شذرات الذهب في أخبار من ذهب

سنة ست وثمانين وتسعمائة
فيها توفي المولى أحمد بن محمد المشتهر بنشاجي زاده [1] .
قال في «ذيل الشقائق» :
ولد بمدينة قسطنطينية سنة أربع وثلاثين وتسعمائة، وقرأ على علماء عصره، كالمولى شيخ زاده شارح «البيضاوي» والمولى عبد الكريم زاده، والمولى برويز.
وصار ملازما من المولى سنان، وتنقّل في المدارس، ثم اتفق أن مات عدة من أولاده، فترك تصاريف الدّنيا، وأعرض عن المدارس، واختار الانزواء، ثم رجع، وصار مدرّسا بإحدى المدارس الثمان، ثم قلّد قضاء مكة، ثم مصر، ثم المدينة المنوّرة، وقبل توجهه إليها تغيّر عليه خاطر السلطان، فعزله وأمره بالخروج عن البلدة فخرج متوجها إلى الحجّ فلما حجّ وعاد توفي بقرب دمشق، فحمل إليها ودفن فيها.
وكان- رحمه الله تعالى- طويل الباع في العلوم العربية، مائلا إلى الصّلاح، متصلا بأسباب الفلاح، مكبّا على الاشتغال والإشغال، بدأ بإعراب القرآن العظيم مقتفيا أثر السّفاقسي [2] والسّمين [3] وصل بها إلى سورة الأعراف، وشرح الحزب
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (491- 492) .
[2] هو الإمام إبراهيم بن محمد بن إبراهيم القيسي السّفاقسي، أبو إسحاق برهان الدّين، فقيه مالكي، له «إعراب القرآن المجيد» ويسمى «المجيد في إعراب القرآن المجيد» . مات سنة (2/ 74) هـ. انظر «النجوم الزاهرة» (10/ 98) و «بغية الوعاة» (1/ 425) و «كشف الظنون» (2/ 1607) .
[3] هو الإمام أحمد بن يوسف بن عبد الدائم الحلبي المعروف بالسّمين، أبو العبّاس، شهاب الدّين، النحوي المقرئ. له «الدّر المصون في علم الكتاب المكنون» في إعراب القرآن الكريم. مات

(10/600)


المنسوب إلى الإمام علي بن أبي طالب الذي أوله: اللهم يا من ولع لسان الصبح، وعلّق حواشي على مواضع من «تفسير البيضاوي» و «الهداية» و «شرح المواقف» و «المفتاح» .
وله رسائل كثيرة بقيت في المسودات.
ومن شعره:
بفضل الله إنّا لا نبالي ... وإن كان العدوّ رمى بجهله
وليس يضرّنا الحسّاد شيئا ... فسوء المكر ملتحق بأهله
وفيها جمال الدّين محمد طاهر الهندي، المقلب بملك المحدّثين [1] .
قال في «النور» : ولد سنة ثلاث عشرة وتسعمائة، وحفظ القرآن قبل أن يبلغ الحنث، وجدّ في طلب العلم نحو خمس عشرة سنة، وبرع في فنون عديدة، حتى لم يعلم أن أحدا من علماء كجرات بلغ مبلغه في الحديث، وورث عن [2] أبيه مالا جزيلا فأنفقه على طلبة العلم.
وكان يرسل إلى معلّمي الصّبيان ويقول: أيّما صبيّ حسن ذكاؤه فأرسله إليّ، فيرسل إليه جماعة، فيقول: لكل واحد كيف حالك، فإن كان غنيا أمره بطلب العلم، وإن كان فقيرا يقول له: تعلّم ولا تهتم من جهة معاشك، ثم يتعهّده بجميع ما يحتاج إليه. وكان هذا دأبه، حتى صار منهم جماعة كثيرة علماء [3] في فنون كثيرة.
ولما حجّ أخذ عن أبي الحسن البكري، وابن حجر الهيتمي، والشيخ على
__________
سنة (756) هـ. انظر «غاية النهاية» (1/ 152) و «الدّرر الكامنة» (1/ 339) و «الذيل التام على دول الإسلام» (1/ 146) . بتحقيق صاحبي الفاضل الأستاذ حسن إسماعيل مروة ومراجعتي، طبع مكتبة دار العروبة بالكويت، ودار ابن العماد ببروت، و «بغية الوعاة» (1/ 402) و «كشف الظنون» (1/ 732) و «الأعلام» (1/ 274) .
[1] ترجمته في «النور السافر» ص (361- 362) و «الرسالة المستطرفة» ص (158) و «الأعلام» (6/ 172) و «معجم المؤلفين» (10/ 100) .
[2] في «ط» : «من» .
[3] كذا في «ط» : و «النور السافر» : «علماء» وفي «آ» : «من العلماء» .

(10/601)


المتّقي الهندي، وجار الله بن فهد، والشيخ عبد الله العيدروس، وغيرهم.
وكان عالما، عاملا، متضلعا، متبحّرا. ورعا. وله مصنّفات، منها: «مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار» .
وكان يقوم على طائفتي الرافضة والمهدوية ويناظرهم ويريد إرجاعهم إلى الحقّ، وقهرهم في مجالس، وأظهر فضائحهم، وقال بكفرهم، فسعوا عليه، واحتالوا حتّى قتلوه في سادس شوال.
وفيها شمس الدّين، وقيل نجم الدّين، محمد بن محمد بن رجب البهنسي [1] الأصل الدمشقي المولد والمنشأ والوفاة، الحنفي الإمام العلّامة، شيخ الإسلام.
ولد في صفر سنة سبع وعشرين وتسعمائة، وأخذ عن ابن فهد المكّي وغيره، وتفقه بالقطب بن سلطان وبه تخرّج لأنه كان يكتب عنه على الفتوى، لأن القطب كان ضريرا، ثم أفتى استقلالا من سنة خمسين، واشتغل في بقية العلوم على الشيخ أبي الفتح المالكي، والشيخ محمد الأيجي نزيل الصالحية، وتخرّج به غالب حنفية دمشق، منهم الشيخ عماد الدّين المتوفى قبله، ورأس في دمشق.
وكان إماما، بارعا، وولي خطابة الجامع الأموي، ودرّس بالأموي والسيبائية، ثم بالمقدّمية، ثم بالقصّاعية، ومات عنها وعلوفته في التدريس بها ثمانون عثمانيا.
وحجّ مرتين، وألّف شرحا على كتاب «منتهى الإرادات» لم يكمله.
وكان من أفراد الدّهر وأعاجيب العصر.
وتوفي بعد ظهر يوم الأربعاء رابع أو خامس جمادى الآخرة، ودفن بمقبرة باب الصغير، وأرخ موته بعض الشعراء فقال:
لمّا لدار التّقى مفتي الأنام مضى ... فالعين تبكي دما من خشية الله
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 13- 15) و «عرف البشام» ص (35- 37) و «منتخبات التواريخ لدمشق» (2/ 590) و «معجم المؤلفين» (11/ 217) .

(10/602)


لفقد مولى خطيب الشّام سيّدنا ... من لم يزل قائما في نصرة الله
وفاته قد أتت فيما أؤرّخه ... (البهنسيّ عليه رحمة الله) [1]
وفيها عماد الدّين محمد بن محمد البقاعي الأصل ثم الدمشقي الحنفي [2] الإمام الأوحد العلّامة.
قال في «الكواكب» : مولده في سنة سبع وثلاثين وتسعمائة، وقرأ في النحو، والعروض، والتجويد، على الشّهاب الطّيبي المقرئ، والمعقولات على أبي الفتح المالكي، والشيخ علاء الدّين بن عماد الدّين رفيقا عليهما للشيخ إسماعيل النابلسي، والشمس بن المنقار، والأسد، والشيخ محمد الصّالحي، وغيرهم.
وقرأ في الفقه على النّجم البهنسي وغيره، وبرع في العربية وغيرها، وتصدّر للتدريس بالجامع الأموي، ودرّس بالريحانية، والجوهرية، والخاتونية، والناصرية، ومات عنها، وقصده للقراءة عليه الفضلاء وتردّد إليه النّواب وغيرهم.
وكان حسن الأخلاق، ودودا. وكان في ابتداء أمره فقيرا، ثم حصّل دنيا، ونال وجاهة وثروة، ولم يتزوج حتّى بلغ نحو أربعين سنة.
وكان حسن الشّكل، لطيف الذّات، جميل المعاشرة، خفيف الرّوح، عنده عقل وشرف نفس.
وكان يدرّس في التفسير وغيره، وانتفعت به الطلبة، منهم إبراهيم بن محمد بن مسعود بن محبّ الدّين، والشيخ تاج الدّين القطّان، والشيخ حسن البوريني، وغيرهم.
ومن شعره معمّى في عمر:
ولم أنس إذ زارني منيتي ... عشيّة عنّا الرّقيب احتبس
فمن فرحتي رحت أتلو الضّحى ... وحاسدنا مرّ يتلو عبس
وله معمّى في عليّ:
قد زارني من أحبّ ليلا ... بطلعة البدر والكمال
__________
[1] مجموعها في حساب الجمل (987) .
[2] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 40- 41) .

(10/603)


وبتّ منه بطيب عيش ... أوله بالهنا وفالي
وله في القهوة:
هذه القهوة الحلال أتتكم ... تتهادى والطّيب يعبق منها
سوّدوها على الحرام بحلّ ... وأماطوا غوائل الغول عنها
وتوفي ليلة الاثنين ثاني عشر شعبان، ودفن بمقبرة باب توما جوار الشيخ أرسلان. انتهى ملخصا.
وفيها المولى يوسف المشتهر بالمولى سنان [1] .
قال في «العقد المنظوم» : ولد بقصبة صونا، وجدّ في الطلب، ورحل فيه، وتحمّل المتاعب، وأخذ عن أفاضل عصره، منهم المولى محيي الدّين الفناري، والمولى علاء الدّين الجمّالي، وصار ملازما من المولى خير الدّين معلّم السلطان سليمان، ثم تنقّل في المدارس، ثم صار مفتشا ببغداد، ثم عزل، وقبل وصوله إلى قسطنطينية بشّر بقضاء دمشق، ثم نقل إلى قضاء أدرنة، ثم إلى قضاء قسطنطينية، وقبل الوصول إليها بشّر بقضاء العساكر في ولاية أناضولي، وجلس للدرس العام بحضرة الأعيان. وكان رحمه الله تعالى جميل الصّورة من جلّة وأعيان أفاضل الرّوم شهد بفضله الخاص والعام، واعترفوا برسوخ قدمه في الفنون.
ومن تصانيفه «حاشية على تفسير البيضاوي» أظهر فيها اليد البيضاء، و «الحجّة الزهراء» وشرح لكتاب «الكراهية» وكتاب «الوصايا من الهداية» .
وامتحن في آخر أمره بأن أشاع عنه بعض الحسدة ما هو بريء منه، فعزل من قضاء العسكر وأمر بالتفتيش عليه مع شريكه المولى مصلح الدّين، الشهير ببستان، فلما ظهرت براءة ذمّته عيّنت له وظيفة أمثاله، وقلّد تدريس دار الحديث التي بناها السلطان سليمان، ثم استعفى منها لهرمه.
وتوفي في صفر وقد أناف على التسعين.
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (489- 491) .

(10/604)


سنة سبع وثمانين وتسعمائة
فيها- كما قال في «النّور» [1]- مات السلطان حيدرة بن حنش صاحب أحور [2] .
وفيها درويش باشا بن رستم باشا الرّومي [3] هو ابن أخت محمد باشا [4] الوزير.
تولى إيالة دمشق، وعمّر بها الجامع خارج باب الجابية لصيق المغيربية، وعمّر الحمّام داخل المدينة بالقرب من الجامع الأموي، ويعرف الآن بحمّام القيشاني، وعمّر القيسارية، والسوق، والقهوة، ووقف ذلك فيما وقفه على جامعه، وشرط تدريسه للشيخ إسماعيل النابلسي، وكان خصيصا به، وعمّر الجسر على نهر بردى عند عين القصّارين بالمرجة [5] ومات ببلاده قرمان، وحمل تابوته إلى دمشق فدفن بها.
وفيها نور الدّين علي بن صبر اليافعي الشافعي [6] . قاله في «النور» كان فقيها، صالحا، قانتا، ذا كرامات. انتهى
__________
[1] انظر «النور السافر» ص (363) .
[2] أحور: مخلاف في اليمن. انظر «معجم البلدان» (1/ 118) و «مراصد الاطلاع» (1/ 39) .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 150- 152) .
[4] في «ط» : «محمد محمد باشا» وما جاء في «آ» موافق لما في «الكواكب السائرة» مصدر المؤلّف.
[5] عين القصّارين تقع الآن تحت مدرسة التجهيز الأولى. انظر «غوطة دمشق» لكرد علي ص (175) .
[6] ترجمته في «النور السافر» ص (363) .

(10/605)


وفيها عمر بن عبد الله بن عمر باعلوى الهندوان [1] .
قال في «النور» : اشتهر بذلك لقوة كانت في بدنه ودينه تشبيها بالحديد الهندوان.
وكان وليا، صالحا، شريفا.
ومن كراماته أنه أخبر أخي السيد عبد الله عن شيء يقع من شخص بعينه فكان كما قال بعد موته بيسير [2] .
وتوفي بتريم.
وفيها محمد بن أحمد بن عبد الله، المعروف بماميّة الرّومي [3] الشاعر المشهور.
أصله من الرّوم، وقدم دمشق في حال صغره، فلما التحى صار ينكجريا [4] بخمسة عثمانية، وحجّ في زمرة الينكجرية سنة ستين وتسعمائة، وكان في تلك الحال يميل إلى الأدب، ونظم الشعر، ثم عزل عن الينكجرية، وصحب الشيخ أبا الفتح المالكي وعليه تخرّج بالأدب.
قال في «الكواكب» : وقرأ على الشيخ شهاب الدّين الأخ في «الجرومية» وكان قبل قراءته في النحو جمع لنفسه «ديوانا» كله ملحون، فلما ألمّ بالنحو أصلح ما أمكن إصلاحه وأعرض عن الباقي. وتولى آخرا [5] الترجمة بمحكمة الصالحية، ثم بالكبرى، وعزل منها ثم أعيد إليها في [6] زمن جوي زاده، ثم عزل، ثم ولى ترجمة القسمة فأثرى.
__________
[1] ترجمته في «النور السافر» ص (362- 363) .
[2] أقول: هذا من المبالغات في الكرامات، فإنه لا يعلم الغيب إلّا الله تعالى. (ع) .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 50- 51) .
[4] جاء في «معجم الألفاظ التاريخية» للعلّامة الشيخ محمد أحمد دهمان رحمه الله ما نصه:
«الينكجرية الإنكشارية، الجيش الجديد بالتركية، وتتألف من (يني) بمعنى جديد أو محدث، و (تشري) بمعنى جيش أو جند» .
[5] في «آ» و «ط» : «آخر» والتصحيح من «الكواكب السائرة» مصدر المؤلّف.
[6] لفظة «في» سقطت من «ط» .

(10/606)


وكان إليه المنتهى بالزّجل، والموّال، والموشحات، وقال فيه أستاذه أبو الفتح:
ظهرت لماميّة الأديب فضيلة ... في الشّعر قد رجحت بكلّ علوم
لا تعجبوا من حسن رونق نظمه ... هذا إمام الشّعر ابن الرّومي
وجمع لنفسه «ديوانا» وجعل تاريخ جمعه قوله: وَأْتُوا الْبُيُوتَ من أَبْوابِها 2: 189 [البقرة: 189] ، وذلك سنة إحدى وسبعين وتسعمائة. وله التواريخ التي لا نظير لها، كقوله في تاريخ عرس:
هنّئتم بعرسكم ... والسّعد قد خوّلكم
وقد أتى تأريخه [1] ... نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ 2: 223 [2]
ولقد أحسن في قوله:
قل لقوم ضلّوا عن الرّشد لمّا ... أظهروا منهم اعتقادا خبيثا
كيف تنبي عن القديم عقول ... لا يكادون يفقهون حديثا
وتوفي في ذي الحجّة من هذه السنة أو في محرّم التي بعدها، ودفن بباب الفراديس بالقرب من قبري: ابن مليك، وأبي الفتح المالكي.
وفيها محمد باشا الوزير [3] وزير السلطان سليمان ثم السلطان سليم ثم السلطان مراد وقف الطاحون خارج باب الفراديس وغيرها على المقرئة وتوفي شهيدا بالقسطنطينية.
__________
[1] أي في حساب الجمّل كما أشار المؤلّف بعد ذلك.
[2] وهو استعارة من قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ 2: 223 (البقرة: 223) .
ومجموعها في حساب الجمل (969) .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 78) .

(10/607)


سنة ثمان وثمانين وتسعمائة
فيها توفى المولى شمس الدّين أحمد المشتهر بقاضي زاده [1] .
قال في «العقد المنظوم» : قرأ على علماء عصره، منهم جوي زاده، وسعدي جلبي، وصار ملازما من المولى القادري، وتنقّل في المدارس، ثم قلّد قضاء حلب، فأقام به [2] عدة سنين، ثم تولى قضاء قسطنطينية بعد تعب شديد، ثم صار قاضيا بعساكر روم إيلي، فبعد سبعة أشهر اختلّ أمره وتراجع سعره ففرّ طائر عزّه، وطار قبل أن يقضي الأوطار بسبب وحشة كانت بينه وبين المولى عطاء الله معلّم السلطان سليم خان، فتقاعد بوظيفة مثله، ثم لما جلس السلطان مراد خان على سرير السلطنة أعاده إلى قضاء العسكر بالولاية المزبورة، فلما سمع عنه من الفضيلة الباهرة والصلابة الدينية الظّاهرة، فاستمر مدة ثم قلّد الفتوى بدار السلطنة السّنية، فاستمر فيها إلى أن دخل في خبر كان، وأبلى ديباجة حياته الجديدان [3] .
وكان- رحمه الله تعالى- من أساتذة العلوم والجهابذة القروم [4] ، طالما جال في ميدان الفضائل وبرز، وأحرز من قصبات السّبق في مضمار المعارف ما أحرز، أفحم من عارضه بشقاشقه الهادرة، وأرغم من عاناه بحقائقه النادرة، كثير الاعتناء بدرسه، دائم الاشتغال في يومه وأمسه، رفيع القدر، شديد البأس، عزيز النّفس، يهابه الناس.
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (496- 498) و «معجم المؤلفين» (2/ 171) .
[2] في «ط» : «فيه» .
[3] الجديدان: الليل والنهار. انظر «مختار الصحاح» (جدد) .
[4] القروم: جمع (قرم) وهو الفحل. انظر «لسان العرب» (قرم) .

(10/608)


ومن تصانيفه: «شرح الهداية» من أول كتاب الوكالة إلى آخر الكتاب، و «حاشية على شرح المفتاح» للسيد الشريف، من أوله إلى آخر الفنّ الثاني، و «حاشية على أوائل صدر الشريعة» و «حاشية [على] التجريد» في بحث الماهية، ورسائل أخرى.
وكان أيام قضائه بالعسكر ثانيا سببا لسنن جميلة منها تقديم قضاء العسكر على غير الوزراء وأمير الأمراء، وكانوا قبل ذلك، يتقدم عليهم كل [1] من كان أمير الأمراء في الممالك.
وبالجملة فإنه كان- رحمه الله- عين الأعيان، وقدوة الزّمان، وفارس الميدان، غير أن فيه من التهوّر المفرط، والحدّة، ما زاد على المعتاد، ستره الله بفضله يوم التناد.
وتوفي بآخر الرّبيعين بقسطنطينية [2] ، ودفن قريبا من جامع السلطان محمد.
__________
[1] لفظة «كل» سقطت من «ط» .
[2] أي إستانبول.

(10/609)


سنة تسع وثمانين وتسعمائة
فيها توفي- ظنا- داود بن عمر الأنطاكيّ [1] الطّيب الأكمه، العالم العلّامة.
قال الطالوي في «السانحات» : داود بن عمر الأنطاكي نزيل القاهرة المعزّيّة، والمميّز على من له [2] فيها المزيّة، المتوحّد بأنواع الفضائل، والمتفرّد بمعرفة علوم الأوائل [3] ، سيما علم الأبدان، المقدّم على علم الأديان، فإنه بلغ فيه الغاية التي لا تدرك.
وأما معرفته لأقسام النبض فآية له باهرة، وكرامة على صدق دعواه ظاهرة.
ولقد سألته عن مسقط رأسه ومشعل [4] نبراسه، فأخبرني أنه ولد بأنطاكية بهذا العارض، قال: وقد بلغت سيّارة النجوم وأنا لا أستطيع أن أقوم لعارض، ريح تحكم في الأعصاب. وكان والدي رئيس قرية حبيب النجار، واتخذ قرب مزار
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 150) و «سانحات دمى القصر» (2/ 32- 52) و «البدر الطالع» (1/ 246) و «الأعلام» (2/ 333- 334) و «معجم المؤلفين» (4/ 140) .
تنبيه: هكذا كتب المؤلّف هذه الترجمة في هذه السنة وهو وهم منه، فالصواب- والله أعلم- سنة (1008) كما ذكره صاحب «كشف الظنون» (1/ 386) والزركلي في «الأعلام» (2/ 333) وجاء في هامش «ط» ما نصه: «قلت: وفاته سنة (1011) ألف وإحدى عشرة تحقيقا، كما في هامش الأصل. وفي «الكواكب» أنه مات في حدود التسعين وتسعمائة» .
[2] لفظة «له» سقطت من «سانحات دمى القصر» فلتستدرك.
[3] في «سانحات دمى القصر» : «والمتفرد بعلوم الأوائل» .
[4] في «سانحات دمى القصر» (2/ 35) : «ومشتعل» .

(10/610)


سيدي حبيب رباطا للواردين، وبنى فيه حجرات للمجاورين، ورتّب لها في كل يوم من الطعام ما يحمله إليه بعض الخدام، وكنت أحمل إلى الرّباط فأقيم فيه سحابة يومي، وإذا برجل من أفاضل العجم يدعى محمد شريف، نزل بالرّباط، فلما رآني سأل عني فأخبر، فاصطنع لي دهنا مسّدني به في حرّ الشمس، ولفّني في لفافة من فرقي إلى قدمي، حتى كدت أموت، وتكرّر منه ذلك الفعل مرارا، من غير فاصل، فقمت على قدمي، ثم أقرأني في المنطق، والرياضي، والطبيعي، ثم أفادني اللغة اليونانية، وقال: إني لا أعلم الآن على وجه الأرض من يعرفها غيري، فأخذتها عنه، وأنا الآن فيها بحمد الله هو إذ ذاك، ثم سار [1] . فسرت إلى جبل عاملة، ثم إلى دمشق، واجتمعت ببعض علمائها، كأبي الفتح المغربي، والبدر الغزّي، والعلاء العمادي، ثم دخلت مصر وها أنا فيها إلى الآن.
قال وكان فيه دعابة وحسن سجايا، وكرم نجار [2] ، وخوف من المعاد، وخشية من الله. كان يقوم الليل إلّا قليلا، ويتبتّل إلى ربّه [3] تبتيلا.
وكان إذا سئل عن شيء من العلوم الحكمية، والطبيعية، والرياضية، أملى ما يدهش العقل بحيث يجيب على السؤال الواحد بنحو الكرّاسة.
ومن مصنّفاته «التذكرة» [4] جمع فيها الطب والحكمة، ثم اختصرها في مجلدة، وشرح «قصيدة النفس» لابن سينا شرحا حافلا نفيسا، وقرئ عليه.
قال: وأجازني إجازة طنّانة، ثم أوردها في «السّانحات» فراجعه.
وفيها المولى أحمد المشتهر بمظلوم ملك [5] .
__________
[1] في «آ» : «ثم سافر» .
[2] كرم نجار: أي كرم أصل. انظر «لسان العرب» (نجر) .
[3] في «آ» : «ويتبتل إليه» .
[4] واسمه الكامل «تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب» وهو مطبوع عدة مرات ويعرف ب «تذكرة داود» . انظر «كشف الظنون» (1/ 386- 387) و «معجم المطبوعات العربية» (1/ 491) .
[5] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (498) .

(10/611)


قال في «ذيل الشقائق» : اشتغل بالعلوم، وصار من ملازمي المولى جعفر، وتنقّل في المدارس، ثم قلّد قضاء بيت المقدس، ثم المدينة المنورة، ثم مكّة المشرّفة.
وكان- رحمه الله تعالى- عالما، فصيحا، حازما، جيد العقيدة، صاحب أخلاق حميدة ووقار واتّعاظ.
وتوفي بقسطنطينية [1] . انتهى وفيها المولى خضر بك ابن القاضي عبد الكريم [2] .
ولد بقسطنطينية المحمية، ونشأ في خدمة الفضل وذويه، وقرأ على علماء عصره، حتى صار ملازما من المولى أحمد المشتهر بمعلّم زاده، ودرّس بعدة مدارس، إلى أن قلّد المدرسة المشهورة بمناستر بمحروسة بروسة.
وتوفي مدرّسا بها، وكان من الغائصين في لجج بحار العلوم على درر دقائق الفهوم، مكبّا على الاشتغال، غير أنه لا يخلو عن القيل والقال، مطلق اللسان في السّلف، ومزدريا بشأن الخلف، مع غاية الإعجاب بنفسه، عفا الله عنه بلطفه في رمسه. قاله في «العقد المنظوم» .
وفيها باكثير عبد المعطي بن الشيخ حسن بن الشيخ عبد الله المكّي الحضرمي الشافعي [3] الإمام العلّامة [4] المحدّث المعمّر.
قال في «النور» : ولد بمكّة في رجب سنة خمس وتسعمائة، ونشأ بها، ولقي جماعة من العلماء، منهم الشيخ زكريا الأنصاري، سمع عليه «صحيح البخاري» بقراءة والده، فهو يرويه عنه سماعا كما في اصطلاح أهل الحديث، وأخذ عن
__________
[1] أي باستانبول.
[2] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (502- 503) .
[3] ترجمته في «النور السافر» ص (364- 370) .
[4] في «ط» : «العالم» .

(10/612)


جماعة، وقرأ على بعض شيوخه كتاب «الشفا» في مجلس واحد من صلاة الصبح إلى الظهر [1] .
وكان عالما، مفنّنا، لطيف المحاورة، فكها، له ملح ونوادر، أديبا شاعرا، مصقعا.
ومن شعره:
قلت إذ أقبل الرّبيع ووافى ... ورده الغض ليت ذاك نصيبي
فخدود الملاح تعزى إليه ... وشذاه أربي على كلّ طيب
ومنه:
الورد سلطان الزّهو ... ر وما سواه الحاشية
فللونه المحمرّ ين ... سب حسن خدّ الغانية
وإذا تضوّع نشره ... يهدي إليك الغالية
ومنه:
وميمات الدّواة تعدّ سبعا ... وسبعا عدّهنّ بلا خفاء
مداد ثم محبرة مقصّ ... ومرملة ومصمغة الغراء
ومكشطة ومقلمة مقطّ ... ومصقلة مموّهة لماء
ومحراك ومسطرة مسن ... وممسحة لختم وانتهاء
ومنه في القهوة:
أهلا بصافي قهوة كالإثمد ... جليت فزينت بالخمار الأسود
لمّا أديرت في كؤوس لجينها ... بيمين ساق كالقضيب الأملد
يحكي بياض إنائها وسوادها ... طرفا كحيلا لا بكحل المرود
ودخل الهند بأخرة، وأقام بها إلى أن مات بأحمد أباد ليلة الثلاثاء لثلاث بقين من ذي الحجّة.
__________
[1] قلت: في هذا الكلام مبالغة، فقراءة التدبر والفهم والمدارسة لا تتم بمثل هذه السرعة التي ذكرها المؤلّف هنا نقلا عن «النور السافر» في كتاب ككتاب «الشفاء» الذي يحتاج إلى أيام عدة على أقل تقدير.

(10/613)


وفيها السيّد علاء الدّين علي بن محمد بن حمزة [1] الفقيه الشافعي المسند، قاضي القضاة الشافعية بدمشق، ونقيب الأشراف بها.
ولد يوم الخميس سادس ربيع الأول سنة ثمان وتسعمائة، وأخذ عن والده وغيره، وسمع على والده «المشيخة» التي خرّجها لنفسه بقراءة الشيخ شرف الدّين موسى الحجّاوي الحنبلي في مجلسين آخرهما يوم الثلاثاء حادي عشر شوال سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة بمنزل والده شمالي المدرسة البادرائية، وأجازه أن يرويها عنه، وجميع ما يجوز له وعنه روايته، وقد تسلسل له فيها من المسلسلات قبل ذلك.
وممن أخذ عن صاحب الترجمة الشيخ زين الدّين الشهير بابن صارم الدّين الصّيداوي الشافعي، وروى عنه المسلسل بالقضاة.
وتوفي يوم الأحد سابع عشري القعدة الحرام، رحمه الله تعالى.
وفيها قطب شاه [2] سلطان كلكندة.
قال في «النور» : كان عادلا، كريما إلا أنه كان غاليا في التّشيّع.
وفيها- تقريبا- ولي الدّين محمد بن علي بن سالم الشّبشيري القاهري [3] الشافعي العالم الفاضل المعمّر.
قال في «الكواكب» : أخذ عن السخاوي، والديمي، والسيوطي، والقاضي زكريا، وآخرين.
وتوفي في حدود التسعين وتسعمائة، رحمه الله تعالى، انتهى.
وفي حدودها شمس الدّين محمد الصّفري القدسي [4] الشافعي الإمام العالم الواعظ بالجامع الأزهر.
__________
[1] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 179- 180) .
[2] ترجمته في «النور السافر» ص (371) .
[3] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 66) .
[4] ترجمته في «الكواكب السائرة» (3/ 80- 81) .

(10/614)


أخذ عن علماء عصره، ودأب، وحصّل، ووعظ، وأفاد، رحمه الله تعالى.
وفيها المولى محمد المعروف بصار كرز [أو غلي] زاده [1] نسبة إلى جدّه من قبل أبيه، الحنفي الرّومي.
قال في «العقد المنظوم» : نشأ في مجالس الأفاضل الأكارم، ومحافل الأماثل الأعاظم، مغترفا من حياض معارفهم، ومتأنّقا في رياض لطائفهم، إلى أن صار ملازما من المولى أبي السعود، وتنقّل في المدارس إلى أن قلّد قضاء المدينة المنوّرة، فتبرّم من ذلك، فبدّل بقضاء حلب فلم يبارك له في عمره، بل في مدة تقرب من سنتين توفي.
وكان- رحمه الله تعالى- عالما، عاملا، فاضلا، كاملا، حليما، سليما، لطيف الطبع، وقورا، صبورا، مهتما بدرسه، مشتغلا بنفسه، وله «تعليقة» على كتاب الصوم من «الهداية» و «حواش على المفتاح» من القانون الأول إلى آخر بحث الاستعارة، و «حواش على الهيئات من شرح المواقف» وله رسالة بليغة في وصف العلم مطلعها:
لك الحمديا من أنطق [2] النّون والقلم ... فأوصافه [3] جلّت عن النّقص والعدم
وأضحك من طرس ثغورا [4] بصنعه ... وأبكى به عين اليراع من السّقم
صلاة وتسليم على الرّوضة التي ... تعطّر من أنفاسها المسك والشّمم
وبقيتها سجع في غاية البلاغة. انتهى
__________
[1] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (501- 502) وما بين الحاصرتين مستدرك منه و «معجم المؤلفين» (1/ 79) وقال حاجي خليفة في «كشف الظنون» (1/ 884) . «المتوفى سنة 990» .
[2] في «آ» : «أطلق» .
[3] في «آ» : «بأوصافه» .
[4] في «العقد المنظوم» : «من ثغر طروسا» .

(10/615)


سنة تسعين وتسعمائة
فيها توفي القاضي الشريف حسين المكّي المالكي [1] ، الملقب بالكرم لفرط كرمه. قيل كان سماطه في الأعياد ألف صحن صيني.
قال في «النور» : كان من أعيان مكّة وفضلائها وأجوادها ورؤسائها لم يخلّف مثله، ولبعض فضلاء مكّة هذا التخميس على البيتين المشهورين جعله رثاء فيه:
لهفي على بدر الوجود وسعده ... ومغيبه تحت الثّرى في لحده
مات الحسين المالكيّ بمجده ... يا دهر بع رتب العلا من بعده
بيع الهوان ربحت أم لم تربح ... وافعل مرادك يا زمان كما ترى
وارفع من الغوغا وحطّ ذوي الذرى ... لا تعتذر لذوي النّهى عمّا جرى
قدّم وأخّر من أردت من الورى ... مات الذي قد كنت منه تستحي
ومن شعره هو وقد أهدى إليه القطب الحنفي سمكا:
يا أيّها القطب الذي ... بوجوده دار الفلك
لو لم تكن بحر النّدى ... ما جاءنا منك السّمك
وولي قضاء المدينة المنورة مدة طويلة، مع حسن السيرة.
وتوفي في تاسع صفر.
__________
[1] ترجمته في «النور السافر» ص (380- 383) .

(10/616)


وفيها قطب الدّين محمد بن علاء الدّين أحمد بن محمد بن قاضي خان بن بهاء الدّين بن يعقوب بن حسن بن علي النّهرواني الهندي ثم المكّي الحنفي [1] الإمام العلّامة.
ولد سنة سبع عشرة وتسعمائة، وأخذ عن والده، والشيخ عبد الحقّ السنباطي، وهو أجلّ من أخذ عنه من المحدّثين، والشيخ محمد التونسي، والشيخ ناصر اللقاني، والشيخ أحمد بن يونس بن الشّلبي، وغيرهم.
وذكره ابن الحنبلي في «تاريخه» إلا أنه سمّى والده عليا [2] والصحيح الأول، وأثنى عليه ثناء حسنا.
قال ومن مؤلفاته «طبقات الحنفية» احترقت في جملة كتبه.
وقال النجم الغزّي: وقفت له على «تاريخ» كتبه لمكّة المشرّفة.
وكان بارعا مفنّنا في الفقه، والتفسير، والعربية، ونظم الشعر، وشعره في غاية الرّقة، منه الزائية المشهورة، وهي:
أقبل كالغصن حين يهتز ... في حلل دون لطفها الخز
مهفهف القدّ ذو محيّا ... بعارض الخدّ قد تطرز
دار بخدّيه واو صدغ ... والصّاد من لحظه تلوّز
الخمر والجمر في [3] لماه ... وخدّه ظاهر وملغز
يشكو له الخصر جور ردف ... أثقله حمله وأعجز
طلبت منه شفاء سقمي ... فقال لحظي لذاك أعوز
قد غفر الله ذنب دهر ... لمثل هذا المليح أبرز
حزّ فؤادي بسيف لحظ ... أوّاه لو دام ذلك الحز
__________
[1] ترجمته في «النور السافر» ص (389) و «الكواكب السائرة» (3/ 44- 48) و «درّ الحبب» (2/ 1/ 439- 441) و «البدر الطالع» (2/ 57- 58) و «الأعلام» (6/ 6- 7) و «معجم المؤلفين» (9/ 17- 18) .
[2] في «آ» و «ط» : «علي» .
[3] في «آ» و «ط» : «من» وما أثبته من «النور السافر» مصدر المؤلّف.

(10/617)


أفديه من أغيد مليح ... بالحسن في عصره تميّز
كان نديمي فمذ رآني ... أسيره في الهوى تعزّز
يا قطب لا تسل عن هواه ... وأثبت وكن في هواه [1] مركز
وقال في «النور» : ومن شعره:
الدّن لي والكأس والقرقف ... وللفقيه الكتب والمصحف
إن كان ما تعجبه قسمتي ... فليقتسمها مثل ما يعرف [2]
لا تنكروا حالي ولا حاله ... كلّ بما [3] ينفعه أعرف
لكنه ينكر أذواقنا ... وما له ذوق ولا ينصف
كم يزدري الرّاح وشرّابها ... أخشى على هذا الفتى يقصف
دعني وحالي يا فقيه الورى ... فأنت عن إدراكه تكسف
هيهات أن يدرك طعم الهوى ... من لم يكن في ذوقه يلطف
للعشق سرّ لم يزل غامضا ... لغير أهل الحبّ لا يكشف
فيا نديمي اشرب على رغمه ... ودعه في إنكاره يرشف
واحبسه في باب الطّهارات من ... كتابه لعله ينظف
وبي غزال طاب مرعاه في ... كناس قلبي وهو لا يألف
بدر كمال لا يرى حسنه ... نقصا ولا محقا ولا يكسف
في خدّه أنبت ماء الحيا ... وردا بغير اللحظ لا يقطف
عارضه لام وفي صدغه ... واو ولكن آه لو يعطف
عزيز مصر الحسن لو كان في ... زمانه هام به يوسف
ومنه معمّى في عليّ:
بلّغ حبيبي بعض ما ... ألقاه إن أبصرته
أمّا عذولي قل له ... دع عنك ما أضمرته
__________
[1] في «ط» : «وكن في الغرام» وما جاء في «آ» موافق لما في «النور السافر» مصدر المؤلف.
[2] هذا البيت لم يرد في «النور السافر» المطبوع.
[3] في «النور السافر» : «مما» .

(10/618)


ومنه معمّى في أحمد:
لنا إن دارت الكأس العقار ... بأطراف الرّماح دم مدار
ومنه إفاداته أن لفظ ابن خلّكان ضبط على صورة الفعلين «خلّ» أمر من التخلية و «كان» الناقصة. قال: وسببه أنه كان يكثر قول كان والدي كذا، كان جدّي كذا، كان فلان كذا، فقيل له (خلّ كان) فغلبت عليه. انتهى.
وتوفي- رحمه الله تعالى- بمكّة المشرّفة.
وفيها الشريف أبو نمي محمد بن بركات [1] صاحب مكّة.
قال في «النور» : ولبعض فضلاء مكة في تاريخ وفاته:
يا من به طبنا وطاب الوجود ... قد كنت بدرا في سماء السّعود
ما صرت في التّرب ولكنما ... أسكنك الله جنان الخلود
ولد سنة عشر وتسعمائة.
وتوفي يوم عاشوراء. انتهى وفيها المولى محمد بن نور الله المشتهر بأخي زاده [2] نسبة إلى جدّه من قبل أمه المولى أخي يوسف التّوقاتي، محشّي «صدر الشريعة» .
قال في «العقد المنظوم» : نشأ صاحب الترجمة في طلب العلم والسيادة، وأخذ عن جلّة من [3] المشايخ، منهم عرب چلبي، والمولى عبد الباقي، ثم صار ملازما من المولى خير الدّين معلّم السلطان سليمان، ثم قلّد المدارس، إلى أن قلّد قضاء حلب، ثم برسة، ثم أدرنة، ثم صار قاضيا بالعساكر في ولاية أناضولي، ثم تقاعد بوظيفة مثله، ثم قلّد تدريس دار الحديث السليمانية، فدام على الدرس والإفادة، ونشر العلوم والمعارف إلى الوفاة.
__________
[1] ترجمته في «النور السافر» ص (380) .
[2] ترجمته في «العقد المنظوم» ص (499- 500) .
[3] لفظة «من» سقطت من «آ» .

(10/619)


وكان بحرا من بحار العلوم زاخرا، وطودا من أطواد الفهوم [1] باذخا، يقذف للقريب من جواهر معارفه عجائب، ويبعث للغريب من طماطم فضائله سحائب، طالما فتح بمفاتيح أنظاره الدقيقة مغالق المعضلات، وحلّ بخاطره اليقظان، وفكره العجيب الشأن عقد المشكلات عديم النظير في سرعة الانتقال، وحسن التقرير، وصاحب أدب وسكينة ومعارف رصينة، أنظر أهل زمانه وفارس ميدانه.
وتوفي في آخر ذي القعدة. انتهى ملخصا وفيها الشيخ العارف بالله تعالى شيخ بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس اليمني الشافعي [2] .
قال ولده في «النور السافر في أعيان القرن العاشر» : ولد سنة تسع عشرة وتسعمائة بتريم من اليمن، [3] وروى عن جلّة مشايخ اليمن [3] ، وصار شيخ زمانه باتفاق عارفي وقته، ولقد ألهم الله أهله حيث سمّوه شيخا كما ألهم الله آل النّبي صلّى الله عليه وسلم حيث سمّوه محمدا.
وكان علّامة وقته وشيخ الطريقة حقيقة واسما، فإن الشيخ أبا بكر باعلوى كان يقول: ما أحد من آل باعلوى أولهم وآخرهم أعطي مثله.
وقال غيره: والله ما هو إلّا آية من آيات الله تعالى، وما ألّف مثل كتابه «الفوز والبشرى» .
وحكى من مجاهداته أنه كان يعتمر غالبا في رمضان أربع عمرات بالليل وأربعا بالنهار، وهذا شيء من أعظم الكرامات [4] .
__________
[1] في «آ» : «من أطواد العلوم» .
[2] ترجمته في «النور السافر» ص (372- 379) و «الأعلام» (3/ 182) و «معجم المؤلفين» (4/ 312) .
[3] ما بين الرقمين لم يرد في «ط» .
[4] أقول: هذا ليس من الكرامات، بل من التعمق والتشدّد الذي هو خلاف السّنّة، وأفضل من ذلك الطواف حول البيت (ع) .

(10/620)


قال: وممن أخذ عنه العلم ابن حجر الهيتمي، والعلّامة عبد الله باقشير الحضرمي، وله من كل منهما إجازة في جماعة آخرين يكثر عددهم.
ومن مصنّفاته «العقد النبوي والسر المصطفوي» و «الفوز والبشرى» وشرحان على قصيدته المسماة «تحفة المريد» و «مولدان» كبير وصغير، و «معراج» و «رسالة في العدل» و «ورد» سمّاه «الحزب النّفيس» و «نفحات الحكم على لامية العجم» وهو على لسان التصوف ولم يكمله، وديوان شعر.
ومن شعره:
كفاني أن أزهو بجدّ ووالد ... ولي حسب من فوق هام الفراقد
ولي نسب بالمصطفى وابن بنته ... حسين عليّ زين زاكي المحامد [1]
أبا وأبا من سيّد الرّسل هكذا ... إلى العيدروس المجتبى خير ما جد
وراثة خير الخلق أحمد جدّنا ... ونحن به نعلو العلا في المعاقد
ورثنا العلا أكرم بنا خير سادة ... شذا مجدنا يشذوا بطيب المحامد
وقد أفرد ترجمته ومناقبه غير واحد بالتأليف، كالعلامة حميد بن عبد الله السّندي، وقال فيه الفاضل عبد اللطيف الدّبيري [2] :
شيخ الأنام مفيد كلّ محقّق ... بحر العلوم العارف الرّبّاني
ابن العفيف أبو الشّهاب المجتبى ... قطب الزّمان العيدروس الثاني
شرف السّيادة والزّهادة والتّقي ... فخر الحماة الغرّ من عدنان
هو كالسّفينة من تولّاه نجا ... وسواه لم يأمن من الطّوفان
دخل الهند سنة ثمان وخمسين وتسعمائة، فأقام بها إلى أن توفي بأحمد أباد ليلة السبت بخمس وعشرين خلت من شهر رمضان. انتهى ما أورده ولده ملخصا.
__________
[1] رواية الشطرة الثانية من البيت «آ» و «ط» :
............... ........ ... حسين علا زينا زكي المحاتد
[2] في «آ» : «الدّيري» وفي «النور السافر» : «الدّبير» .

(10/621)