فتوح مصر والمغرب

ذكر من كان يخرج على غزو المغرب بعد عمرو ابن العاص وفتوحه
معاوية بن حديج. قال: ثم خرج إلى المغرب بعد عبد الله بن سعد معاوية بن حديج التجيبى سنة أربع وثلاثين، وكان معه فى جيشه عامئذ عبد الملك بن مروان، فافتتح قصورا، وغنم غنائم عظيمة «1» ، واتّخذ قيروانا عند القرن، فلم يزل فيه حتى خرج إلى مصر، وكان معه فى غزاته هذه جماعة من المهاجرين والأنصار.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة. وحدثنا يوسف بن عدىّ، حدثنا عبد الله بن المبارك، نحوه عن ابن لهيعة، عن بكير بن عبد الله، عن سليمان بن يسار، قال: غزونا إفريقية مع ابن حديج ومعنا من المهاجرين والأنصار بشر كثير، فنفلنا ابن حديج النصف بعد الخمس، فلم أر احدا أنكر ذلك إلّا جبلة بن عمرو الأنصارىّ.
وحدثنا يوسف بن عدى، حدثنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبى

(1/220)


عمران، قال: وسألت سليمان بن يسار عن النفل فى الغزو، فقال: لم أر أحدا صنعه غير ابن حديج، نفلنا إفريقية النصف بعد الخمس، ومعنا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المهاجرين الأولين ناس كثير، فأبى جبلة بن عمرو الأنصارى أن يأخذ منه شيئا.
ثم رجع إلى حديث عثمان بن صالح وغيره، قال: فانتهى إلى قونية، وهى موضع مدينة قيروان «1» ، ثم مضى إلى جبل يقال له القرن، يعسكر «2» إلى جانبه، وبعث عبد الملك بن مروان إلى مدينة يقال لها جلولاء فى ألف رجل، فحاصرها أياما، فلم يصنع شيئا فانصرف راجعا، فلم يسر إلا يسيرا»
حتى رأى فى ساقة الناس غبارا شديدا، فظنّ أن العدوّ قد طلبهم، فكّر جماعة من الناس لذلك، وبقى من على مصافّهم، وتسرّع سرعان الناس، فإذا مدينة جلولاء قد رقع حائطها، فدخلها المسلمون، وغنموا ما فيها؛ وانصرف عبد الملك إلى معاوية بن حديج.
فاختلف الناس فى الغنيمة، فكتب فى ذلك إلى معاوية بن أبى سفيان فكتب، إن العسكر ردء للسرّية، فقسم ذلك بينهم، فأصاب كل رجل منهم لنفسه مائتى دينار، وضرب للفرس بسهمين، ولصاحبه بسهم، قال عبد الملك: فأخذت لفرسى ولنفسى ستّمائة دينار، واشتريت بها جارية.
قال: ويقال بل غزاها معاوية بن حديج بنفسه، فحاصرهم فلم يقدر عليهم، فانصرف آيسا منها، وقد جرح عامّة أصحابه، وقتل منهم، ففتحها الله بعد انصرافه بغير خيل ولا رجال، فرجع إليها ومن معه، وفيها السبى لم يردّهم أحد، فغنموا، وانصرف منها راجعا إلى مصر.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، قال: غزا معاوية بن حديج إفريقية ثلاث غزوات. أما الأولى فسنة أربع وثلاثين قبل قتل عثمان، وأعطى عثمان مروان الخمس فى تلك الغزوة، وهى غزوة لا يعرفها كثير من الناس؛ والثانية سنة أربعين؛ والثالثة سنة خمسين.

(1/221)


عقبة بن نافع. قال ثم خرج «1» إلى المغرب بعد معاوية بن حديج عقبة بن نافع الفهرىّ سنة ستّ وأربعين، ومعه بسر بن أبى أرطاة، وشريك بن سمىّ المرادى، فأقبل حتى منزل بمغمداش من سرت. وكان توجّه بسر إليها. كما حدثنا يحيى بن عبد الله ابن بكير، عن الليث بن سعد سنة ست وعشرين من سرت. فأدركه الشتاء، وكان مضعّفا، وبلغة أن أهل ودّان قد نقضوا عهدهم، ومنعوا ما كان بسر بن أبى أرطاة فرض عليهم.
وكان عمرو بن العاص قد بعث إليها بسرا قبل ذلك وهو محاصر لأهل أطرابلس، فافتتحها. فخلّف عقبة بن نافع جيشه هنالك، واستخلف عليهم عمر بن علىّ القرشى، وزهير بن قيس البلوىّ، ثم سار بنفسه وبمنّ «2» خفّ معه أربعمائة فارس وأربعمائة بعير، وثمانمائة قربة حتى قدم ودّان فافتتحها، وأخذ ملكهم، فجدع أذنه. فقال: لم فعلت هذا بى وقد عاهدتنى؟ فقال عقبة: فعلت هذا بك أدبا لك، إذا مسست أذنك ذكرته، فلم تحارب العرب. واستخرج منهم ما كان بسر فرضه عليهم، ثلاثمائة رأس وستّين رأسا.
ثم سألهم عقبة: هل من ورائكم أحد؟ فقيل له: جرمة. وهى مدينة فزّان العظمى، فسار إليها ثمانى ليال من ودّان، فلما دنا منها أرسل، فدعاهم إلى الإسلام، فأجابوا، فنزل منها على ستّة أميال، وخرج ملكهم يريد عقبة، وأرسل عقبة خيلا فحالت بين ملكهم وبين موكبه، فأمشوه راجلا حتى أتى عقبة وقد لغب، وكان ناعما، فجعل يبصق الدم، فقال له: لم فعلت هذا بى وقد أتيتك طائعا؟ فقال عقبة: أدبا لك إذا ذكرته لم تحارب العرب. وفرض عليه «3» ثلاثمائة عبد وستين عبدا. ووجّه عقبة الرحّل «4» من يومه ذلك إلى المشرق.
ثم مضى على جهته من فوره ذلك إلى قصور فزّان، فافتتحها قصرا قصرا، حتى انتهى إلى أقصاها فسألهم: هل من ورائكم أحد؟ قالوا: نعم، أهل خاوار، وهو قصر عظيم على رأس المفازة فى وعورة على ظهر جبل، وهو قصبة كوار.

(1/222)


فسار إليهم خمس عشرة ليلة، فلما انتهى «1» تحصّنوا، فحاصرهم شهرا، فلم يستطع لهم شيئا. فمضى أمامه على قصور كوّار فافتتحها، حتى انتهى إلى أقصاها، وفيه ملكها، فأخذه فقطع إصبعه، فقال: لم فعلت هذا بى؟ قال: أدبا لك، إذا أنت نظرت إلى إصبعك لم تحارب العرب. وفرض عليه ثلاثمائة عبد وستين عبدا.
فسألهم: هل من ورائكم أحد؟ فقال الدليل: ليس عندى بذلك معرفة ولا دلالة، فانصرف عقبة راجعا، فمرّ بقصر خاوار، فلم يعرض له، ولم ينزل بهم، وسار ثلاثة أيام، فأمنوا وفتحوا مدينتهم، وأقام عقبة بمكان اسمه اليوم ماء فرس، ولم يكن به ماء، فأصابهم عطش شديد، أشفى منه عقبة وأصحابه على الموت، فصلّى عقبة ركعتين، ودعا الله.
وجعل فرس عقبة يبحث بيديه فى الأرض حتى كشف عن صفاة، فانفجر منها الماء، فجعل الفرس يمصّ ذلك الماء، فأبصره عقبة، فنادى فى الناس، أن احتفروا؛ فحفروا سبعين حسيا فشربوا، واستقوا، فسمّى لذلك ماء فرس.
ثم رجع عقبة إلى خاوار من غير طريقه التى كان أقبل منها، فلم يشعروا به حتى طرقهم ليلا، فوجدهم مطمئنّين قد تمهّدوا فى أسرابهم، فاستباح ما فى المدينة من ذرّيّاتهم «2» وأموالهم، وقتل مقاتلتهم.
ثم انصرف راجعا فسار حتى نزل بموضع زويلة اليوم، ثم ارتحل حتى قدم على عسكره بعد خمسة أشهر، وقد جمّت خيولهم وظهرهم «3» ، فسار متوجّها إلى المغرب وجانب الطريق الأعظم، وأخذ إلى أرض مزاتة، فافتتح كل قصر بها، ثم مضى إلى صفر «4» فافتتح قلاعها وقصورها، ثم بعث خيلا إلى غدامس، فافتتحت غدامس؛ فلما انصرفت إليه خيله سار إلى قفصة فافتتحها وافتتح قصطيلية.
ثم انصرف إلى القيروان، فلم يعجب بالقيروان الذي كان معاوية بن حديج بناه

(1/223)


قبله، فركب والناس معه حتى أتى موضع القيروان اليوم، وكان واديا كثير الشجر كثير القطف، تأوى إليه الوحوش والسباع والهوامّ، ثم نادى بأعلى صوته: يا أهل الوادى، ارتحلوا رحمكم الله. فإنا نازلون؛ نادى بذلك ثلاثة أيام، فلم يبق من السباع شىء ولا الوحوش والهوامّ إلّا خرج، وأمر الناس بالتنقية والخطط، ونقل الناس من الموضع الذي كان معاوية بن حديج نزله إلى القيروان اليوم، وركز رمحه وقال: هذا قيروانكم.
(* حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا الليث بن سعد، أن عقبة بن نافع غزا إفريقية، فأتى وادى القيروان، فبات عليه هو وأصحابه حتى إذا أصبح وقف على رأس الوادى، فقال: يا أهل الوادى، اظعنوا، فإنّا نازلون. قال ذلك ثلاث مرّات، فجعلت الحيّات تنساب والعقارب وغيرها مما لا يعرف من الدوابّ، تخرج ذاهبة، وهم قيام ينظرون إليها من حين أصبحوا حتى أوجعتهم الشمس، وحتى لم يروا منها شيئا، فنزلوا الوادى عند ذلك.
قال الليث: فحدثنى زياد بن العجلان، أن أهل إفريقية أقاموا بعد ذلك أربعين سنة، ولو التمست حيّة أو عقرب بألف دينار ما وجدت*) .
أبو المهاجر. قال: ثم عزل عقبة بن نافع فى سنة إحدى وخمسين «1» ، عزله مسلمة ابن مخلّد الأنصارى، وهو يومئذ والى البلد من قبل معاوية بن أبى سفيان، ومسلمة بن مخلّد أوّل من جمعت له مصر والمغرب.
وكانت ولاية مسلمة بن مخلّد كما حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، سنة سبع وأربعين، وولّى أبا المهاجر دينارا مولى الأنصار، وأوصاه «2» حين ولّاه أن يعزل عقبة أحسن العزل، فخالفه أبو المهاجر، فأساء عزله وسجنه، وأوقره حديدا حتى «3» أتاه الكتاب من الخليفة بتخلية سبيله وإشخاصه إليه، فخرج عقبة حتى أتى قصر الماء، فصلّى، ثم دعا، وقال: اللهمّ لا تمتنى حتى تمكّنّى من أبى المهاجر دينار بن أمّ

(1/224)


دينار «1» ، فبلغ ذلك أبا المهاجر، فلم يزل خائفا منذ بلغته دعوته، فلما قدم عقبة مصر ركب إليه مسلمة بن مخلّد، فأقسم له بالله لقد خالفه ما صنع أبو المهاجر، ولقد أوصيته بك خاصّة.
وقد كان قيل لمسلمة: لو أقررت عقبة فإن له جزالة «2» وفضلا، فقال مسلمة: إن أبا المهاجر صبر علينا فى غير ولاية ولا كبير نيل، فنحن نحبّ أن نكافئه.
فلما قدم أبو المهاجر إفريقية كره أن ينزل فى الموضع الذي اختطّه عقبة بن نافع، ومضى حتى خلّفه بميلين، فابتنى ونزل.
وكان الناس قبل أبى المهاجر كما حدثنا عبد الملك بن مسلمة، عن ابن لهيعة.
وأحمد بن عمرو، عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، يغزون إفريقية ثم يقفلون منها إلى الفسطاط، وأوّل من أقام بها حين غزاها أبو المهاجر مولى الأنصار، أقام بها الشتاء والصيف، واتّخذها منزلا، وكان مسلمة بن مخلّد الذي عقد له على الجيش الذين خرجوا معه إليها، فلم يزالوا بها حتى قتل ابن الزبير، فخرجوا منها.
ثم قدم عقبة على معاوية بن أبى سفيان فقال له: فتحت البلاد وبنيت المنازل ومسجد الجماعة، ودانت لى «3» ، ثم أرسلت عبد الأنصار فأساء عزلى. فاعتذر إليه معاوية وقال: قد عرفت مكان مسلمة بن مخلّد من الإمام المظلوم، وتقديمه إيّاه، وقيامه بدمه، وبذل «4» مهجته، وقد رددتك على عملك.
ويقال: إن معاوية ليس هو الذي ردّ عقبة بن نافع، ولكنه قدم على يزيد بن معاوية بعد موت أبيه، فردّه واليا على إفريقية، وذلك أصحّ لأن معاوية توفّى سنة ستّين.
حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، عن الليث بن سعد، قال: توفّى معاوية بن أبى سفيان سنة ستين.
مقتل عقبه بن نافع: ثم رجع إلى حديث عثمان وغيره، قال: فخرج عقبة

(1/225)


ابن نافع سريعا بحنقه على أبى المهاجر حتى قدم إفريقية «1» ، فأوثق أبا المهاجر فى وثاق شديد، وأساء عزله، وغزا به معه إلى السّوس، وهو فى حديد.
وأهل السوس بطن من البربر، يقال لهم أنبية، فجّول فى بلادهم، لا يعرض له أحد ولا يقاتله، فانصرف إلى إفريقية، فلما دنا من ثغرها أمر أصحابه، فافترقوا عنه، وأذن لهم حتى بقى فى قلّة، فأخذ على مكان يقال له تهوذة، فعرض له «2» كسيلة بن لمزم فى جمع كثير من الروم والبربر، وقد كان بلغه افتراق الناس عن عقبة، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عقبة ومن كان معه، وقتل أبو المهاجر وهو موثق فى الحديد، ثم سار كسيلة ومن معه حتى نزلوا الموضع الذي كان عقبة اختطّه، فأقام به، وقهر من قرب منه، باب قابس وما «3» يليه، وجعل يبعث أصحابه فى كل وجه.
ويقال: بل خرج عقبة بن نافع إلى السوس، واستخلف على القيروان عمر بن على القرشى وزهير بن قيس البلوى، وكانت إفريقية يومئذ تدعى مزاق، فتقدّم عقبة إلى السوس، وخالفه رجل من العجم فى ثلاثين ألفا إلى عمر بن على وزهير بن قيس، وهما فى ستة آلاف، فهزمه الله.
وخرج ابن الكاهنة البربرىّ على إثر عقبة، كلّما رحل عقبة من منهل دفنه ابن الكاهنة «4» ، فلم يزل كذلك حتى انتهى عقبة إلى السوس، ولا يشعر بما صنع البربرى، فلما انتهى عقبة إلى البحر «5» أقحم فرسه فيه حتى بلغ نحره، ثم قال: اللهمّ إنى أشهدك «6» ألا «7» مجاز، ولو وجدت مجازا لجزت.
وانصرف راجعا والمياه قد عوّرت، وتعاونت عليه البربر، فلم يزل يقاتل «8» ،

(1/226)


وأبو المهاجر معه فى الحديد؛ فلما استحرّ الأمر أمر عقبة بفتح الحديد عنه، فأبى أبو المهاجر، وقال: ألقى الله فى حديدى؛ فقتل عقبة وأبو المهاجر ومن معهما.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا الليث بن سعد أن عقبة بن نافع قدم من عند يزيد بن معاوية فى جيش على غزو المغرب، فمرّ على عبد الله بن عمرو، وهو بمصر، فقال له عبد الله: يا عقبة، لعلّك من الجيش الذين يدخلون الجنّة برحالهم، فمضى بجيشه حتى قاتل البربر، وهم كفّار، فقتلوا جميعا.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة، عن بحير «1» بن ذاخر المعافرى، قال: كنت عند عبد الله بن عمرو بن العاص حين دخل عليه عقبة بن نافع بن عبد القيس الفهرىّ، فقال: ما أقدمك يا عقبة؟ فإنى أعلمك تحبّ الإمارة. قال: فإنّ أمير المؤمنين يزيد عقد لى «2» على جيش إلى إفريقية. فقال له عبد الله بن عمرو: إيّاك أن تكون لعنة أرامل أهل مصر، فإنى لم أزل أسمع أنه سيخرج رجل من قريش فى هذا الوجه، فيهلك فيه.
فقدم إفريقية، فيتبع «3» آثار أبى المهاجر وضيّق عليه وحدّده، ثم خرج إلى قتال البربر، وهم خمسة آلاف رجل من أهل مصر، وخرج بأبى المهاجر معه فى الحديد، فقتل، وقتل أصحابه، وقتل أبو المهاجر معهم.
وكان مقتل عقبة بن نافع وأصحابه كما حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد فى سنة ثلاث وستين.
قال: ثم رجع إلى حديث عثمان وغيره، قال: ثم زحف ابن الكاهنة إلى القيروان يريد عمر بن علىّ وزهير بن قيس، فقاتلاه قتالا شديدا، فهزم ابن الكاهنة وقتل أصحابه، وخرج عمر بن على وزهير بن قيس إلى مصر بالجيش لاجتماع ملأ البربر، وأقام ضعفاء أصحابهما ومن كان خرج معهما من موالى إفريقية بأطرابلس.

(1/227)


ويقال إن عبد العزيز بن مروان لما ولى مصر كتب إلى زهير بن قيس، وزهير يومئذ ببرقة، يأمره بغزو إفريقية، فخرج فى جمع كثير، فلما دنا من قونية وبها عسكر كسيلة ابن لمزم عبّأ زهير لقتاله، فخرج إليه، فاقتتلا، فقتل كسيلة ومن معه، ثم انصرف زهير قافلا إلى برقة.
ويقال بل حسّان بن النعمان الذي كان وجّه زهير بن قيس والله أعلم.
وكان مقتل كسيلة كما حدثنا يحيى بن بكير عن الليث بن سعد فى سنة أربع وستين.
حسان بن النعمان: ثم قدم حسّان بن النعمان واليا على المغرب، أمّره عليها عبد الملك بن مروان فى سنة ثلاث وسبعين، فمضى فى جيش كبير حتى نزل أطرابلس، واجتمع إليه بها من كان خرج من إفريقية وأطرابلس، فوجّه على مقدّمته محمد بن أبى بكير، وهلال بن ثروان اللّواتى، وزهير بن قيس، ففتح البلاد، وأصاب غنائم كثيرة.
وخرج إلى مدينة قرطاجنة، وفيها الروم، فلم يصب فيها إلا قليلا من ضعفائهم.
فانصرف، وغزا الكاهنة، وهى إذ ذاك ملكة البربر، وقد غلبت على جل «1» إفريقية، فلقيها على نهر يسمّى اليوم نهر البلاء، فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزمته، وقتلت من أصحابه وأسرت منهم ثمانين رجلا، وأفلت حسان ونفذ من مكانه إلى أنطابلس، فنزل قصورا من حيز برقة فسمّيت قصور حسّان. واستخلف على إفريقية أبا صالح، وكانت أنطابلس ولوبية ومراقية إلى حدّ أجدابية من عمل حسان.
فأحسنت الكاهنة إسار من أسرته من أصحابه وأرسلتهم إلا رجلا منهم من بنى عبس، يقال له خالد بن يزيد، فتبنّته وأقام معها. فبعث حسّان إلى خالد رجلا، فأتاه، فقال له: إنّ حسان يقول لك، ما يمنعك من الكتاب إلينا بخبر الكاهنة؟ فكتب خالد ابن يزيد إلى حسان كتابا وجعله فى خبزة ملّة، ثم دفعها إلى الرسول ليخفى فيها الكتاب، وليظنّ من رأى الخبزة أنها زاد الرجل. فخرجت الكاهنة وهى تقول: يا بنىّ، هلاككم فيما تأكله الناس؛ فكرّرت ذلك.
ومضى الرسول حتى قدم على حسان بالكتاب، فيه علم ما يحتاج إليه؛ ثم كتب

(1/228)


إليه أيضا كتابا آخر، وجعله فى قربوس حفره، ووضع الكتاب فيه، وأطبق عليه حتى استوى وخفى مكانه. فخرجت الكاهنة أيضا، وهى تقول: يا بنىّ، هلاككم فى شىء من نبات الأرض ميّت؛ فكرّرت ذلك.
ومضى حتى قدم على حسان، فندب أصحابه ثم غزاها، فلما توجّه إليها خرجت ناشرة شعرها، فقالت: يا بنّى، انظروا ماذا ترون فى السماء؟ قالوا: نرى شيئا من سحاب أحمر، قال: لا وإلهى، ولكنها رهج خيل العرب، ثم قالت لخاد بن يزيد: إنى إنما كنت تبنّيتك لمثل هذا اليوم، أنا مقتولة «1» ، فأوصيك بأخويك هذين خيرا. فقال خالد: إنى أخاف إن كان ما تقولين حقّا ألّا يستبقيا. قالت: بلى ويكون أحدهما عند العرب أعظم شأنا منه اليوم، فانطلق فخذ لهما أمانا، فانطلق خالد فلقى حسّان فأخبره خبرها، وأخذ لا بنيها أمانا.
وكان مع حسان جماعة من البربر من البتر، فولّى عليهم حسان الأكبر من ابنى الكاهنة وقرّبه، ومضى حسان ومن معه، فلقى الكاهنة فى أصل جبل، فقتلت وعامّة من معها فسمّيت ببئر «2» الكاهنة، ثم انصرف حسان فنزل بموضع قيروان إفريقية اليوم، وكان مقيل «3» الكاهنة. قال ثم رجع إلى حديث عثمان وغيره قال: وبنى مسجد جماعتها ودوّن الدواوين ووضع الخراج على عجم إفريقية، وعلى من أقام معهم على النصرانيّة من البربر وعامّتهم من البرانس إلّا قليلا من البتر. وأقام حسّان بموضعه حتى استقامت له البلاد، ثم توجّه إلى عبد الملك بغنائمه فى جمادى الآخرة سنة ستّ وسبعين.
قال وحدثنا ابن بكير، حدثنا الليث بن سعد، قال: قفل حسّان بن النعمان من إفريقية سنة ثمان وسبعين.

(1/229)


فلما مرّ حسان ببرقة أمّر على خراجها إبراهيم بن النصرانى، ثم مضى، فمرّ بعبد العزيز بن مروان، وهو بمصر، ثم نفذ إلى عبد الملك، فسرّ عبد الملك بما أورد عليه حسان من فتوحه وغنائمه.
ويقال بل أخذ منه عبد العزيز كلّ ما كان معه من السبى، وكان قد قدم معه من وصائف البربر بشىء لم ير مثله جمالا، فكان نصيب الشاعر يقول: حضرت السبى الذي كان عبد العزيز أخذه من حسان مائتى جارية، منها ما يقام بألف دينار.
مقتل زهير بن قيس: قال وأغارت الروم بعد حسّان على أنطابلس، فهرب إبراهيم ابن النصرانىّ وخلّى أهل أنطابلس وأهل ذمّتها فى أيدى الروم، فرأسوها»
أربعين ليلة حتى أسرعوا فيها الفساد، وبلغ ذلك عبد العزيز بن مروان، فأرسل إلى زهير بن قيس، وكان خرج مع «2» حسان، فلما بلغ مصر أقام بها، فأمره عبد العزيز بالنهوض إلى الروم، ولم يجتمع لزهير من أصحابه إلا سبعون رجلا، وكان عارض من الصدف يقال له جندل بن صخر، وكان فظّا غليظا، فقال زهير لعبد العزيز بن مروان: أما إذ قد أمرتنى بالخروج فلا تبعثنّ معى جندلا عارضا، فيحبس علىّ الناس لشدّته وفظاظته، وكان عبد العزيز عاتبا على زهير بن قيس لأنه كان قاتله حين وجّهه أبوه مروان بن الحكم من ناحية أيلة من قبل أن يدخل مصر، فقال له: ما علمتك يا زهير إلا جلفا جافيا. فقال له زهير: ما كنت أرى يا بن ليلى أن رجلا جمع ما أنزل الله على محمد صلّى الله عليه وسلم من قبل أن يجتمع أبواك جلف جاف، ما هو بالجلف ولا الجاف، أنا منطلق فلا ردّنى الله إليك.
فخرج حتى إذا كان بدرنة من طبرقة من أرض أنطابلس، لقى الروم وهو فى سبعين رجلا، فتوقّف لتلحق به الناس، فقال له فتى شاب كان معه: جبنت يا زهير، فقال: ما جبنت يا بن أخى، ولكن قتلتنى وقتلت نفسك، فلقيهم، فاستشهد زهير وأصحابه جميعا، فقبورهم هنالك معروفة إلى اليوم.
وكان مقتل زهير وأصحابه كما حدثنا يحيى بن بكير عن الليث، فى سنة ستّ وسبعين.
قال: وكان بأملس من بريّة أنطابلس رجل من مذحج يقال له عطيّة بن يربوع

(1/230)


خرج بابن له هاربا من الوباء، وكان فى تلك البرّيّة جماعة من المسلمين، فاستغاثهم وركب فيمن حوله من الناس، فاجتمع إليه سبعمائة رجل، فزحف بهم إلى الروم، فقاتلوهم فهزموهم، واعتصموا بسفنهم، وهرب من بقى منهم.
وبلغ ذلك عبد العزيز بن مروان، فبعث إليها غلاما يقال له تليد، ووجّه معه ناسا من أشراف أهل مصر فضبطها.
حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، قال: أمّر على أنطابلس حين قتل زهير طارق، فثقل على الناس إمامة تليد بهم، لأنه عبد، فبلغ ذلك عبد العزيز بن مروان فأرسل إلى تليد بعتقه، وأقام بأنطابلس.
موسى بن نصير: وقدم حسّان بن النعمان من قبل عبد الملك متوجّها إلى المغرب، فلما قدم مصر قال لعبد العزيز: اكتب إلى عبدك بالإعراض عن أنطابلس، فقال له عبد العزيز: ما كنت لأفعل بعد إذ ضيّعتها فاستولت عليها الروم، فقال حسان: إذا أرجع إلى أمير المؤمنين. فقال عبد العزيز: ارجع، فانصرف حسان راجعا إلى عبد الملك، وخلّف ثقله بمصر، فقدم على عبد الملك وهو مريض، ووجّه عبد العزيز موسى بن نصير إلى المغرب، فأخبر حسّان عبد الملك بذلك، فخّر عبد الملك ساجدا، وقال: الحمد لله الذي أمكننى من موسى لشدّة أسفه عليه.
وكان عاملا لعبد الملك على العراق مع بشر بن مروان، فعتب عليه عبد الملك وأراد قتله، فافتداه منه عبد العزيز بمال لما رأى من عقل موسى بن نصير ولبّه، وكان عنده بمصر. ثم لم يلبث حسّان بن النعمان إلا يسيرا حتى توفّى، وقدم موسى بن نصير المغرب فى سنة ثمان وسبعين.
حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، قال: أمّر موسى بن نصير على إفريقية سنة تسع وسبعين.
فعزل أبا صالح، وافتتح عامّة المغرب، وواتر فتوحه كتب بها إلى عبد العزيز ابن مروان، وبعث بغنائمه وأنهاها عبد العزيز إلى عبد الملك، فسكّن ذلك من عبد الملك بعض ما كان يجد على موسى.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا الليث بن سعد، أن موسى بن نصير حين

(1/231)


غزا المغرب بعث ابنه مروان على جيش، فأصاب من السبى مائة ألف، وبعث ابن أخيه فى جيش آخر فأصاب مائة ألف. فقيل لليث بن سعد، من هم؟ فقال: البربر. فلما أتى كتابه بذلك «1» ، قال الناس: ابن نصير والله أحمق، من أين له عشرون ألفا يبعث بها إلى أمير المؤمنين فى الخمس؟ فبلغ ذلك موسى بن نصير فقال: ليبعثوا «2» من يقبض لهم عشرين ألفا.
ثم توفّى عبد الملك بن مروان، وكانت وفاته كما حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، يوم الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من شوّال سنة ستّ وثمانين، واستخلف الوليد بن عبد الملك، فتواترت فتوح المغرب على الوليد من قبل موسى ابن نصير، فعظمت منزلة موسى عنده، واشتدّ عجبه به.
ذكر فتح الأندلس
قال: ووجّه موسى بن نصير ابنه مروان بن موسى إلى طنجة مرابطا على ساحلها، فجهد هو وأصحابه، فانصرف، وخلّف على جيشه طارق بن عمرو، وكانوا ألفا وسبعمائة. ويقال بل كان مع طارق اثنى عشر ألفا من البربر إلّا ستّة عشر رجلا من العرب، وليس ذلك بالصحيح. ويقال إن موسى بن نصير خرج من إفريقية غازيا إلى طنجة، وهو أوّل من نزل طنجة من الولاة، وبها من البربر بطون من البتر والبرانس ممّن لم يكن دخل فى الطاعة، فلما دنا من طنجة بثّ السرايا فانتهت خيله إلى السوس الأدنى، فوطئهم وسباهم، وأدّوا إليه الطاعة، وولّى عليهم واليا أحسن فيهم السيرة، ووجّه بسر بن أبى أرطاة إلى قلعة من مدينة القيروان على ثلاثة أيّام، فافتتحها، وسبى الذرّيّة وغنم الأموال. قال: فسّميت قلعة بسر، فهى لا تعرف إلّا به إلى اليوم.
ثم إن موسى عزل الذي كان استعمله على طنجة، وولّى طارق بن زياد، ثم انصرف إلى القيروان، وكان طارق قد خرج معه بجارية له يقال لها أمّ حكيم، فأقام طارق هنالك مرابطا زمانا، وذلك فى سنة ثنتين وتسعين.
وكان المجاز الذي بينه وبين أهل الأندلس عليه رجل من العجم يقال له يليان صاحب سبتة، وكان على مدينة على المجاز إلى الأندلس يقال لها الخضراء-

(1/232)


والخضراء ممّا يلى طنجة- وكان يليان يؤدّى الطاعة إلى لذريق صاحب الأندلس، وكان لدريق يسكن طليطلة، فراسل طارق يليان ولاطفه حتى تهاديا «1» ، وكان يليان قد بعث بابنة له إلى لذريق صاحب الأندلس ليؤدّبها ويعلّمها فأحبلها، فبلغ ذلك يليان فقال لا أرى له عقوبة ولا مكافأة إلّا أن أدخل عليه العرب، فبعث إلى طارق: إنّى مدخلك الأندلس، وطارق يومئذ بتلمسين، وموسى بن نصير بالقيروان، فقال طارق: فإنى لا أطمئن إليك حتى تبعث إلىّ برهينة، فبعث إليه بابنتيه، ولم يكن له ولد غيرهما، فأقرّهما طارق بتلمسين، واستوثق منهما.
ثم خرج طارق إلى يليان وهو بسبته على المجاز، ففرح به حين قدم عليه وقال له: أنا مدخلك الأندلس، وكان فيما بين المجازين جبل يقال له اليوم جبل طارق، فيما بين سبتة والأندلس، فلما أمسى جاءه يليان بالمراكب، فحمله فيها إلى المجاز، فأكمن فيه نهاره، فلما أمسى ردّ المراكب إلى من بقى من أصحابه، فحملوا إليه حتى لم يبق منهم أحد، ولا يشعر بهم أهل الأندلس، ولا يظنّون إلّا أن المراكب تختلف بمثل ما كانت تختلف به من منافعهم.
وكان طارق فى آخر فوج ركب، فجاز إلى أصحابه، وتخلّف يليان ومن كان معه من التجّار بالخضراء، ليكون أطيب لأنفس أصحابه وأهل بلده.
وبلغ «2» خبر طارق ومن معه أهل الأندلس ومكانهم الذي هم به، وتوجّه طارق، فسلك بأصحابه على قنطرة من الجبل إلى قرية يقال لها قرطاجنّة، وزحف يريد قرطبة، فمرّ بجزيرة فى البحر، فخلّف بها جارية له يقال لها أمّ حكيم، ومعها نفر من جنده، فتلك الجزيرة من يومئذ تسمّى جزيرة أمّ حكيم.
وقد «3» كان المسلمون حين نزلوا الجزيرة، وجدوا بها كرّامين، ولم يكن بها غيرهم، فأخذوهم، ثم عمدا إلى رجل من الكرّامين فذبحوه، ثم عضّوه وطبخوه، ومن بقى من أصحابه ينظرون، وقد كانوا طبخوا لحما فى قدور أخر، فلما أدركت طرحوا ما كان طبخوه من لحم ذلك الرجل، ولا يعلم «4» بطرحهم له، وأكلوا اللحم

(1/233)


الذي كانوا طبخوه، ومن بقى من الكرّامين ينظرون إليهم، فلم يشكّوا أنهم أكلوا «1» لحم صاحبهم، ثم أرسلوا من بقى منهم، فأخبروا أهل الأندلس أنهم يأكلون لحم «2» الناس، وأخبروهم بما صنع بالكرّام.
قال: وكان بالأندلس كما حدثنا أبى عبد الله بن عبد الحكم وهشام بن إسحاق، بيت عليه أقفال لا يلى ملك منهم إلّا زاد عليه قفلا من عنده، حتى كان الملك الذي دخل عليه المسلمون، فإنهم أرادوه على أن يجعل عليه قفلا كما كانت تصنع الملوك قبله، فأبى، وقال: ما كنت لأضع عليه شيئا حتى أعرف ما فيه، فأمر بفتحه فإذا فيه صور العرب، وفيه كتاب إذا فتح هذا الباب دخل هؤلاء القوم هذا البلد.
ثم رجع إلى حديث عثمان وغيره قال: فلما جاز طارق تلقّته جنود قرطبة واجترأوا عليه للذى رأوا من قلّة أصحابه، فاقتتلوا، فاشتدّ قتالهم، ثم انهزموا، فلم يزل يقتلهم حتى بلغوا مدينة قرطبة.
وبلغ ذلك لذريق فزحف إليهم من طليطلة، فالتقوا بموضع يقال له شذونة على واد يقال له اليوم وادى أمّ حكيم، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل الله عزّ وجلّ لذريق ومن معه «3» .
وكان معتّب الرومىّ غلام الوليد بن عبد الملك على خيل طارق، فزحف معتّب الرومىّ يريد قرطبة، ومضى طارق إلى طليطلة فدخلها، وسأل عن المائدة، ولم يكن له همّ غيرها، وهى مائدة سليمان بن داود التى يزعم أهل الكتاب.
قال وحدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث بن سعد قال: فتح لموسى بن نصير الأندلس، فأخذ منها مائدة سليمان بن داود عليه السلام والتاج. فقيل لطارق: إن المائدة بقلعة يقال لها فراس، مسيرة يومين من طليطة، وعلى القلعة ابن أخت للذريق، فبعث إليه طارق بأمانه وأمان أهل بيته، فنزل إليه فأمّنه ووفى له، فقال له طارق: ادفع إلىّ المائدة، فدفعها إليه وفيها من الذهب والجوهر ما لم ير مثله.
فقلع «4» طارق رجلا من أرجلها بما فيها من الجوهر والذهب، وجعل لها رجلا

(1/234)


سواها، فقوّمت المائدة بمائتى ألف دينار لما فيها من الجوهر، وأخذ طارق ما كان عنده من الجوهر والسلاح والذهب والفضّة والآنية، وأصاب سوى ذلك من الأموال ما لم ير مثله، فحوى ذلك كلّه، ثم انصرف إلى قرطبة وأقام بها. وكتب إلى موسى بن نصير يعلّمه بفتح الأندلس، وما أصاب من الغنائم، فكتب موسى إلى الوليد بن عبد الملك يعلّمه بذلك، ونحله نفسه، وكتب موسى إلى طارق ألّا يجاوز قرطبة حتى يقدم عليه، وشتمه شتما قبيحا.
ثم خرج موسى بن نصير إلى الأندلس فى رجب سنة ثلاث وتسعين بوجوه العرب والموالى وعرفاء البربر، حتى دخل الأندلس، وخرج مغيظا على طارق، وخرج معه حبيب ابن أبى عبيدة الفهرىّ، واستخلف على القيروان ابنه عبد الله بن موسى، وكان أسنّ ولده، فأجاز من الخضراء، ثم مضى إلى قرطبة فتلقّاه طارق فترضّاه، وقال له: إنما أنا مولاك، وهذا الفتح لك، فجمع موسى من الأموال ما لا يقدر على صفته، ودفع طارق كلّ ما كان غنم إليه.
قال ويقال بل توجّه لذريق إلى طارق وهو فى الجبل «1» ، فلما انتهى إليه لذريق خرج إليه طارق، ولذريق يومئذ على سرير ملكه، والسرير بين بغلين يحملانه، وعليه تاجه وقفّازاه «2» ، وجميع ما كانت الملوك قبله تلبسه من الحلية.
فخرج إليه طارق وأصحابه رجّالة كلّهم ليس فيهم راكب، فاقتتلوا من حين بزغت الشمس إلى أن «3» غربت، وظنّوا أنه الفناء «4» ، فقتل الله لذريق ومن معه، وفتح للمسلمين، ولم يكن بالمغرب مقتلة قطّ أكثر منها فلم يرفع المسلمون السيف عنهم ثلاثة أيام، ثم ارتحل الناس إلى قرطبة.
قال ويقال إن موسى هو الذي وجّه طارقا بعد مدخله الأندلس إلى طليطلة، وهى النصف فيما بين قرطبة وأربونة، وأربونة أقصى ثغر الأندلس. وكان كتاب عمر بن عبد العزيز ينتهى إلى أربونة، ثم غلب عليها أهل الشرك فهى فى أيديهم اليوم، وأن طارق إنما أصاب المائدة فيها.

(1/235)


وكان لذريق يملك ألفى ميل من الساحل إلى ما وراء ذلك، وأصاب الناس غنائم كثيرة من الذهب والفضّة.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا الليث بن سعد، قال: إن كانت الطنفسة لتوجد «1» منسوجة بقضبان الذهب تنظم «2» السلسلة من الذهب باللؤلؤ والياقوت والزّبرجد، وكان البربر ربما وجدوها فلا يستطيعون حملها حتى يأتوا بالفأس، فيضرب وسطها، فيأخذ أحدهما نصفها والآخر نصفها لأنفسهم، وتسير معهم جماعة والناس مشتغلون «3» بغير ذلك.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا الليث بن سعد، قال: لمّا فتحت الأندلس جاء إنسان إلى موسى بن نصير فقال: ابعثوا معى أدلّكم على كنز، فبعث معه؛ فقال لهم الرجل: انزعوا هاهنا، فنزعوا. قال فسال عليهم من الزبرجد والياقوت شيئ لم يروا مثله قطّ، فلما رأوه تهيّبوه، وقالوا: لا يصدّقنا موسى بن نصير، فأرسلوا إليه حتى جاء ونظر إليه.
حدثنا عبد الملك حدثنا الليث بن سعد، أن موسى بن نصير حين فتح الأندلس كتب إلى [الوليد بن] «4» عبد الملك: إنها ليست بالفتوح، ولكنّه الحشر.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، قال: لما افتتحت الأندلس أصاب الناس فيها غنائم، فغلّوا فيها غلولا كثيرا، حملوه «5» فى المراكب وركبوا فيها، فلما وسطوا «6» البحر سمعوا مناديا يقول: اللهمّ غرّق بهم، فدعوا الله وتقلدوا المصاحف. قال فما نشبوا أن أصابتهم ريح عاصفة، وضربت المراكب بعضها بعضا حتى تكسّرت وغرق بهم.

(1/236)


وأهل مصر ينكرون ذلك ويقولون: إن أهل الأندلس ليس هم الذين غرقوا، وإنما هم أهل سردانية، وذلك أن أهل سردانية كما حدثنا سعيد بن عفير لما توجّه إليهم المسلون عمدوا إلى مينا لهم فى البحر، فسدّوه، وأخرجوا منه الماء، ثم قذفوا فيه آنيتهم من الذهب والفضّة، ثم ردّوا عليه الماء بحاله، وعمدوا إلى كنيسة لهم، فجعلوا لها سقفا من دون سقفها، وجعلوا ما كان لهم من مال بين السقفين.
فنزل رجل من المسلمين يغتسل فى ذلك الموضع الذي سكّروه «1» ، ثم أعادوا عليه الماء، فوقعت رجله على شىء فأخرجه، فإذا صحفة من فضّة، ثم غاص أيضا فأخرج شيئا آخر، فلما علم المسلمون بذلك حبسوا عنه الماء، وأخذوا جميع تلك الآنية، ودخل رجل من المسلمين ومعه قوس بندق إلى تلك الكنيسة التى رفعوا بين سقفيها مالهم، فنظر إلى حمام فرماه ببندقه، فأخطأه، وأصاب شبحة خشب، فكسرها، وانهال عليهم المال، فغلّ المسلمون يومئذ غلولا كثيرا. فإن كان الرجل ليأخذ الهرّ فيذبحها ويرمى بما فى جوفها ثم يحشوه مما غلّ، ثم يخيط عليه ويرمى بها إلى الطريق، ليتوهّم من رآها أنها ميتة، فإذا خرج أخذها. وإن كان الرجل ينزع «2» نصل سيفه فيطرحه ويملأ الجفن غلولا ويضع قائم «3» السيف على الجفن.
فلما ركبوا السفن وتوجّهوا سمعوا مناديا ينادى، اللهمّ غرّق بهم؛ فتقلّدوا المصاحف فغرقوا جميعا إلا أبو عبد الرحمن «4» الحبلى، وحنش بن عبد الله السبائىّ، فإنهما لم يكونا نديا من الغلول بشىء.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة، قال: سمعت أبا الأسود، قال:
سمعت عمرو بن أوس، يقول: بعثنى موسى بن نصير أفتش أصحاب عطاء بن رافع مولى هذيل حين انكسرت مراكبهم، فكنت ربّما وجدت الإنسان قد خبأ الدنانير «5» فى خرقة فى شىء بين خصيتيه، قال: فمرّ بى إنسان متّكئا على قصبة، فذهبت أفتشه، فنازعنى، فغضبت، فأخذت القصبة فضربته بها فانكسرت، وانتثرت الدنانير منها، فأخذت أجمعها.

(1/237)


حدثنا عبد الملك، حدثنا الليث بن سعد، قال: بلغنى أن رجلا فى غزوة عطاء بن رافع أو غيره بالمغرب غلّ، فتحمّل «1» بها حتى جعلها فى زفت، فكان يصيح عند الموت، من الزفت من الزفت.
قال: وأخذ موسى بن نصير طارق بن عمرو، فشدّه وثاقا وحبسه، وهمّ بقتله، وكان معتّب الرومىّ غلاما للوليد بن عبد الملك، فبعث إليه طارق: إنك إن رفعت أمرى إلى الوليد، وأنّ فتح الأندلس كان على يدىّ، وأن موسى حبسنى، يريد «2» قتلى، أعطيتك مائة عبد، وعاهده على ذلك. فلمّا أراد معتب الانصراف ودّع موسى بن نصير وقال له:
لا تعجّل على طارق ولك أعداء، وقد بلغ أمير المؤمنين أمره، وأخاف عليك وجده، فانصرف معتب وموسى بالأندلس.
فلما قدم معتب على الوليد أخبره بالذى كان من فتح الأندلس على يدى طارق، وبحبس موسى إيّاه، والذي أراد به من القتل، فكتب الوليد إلى موسى يقسم له بالله لئن ضربته لأضربنّك، ولئن قتلته لأقتلّن ولدك به، ووجّه الكتاب مع معتب الرومى، فقدم به على موسى الأندلس، فلما قرأه أطلق طارقا وخلّى سبيله، ووفى طارق لمعتب بالمائة العبد الذي كان جعل له.
وخرج موسى بن نصير من الأندلس بغنائمه وبالجوهر والمائدة، واستخلف على الأندلس ابنه عبد العزيز بن موسى، وكانت إقامة موسى بالأندلس سنة ثلاث وتسعين وأربع وتسعين وأشهرا «3» من سنة خمس وتسعين، فلما قدم موسى إفريقية، كتب إليه الوليد بن عبد الملك بالخروج إليه، فخرج، واستخلف على إفريقية ابنه عبد الله بن موسى، وسار موسى بتلك الغنائم والهدايا حتى قدم مصر، ومرض الوليد بن عبد الملك، فكان يكتب إلى موسى يستعجله، ويكتب إليه سليمان بالمكث والمقام ليموت «4» الوليد، ويصير ما مع موسى إليه. وخرج موسى حتى إذا كان بطبريّة أتته وفاة الوليد، فقدم على سليمان بتلك الهدايا، فسرّ سليمان بذلك.

(1/238)


ويقال: إن موسى بن نصير حين قدم من الأندلس لم ينزل القيروان، خلّفها ونزل قصر الماء «1» ، وضحّى هنالك، ثم شخص وشخص معه طارق.
حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، عن الليث بن سعد قال: قفل موسى بن نصير وافدا إلى أمير المؤمنين فى سنة ستّ وتسعين، ودخل الفسطاط يوم الخميس لست ليال بقين من شهر ربيع الأوّل.
ثم رجع إلى حديث عثمان بن صالح وغيره، وقال: فبينا»
سليمان يقلّب «3» تلك الهدايا إذ انبعث رجل من أصحاب موسى بن نصير يقال له عيسى بن عبد الله الطويل من أهل المدينة، وكان على الغنائم، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أغناك بالحلال عن الحرام، وإنى صاحب هذه المقاسم؛ وأن موسى لم يخرج خمسا من جميع ما أتاك به، فغضب سليمان وقام عن سريره، فدخل منزله، ثم خرج إلى الناس فقال: نعم، قد أغنانى الله بالحلال عن الحرام، وأمر بإدخال ذلك بيت المال «4» ، وقد كان سليمان قد أمر موسى بن نصير برفع حوائجه وحوائج من معه، ثم الانصراف إلى المغرب.
قال ويقال بل قدم موسى بن نصير على الوليد بن عبد الملك، والوليد مريض، فأهدى إليه موسى المائدة، فقال طارق: أنا أصبتها، فكذّبه موسى. فقال للوليد: فادع بالمائدة، فانظر هل ذهب منها شىء. فدعا بها الوليد، فنظر فإذا برجل من أرجلها لا تشبه الرجل الأخرى، فقال له طارق: سله يا أمير المؤمنين، فإن أخبرك؛ بما تستدل «5» به على صدقه فهو صادق، فسأله الوليد عن الرجل، فقال: هكذا أصبتها. فأخرج طارق الرجل التى كان أخذ منها حين أصابها فقال: يستدلّ أمير المؤمنين بها على صدق ما قلت له، وأنى أصبتها، فصدّقه الوليد، وقبل قوله، وأعظم جائزته.
ثم رجع إلى حديث عثمان وغيره قال: وكان عبد العزيز بن موسى بعد خروج

(1/239)


أبيه قد تزوّج امرأة نصرانية، بنت ملك من أهل الأندلس يقال إنها «1» ابنة لذريق ملك الأندلس الذي قتله طارق، فجاءته من الدنيا بشىء كثير لا يوصف. فلما دخلت عليه قالت: ما لى لا أرى أهل مملكتك يعظّمونك ولا يسجدون لك كما كان أهل مملكة أبى يعظّمونه ويسجدون له؟ فلم يدر ما يقول لها، فأمر بباب فنقب له فى ناحية قصره، وجعله «2» قصيرا، وكان يأذن للناس فيدخل الداخل إليه من الباب حين يدخل منكّسا رأسه لقصر الباب، وهى فى موضع تنظر إلى الناس منه، فلما رأت ذلك قالت لعبد العزيز: الآن قوى ملكك.
وبلغ الناس أنه إنما نقب الباب لهذا، وزعم بعض الناس أنها نصّرته، فثار به حبيب ابن أبى عبيدة الفهرىّ وزياد بن النابغة التميمى وأصحاب لهم من قبائل العرب، واجتمعوا «3» على قتل عبد العزيز للذى بلغهم من أمره، وأتوا إلى مؤذّنه فقالوا: أذّن بليل لكى نخرج إلى الصلاة، فأذّن المؤذّن ثم ردّد التّثويب، فخرج عبد العزيز، فقال لمؤذّنه:
لقد عجلت وأذّنت بليل.
ثم توجه إلى المسجد وقد اجتمع له أولئك النفر وغيرهم ممن حضر الصلاة، فتقدّم عبد العزيز وافتتح يقرأ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ خافِضَةٌ رافِعَةٌ
«4» فوضع حبيب السيف على رأس عبد العزيز، فانصرف هاربا حتى دخل داره، فدخل جنانا له واختبأ فيه تحت شجرة، وهرب حبيب بن أبى عبيدة وأصحابه، واتّبعه زياد ابن النابغة، فدخل على أثره، فوجده تحت الشجرة؛ فقال له عبد العزيز: يا ابن النابغة نجّنى ولك ما سألت، فقال لا تذوق الحياة بعدها، فأجهز عليه واحتزّ رأسه، وبلغ ذلك حبيبا وأصحابه فرجعوا.
ثم خرجوا برأس عبد العزيز إلى سليمان بن عبد الملك، وأمّروا على الأندلس أيّوب ابن أخت موسى بن نصير، ومرّوا على القيروان وعليها عبد الله بن موسى بن نصير، فلم يعرض لهم، وساروا حتى قدموا على سليمان برأس عبد العزيز بن موسى فوضعوه

(1/240)


بين يديه، وحضر موسى بن نصير فقال له سليمان: أتعرف هذا؟ قال: نعم، أعلمه صوّاما قوّاما، فعليه لعنة الله إن كان الذي قتله خيرا منه.
وكان قتل عبد العزيز بن موسى كما حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، عن الليث ابن سعد، فى سنة سبع وتسعين.
قال وكان سليمان عاتبا على موسى بن نصير فدفعه إلى حبيب بن أبى عبيدة وأصحابه ليخرجوا به إلى إفريقية، فاستغاث بأيّوب بن سليمان فأجاره، وشفع له إلى أبيه.
ويقال إن سليمان أخذ موسى بن نصير فغرم له مائة ألف دينار وألزمه ذلك، وأخذ ما كان له، فاستجار «1» بيزيد بن المهلّب، فاستوهبه من سليمان فوهبه له وماله، وردّ ذلك عليه ولم يلزمه شيئا.
ومكث أهل الأندلس بعد ذلك سنين لا يجمعهم وال.
وعزم سليمان على الحجّ فأخرج موسى بن نصير على نصب حجره، فخرج حتى إذا كان بالمرّ «2» توفّى. وكانت وفاته فى سنة سبع وتسعين فيما حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد.
ثم ولى إفريقية محمد بن يزيد القرشىّ، ولّاه سليمان بن عبد الملك بمشورة رجاء ابن حيوة، وصرف عبد الله بن موسى سنة ستّ وتسعين.
حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث، قال: أمّر محمد بن يزيد على. إفريقية سنة سبع وتسعين، فلم يزل محمد بن يزيد واليا حتى توفّى سليمان بن عبد الملك.
وكانت وفاته كما حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، يوم الجمعة لعشر ليال بقين من صفر سنة تسع وتسعين. فعزل وولى مكانه إسماعيل بن عبيد الله فى المحرّم سنة مائة على حربها وخراجها وصدقاتها، وكان حسن السيرة، ولم يبق فى ولايته يومئذ من البربر أحد إلّا أسلم، فلم يزل واليا عليها حتى توفّى عمر بن عبد العزيز.
وكانت وفاته كما حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، يوم الجمعة لعشر

(1/241)


ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة. فعزل وولى مكانه يزيد بن أبى مسلم كاتب الحجّاج، ولّاه يزيد بن عبد الملك فى سنة إحدى ومائة.
وعبد الله بن موسى بن نصير يومئذ بالمشرق، فقدم مع يزيد بن أبى مسلم إلى إفريقية، حتى إذا كان قريبا منها تلقّاه الناس، فلما دخل القيروان عزم يزيد بن أبى مسلم على عبد الله بن موسى بن نصير أن ينصرف إلى منزله، فمضى عبد الله إلى داره، وأمر يزيد الناس باتّباعه حتى ظنّوا «1» أنه شريك معه، فلما أدبر عبد الله ألحقه يزيد رسولا بأن أعدّ من مالك عطاء الجند خمس سنين.
ثم إنّ يزيد بن أبى مسلم أخذ موالى موسى بن نصير من البربر، فوشم أيديهم وجعلهم أخماسا، وأحصى أموالهم وأولادهم، ثم جعلهم حرسه وبطانته، وأخذ محمد بن يزيد القرشى فعذّبه وجلده جلدا وجيعا فاستسقاه فسقاه رمادا، وكان محمد بن يزيد قد ولى عذاب يزيد بن أبى مسلم بالمشرق فى زمان الحجّاج، فقال له يزيد: إذا أصبحت عذبتك حتى تموت أو أموت قبلك، وكان قد بنى له فى السجن بيتا ضيّقا فجعله فيه، وكساه جبّة صوف غليظة، وطبع عليها بخاتم من رصاص.
فلما تعشّى يزيد بن أبى مسلم أتى فى آخر طعامه بعنب، فتناول منه عنقودا، وأهوى إليه رجل من حرسه يقال له حريز بالسيف فضربه، حتى قتله، واحتزّ رأسه ورمى به فى المسجد عتمة، فأقبل غلام لمحمد بن يزيد، فدخل عليه السجن فقال: أبشر فإن يزيد قد قتل، فقال له محمد: قد كذبت، وظنّ أنه دسّ إليه، ثم اتّبعه آخر من غلمانه ثم آخر، حتى توافوا سبعة، فلما تيقّن محمد بموت يزيد أعتق العبيد.
قال ويقال بل كان حرس يزيد بن أبى مسلم حين قدم البربر ليس فيهم إلّا بترى، وكانوا هم حرس الولاة قبله البتر خاصّة، ليس فيهم من البرانس أحد فخطب يزيد بن أبى مسلم الناس فقال: إنى إن أصبحت صالحا وشمت حرسى فى أيديهم كما تصنع الروم، فأشم فى يد الرجل اليمنى اسمه، وفى اليسرى حرسى، فيعرفوا بذلك من غيرهم، فأنفوا من ذلك، ودبّ بعضهم إلى بعض فى قتله، وخرج من ليلته إلى المسجد لصلاة المغرب فقتلوه فى مصلّاه. وكان قتله كما حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد فى سنة ثنتين ومائة.

(1/242)


فلما قتل يزيد بن أبى مسلم، اجتمع الناس فنظروا فى رجل يقوم بأمرهم إلى أن يأتى رأى يزيد بن عبد الملك، فتراضوا بالمغيرة بن أبى بردة القرشى ثم أحد بنى عبد الدار، فقال له عبد الله ابنه أيّها الشيخ إنّ هذا الرجل قتل بحضرتك، فإن قمت بهذا الأمر بعده لم آمن عليك أن يلزمك أمير المؤمنين قتله، فقبل ذلك الشيخ، فاجتمع رأى أهل إفريقية على محمد بن أوس الأنصارىّ، وكان بتونس على غزو بحرها «1» ، فأرسلوا إليه فولّوه أمرهم، وكتب إلى يزيد يخبره «2» بما كان، فبعث فى ذلك خالد بن أبى عمران وهو من أهل تونس، فقدم على يزيد فقبل منهم «3» وعفا عمّا كان من زلّتهم.
قال خالد بن أبى عمران: ودعانى يزيد خاليا فقال: أىّ رجل محمد بن أوس؟
فقلت: رجل من أهل الدين والفضل، معروف بالفقه، قال: فما كان بها قرشى؟ قلت بلى، المغيرة بن أبى بردة، قال: قد عرفته، فما له لم يقم؟ قلت أبى ذلك وأحبّ العزلة، فسكت.
واتّهم الناس عبد الله بن موسى بن نصير أن يكون هو الذي عمل فى قتل يزيد بن أبى مسلم، فولّى يزيد بن عبد الملك بشر بن صفوان الكلبى إفريقية وذلك فى سنة ثنتين ومائة وكان عامله على مصر، فخرج إلى إفريقية، واستخلف على مصر أخاه حنظلة، فلما دخل إفريقية بلغه أن عبد الله بن موسى هو الذي دسّ لقتل يزيد بن أبى مسلم، وشهد على ذلك خالد بن أبى حبيب القرشىّ وغيره، فكتب بشر إلى يزيد بن عبد الملك، فكتب يزيد إلى بشر بن صفوان يأمره بقتل عبد الله بن موسى بن نصير، وهمّ بشر بتأخيره أيّاما، فقال خالد بن أبى حبيب ومحمد بن أبى بكير لبشر بن صفوان: عجّل بقتله من قبل أن تأتيه «4» عافيته من أمير المؤمنين.
وكانت أمّ عبد الله ابنة موسى بن نصير تحت الربيع صاحب خاتم يزيد. فكلّم يزيد فأمر بعافيته، وجعلت أخته للرسول ثلاثة آلاف دينار إن هو أدركه، وأمر بشر بقتل عبد الله بن موسى فقتل، وقدم الرسول بعافيته بعد أن قتله فى ذلك اليوم، وبعث برأسه مع سليمان بن وعلة التميمى إلى يزيد، فنصبه.

(1/243)


ثم وفد بشر بن صفوان إلى يزيد بهدايا كان أعدّها له، حتى إذا كان ببعض الطريق لقيته وفاة يزيد؛ وكانت وفاته كما حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، ليلة الجملة لأربع ليال بقين من شعبان سنة خمس ومائة.
وقدم بشر بتلك الهدايا على هشام بن عبد الملك فردّه على إفريقية، فقدمها، وتتبّع أموال موسى بن نصير، وعذّب عمّاله، وولّى على الأندلس عنبسة بن سحيم الكلبى، وعزل عنها الحرّ بن عبد الرحمن القيسى، وقد كان بشر غزا البحر من إفريقية، فأصابهم الهول، فهلك لذلك من جيشه خلق كثير «1» ، ثم توفّى بشر بن صفوان من مرض يقال له الدبيلة فى شوّال سنة تسع ومائة.
حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، قال: نزع بشر بن صفوان عن «2» إفريقية فى سنة خمس ومائة، وردّ إليها فى سنة ست ومائة، ومات فى سنة تسع ومائة.
واستخلف بشر بن صفوان حين توفّى على إفريقية نغاش بن قرط الكلبى، فعزله هشام، وولّى عبيدة بن عبد الرحمن القيسى على إفريقية فى صفر سنة عشر ومائة.
حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، عن الليث، قال: وولىّ عبيدة بن عبد الرحمن إفريقية فى المحرّم سنة عشر ومائة، فلما قدم عبيدة إفريقية وجّه المستنير ابن الحبحاب الحرشىّ غازيا إلى صقليّة، فأصابتهم ريح فغرقتهم، ووقع المركب الذي كان فيه المستنير إلى ساحل أطرابلس، فكتب عبيدة بن عبد الرحمن إلى عامله على أطرابلس يزيد بن مسلم الكندى، يأمره أن يشدّه وثاقا ويبعث معه ثقة، فبعث به «3» فى وثاق، فلما قدم على عبيدة جلده جلدا «4» وجيعا وطاف به القيروان على أتان، ثم جعل يضربه فى كل جمعة مرّة حتى أبلغ إليه، وذلك أن المستنير أقام بأرض الروم حتى نزل عليه الشتاء، واشتدّت أمواج البحر وعواصفه، فلم يزل محبوسا عنده.
وكان عبيدة قد ولّى عبد الرحمن بن عبد الله العكّىّ على الأندلس، وكان رجلا صالحا، فغزا عبد الرحمن إفرنجة، وهم أقاصى عدوّ الأندلس فغنم غنائم كثيرة، وظفر

(1/244)


بهم، وكان فيما أصاب رجل من ذهب مفصّصة «1» بالدرّ والياقوت والزّبرجد، فأمر بها فكسرت، ثم أخرج الخمس، وقسم سائر ذلك فى المسلمين الذين كانوا معه، فبلغ ذلك عبيدة، فغضب غضبا شديدا، فكتب إليه كتابا يتواعده فيه، فكتب إليه عبد الرحمن: إنّ السماوات والأرض لو كانتا رتقا لجعل الرحمن للمتّقين منهما مخرجا، ثم خرج إليهم أيضا غازيا فاستشهد وعامّة أصحابه؛ وكان قتله فيما حدثنا يحيى عن الليث فى سنة خمس عشرة ومائة.
فولّى عبيدة على الأندلس بعده عبد الملك بن قطن، ثم خرج عبيدة إلى هشام بن عبد الملك، وخرج معه بهدايا وذلك فى شهر رمضان سنة أربع عشرة ومائة.
حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، قال: كان قدوم عبيدة بن عبد الرحمن من إفريقية سنة خمس عشرة ومائة، وفيها أمّر ابن قطن على الأندلس.
وكان فيما خرج به من العبيد والإماء ومن الجوار المتخيّرة سبعمائة جارية، وغير ذلك من الخصيان والخيل والدوابّ والذهب والفضّة والآنية.
واستخلف على إفريقية حين خرج عقبة بن قدامة التجيبىّ فقدم على هشام بهداياه «2» واستعفاه فأعفاه، وكتب إلى عبيد الله بن الحبحاب وهو عامله على مصر يأمره بالمصير «3» إلى افريقية، وولّاه إياها وذلك فى شهر ربيع الآخر من سنة ستّ عشرة ومائة.
فقدم عبيد الله بن الحبحاب إفريقية فأخرج المستنير من السجن وولّاه تونس، واستعمل ابنه إسماعيل بن عبيد الله على السّوس، واستخلف ابنه القاسم بن عبيد الله على مصر، واستعمل على الأندلس عقبة بن الحجّاج، وعزل عبد الملك بن قطن.
ويقال بل كان الوالى على الأندلس يومئذ عنبسة بن سحيم الكلبى، فعزله ابن الحبحاب، وولّى عقبة بن الحجاج، فهلك عقبة بن الحجاج بالأندلس، فردّ عبيد الله عليها عبد الملك بن قطن.
وغزّى عبيد الله حبيب بن أبى عبيدة الفهرى السّوس وأرض السودان، فظفر بهم

(1/245)


ظفرا لم ير مثله، وأصاب ما شاء من ذهب، وكان فيما أصاب جارية أو جاريتان من جنس تسمّيه البربر إجّان، ليس لكلّ واحدة منهنّ إلّا ثدى واحد «1» ثم غزّاه أيضا البحر، ثم انصرف.
وانتقضت البربر على عبيد الله بن الحبحاب بطنجة، فقتلوا عامله عمر بن عبد الله المرادى، وكان الذي تولّى ذلك ميسرة الفقير البربرىّ ثم المدغرىّ، وهو الذي قام بأمر البربر وادّعى الخلافة وتسمّى بها وبويع عليها، ثم استعمل ميسرة على طنجة عبد الأعلى بن جريج الإفريقى، وكان أصله روميا وهو مولّى لابن نصير.
ثم سار إلى السّوس وعليها إسماعيل بن عبيد الله فقتله، وذلك أوّل فتنة البربر بأرض إفريقية.
فوجّه عبيد الله بن الحبحاب خالد بن أبى حبيب الفهرى إلى البربر بطنجة، ومعه وجوه أهل إفريقية من قريش والأنصار وغيرهم، فقتل خالد وأصحابه لم ينج منهم أحد، فسمّيت تلك الغزوة غزوة الأشراف. ويقال إن خالدا لقى ميسرة دون طنجة، فقتل ومن معه.
ثم انصرف ميسرة إلى طنجة، فأنكرت عليه البربر سيرته وتغيّره عمّا كانوا بايعوه عليه، فقتلوه، وولّوا أمرهم عبد الملك بن قطن المحاربىّ.
حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، قال: كان بين ميسرة الفقير وأهل إفريقية من البربر «2» .... وقتل إسماعيل بن عبيد الله وخالد بن أبى حبيب فى سنة ثلاث وعشرين ومائة.
فوجّه إليهم ابن «3» الحبحاب حبيب بن أبى عبيدة، فلما بلغ تلمسين أخذ موسى ابن أبى خالد مولى لمعاوية بن حديج، وكان على تلمسين، وقد اجتمع إليه من تمسّك بالطاعة، فاتّهمه حبيب أن يكون له هوّى أو قد دسّ للفتنة، فقطع يده ورجله، وكان مقيما بتلمسين فى جيشه، وقفل عبيد الله بن الحبحاب إلى هشام بن عبد الملك وذلك فى جمادى الأولى من سنة ثلاث وعشرين ومائة.

(1/246)


ثم وجّه هشام على إفريقية كلثوم بن عياض القيسى فى جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقدّم بلج بن بشر أمامه، فلما قدم كلثوم إفريقية أمر أهل إفريقية بالجهاز «1» والخروج معه إلى البربر، وقطع على أهل أطرابلس بعثا فخرج فى عدد كثير، واستخلف على القيروان عبد الرحمن بن عقبة الغفارى، وعلى الحرب مسلمة بن سوادة القرشى، فثار عليه بعد خروج كلثوم يريد بربر طنجة، عكّاشة بن أيّوب الفزارى من ناحية قابس، وهو صفرىّ، وأرسل أخا له، فقدم سبرت، فجمع بها زناتة، وحصر أهل سوق سبرت فى مسجدهم، وعليهم حبيب بن ميمون.
وبلغ الخبر صفوان بن أبى مالك وهو أمير على أطرابلس، فخرج بهم، فوقع على أخى الفزارى وهو محاصر أهل سبرت، فقاتلهم، فانهزم الفزارى وقتل أصحابه من زنانة وغيرهم، وهرب إلى أخيه بقابس.
وخرج مسلمة بن سوادة فى أهل القيروان إلى عكّاشة بن أيّوب بقابس، فقاتلهم، فانهزم مسلمة وقتل عامّة «2» من خرج معه، ولحق بالقيروان، وتحصّن عامّة من كان مع مسلمة من أهل القيروان وعليهم سعيد بن بجرة الغسّانى.
ويقال إن كلثوم بن عياض حين قدم من عند هشام خلّف القيروان ولم ينزل به ولم يدخله، ونزل «3» سبيبة، وهى من مدينة القيروان على يوم، فأفطر فيها، وكتب إلى حبيب بن أبى عبيدة ألّا يفارق عسكره حتى يقدم عليه، ثم شخص كلثوم غازيا حتى قدم على حبيب، ثم رحلا «4» جميعا بمن معهما إلى طنجة.
وكان كلثوم حين خرج إلى البربر قد قدّم بلج بن بشر القيسى على مقدّمته «5» فى الخيل، فلما قدم على حبيب رفضة وأهان منزلته، ثم قدم كلثوم فتلقّاه حبيب فتهاون به أيضا، ثم خطب كلثوم الناس على ديدبان له فطعن فى «6» حبيب وشتمه وأهل بيته. وكان عبد الرحمن بن حبيب مع أبيه حبيب.

(1/247)


ثم نفذ كلثوم وحبيب، فلما انتهى إلى مطلوبه من أرض طنجة تلقّته البربر بجموعهم، وعليهم خالد بن حميد الزناتى ثم الهتورىّ عراة متجرّدين، ليس عليهم الا السراويلات، وكانوا صفريّة، وجاءوا جردين، فأشار حبيب بن أبى عبيدة على كلثوم أن يقاتلهم الرجّالة بالرجّالة، والخيل بالخيل، فقال له كلثوم: ما أغنانا عن رأيك يا بن أمّ حبيب.
فوجّه بلج بن بشر على الخيل ليدوسهم بها، وكانت الخيل أوثق فى نفس كلثوم من الرجّالة. وأن بلجا أسرى ليله «1» حتى واقعهم»
عند الصبح، واستقبلوه عراة متجرّدين، فحملت عليهم الخيل فصاحوا وولّوا ورموا بالأوصاف، فانهزم بلج جريحا، وتساقطت الخيول على كلثوم وقد تأهّب وعبّى أصحابه، فأرسل إلى حبيب بن أبى عبيدة فقال: إنّ أمير المؤمنين أمرنى أن أولّيك القتال، وأعقد لك على الناس. فقال حبيب: قد فات الأمر.
وزحفت رجّالة البربر على أثر الخيل حتى خالطوا كلثوما وأصحابه، فأقسم حبيب على ابنه عبد الرحمن إلا ينزل راجلا، وأن يلزم بلجا فيكون معه أسفا على بلج، فإنّى مقتول، وهلك كلثوم وحبيب ومن معهما، وانهزم الناس إلى إفريقية. وكان قتل كلثوم فى سنة ثلاث وعشرين ومائة.
حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، قال: قتل كلثوم فى سنة أربع وعشرين ومائة، قتلهم «3» ميسرة، وانهزم بلج بن بشر وثعلبة الجذامى وبقيّة من أهل الشأم إلى الأندلس، فاتّبعهم أبو يوسف الهوّارىّ وكان طاغية من طواغى البربر فأدركهم، فقاتلهم، فقتل أبو يوسف، وانهزم أصحابه، ومضى بلج وثعلبة الى الأندلس.
وكان كلثوم قد كتب إلى أهل الأندلس وعليها عبد الملك بن قطن الفهرىّ، يأمرهم بإمداده والخروج إليه، فوافاهم بلج وقد وقعوا إلى مجاز الخضراء. وتقدّم عبد الرحمن بن حبيب أمام بلج إلى الأندلس، فقدمها، وأمر عبد الملك بن قطن ألّا يسمع لبلج ولا يطيعه، ثم قدم بلج فأقام بالجزيرة، وكتب إلى عبد الملك بن قطن يعلمه أنه

(1/248)


خليفة كلثوم، وشهد له بذلك ثعلبة الجذامى وأصحابه، وكان الرسول فيما بينهما قاضى الأندلس، فسلّم عبد الملك بن قطن الولاية لبلج على كره من عبد الرحمن بن حبيب، فخرج عبد الرحمن من قرطبة كارها لولاية بلج.
ثم إنّ بلجا لمّا قدم قرطبة حبس عبد الملك بن قطن فى السجن، وثار عبد الرحمن ابن حبيب ومعه أميّة بن عبد الملك بن قطن، فجمعا لقتال بلج، فأخرج بلج عبد الملك ابن قطن من السجن، وقال له: قم فى المسجد فأخبر الناس أن كلثوما كتب إليك أنى خليفته، فقام عبد الملك فقال: أيّها الناس، إنّى والى كلثوم وإنى محبوس بغير حقّ، فضرب بلج عنقه.
ثم قدم عبد الرحمن بن حبيب بجموع، فخرج إليه بلج ومن معه من أهل الشأم، وكان بينهم نهر، فلمّا كان الليل عبر عبد الرحمن إلى قرطبة، وخليفة بلج بها القاضى، وقد كان القاضى اتّهم بدم عبد الملك بن قطن، فأخذه عبد الرحمن بن حبيب فسمل عينيه، وقطع يديه ورجليه، وضرب عنقه وصلبه على شجرة، وجعل على جثّته رأس خنزير، وبلج لا يشعر، ثم خرج من قرطبة فقاتله بلج، فانهزم عبد الرحمن بن حبيب، ثم جمع جمعا آخر فقتل بلج ومن معه.
ويقال إن بلجا لم يقتل، إنما مات موتا.
حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، قال: مات بلج فى سنة خمس وعشرين ومائة، بعد قتله ابن قطن بشهر.
ثم افترق أهل الأندلس على أربعة أمراء، حتى أرسل إليهم حنظلة بن صفوان الكلبى بأبى الخطّار الكلبى فجمعهم، وسأذكر ذلك فى موضعه إن شاء الله.
وقد كان كلثوم بن عياض كتب إلى عامله على أطرابلس صفوان بن أبى مالك يستمدّه، فخرج إليه بأهل أطرابلس حتى قدم قابس، فانتهى إليه خبر كلثوم ومن معه، فانصرف، وقد كان خرج إليه سعيد بن بجرة ومن تحصّن معه من أصحاب مسلمة ابن سوادة الجذامى، وتنحّى الفزارى إلى نهر يقال له الجمّة على اثنى عشر ميلا من قابس، فلما رجع صفوان بن أبى مالك تحصّن سعيد بن بجرة وأصحابه بقابس. وخرج عبد الرحمن بن عقبة الغفارى فى أهل القيروان إلى الفزارى، فلقيه فيما بين قابس وبين القيروان، فانهزم الفزارى وقتل عامّة أصحابه.
ثم وجّه هشام بن عبد الملك حنظلة بن صفوان فى صفر سنة أربع وعشرين ومائة،

(1/249)


وكان عامله على مصر، فلما قدم إفريقية كتب إليه أهل الأندلس وأهل الشأم وغيرهم يسألونه أن يبعث إليهم واليا، فبعث أبا الخطّار، فلما قدمها أدّوا إليه الطاعة، فوليها ودانت له، وفرق جمع بلج بن بشر وعبد الرحمن بن حبيب، وأخرج ثعلبة بن سلامة فى سفينة إلى إفريقية، ثم أخرج بعده عبد الرحمن بن حبيب، وأخرج مع ثعلبة أهل الشأم، فكانوا بالقيروان مع حنظلة.
ثم إن حنظلة بن صفوان أخرج عبد الرحمن بن عقبة الغفارى إلى عكّاشة بن أيّوب الفزارى، وقد جمع جمعا بعد انهزامه من قابس، فلقيه بمن معه، فانهزم الفزارى وقتل عامّة أصحابه، ثم جمع أيضا فلقيه عبد الرحمن بن عقبة فهزمه، ثم جمع جمعا آخر، وقدم عبد الواحد بن يزيد الهوّارى ثم المدهمى وكان صفريّا مجامعا للفزارى على قتال حنظلة بن صفوان، فخرج إليهما عبد الرحمن بن عقبة فى أهل إفريقية، فقتل عبد الرحمن بن عقبة وأصحابه، وكان مقتل عبد الرحمن بن عقبة كما حدثنا يحيى ابن بكير، عن الليث، فى سنة أربع وعشرين ومائة.
ثم مضى عبد الواحد بن يزيد فأخذ تونس واستولى عليها، وسلّم عليه بالخلافة، ثم تقدّم إلى القيروان، وانتبذ الفزارىّ بعسكره ناحية وكلاهما يريد القيروان يتبادران إليها أيّهما يسبق صاحبه فيغنم، فلمّا رأى حنظلة ما غشيهم من جموع البربر مع الفزارى وعبد الواحد احتفر على القيروان خندقا، وزحف إليهم عبد الواحد، وكتب إلى حنظلة يأمره أن يخلّى له القيروان ومن فيه، فأسقط فى أيديهم، وظنّوا أنهم سيسبوا، حتى إن كان حنظلة ليبعث الرسول «1» منهم «2» ليأتيه بالخبر فما يخرج إلى مسيرة ثلاثة أميال «3» إلّا بخمسين دينارا.
فلما غشيه عبد الواحد وكان من القيروان على شبيه بمرحلة بمكان يقال له الأصنام، ونزل الفزارى من القيروان على ستّة أميال، وكان مع عبد الواحد أبو قرّة العقيلى وكان على مقدّمته، فكتب حنظلة إلى الفزارى كتابا يرثّيه «4» فيه ويمنّيه، رجاء ألا يجتمعا عليه فلا يقوى عليهما، وخاف اجتماعهما.

(1/250)


وكان عكّاشة أقرب إلى حنظلة، فصبّح عبد الواحد الأصنام بجموعه، وزحف حنظلة إلى الفزارى لقربه منه، وخرج معه بأهل القيروان، فخرج قوم آيسون من الحياة للذى كانوا يتخوّفونه من سبى الذّرارىّ، وذهاب النساء والأموال، وجعل عليهم محمد ابن عمرو بن عقبة، فلقيهم بالأصنام، فهزم الله عبد الواحد وجمعه، وقتل ومن معه قتلا ما يدرى ما هو، وهرب من هرب منهم.
فلمّا فتح لحنظلة عاجل عكّاشة الفزارىّ من ليلته، فقاتله بالقرن، ولم يكن بلغ عكاشة هزيمة عبد الواحد، فهزمه الله ومن معه من أصحابه، وهرب عكاشه حتى انتهى إلى بعض نواحى إفريقية، فأخذه قوم من البربر أسيرا حتى أتوا به إلى حنظلة فقتله.
وكان عبد الواحد ومن معه صفريّة، يستحلّون سبى النساء.
وكان قتل عكاشة وعبد الواحد كما حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث، سنة خمس وعشرين ومائة.
وقد كان حنظلة عند ما كان من حلول عبد الواحد بالأصنام وعكاشة بالقرن وقربا «1» من القيروان، كتب إلى معاوية بن صفوان عامله على أطرابلس، يأمره بالخروج إليه بأهل أطرابلس، فخرج حتى انتهى إلى قابس، فبلغه ما كان من هزيمة عبد الواحد وعكاشة، فكتب إليه حنظلة فى بربر خرجوا بنفزاوة وسبوا أهل ذمّتها فامض إليهم، فسار إليهم بمن معه، فقاتلهم، فقتل معاوية بن صفوان، وقتل الصفريّة واستنقذ ما كانوا أصابوا من أهل الذمّة، فبعث حنظلة إلى جيش معاوية ذلك زيد بن عمرو الكلبى، فانصرف بهم إلى أطرابلس.
وكان عبد الرحمن بن حبيب بتونس، وكان ثعلبة بن سلامة الجذامى مع حنظلة، فلما بلغ من بإفريقيّة من أهل الشأم قتل الوليد بن يزيد، خرج عامّة قوّادهم، وخرج ثعلبة بن سلامة إلى المشرق.
وكان قتل الوليد كما حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، يوم الخميس لثلاث ليال بقين من جمادى الآخرة، سنة ستّ وعشرين ومائة.
فخرج عبد الرحمن بن حبيب بتونس وجمع لقتل حنظلة بن صفوان وإخراجه

(1/251)


من إفريقية، فلما بلغ ذلك حنظلة، أرسل وجوه إفريقية إلى عبد الرحمن يدعوه إلى الدعة والكفّ عن الفتنة، فساروا، فلما كانوا ببعض الطريق بلغتهم «1» ولاية مروان بن محمد، فأرادوا الانصراف، وبلغ عبد الرحمن أن حنظلة قد أرسل إليه رسلا وكانوا خمسين رجلا، وأنهم يريدون الانصراف، فأرسل إليهم خيلا فأصرفتهم «2» إليه، ووجد «3» عبد الرحمن عليهم لخروجهم إليه، وكانوا قد كاتبوه قبل ذلك سرّا من حنظلة، فلما بلغتهم ولاية مروان نزعوا عن ذلك، فبعث بهم إلى تونس فى الحديد.
وكتب عبد الرحمن إلى حنظلة أن يخلّى له القيروان، وأن يخرج منها، وأجّله ثلاثة أيام. وكتب إلى صاحب بيت المال ألّا يعطيه دينارا ولا درهما إلّا ما حلّ له من أرزاقه، فلما قرأ حنظلة الكتاب همّ بقتاله، ثم حجزه عنه الورع، وكان ورعا، فخرج بمن خفّ معه من أصحابه من أهل الشأم، وذلك فى جمادى الأولى «4» سنة سبع وعشرين ومائة، ودخل عبد الرحمن بن حبيب القيروان فى جمادى الآخرة سنة ستّ وعشرين ومائة.
ثم بعث عبد الرحمن أخاه ابن حبيب عاملا على أطرابلس، فأخذ عبد الله ابن مسعود التجيبى وكان إباضيا ورئيسا فيهم، فضرب عنقه، واجتمعت الإباضيّة بأطرابلس، فعزل عبد الرحمن أخاه، وولّى حميد بن عبد الله العكّىّ.
وكان على الإباضيّة حين اجتمعت عبد الجبّار بن قيس المرادى ومعه الحارث بن تليد الحضرمى، فحاصروا حميد بن عبد الله فى بعض قرى أطرابلس ووقع الوباء فى أصحابه فخرج بعهد وأمان، فلما خرجوا أخذ عبد الجبّار بن قيس نصير بن راشد مولى الأنصار فقتله، وكان من أصحاب حميد، وكانوا يطلبونه بدم عبد الله بن مسعود التجيبى المقتول واستولى عبد الجبّار على زناتة وأرضها.
فكتب عبد الرحمن بن حبيب إلى يزيد بن صفوان المعافرى بولاية أطرابلس، ووجّه مجاهد بن مسلم الهوّارى يستألف الناس ويقطع عن عبد الجبّار هوّارة وغيرهم،

(1/252)


فأقام مجاهد فى هوّارة أشهرا ثم طردوه. فلحق بيزيد بن صفوان بأطرابلس. فوجّه عبد الرحمن بن حبيب محمد بن مفروق فى خيل، وكتب إلى يزيد بن صفوان بالخروج معه، فخرجوا، فلقيهم عبد الجبّار بن قيس والحارث بن تليد بمكان من أرض هوّارة، فقتل يزيد بن صفوان ومحمد بن مفروق، وانهزم مجاهد بن مسلم إلى أرض هوّارة.
فقفل عبد الرحمن بن حبيب واجتمع إليه جمع كثير، فزحف بهم إلى عبد الجبّار والحارث بن تليد، فلقيهم بأرض زناتة، فانهزم عمرو بن عثمان وأصحابه. واستولى عبد الجبّار والحارث على أطرابلس كلّها.
ثم خرج عمرو بن عثمان إلى دغوغا، ومعه مجاهد بن مسلم، واتّبعه الحارث بن تليد، فوجه عمرو من دغوغا إلى أرض الصحراء، فأدركه الحارث، فتقدّم عمرو إلى سرت، فأدركته خيل الحارث، فقتلوا نفرا من أصحابه، ونجا عمرو على فرسه جريحا، واحتوى الحارث على عسكره، واستفحل أمر عبد الجبّار والحارث، ثم اختلف أمرهما وتفاقم ما بينهما، فاقتتلا، فقتل عبد الجبّار والحارث جميعا.
فولّى البربر على أنفسهم إسماعيل بن زياد النفوسى، فعظم شأنه وكثر بيعه، فخرج إليه عبد الرحمن بن حبيب حتى إذا كان بقابس قدّم ابن عمّه شعيب بن عثمان فى خيل، فلقى إسماعيل، فقتل إسماعيل وأصحابه، وأسر من البربر أسارى كثيرة.
وكان عبد الرحمن مقيما فى عسكره ولم «1» يشهد الوقعة، فنهض حين فتح له إلى سوق أطرابلس ومعه الأسارى، وكتب إلى عمرو بن عثمان فقدم عليه من أرض سرت، وقدّم الأسارى، فضرب أعناقهم وصلبهم، واستعمل على أطرابلس عمرو بن سويد المرادىّ، وأمره أن ينفّل «2» .
آخر «3» الجزء الخامس «4»

(1/253)


ذكر قضاة مصر
ذكر كراهية العمل على القضاء. حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسى، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهرى، عن عثمان بن محمد الأخنسى، عن سعيد المقبرى، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من جعل قاضيا [فقضى] بين الناس فقد ذبح بغير سكّين «1» .
حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا إبراهيم بن سعد، حدثنا عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد، عن الأعرج، عن أبى هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مثله.
حدثنا أبى عبد الله بن عبد الحكم وعبد الله بن صالح، قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن ابن العجلان، عن الغضبان بن يزيد البجلىّ، أن رجلا من أمرائهم ولّى رجلا منهم القضاء فاستعفى فأبى عليه، فلبث شيئا ثم تخلّص إليه فقام بين يديه فقال: هذا مقام العائذ، «2» من النار. فقال: ويحك، وهل أملك من النار شيئا! قال: إنّى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: الحكّام ثلاثة: فرجل حكم فخسر «3» فأهلك أموال الناس وأهلك نفسه ففى النار. وحكم علم «4» فأهلك أموال الناس وأهلك نفسه ففى النار وحكم علم «5» فعدل فأحرز أموال الناس وأحرز نفسه ففى الجنّة.
حدثنا محمد بن عبد الجبّار، حدثنا الحمّانيّ، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبى هاشم، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: القضاة ثلاثة اثنان فى النار وواحد فى الجنة: رجل علم علما فقضى بما علم فهو فى الجنّة، ورجل جهل «6» فقضى بالجهل ففى النار، ورجل قضى بغير ما يعلم ففى النار.
حدثنا أسد بن موسى، حدثنا شعبة بن الحجّاج، عن قتادة، قال: سمعت أبا العالية يذكر عن علىّ وقد أدركه، قال: القضاة ثلاثة: واحد فى الجنّة واثنان فى النار، فأمّا الذي

(1/254)


فى الجنّة فرجل اجتهد فأصاب الحقّ فهو فى الجنّة، ورجل جارّ متعمّدا فهو فى النار، ورجل اجتهد رأيه «1» فأخطأ فهو فى النار «2» . فقلت لأبى العالية: ما ذنب هذا وقد اجتهد؟ قال: إذا كان لا يعلم، فلم يقعد قاضيا يقضى.
قال عبد الرحمن ولم يسمع قتادة من أبى العالية إلّا ثلاثة أحاديث هذا أحدها.
قال وروى حيوة بن شريح، عن مولى حسّان بن النعمان، عن يحيى بن أبى عمرو الشيبانى، أنه سمعه يقول: إن أبا هريرة كان يقول: من دعى إلى القضاء فقبل وهو يحسن فقضى بغير الحقّ فهو فى النار، ومن دعى إلى القضاء فقبل وهو لا يحسن فقضى بغير الحقّ فهو فى النار، ومن دعى إلى القضاء وهو يحسن فقبل فقضى بالحقّ فنفسه نجّى.
قال حيوة: وحدّثت عن عبد القدّوس بن حبيب، عن الحسن، أن عمر بن الخطّاب، قال: القضاة ثلاثة: قاض قضى برشوة فهلك، وقاض اجتهد فأخطأ فودّ لو أن أمّه لم تلده، وقاض اجتهد فأصاب فأفلت ولم يكد يفلت.
حدثنا عبد الله بن صالح ويحيى بن عبد الله بن بكير، قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن ابن الهاد، وحدثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبّار، حدثنا نافع بن يزيد، عن ابن الهاد. وحدثنا نعيم بن حمّاد، حدثنا الدراوردىّ، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم ابن الحارث التّيمىّ، عن بشر بن سعيد، عن أبى قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو ابن العاص، أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» «3» فحدّثت بهذا الحديث أبا بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، فقال: هكذا حدثنى أبو سلمة عن عبد الرحمن، عن أبى هريرة.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن سلمة ابن أكسوم، عن ابن حجيرة، أنه سأل القاسم بن البرحىّ، كيف سمعت عبد الله

(1/255)


ابن عمر «1» يخبر؟ قال: سمعته يقول: إن خصمين اختصما إلى عمر «2» فقضى بينهما فسخط «3» المقضىّ عليه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا قضى القاضى فاجتهد فأصاب كان له عشرة أجور، وإن اجتهد وأخطأ كان له أجر أو أجران.
حدثنا محمد بن عبد الجبّار حدثنا شبابة بن سوّار، حدثنا الفرج بن فضالة، عن ربيعة بن يزيد، عن عقبة بن عامر الجهنىّ، أن خصمين اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: اقض بينهما، قلت: يا رسول الله، أنت أحقّ بالقضاء، قال: وإن كان. قلت فعلى ماذا؟ قال: على إذا اجتهدت فأصبت فلك عشرة أجور، وإن اجتهدت فأخطأت فلك أجر واحد.
حدثنا محمد بن عبد الجبّار، حدثنا محمد بن كثير، حدثنا إسرائيل، حدثنا عبد الأعلى عن بلال بن أبى موسى، عن أنس بن مالك، وكان الحجّاج أراد أن يجعل إليه قضاء البصرة، فقال أنس: إنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه، ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله ملكا يسدّده» «4» .
حدثنا أبى عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب، أن عمر بن الخطّاب اختصم إليه مسلم ويهودىّ، فرأى أن الحقّ لليهودىّ فقضى له، فقال اليهودىّ: والله لقد قضيت بالحقّ، فضربه عمر بالدرّة ثم قال «5» : وما يدريك؟ فقال اليهودىّ: إنّا نجد إنّه ليس قاض يقضى بالحقّ، إلّا كان عن يمينه ملك، وعن يساره ملك يسدّدانه ويوفّقانه للحق ما دام مع الحق. فإذا ترك الحقّ عرجا وتركاه.
حدثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبّار، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال:
كان «6» القضاة فى بنى إسرائيل إذا كان لا تأخذه «7» فى الله لومة لائم، لم يسلّط على

(1/256)


جسده البلى، ولا دابّة تأكل ثيابه قد يبست عليه لا تبلى، وكان عابد منهم على ذلك، وكانوا فى ذلك الزمان يجعل بعضهم على بعض فى البيوت، وبعضهم فى الصناديق، فأتاه أخ له فقال: ادعوا به أصلّى عليه، فأتى به فإذا بدابّة قد خرقت «1» الكفن حتى خرجت من أذنه، فأحزنه ذلك، فلما نام لقيه «2» روح صاحبه فقال: يا أخى، رأيت حزنك على الدابّة «3» التى خرجت من أذنى، ولم يكن بحمد الله لشىء نكرهه، جلس إلىّ رجلان: أحدهما لى فيه هوى، والآخر لا هوى لى فيه، فكان إصغائى إلى ذى الهوى ولم يكن إصغائى إلى الآخر، وعلى ذلك بنعمة الله لقد حملتهما على مجلود الحقّ فى القضاء.
قال عبد الرحمن: وكان أوّل قاض استقضى بمصر فى الإسلام كما ذكر سعيد ابن عفير، قيس بن أبى العاص السهمىّ، فمات، فكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص أن يستقضى كعب بن يسار بن ضنّة العبسى. قال ابن أبى مريم وهو ابن بنت خالد بن سنان العبسى الذي تزعم عبس فيه أنه تنبّى «4» فى الفترة بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبين عيسى بن مريم «5» صلوات الله عليهما ولخالد بن سنان حديث فيه طول. فأبى كعب أن يقبل القضاء، وقال: قضيت فى الجاهليّة ولا أعود إليه فى الإسلام «6» .
حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا ابن لهيعة، قال: كان قيس بن أبى العاص بمصر، ولّاه عمرو بن العاص القضاء. وقد قيل إن أوّل من استقضى بمصر كعب بن ضنّة بكتاب عمر، ولم يقبل، والله أعلم.
حدثنا المقرئ عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة بن شريح، أخبرنا الضحّاك ابن شرحبيل الغافقى، أن عمّار بن سعد التجيبى أخبرهم أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص: أن يجعل كعب بن ضنّة على القضاء، فأرسل إليه عمرو فأقرأه كتاب

(1/257)


أمير المؤمنين، فقال كعب: والله لا ينجيه الله من أمر الجاهلّية وما كان فيها من الهلكة ثم يعود فيها أبدا إذ أنجاه الله منها، فأبى أن يقبل القضاة، فتركه عمرو.
قال ابن عفير: وكان حكما فى الجاهليّة. وخطّة كعب بن ضنّة بمصر بسوق بربر فى الدار التى تعرف بدار النخلة.
فلما امتنع كعب أن يقبل القضاء، ولّى عمرو بن العاص عثمان بن قيس بن أبى العاص القضاء «1» .
قال وقد كان عمر بن الخطّاب قد كتب إلى عمرو بن العاص أن يفرض له فى الشّرف.
حدثنا شعيب بن الليث، وعبد الله بن صالح، ويحيى بن عبد الله بن بكير، وعبد الملك بن مسلمة، قالوا: حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب، قال: كتب عمر ابن الخطاب إلى عمرو بن العاص، أن افرض لكلّ من قبلك ممن بايع تحت الشجرة فى مائتين من العطاء وابلغ ذلك لنفسك بإمارتك، وافرض لخارجة بن حذافة فى الشّرف لشجاعته، وافرض لعثمان بن قيس بن أبى العاص فى الشرف لضيافته.
قال ودعا عمرو خالد بن ثابت الفهمى ليجعله على المكس فاستعفاه منه فكان شرحبيل بن حسنة على المكس، وكان مسلمة بن مخلّد على الطواحين. قال عبد الرحمن: طواحين البلقس.
حدثنا ابن عفير، حدثنا ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، أن عمرا دعا خالد بن ثابت الفهمى جدّ ابن رفاعة ليجعله على المكس، فاستعفاه منه، فقال له عمرو: ما «2» تكره منه؟ قال: إنّ كعبا قال: لا تقرب المكس، فإن صاحبه فى النار.
حدثنا علىّ بن معبد، حدثنا عبيد الله بن عمرو الجزرىّ، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبى حبيب، عن عبد الرحمن التجيبى، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: «لا يدخل صاحب مكس الجنّة» «3» قال عبد الرحمن بن عبد الله: ليس هو

(1/258)


عبد الرحمن التجيبى، إنما «1» هو عبد الرحمن بن شماسة المهرىّ، ولكن هكذا حدثناه علىّ بن معبد.
حدثنا عبد الملك بن مسلمة، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، عن مخيّس بن ظبيان، عن رجل من جذام، عن مالك بن عتاهية، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يقول: إذا لقيتم عشّارا فاقتلوه.
حدثنا ابن عفير، حدثنا ابن لهيعة، قال: كان شرحبيل بن حسنة على المكس، وكان مسلمة بن مخلّد على الطواحين.
قال: ثم ولى سليم بن عتر التجيبى القضاء فى أيام معاوية بن أبى سفيان، وقد أدرك عمر بن الخطاب وحضر خطبته بالجابية، وجعل إليه القصص والقضاء جميعا «2» .
حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا الحجّاج بن شدّاد الصنعانى، أن أبا صالح سعيد بن عبد الرحمن الغفارى، أخبره أن سليم بن عتر التجيبى كان يقصّ على الناس وهو قائم، فقال له صلة بن الحارث الغفارى وهو من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: والله ما تركنا عهد نبيّنا ولا قطعنا أرحامنا حتى قمت أنت وأصحابك بين أظهرنا «3» .
قال وكان سليم بن عتر، كما حدثنا سعيد بن عفير أحد العبّاد المجتهدين وكان يقوم فى ليله «4» فيبتدىء القرآن حتى يختمه، ثم يأتى أهله فيقضى منهم حاجته، ثم يقوم فيغتسل، ثم يقرأ فيختم القرآن، ثم يأتى أهله فيقضى منهم حاجته، ربّما فعل ذلك فى الليلة مرّات، فلما مات قالت امرأته: رحمك الله، فو الله «5» لقد كنت ترضى ربّك وتسرّ أهلك.
حدثنا ابن أبى مريم ومحمد بن عبد السلام، عن ضمام بن إسماعيل، عن سليم ابن عتر، قال: خرجت من الإسكندرية- أحسبه قال حين قدمت من البحر- فدخلت فى غار فتعبّدت فيه سبعا، ولولا أنى خشيت أن أضعف لأتممتها عشرا.

(1/259)


أخبرنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبّار، حدثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علىّ بن رباح قال، قال لى سليم بن عتر: إذا لقيت أبا هريرة فأقرئه منّى السلام، وأخبره أنى قد دعوت له ولأمّه، فلقيته فأخبرته «1» ، فقال: وأنا قد دعوت له ولأمّه.
حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا موسى بن علىّ، عن أبيه، قال: خرجنا حجاجا من مصر، فقال لى سليم بن عتر: اقرأ على أبى هريرة السلام، وأخبره أنى قد استغفرت له ولأمّه «2» الغداة، قال: فلقيته فقلت ذلك له، فقال أبو هريرة: وأنا قد استغفرت له ولأهله الغداة، ثم قال أبو هريرة: كيف تركت أمّ خنّور؟ قال: فذكرت له من خصبها ورفاغتها «3» ، فقال: أما إنّها أوّل الأرضين خرابا، ثم على أثرها إرمينية، فقلت: أسمعت ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: أو من كعب الكتابين.
حدثنا أبى عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا بكر بن مضر، عن عبيد الله بن زحر، عن الهيثم بن خالد، عن ابن عمّه سليم بن عتر، قال: لقينا كريب بن أبرهة راكبا ووراءه غلام له يمشى، فقلنا: يا أبا رشدين، ألا حملت الغلام! قال: وكيف أحمل علجا مثل هذا، أو كما قال. قال: أفلا اتّخذت وصيفا صغيرا تحمله وراءك؟ قال: ما فعلت، قال: أفلا أمرت الغلام يتقدّم أمامك حتى تلحقه! قال: ما فعلت. قال فإنى سمعت أبا الدرداء يقول: ما يزال العبد يزداد من الله تبعّدا «4» كلمّا مشى خلفه.
قال: ثم ولى مسلمة بن مخلّد البلد، وجمعت له مصر والمغرب، وهو أوّل وال جمع له ذلك، فولّى السائب بن هشام بن عمرو أحد بنى مالك بن حسل شرطه «5» . وفى هشام بن عمرو يقول حسّان بن ثابت:
هل توفينّ بنو أميّة ذمّة ... حقّا كما أوفى جوار هشام
من معشر لا يغدرون بجارهم ... لحارث بن حبيّب بن سخام
وإذا بنو حسل أجاروا ذمّة ... أوفوا وأدّوا جارهم بسلام

(1/260)


قال: وكان هشام بن عمرو أحد النفر الذين قاموا فى نقض الصحيفة التى كانت قريش كتبت. قال: وقد كان عمرو بن العاص ولّى السائب بن هشام بعد خارجة بن حذافة، وكان أيضا على شرطه «1» عبد الله بن سعد بن أبى سرح. وكان اسم أبى سرح كما حدثنا محمد بن إدريس الرازىّ عويفا.
ثم عزل مسلمة بن مخلّد السائب، وولّى عابس بن سعيد المرادى الشرط، ثم جمع له القضاء مع الشرط «2» . وهو صاحب كوم عابس الذي بفسطاط مصر، وفيه يقول الشاعر:
أحنّ إلى الاسكندريّة إنّ لى ... بها إخوة فى الدّين أهل تنافس
أبو الحارث الماضى وأشهب منهم ... إماما هدى فى سنّة ومقايس
وقد أحدثت للرّوم فيها كنيسة ... لطاغية للعين حقّ الجواسس
فيا ليتها قد صيّرت بمشورة ... خوى صفصفا كالقاع من كوم عابس
يريد بأبى الحارث: الليث بن سعد، وأشهب: أشهب بن عبد العزيز القيسىّ من أصحاب مالك بن أنس.
فلم يزل عابس بن سعيد على القضاء حتى دخل مروان بن الحكم مصر، وكان مدخله كما حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد فى سنة خمس وستّين. فقال:
أين قاضيكم؟ فدعى له عابس بن سعيد، وكان أمّيا لا يكتب، فقال له مروان بن الحكم:
أجمعت «3» كتاب الله؟ قال: لا قال: فأحكمت الفرائض؟ قال: لا. قال فبم تقضى؟
قال: أقضى بما علمت، وأسأل عمّا جهلت، فقال: أنت القاضى «4» .
قال وكان سبب عزل مسلمة بن مخلّد السائب بن هشام وتوليته عابس بن سعيد، أن معاوية بن أبى سفيان كتب إلى مسلمة بن مخلّد، ومسلمة يومئذ والى البلد، يأمره بالبيعة ليزيد، فأتى مسلمة الكتاب وهو بالإسكندريّة، فكتب إلى السائب

(1/261)


ابن هشام وهو على شرطه يومئذ بذلك، فبايع الناس إلّا عبد الله بن عمرو ابن العاص، فأعاد عليه مسلمة الكتاب فلم يفعل «1» ، فقال مسلمة: من لعبد الله ابن عمرو؟ فقال عابس بن سعيد: أنا، فقدم الفسطاط، فبعث إلى عبد الله بن عمرو فلم يأته، فدعا بالنار والحطب ليحرق عليه قصره، فأتى، فبايع، ولم يزل عابس على القضاء والشرط إلى أن توفّى فى أيّام «2» عبد العزيز بن مروان سنة ثمان وستّين.
ويقال إنما كتب مسلمة بن مخلّد إلى السائب بن هشام فى أخذ بيعة عبد الله ابن عمرو ليزيد بعد موت معاوية بن أبى سفيان. قال ابن بكير: فأخبرنى عبد الله ابن لهيعة، عن أبى قبيل، قال: لمّا توفّى معاوية واستخلف يزيد، كره عبد الله بن عمرو أن يبايع ليزيد ومسلمة بالإسكندرية، فبعث إليه مسلمة كريب بن أبرهة وعابس بن سعيد، فدخلا عليه ومعهما سليم بن عتر، وهو يومئذ قاض وقاص، فوعظوا عبد الله بن عمرو فى بيعة يزيد، فقال عبد الله: والله لأنا أعلم «3» بأمر يزيد «4» منكم، وإنّى لأوّل الناس أخبر به معاوية أنه يستخلف «5» ، ولكن أردت أن يلى هو بيعتى، وقال لكريب: أتدرى ما مثلك؟ إنما مثلك مثل قصر عظيم فى صحراء غشيه ناس قد أصابهم الحرّ، فدخلوا يستظلّون فيه، فإذا هو ملآن من مجالس الناس، وإنّ صوتك فى العرب كريب بن أبرهة، وليس عندك شىء، وأمّا أنت يا عابس بن سعيد فبعت آخرتك بدنياك، وأمّا أنت يا سليم ابن عتر فكنت قاصا «6» ، فكان معك ملكان يعينانك ويذكّرانك، ثم صرت قاضيا فمعك شيطانان يزيغانك عن الحقّ ويفتنانك.
ثم ولّى عبد العزيز بن مروان بشير بن النضر المزنى القضاء.
حدثنى أخى محمد بن عبد الله، حدثنا وهب الله بن راشد، عن حيوة بن شريح،

(1/262)


عن جعفر بن ربيعه، أن بشير بن النضر كان قاضيا قبل ابن حجيرة فى زمان عبد العزيز ابن مروان «1» .
قال ثم ولى عبد الرحمن بن حجيرة الخولانى، وهو ابن حجيرة الأكبر، وقد لقى أبا هريرة، وأبا سعيد الخدرىّ، وروى عنه الناس، وجمع له القضاء والقصص وبيت المال.
وروى عبد الرحمن بن أبى السمح، عن أبى الليث العلاء بن عاصم القاصّ، أن ابن حجيرة الأكبر كان مع عبد العزيز بن مروان على القضاء والقصص وبيت المال، فكان يأخذ رزقه فى القضاء مائتى دينار، وفى القصص «2» مائتى دينار، وفى بيت المال مائتى دينار، وعطاؤه مائتا دينار، وجائزته مائتا دينار، فكان يأخذ فى السنة ألف دينار، فلم يكن يحول عليه الحول وعنده ما تجب فيه الزكاة، فلم يزل على القضاء حتى مات فى سنة ثلاث وثمانين «3» .
ويقال بل ولى سنة ثلاث وثمانين ومات فى سنة خمس وثمانين. وروى ابن لهيعة، عن عبيد الله بن المغيرة، أن رجلا سأل ابن عبّاس عن مسألة فقال: تسألنى وفيكم ابن حجيرة.
وروى الليث بن سعد، عن ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، أن سعيد بن المسيّب قال له: اقرأ على ابن حجيرة السلام، وأمره فلينه أهل بلده عن الربا؛ فإنه «4» ذكر لى أنه بها كثير، وقد سمعت عثمان بن عفّان رضى الله عنه على المنبر، يقول: كنت أشترى التمر من سوق بنى قينقاع، ثم أجلبه «5» إلى المدينة، ثم أفرغه لهم، وأخبرهم بما فيه من المكيلة، فيعطونى ما رضيت به من الربح ويأخذونه بخبرى ولا يكيلونه، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا عثمان إذا ابتعت فاكتل، وإذا بعت فكل.
ثم ولى القضاء مالك بن شراحيل الخولانى فى سنة ثلاث وثمانين، وهو صاحب

(1/263)


مسجد مالك الذي بفسطاط مصر، وكان الحجّاج يرسل إليه فى كل سنة بحلّة وثلاثة آلاف درهم. فلم يزل على القضاء حتى مات «1» .
فولى القضاء من بعده يونس بن عطّية الحضرمىّ، وجمع له الشرط والقضاء، فلم يزل قاضيا حتى مات سنة ستّ وثمانين «2» .
قال: وزعم بعض مشايخ أهل البلد أن أوسا ابن أخى يونس بن عطيّة، ولى القضاء بعد عمّه يونس بن عطية «3» .
ثم ولى عبد الرحمن بن معاوية بن حديج الكندى، وجمع له القضاء والشرط، فلم يزل على ذلك حتى توفّى عبد العزيز بن مروان «4» .
قال: وكان الطاعون قد وقع بالفسطاط كما حدثنا سعيد بن عيسى بن تليد وغيره، يذكر بعضهم ما لا يذكر صاحبه، فخرج عبد العزيز بن مروان من الفسطاط، فنزل بحلوان داخلا فى الصحراء فى موضع منها يقال له أبو قرقور، وهو رأس العين التى احتفرها عبد العزيز بن مروان وساقها إلى نخله التى غرسها بحلوان فكان ابن حديج يرسل إلى عبد العزيز فى كلّ يوم بخبر ما يحدث فى البلد من موت وغيره.
فأرسل إليه ذات يوم رسولا فأتاه، فقال له عبد العزيز: ما اسمك؟ فقال: أبو طالب. فثقل ذلك على عبد العزيز وغاظه فقال له عبد العزيز: أسألك عن اسمك، فتقول أبو طالب! ما اسمك: فقال: مدرك، فتفاءل عبد العزيز بذلك ومرض فى مخرجه ذلك ومات هنالك فحمل فى البحر يراد به الفسطاط فاشتدّت عليهم الريح، فلم يبلغ به الفسطاط حتى تغيّر، فأنزل فى بعض خصوص ساحل مريس، فغسل فيه وأخرجت من هنالك جنازته، وخرج معه بالمجامر فيها العود لما كان من تغير «5» ريحه وأوصى عبد العزيز أن يمرّ بجنازته إذا مات على منزل جناب وكان له صديقا، وكان. جناب قد توفى قبل عبد العزيز، فمّر بجنازة عبد العزيز على

(1/264)


بابه، وقد خرج عيال جناب فلبسوا السواد ووقفن على الباب صائحات، ثم اتّبعنه إلى المقبرة. وجناب صاحب قصرى «1» جناب اللذان «2» . بفسطاطا مصر ينسب أحدهما اليوم إلى ابن يريم.
وكان نصيب الشاعر قدم على عبد العزيز بن مروان فى مرضه، فاستأذن عليه، فقيل له هو مغمور، فقال: استأذنوا لى فإن أذن فذلك، وكان لنصيب من عبد العزيز ناحية، فأذن له، فلما رأى شدّة مرضه أنشأ يقول:
ونزور سيّدنا وسيّد غيرنا ... ليت التّشكّي كان بالعوّاد
لو كان تقبل فدية لفديته ... بالمصطفى من طارفى وتلادى «3»
فلما سمع صوته فتح عينيه وأمر له بألف دينار، واستبشر بذلك آل عبد العزيز وفرحوا به.
ثم مات، وكانت وفاته كما حدثنا يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، ليلة الاثنين لاثنتى عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ستّ وثمانين. وفى ذلك يقول الفرزدق:
يا أيّها المتمنّى أن يكون فتى ... مثل ابن ليلى فقد خلّى لك السّبلا
اذكر ثلاث خصال قد عرفن له ... هل سبّ من أحد أو سبّ أو بخلا
لو يضرب الناس أقصاهم وأوّلهم ... فى شقّة الأرض حتّى يحرثوا الإبلا
يبغون أفضل أهل الأرض لم يجدوا ... مثل الذي غيّبوا فى لحده رجلا
فلما توفّى عبد العزيز بن مروان، أمر عبد الملك بن مروان على أهل مصر عمر بن مروان، فأقام شهرا إلّا ليلة «4» ثم صرف، وولى عبد الله بن عبد الملك.
وهو صاحب مسجد عبد الله الذي بفسطاط مصر، وإليه ينسب، ولمّا قدم عبد الرحمن بن عبد الله العمرىّ مصر قاضيا وهّمه بعض أهل البلد أنّ

(1/265)


المسجد لعبد الله بن عمر بن الخطّاب، فعمّره وأحسن عمارته، وهو مسجد عبد الله ابن عبد الملك، لا شكّ فيه.
فأراد عبد الله بن عبد الملك عزل ابن حديج، فاستحيا من عزله عن غير شىء، ولم يجد عليه مقالا ولا متعلّقا، فولّاه مرابطة الإسكندرية، وولّى عمران ابن عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة القضاء والشرط، فلم يزل على ذلك إلى سنة تسع وثمانين. فغضب عليه عبد الله بن عبد الملك فى شىء لم يسمّ لى، فحبسه فى بيت، وأمر أن يقطع له ثوب من قراطيس، ويكتب فيه «1» عيوبه ومعائبه، ثم يلبسه ويوقف للناس حتى يرجع من مخرجه «2» .
وولّى عبد الأعلى بن خالد بن ثابت الفهمى مكانه. وخرج عبد الله بن عبد الملك إلى وسيم، وكانت لرجل من القبط، فسأل عبد الله أن يأتيه إلى منزله ويجعل له مائة ألف دينار؛ فخرج إليه عبد الله بن عبد الملك.
قال ابن عفير: إنما كان مخرج عبد الله إلى أبى النمرس مع رجل من الكتّاب يقال له ابن حنظلة، وكانت داره الدار التى يسكنها اليوم أبو صالح الحرّانى. فأتى عبد الله العزل وولاية قرّة بن شريك العبسى وهو هنالك.
قال ابن عفير: فلما بلغه ذلك قام ليلبس سراويله فلبسه «3» منكوسا. قال وقدم قرّة ابن شريك على ثلاثة من البريد، فدخل المسجد فركع فى المحراب، ثم تربعّ فجلس، وقعد أحد الرجلين إلى جنبه، وقام الآخر على رأسه، فأتى إلى عبد الأعلى بن خالد رجل من شرطة المسجد فقال له: قدم رجل على ثلاثة من البريد حتى نزل بباب المسجد ثم دخل المحراب فركع، ثم تربّع فجلس، فأتاه ابن رفاعة فسلّم عليه بغير الأمرة، فقال له قرّة: على «4» شىء من العمل أنت؟ قال: نعم، على الشرط، قال: اذهب فاختم على الديوان، قال: إن كنت على الخراج فإنّ هذا ليس إليك، قال: اذهب كما تؤمر، فقال بن رفاعة: السلام عليك أيّها الأمير ورحمة الله، فقال له قرّة: ممّن أنت؟ قال:
من فهم. فقال قرة:

(1/266)


لن تجد الفهمىّ إلّا محافظا ... على الخلق «1» الأعلى وبالحقّ «2» عالما
سأثنى على فهم ثناء يسرّها ... يوافى به أهل القرى والمواسما «3»
هكذا قال ابن عفير.
ويقال بل جاء رجل من الشرط حين قدم قرّة إلى ابن رفاعة، فقال له: قد دخل «4» رجل على ثلاثة من البريد ثم دخل المحراب فركع، وبعث رجلا يختم الديوان، وآخر يختم بيت المال، فأتاه ابن رفاعة فسلّم عليه بغير الأمرة فقال له قرّة: على شىء من العمل أنت؟ قال: نعم، على الشرط، قال: فالزم ما كنت عليه، فأعاد ابن رفاعة السلام عليه بالإمرة، وأقرّه على ما كان عليه.
قال ابن بكير: وقد كان قرّة أمر أن لا يعرض لعبد الله بن عبد الملك فى شىء خرج به معه، وأن يمنع «5» من شىء إن كان تركه، فحمل عبد الله بن عبد الملك كلّ ما كان له وبرز إلى دار الخيل، ولم يعرض له قرّة بن شريك، وكان عبد الله قد استعمل قبّة تركيّة فى الجزيرة فنسيها، فوجّه فى أخذها فمنعه قرّة من ذلك، ثم سار عبد الله ابن عبد الملك بكلّ ما كان معه، فلما كان بالأردنّ بعث الوليد فحاز ذلك كلّه.
ثم ولى عبد الله بن عبد الرحمن بن حجيرة الخولانى وهو ابن حجيرة الأصغر. ثم عزل فى سنة ثلاث وتسعين «6» .
وزعم بعض مشايخ أهل البلد أن ابن حجيرة لمّا ولى القصص بلغ ذلك أباه وهو ببيت المقدس، فقال: الحمد لله ذكر ابنى وذكّر، ولما بلغه أنه ولى القضاء قال: إنّا لله، أحسبه قال: هلك ابنى وأهلك.
قال عبد الرحمن: لست أدرى أىّ ابن حجيرة أراد، الأكبر أم الأصغر.
ثم ولى عياض بن عبيد الله الأزدى ثم السّلامى، أتته ولاية القضاء وهو عامل

(1/267)


لأسامة بن زيد التنوخى على الهرى. فلم يزل على القضاء حتى صرف عنه فى سنة ثمان وتسعين، وردّ ابن حجيرة على القضاء. ثم صرف عنه، وردّ عياض بن عبيد الله، فلم يزل قاضيا حتى صرف سنة مائة «1» .
وولى عبد الله بن خذامر، ثم صرف عن القضاء سنة ثنتين ومائة «2» .
ثم ولى يحيى بن ميمون الحضرمى «3» ، وقد روى عنه عمرو بن الحارث وابن لهيعة، فلم يزل قاضيا حتى صرف سنة أربع عشرة ومائة. ولم يكن بالمحمود فى ولايته.
حدثنا يحيى بن بكير، قال: سمعت المفضّل بن فضالة، يقول: كان بئس القاضى.
ثم ولى يزيد بن عبد الله بن خذامر ثم صرف.
ثم ولى الخيار بن خالد المدلجى، فأقام قاضيا شبيها بسنة، ثم مات، وكانت وفاته فى سنة خمس عشرة ومائة، وكان محمودا جميل المذهب.
ثم ولى توبة بن نمر الحضرمى. حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا المفضّل بن فضالة، قال: لمّا ولى توبة بن نمر القضاء دعا امرأته، فقال لها: كيف علمت صحبتى لك؟
قالت: جزاك الله من عشير خيرا، قال: قد علمت ما بلينا به من أمر الناس فأنت الطّلاق؛ فصاحت! فقال لها: إن كلّمتنى فى خصم أو ذكرتنى به. قال: فإن كانت لّترى دواته قد احتاجت «4» إلى الماء فلا تأمر بها أن تمدّ؛ خوفا من أن يدخل عليه فى يمينه شىء «5» . فولى توبة بن نمر ما شاء الله ثم استعفى، فقيل له فأشر علينا برجل نولّيه، فقال: كاتبى خير بن نعيم.
فولى خير بن نعيم الحضرمى، فلم يزل قاضيا حتى صرف فى سنة ثمان وعشرين ومائة «6» .

(1/268)


وولى عبد الرحمن بن سلام بن أبى سالم الجيشانى «1» ، فلم يزل على القضاء إلى دخول المسوّدة، فصرف عن القضاء واستعمل على الخراج. وردّ خير بن نعيم فلم يزل قاضيا حتى صرف فى سنة خمس وثلاثين ومائة.
وكان سبب صرفه كما حدثنا يحيى بن بكير، أن رجلا من الجند قذف رجلا فخاصمه إليه وثبّت عليه شاهدا واحدا، فأمر بحبس الجندى إلى أن يثبّت الرجل شاهدا آخر، فأرسل أبو عون عبد الملك بن يزيد فأخرج الجندىّ من الحبس، فاعتزل خير وجلس فى بيته وترك الحكم، فأرسل اليه أبو عون فقال: لا، حتى يردّ الجندىّ إلى مكانه، فلم يردّ وتمّ على عزمه، فقالوا له: فأشر علينا برجل نولّيه، فقال: كاتبى غوث بن سليمان.
فولى غوث بن سليمان الحضرمى «2» ، فلم يزل قاضيا حتى خرج مع صالح ابن على إلى الصائفة سنة أربع وأربعين ومائة.
ثم ولى أبو خزيمة إبراهيم بن يزيد الثاتىّ- بطن من حمير- «3» وكان سبب ولايته أن أبا عون شاور فى رجل يوليه القضاء. ويقال بل هو صالح بن على. فأشير عليه بثلاثة نفر: حيوة بن شريح، وأبو خزيمة إبراهيم بن يزيد الحميرى، وعبد الله بن عيّاش القتبانى. وكان أبو خزيمة يومئذ بالإسكندرية فأشخص. ثم أتى بهم إليه فكان أوّل من نوظر حيوة بن شريح، فامتنع، فدعى له بالسيف والنطع «4» ، فلما رأى ذلك حيوة أخرج مفتاحا «5» كان معه فقال: هذا مفتاح بيتى، ولقد اشتقت إلى لقاء ربّى «6» ، فلمّا رأوا عزمه تركوه؛ فقال لهم حيوة: لا تظهروا ما كان من إبائى لأصحابى؛ فيفعلوا مثل ما فعلت فنجا حيوة.
قال وسمعت أبى عبد الله بن عبد الحكم، يقول قال عبد الله بن المبارك: ما ذكر لى أحد بفضل فرأيته «7» إلّا رأيته دون ما ذكر لى عنه، إلّا حيوة بن شريح، وابن عون.

(1/269)


قال ثم دعى بأبى خزيمة فعرض عليه القضاء فامتنع؛ فدعى له بالسيف والنطع، فضعف قلب الشيخ ولم يحتمل ذلك، فأجاب إلى القبول فاستقضى.
وأجرى عليه فى كلّ شهر عشرة دنانير، وكان لا يأخذ ليوم الجمعة رزقا، ويقول:
إنما أنا أجير المسلمين «1» ؛ فإذا لم أعمل لهم لم آخذ متاعهم. فكان يقال لحيوة بن شريح: ولى أبو خزيمة القضاء، فيقول حيوة: أبو خزيمة خير منى، اختبر «2» فصحّ.
قال: وكان أبو خزيمة يعمل الأرسان ويبيعها قبل أن يلى القضاء، فمرّ به رجل من أهل الإسكندريّة وهو فى مجلس الحكم، فقال: لأختبرنّ أبا خزيمة، فوقف عليه، فقال له: يا أبا خزيمة، احتجت إلى رسن لفرسى، فقام أبو خزيمة إلى منزله فأخرج رسنا فباعه منه ثم جلس.
قال وسمعت أبى عبد الله بن عبد الحكم، يقول: كان أبو خرشة المرادى صديقا لأبى خزيمة، فمرّ به ذات يوم فسلّم عليه فلم ير منه ما كان يعرف، وكان أبو خرشة قد خوصم إليه فى جدار؛ فاشتدّ ذلك على أبى خرشة؛ فشكا ذلك إلى بعض قرابته، فقال له: إنّ اليوم يوم الخميس- أو قال يوم الاثنين- وهو صائم، فإذا صلّى المغرب ودخل «3» فاستأذن عليه، ففعل أبو خرشة، قال: فدخلت عليه وبين يديه ثريد عدس فسلّم عليه فردّ عليه كما «4» كان يعرف، وقال له: ما جاء بك؟ فأخبره أبو خرشة، فقال: ما كان ذلك إلّا أنّ خصمك خفت «5» أن يرى سلامى عليك فيكسره ذلك عن بعض حجّته، فقال أبو خرشة: فإنى أشهدك أن الجدار له.
قال: وحدثنى بعض مشايخ البلد، أن يزيد بن حاتم وهو يومئذ والى البلد، جاء إلى أبى خزيمة فى منزله، فخرج اليه أبو خزيمة إلى باب داره، وألقيت ليزيد بن حاتم صفّة سرجه فجلس عليها حتى قضى حاجته ثم انصرف؛ فكلّم أبو خزيمة فى ذلك فقال: لم يكن فى منزلى شىء يجلس عليه فخرجت إليه.

(1/270)


حدثنا أحمد بن عمرو بن سرح أبو الطاهر، قال: رفع بعض بنى مسكين إلى أبى خزيمة فى شىء من أمر حبسهم، وقد كان بعض القضاة نظر فيه فكأنّ أبا خزيمة لم ير إنفاذ ذلك، فكتب إليه: إذا نحن لم ننتفع بقول القضاة قبلك عندك كذلك لا ننتفع «1» بقولك عند القضاة بعدك، فأنفذ ذلك.
قال: وخرج يوما من المجلس فلم يواف دابّته، فعرض عليه رجل من أهل البلد- أحسبه ابن أبى الجويرية- أن يركب دابّته فأبى، وعرض عليه رجل آخر دابّته فركبها، فكلّمه الرجل فى ذلك؛ فقال: ما منعنى من ركوبها إلا أنى رأيت فى اللجام صدغين من فضّة.
قال: وولى عبد الله بن عيّاش القصص. وقد كان «2» عقبة بن مسلم على القصص فنحّى عنه؛ فقال عقبة بن مسلم، كما حدثنا يحيى بن بكير: ما لى أعزل؟ والله ما أنا بصاحب خراج ولا حرب؛ إنما أنا قاص «3» أصلّى بالناس، فإن كنت أطوّل فأحبّوا أن أقصّر قصّرت، وإن كنت أقصرّ فأحبّوا أن أطوّل طوّلت.
قال: ثم استعفى أبو خزيمة فأعفى، وجعل مكانه عبد الله بن بلال الحضرمى.
ويقال: إنما هو غوث الذي كان استخلفه حين شخص غوث إلى أمير المؤمنين أبى جعفر، وذلك فى سنة أربع وأربعين ومائة، وكان يجلس للناس فى المسجد الأبيض، ثم قدم غوث فأقّره خليفة له يحكم بين الناس حتى مات عبد الله بن بلال، فلما مات ركب غوث إلى منزله؛ فضمّ الديوان والودائع التى كانت قبله وغير ذلك، فزعموا أن ابنة عبد الله بن بلال صاحت يومئذ: وا ذلّاه.
حدثنا يحيى بن بكير، قال: لم يزل أبو خزيمة على القضاء حتى قدم غوث من الصائفة؛ فعزل أبو خزيمة وردّ غوث على القضاء.
ويقال: إن غوث بن سليمان حين شخص إلى العراق جعل على القضاء أبو خزيمة إبراهيم بن يزيد، فلم يزل على القضاء حتى توفّى سنة أربع وخمسين ومائة.
وكان ابن حديج يومئذ بالعراق قال: فدخلت على أمير المؤمنين أبى جعفر، فقال

(1/271)


لى: يا ابن حديج، لقد توفّى ببلدك رجل أصيبت «1» به العامّة، قال قلت: يا أمير المؤمنين ذاك إذا أبو خزيمة، فقال: نعم، فمن ترى أن نولّى القضاء بعده؟ قلت: أبو معدان اليحصبى يا أمير المؤمنين، قال: ذاك رجل أصمّ ولا يصلح للقاضى أن يكون أصمّ، قال قلت: فابن لهيعة يا أمير المؤمنين. قال: ابن لهيعة على ضعف فيه. فأمر بتوليته «2» وأجرى عليه فى كل شهر ثلاثين دينارا، وهو أول قضاة مصر أجرى عليه ذلك، وأول «3» قاض بها استقضاه خليفة، وإنما كان ولاة البلد هم الذين يولّون القضاة، فلم يزل قاضيا حتى صرف فى سنة أربع وستّين ومائة «4» .
وولى إسماعيل بن اليسع الكوفىّ وعزل فى سنة سبع وستّين ومائة. وكان محمودا عند أهل البلد، إلّا أنه كان يذهب إلى قول أبى حنيفة، ولم يكن أهل البلد يومئذ يعرفونه «5» .
حدثنا أبى عبد الله، قال: كتب فيه الليث بن سعد إلى أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، إنك ولّيتنا رجلا يكيد سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين أظهرنا، مع أنّا ما علمنا [عليه] «6» فى الدينار والدرهم إلّا خيرا.، فكتب بعزله.
وردّ غوث بن سليمان على القضاء، فلم يزل حتى توفّى فى جمادى الآخرة سنة ثمان وستّين ومائة.
حدثنا حمّاد بن مسور أبو رجاء، قال: قدمت امرأة من الريف وغوث قاض فى محفّة، فوافت غوث بن سليمان عند السرّاجين رائحا إلى المسجد، فشكت إليه أمرها وأخبرته بحاجتها؛ فنزل عن دابّته فى حوانيت السرّاجين ولم يبلغ المسجد، وكتب لها بحاجتها وركب إلى المسجد، فانصرفت المرأة وهى تقول: أصابت والله أمّك حين سمّتك غوثا، أنت غوث عند اسمك.

(1/272)


قال: فلما مات غوث ولى على القضاء المفضّل بن فضالة بن عبيد القتبانى «1» ، ثم عزل فى سنة تسع وستّين ومائة، وهو أوّل القضاة بمصر طوّل الكتب، وكان أحد فضلاء الناس وخيارهم.
قال: أخبرنى بعض مشايخ البلد أن رجلا لقيه بعد أن عزل فقال: حسيبك الله، قضيت «2» علىّ بالباطل وفعلت وفعلت؛ فقال له المفضّل: لكن الذي قضينا له يطيّب الثناء.
قال: ثم ولى أبو الطاهر الأعرج عبد الملك بن محمد بن أبى بكر بن حزم الأنصارىّ، وكان محمودا فى ولايته.
وأخبرنا أبى عبد الله بن عبد الحكم، قال: كتب إليه صاحب البربد يومئذ: إنك تبطّئ بالجلوس للناس «3» ؛ فكتب إليه أبو الطاهر: إن كان أمير المؤمنين أمرك بشىء وإلّا فإنّ فى أكفك وبراذعك ودبر دوابّك ما يشغلك عن أمر العامّة «4» .
ثم استعفى فأعفى فى سنة أربع وسبعين ومائة. قالوا: فأشر علينا برجل، فأشار عليهم بالمفضّل بن فضالة، فولى المفضّل بن فضالة، ثم شخص أبو الطاهر إلى العراق فقال: أنا ظننت أنى أعفى عن العمل، ولولا ذلك ما استعفيت عن مصر كانت زاوية صالحة. فلم يزل المفضّل على القضاء إلى صفر سنة سبع وسبعين ومائة.
وولى محمد بن مسروق الكندىّ من أهل الكوفة «5» . ولم يكن بالمحمود فى ولايته، وكان فيه عتوّ وتجبّر. فلم يزل على القضاء إلى سنة أربع وثمانين ومائة، فخرج إلى العراق.
واستخلف إسحاق بن الفرات «6» التجيبى فحميرى، فلم يزل على القضاء إلى صفر سنة خمس وثمانين ومائة فعزل.

(1/273)


وولى عبد الرحمن «1» بن عبد الله بن المجبّر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطّاب على القضاء، حتى عزل فى جمادى الأولى سنة أربع وتسعين ومائة. وقد كان قوم تظلّموا منه ورفعوا فيه إلى أمير المؤمنين هارون فقال: انظروا فى الديوان، كم لى من وال من آل عمر بن الخطاب، فنظروا فلم يجدوا غيره، فقال: والله لا أعز له ابدا.
ثم ولى بعده هاشم بن أبى بكر البكرى «2» من ولد أبى بكر الصدّيق، فآذى أصحاب العمرى وبلغ مكروههم، وكان يذهب مذهب أصحاب أبى حنيفة، فلم يزل على القضاء حتى توفى فى المحرّم فى أوّل يوم منه سنة ستّ وتسعين ومائة.
ثم ولى إبراهيم بن البكّاء «3» ولّاه جابر بن الأشعث، وجابر يومئذ والى البلد، فلم يزل على ذلك حتى وثب بجابر بن الأشعث فنحّى، وولى مكانه عبّاد بن محمد فعزل ابن البكّاء.
وولّى لهيعة بن عيسى الحضرمى «4» . فلم يزل قاضيا حتى قدم المطّلب بن عبد الله ابن مالك فى أوّل سنة ثمان وتسعين فعزل لهيعة.
وولى الفضل بن غانم «5» ، وكان المطّلب قدم به معه من العراق فأقام سنة أو نحوها، ثم غضب عليه المطّلب فعزله.
وولّى لهيعة بن عيسى «6» ، فلم يزل قاضيا حتى توفّى فى ذى القعدة أوّل يوم منه سنة أربع ومائتين.
فولّى السّرىّ بن الحكم بعد مشاورة أهل البلد إبراهيم بن إسحاق «7» القارىّ حليف بنى زهرة، وجمع له القضاء والقصص. وكان رجل صدق. ثم استعفى لشىء أنكره فأعفى.

(1/274)


وولى مكانه إبراهيم بن الجرّاح «1» ، وكان يذهب إلى قول أصحاب أبى حنيفة ولم يكن بالمذموم أوّل ولايته حتى قدم عليه ابنه من العراق؛ فتغيّرت حاله وفسدت أحكامه. فلم يزل قاضيا إلى سنة إحدى عشرة ومائتين، فدخل عبد الله بن طاهر البلد فعزله.
وولّى عيسى بن المنكدر بن محمد بن المنكدر «2» ، وخرج إبراهيم بن الجرّاح إلى العراق ومات هنالك. وأجرى عبد الله بن طاهر على عيسى بن المنكدر أربعة آلاف درهم فى الشهر، وهو أول قاض أجرى عليه ذلك وأجازه بألف دينار. فلما قدم المعتصم مصر فى سنة أربع عشرة ومائتين كلّمه فيه ابن ابى دواد؛ فأمره فوقف عن الحكم، ثم أشخص بعد ذلك إلى العراق فمات هناك.
وبقيت مصر بلا قاض حتى ولّى المأمون هارون بن عبد الله الزهرىّ القضاء «3» ؛ فقدم البلد لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة سبع عشرة ومائتين. وكان محمودا عفيفا محبّبا فى أهل البلد، فلم يزل قاضيا إلى شهر ربيع الأول من سنة ستّ وعشرين ومائتين فكتب إليه أن يمسك عن الحكم وقد كان «4» ثقل مكانه على ابن أبى دواد.
وقدم أبو الوزير واليا على خراج مصر، وقدم معه بكتاب ولاية ابن أبى الليث على القضاء. فلم يزل قاضيا إلى يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة خمس وثلاثين ومائتين فعزل وحبس.
وبقيت مصر بلا قاض حتى ولى الحارث بن مسكين «5» فى جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين ومائتين، جاءته ولاية القضاء وهو بالإسكندرية. فلم يزل قاضيا حتى صرف يوم الجمعة لسبع ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين ومائتين.
وولى دحيم بن اليتيم عبد الرحمن بن إبراهيم بن اليتيم الدمشقى، جاءته ولايته بالرملة فتوفّى قبل أن يصل إلى مصر «6» ، وكانت وفاته سنة خمس وأربعين ومائتين.

(1/275)


وولى بعده بكّار بن قتيبة أبو بكرة الثقفى «1» ، من أهل البصرة، وهو من ولد أبى بكرة صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم.* ودخل البلد يوم الجمعة لثمان ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ستّ وأربعين ومائتين.
قال أبو القاسم ابن قديد: وأقامت مصر بعد بكّار بلا قاض حتى ولّى خمارويه بنّ أحمد محمد بن عبدة القضاء سنة سبع وسبعين ومائتين، فلم يزل قاضيا إلى سنة ثلاث وثمانين ومائتين فى جمادى الآخرة. وبقيت مصر بلا قاض حتى ولى أبو زرعة محمد ابن عثمان الدمشقى «2» .