات
أشياخه بعد القاضي زكريا، وأقبل الناس على قراءتهما وكتابتهما في
حياته، وله على «الغاية» شرح مطول حافل.
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 219) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 64) .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 79- 80) و «معجم المؤلفين» (8/
269) .
[4] في «ط» : «النشكي» وهو خطأ.
(10/561)
وكان من عادته أن يعتكف من أول رمضان فلا
يخرج من الجامع إلّا بعد صلاة العيد.
وكان إذا حجّ لا يركب إلّا بعد تعب شديد، وإذا خرج من بركة الحاج لم
يزل يعلّم الناس المناسك وآداب السّفر ويحثّهم على الصّلاة، ويعلّمهم
كيف القصر والجمع. وكان يكثر من تلاوة القرآن في الطريق وغيره، وإذا
كان بمكّة أكثر من الطواف، ومع ذلك، فكان يصوم بمكّة والسفر أكثر
أيامه، ويؤثر على نفسه، وكان يؤثر الخمول ولا يكترث بأشغال الدنيا.
وبالجملة كان آية من آيات الله تعالى، وحجّة من حججه على خلقه.
وتوفي بعد عصر يوم الخميس ثاني شعبان سنة سبع وسبعين وتسعمائة، وهي سنة
ميلادي. انتهى ملخصا وفيها شمس الدّين محمد بن مسلّم- بتشديد اللام
المفتوحة- المغربي التونسي الحصيني- نسبة إلى حصين مصغّرا طائفة من عرب
المغرب- المالكي ثم الحنفي [1] نزيل حلب.
كان إماما، عالما، صالحا.
توفي بحلب في هذه السنة.
وفيها المولى مصلح الدّين المشتهر بمعلّم السلطان جهانكير [2] .
قال في «ذيل الشقائق» : طلب العلوم، وشمّر عن ساق الاجتهاد، وأخذ عن
جوي زادة، والمولى عبد الواسع، وصار ملازما منه، ثم [3] تنقلت به
الأحوال إلى أن صار معلّم السلطان جهانكير بن سليمان خان، واستمر على
تعليمه إلى أن توفي، فلم تطل مدة المترجم أيضا.
__________
[1] ترجمته في «درّ الحبب» (2/ 1/ 128- 135) و «الكواكب السائرة» (3/
74- 75) .
[2] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (393- 394) .
[3] لفظة «ثم» لم ترد في «آ» .
(10/562)
وكان عالما، عاملا، ورعا، ديّنا، سريع
الفهم، قوي الذهن، حسن الأخلاق.
وتوفي في المحرم. انتهى وفيها المولى مصلح الدّين الشهير ببستان الحنفي
[1] .
قال في «العقد المنظوم» : ولد بقصبة تيرة [2] سنة أربع وتسعمائة، وطلب
العلم، ورحل في الطلب، وأخذ عن علماء عصره، كالمولى محيي الدّين
الفناري، والمولى شجاع، وابن كمال باشا، وتخرّج به وصار ملازما من
المولى خير الدّين معلّم السلطان سليمان، ثم تنقّل في المدارس وقضاء
القصبات، إلى أن قلّد قضاء برسة، ثم قضاء أدرنة، ثم قضاء قسطنطينية، ثم
قضاء عسكر أناضول، ثم بعد عشرة أيام قضاء روم إيلي لموت جوي زاده،
فاستقرّ فيه خمس سنين، ثم عزل، وعيّن له مائة وخمسون درهما كل يوم.
وكان من أكابر العلماء وفحول الفضلاء إذا باحث أقام للإعجاز برهانا
وأصمت ألبابا وأذهانا، وكان المشاهير من كبار التفاسير مركوزة في صحيفة
خاطره، وأما العلوم العقلية فإليه فيها المنتهى.
وكتب «حاشية على تفسير البيضاوي لسورة الأنعام» ثم سلك مسلك الزّهد
والصلاح.
وكان يحفظ القرآن العظيم ويختمه في صلاته كل أسبوع.
وتوفي في العشر الأخير من شهر رمضان، ودفن بقرب زاوية السيد البخاري
خارج قسطنطينية.
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (395- 398) و «هدية العارفين» (2/
435) و «معجم المؤلفين» (12/ 280- 281) واسمه: «مصطفى بن محمد علي
الرّومي» .
[2] في «آ» : «تيرة» في «ط» : «نيرة» والتصحيح من «العقد المنظوم» و
«معجم المؤلفين» .
(10/563)
سنة ثمان وسبعين
وتسعمائة
فيها كان ميلاد صاحب «النّور السافر في أعيان القرن العاشر» في عشية
يوم الخميس لعشرين خلت من شهر ربيع الأول كما قاله في «نوره» [1] .
وفيها توفي المولى أحمد بن عبد الله، المعروف بفوري أفندي [2] مفتي
الحنفية بدمشق الشام.
قال في «الكواكب» : كان من العلماء البارعين والفضلاء المحقّقين، ولي
تدريس السليمانية بدمشق والإفتاء بها، وعمل درسا عاما استدعى له
العلماء، وكتب إلى شيخ الإسلام الوالد يستدعيه إليه وكان الشيخ مريضا
مدة طويلة، فكتب يعتذر إليه:
حضوري عند مولاي مناي [3] ... ولكنّ الضّرورة لا تساعد
لضعف ليس يمكنني ركوب ... ولا مشي يقارب أو يباعد
وأشهر علّتي لا شكّ عشر ... تعذّر أن أرى فيهنّ قاعد
وأحسن حالتي ذا الحين مشي ... يكون به المعاون والمساعد
ولولا ذاك مولانا قعدنا ... لسمع دروسك العليا مقاعد
بقيت مدى الزّمان فريد عصر ... إلى أعلى المراتب أنت صاعد
وكانت وفاة المفتي يوم الثلاثاء ختام شوال ودفن بتربة باب الصغير
بالقلندرية، رحمه الله تعالى.
__________
[1] انظر «النور السافر» ص (334) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 117- 118) .
[3] في «آ» و «ط» : «منائي» وما أثبته من «الكواكب السائرة» مصدر
المؤلف.
(10/564)
وفيها رحمة الله بن قاضي عبد الله السّندي
الحنفي [1] نزيل مكّة.
قال في «الكواكب» : كان عالما [2] فاضلا، له رسالة سمّاها «غاية
التحقيق ونهاية التدقيق» في مسائل ابتلي بها أهل الحرمين الشريفين.
انتهى وفيها الشيخ محمد بن محمد بن عبد الرحيم بن عبد الله، المعروف
بالزّغبي [3] الشيخ الصّالح المجذوب.
قال في «الكواكب» : كان سمينا طويل اللحية، له شيبة بيضاء، وكان له ذوق
ونكت ولطائف على لسان القوم وإشارات الصوفية.
وكان قد صحب في طريق الله جماعة، منهم الشيخ عمر العقيبي.
وحدثني بعض إخواننا الصّالحين قال: كنت مرة مع الزّغبي بقرية برزة
بالمقام، فسألته بماذا أعطي ما أعطي، قال: فقال لي: ما لك بهذا السؤال،
فقلت: لا بد أن تخبرني، فقال: يا ولدي ما نلت هذه الرّتبة حتّى سحت في
البرّية أربع عشرة سنة.
وحكى لي أنه في بدء أمره وحال تجرّده وقف على جبل الرّبوة المعروف
بالمنشار، فوثب منه إلى جبل المزّة وأنا أنظر.
وكان الزّغبي يحبّ أن يشرب الماء عن الرّماد ويصفه لكل من شكا إليه
مرضا أي مرض كان، وكان يقول هو الصفوة.
وكان منزله بمحلّة القيمرية، ومرّ يوما على دكان جزار بمحلّة القيمرية
فوجد الشيخ شهاب الدّين الطّيبي واقفا على الجّزار، فقال الزّغبي
للجزّار: يا معلّم توصّ من هذا الشيخ، فإنه يتصرّف في الألوف [4] من
الناس ويطاوعونه ولا يتجرأ أحد على مخالفته، إن طأطأ رأسه طأطؤوا معه،
وإن رفع رأسه رفعوا معه.
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 152) .
[2] في «ط» : «عاملا» وهو خطأ.
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 32- 37) و «جامع كرامات الأولياء»
(1/ 184) .
[4] في «آ» و «ط» : «من الألوف» والتصحيح من «الكواكب السائرة» مصدر
المؤلف.
(10/565)
قال: وسأله بعض الناس عن أسفار زوجته فقال:
وَالْقَواعِدُ من النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً 24: 60
الآية [النّور: 60] .
وكانت وفاة زوجته قبله في سنة سبع وسبعين بقرية حرستا، ودفنت هناك،
ولما توفيت قال: تقدمتنا الحجّة واتسعنا لحزنها ولو تقدمناها ما وسعت
حزننا.
ومرّ قبل موته بنحو سنة بالمكان الذي هو مدفون فيه الآن، فقال لا إله
إلّا الله إن لنا هنا حبسة [1] طويلة، فلما توفي دفن هناك قريبا من
الشيخ أبي بكر بن قوام، وقبره مشهور يزار، وعليه قبّة حسنة، وقيل: إن
يوم موته وافق فتح قبرس [2] . انتهى باختصار.
__________
[1] كذا في «ط» و «الكواكب السائرة» مصدر المؤلف: «حبسة» وفي «آ» :
«حبسة» .
[2] المعروفة الآن ب «قبرص» .
(10/566)
سنة تسع وسبعين
وتسعمائة
فيها توفي الفقيه بأفضل حسين بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر
الشافعي الحضرمي [1] .
قال في «النور» : كان من أكمل المشايخ العارفين الجامعين بين علوم
الشريعة وسلوك الطريقة وشهود الحقيقة، صاحب أحوال سنيّة، ومقامات
عليّة، وفراسات صادقة، وكرامات خارقة، وله في التصوف رسالة سمّاها
«الفصول الفتحية والنفثات الروحية فيما يوجب الجمعية» و «عدم البراح من
جانب [2] الحق والفناء والبقاء به بالكّلية والجزئية» .
وتوفي بتريم رحمه الله ورضي عنه.
وفيها الشيخ رمضان [3] ، المعروف ببهشتي [4] كان من قصبة ديزه، فخرج
منها لطلب العلم، واتصل بمجالس الأعلام، فقرأ على المولى محمد الشهير
بمرحبا ثم اتصل بخدمة المولى سعد الله، ثم حبّبت إليه العزلة والقناعة،
ورغب عن قبول المناصب، واختار خطابة جامع أحمد باشا في قصبة جورلي،
وأكبّ على الاشتغال والأشغال، وانتفع به الطلبة وهرعوا إليه، وكتب في
أثناء دروسه حاشية لطيفة على «حواشي الخيالي» وعلى «شرح المسعود الرومي
في آداب البحث» وحواشي على بعض المواضع من «شرح المفتاح» للشريف.
__________
[1] ترجمته في «النور السافر» ص (344- 348) .
[2] لفظة «جانب» سقطت من «ط» .
[3] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (408- 410) .
[4] في «آ» : «المعروف ببهشي» .
(10/567)
وكان عالما، فاضلا، مدقّقا لطيف الطبع، حسن
الصّحبة، حلو المحاورة، ينظم الشعر التركي أبلغ نظام، فاتسم فيه ببهشتي
على عادتهم.
وتوفي في القصبة المزبورة.
وفيها المولى خواجه عطاء الله [1] معلّم السلطان سليم خان بن السلطان
سليمان خان.
قال في «ذيل الشقائق» : نشأ بقصبة بركي من ولاية آيدين صارفا لرائج
عمره في إحراز العلوم والمعارف، بحيث لا يلويه عن تحصيلها عائق ولا
صارف، وقرأ على ابن كمال باشا، والمولى أبي السعود المفتي، وسعد الله
محشّي «تفسير البيضاوي» وهو قاض بقسطنطينية، ثم صار ملازما بطريق
الإعادة من إسرافيل زاده، ثم تنقّل في المدارس، ثم عيّن لتعليم السلطان
سليم خان وهو يومئذ أمير بلواء مغنيسا، ولما وصلت السلطنة إلى مخدومه
علت كلمته، وارتفعت مرتبته [2] ، واستقام أمره، واشتعل جمره، فبالغ في
إكرامه، وأفرط في إعظامه، وكان يدعوه إلى داره العامرة فيجتمع به، ثم
قدّم صغار طلبته على المشايخ الكبار وقلّدهم المناصب الجليلة في
الأزمنة القليلة، فضجّ الناس عليه بالدعاء.
وكان عالما، فاضلا، ورعا، ديّنا، قوي الطبع، صحيح الفكر، إلّا أن فيه
التعصب الزائد، وكتب رسالة تشتمل على خمسة فنون، الحديث، والفقه،
والمعاني، والكلام، والحكمة.
وتوفي في أوائل صفر بقسطنطينية وصلّى عليه المولى أبو السعود المفتي.
وفيها المولى علي [3] .
قال في «الكواكب» : «ابن إسرافيل» . وقال في «العقد المنظوم» : «ابن
محمد» الشهير بقنالي زاده.
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (406- 408) و «معجم المؤلفين» (6/
283) .
[2] في «ط» : «رتبته» وما جاء في «آ» موافق لما في «العقد المنظوم»
مصدر المؤلف.
[3] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (411- 417) وفيه: «المشتهر بحنّاوي
زاده» . و «الكواكب السائرة» (3/ 187- 190) و «معجم المؤلفين» (7/ 193-
194) .
(10/568)
ولد سنة ثمان عشرة وتسعمائة في قصبة
أسيارية من لواء حميد، وكان أبوه من قضاة بعض القصبات، ثم اشتغل
المترجم بالعلوم، فقرأ على المولى محيي الدّين المشتهر بالمعلول،
والمولى سنان الدّين محشّي «تفسير البيضاوي» والمولى محيي الدّين
المشتهر بمرحبا ثم صار معيدا لدرس المولى صالح الأسود، وعلى جوي زادة
ولازمه وصار ملازما من المولى محيي الدّين الفناري، ثم عمل رسالة حقّق
فيها بحث نفس الأمر وعرضها على أبي السعود أفندي، وهو يومئذ قاضي روم
إيلي، فقلّده المدرسة الحسامية بأدرنة بعشرين، ثم تنقّل في المدارس إلى
أن قلّد قضاء دمشق، ثم القاهرة، ثم بروسه، ثم أدرنة، ثم قسطنطينية، ثم
قضاء عسكر أناضولي.
وكان- رحمه الله تعالى- إماما، عالما، بليغا، واسع المعرفة، كثير
الافتنان، جاريا في مجاري المعارف بغير عنان اخترع الكثير من المعاني
وولّد وقلّد جيد الزمان من منثوره ومنظومه ما قلّد فمن نظمه:
أرى من صدغك المعوجّ دالا ... ولكن نقطة من مسك خالك
فصارت [1] داله بالنقط ذالا ... فها أنا هالك من أجل ذلك
ومنه:
لهيب [نار] [2] الهوى من أين جاء إلى ... أحشاك حتى رأينا القلب وهّاجا
وما دروا أنّه من سحر مقلته ... ألفى سبيلا إلى قلبي ومنهاجا
ومنه:
أنفق فإن الله كافل عبده ... فالرّزق في اليوم الجديد جديد
المال يكثر كلّما أنفقته ... كالبئر ينزح ماؤها [3] فيزيد
ومن نثره قوله في رسالة قلمية: مدّ باعه في العلوم، وقده قيد شبر [4] ،
حبر
__________
[1] في «الكواكب السائرة» : «فأصبح» .
[2] لفظة «نار» مستدركة من «العقد المنظوم» مصدر المؤلف.
[3] في «العقد المنظوم» : «ماؤه» .
[4] في «العقد المنظوم» : «ومده فيه شبر» .
(10/569)
باهر [1] ، إذا رأيت آثاره تقول: [ما] أحسن
بهذا الحبر [2] ، قادر على تحرير العلوم وتحبيره، يتكلم ويدر على
الكافور عبيرا، فيا حسن تعبيره إذا شكّل رفع الإشكال، وإذا قيّد أطلق
العقول من العقال، طورا يجلس على الدست مثل الكرام الصيد وطورا يبيت
على [كهف] المحبرة [3] ، باسطا ذراعيه بالوصيد، [كأنه] يتنزه في مراتع
الطّرب، ويتبختر في غلايل القصب [4] إذا شطّ داره نشط [5] عنه مزاره،
فهو يبكي كالغمام وينوح كالحمام [6] يذكّر [7] لداته وأترابه، ويحنّ
إلى أول أرض مسّ جلده ترابه [8] على منبر [9] الأنامل، خطيب مصقع ألف،
تراه تارة في الدولة وطورا على الإصبع، يقوم في خدمة الناس، وإذا قلت
له أجر يقول على الرأس يتعيش بكسب يمينه ويقتات من عرق جبينه، لفظوا
باسمه فصيحا وهو محرّف، أرادوا أن يصحّفوه فلم يصحّف، ميزاب عين الحكمة
عنه، نابعة مقياس بمصر العلم، يعتبرون أصابعه أخرس ولكن لسانه قارئ
يتكلم بعد ما قطع رأسه، وهو حكمة الباري، مدّاح لكنه لا يفارقه الهجا
ستر [10] طرة صبح تحت أذيال الدّجى.
وله رسالة سيفية طنّانة وأشعار فارسية وغيرها.
وكان أعجوبة من الأعاجيب.
وتوفي- رحمه الله- شهيدا في سابع عشر رمضان بمدينة أدرنة، وذلك أنه
سافر مع السلطان إلى أدرنة، وكان مبتلى بعرق النساء، فاشتد ألمه
بالحركة وشدة
__________
[1] في «العقد المنظوم» : «حبر ماهر» .
[2] في «ط» : «الخبر» .
[3] في «ط» : «المجرة» .
[4] في «العقد المنظوم» : «ويستمر في بلال القصب» .
[5] في «العقد المنظوم» : «شط عنه» .
[6] في «العقد المنظوم» : «فهو يبكي كالغمامة وينوح كالحمامة» .
[7] في «آ» و «ط» : «ويذكر» وهو تصحيف والتصحيح من «العقد المنظوم» .
[8] في «ط» : «مسّ جلد ترابه» .
[9] لفظة «منبر» لم ترد في «العقد المنظوم» الذي بين يدي.
[10] في «العقد المنظوم» : «يستر» .
(10/570)
البرد، فعالجه بعض المتطببة ودهنه بدهن فيه
بعض السموم، ثم أعقبه بالطّلاء بدهن النّفط، فوصل السم إلى باطنه فكان
سبب موته.
[1] وفي حدودها [2] الإمام العلّامة تقي الدّين [محمد بن] أحمد بن شهاب
الدّين الفتّوجي [3] صاحب «المنتهى» [4] .
قال الشعراوي في «ذيله على طبقاته» : ومنهم سيدنا ومولانا الشيخ الإمام
العلّامة الشيخ تقي الدّين، ولد شيخنا شيخ الإسلام الشيخ شهاب الدّين
الشهير بابن النّجار، صحبته أربعين سنة فما رأيت عليه ما يشينه في دينه
بل نشأ في عفّة، وصيانة، ودين، وعلم، وأدب، وديانة.
أخذ العلم عن والده شيخ الإسلام المذكور وعن جماعة من أرباب المذاهب
المخالفة، وتبحّر في العلوم، حتّى انتهت إليه الرئاسة في مذهبه، وأجمع
الناس أنه إذا انتقل إلى رحمة الله تعالى مات بذلك فقه الإمام أحمد من
مصر، وسمعت القول مرارا من شيخنا الشيخ شهاب الدّين الرّملي وما سمعته
قطّ يستغيب أحدا من أقرانه ولا غيرهم، ولا حسد أحدا على شيء من أمور
الدنيا، ولا تزاحم عليها، وولي القضاء بسؤال جميع أهل مصر، فأشار عليه
بعض العلماء، بالولاية، وقال:
يتعين عليك كذلك، فأجاب مصلحة للمسلمين.
وما رأيت أحدا أحلى منطقا منه، ولا أكثر أدبا مع جليسه، حتى يود أنه لا
يفارقه ليلا ولا نهارا.
وبالجملة فأوصافه الجميلة تجلّ عن تصنيفي، فأسأل الله أن يزيده من فضله
علما وعملا وورعا إلى أن يلقاه، وهو عنه راض، آمين اللهم آمين، انتهى
[1] .
__________
[1] ما بين الرقمين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
[2] قلت: هكذا دوّن المؤلف رحمه الله هذه الترجمة متشككا في سنة وفاة
صاحبها، وفي معظم المصادر أنه مات سنة (972) هـ.
[3] ترجمته في «النعت الأكل» ص (141- 142) و «السحب الوابلة» ص (347-
350) و «مختصر طبقات الحنابلة» للشطي ص (91- 92) و «الأعلام» (6/ 6) و
«معجم المؤلفين» (8/ 276) وما بين الحاصرتين مستدرك منها جميعا.
[4] واسمه الكامل: «منتهى الإرادات» وهو في فقه الحنابلة. انظر «كشف
الظنون» (2/ 1853) .
(10/571)
وفيها يعقوب أفندي الكرماني الحنفي [1]
الإمام العالم الزّاهد الناسك.
ولد ببلدة شيخلو، وكان أبوه من الأجناد العثمانية، ورغب هو في العلم
وأهله، فجد واجتهد، وأخذ عن علماء عصره، ثم رأى صورة المحشر في المنام
وشاهد فيه شدائد الساعة وأهوال القيامة [2] ، فلما استيقظ سلك طريق
الصوفية، واختار [3] سلوك منهج الخلوتية، فأخذ ذلك عن مصلح الدّين
المشتهر بمركز أنف، وصار خليفة من خلفائه إلى أن فوض إليه مشيخة زاوية
مصطفى باشا بقسطنطينية فسلك بها أحسن الطرق، مع العلم، والدّين،
والوعظ، والتذكير، والتفسير، وانتفع به الناس إلى أن توفي في ذي
القعدة.
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (417- 418) .
[2] في «ط» : «القيام» .
[3] في «ط» : «فاختار» .
(10/572)
سنة ثمانين وتسعمائة
فيها كما قال في «النور» [1] أخذ السلطان أكبر بن همايون كجرات، وهو من
ذرّية تيمورلنك بينه وبينه أربعة آباء، وكان عظيم الشأن، ورزق السّعد،
وطالت أيامه، واتسع ملكه جدا، وكان عادلا إلا أنه كان [2] يميل إلى
الكفرة، ويستصوب أقوالهم، ويستحسن أفعالهم.
وتوفي في جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وألف، وكانت مدة سلطنته خمسين
سنة، وتولى بعده ولده سليم شاه. انتهى وفيها توفي الشيخ بالي الخلوتي،
المعروف بسكران [3] .
قال في «العقد المنظوم» : نشأ في طلب العلم وتحصيل الفضائل، حتى صار
ملازما من المولى خير الدّين معلّم السلطان سليمان، ودرّس في عدة
مدارس، ثم رأى مناما كان سببا لتركه ذلك وإقباله على طريق التصوف.
وتلقّن الذّكر، وسلك الطريق، وفوضت إليه زاوية داخل قسطنطينية، فاشتغل
بالإرشاد والإفادة وتربية المريدين.
وكان عالما، فاضلا، عابدا، صالحا معرضا عن أبناء الدّنيا غير مكترث
بالأغنياء لم يدخل قط إلى باب أمير ولا صاحب منصب، غاية في [الحبّ و]
الميل إلى الخيل، الجياد ويرسل بعضها إلى الغزو، صاحب جذبة عظيمة.
__________
[1] انظر «النور السافر» ص (349- 350) .
[2] لفظة «كان» سقطت من «آ» .
[3] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (426- 427) .
(10/573)
وله في تعبير الرؤيا ما يدهش.
وتوفي في ذي القعدة ودفن بقسطنطينية.
وفيها زينب بنت محمد بن محمد بن أحمد الغزّي الشافعية [1] .
قال في «الكواكب» : كانت من أفاضل النساء، من أهل العلم والدّين
والصّلاح.
مولدها في القعدة سنة عشر وتسعمائة، وقرأت على والدها وعلى أخيها
شقيقها الشيخ الوالد كثيرا، وكتبت له كتبا بخطّها، ومدحته بقصيدة تقول
فيها:
إنما العالم الذي ... جمع العلم واكتمل
قام فيه بحقّه ... يتبع العلم بالعمل
سهر اللّيل كلّه ... بنشاط بلا كسل
فهو في الله دأبه ... أبد الدّهر لم يزل
حاز علما بخشية ... وبدنياه ما اشتغل
حاسديه تعجّبوا ... ليس ذا الفضل بالحيل
ذاك مولاه خصّه ... بكمال من الأزل
من يرم مشبها له ... في الورى عقله اختبل
أو بلوغا لفضله ... فله قطّ ما وصل
فهو شيخي وسيّدي ... وبه النّفع قد حصل
وشعرها في المواعظ وغيرها في غاية الرّقة والمتانة، اتصلت بمنلا كمال،
وبعده بالقاضي شهاب الدّين البصروي. انتهى وفيها شمس الدّين أبو عبد
الله محمد بن محمد بن علي الغزّي الأزهري الشافعي [2] الإمام العلّامة
المعمّر.
__________
[1] ترجمتها في «الكواكب السائرة» (3/ 154- 155) و «الأعلام» (3/ 67) و
«أعلام النساء» (2/ 112- 113) .
[2] لم أعثر على ترجمته فيما بين يدي من المصادر والمراجع.
(10/574)
أخذ عن القاضي زكريا وغيره.
وكان إماما، محدّثا، مسندا، جليل القدر، وافر العلم، رحمه الله تعالى.
وفيها المولى مصلح الدّين، المشتهر بمعلّم زاده الحنفي [1] ، ينتهي
نسبه إلى السلطان إبراهيم بن أدهم [2] رضي الله عنه [2] .
قرأ على سعد الله بن عيسى بن أمير خان، وتنقّل في المدارس إلى أن ولي
قضاء حلب، ثم قضاء برسه، ثم قضاء العسكر الأناضولي، ثم الرّوم إيلي،
ودام فيه خمس سنين.
وكان بينه وبين عطاء الله معلّم السلطان مصاهرة واتصال، فلذا حصلت له
الحظوة وعظم الشوكة، ولما مات عطاء الله اغتنم أعداؤه الفرصة، وسعوا به
حتّى عزل.
وكان عالما، فاضلا، محقّقا، كاملا، مجيدا للكتابات على الفتاوى، لين
الجانب مجبولا على الكرم وحسن المعاشرة، غير أن فيه طمعا زائدا وحرصا
وافرا.
وتوفي في ربيع الأول وقد أناف على سبعين سنة، ومات وهو متوض وصلّى
ركعتين، وأخذ سبحته بيده واضطجع، فخرجت روحه، ودفن بفناء مسجده الذي
بناه في مدينة برسه.
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (425- 426) .
[2] ما بين الرقمين لم يرد في «آ» .
(10/575)
|