شذرات الذهب في أخبار من ذهب
سنة إحدى وثمانين
وتسعمائة
وفيها- وقيل سنة تسع وسبعين وهو الصحيح- توفي الشيخ شهاب الدّين أحمد
الطيّبي الشافعي [1] الإمام العلّامة.
أخذ عن الكمال بن حمزة وغيره من علماء عصره، وأجازوه، وعني بالحديث
والقراآت، فصار ممن يشار إليه فيهما بالبنان.
وكان إماما بجامع بني أمية، علّامة، محدثا، فاضلا، عديم النظير.
ومن شعره عاقدا لما أخرجه أبو المظفّر ابن السّمعاني عن الجنيد رحمه
الله إنما تطلب الدّنيا لثلاثة أشياء: الغنى، والعزّ، والرّاحة، فمن
زهد فيها عزّ، ومن قلّ سعيه فيها استراح، ومن قنع فيها استغنى:
لثلاث يطلب الدّنيا الفتى ... للغني والعزّ أو أن يستريح
عزّه في الزّهد والقنع غنى ... وقليل السّعي فيها مستريح
وبالجملة فكان أحد مشايخ دمشق وعلمائها وصدورها، رحمه الله تعالى.
وفيها- تقريبا- شمس الدّين محمد الفارضي القاهري الحنبلي [2] الشاعر
المشهور الإمام العلّامة.
قال في «الكواكب» : أخذ عن جماعة من علماء مصر، واجتمع بشيخ
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 114- 116) و «الأعلام» (1/ 91-
92) و «معجم المؤلفين» (1/ 146- 147) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 83- 85) و «النعت الأكل» ص (142-
148) و «مختصر طبقات الحنابلة» (97- 99) و «الأعلام» (6/ 325) و «معجم
المؤلفين» (11/ 114) .
(10/576)
الإسلام الوالد حين كان بالقاهرة سنة
اثنتين وخمسين، وكان بدينا سمينا، فقال الوالد يداعبه:
الفارضيّ الحنبليّ الرّضي ... في النحو والشعر عديم المثيل
قيل ومع ذا فهو ذو خفّة ... فقلت كلا بل رزين ثقيل
واستشهد الشيخ شمس الدّين العلقمي [1] بكلامه في «شرح الجامع الصغير»
فمن ذلك قوله في معنى ما رواه الدّينوري في «المجالسة» والسّلفي في بعض
تخاريجه، عن سفيان الثوري قال: «أوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة
والسلام: لأن تدخل يدك إلى المنكبين في فم التّنين خير من أن ترفعها
إلى ذي نعمة قد عالج الفقر» :
إدخالك اليد في التّنّين تدخلها ... لمرفق منك مستعد فيقضمها
خير من المرء يرجى في الغنى وله ... خصاصة سبقت قد كان يسنمها
ومن بدائع شعره:
إذا ما رأيت الله للكلّ فاعلا ... رأيت جميع الكائنات ملاحا
وإن لا ترى إلا مضاهي صنعه ... حجبت فصيّرت المساء صباحا
ومن محاسنه أيضا أنه صلّى شخص إلى جانبه ذات يوم فخفّف جدا، فنهاه
فقال: أنا حنفيّ، فقال الفارضي:
معاشر النّاس جمعا حسبما رسمت ... أهل الهدى والحجا من كل من نبها
ما حرّم العلم النّعمان في سند ... يوما طمأنينة أصلا ولا كرها
وكونها عنده ليست بواجبة ... لا يوجب التّرك فيما قرّر الفقها
فيا مصرّا على تفويتها أبدا ... عد وانتبه رحم الله الذي انتبها
انتهى ملخصا.
وأخذ عن الفارضي كثير من الأجلاء، منهم العلّامة شمس الدّين محمد
__________
[1] تقدمت ترجمته في وفيات سنة (963) من هذا المجلد ص (490) .
(10/577)
المقدسي العلمي، مدرّس القصّاعية بدمشق،
وأنشد له، وذكر أن القاضي البيضاوي خطّأ من أدغم الراء في اللام ونسبه
إلى أبي عمرو:
أنكر بعض الورى على من ... تدغم في اللام عنه راء
ولا نخطّي أبا شعيب ... والله يغفر لمن يشاء
وله:
ألا خذ حكمة مني ... وخلّ القيل والقالا
فساد الدّين والدّنيا ... قبول الحاكم المالا
وقال يرثي الشيخ مغوش التونسي لما مات بمصر:
تقضّى التونسيّ فقلت بيتا ... يروّح كل ذي شجن ويؤنس
أتوحشنا وتؤنس بطن لحد ... ولكن مثل ما أوحشت تونس
وفيها- تقريبا أيضا- قال في «الكواكب» ما لفظه: محمد بن عبد الله بن
علي الشيخ العلّامة الشّنشوري المصري الشافعي [1] .
مولده- تقريبا- سنة ثمان وثمانين وثمانمائة، وأخذ عن الجلال السيوطي،
والقاضي زكريا، [2] والدّيمي، والقلقشندي [2] ، والسّعد الذهبيّ،
والكمال الطّويل، والنور المحلّي، وله مؤلفات في الفرائض وغيرها، وأجاز
ابن كسباي في ربيع الثاني سنة ثمانين وتسعمائة. انتهى بحروفه وقال ولده
الشيخ عبد الله [3] شارح «الترتيب» [4] في إجازة ذكر فيها مشايخه:
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (2/ 37- 38) و «معجم المؤلفين» (10/
226- 227) والشنشوري: نسبة إلى قرية شنشور من قرى المنوفية. انظر
«التحفة السّنية» ص (107) وانظر ما علّقه العلامة الزركلي في ضبطها في
«الأعلام» (4/ 129) في ترجمة ولده.
[2] ما بين الرقمين سقط من «الكواكب السائرة» الذي بين يدي.
[3] هو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي العجمي الشنشوري، الفرضي،
من فقهاء الشافعية في عصره. كان خطيب الجامع الأزهر بمصر. له مؤلفات
مختلفة. مات سنة (999) هـ. عن «معجم المطبوعات العربية» (2/ 1147) و
«الأعلام» للزركلي (4/ 128- 129) و «معجم المؤلفين» لكحالة (6/ 128) .
[4] واسم كتابه: «فتح القريب المجيب بشرح الترتيب» وهو مطبوع بمجلدين
بمطبعة محمد مصطفى
(10/578)
ومن مشايخي الشيخ العلّامة والدي الشيخ
بهاء الدّين محمد بن الشيخ الصّالح عبد الله بن الشيخ المسلّك نور
الدّين علي الشّنشوري الشافعي.
وتوفي والدي سابع عشر الحجّة الحرام سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة، وله من
العمر تسع وتسعون سنة. انتهى ومن خطّه نقلت.
وفيها المولى علي بن عبد العزيز، المشتهر بأم ولد زاده [1] .
قال في «العقد المنظوم» : صار ملازما من المولى محيي الدّين الفناري،
وتنقّل في المدارس، وقاسى فقرأ شديدا أيام طلبه، إلى أن ولي قضاء حلب
فلم يكمل سنة حتى توفي.
وكان عالما، أديبا، وفاضلا لبيبا، مبرّزا على أقرانه، حائزا قصبات
السبق في ميادين العلوم، وله رسائل أنيقة وألفاظ رشيقة.
ومن شعره القصيدة الميمية الطنّانة التي أولها:
أبا لصّدّ تحلو عشرة وتدام ... وفي القلب من نار الغرام ضرام
شربت بذكر العامريّة قهوة ... فسكري إلى يوم القيام مدام
وهي طويلة انتهى ملخصا.
__________
بمصر سنة 1301 هـ. انظر «معجم المطبوعات» لسركيس (2/ 1147) .
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (430- 436) و «درّ الحبب» (1/ 2/
1001- 1003) .
(10/579)
سنة اثنتين وثمانين
وتسعمائة
فيها عمر درويش باشا الوزير جامعا بدمشق المحروسة [1] فجعل له ماميّة
[2] تاريخا فقال:
في دولة السّلطان بالعدل مراد ... من قام بالفرض وأحيا السّنّه
درويش باشا قد أقام معبدا ... وكم له أجر به ومنه
بناه خير جامع تاريخه ... (لله فاسجد واقترب بجنّه) [3]
وفيها توفي السلطان الأعظم سليم بن سليمان [4] .
قال في «الأعلام» مولده الشريف سنة تسع وعشرين وتسعمائة، وجلوسه على
تخت ملكه الشريف بالقسطنطينية العظمى في يوم الاثنين لتسع مضين من ربيع
الآخر سنة أربع وسبعين وتسعمائة، ومدة سلطنته الشريفة تسع سنين، وسنّه
حين تسلطن ست وأربعون سنة، وعمره كلّه ثلاث وخمسون سنة.
وكان سلطانا، كريما، رؤوفا بالرّعية، رحيما، عفوّا عن الجرائم، حليما،
محبّا للعلماء والصلحاء، محسنا إلى المشايخ والفقراء، طالما طافت
بكفّيه الآمال واعتمرت، وصدع بأوامره الليالي والأيام فائتمرت. كم
أظهرت لسواد الكفرة يد
__________
[1] انظر «النور السافر» ص (355) .
[2] هو محمد بن أحمد بن عبد الله، المعروف بمامية الرومي. سترد ترجمته
في وفيات سنة (987) من هذا المجلد ص (606) .
[3] مجموعها في حساب الجمّل (982) .
[4] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (454- 456) و «النور السافر» ص (354-
355) و «تاريخ الدولة العلية العثمانية» ص (253- 258) و «أخبار الدول
وآثار الأول» للقرماني (3/ 66- 73) .
(10/580)
صارمه البيضاء آية للناظرين، وكم جهّز
جيوشا للجهاد في سبيل الله فقطع دابر القوم الكافرين، فمن أكبر غزواته
فتح جزيرة قبرس بسيف الجهاد، ومنها فتح تونس المغرب، وحلق الواد [1] ،
ومنها فتح ممالك اليمن واسترجاعها من العصاة البغاة أهل الإلحاد.
ومن خيراته تضعيف صدقة الحبّ على أهل الحرمين والأمر ببناء المسجد
الحرام.
وتوفي لسبع مضين من شهر رمضان، ودفن بقرب أيا صوفيا، وتولى بعده ولده
السلطان مراد، ولماميّة الرّوم في تاريخ جلوسه:
بالبخت فوق التّخت أصبح جالسا ... ملك به رحم الإله عباده
وبه سرير الملك سرّ فأرّخوا ... حاز الزّمان من السّرور مراده
وفيها إلياس القرماني الطّبيب الحنفي [2] .
قال في «العقد المنظوم» : ولد بولاية قرمان [3] ، ثم خرج من بلاده لطلب
العلم بعد ما بلغ الحنث، وتنقّل في البلدان، حتّى وصل إلى خدمة الحكيم
إسحاق، وحصل عنده بعض العلوم، سيما الطب، وفتح حانوتا في بعض الأسواق،
وتكسّب بالطب وبيع المعاجين والأشربة، ثم فرغ عن الحانوت، وشمّر عن ساق
الاجتهاد، وبعد ما ظهر فيه الشّيب وتقيد بأخي زاده، وحصّل عليه كثيرا
من العلوم، هذا مع العائلة [4] والاحتياج، إلى أن برع وفاق أقرانه،
وكان من
__________
[1] ويقال لها أيضا (حلق الوادي) وهي بلدة سياحية ومركز تجاري على ساحل
البحر الأبيض المتوسط من أعمال ولاية تونس عاصمة الجمهورية التونسية.
انظر «المنجد في الأعلام» ص (257) و «أطلس العالم» للأستاذ شارل جورج
بدران الخريطة (28) المربع (هـ) و «أطلس العالم» طبع مكتبة لبنان ص
(61) .
[2] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (456- 457) .
[3] قرمان: مدينة في وسط تركية الأسيوية اسمها القديم لا رندة. اتخذها
سلالة قرمان أغلو عاصمة لها في القرآن الثامن الهجري. انظر «المنجد في
الأعلام» ص (548) .
[4] أي مع الفقر.
(10/581)
العلماء العاملين، مع كمال الورع والتصلّب
في الدّين، آية في الزّهد والتّقوى، متبحّرا في الفنون الشرعية
والنقلية، مشاركا في العلوم العقلية. وكان يفسّر القرآن العظيم وينتفع
به الناس، إلى أن توفي شهيدا في ذي القعدة، وذلك أنه طبّب فرهاد باشا
الوزير [1] من سلس البول، فمات في أيام قلائل بالزّحير [2] فاتّهم
بقتله، فترصّد له جماعته ساعة، حتّى خرج من داره، فضربوه بالسكاكين
حتّى قتلوه، فغضب السلطان لذلك، وصلب بعضهم، ونفى الباقين.
وفيها الشيخ عبد القادر بن أحمد بن علي الفاكهي المكّي الشافعي [3] .
قال في «النور» : ولد في ربيع الأول عام عشرين وتسعمائة.
وكان إماما، عالما، وله تصانيف كثيرة، لا تحصى، منها شرحان على
«البداية» للغزالي، ورأيت منها جملة عديدة في فنون شتّى، ولعمري أنه
كان يشبه الجلال السيوطي في كثرتها، بحيث إنه يكتب على كل مسألة رسالة،
مع أن عبارته ما هي بذاك رحمه الله.
وتوفي بمكّة. انتهى وفيها سراج الدّين عمر بن عبد الوهاب النّاشري
اليمني الشافعي [4] .
قال في «النور» : ولد بمدينة زبيد.
وكان إماما، علّامة. وكان سئل عما يعتاده أهل زبيد من العيد الذي في
أول خميس من رجب هل له أصل وهل هو سنّة أم لا، فأجاب بهذه الأبيات [5]
:
وسائل سال عن قوم وعادتهم ... عيد الخميس الذي في مبتدا رجب
__________
[1] أخبار الوزير فرهاد باشا في «أخبار الدول وآثار الأول» (3/ 75 و 76
و 103) .
[2] الزحير: استطلاق البطن بشدة وتقطيع في البطن يمشّي دما. «القاموس
المحيط» (زحر) .
[3] ترجمته في «النور السافر» ص (353- 354) و «الأعلام» (4/ 36) و
«معجم المؤلفين» (5/ 283) .
[4] ترجمته في «النور السافر» ص (352- 353) .
[5] الأبيات في «النور السافر» ص (352- 353) وما بين الحاصرتين مستدرك
منه.
(10/582)
[أسنّة هو أو لا؟ أوضحوه لنا ... وما
لتمييز هذا اليوم من سبب؟
فقلت ذا مبدأ الإسلام في يمن ... عيد الخميس الذي في مبتدا رجب]
أتى معاذ بأمر الله فيه لنا ... بالاتّباع إلى منهاج خير نبي
فصار ذلك عيدا عندنا فلذا ... نخصّه لمزيد الحبّ بالقرب
ولا نقول بتخصيص الصّيام له ... ولا صلاة ولا شيء من القرب
نعم لنا فيه تخصيص المحبّة إذ ... كان النّجاة لنا فيه من العطب
فصار إقباله فيه القبول على ... قوابل القابلين الكل عن أرب
ثم الصّلاة مع التّسليم لا برحا ... على محمد خير العجم والعرب
والآل والصّحب ثم التّابعين لهم ... ما انهلّ مزن على الأشجار والكثب
وفيها القاضي عيسى الهندي [1] العلّامة المفنّن.
قال في «النور» : كان من أعيان العلماء المشهورين، وواحد المشايخ
المدرّسين، وله تصانيف نافعة، رحمه الله تعالى.
وتوفي بأحمدآباد. انتهى.
وفيها ناصر الدّين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن عيسى
بن شرف، المعروف بابن أبي الجود، وبابن أبي الحيل قديما، وبابن الكشك
الشلّاح أبوه [2] .
قال في «الكواكب» : قال الوالد قرأ عليّ من «الترمذي» إلى كتاب الصلاة،
والبردة، والمنفرجة، وسمع قصيدتي القافية والخائية، مرثيتي شيخ
الإسلام.
[وقصيدتي التائية المثلثة، في مجدّدي دين الأمة، وبعض كتابي الدرّ
النضيد،] وغير ذلك وأجزته، مولده سنة تسع عشرة وتسعمائة. انتهى.
وأخبرنا الشيخ أبو اليسر القوّاس أنه كان له ذكاء مفرط، وعرض له أكل
الأفيون، وهو لبن الخشخاش، وغلب عليه فكتبت إليه العمّة خالة أبي اليسر
المذكور السيدة زينب بنت الشيخ رضي الدّين تنصحه:
__________
[1] ترجمته في «النور السافر» ص (354) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 53- 54) وما بين الحاضرتين مستدرك
منه.
(10/583)
يا ناصر الدّين يا بن الكشك يا ذا الجود
... اسمع أقول لك نصيحة تطرب الجلمود
بسك تعاني اللبن فهمك هو المفقود ... يصير بالك وما لك والذّكا مفقود
وكان المذكور رئيس الكتبة بمحكمة القسمة ومامية ترجمانها، وكان يصير
بينهما لطائف ووقائع.
وتوفي يوم السبت رابع عشر الحجّة ودفن بباب الفراديس. انتهى ملخصا.
وفيها المولى أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى العمادي الحنفي [1]
الإمام العلّامة.
قال في «العقد المنظوم» : ولد سنة ثمان وتسعين وثمانمائة بقرية قريبة
من قسطنطينية، وقرأ على والده كثيرا من جملة ما قرأه عليه «حاشية
التجريد» للشريف الجرجاني بتمامها، و «شرح المفتاح» للشريف أيضا قرأه
عليه مرتين، و «شرح المواقف» له أيضا، وصار ملازما من المولى سعدي
جلبي، وتنقّل في المدارس، ثم قلّد قضاء برسه، ثم قضاء قسطنطينية، ثم
قضاء العسكر في ولاية روم إيلي، ودام عليه مدة ثمان سنين، ثم لما توفي
المولى سعد الله بن عيسى بن أمير خان تولى مكانه الفتيا، فقام بأعبائها
أتمّ قيام، وذلك سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة، واستمر على ذلك إلى أن
مات، وسارت أجوبته في جميع العلوم وجميع الآفاق مسير النّجوم، وجعلت
رشحات أقلامه تميمة نحر لكونها يتيمة بحر يا له من بحر [2] ، وكان من
الذين قعدوا من الفضائل والمعارف على سنامها وغاربها، وضربت له نوبة
الامتياز في مشارق الأرض ومغاربها، تفرّد في ميدان فضله فلم يجاره أحد،
وانقطع عن
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (439- 454) و «الكواكب السائرة» (3/
35- 37) و «النور السافر» ص (239- 241) ووفاته فيه: «أبو السعود محمد
بن مصطفى» وفيه وفاته سنة (952) وهو وهم. و «الأعلام» (7/ 59) و «معجم
المؤلفين» (11/ 301- 302) و «الفوائد البهية» ص (81- 82) و «البدر
الطالع» (1/ 261) .
[2] العبارة في «آ» على الشكل التالي: «وجعلت رشحات أقلامه تميمة نحر
لكونها تميمة نحر لكونها من بحر يا له من بحر» .
(10/584)
القرين والمماثل في كل بلد، وحصل له من
المجد والإقبال والشّرف والأفضال ما لا يمكن شرحه بالمقال، وقد عاقه
الدرس والفتوى والاشتغال بما هو أهم وأقوى عن التفرغ للتصنيف، سوى أنه
اختلس فرصا وصرفها إلى التفسير الشريف، وقد أتى فيه بما لم تسمح به
الأذهان ولم تقرع بمثله الآذان، وسماه ب «إرشاد العقل السليم إلى مزايا
الكتاب الكريم» [1] ولما وصل منه إلى آخر سورة ص ورد التقاضي من طرف
السلطان سليمان خان، فبيّض الموجود وأرسله إليه، وبعد ذلك تيسّر له
الختام، وأنعم عليه السلطان بما لم يدخل تحت الحصر، وله «حاشية على
العناية» من أول كتاب البيع، وبعض حواش على بعض «الكشّاف» جمعها حال
إقرائه له.
وكان طويل القامة، خفيف العارضين، غير متكلّف في الطعام واللباس، وغير
أن فيه نوع اكتراث بمداراة الناس والميل الزائد لأرباب الرئاسة، فكان
ذا مهابة عظيمة، واسع التقرير، سائغ التحرير، يلفظ الدّرر من كلمه،
وينثر الجوهر من حكمه، بحرا زاخرا، وطودا باذخا.
وله شعر كثير مطبوع، منه قصيدته الميمية الطويلة التي أولها [2] :
أبعد سليمى مطلب ومرام ... وغير هواها لوعة وغرام
وفوق حماها ملجأ ومثابة ... ودون ذراها موقف ومقام
وهيهات أن تثنى إلى غير بابها ... عنان المطايا أو يشدّ حزام
وهي طويلة انتهى ملخصا.
وينسب إليه البيتان اللذان أجيب بهما بيتا العجم وهما:
نحن أناس قد غدا دأبنا ... حبّ عليّ بن أبي طالب
يعيبنا النّاس على حبّه ... فلعنة الله على العائب
__________
[1] انظر «كشف الظنون» (1/ 65) فقد أطال الكلام عليه بما هو مفيد.
[2] الأبيات في «العقد المنظوم» ص (445- 447) وقال العلّامة طاش كبري
زاده: «وقد عارض فيها ميمية الفاضل السري إمام هذا الشأن أبي العلاء
المعرّي، وانظر «النور السافر» ص (240) .
(10/585)
فأجاب المولى أبو السعود بقوله:
ما عيبكم هذا ولكنّه ... بغض الذي لقّب بالصّاحب
وقولكم فيه وفي بنته ... فلعنة الله على الكاذب
وتوفي بقسطنطينية مفتيا في أوائل جمادى الأولى، وصلّى عليه المولى سنان
محشّي «تفسير البيضاوي» ودفن بجوار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
(10/586)
سنة ثلاث وثمانين
وتسعمائة
فيها توفي شمس الدّين أحمد السرائي الحنفي [1] الإمام العالم.
ولد بمدينة سراي ونشأ بها، وطلب العلم، وأكثر من الشيوخ، حتّى صار
ملازما من محيي الدّين عرب زادة، ومعيدا له، وصار معلّما للوزير محمود
الشهير بزال، فارتفع قدره، وعظم شأنه، ثم تنقّلت به الأحوال، وتقلب في
المدارس.
وكان عارفا، عالما، حسن السّمت، مرضي السيرة، صاحب ذهن سليم وطبع
مستقيم، معرضا عن البطالة، مكبا على الاشتغال، حسن النثر والنظم
باللسان العربي، وله رسالتان سيفية وقلمية في غاية البلاغة.
وتوفي في رجب.
وفيها المولى محمد بن عبد العزيز، المشتهر بمعيدزاده [2] .
قال في «ذيل الشقائق» : مولده بمرعش سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة،
واشتغل على علماء بلده، ثم جاء إلى قسطنطينية، فقرأ على معمار زاده، ثم
على المولى سنان، وصار ملازما من المولى خير الدّين معلّم السلطان
سليمان، ثم تنقّل في المدارس إلى أن توفي، ولم يجلس بمجلس القضاء.
وكان عالما، محقّقا، مدقّقا، صاحب يد طولى في العلوم الأدبية، وقدم
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (479- 481) .
[2] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (483- 484) و «الكواكب السائرة» (3/
85) و «عرف البشام» ص (34- 35) .
(10/587)
راسخة في فنون العربية، مع المشاركة
التّامة في سائر العلوم المتداولة. وله تعليقات على بعض المواضع من
التفسير، والفروع، وغيرهما.
ومن شعره:
لقد جار الزّمان على بنيه ... عليهم ضاق بالرّحب البقاع
ترى الأشعار في الأسعار أغلى ... وعلم الشّرع أكسد ما يباع
فقد صارت جوائزهم عقودا ... وغايتها خماس أو رباع
وكم من شاعر أمسى عزيزا ... لقد أضحى له أمر مطاع
وذي فضل ينادي في البوادي [1] ... أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا [2]
توفي ببيت المقدس لما توجه قاضيا لها قبل أن يباشر الحكم في ذي القعدة
انتهى.
وذكر في «الكواكب» أنه كان مفتيا بدمشق ومدرّسا بالسّليمانية بها.
وفيها محمود بن أحمد المشتهر بابن برزان [3] .
ولد بقصبة أسكليب، ونشأ على طلب العلم والفضائل، وأخذ عن أعيان
الأفاضل، حتى صار ملازما من المولى أبي السعود وتنقّل في المدارس، وأذن
له في الإفتاء فلم تطل مدته.
وكان عارفا، كاملا، مطلعا على دقائق العربية، له باع في العلوم
الأدبية، عالما بالفقه والكلام.
وتوفي بقسطنطينية في شوال.
وفيها المولى محمود بن حسن السامون الحنفي [4] الإمام العلّامة.
__________
[1] في «ط» : «في النوادي» وهو تصحيف.
[2] الشطرة الثانية من هذا البيت هي صدر بيت مشهور للعتبي هو:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
[3] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (481) واسمه فيه: «محمد بن أحمد
المشتهر بابن بزن» .
[4] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (482- 483) .
(10/588)
قرأ على علماء عصره، ومهر، وصار ملازما من
المولى خير الدّين معلّم السلطان سليمان، وتنقّل في المدارس إلى أن ولي
قضاء حلب، ثم دمشق، ثم مكّة، ثم تقاعد بوظيفة مثله.
وكان عالما، صالحا، مشتغلا بنفسه، جيد الحفظ، كثير العلوم، محمود
السيرة في قضائه.
وتوفي في ذي القعدة.
وفيها الشيخ محيي الدّين الإسكليبي الحنفي [1] .
ولد بقصبة تسمى إسكليب، ونشأ في طلب العلم، ودار البلاد العجمية،
والرّومية، والعربية في طلبه، واجتمع بكثير من الأعيان، وتلقى عن جلّة
من علماء الزمان، إلى أن برع في العلوم، وتضلع من المنطوق والمفهوم، ثم
سلك طريق السادة الصوفية، وتسلّك بالشيخ إبراهيم القيصري، إلى أن صار
كما قال فيه محيي الدّين المشتهر بحكيم جلبي من الرّجال الكاملين،
مملوءا من المعارف الآلهية من فرقه إلى قدمه، وروحه المطهرة متصرّفة
الآن في هذه الأقطار [2] وإن أرباب السّلوك وطلبة المعارف الإلهيّة
مستفيدون من معارفه.
وتوفي- رحمه الله تعالى- بإسكليب.
وفيها مصلح الدّين مصطفى بن الشيخ علاء الدّين المشتهر بجراح زاده
الحنفي [3] .
ولد بمدينة أدرنة في صفر سنة إحدى وتسعمائة، ونشأ بها طالبا للعلوم
والمعارف، وقرأ كتاب «المفتاح» بإتقان وتحقيق على المولى لطف الله بن
شجاع، ثم هبّت عليه نسمات الزّهد، فتلقى طريق القوم من سادات زمانه،
وتحمّل مشاق العبادات، والمجاهدات، حتّى صار بحرا من بحار الحقيقة،
وكهفا منيفا لأرباب
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (463- 468) .
[2] أقول: هذا من المبالغات التي لا تجوز، فالذي يتصرف في الأقطار هو
الله الواحد القهار. (ع) .
[3] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (458- 463) .
(10/589)
الطريقة، متخليا عن الأخلاق الناسوتية،
متحليا بمفاخر الحلل اللاهوتية، منجمعا عن الناس، معرضا عن تكلّفاتهم،
راغبا عن بدعهم وعن خرافاتهم، لا يطرق أبواب الأمراء، ولا يطرف مجالس
الأغنياء، وله كشوفات عجيبة وإشرافات على الخواطر غريبة.
وتوفي بأدرنة في المحرّم ودفن بقرب زاوية الشيخ شجاع.
(10/590)
سنة أربع وثمانين
وتسعمائة
فيها توفي المولى رمضان المعروف بناظر زاده الرومي الحنفي [1] الإمام
العلّامة.
قال في «العقد المنظوم» : ولد بقصبة صوفية من بلاد الرّوم، ونشأ في طلب
العلم والأدب، وأخذ عن المولى عبد الباقي، والمولى برويز، وصار ملازما
من قطب الدّين زاده، وحفظ «الكنز» ، وقلّد المدارس، ثم قلّد قضاء
الشام، ثم مصر، ثم بروسه ثم أدرنة، وقبل أن يصل إليها قلّد قضاء
قسطنطينية.
وكان ممن حاز قصب السّبق في مضمار الفضائل، وشهد بوفور علمه وغزارة
فضله الأفاضل، علما مستقيما، عفيفا، نزها، جميل الصورة، حسن السيرة،
متواضعا. ومع هذا الفضل الباهر والتقدم الظاهر لم ير له تأليف لغاية
احترازه عن النسبة إلى الخطأ.
وتوفي بقسطنطينية فجأة في أواسط شعبان.
وفيها زين العباد القيصري الحنفي [2] .
ولد ببلدة قيصرية [3] واشتغل على الشيخ شمس الدّين مدرّس البكتوتية
ببلدة مرعش، ثم رحل إلى القسطنطينية، وقرأ على علمائها، حتى وصل إلى
خدمة
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (486- 487) .
[2] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (485- 486) .
[3] قيصرية ويسميها الأتراك قيصري، تقع في وسط الأناضول إلى الجنوب
الشرقي من أنقرة. عن حاشية «تاريخ الدولة العلية العثمانية» ص (281) .
(10/591)
سعدي چلبي محشّي «البيضاوي» ، ثم بعد موته
بجوي زاده، وصار ملازما منه، وتنقّل في المدارس حتّى وصل إلى مدرسة با
يزيد خان بأماسية بثمانين، وأقام بها على الإفتاء والدرس إلى الموت.
وكان واسع العلم، كثير المحفوظ، قليل الاعتناء بزخارف الدنيا، مكبا على
الاشتغال والإشغال.
وكان له أخ يسمى عبد الفتاح [1] .
كان فاضلا، كاملا، تنقّل في مدارس عديدة إلى أن نقل إلى مدرسة السلطان
سليمان خان بدمشق فباشرها مع الإفتاء بها واستمر فيها إلى أن توفي في
هذه السنة أيضا.
وفيها سعيد سلطاني الحبشي الحنفي [2] .
قال في «النور» : كان عالما، فاضلا، صالحا، دينا، فقيها، مشاركا في
كثير من العلوم، يحفظ القرآن العظيم، كثير العبادة، يختم في رمضان خمس
ختمات في الصلاة.
وكان أمراء الجيوش يحترمونه ويجلّونه، وجعلوا له معلوما يوازي خمسة عشر
ألف دينار.
وكان محسنا لأهل العلم، ولما حجّ قرأ على ابن حجر الهيتمي.
وكان له رغبة في تحصيل الكتب، وابتنى بأحمد أباد مسجدا حسنا إلّا أنه
كان فيه كبر، والكمال لله.
وتوفي بأحمد أباد يوم الاثنين ثالث شوال، ودفن بمسجده، ثم دفن إلى جنبه
شيخنا الشيخ عبد المعطى باكثير. انتهى
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (486) و «عرف البشام» ص (35) و
«الكواكب السائرة» (3/ 13- 15) .
[2] ترجمته في «النور السافر» ص (357- 358) .
(10/592)
وفيها عبد الله بن سعد الدّين المدني
السّندي [1] .
قال في «النور» أيضا: كان من كبار العلماء البارعين، وأعيان الأئمة
المتبحّرين، وله جملة مصنّفات، منها «حاشية» على «العوارف» للسّهروردي.
وتوفي بمكة في ذي الحجّة. انتهى وفيها شمس الدّين محمد بن شمس الدّين
محمد بن الشيخ علوان الحموي الشافعي [2] .
أخذ عن أبيه وغيره وتفقه وكان إماما كاملا وتوفي بحماة.
وفيها بدر الدّين أبو البركات محمد بن القاضي رضي الدّين محمد بن محمد
بن عبد الله بن بدر بن عثمان بن جابر الغزّي العامري القرشي الشافعي
[3] الإمام العلّامة شيخ الإسلام بحر العلوم.
قال ولده النجم في «الكواكب» : ولد في وقت العشاء ليلة الاثنين رابع
عشر ذي القعدة سنة أربع وتسعمائة، وحمله والده إلى الشيخ أبي الفتح
المزّي الصّوفي فألبسه خرقة التصوف، ولقّنه الذّكر، وأجاز له بكل ما
تجوز له وعنه روايته، وهو دون السنتين، وأحسن والده تربيته، وهو أول من
فتق لسانه بذكر الله تعالى، ثم قرأ القرآن العظيم على عدة مشايخ، منهم
البدر السّنهوري [4] بروايات العشرة، ثم لزم في الفقه والعربية والمنطق
والده الشيخ رضي الدّين. وقرأ في الفقه أيضا على تقي الدّين بن قاضي
عجلون. وكان معجبا به يلقّبه شيخ الإسلام، وأكثر انتفاعه بعد والده
عليه، وسمع عليه في الحديث، ثم أخذ الحديث والتصوف عن البدر ابن الشويخ
المقدسي، ثم رحل مع والده إلى القاهرة، فأخذ عن مشايخ الإسلام بها،
القاضي زكريا، وأكثر انتفاعه في مصر به، والبرهان بن أبي شريف،
والبرهان القلقشنديّ، والقسطلاني، وغيرهم، وبقي في الاشتغال بمصر مع
والده نحو
__________
[1] ترجمته في «النور السافر» ص (357) و «معجم المؤلفين» (6/ 57) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 26) .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 3- 10) و «ريحانة الألبا» (1/
138- 144) و «الأعلام» (7/ 59) و «معجم المؤلفين» (11/ 270- 271) و
«منتخبات التواريخ لدمشق» (2/ 589) .
[4] تحرفت في «ط» : إلى «السّنهودي» .
(10/593)
خمس سنوات، واستجاز له والده قبل ذلك من
الحافظ جلال الدّين السيوطي.
وبرع، ودرّس، وأفتى، وألّف، وشيوخه أحياء، فقرّت أعينهم به وجمعه
بجماعة من أولياء مصر وغيرها، والتمس له منهم الدّعاء كالشيخ عبد
القادر الدّشطوطي، وسيدي محمد المنير الخانكي.
ثم تصدر بعد عوده مع والده من القاهرة في سنة إحدى وعشرين للتدريس
والإفادة، واجتمعت عليه الطلبة وهو ابن سبع عشرة سنة، واستمر على ذلك
إلى الممات، مشتغلا بالعلم تدريسا وتصنيفا وإفتاء ليلا ونهارا، مع
الاشتغال بالعبادة وقيام الليل وملازمة الأوراد.
وتولى الوظائف الدينية كمشيخة القراء بالجامع الأموي، وإمامة المقصورة،
ودرّس بالعادلية، ثم بالفارسية، ثم الشامية البرّانيّة، ثم المقدّميّة،
ثم التّقويّة، ثم جمع له بينهما وبين الشامية الجوانية، ومات عنهما،
وانتفع به الناس طبقة بعد طبقة، ورحلوا إليه من الآفاق، ولزم العزلة عن
الناس في أواسط عمره، لا يأتي قاضيا، ولا حاكما، ولا كبيرا، بل هم
يقصدون منزله الكريم للعلم والتّبرّك.
وطلب الدعاء، وإذا قصده قاضي قضاة البلد أو نائبها لا يجتمع به إلا بعد
الاستئذان عليه والمراجعة في الأذن، وقصده نائب الشام مصطفى باشا فلم
يجتمع به إلّا بعد مرات. وكذا درويش باشا نائب الشام. وقال له: يا سيدي
ما تسمع عني؟ قال: الظلم.
وكان لا يأخذ على الفتوى شيئا، بل سدّ باب الهديّة مطلقا فلم يقبل إلّا
من أخصائه وأقاربه، ويكافئ أضعافا. وكان يحبّ الصوفية ويكرمهم، وأخذ
عنه العلم من لا يحصى كثرة.
وأما تصانيفه فبلغت مائة وبضعة عشر مصنّفا، من أشهرها التفاسير الثلاثة
المشهورة «المنثور» و «المنظومان» وأشهرها «المنظوم الكبير» في مائة
ألف بيت وثمانين ألف بيت وحاشيتان على «شرح المنهاج» للمحلّي، وشرحان
على «المنهاج» كبير وصغير، وكتاب «فتح المغلق في تصحيح ما في الروضة من
الخلاف المطلق» و «التّنقيب على ابن النّقيب» و «البرهان الناهض في
نيّة استباحة
(10/594)
الوطء للحائض» و «شرح خاتمة البهجة» و
«الدر النّضيد في أدب المفيد والمستفيد» و «التذكرة الفقهية» وشرحان
على «الرّحبية» وثلاثة شروح على «الألفية» في النحو منظومان ومنثور، و
«شرح الصدور بشرح الشذور» وشرح على «التّوضيح» لابن هشام، و «شرح شواهد
التلخيص» و «أسباب النّجاح في آداب النّكاح» وكتاب «فصل الخطّاب في وصل
الأحباب» و «منظومة في خصائص النّبي صلّى الله عليه وسلم» و «منظومة في
خصائص يوم الجمعة وشرحها» و «منظومة في موافقات سيدنا عمر للقرآن
العظيم وشرحها» و «العقد الجامع في شرح الدّرر اللوامع» نظم «جمع
الجوامع» ، وغير ذلك.
ومن شعره [1] :
إله العالمين رضاك عنّي ... وتوفيقي لما ترضى مناي
فحرماني عطائي إن ترده ... وفقري إن رضيت به غناي
ومنه:
بالحظّ والجاه لا بفضل ... في دهرنا المال يستفاد
كم من جواد بلا حمار ... وكم حمار له جواد
وكان ابتداء مرضه في ثاني شوال من هذه السنة، واستمر مريضا إلى يوم
الأربعاء سادس عشري شوال المذكور، وصلّى عليه الشّهاب العيثاوي، ودفن
بتربة الشيخ أرسلان، وقال ماميّة الشاعر مؤرخا لوفاته:
أبكى الجوامع والمساجد فقد من ... قد كان شمس عوارف التّمكين
وكذا المدارس أظلمت لما أتى ... تأريخه (بخفاء بدر الدّين) [2]
وفيها نجم الدّين محمد بن أحمد بن علي بن أبي بكر الغيطي السّكندري ثم
المصري الشافعي [3] الإمام العلّامة المحدّث المسند، شيخ الإسلام.
ولد في أثناء العشر الأول من القرن العاشر.
__________
[1] في «آ» و «ط» : «منائي» و «غنائي» وأثبت لفظ «الكواكب السائرة»
مصدر المؤلّف.
[2] مجموعه في حساب الجمّل (984) .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 51- 53) و «الأعلام» (6/ 6) و
«معجم المؤلفين» (8/ 293- 294) وقد رجح العلّامة الزركلي وفاته سنة
(981) في تعليق طويل مفيد يحسن بالقارئ الباحث الرجوع إليه.
(10/595)
قال في «الكواكب» : كان رفيقا لوالدي على
والده وعلى القاضي زكريا. قرأ عليه «البخاري» و «مسلم» كاملين «وسنن
أبي داود» إلّا يسيرا من آخرها، وجمع عليه للسبعة، ولبس منه خرقة
التصوف، وسمع على الشيخ عبد الحقّ السّنباطي «سنن ابن ماجة» كاملا، و
«الموطأ» وغير ذلك. وقرأ عليه في التفسير، والقراآت، والنحو، والصرف،
وأذن له بالإفتاء والتدريس، وقرأ وسمع على السيد كمال الدّين بن حمزة
لما قدم مصر. وقرأ على الكمال الطويل كثيرا وأجازه بالتدريس والإفتاء،
وأخذ عن الأمين بن النّجار، والبدر المشهدي كثيرا، وعن الشمس الدّلجي،
وأبي الحسن البكري، وغيرهم.
قال الشعراوي: أفتى ودرّس في حياة مشايخه بإذنهم، وألقى الله محبته في
قلوب الخلائق، فلا يكرهه إلّا مجرم أو منافق، وانتهت إليه الرئاسة في
علم الحديث، والتفسير، والتصوف، ولم يزل أمّارا بالمعروف، ناهيا عن
المنكر، يواجه بذلك الأمراء والأكابر، لا يخاف في الله لومة لائم.
قال: وتولى مشيخة الصّلاحية بجوار الإمام الشافعي، ومشيخة الخانقاة
السرياقوسية، وهما من أجلّ وظائف مشايخ الإسلام من غير سؤال منه، وأجمع
أهل مصر على جلالته، وما رأيت أحدا من أولياء مصر إلّا يحبه ويجلّه.
وذكره القاضي محبّ الدّين الحنفي في «رحلته إلى مصر» فقال: وأما حافظ
عصره، ومحدّث مصره، ووحيد دهره، الرحلة الإمام والعمدة الهمام الشيخ
نجم الدّين الغيطي، فإنه محدّث هذه الدّيار على الإطلاق، جامع للكمالات
الجميلة ومحاسن الأخلاق، حاز أنواع الفضائل والعلوم، واحتوى على بدائع
المنثور والمنظوم، إذا تكلّم في الحديث بلفظه الجاري أقرّ كل مسلم بأنه
البخاري، أجمعت على صدارته في العلم علماء البلاد، واتفقت على ترجيحه
بعلو الإسناد، وقفت له على مؤلّف سمّاه «القول القويم في إقطاع تميم» .
انتهى أي ومن مؤلفاته «المعراج» المتداول بأيدي الناس، يقرؤه علماء
الأزهر كل سنة في رجبها
.
(10/596)
سنة خمس وثمانين
وتسعمائة
فيها كما قال في «النور» [1] طلع نجم ذو ذؤابة كهيئة الذّنب طويل جدا
له شعاع، ومكث كذلك يطلع نحو شهرين. انتهى.
قلت: قال السيوطي في كتابه «حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة» [2]
ما لفظه: ذكر كوكب الذنب. قال صاحب «المرآة» : إن أهل النّجوم يذكرون
أن كوكب الذنب طلع في وقت قتل قابيل هابيل، وفي وقت الطوفان، وفي وقت
نار إبراهيم الخليل، وعند هلاك قوم عاد، وقوم ثمود، وقوم صالح، وعند
ظهور قوم موسى وهلاك فرعون، وفي غزوة بدر، وعند قتل عثمان، وعلي، وعند
قتل جماعة من الخلفاء، منهم الرّاضي، والمعتز، والمهتدي، والمقتدر.
قال [3] : وأدنى الأحداث عند ظهور هذه الكواكب الزلازل والأهوال.
قلت: يدل لذلك ما أخرجه الحاكم في «المستدرك» وصححه من طريق ابن أبي
مليكة، قال: «غدوت على ابن عبّاس، فقال: ما نمت البارحة، قلت: لم؟
قال: طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدّجّال قد طرق [4] » . انتهى
ما أورده السّيوطي بحروفه.
وفيها توفي المولى حامد أفندي المفتي [5] .
قال في «العقد المنظوم» : ولد بقونية، وطلب العلم في كبره بعد أن ذهب
__________
[1] انظر «النور السافر» ص (358) .
[2] انظر «حسن المحاضرة» (2/ 323) .
[3] لفظة «قال» سقطت من «ط» .
[4] رواه الحاكم في «المستدرك» (4/ 459) وقال: هذا حديث صحيح على شرط
الشيخين ولم يخرّجاه، غير أنه على خلاف عبد الله بن مسعود، وأن آية
الدّجّال قد مضى.
[5] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (487- 489) .
(10/597)
شبابه، لكنه أكبّ على الطلب ولازم الأفاضل،
وحصل له منهم قبول زائد، منهم المولى سعدي محشّي «تفسير البيضاوي» .
وصار ملازما من المولى القادري، ثم تنقّل في المدارس من سنة أربعين
وتسعمائة إلى أن قلّد قضاء دمشق فلم يمكث فيه سنة حتّى نقل إلى قضاء
مصر، فأقام فيها ثلاث سنين، ثم قلّد قضاء برسه، ثم قضاء قسطنطينية، ثم
قضاء العسكر بولاية روم إيلي، فاستمرّ فيه تسع سنين، سالكا أحسن مسلك
وكان السلطان- لكثرة اعتماده عليه وحبه له- أراد أن يوليه الوزارة
العظمى [1] ، فوافق موت المرحوم المولى أبي السعود أفندي المفتي، فأقيم
مقامه، وسلّم إليه المجد زمامه، فدام في الفتوى إلى أن توفي، وذلك في
أوائل شعبان، ودفن بجوار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
وفيها ميان عبد الصّمد الهندي [2] الرجل الصالح.
قال في «النور» : كان من الأخيار، عالما، فاضلا، محسنا، متواضعا، وحكي
أنه كان إذا لم يكن على طهارة وثمّ أحد ممن اسمه اسم نبي لم يتلفظ
باسمه تعظيما واحتراما لذلك الاسم الشريف، رحمه الله تعالى. انتهى.
وفيها شمس الدّين أبو النّعمان محمد بن كريم الدّين محمد الأيجي العجمي
الشافعي الصالحي [3] نزيل صالحية دمشق، الإمام العلّامة العارف بالله
تعالى.
قال في «الكواكب» : قدم دمشق وهو شاب في سنة عشرين وتسعمائة، وصحب سيدي
محمد بن عراق سنين كثيرة، وتعانى عنده المجاهدات، واشتغل بالعلم قبل أن
يدخل بلاد الشام، وبعده علي الشيخ الصّفوي الأيجي وغيره، وكان له يد في
المعقولات، وتولى تدريس الشامية عن شيخ الإسلام الوالد، بعد ما كان
بينهما من المودة والصّحبة ما لا يوصف، وانتقد على الأيجي ذلك، وعوّض
الله على الوالد بأحسن منها. وكان الأيجي ملازما على الأوراد
والعبادات، أمارا
__________
[1] أي رئاسة الوزارة في أيامنا.
[2] ترجمته في «النور السافر» ص (361) .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 37) .
(10/598)
بالمعروف، نهاء عن المنكر، وكان يتردد إلى
الحكّام وغيرهم لقضاء حوائج الناس، وسافر إلى الرّوم مرتين. انتهى.
وكان إماما، عالما، عاملا، زاهدا، وليا من أولياء الله تعالى، له
كرامات كثيرة شهيرة.
توفي بصالحية دمشق يوم الجمعة بعد الصلاة عاشر جمادى الأولى، وصلّى
عليه بجامع الحنابلة قاضي قضاة دمشق حسين جلبي ابن قرا، ونائب الشام
حسن باشا ابن الوزير محمد باشا، ودفن من الغد بمنزله بسفح قاسيون.
وفيها الشيخ مسعود بن عبد الله المغربي [1] المعتقد العارف بالله
تعالى.
قال في «الكواكب» : صحب بدمشق الشيخ شهاب الدّين الأخ، وكان يجلس عنده
في درسه عن يمينه فيقول له الأخ: يا سيدي مسعود احفظ لي قلبي [2] ، فإن
جدّي الشيخ رضي الدّين كان يجلس إلى جانبه سيدي علي بن ميمون في درسه،
فيقول له: يا سيدي على امسك لي قلبي، ولما دخل سيدي مسعود دمشق كان
يقتات من كسب يمينه، فكان يضرب الأبواب المغربية جدرانا لبساتين دمشق،
فكان يبقى ما يعمله خمسين سنة أو أكثر لا يتهدم من إتقانه لها، وأخبرت
أنه عرض له جندي والشيخ في لباس الشغل، فقال له: خذ هذه الجرّة
واحملها- وكان بها خمر- فحملها الشيخ معه، فلما وضعها له وجدها الجندي
دبسا فجاء إلى الشيخ واعتذر إليه وتاب على يديه.
وكان لأهل دمشق فيه كبير اعتقاد، يتبرّكون به ويقبّلون يديه، وكان
الشيخ يحيى العمادي يزوره.
قال النجم الغزّي: ولقد دعا لي ومسح على رأسي، وأنا أجد بركة دعائه
الآن.
وتوفي- رحمه الله- يوم الخميس رابع عشري شهر رمضان، ودفن بالزاوية.
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 206- 207) و «جامع كرامات
الأولياء» (2/ 252- 253) .
[2] أقول: هذا من المبالغات في الكرامات، والله أعلم. (ع) .
(10/599)
|