دلائل النبوة للبيهقي محققا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
التّقدمة
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
(33: الأحزاب: 56) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
(9: التوبة: 33 و 48: الفتح: 28 و 61 الصف: 9) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ.
(48: الفتح: 29) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ.
(47: محمد: 2) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ

(المقدمة/9)


اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً.
(33: الأحزاب: 40) وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ.
(21: الأنبياء: 107) اللهم صَلِّ على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
وبعد، لم تعد مسألة إثبات وجود الله سبحانه وتعالى بالمشكلة الدينية فوجود الله مركوز في الفطرة الإنسانية، واطراد التقدم العلمي يزيده إثباتا كل يوم.
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت- 53] وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات- 21] .
بيد أن المسألة الأساسية في الدين هي إثبات رسالة الرسول، ويعنينا هنا إثبات نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم.
فالإيمان بالنبوة- أو الصلة بين الله تعالى ومجتمع الإنسان عن طريق الأنبياء- من خصائص هذا الدين، والنبي هو الإنسان الذي يختاره الله ليقوم بأداء رسالة معينة، وقد وجدت مذاهب تؤمن بالله وتنكر النبوّات، وتزعم أنه لا حاجة لوجود النّبيّ، لأنّ ما أتى به الأنبياء موافق للعقل، ففي العقل غنى عنه، أو مخالف له فلا حاجة لنا به، فالعقل طريق الاستدلال ولكننا لا نستطيع بالمنطق التجريبي، والرياضي التوصل إلى حقائق ما وراء المادة، فالعلم الصحيح بذات الله، وصفاته، وحساب الآخرة، من ثواب وعقاب، وكل ما يتعلق بعالم الغيب، كل ذلك لا يعرف إلا عن طريق الأنبياء.
وقد تمت الصلة بين الله والأنبياء بوسائل متعددة، وقد قصّ علينا القرآن

(المقدمة/10)


الكريم طرفا من ذلك.
ففي أمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، قالَ: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ، فَانْظُرْ ماذا تَرى، قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات- 102] فهذه الرؤية الصادقة.
وقد يكون الاتصال بأن يكلم الله تعالى النبي مباشرة كما حصل لموسى- عليه السلام- فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ: أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [القصص- 30] .
والواسطة العادية في حصول الوحي أن يكون عن طريق جِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء- (163- 165) ] .
وأحيانا كان جبريل ينزل مجسدا يراه المسلمون كما حصل في حديث أركان الإيمان والإسلام والإحسان، وأشراط الساعة، الذي روي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وفي ختامه: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» .
وحين يدعي إنسان أنه يتصل بالله ويحمل منه إلى الناس رسالة ترتّب عليهم تكاليف وواجبات، فإن من الطبيعي أن يطالبه الناس بالدليل على صدقه، ولم ير القرآن في هذا أمرا خارجا عن المعقول، فالتساؤل حتى للتعليم مطلوب وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟ قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟
قالَ: بَلى، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة- 260] .
ومن هنا ظهرت الحاجة إلى ما يثبت النبوة.

(المقدمة/11)


طرق في إثبات النبوة
طريقة القرآن في إثبات النبوة:
الطريقة القرآنية في إثبات النبوة هي إيراد أدلة كثيرة تتكاتف لتؤدي إلى اليقين.
فالقرآن الكريم تحدى العرب والعجم، والإنس والجن أن يأتوا بمثله، أو بسورة من مثله وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ... [البقرة- 23] وقد بعث رسول صلى الله عليه وسلم فيهم أربعين عاما، فلم يحدثهم بنبوة ولا برسالة! فهذا الأمر يخضع لمشيئة الله فقط.
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ، فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس- 16] . فهذا النبي صلى الله عليه وسلّم قد نشأ بينهم، وترعرع على مرأى ومسمع منهم بل كانوا يعرفونه بالصدق والأمانة، ورجاحة العقل، ولم يعهدوا عليه كذبا، قال تعالى:
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ- 46] .
فلم الشك في أمره مع أنه قد تجرد عن كل مطمع دنيوي. قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سبأ- 47] .
ولم الشك في أمره وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يمكن أن يستمدّ من كتاب.
وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ، وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ

(المقدمة/12)


الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت- 48] .
1- طريقة الغزالي في اثبات النبوة:
وللإمام الغزالي في منقذه من الضلال طريقة في إثبات النبوة، قال:
«فإذا وقع لك شك في شخص معين: أنه نبي أم لا؟ فلا يحصل اليقين إلا بمعرفة أحواله:
إما بالمشاهدة، أو بالتواتر، والتسامع.
فإنك إذا عرفت الطب، والفقه، يمكنك أن تعرف الفقهاء، والأطباء، بمشاهدة أحوالهم، وسماع أقوالهم وإن لم تشاهدهم.
ولا تعجز أيضا عن معرفة كون «الشافعي» - رحمه الله- فقيها وكون «وجالينوس» طبيبا، معرفة بالحقيقة لا بالتقليد عن الغير، بل بأن تتعلم شيئا من الفقه والطب، وتطالع كتبهما وتصانيفهما، فيحصل لك علم ضروري بحالهما.
فكذلك إذا فهمت معنى النبوة، فأكثرت النظر في القرآن، والأخبار يحصل لك العلم الضروري بكونه صلى الله عليه وسلم، على أعلى درجات النبوة واعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات، وتأثيرها في تصفية القلوب وكيف
صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم» .
وكيف صدق في
قوله: «من أعان ظالما سلطه الله عليه» .
وكيف صدق في
قوله:

(المقدمة/13)


«من أصبح وهمومه هم واحد، كفاه الله تعالى هموم الدنيا والآخرة
فإذا جرّبت في ألف، وألفين، وآلاف حصل لك علم ضروري لا تتمارى فيه.
فمن هذا الطريق: اطلب اليقين بالنبوة، لا من قلب العصا ثعبانا، وشق القمر، فإن ذلك إذا نظرت إليه وحده، ولم تنضم إليه القرائن الكثيرة الخارجة عن الحصر، ربما ظننت أنه سحر وتخييل وأنه من الله إضلال، فإن الله تعالى:
يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
وترد عليك أسئلة المعجزات، فإن كان مستندا إيمانك إلى كلام منظوم في وجه دلالة المعجزة، فينخرم إيمانك بكلام مرتب في وجوه الأشكال والشبهة عليها.
فليكن مثل الخوارق، إحدى الدلائل والقرائن في مجلة نظرك حتى يحصل لك علم ضروري لا يمكنك ذكر مستنده على التعيين كالذي يخبره جماعة بخبر متواتر لا يمكنه أن يذكر أن اليقين مستفاد من قول واحد معين، بل من حيث لا يدري، ولا يخرج عن جملة ذلك ولا بتعيين الآحاد ... فهذا هو الإيمان القوي العملي» أ. هـ.
2- طريقة ابن خلدون في إثبات النبوة:
قال ابن خلدون في المقدمة:
«اعلم أن الله- سبحانه- اصطفى من البشر أشخاصا فضلهم بخطابه، وفطرهم على معرفته، وجعلهم وسائل بينه وبين عباده: يعرفونهم بمصالحهم، ويحرضونهم على هدايتهم، ويأخذون بحجزاتهم عن النار، ويدلّونهم على طريق النجاة.
وكان- فيما يلقيه إليهم من المعارف ويظهره على ألسنتهم من الخوارق والأخبار- الكائنات، المغيبة عن البشر التي لا سبيل الى معرفتها، إلا من على

(المقدمة/14)


ألسنتهم من الله بوساطتهم، ولا يعلمونها إلا بتعليم الله إياهم..
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلّم:
«ألّا وإنّي لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِيَ الله» .
واعلم أن خبرهم في ذلك، من خاصيّته وضرورته الصدق، لما يتبين لك عند بيان حقيقة النبوة.
وعلامة هذا الصنف من البشر: أن توجد لهم- في حال الوحي- غيبة عن الحاضرين معهم مع غطيط كأنها غشي أو إغماء في رأي العين، وليست منهما في شيء، وإنما هي- في الحقيقة- استغراق في لقاء الملك الروحاني:
بإدراكهم المناسب لهم، الخارج عن مدارك البشر بالكلية. ثم يتنزل الى المدارك البشرية: إما بسماع دوي من الكلام فيتفهمه، أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ الله.
ثم تنجلي عنه تلك الحال، وقد وعى ما ألقي عليه.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلّم، وقد سئل عن الوحي: «أحيانا يأتيني مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ. وأحيانا يتمثّل إليّ الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» .
ويدركه أثناء ذلك، من الشدة والغطّ ما لا يعبّر عنه. ففي الحديث:
«كان مما يعالج من التنزيل شدة» .
وقالت عائشة:
كان يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عرقا» وقال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا.
ولأجل هذه الحالة في تنزّل الوحي، كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون، ويقولون له رئي، أو تابع من الجن.. وإنما لبّس عليهم، بما شاهدوه من مظاهر تلك الأحوال:

(المقدمة/15)


وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ*.
ومن علاماتهم أيضا: أنه يوجد لهم- قبل الوحي- خلق الخير والزكاة، ومجانبة المذمومات والرجس أجمع.
وهذا هو معنى العصمة. وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها. وكأنها منافية لجبلّته.
وفي الصحيح: أنه حمل الحجارة وهو غلام، مع عمه العباس، لبناء الكعبة، فجعلها في إزاره، فانكشف، فسقط مغشيا عليه، حتى استتر بإزاره، ودعى إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب. فأصابه غشي النوم إلى أن طلعت الشمس، ولم يحضر شيئا من شأنهم، بل نزّهه الله عن ذلك كله، حتى إنه- بجبلّته- يتنزه عن المطعومات المستكرهة.
فقد كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، لا يقرب البصل والثوم، فقيل له في ذلك، فقال: «إني أناجي من لا تناجون» .
وانظر، لمّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلّم خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، بحال الوحي أول ما فجأه وأراد اختباره.
فقالت: اجعلني بينك وبين ثوبك، فلما فعل ذلك، ذهب عنه.
فقالت: إنه ملك، وليس بشيطان، ومعناه: أنه لا يقرب النساء.
وكذلك سألته عن أحبّ الثياب إليه أن يأتيه فيها.
فقال البياض والخضرة.
فقالت: إنه الملك.
يعني: أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة. والسواد من ألوان الشر والشياطين، وأمثال ذلك.

(المقدمة/16)


ومن علاماتهم أيضا: دعاؤهم إلى الدين والعبادة من: الصلاة والصدقة والعفاف.
وقد استدلت خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، على صدقه صلى الله عليه وسلم بذلك، وكذلك أبو بكر، ولم يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله وخلقه.
وفي الصحيح أن هرقل- حين جاءه كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ إِلَى الإسلام- أحضر من وجد ببلده من قريش، وفيهم أبو سفيان، ليسألهم عن حاله. فكان- فيما سأل- أن قال:
بم يأمركم؟ فقال أبو سفيان: بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ، إلى آخر ما سأل. فأجابه فقال: إِنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ حقا فهو نبي، وسيملك مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ» .
والعفاف الذي أشار إليه أبو سفيان، هو العصمة.
فانظر كيف أخذ من العصمة والدعاء إلى الدين والعبادة دليلا على صحة نبوته، ولم يحتج إلى معجزة، فدل على أن ذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ!! ومن علاماتهم أيضا: أن يكونوا ذوي حسب في قومهم.
وفي الصحيح: «ما بعث الله نبيا، إلا فِي مَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ» .
وفي رواية أخرى: «في ثروة من قومه» .
استدركه الحاكم على الصحيحين.
وفي مساءلة هرقل لأبي سفيان كما هو في الصحيح قال:
«كيف هو فيكم» ؟
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
«هُوَ فينا ذو حسب» .
فقال هرقل:
«والرسل تبعث في أحساب قومها» .

(المقدمة/17)


ومعناه: أن تكون له عصبة وشوكة تمنعه عن أذى الكفار، حتى يبلغ رسالة ربه، ويتم مراد الله من إكمال دينه وملته.
3- دلائل النبوة في إسلام خَدِيجَةُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-:
ويتحدث ابن خلدون عن إسلام خديجة بنت خويلد، وعن إسلام أبي بكر الصديق، ويتعرض لإسلام ورقة بن نوفل وإسلام غيرهم مستدلا بيقينهم على دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم.
فكيف أسلمت خديجة؟
أن رسول الله صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يدعها إلى الإسلام! إنه قصّ عليها قصة الوحي، وهو
يقول: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ.
وهذه صورة لم تشهدها خديجة- من قبل- عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلّم ولقد عرفته شابا يعمل في مالها متاجرا به.
ومن هذه العلاقة- عرفت فيه الصدق والأمانة، والخصال الإنسانية الكاملة، والمثل الأعلى ...
ولقد سمعت من ميسرة حديثا يبعث شجون النفس، والإعجاب.
وَكَانَتْ خَدِيجَةُ امْرَأَةً حَازِمَةً شريفة لبيبة، ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ، تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ فِي مَالِهَا، وَتُضَارِبُهُمْ إِيَّاهُ بِشَيْءٍ تَجْعَلُ لَهُمْ منه، فَلَمَّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَلَغَهَا مِنْ صِدْقِ حَدِيثِهِ، وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ، وَكَرَمِ أَخْلَاقِهِ، بَعَثَتْ إِلَيْهِ، فعرضت أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالِهَا تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ، وَتُعْطِيهِ أَفْضَلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غيره، مَعَ غُلَامٍ لَهَا يُقَالُ له: «ميسرة» .
فلما أخبرها «مَيْسَرَةُ» عَنْ قَوْلِ الرَّاهِبِ، وَعَمَّا كَانَ يَرَى مِنْ إظلال الملكين إياه في حرّ الهاجرة، وسموّ صحبته، وحسن خلقه، وصدق حديثه

(المقدمة/18)


تبلورت فكرة الزواج بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم في ذهنها.
وقد ذهبت إلى ورقة بن نوفل- ابن عمها- وذكرت له ما سمعته وما لاحظته من صفات محمد صلى الله عليه وسلّم وأحواله، فَقَالَ وَرَقَةُ:
«لَئِنْ كَانَ هَذَا حَقًّا يَا خَدِيجَةَ إنّ محمدا لنبيّ هذه الأمة، وقَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ كَائِنٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ نَبِيٌّ يُنْتَظَرُ ... هَذَا زمانه» .
فعادت خديجة من عند ورقة وقد اختمرت في ذهنها فكرة الزواج بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم وأصبحت الفكرة أكثر جاذبية وإشراقا.
ولم تكن الجاذبية هدف خديجة في زواجها، وإن كان محمد أحسن الناس خلقا، ولا الثروة، فلم يكن محمد صاحب ثروة إنما صاحب سمات خلقية كريمة، وروحانية شفافة ظاهرة، واشراق أخاذ وسمو كريم.
وقد نقل ابن حجر عن الفاكهي في كتاب مكة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلّم كان عند أبي طالب فاستأذنه ان يتوجه إلى خديجة فأذن له، وبعث بعده جارية يقال لها:
نبعة، فقال: انظري ما تقول له خديجة.
قالت نبعة: فرأيت عجبا، مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سمعت به خديجة، فخرجت إلى الباب، وكان مما قالت: أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي، وادع الإله الذي يبعثك لي.
فقال لها:
«والله لئن كنت أنا هو، قد اصطفت عندي ما لا أخيّبه أبدا، وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيّعك أبدا» .
لقد أصبحت الفكرة جد متبلورة في عقل خديجة ولم يكن هناك إلا تنفيذها.
فأرسلت نفيسة بنت منبه دسيسا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلّم بعد عودته من الشام.

(المقدمة/19)


قالت: يا محمد! ما يمنعك أن تتزوج؟
قال: ما بيدي ما أتزوج به.
قالت: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟
قال: فمن هي؟
قالت: خديجة.
قال: وكيف لي ذلك؟
قالت: عليّ.
قال: فأنا أفعل.
قَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ: «أنا أعلم الناس بتزويج النبي صلى الله عليه وسلّم خديجة، إِنِّي كُنْتُ لَهُ تِرْبًا وَكُنْتُ لَهُ إِلْفًا وَخِدْنًا، وَإِنِّي خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْحَزْوَرَةِ- سوق مكة- أَجَزْنَا عَلَى أُخْتِ خَدِيجَةَ، وَهِيَ جَالِسَةٌ عَلَى أُدُمٍ تَبِيعُهَا، فَنَادَتْنِي، فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهَا، وَوَقَفَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: «أَمَا لِصَاحِبِكَ هَذَا مِنْ حَاجَةٍ فِي تَزْوِيجِ خَدِيجَةَ؟» .
قَالَ عَمَّارٌ: فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ.
فَقَالَ: بَلَى، لعمري.
قال عمار: فَذَكَرْتُ لَهَا قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقَالَتِ: اغْدُوَا عَلَيْنَا إذا أصبحنا.
وجاء آل عبد المطلب وعلى رأسهم حَمْزَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأبو طالب إلى بيت خديجة، وكان في استقبالهم عم خديجة: عمرو بن أسد، وابن عمها:
ورقة بن نوفل.
وقام أبو طالب خطيبا، فكان مما قَالَ:

(المقدمة/20)


أما بعد، فإن محمدا ممن لا يوزن به فتى من قريش، إلا رجح به: شرفا ونبلا، وفضلا وعقلا، وإن كان في المال قلّ، فإن المال ظل زائل، وعاريه مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك» .
ورضي عمرو، وقال:
«هو الفحل لا يقدع أنفه» .
وعند ما رجع إليها من غار حراء، وهو يقول: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ، حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ: «يَا خَدِيجَةُ! مَالِي، فَأَخْبَرَهَا الخبر» . كان هذا شأنا جديدا عليه وتغيرا محسوسا، وعند ما سألته عن جلية الخبر، قال:
«لقد خشيت على نفسي!» .
قالت له: «كلا، والله ما يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وتحمل الكلّ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» .
لقد غمرت خديجة قوة نورانية عجيبة، وثقه واضحة جلية، واتجهت إلى زوجها بقوة المسؤولية، وأخذت تمسح عن وجهه، وتقول:
«أبشر، فو الله لقد كنت أعلم أنّ الله لن يفعل بك إلا خيرا، وأشهد أنك نبيّ هذه الأمة الذي تنتظره اليهود، قد أخبرني به ناصح غلامي، وبحيرى الراهب» .
ولم تزل بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلّم حتى طعم وشرب وضحك.
فلما ضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم، قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت من مكانها فأتت غلاما لقيه رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ نَصْرَانِيًّا مِنْ أَهْلِ نِينَوَى، يُقَالُ لَهُ عَدَّاسٌ. فَقَالَتْ لَهُ:
يَا عَدَّاسٌ، أُذَكِّرُكَ بِاللهِ، إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي: هَلْ عِنْدَكَ عَلِمٌ مِنْ جبريل؟

(المقدمة/21)


فقال: قُدُّوسٌ!! قُدُّوسٌ!! مَا شَأْنُ جِبْرِيلَ يُذْكَرُ بِهَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي أَهْلُهَا أَهْلُ الْأَوْثَانِ.
فقالت: أَخْبِرْنِي بِعِلْمِكِ فِيهِ.
قَالَ: إنه أَمِينُ اللهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ.. وَهُوَ صَاحِبُ مُوسَى وعيسى عليهما السلام.
ثم ذهبت إلى راهب بجوار مكة، فلما دنت منه وعرفها، قال: مالك يا سيدة نساء قريش؟.
فقالت: أقبلت إليك لتخبرني عن جبريل.
فقال: سبحان الله! ربنا القدوس: ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد التي يعبد أهلها الأوثان، جبريل أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسله..
وَهُوَ صَاحِبُ مُوسَى وَعِيسَى.
فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ مِنْ عِنْدِهِ، فَجَاءَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ كَرِهَ عبادة الأوثان، فسألته عن جبريل، فقال لها مثل ذلك، ثم سألها، ما الخبر؟
فأحلفته أن يكتم ما تقول له، فحلف لها، فقالت:
إن محمدا ذكر لي- وهو صادق- أحلف بالله ما كذب ولا كذب- أنه نزل عليه جبريل بحراء، وأنه أخبره أنه نبيّ هذه الأمة، وأقرأه آيات أرسل بها.
قال: فذعر ورقة لذلك، وقال:
قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، وَالَّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ لَئِنْ كُنْتِ صَدَقْتِينِي يَا خَدِيجَةُ إِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِيهِ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقُولِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ. ولكن يا خديجة أرسلي إليّ ابن عبد الله أسأله وأسمع من قوله، فإني أخاف أن يكون غير جبريل، فإن بعض الشياطين يتشبه به، ليفسد بعض بني آدم، حتى يصير الرجل بعد العقل مدلها.

(المقدمة/22)


فقامت من عنده، وهي واثقة أن لا يفعل بصاحبها إلا خيرا.
وانطلقت خديجة بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم إلى ورقة، فقالت له خديجة:
يا ابن عم! اسمع من ابْنِ أَخِيكَ.
فَقَالَ لَهُ ورقة: يا ابن أخي! ماذا ترى؟.
فَقَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم خبره ...
فقال له وَرَقَةُ:
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيَأْتِيكَ النَّامُوسُ [1] الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى وإنك نبي هذه الأمة، ولتؤذينّ، وَلَتُقَاتَلَنَّ، وَلَتُنْصَرَنَّ، وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ لَأَنْصُرَنَّكَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ اللهُ.
ثُمَّ أَدْنَى إِلَيْهِ رَأْسَهُ فَقَبَّلَ يَافُوخَهُ، ثُمَّ انصرف إِلَى مَنْزِلِهِ، وَقَدْ زَادَهُ الله مِنْ قَوْلِ وَرَقَةَ ثَبَاتًا، وَخَفَّفَ عَنْهُ بَعْضَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْهَمِّ.
أما ورقة، فقد قال:
وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعْهُمَا ... مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ
أما خديجة فقد أحبت أن تضع جبريل موضع الاختبار، لتتبين أمره في وضوح
، فقالت خَدِيجَةُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا تُثَبِّتُهُ- فِيمَا أَكْرَمَهُ اللهُ به في نُبُوَّتِهِ:
يَا ابْنَ عَمٍّ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ إِذَا جَاءَكَ؟
فَقَالَ: نَعَمْ.
فَقَالَتْ: إِذَا جَاءَكَ فَأَخْبِرْنِي.
فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا إِذْ جَاءَ جِبْرِيلُ، فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ! هَذَا جِبْرِيلُ.
فَقَالَتْ: أَتُرَاهُ الآن؟
قال: نعم.
__________
[ (1) ] الناموس هو جبريل، وهو صاحب سر الخير. ومنه الجاسوس: صاحب سر الشر.

(المقدمة/23)


قَالَتْ: فَاجْلِسْ إِلَى شِقِّي الْأَيْمَنِ، فَتَحَوَّلَ فَجَلَسَ، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَتْ: فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي.
فَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم فَجَلَسَ.
فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ؟
قَالَ: نَعَمْ.
فَتَحَسَّرَتْ رَأْسَهَا، فَأَلْقَتْ خِمَارَهَا، وَرَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ؟
قَالَ: لَا.
قَالَتْ: مَا هَذَا شَيْطَانٌ، إِنَّ هَذَا لَمَلَكٌ يَا ابْنَ عَمٍّ، فَاثْبُتْ وَأَبْشِرْ، ثُمَّ آمَنَتْ بِهِ، وَشَهِدَتْ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْحَقَّ» .
قَالَ البيهقي (2: 152) بعد أن سرد الخبر:
«هذا شيء كانت خديجة تَصْنَعُهُ تَسْتَثْبِتُ بِهِ الْأَمْرَ احْتِيَاطًا لِدِينِهَا وَتَصْدِيقِهَا، فَأَمَّا النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ قَدْ وَثِقَ بِمَا قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ وَأَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ» أ. هـ.
هكذا أسلمت خديجة، فكانت أول من اعتنق الإسلام بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يدعها رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ، ولم تكن لتحتاج إلى دليل خارج عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وخلقه.
4- دلائل النبوة في إسلام أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
قَالَ ابن خلدون في المقدمة عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حال إسلامه.
«لم يحتاج في أَمْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم إلى دليل خارج عن حاله وخلقه» أ. هـ.
فكيف أسلم أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ؟

(المقدمة/24)


قال البيهقي (2: 163- 164) : «ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَقِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُ قُرَيْشٌ يَا مُحَمَّدُ مِنْ تَرْكِكَ آلِهَتَنَا، وَتَسْفِيهِكَ عُقُولَنَا، وَتَكْفِيرِكَ آبَاءَنَا؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم:
بَلَى، إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَنَبِيُّهُ، بَعَثَنِي لِأُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ وَأَدْعُوكَ إِلَى اللهِ بِالْحَقِّ، فو الله إِنَّهُ لَلْحَقُّ، أَدْعُوكَ يَا أَبَا بَكْرٍ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تَعْبُدْ غَيْرَهُ، وَالْمُوَالَاةَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ القرآن.
فَأَسْلَمَ وَكَفَرَ بِالْأَصْنَامِ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ، وَآمَنَ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ مؤمن مصدق.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ منه كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلَّا أبا بكر ما تردّد فيه» .
قال البيهقي: «وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى دَلَائِلَ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْمَعُ آثَارَهُ، قَبْلَ دَعْوَتِهِ، فَحِينَ دَعَاهُ كَانَ قَدْ سَبَقَ فيه تفكره ونظره وما تردد فيه» .
دلائل النبوة في إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
أخرج مسلم في الصحيح، في فضائل أبي ذر، ونقله البيهقي (2:
208) قال أبو ذر: كُنْتُ رُبُعَ الْإِسْلَامِ، أَسْلَمَ قَبْلِي ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، وَأَنَا الرابع، أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله، فَرَأَيْتُ الِاسْتِبْشَارَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم.
وحديث إسلام أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللهُ عنه، حديث مستفيض جليل: روته كتب السنة الموثوق بها، أمثال البخاري ومسلم، وغيرهما.
ولقد روته هذه الكتب في زواياه المختلفة، الثرية بالعبر والمواعظ:
وذلك: أنه لما بلغ أبا ذر مَبْعَثِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لأخيه أنيس:

(المقدمة/25)


«اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل: الذي يزعم أنه نبي، يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله، ثم ائتني.
فانطلق «أنيس» إلى مكة وسمع من كلام الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أبي ذر فقال له: «رأيته يأمر بمكارم الأخلاق» . فقال له أبو ذر: مَا يَقُولُ النَّاسُ لَهُ؟ قال: يقولون: إنه شاعر، وساحر- وكان أنيس شاعرا- وتابع أنيس حديثه قال:
لقد سمعت الكهان فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على أنواع الشعر، فو الله ما يلتئم لسان أحد أنه شعر، وو الله إِنَّهُ لَصَادِقٌ، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ...
فقال أبو ذر لأخيه: هل أنت كافيّ حتى أنطلق؟ قال: نَعَمْ، وَكُنْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى حَذَرٍ، فَإِنَّهُمْ قَدْ شنعوا له، وتجمعوا له.
فتزود وحمل شنة له فيها ماء، حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ لَا يعرفه، واتبع نصيحة أخيه في أن لا يسأل عنه، وأن يحذر أهل مكة، حتى أدركه بعض الليل، فاضطجع لينام، فرآه سيدنا علي فعرف أنّه غريب، فدعاه إلى المبيت عنده، فتبعه ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم، فلم ير النبي صلى الله عليه وسلّم، حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه،
فمر به علي فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله؟ وسار به إلى المنزل: لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، ومرّ اليوم الثالث على هذه الكيفية.
فلما كان في البيت، سأله علي رضي الله عنه قائلا:
ألا تحدثني بالذي أقدمك؟
قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا ليرشدنّني، ففعلت ... ففعل، فأخبره.

(المقدمة/26)


وفي الصباح ذهبا- على حذر- إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخَذَ أبو ذر يستمع إلى القرآن الكريم، فأسلم في جلسته،. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ارْجِعْ إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، فَقَالَ:
«وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لأصرخنّ بها بين ظهرانيهم..
فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته:
«أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله ... فقام إليه الحاضرون فاشتبكوا معه في معركة، حامية، واستمروا به حتى رموه أرضا، فأتى العباس وأنقذه منهم ... ولكنه عاد في الغد إلى مثلها، وعادوا إلى مثل ما فعلوا، وأنقذه من جديد العباس، وعاد أبو ذر إلى أخيه، وأعلن إسلامه، فأسلم أخوه، وذهبا إلى أمهما فأعلنت إسلامها، وأخذ أبو ذر يبشر الإسلام في قومه. رضي الله عنه.
دلائل النبوة في إسلام طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: «حَضَرْتُ سُوقَ بُصْرَى فَإِذَا رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، يَقُولُ: سَلُوا أَهْلَ هَذَا الْمَوْسِمِ أَفِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ؟
قَالَ طَلْحَةُ: قُلْتُ نَعَمْ أَنَا.
فَقَالَ: هَلْ ظهر أحمد.
قُلْتُ: وَمَنْ أَحْمَدُ قَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، مَخْرَجُهُ مِنَ الْحَرَمِ، وَمُهَاجَرُهُ إِلَى نَخْلٍ وَحَرَّةٍ وَسِبَاخٍ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُسْبَقَ إِلَيْهِ.
قَالَ طَلْحَةُ: فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا قال، فخرجت مسرعا حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ، فَقُلْتُ:
هَلْ كَانَ مِنْ حَدَثٍ؟

(المقدمة/27)


قَالُوا: نَعَمْ، مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله تَنَبَّأَ، وَقَدْ تَبِعَهُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ.
قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقُلْتُ: أَتَبِعْتَ هَذَا الرَّجُلَ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَانْطَلِقْ إِلَيْهِ فَادْخُلْ عَلَيْهِ فَاتَّبِعْهُ، فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ.
فَأَخْبَرَهُ طَلْحَةُ بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِطَلْحَةَ، فَدَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ طَلْحَةُ، وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ، فَسَّرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِذَلِكَ.
فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ، أَخَذَهُمَا نوفل بن خويلد بن الْعَدَوِيَّةِ فَشَدَّهُمَا فِي حَبَلٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمَا بَنُو تميم، وَكَانَ نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ يُدْعَى: أَسَدَ قُرَيْشٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ: «القرينين» .
دلائل النبوة في إسلام النجاشي الأصحم.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ، عن أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بن المغيرة، زَوْجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:
«لَمَّا نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار: النجاشي، أمنّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى: لا نؤذي ولا نسمع شيئا نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم: أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هذايا مما يستطرف من متاع مكة، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما: ادفعا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدّما إلى النجاشي هداياه، ثم أسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم، قالت:
فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار عند خير جار. فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته، قبل أن يكلّما النجاشي، وقالا لكل

(المقدمة/28)


بطريق منهم: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يدخلوا في دينكم وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نعرفه نحن ولا أنتم. وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلّمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم.
فقالوا لهما: نعم، ثم إنهما قدّما هداياهما إلى النجاشي، فقبلها منهما، ثمّ كلّماه فقالا له:
أيها الملك، إنه قد ضوى الى بلدك منا غلمان سفهاء: فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه، قالت:
وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أبي ربيعة وعمرو بن العاص مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُمْ النجاشي، فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليردّوهم إلى بلادهم وقومهم، قالت: فغضب النجاشي، ثم قال:
الله!! إذن لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني، ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم، فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
قالت: ثم أرسل إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُمْ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا:
نقول والله ما علمنا وما أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى الله عليه وسلّم كائنا. ذلك ما هو كائن. فلما جاءوا- وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله- سألهم، فقال لهم:

(المقدمة/29)


مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي قد فارقتم فيه قَوْمِكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلمه جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ:
أَيُّهَا الْمَلِكُ، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله، لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة والأوثان.
وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات.
وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قالت: فعدد أمور الإسلام- فصدقناه وآمنّا به، واتّبعناه عَلَيَّ مَا جَاءَ بِهِ من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله تعالى، وأن نستحلّ مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك، قالت:
فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قالت: فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ، فقال النجاشي فاقرأه علي، قالت: فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ «كهيعص» قالت:

(المقدمة/30)


فَبَكَى وَاللهِ النَّجَاشِيُّ، حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي:
إن هذا والذي جاء به عيسى، ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون.
قالت: فلما خرجا من عنده، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: والله لأتينه غدا عنهم بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ.
قالت: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ- وكان أتقى الرجلين فينا- لا تفعل فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا، قال:
والله لأخبرته أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد الله، قالت: ثم غدا عليه من الغد.
فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ! إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مريم قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فسلهم عما يقولون فيه.
قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه. فقالت:
وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا قط، فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا:
نقول: - والله- (فيه) ما قال الله، وما جاءنا به ننهينا، كائنا في ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مريم؟
قالت: فقال له جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: نقول فيه الذي جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هُوَ عبد الله ورسوله، وروحه، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ العذراء البتول، قالت:
فضرب النجاشي بيده إِلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عودا ثُمَّ قَالَ:
وَاللهِ مَا عدا عيسى بن مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا العود، قالت:

(المقدمة/31)


فتناحرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال:
وإن نخرتم، والله، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي- والشيوم: الْآمِنُونَ- مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثم قال:
مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثُمَّ قال: من سبكم غرم، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي ديرا من ذهب، وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ.
قال ابن هشام:
ويقال دبري من ذهب، ويقال: فأنتم شيوم، والدبر بلسان الحبشة الجبل- رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا، قالت:
فخرجا من عنده مَقْبُوحَيْنِ، مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
قالت: فو الله، إنا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ به رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ يُنَازِعُهُ في ملكه، قالت:
فو الله، ما علمتنا حُزْنًا حَزِنَّا قَطُّ، كَانَ أشدّ علينا من حزن حزنّاه عند ذلك، تخوّفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي، فيأتي رجل لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا ما كان النجاشي يعرف منه، قالت:
وسار إليه النجاشي، وبينهما عرض النيل (النيل الأزرق) .
قالت: فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم:
من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم، ثم يأتينا بالخبر؟
قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا..
قالوا فأنت- وكان من أحدث القوم سنا- قالت:
فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً، فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: فدعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده، قالت:

(المقدمة/32)


فو الله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير، وهي يسعى فلمع بثوبه وهو يقول:
ألا أبشروا فقد ظفر النجاشي، أهلك الله عدوه، ومكّن له في بلاده.
قالت: فو الله ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها.
قالت: ورجع النجاشي وقد أهلك الله عدوّه، ومكّن له في بلاده، واستوثق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ في مكة.
دلائل النبوة في إسلام زيد بن سعنة:
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سلام: إن الله عز وجل، لَمَّا أَرَادَ هُدَى زَيْدِ بْنِ سَعْنَةَ، قَالَ زَيْدُ بن سعنة: إنه لم يبق من عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ، إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهَا فِي وَجْهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ، حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ، إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا مِنْهُ: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلَا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا. فَكُنْتُ أَتَلَطَّفُ لَهُ، لِأَنْ أُخَالِطَهُ فاعرف حلمه وجهله. قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمًا مِنَ الْحُجُرَاتِ وَمَعَهُ عَلِيُّ بن أبي طالب، فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ كَالْبَدَوِيِّ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إن قَرْيَةُ بَنِي فُلَانٍ قَدْ أَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فكنت حدثتهم: أنهم- إِنْ أَسْلَمُوا- أَتَاهُمُ الرِّزْقُ رَغَدًا، وَقَدْ أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ وشدة وقحوط من الغيث. وإني أَخْشَى يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْإِسْلَامِ طَمَعًا كَمَا دَخَلُوا فِيهِ طَمَعًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُرْسِلَ إِلَيْهِمْ بِشَيْءٍ تُعِينَهُمْ به؟ قال فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى رَجُلٍ إِلَى جَانِبِهِ أُرَاهُ عَلِيًّا، فَقَالَ: مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ: فَدَنَوْتُ إليه، فقلت له يَا مُحَمَّدُ، هَلْ لَكَ أَنْ تُبِيعَنِي تَمْرًا مَعْلُومًا مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ إِلَى أَجَلِ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: لَا يَا يَهُودِيُّ، ولكن أُبِيعُكَ تَمْرًا مَعْلُومًا إِلَى أَجَلِ كَذَا وَكَذَا، وَلَا أُسَمِّي حَائِطَ بَنِي فُلَانٍ، قال فقلت نَعَمْ، فَبَايَعَنِي فَأَطْلَقْتُ هِمْيَانِي فَأَعْطَيْتُهُ ثَمَانِينَ مِثْقَالًا. مِنْ ذَهَبٍ فِي تَمْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلِ كَذَا وَكَذَا، فأعطى الرجل،

(المقدمة/33)


وقال: اعجل عليهم، وأغثهم بمال زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ. فَلَمَّا كَانَ قِبَلَ مَحِلِّ الْأَجَلِ بيومين أو ثلاثة، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وعثمان، في نفر في أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا صَلَّى عَلَى الجنازة ودنا مِنْ جِدَارٍ لِيَجْلِسَ إِلَيْهِ، أتيته فأخذت بجوامع قَمِيصِهِ وَرِدَائِهِ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بوجه غليظ، وقلت: ألا تقضيني يا محمد حقي. فو الله، ما علمتكم يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إلا لمطلق، وقد كان لي بخالطتكم علم. قال فنظر إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وعيناه تدوران في وجهه كَالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ. ثُمَّ رَمَانِي بطرفه وقال: يَا عَدُوَّ اللهِ، أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَسْمَعُ؟ وتفعل به ما أرى؟ فو الذي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، لَوْلَا مَا أحاذر قوته، لَضَرَبْتُ بِسَيْفِي رَأْسَكَ. وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَبَسُّمٍ. ثم قال: أَنَا وَهُوَ كُنَّا أَحْوَجَ الى غير هذا منك يا عمر» أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْأَدَاءِ، وتأمره بحسن التقاضي. اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ فاقضه حَقَّهُ، وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا مَكَانَ مَا رُعْتَهُ.
قَالَ زَيْدٌ فَذَهَبَ بِي عُمَرُ فقضاني حَقِّي، وَزَادَنِي عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَقُلْتُ مَا هَذِهِ الزيادة؟ فَقَالَ أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، أَنْ أُزِيدَكَ، مَكَانَ مَا رُعْتُكَ.
فَقُلْتُ: أَتَعْرِفُنِي يَا عُمَرُ؟ قَالَ: لَا، فَمَنْ أنت؟ فقلت: أَنَا زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ.
قَالَ: الْحَبْرُ. قُلْتُ: الْحَبْرُ. قال فما دعاك أن تقول لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قُلْتِ، وتفعل به ما فعلت؟ قلت يا عمر، كل علامات النبوة قد عرفت فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ، إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا مِنْهُ يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلَا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إلا حلما. فقد أخبرتهما. فَأُشْهِدُكَ يَا عُمَرُ أَنِّي قَدْ رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وبمحمد نَبِيًّا، وَأُشْهِدُكَ أَنَّ شَطْرَ مالي- فإني أكثرها مَالًا- صَدَقَةٌ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ عُمَرُ أَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ، فإنك لا تسعهم كلهم. قلت: أو على بعضهم. قال: فَرَجَعَ عُمَرُ وَزَيْدٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ زَيْدٌ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله، فآمن بِهِ وَصَدَّقَهُ وَتَابَعَهُ، وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم، مشاهد كثيرة. ثم قتل في غزاة

(المقدمة/34)


تبوك: شهيدا مقبلا غير مدبر رحمه الله.
دلائل النبوة في إسلام الطبيب ضماد:
أتى صماد بن ثعلبة مكة معتمرا، فسمع كفار قريش، يقولون.
محمد مجنون. فقال: لو أتيت هذا الرجل فداويته، فجاءه فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أداوي من الريح فإن شئت داويتك لعلّ الله ينفعك، فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم وحمد الله وتكلّم بكلمات فأعجب ذلك ضمادا فقال: أعدها عليّ فأعادها عليه فقال: لم أسمع مثل هذا الكلام قط، لقد سمعت كلام الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل هذا قط، لقد بلغ قاموس البحر، فأسلّم وبايع على نفسه وعلى قومه.
دلائل النبوة في إسلام الحبر: عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ:
عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ حِينَ أَسْلَمَ، وَكَانَ حَبْرًا عَالِمًا قَالَ: لَمَّا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم، وَعَرَفْتُ صِفَتَهُ وَاسْمَهُ وَهَيْئَتَهُ، والذي كنا نتوقف لَهُ، فَكُنْتُ مُسِرًّا لِذَلِكَ، صَامِتًا عَلَيْهِ، حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا نَزَلَ بِقُبَاءٍ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ حَتَّى أَخْبَرَ بِقُدُومِهِ، وَأَنَا فِي رَأْسِ نَخْلَةٍ لِي أَعْمَلُ فِيهَا، وَعَمَّتِي خَالِدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ تَحْتِي جَالِسَةً. فَلَمَّا سَمِعَتُ الْخَبَرَ بِقُدُومِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَبَّرْتُ، فَقَالَتْ لِي عَمَّتِي حِينَ سَمِعَتْ تَكْبِيرِيَ: لَوْ كُنْتَ سَمِعْتَ بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مَا زاد؟ قَالَ قُلْتُ: لَهَا أَيْ عَمَّةُ، هُوَ وَاللهِ أَخُو موسى ابن عِمْرَانَ وَعَلَى دِينِهِ بُعِثَ بِمَا بُعِثَ بِهِ، قَالَ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أَخِي، أَهُوَ النَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نُخْبَرُ بِهِ. أَنَّهُ يُبْعَثُ مَعَ بَعْثِ السَّاعَةِ قَالَ: قُلْتُ لَهَا نَعَمْ. قَالَتْ فَذَاكَ إِذًا ... قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِ بَيْتِي فَأَمَرْتُهُمْ، فَأَسْلَمُوا، وَكَتَمْتُ إِسْلَامِي مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، فَقُلْتُ:

(المقدمة/35)


إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمُ بُهْتٍ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُدْخِلَنِي فِي بَعْضِ بُيُوتِكَ: تُغَيِّبُنِي عنهم، ثم تسألهم عنّي، فيخبرونك كَيْفَ أَنَا فِيهِمْ، قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَإِنَّهُمْ إِنْ عَلِمُوا بِذَلِكَ، بَهَتُونِي وَعَابُونِي،
قَالَ: فَأَدْخَلَنِي بَعْضَ بُيُوتِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَكَلَّمُوهُ، وسألوه، قَالَ لَهُمْ: أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ فِيكُمْ؟ قَالُوا:
سَيِّدُنَا، وَابْنُ سيدنا، وحبرنا وَعَالِمُنَا.
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ قَوْلِهِمْ، خَرَجْتُ عَلَيْهِمْ، فَقُلْتُ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقُوا اللهَ وَاقْبَلُوا ما جاءكم به، فو الله إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ في التوراة، اسمه وَصِفَتِهِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ رسول الله، وأؤمن بِهِ، وَأُصَدِّقُهُ وَأَعْرِفُهُ، قَالُوا: كَذَبْتَ.. ثُمَّ وَقَعُوا فِيَّ.
قَالَ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنَّهُمْ قَوْمٌ بُهْتٌ؟ أَهْلُ غَدْرٍ، وَكَذِبٍ، وَفُجُورٍ؟ قَالَ: فَأَظْهَرْتُ إِسْلَامِي وَإِسْلَامَ أَهْلَ بَيْتِي، وَأَسْلَمَتْ عَمَّتِي ابْنَةُ الْحَارِثِ فحسن إسلامها» .
وهذه رواية أخرى عن إسلام عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ لا تناقض الأولى وإنما تؤيدها وتفسرها.
سمع به (بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَبْدَ اللهِ بْنُ سَلَامٍ وَهُوَ فِي نَخْلٍ لِأَهْلِهِ يَخْتَرِفُ لَهُمْ مِنْهُ، فَعَجِلَ أَنْ يَضَعَ التي يحترف فِيهَا، فَجَاءَ، وَهِيَ مَعَهُ فَسَمِعَ مِنْ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ،
فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟ قَالَ:
فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللهِ، هَذِهِ دَارِي، وَهَذَا بَابِي. فَقَالَ: اذهب فهيء لَنَا مَقِيلًا. فَذَهَبَ فَهَيَّأَ لَهُمَا مَقِيلًا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، قَدْ هَيَّأْتُ لَكُمَا مَقِيلًا، قُومَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ فَقِيلَا.
قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ:

(المقدمة/36)


أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ حَقًّا، وَأَنَّكَ جِئْتَ بِحَقٍّ، وَلَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ، وَابْنُ سَيِّدِهِمْ، وَأَعْلَمُهُمْ وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ، فَادْعُهُمْ فَسَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، قَالُوا فِيَّ مَا لَيْسَ فِيَّ، فَأَرْسَلَ نَبِيُّ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَيْلَكُمُ اتقوا الله، فو اللهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ حَقًّا، وَأَنِّي جِئْتُكُمْ بِحَقٍّ، أَسْلِمُوا!!! قَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ. فَأَعَادَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ؟ قَالُوا: ذَاكَ سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا، وَأَعْلَمُنَا، وَابْنُ أَعْلَمِنَا.
قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟ قالوا: حاش الله، مَا كَانَ لِيُسْلِمَ.
قَالَ: يَا ابْنَ سَلَامٍ، اخْرُجْ عَلَيْهِمْ! فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَيْلَكُمُ، اتقوا الله، فو اللهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ حَقًّا، وَأَنَّهُ جَاءَ بِحَقٍّ. فَقَالُوا: «كَذَبْتَ، فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم» .
وعن الترمذي وابن نافع وغيرهما بأسانيدهم: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سلام قَالَ:
لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم المدينة، جئته لأنظر إليه، فلما استبنت وجهه عرفت أن وَجْهُهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ.
سلمان الفارسي يبحث عن الحقيقة:
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودِ ابن لَبِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قال:
كنت رَجُلًا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: «جَيُّ» وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ أَرْضِهِ. وَكَانَ يُحِبُّنِي حُبًّا شَدِيدًا، لَمْ يُحِبَّهُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ وَلَا وَلَدِهِ. فَمَا زَالَ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حبسني في بيت كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ، وَاجْتَهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ، حَتَّى كُنْتُ قاطن النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا وَلَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو

(المقدمة/37)


سَاعَةً. فَكُنْتُ كَذَلِكَ لَا أَعْلَمُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا إِلَّا مَا أَنَا فِيهِ. حَتَّى بَنَى أَبِي بُنْيَانًا لَهُ، وَكَانَتْ لَهُ ضَيْعَةٌ فِيهَا بَعْضُ الْعَمَلِ، فَدَعَانِي فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، إِنَّهُ قَدْ شَغَلَنِي مَا تَرَى مِنْ بُنْيَانِي عَنْ ضَيْعَتِي هَذِهِ، وَلَا بُدَّ مِنِ اطِّلَاعِهَا، فَانْطَلِقْ إِلَيْهَا، فمرهم بكذا وكذا، ولا تحتبس عَنِّي، فَإِنَّكَ إِنِ احْتَبَسْتَ عَنِّي، شَغَلْتَنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا هَؤُلَاءِ النَّصَارَى يُصَلُّونَ. فَدَخَلْتُ أَنْظُرُ، فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ حَالِهِمْ، فو الله مَا زِلْتُ جَالِسًا عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَبَعَثَ أَبِي فِي طَلَبِي فِي كل وجه حَتَّى جِئْتُهُ حِينَ أَمْسَيْتُ، وَلَمْ أَذْهَبْ إِلَى ضَيْعَتِهِ، فَقَالَ أَبِي: أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلَمْ أَكُنْ قُلْتُ لَكَ لا تحتبس عني، فَقُلْتُ:
يَا أَبَتَاهُ! مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُقَالُ لَهُمُ: النَّصَارَى، فأعجبني صلاتهم وَدُعَاؤُهُمْ فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ كَيْفَ يَفْعَلُونَ؟
فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِمْ.
فَقُلْتُ: لَا وَاللهِ، مَا هُوَ بِخَيْرٍ مِنْ دِينِهِمْ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ اللهَ، وَيَدْعُونَهُ وَيُصَلُّونَ لَهُ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَعْبُدُ نَارًا نُوقِدُهَا بِأَيْدِينَا، إِذَا تَرَكْنَاهَا مَاتَتْ فَخَافَنِي، فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ حَدِيدًا، وَحَبَسَنِي فِي بَيْتٍ عِنْدَهُ، فَبَعَثْتُ إِلَى النَّصَارَى، فَقُلْتُ لَهُمْ:
أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ الَّذِي أَرَاكُمْ عَلَيْهِ؟ فَقَالُوا: بِالشَّامِ. فَقُلْتُ: فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ مِنْ هُنَاكَ نَاسٌ فأذنوني. فقالوا: نَفْعَلُ. فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ نَاسٌ من تجارهم، فَبَعَثُوا إِلَيَّ أَنَّهُ قَدْ قَدِمَ عَلَيْنَا تُجَّارٌ مِنْ تُجَّارِنَا فَبَعَثْتُ إِلَيْهِمْ إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وأرادوا فأذنوني الخروج فَقَالُوا: نَفْعَلُ. فَلَمَّا قَضَوْا حَوَائِجَهَمْ وَأَرَادُوا الرَّحِيلَ، بَعَثُوا إِلَيَّ بِذَلِكَ، فَطَرَحْتُ الْحَدِيدَ الَّذِي فِي رِجْلَيَّ، وَلَحِقْتُ بِهِمْ.
فَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا سألت: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا

(المقدمة/38)


الدِّينِ؟ فَقَالُوا: الْأَسْقُفُّ صَاحِبُ الْكَنِيسَةِ، فَجِئْتُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي كَنِيسَتِكَ، وَأَعْبُدُ الله فيها مَعَكَ، وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ الْخَيْرَ. قَالَ: فَكُنْ مَعِي. قَالَ: فَكُنْتُ مَعَهُ، وَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ، ويرغبهم فيها، فإذا جمعها إِلَيْهِ اكْتَنَزَهَا وَلَمْ يُعْطِهَا المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُ مِنَ حَالِهِ، فَلَمْ يَنْشَبْ أَنْ مَاتَ، فَلَمَّا جَاءُوا لِيَدْفِنُوهُ قُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا رَجُلُ سَوْءٍ، وكان يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، حَتَّى إِذَا جَمَعْتُمُوهَا إِلَيْهِ، اكْتَنَزَهَا وَلَمْ يُعْطِهَا الْمَسَاكِينَ، فَقَالُوا:
وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُخْرِجُ لَكُمْ كنزها، فَقَالُوا: فَهَاتِهِ، فَأَخْرَجْتُ لَهُمْ سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَالُوا: وَاللهِ لَا يُدْفَنُ أَبَدًا..
فَصَلَبُوهُ عَلَى خَشَبَةٍ وَرَمَوهُ بِالْحِجَارَةِ، وَجَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَجَعَلُوهُ مَكَانَهُ فَلَا وَاللهِ- يَا ابْنَ عَبَّاسٍ- مَا رَأَيْتُ رَجُلًا قَطُّ لا يصلي الخمس. رأى أنه أفضل منه وأشد اجتهادا ولا زهادة فِي الدُّنْيَا، وَلَا أَدْأَبَ ليلا ونَهَارًا مِنْهُ، مَا أَعْلَمُنِي أَحْبَبْتُ شَيْئًا قَطُّ قَبْلَهُ حُبَّهُ. فَلَمْ أَزَلْ مَعَهُ حَتَّى حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ: يَا فُلَانُ قَدْ حَضَرَكَ، مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللهِ، وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَحْبَبْتُ شَيْئًا قَطُّ حُبَّكَ، فَمَاذَا تَأْمُرُنِي؟ وَإِلَى مَنْ تُوصِينِي؟ فقال لِي: أَيْ بُنَيَّ، وَاللهِ مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا رَجُلًا بالموصل فَأْتِهِ، فَإِنَّكَ سَتَجِدُهُ عَلَى مِثْلِ حَالِي، فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ، لَحِقْتُ بِالْمَوْصِلِ فَأَتَيْتُ صَاحِبَهَا فَوَجَدْتُهُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ وَالزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا، فَقُلْتُ لَهُ: إن فلانا أوصى بي إِلَيْكَ أَنْ آتِيَكَ وَأَكُونَ مَعَكَ، قَالَ: فَأَقِمْ أَيْ بُنَيَّ، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ عَلَى مِثْلِ أَمْرِ صَاحِبِهِ حَتَّى حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: إن فلانا أوصى بي إليك وقد حضر لك مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا تَرَى، فَإِلَى مَنْ تُوصِينِي؟ قال: وَاللهِ مَا أَعْلَمُهُ أَيْ بني، إلا رجلا بِنَصِيبِينَ، وَهُوَ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَالْحَقْ بِهِ، فَلَمَّا دَفَنَّاهُ لَحِقْتُ بِالْآخَرِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فلان، إن فلانا أوصى بي إلى فلان وفلان أوصى بي إِلَيْكَ. قَالَ: فَأَقِمْ يَا بُنَيَّ؟.
فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِمْ حَتَّى حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ،

(المقدمة/39)


إِنَّهُ قَدْ حَضَرَكَ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا تَرَى، وقد كان فلان أوصى بي إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إليك، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ إلا رجلا بِعَمُّورِيَّةَ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ، فَأْتِهِ، فَإِنَّكَ سَتَجِدُهُ عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ، فَلَمَّا وَارَيْتُهُ خَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى صَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِمْ، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَتْ لِي غُنَيْمَةٌ وَبَقَرَاتٌ. ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ: يَا فُلَانُ إِنَّ فُلَانًا (كان) أوصى بي إِلَى فُلَانٍ، وَفُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، وَفُلَانٌ إِلَيْكَ، وقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللهِ (تَعَالَى) فَإِلَى مَنْ تُوصِينِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ، آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهَ. وَلَكِنَّهُ قَدْ أظلك زمانه نَبِيٍّ يُبْعَثُ مِنَ الْحَرَمِ، مهاجره بين حراثين إِلَى أَرْضٍ سَبِخَةٍ ذَاتِ نَخِيلٍ، وَإِنَّ فِيهِ عَلَامَاتٍ لَا تَخْفَى: بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَخْلُصَ إِلَى تِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ، فَإِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُهُ.
فَلَمَّا وَارَيْنَاهُ، أَقَمْتُ حَتَّى مَرَّ بي رِجَالٌ مِنْ تُجَّارِ الْعَرَبِ مِنْ كَلْبٍ. فَقُلْتُ لَهُمْ تحملونني معكم إلى أَرْضَ الْعَرَبِ، وَأُعْطِيكُمْ غَنِيمَتِي هَذِهِ وَبَقَرَاتِي؟ قَالُوا نَعَمْ، فَأَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا وَحَمَلُونِي، حَتَّى إِذَا جَاءُوا بِي وَادِيَ الْقُرَى، ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ بِوَادِي القرى. فو الله، لَقَدْ رَأَيْتُ النَّخْلَ وَطَمِعْتُ أن يكون الْبَلَدُ الَّذِي نَعَتَ لِي صَاحِبِي. وَمَا حَقَّتْ عِنْدِي حَتَّى قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قريظة من وَادِيَ الْقُرَى، فَابْتَاعَنِي مِنْ صَاحِبِي الَّذِي كُنْتُ عِنْدَهُ، فَخَرَجَ بِي حَتَّى قَدِمَ بِي الْمَدِينَةَ، فو الله، مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رأيتها فعرفت نعتها، فأقمت في رقي مَعَ صَاحِبِي، وَبَعَثَ اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، لَا يَذْكُرُ لي شيء مِنْ أَمْرِهِ، مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الرِّقِّ، حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم قُبَاءَ، وَأَنَا أَعْمَلُ لِصَاحِبِي في نخلة له، فو الله رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم فقر لهما، فَإِذَا فَرَغْتَ فَآذِنِّي، حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّذِي أَضَعُهَا بين يدي، فَفَقَّرْتُهَا وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي. يَقُولُ: حَفَرْتُ لَهَا حَيْثُ تُوضَعُ- حَتَّى فَرَغْنَا مِنْهَا، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ

(المقدمة/40)


الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ فَرَغْنَا مِنْهَا فَخَرَجَ مَعِي حَتَّى جَاءَهَا، وَكُنَّا نَحْمِلُ إِلَيْهِ الْوَدِيَّ، وَيَضَعُهُ بِيَدِهِ وَيُسَوِّي عَلَيْهَا، فو الذي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، فأديت النخل وَبَقِيَتْ عَلَيَّ الدَّرَاهِمُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ الْمَعَادِنِ بِمِثْلِ الْبَيْضَةِ مِنَ الذَّهَبِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ الْفَارِسِيُّ الْمُسْلِمُ الْمُكَاتَبُ، فَدُعِيتُ لَهُ فَقَالَ: هَذِهِ يَا سَلْمَانُ، فَأَدِّهَا مِمَّا عَلَيْكَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ قَالَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى سَيُؤَدِّي بها عنك، فو الذي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ، لَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فأديتها إليهم، وَكَانَ الرِّقُّ قَدْ حَبَسَنِي، حَتَّى فَاتَنِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلّم «بدر» و «أحد» ثُمَّ عُتِقْتُ فَشَهِدْتُ، الْخَنْدَقَ ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مشهد» .
وقال النضر بن الحرث لقريش: قد كَانَ مُحَمَّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا، أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ، وَأَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ الشَّيْبَ، وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ به، قُلْتُمْ: سَاحِرٌ. لَا وَاللهِ ما هو بساحر.
أخرج الواحدي، عن مقاتل، قال:
كان الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، يكذب النبي صلى الله عليه وسلّم في العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته، قال: ما محمد صلى الله عليه وسلّم من أهل الكذب، ولا أحسبه إلا صادقا، فأنزل الله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قال: «بينما نحن جلوس مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلّم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ.. فقال له الرجل: ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلّم: قد أجبتك. فقال الرجل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلّم: إني سائلك، فمشدد عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلَا تجد علي في نفسك.

(المقدمة/41)


فقال سل عَمَّا بَدَا لَكَ.. فَقَالَ: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ .. فَقَالَ: اللهُمَّ نَعَمْ..
قَالَ: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ .. قَالَ: اللهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قَالَ: اللهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ .. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللهُمَّ نَعَمْ.
فقال الرجل: آمنت بما جئت به وأنا رسول، من ورائي قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة: أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بكر» .
من هذه المقتطفات التي توسعنا في نقلها عن إسلام بعض الصحابة الكبار، وكانت علامات الرسالة المحمدية الصادقة واضطلاع النبي صلى الله عليه وسلّم بأمانتها في أوانها، وقد تجمعت عندهم هذه العلامات، أضف إليها حياة محمد صلى الله عليه وسلّم وما بلغته من سمو وكمال، دفعت الصحابة الأوائل إلى الإسلام.. لقد كانت طوالع النبوة، وشواهد ظهور النبي- عليه السلام- مكتوبة قبل أوان ظهوره.
نقل الأستاذ عباس محمود العقاد ما كتبه المؤرخ الهندي «مولانا عبد الحق فديارتي» في كتابه «محمد في الأسفار الدينية العالمية» كما ينقل عن الجماعة الاحمدية الهندية، ثم عن كتاب «فتح الملك العلام في بشائر دين الإسلام لمؤلفيه الأستاذين: أحمد ترجمان ومحمد حبيب، فيقول في مطلع النور:
يقول الأستاذ عبد الحق ان اسم الرسول العربي «أحمد» مكتوب بلفظه العربي في السامافيدا
SamaVida من كتب البراهمة، وقد ورد في الفقرة السادسة والفقرة الثامنة من الجزء الثاني ونصها ان «أحمد» تلقى الشريعة من

(المقدمة/42)


ربه وهي مملوءة بالحكمة وقد قبست منه النور كما يقبس من الشمس» .
ولا يخفى المؤرخ وجوه الاعتراض التي قد تأتي من جانب المفسرين البرهميين، بل ينقل عن أحدهم «سينا اشاريا»
SynaAcharya أنه وقف عند كلمة «أحمد» فالتمس لها معنى هنديا وركب منها ثلاثة مقاطع وهي «أهم» و «آت» و «هي» ... وحاول أن يجعلها تفيد «انني وحدي تلقيت الحكمة من أبي» .. قال الأستاذ عبد الحق ما فحواه أن العبارة منسوبة الى البرهمي «فاتزا كانفا» Kanva من أسرة كانفا، ولا يصدق عليه القول بأنه هو وحده تلقى الحكمة من أبيه.
ويزيد الأستاذ عبد الحق على ذلك أن وصف الكعبة المعظمة ثابت في كتاب الأثارفا فيدا
AtharvaVida حيث يسميها الكتاب بيت الملائكة ويذكر من أوصافه أنه ذو جوانب ثمانية وذو أبواب تسعة.
والمؤلف يفسر الأبواب التسعة بالأبواب المؤدية إلى الكعبة وهي باب ابراهيم وباب الوداع وباب الصفا وباب علي وباب عباس وباب النبي وباب السلام وباب الزيارة وباب حرم، ويسرد أسماء الجوانب الثمانية حيث ملتقى الجبال، وهي في قوله: جبل خليج وجبل قعيقعان وجبل هندي وجبل لعلع وجبل كدا، وجبل أبي حديد وجبل أبي قبيس وجبل عمر.
ويضرب المؤلف صفحا عن تفسير البرهميين لمعنى البيت هنا بأنه جسم الإنسان ومنافذه، ولا يذكره لأنه- على ما يظهر- يخالف وصف القداسة الروحية في البرهمية، ولا يأتي بتفسير الجوانب الثمانية عند تفسيره للأبواب بذلك المعنى.
وفي مواضع كثيرة من الكتب البرهمية يرى المؤلف ان النبي محمدا مذكور بوصفه الذي يعني الحمد الكثير والسمعة البعيدة، ومن أسمائه الوصفية اسم سشرافا
Sushrava الذي ورد في كتاب الأثارفا فيدا AtharvaVida حيث يشار

(المقدمة/43)


الى حرب أهل مكة وهزيمة «العشرين والستين ألفا مع تسعة وتسعين» وهم على تقدير المؤلف عدة أهل مكة وزعماء القبائل الكبار ووكلائهم الصغار كما كانوا يوم قاتلوا النبي صلوات الله عليه.
وللمؤلف صبر طويل على توفيق هذه العلامات وأشباهها يستخرج منها الطالع بعد الطالع والنبوءة الى جانب النبوءة مما يغنى المثل عليه عن استقصاء جميع موافقاته وعلاماته.
وكذلك صنع بكتب زرادشت التي اشتهرت باسم الكتب المجوسية فاستخرج من كتاب زندافستا
ZendAvesta نبوءة عن رسول يوصف بأنه رحمة للعالمين «سوشيانت» Soeshyant ويتصدى له عدو يسمى بالفارسية القديمة أبا لهب AngraMainyu، ويدعو الى اله واحد لم يكن له كفؤا أحد (هيچ چيز باونمار) وليس لَهُ أَوَّلٌ وَلَا آخِرٌ ولا ضريع ولا قريع ولا صاحب ولا أب ولا أم ولا صاحبة ولا ولد ولا ابن ولا مسكن ولا جسد ولا شكل ولا لون ولا رائحة.
«جز آخاز وانجاز وانباز ودشمن ومانند ويار وبدر ومادر وزن وفرزند وحاي سوي وتن آسا وتناني ورنگ وبوي است» .
وهذه هي جملة الصفات التي يوصف بها الله سبحانه في الإسلام: أحد صمد، ليس كمثله شيء، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد، ولم يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا.
ويشفع ذلك بمقتبسات كثيرة من كتب الزردشتية، تنبئ عن دعوة الحي التي يجيء بها النبي الموعود وفيها اشارة الى البادية العربية، ومترجم نبذة منها الى اللغة الانجليزية معناها بغير تصرف «أن أمة زردشت حين ينبذون دينهم يتضعضعون وينهض رجل في بلاد العرب يهزم أتباعه فارس، ويخضع الفرس المتكبرين، وبعد عبادة النار في هياكلهم يولون وجوههم نحو كعبة ابراهيم التي تطهرت من الأصنام، ويومئذ يصبحون وهم أتباع للنبي رحمة للعالمين وسادة

(المقدمة/44)


لفارس ومديان وطوس وبلخ، وهي الأماكن المقدسة للزردشتيين ومن جاورهم وان نبيهم ليكونن فصيحا يتحدث بالمعجزات» .
وقد أشار المؤلف بعد الديانات الآسيوية الكبرى الى فقرات من كتب العهد القديم والعهد الجديد فقال: ان النبي عليه السلام هو المقصود بما جاء في الاصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية: «جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران وأتى من ربوات القدس ومن يمينه نار شريعة لهم» .
وجاء بالنص العبري كما يلي:
«ويومر يهووه مسينائي به وزارع مسعير لامو هو فيع مهر باران واتا مر ببوث قودش ميميفوايش داث لامو» .
فترجمه هكذا: «وقال ان الرب جاء من سيناء ونهض من سعير لهم وسطع من جبل فاران وجاء مع عشرة آلاف قديس، وخرج من يمينه نار شريعة لهم» .
وقال ان الشواهد القديمة جميعا تنبئ عن وجود فاران في مكة، وقد قال المؤرخ جيروم واللاهوتي يوسبيوس
Eusebius «ان فاران بلد عند بلاد العرب على مسيرة ثلاثة أيام الى الشرق من ايلة» .
ونقل عن ترجمة التوراة السامرية التي صدرت في سنة 1851، ان إسماعيل «سكن برية فاران بالحجاز، وأخذت له أمه امرأة من أرض مصر» ، ثم قال ان سفر العدد من العهد القديم يفرق بين سيناء وفاران إذ جاء فيه ان بني إسرائيل ارتحلوا «من برية سيناء، فحلت السحابة في برية فاران» ... ولم يسكن أبناء إسماعيل قط في غرب سيناء فيقال ان جبل فاران واقع الى غربها.
وفي الاصحاح الثالث من كتاب حبقوق ان «الله جاء من تيمان والقدوس من

(المقدمة/45)


جبل فاران» فهو اذن الى الجنوب حيث تقع تيمان بموضعها الذي تقع فيه اليمن مرادفتها بالعربية. ولم يحدث قط أن نبيا سار بقيادته عشرة آلاف قديس غير النبي محمد عليه السلام، وقوديش تترجم بقديس في رأي المؤلف الذي يناقش ترجمتها بالملائكة في الترجمات الأخيرة. كذلك لم يحدث قط أن نبيا غيره جاء بشريعة بعد موسى الكليم، فقول موسى الكليم «ان نبيا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم أبناء إبراهيم» يصدق على النبي العربي صاحب الشريعة ولا يصدق على نبي من أبناء إبراهيم تقدمه في الزمن، ويرجح المؤلف أن المدينة التي تعلم فيها موسى عليه السلام في صحبة يثرون- أي شعيب- لم تكن هي مديان الأولى التي تخربت بالزلزال كما جاء في القرآن الكريم، ولكنها كانت «مدينة» الحجاز التي سميت يثرب على اسم يثرون، ومما يعزز ذلك ان بطليموس الجغرافي يقول بوجود موضعين باسم مديان وان كان قد أخطأ على رأي المؤلف في تعيين الموضعين. وقد جاء في سفر التكوين ان مديان بن إبراهيم الذي سميت مديان الأولى باسمه كان له أخ اسمه عفار، وهو الذي يقول نوبل Knoble شارح التوراة ان ذريته كانت تنزل في عهد البعثة الاسلامية الى جوار يثرب، ولعل موسى تلقى اسمه في ذلك الجوار. إذ كانت تسميته العربية أرجح من تسميته المصرية او العبرية، فإن ابنة فرعون لا تسميه بالعبرية ولا يسميه بها من يريد خلاصه من مصير المولودين العبريين، وصحيح ان كلمة ميسو Messu بالمصرية معناها الطفل كما يقول بعض الشراح المحدثين، ولكن اليهود لا يرتضون لنبيهم ومخرجهم من أرض مصر اسما مستعارا من المصريين.
ومن الجماعات التي عنيت عناية خاصة بهذه النبوءات جماعة الاحمدية الهندية التي ترجمت القرآن الكريم الى اللغة الانجليزية فإنها أفردت للنبوءات والطوالع عن ظهور محمد عليه السلام بحثا مسهبا في مقدمة الترجمة، شرحت فيه بعض ما تقدم شرحا مستفيضا، وزادت عليه ان نبوءة موسى الكليم تشتمل

(المقدمة/46)


على ثلاثة أجزاء: وهي التجلي من سيناء وقد حصل في زمانه والتجلي من سعير أو جبل أشعر وقد تجلى في زمن السيد المسيح، لأن هذا الجبل- على قول الجماعة الاحمدية- واقع حيث يقيم أبناء يعقوب الذين اشتهروا بعد ذلك بأبناء أشعر، واما التجلي الثالث فمن أرض فاران وهي أرض التلال التي بين المدينة ومكة، وقد جاء في كتاب فصل الخطاب ان الأطفال يحيون الحجاج في تلك الأرض بالرياحين من «برية فاران» .. وقد أصبح أبناء إسماعيل أمة كبيرة كما جاء في وعد إبراهيم فلا يسعهم شريط من الأرض على تخوم كنعان، ولا وجه لانكار مقامهم حيث أقام العرب المنتسبون الى إسماعيل ولا باعث لهم على انتحال هذا النسب والرجوع به الى جارية مطروة من بيت سيدها. وقد جاء في التوراة اسماء ذرية إسماعيل الذين عاشوا في بلاد العرب، وأولهم نبايوت أو نبات أبو قبائل قريش، الذي يقرر الشارح كاتربكاري Katripikari أنه أقام بذريته بين فلسطين وينبع ميناء يثرب، ويقرر بطليموس وبليني ان أبناء قدور- وهو قيدار الابن الثاني لإسماعيل- قد سكنوا الحجاز، ويضيف المؤرخ اليهودي يوسفيوس إليهم أبناء ادبيل الابن الثالث في ترتيب العهد القديم، ولا حاجة الى البحث الطويل عن مقام أبناء دومة وتيماء وقدامة وأكثر إخوتهم الباقين فإن الأماكن التي تنسب إليهم لا تزال معروفة بأسمائها الى الآن، ومن نبوءة اشعيا التي سبقت مولد السيد المسيح بسبعمائة سنة يظهر جليا أن أبناء إسماعيل كانوا يقيمون بالحجاز، ففي هذه النبوءة يقول النبي اشعيا من الاصحاح الحادي والعشرين: «وحي من جهة بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين. هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء.. وافوا الهارب بخبزه فإنهم من أمام السيوف قد هربوا. من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة الحرب. فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار» .
ويعود المترجمون من الجماعة الأحمدية فيفسرون هزيمة قيدار بهزيمة

(المقدمة/47)


المكيين في وقعة بدر، وهي الهزيمة التي حلت بهم بعد هجرة النبي الى المدينة بنحو سنة كسنة الأجير.
ويقرنون هذه النبوءة بنبوءة أخرى من الاصحاح الخامس في سفر اشعيا يقول فيها: «ويرفع راية الأمم من بعيد ويصفر لهم من أقصى الأرض فإذا هم بالعجلة يأتون.. ليس فيهم رازح ولا عاثر، لا ينعسون ولا ينامون ولا تنحل حزم احقائهم ولا تنقطع سيور أحذيتهم، سهامهم مسنونة وجميع قسيهم ممدودة. حوافر خيلهم كأنها الصوان وبكراتهم كالزوبعة..» .
وهذه نبوءة عن رسول يأتي من غير أرض فلسطين لم تصدق على احد غير رسول الإسلام.
وتلحق بهذه النبوءة نبوءة أخرى من الاصحاح الثامن في سفر اشعيا جاء فيها ان الرب أنذره أن لا يسلك في طريق هذا الشعب قائلا: «لا تقولوا فتنة لكل ما يقول له هذا الشعب فتنة ولا تخافوا خوفه ولا ترهبوا. قدسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم، ويكون مقدسا وحجر صدمة وصخرة عثرة لبيتي إسرائيل وفخا وشركا لسكان أورشليم فيعثر بها كثيرون ويسقطون فينكسرون ويعلقون فيلقطون.. صرّ الشهادة. اختم الشريعة بتلاميذي. فاصطبر للرب الساتر وجهه عن بيت يعقوب وانتظره» .
فهذه النبوءة عن الرسول الذي يختم الشريعة تصدق على نبي الإسلام ولا تصدق على رسول جاء قبله ولا بعده.
وتلحق بهذه النبوءة أيضا نبوءة من الاصحاح التاسع عشر في سفر اشعيا يذكر فيها ايمان مصر بالرسول المنتظر «وفي ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط ارض مصر وعمود للرب عند تخمها، فيكون علامة وشهادة لرب الجنود

(المقدمة/48)


في أرض مصر لأنهم يصرخون الى الرب بسبب المضايقين، فيرسل لهم مخلصا ومحاميا وينقذهم فيعرف الرب في مصر، ويعرف المصريون الرب في ذلك اليوم ويقدمون ذبيحة وتقدمة وينذرون للرب نذرا ويوفون به، ويضرب الرب مصر ضاربا فشافيا، فيرجعون الى الرب فيستجيب لهم ويشفيهم. وفي ذلك اليوم تكون سكة من مصر الى اشور فيجيء الاشوريون الى مصر والمصريون الى اشور ويعبد المصريون مع الأشوريين. في ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثا لمصر ولأشور بركة في الأرض. بها يبارك رب الجنود قائلا: مبارك شعبي مصر وعمل يدي اشور وميراثي إسرائيل» .
فالذي حدث من قدوم أهل العراق الى مصر وذهاب أهل مصر الى العراق انما حدث في ظل الدعوة الاسلامية، ولم تتوحد العبادة بينهم قبل تلك الدعوة، وإن النبوءة ستتم غدا على غير ما يهواه بنو إسرائيل، إذ تكون البركة لمصر واشور ولا تكون إسرائيل الا لاحقة بكلتا الأمتين.
ثم ينتقلون بالنبوءات الى سفر دانيال حيث جاء في الاصحاح الثاني «أنت أيها الملك كنت تنظر وإذا بتمثال عظيم. هذا التمثال العظيم البهي جدا وقف قبالتك ومنظره هائل. رأس هذا التمثال من ذهب جيد، وصدره وذراعاه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه من حديد، وقدماه بعضها من حديد والبعض من خزف، كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما. فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معا، وصارت كعصافة البيدر في الصيف، فحملتها الريح، فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلا كبيرا، وملأ الأرض كلها» ..

(المقدمة/49)


ويلي ذلك تفسير النبي دانيال لهذا الحلم إذ يقول: «أنت أيها الملك ملك ملوك لأن إله السماوات أعطاك مملكة واقتدارا وسلطانا وفخرا، وحيثما يسكن بنو البشر ووحوش البر وطيور السماء دفعها ليدك وسلطك عليها جميعها، فأنت هذا الرأس من ذهب، وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك ومملكة ثالثة أخرى من نحاس فتتسلط على كل الأرض وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد، لأن الحديد يدق ويسحق كل شيء، وكالحديد الذي يكسر تسحق وتكسر كل هؤلاء وبما رأيت القدمين والأصابع بعضها من خزف والبعض من حديد فالمملكة تكون منقسمة وتكون فيها قوة كالحديد ومن حيث انك رأيت الحديد مختلطا بخزف الطين وأصابع القدمين بعضها من حديد وبعضها من خزف فبعض المملكة يكون قويا والبعض قصما، وبما رأيت الحديد مختلطا بخزف الطين فإنهم يختلطون بنسل الناس ولكن لا يتلاصق هذا بذاك كما أن الحديد لا يختلط بالخزف، وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبدا وملكها لا يترك لشعب آخر وتسحق وتفنى كل هذه الممالك وهي تثبت الى الأبد، لأنك رأيت أنه قد قطع حجر من جبل لا بيدين، فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب ... الله العظيم قد عرف الملك ما سيأتي بعد هذا. الحلم حق وتعبيره يقين» .
وتعود الجماعة الأحمدية الى التاريخ لتستمد منه التعليق على تعبير النبي دانيال لتلك الرؤيا، فن كلام النبي دانيال يفهم أن الرأس الذهبي هو ملك بابل، وان الصدر والذراعين من الفضة تعبر عن مملكة فارس وميدية التي ارتفعت بعد دولة بابل، وان الرجلين من النحاس تعبران عن الدولة الاغريقية في ظل الإسكندر، لقيامها بعد زوال حكم الفارسيين والميديين، وان القدمين من الحديد تعبران عن الدولة الرومانية التي ارتفعت بعد ذهاب ملك الإسكندر، وتقول الرؤيا عن هذه الدولة الاخيرة ان قدما من قدميها خزف والأخرى حديد، وهو وصف يشير الى جزء من الدولة في القارة الأوروبية وجزء منها في القارة

(المقدمة/50)


الاسيوية، فالقدم الحديد هي سيطرة الأمة الواحدة والعقيدة الواحدة وهذه السيطرة تستولي على أقطار شاسعة وموارد غزيرة ولكنها تنطوي على الضعف الكامن من جراء التفكك بين أوصال الشعوب، والرؤيا صريحة في وشك انحلال الدولة الرومانية في السنوات الأخيرة لهذا السبب، وتستطرد من ثم إلى أمور أهم وأخطر إذ تقول: «انك كنت تنظر الى ان قطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما. فالمسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معا وصارت كعصافة البيدر في الصيف فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلا كبيرا وملأ الأرض كلها..» .
تقول الجماعة: «فهذه نبوءة بظهور الإسلام. فقد اصطدم الإسلام في صدر الدعوة بدولة الرومان ثم بدولة فارس، وكانت دولة الرومان يومئذ قد بسطت سلطانها على ملك الاغريق الاسكندري فبلغت من المنعة غايتها، وكانت دولة فارس قد بسطت سلطانها على بابل، ثم ضربتهما قوة الإسلام فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة معا وصارت كعصافة البيدر في الصيف، وهكذا ينبئ ترتيب الحوادث وتعبيرها في رؤيا دانيال أنباء لا ريب في معناه.. إذ كنا نعلم أن بابل خلفتها فارس وميدية وان سطوة فارس وميدية كسرتها سطوة الإسكندر، وان ملك الإسكندر خلفته الدولة الرومانية التي أقامت من عاصمتها القسطنطينية أركان مملكة أوروبية أسيوية، ثم انهزمت هذه المملكة وأدال منها الفتح الاسلامي وغزوات النبي والصحابة» .
وهذا الحجر الذي جاء في رؤيا دانيال يذكره اشعيا والحواري متى، ففي الاصحاح الثامن من سفر اشعيا انه «يكون مقدسا وحجر صدمة وصخرة عثرة لكل من بيتي إسرائيل، وفخا وشركا لسكان أورشليم، ويعثر بهما كثيرون

(المقدمة/51)


ويسقطون ويعلقون فيلقطون» .
وفي الاصحاح الحادي والعشرين من إنجيل متى يقول: «لذلك أقول لكم أن ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه» .
كذلك يذكره المزمور الثامن عشر بعد المائة إذ يقول: «ان الحجر الذي رفضه البناءون قد أصبح عقد البناء وركن الزاوية» .
ويتبين من كلام السيد المسيح في الاصحاح الحادي والعشرين من إنجيل متى المتقدم ذكره ان هذه النبوءة تنبئ عن زمن غير زمن السيد المسيح، إذ يقول عليه السلام: «أما قرأتم قط في الكتب ان الحجر الذي يرفضه البناءون قد صار رأس الزاوية. فمن قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا» .
ثم تفضي النبوءة- نبوءة النبي دانيال- الى عقباها، فيصبح الحجر جبلا عظيما ويملأ الأرض كلها. فإن هذا هو الذي حدث بعد انتشار الدعوة المحمدية. فإن الرسول الكريم وصحابته هزموا قيصر وكسرى وأصبح المسلمون سادة للعالم المعمور كله في ذلك العصر، وصار الحجر جبلا عظيما فظل زمام العالم في أيدي اتباع محمد ألف سنة.
ثم تتم نبوءات العهد القديم بنبوءات العهد الجديد، ويستشهد جماعة الأحمدية بالاصحاح الحادي والعشرين من إنجيل متى حيث يقول السيد المسيح: «اسمعوا مثلا آخر. كان انسان رب بيت غرس كرما وأحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى برجا وسلمه إلى كرامين وسافر ولما قرب وقت الاثمار أرسل عبيده الى الكرامين ليأخذ أثماره. فأخذ الكرامون عبيده وجلدوا بعضا وقتلوا بعضا ورجموا بعضا، ثم أرسل إليهم ابنه أخيرا قائلا انهم يهابون ابني.

(المقدمة/52)


فأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلموا نقتله ونأخذ ميراثه، فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه، فمتى جاء صاحب الكرم فماذا يفعل بأولئك الكرامين؟ .. قالوا له انه يهلك أولئك الأردياء هلاكا رديئا ويسلم الكرم الى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها.. قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب ان الحجر الذي رفضه البناءون قد صار رأس الزاوية؟ .. من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا.. لذلك أقول لكم أن ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه. ولما سمع الكهنة والفريسيون أمثاله عرفوا أنه تكلم عليهم، وإذ كانوا يريدون أن يمسكوه خافوا من الجموع لأنه كان عندهم مثل نبي» .
هذا المثل يبحثه كتاب المقدمة لترجمة القرآن فيقولون ان السيد المسيح قد لخص به تاريخ الأنبياء والرسل أجمعين. فالكرم هو الدنيا والكرامون العاملون فيه هم الجنس البشري الكادح في دنياه، والثمرات التي يريد صاحب الكرم أن يحصلها هي ثمرات الفضيلة والخير والتقوى، والخدم الموفدون من صاحب الكرم الى الكرامين هم الرسل والأنبياء، ولما جاءهم السيد المسيح بعد اعراضهم عن الرسل والأنبياء فغدروا به وأنكروه عوقبوا بتسليم الكرم الى كرامين آخرين ونزع ملكوت الله منهم لتعطاه الأمة الأخرى الموعودة بالبركة مع أمة إسحاق، وهي أمة إسماعيل ونبيها العظيم محمد عليه السلام، وهو الذي يصدق عليه وعلى قومه أنهم كانوا الحجر المرفوض فأصبح هذا الحجر زاوية البناء من سقط عليه رضه ومن أصيب به فهو كذلك مرضوض.
وتتلو هذه النبوءة في إنجيل متى نبوءة متممة من الإنجيل نفسه حيث جاء في الاصحاح الثالث والعشرين منه خطابا لبني إسرائيل «هو ذا بيتكم يترك لكم

(المقدمة/53)


خرابا، لأني أقول لكم أنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب» .
وفي الاصحاح الأول من إنجيل يوحنا نبأ يحيى المغتسل أو يوحنا المعمدان مع الكهنة واللاويين «إذ سألوه: من أنت؟ فاعترف ولم ينكر. وقال اني لست أنا المسيح. فسألوه: اذن ماذا؟ .. أأنت إيليا؟ .. فقال لا..
قالوا: أأنت النبي؟ .. فأجاب: لا.. فقالوا له: من أنت لنعطي جوابا للذين أرسلونا؟ ..ماذا تقول عن نفسك؟ .. قال: أنا صوت صارخ في البرية، قوّموا طريق الرب كما قال أشعيا النبي» .
ويعقب أصحاب المقدمة للترجمة القرآنية على هذه النبوءات فيقولون انها كانت ثلاثا في عصر الميلاد المسيحي كما هو واضح من الاسئلة والأجوبة:
نبوءة عن عودة إيليا، ونبوءة عن مولد السيد المسيح، ونبوءة عن نبي موعود غير إيليا والسيد المسيح.
ولقد أعلن السيد المسيح كما جاء في الاصحاح الحادي عشر من إنجيل متى: «ان جميع الأنبياء والناموس الى يوحنا تنبئوا، وان أردتم أن تقبلوا فهذا- أي يحيى المغتسل- هو إيليا المزمع أن يأتي» .
وواضح من الاصحاح الأول من إنجيل لوقا ان الملك بشر زكريا بأن امرأته ستلد له ولدا وتسميه يوحنا.. «وانه يكون عظيما أمام الرب لا يشرب خمرا ولا مسكرا، ويمتلئ من بطن أمه بالروح القدس، ويرد كثيرين من بني إسرائيل الى الرب إلههم، ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء الى الأبناء» .
وفي الاصحاح التاسع من إنجيل مرقس يقول السيد المسيح: «ان إيليا أيضا قد أتى وعملوا به كل ما أرادوا كما هو مكتوب عنه» .

(المقدمة/54)


ويتكرر ذلك في إنجيل متى إذ يقول: «ان إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا» .
فالنبي إيليا قد تقدم اذن في عصر الميلاد، وقد جاء فيه المسيح أيضا ثم بقي ذلك النبي الموعود. ولم يظهر بعد السيد المسيح نبي صدقت عليه الصفات الموعودة غير محمد عليه السلام، وكلام السيد المسيح في الاصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا يبين للتلاميذ «انه خير لكم أن أنطلق لأنه ان لم أنطلق لا يأتيكم المعزى، ولكن ان ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطيئة وعلى بر وعلى دينونة. فأما على خطيئة فلأنهم لا يؤمنون بي، واما على بر فلأني ذاهب الى أبي ولا ترونني أيضا، واما على دينونة فلان رئيس هذا العالم قد دين، وان لدي أمورا كثيرة أقولها لكم ولكن لا تستطيعون ان تحتملوها الآن، واما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم الى الحق جميعه، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية، وذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم، وكل ما للأب فهو لي. لهذا قلت انه يأخذ مما لي ويخبركم وبعد قليل لا تبصرونني..» .
وقد جاء نبي الإسلام ممجدا للسيد المسيح يسميه روح الله ويجدد رسالته لأنها رسالة الله.
وبعد تأويلات شتى من قبيل ما تقدم تختتم الجماعة الأحمدية بحثها بالاشارة إلى ما جاء في الاصحاح الثالث من أعمال الرسل الذي ينبئ عن تتابع النبوءات من صمويل الى السيد المسيح بظهور نبي كموسى الكليم صاحب شريعة يحقق الوعد لأبناء إبراهيم ويبارك جميع قبائل الأرض، ويكون هذا النبي من اخوة بني إسرائيل لا منهم. فهو من ذرية إسماعيل لا من ذرية إسحاق.
ان أبناء الهند وأبناء فارس- كما قدمنا- قد توفروا على هذا الدأب في

(المقدمة/55)


استخراج خفايا الكلمات والحروف والمقابلة بين المضامين والتأويلات وإتمام أجزاء منها بأجزاء متفرقة في شتى المصادر والروايات، ولكنهم لم ينفردوا بالبحث في هذه النبوءات وهذه الطوالع خاصة وجاراهم فيها الباحثون من سائر الأمم واجتمعت في كتاب «فتح الملك العلام في بشائر دين الإسلام» متفرقات لم ترد فيما أسلفناه من البحوث الهندية، أو وردت عن منهج غير منهجها، نلخص بعضه فيما يلي ولا مستقصيه لأنه يقع في أكثر من مائتين وستين صفحة.
يعتمد المؤلفان على الاصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين إذ جاء فيه ان أبناء إسماعيل سكنوا «من حويلة الى شور التي أمام مصر حينما تجيء نحو أشور» فهم اذن سكان الحجاز لأن الحجاز هو الأرض التي بين شور وحويلة إذ كانت حويلة في اليمن كما جاء في الاصحاح العاشر «ان يقطان ولد الموداد، وشالف، وحضرموت، ويارح، وهدورام، وأوزال، ودقلة، وعوبال، وابيمايل، وشبا، واوفير، وحويلة، ويوباب- جميع هؤلاء بنو يقطان» سكان الأرض اليمانية.
ويعتمدان كذلك على وعد إبراهيم الخليل في سفر التكوين «لأنه بإسحاق يدعى لك نسل وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك» .. وانما شرط الوعد لأبناء إسحاق باتباع وصايا الرب وأن لا يعبدوا إلها غيره وإلا فهم يبدون سريعا عن الأرض الجيدة كما جاء في الاصحاح الحادي عشر من سفر التثنية. وقد عبد القوم أربابا غير الله واتخذوا الأصنام والأوثان كما جاء في مواضع كثيرة من كتب العهد القديم.
ومما اعتمد عليه المؤلفان رؤيا النبي دانيال ...
وفي الاصحاح التاسع منها يقول: «سبعون أسبوعا مقضية على شعبك وعلى مدينتك المقدسة لتكميل المعصية وتتميم الخطايا ولكفارة الإثم وليؤتى

(المقدمة/56)


بالبر الأبدي ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القديسين، فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها الى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعا يعود ويبنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة، وبعد اثنين وستين أسبوعا يقطع المسيح وشعب رئيس آت يخرب المدينة والقدس وانتهاؤه بغمارة، والى النهاية حرب وخراب.. وعلى جناح الأرجاس» .
وهذه الخاتمة هي التي تتم كما جاء في سفر اشعيا «على يد شعب بعيد من أقصى الأرض» أو كما جاء في سفر التثنية «ان الرب يجلب أمة من بعيد من أقصى الأرض ... ثم يردهم الى مصر في سفن» .
وقد تم ذلك حين استدعى الرومان حاكم بريطانيا الكبرى ومعه جيش نكل باليهود وحمل طائفة منهم اسرى إلى مصر وطائفة إلى روما من طريق البحر سنة 132. فلم تنته حرب الرومان سنة 70 ميلادية بل جاءت بعدها تلك الحرب التالية مصدقة لنبوءة الدمار على يد القادم من بعيد ونبوءة النقل على السفن الى الديار المصرية وما وراءها.
يقول المؤلفان، ويعتمدان في ذلك على اجماع الشراح، ان اليوم من أسابيع دانيال سنة، واننا إذا أضفنا أربعمائة وتسعين سنة الى 132 فتلك سنة 622 التي هاجر فيها النبي عليه السلام الى مدينة يثرب، وبعد أربع عشرة سنة دخل جيش الإسلام القدس الشريف وبنى المسجد الأقصى في مكان الهيكل، وكان الفرس قد ملكوا فلسطين أربع عشرة سنة أباحوا فيها لليهود اقامة شعائرهم ثم عاد الرومان وتلاهم المسلمون.. فكانت السنون التي مضت بعد الهجرة النبوية مقابلة لتلك السنين التي ارتفع فيها الحجز عن اليهود، على عهد الدولة الفارسية [1] ..
__________
[ (1) ] مطلع النور أو طوالع البعثة المحمدية. دار الهلال (12- 26) .

(المقدمة/57)


هذه العلامات إنما هي نماذج لأضعاف أضعافها، وتتعاضد دلائل النبوة الأخرى التي قامت عليها الدعوة المحمدية ومن أهم هذه الدلائل: معجزة القرآن.
لقد كان أهل مكة يطلبون إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلّم أن يجري ربه على يديه المعجزات إذا أرادهم ان يصدقوه، ولم يرد في القرآن الكريم ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافة على اختلاف عصورهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلّم إلا القرآن الكريم، هذا مع انه ذكر المعجزات التي جرت بإذن الله على أيدي من سبق محمدا من الرسل.
القرآن الكريم هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلّم الدائمة إلى يوم الدين وأهم دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم.
وقد فرض القرآن الكريم اعجازه على كل من سمعه على تفاوت مراتبهم في البلاغة، وقد تحير المشركون في وصفه وحرصوا على أن يصدوا العرب عن سماعه، عن يقين بأنه ما من عربي يخطئه ان يميز بين هذا القرآن، وقول البشر.
وقد أعجز الخلق في أسلوبه ونظمه، وفي علومه وحكمه، وفي تأثير هدايته وفي كشفه الحجب عن الغيوب الماضية والمستقبلة، وفي كل باب من هذه الأبواب للاعجاز فصول، وفي كل فصل منها فروع ترجع الى أصول، وقد تحدى العرب بإعجازه، ونقل العرب هذا التحدي الى كل الأمم فظهر عجزها.
وقد نقل بعض أهل التصانيف عن بعض الموصوفين بالبلاغة في القول أنهم تصدوا لمعارضة القرآن في بلاغته، ومحاكاته في فصاحته دون هدايته، ولكنهم على ضعف رواية الناقلين عنهم لم يأتوا بشيء تقرّ به، أعين الملاحدة والزنادقة فيحفظوه عنهم، ويحتجوا به لإلحادهم وزندقتهم.

(المقدمة/58)


ويظل اعجاز القرآن مطروحا ما دامت السموات والأرض تتعاقبه الأجيال كلما تقدمت العلوم فكشفت عن أسرار الله الكونية، وكلما حسب جيل أنه بلغ منه الغاية، امتدّ القرآن عاليا سامقا.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [1] .
ولو أن أمّة غير مسلمة آمنت اليوم بهذا الدين ولم تحتج الى التصديق بمعجزة غير القرآن لتؤمن لما طعن ذلك في إيمانها، ولا نقص في إسلامها، وقد حمل القرآن كثيرا من المهتدين إلى أن يهتدوا، قديما في بدء الدعوة، وحديثا في العصر الذي نعيش فيه على اختلاف مشاربهم، وتباين تخصصاتهم، فقد استطاعوا أن ينهلوا من فيضه، ويقبسوا من نوره، ويرى كل واحد منهم به سرا من أسراره.
يقول ابن خلدون في علامات الأنبياء:
ومن علاماتهم أيضا، وقوع الخوارق لهم، شاهدة بصدقهم. وهي أفعال يعجز البشر عن مثلها، فسميت بذلك معجزة، وليست من جنس مقدور العباد، وإنما تقع في غير محل قدرتهم.
وإذا تقرر ذلك، فاعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها، وأوضحها دلالة:
القرآن الكريم، المنزل على نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلّم فإن الخوارق- في الغالب- تقع مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي، ويأتي بالمعجزة شاهدة مصدقة.
والقرآن هو بنفسه الوحي المدعي، وهو الخارق المعجز، فشاهده في عينه، ولا يفتقر الى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي، فهو أوضح دلالة لاتحاد الدليل والمدلول فيه.
__________
[ (1) ] راجع اعجاز القرآن للرافعي، والاعجاز البياني في القرآن للدكتورة عائشة عبد الرحمن.

(المقدمة/59)


وهذا معنى
قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
يشير إلى ان المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة، وهو كونها نفس الوحي، كان التصديق لها أكثر لوضوحها، فكثر المصدق المؤمن، وهو التابع والأمة..
ويقول صاحب الشفاء:
وعن أبي هريرة، عَنْهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ من الأنبياء إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الذي أوتيت وحيا أوحى اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القيامة» .
معنى هذا عند المحققين: بقاء معجزته ما بقيت الدنيا، وسائر معجزات الأنبياء ذهبت للحين، ولم يشاهدها إلا الحاضر لها. ومعجزة القرآن يقف عليها قرن بعد قرن إلى يوم القيامة..
وفي هذا المقام يمكن ان أوجز أوجه اعجاز القرآن الكثيرة فيما يلي:
1- ما يشتمل عليه من الفصاحة والبلاغة في الإيجاز والاطالة، فتارة يأتي بالقصة باللفظ الطويل، ثم يعيدها باللفظ الوجيز، فلا يخلّ بمقصود الأولى.
2- مقارنته لأساليب الكلام، وأوزان الأشعار، وبهذين المعنيين تحدثت العرب، فعجزوا وتحيروا، وأقروا بفضله.
3- ما تضمنه من أخبار الأمم السالفة، وسير الأنبياء التي عرفها أهل الكتاب مع كون الآتي بها أميا لا يكتب ولا يقرأ، ولا علم بمجالسة الأحبار والكهان.
4- إخباره عن الغيوب المستقبلة الدالة على صدقه قطعا، والكوائن في مستقبل

(المقدمة/60)


الزمان نحو قوله سبحانه:
الم* غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ.
وقوله سبحانه وتعالى:
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، ثم قوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً.
وقوله:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وغلبوا.
وقوله:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ودخلوا.
5- أنه محفوظ من الاختلاف والتناقض.
«ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا» .. وقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
قال ابن عقيل: حفظ جميعه. وآياته وسوره التي لا يدخل عليها تبديل، من حيث عجز الخلائق عن مثلها، فكان القرآن حافظ نفسه من حيث عجز الخلائق عن مثله ...
قال أبو الوفا علي بن عقيل:
«إذا أردت أن تعلم أن القرآن ليس مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم وإنما هو ملتقى اليه، فانظر إلى كلامه كيف هو إلى القرآن، وتلمّح ما بين الكلامين والأسلوبين، ومعلوم ان كلام الإنسان يتشابه، وما لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلّم كلمة تشاكل نمط القرآن..
قال ابن عقيل: ومن إعجاز القرآن، أنه لا يمكن لأحد أن يستخرج منه آية قد أخذ معناها من كلام قد سبق، فإنه ما زال الناس يكشف بعضهم عن بعض، فيقال: «المتنبي أخذ من البحتري» ..

(المقدمة/61)


ويقول صاحب الوفا، عن إعجاز القرآن:
وقد استخرجت معنيين عجيبين:
أحدهما: أن معجزات الأنبياء ذهبت بموتهم، فلو قال ملحد اليوم: أي دليل على صدق محمد وموسى؟ .. فقيل له: محمد شق له القمر، وموسى شق له البحر.. لقال: هذا محال.. فجعل الله سبحانه هذا القرآن معجزا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلّم يبقى أبدا.. ليظهر دليل صدقه بعد وفاته، وجعله دليلا على صدق الأنبياء، إذ هو مصدّق لهم ومخبر عن حالهم.
والثاني: أنه أخبر أهل الكتاب بأن صفة محمد صلى الله عليه وسلّم مكتوبة عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وشهد لحاطب بالإيمان، ولعائشة بالبراءة، وهذه شهادات على غيب.. فلو لم يكن في التوراة والإنجيل صفته، كان ذلك منفرا لهم عن الإيمان به ولو علم حاطب وعائشة من أنفسهما خلاف ما شهد لهما به، نفرا عن الإيمان.
وعن إعجاز القرآن يقول الأستاذ المهتدي «أتيين دينيه» الكاتب الفرنسي الذي أسلم وحجّ وكتب الكثير عن الإسلام، من كتابه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم، إن معجزات الأنبياء الذين سبقوا محمدا كانت في الواقع معجزات وقتية، وبالتالي معرضة للنسيان السريع، بينما نستطيع أن نسمي معجزة الآية القرآنية..
«المعجزة الخالدة» .. ذلك أن تأثيرها دائم، ومفعولها مستمر، ومن اليسير على المؤمن في كل زمان وفي كل مكان، أن يرى هذه المعجزة بمجرد تلاوة كتاب الله..
وفي هذه المعجزة نجد التعليل الشافي للانتشار الذي أحرزه الإسلام، ذلك الانتشار الذي لا يدرك سببه الأوروبيون، لأنهم يجهلون القرآن، أو لأنهم لا يعرفونه إلا من خلال ترجمات لا تنبض بالحياة، فضلا عن أنها غير دقيقة..
إن الجاذبية الساحرة التي يمتاز بها هذا الكتاب، الفريد بين أمهات الكتب

(المقدمة/62)


العالمية، لا تحتاج منا- نحن المسلمين- الى تعليل- ذلك أننا نؤمن بأنه كلام الله أنزله على رسوله، ولكننا نرى من الطريف أن نورد هنا رأيين لمستشرقيين ذاعت شهرتهما عن جدارة.. يقول «سفري» - وهو أول من ترجم القرآن الى الفرنسية: «كان محمد عليما بلغته، وهي لغة لا نجد على ظهر البسيطة ما يضارعها غنى وانسجاما- إنها بتركيب أفعالها، يمكنها أن تتابع الفكر في طيرانه البعيد، وتصفه في دقة دقيقة.. وهي بما فيها من نغم موسيقي تحاكي أصوات الحيوانات المختلفة، وخرير المياه المنسابة، وهزيم الرعد، وقصف الرياح.
كان محمد عليما- كما قلت- بتلك اللغة الأزلية التي تزينت بروائع كثير من الشعراء، فاجتهد محمد أن يحلي تعاليمه بكل ما في البلاغة من جمال وسحر..
ولقد كان الشعراء في الجزيرة العربية يتمتعون من التقدير بأسمى مكانة..
ولقد علق لبيد بن ربيعة، الشاعر المشهور، إحدى قصائده على باب الكعبة، وحالت شهرته وقدرته الشاعرية دون أن ينبري له المنافسون، ولم يتقدم احد لينازعه الجائزة..
وذات يوم علق بجانب قصيدته السورة الثانية من القرآن (وقيل السورة الخامسة والخمسين) فأعجب بها لبيد أيما إعجاب، رغم أنه مشرك، واعترف بمجرد قراءة الآيات الأولى بأنه قد هزم، ولم يلبث أن أسلم..
وفي ذات يوم سأله المعجبون به عن أشعاره، يريدون جمعها في ديوان، فأجاب:
«لم أعد أتذكر شيئا من شعري، إذ أن روعة الآيات المنزلة لم نترك لغيرها مكانا في ذاكرتي» .

(المقدمة/63)


ويقول استانلي لين بول:
«إن أسلوب القرآن في كل سورة من سوره لأسلوب أبيّ يفيض عاطفة وحياة.. ان الألفاظ ألفاظ رجل مخلص للدعوة، وإنها لا تزال حتى الآن تحمل طابع الحماسة والقوة، وفي ثناياها تلك الجذوة التي ألقيت بها..
دلائل النبوة في سمو حياته صلى الله عليه وسلم وجهاده:
بلغت حياة النبي صلى الله عليه وسلم من السمو غاية ما يستطيع انسان ان يبلغ، وكانت حياته قبل الرسالة مضرب المثل في الصدق والكرامة والأمانة، كما كانت بعد الرسالة كلها تضحية، وصبر، وجهاد في سبيل الله، تضحية استهدفت حياته للموت مرات، ولولا صدق محمد في تبليغ رسالة ربه، وإيمانه بما ابتعثه الله به ويقينه المطلق برسالته، لرأينا الحياة على كر الدهور تنفي مما قال شيئا.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لما أنزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صَعِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الصَّفَا فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ» فقالت قريش: محمد على الصّفا يهتف، فأقبلوا واجتمعوا فقالوا: مالك يا محمد؟ قال:
«أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ تصدقوني» ؟
قالوا: نعم، أنت عندنا غير متهم، وما جرّبنا عليك كذبا قط. قَالَ:
«فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، يا بني زهرة، حتى عدد الأفخاذ من قريش:
«إن الله أَمَرَنِي أَنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِي الأقربين. وإني لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الدنيا منفعة، ولا من الآخرة نصيبا، إلا أن تقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» .

(المقدمة/64)


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أو كلمة نحوها، اشتروا أنفسكم، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكَ من الله شيئا، ويا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ، لا أغني عنك من الله شيئا. ويَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا» .
تتحدث كتب السيرة عن سعي قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، لينهى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلّم عن الاستمرار في الدعوة.
ولما التقى القرشيون به، قالوا: يا أبا طالب، ان ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلّل آباءنا، فإمّا أن تكفّه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه- فإنك عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عليه من خلافه- فنكفيكه؟ قال لهم أبو طالب، قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه.
وَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم، على ما هو عليه: «يظهر دين الله، ويدعو اليه.
ثم شرى الأمر بينه وبينهم، حتى تباعد الرجال، وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهَا، فتذامروا فيه، وحضّ بعضهم بعضا عليه، ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا. وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله، لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفّه عنا، أو تنازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين، أو كما قالوا له. ثم انصرفوا عنه.
فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم لهم ولا خذلانه.

(المقدمة/65)


فَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جاءُونِي، فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فَأَبْقِ عَلَيَّ، وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنَ الْأَمْرِ ما لا أطيق.
فَظَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ فدو، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عم، والله، لو وضعوا الشَّمْسُ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرُ في يساري، على أن أترك هَذَا الْأَمْرَ- حَتَّى يُظْهِرَهُ الله أو أهلك فيه- ما تركته» .
قال: ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، فبكى، ثم قام. فلما ولّى، ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا ابن أخي، قال: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ:
اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فو الله، لَا أُسْلِمُكَ لِشَيْءٍ أَبَدًا.
الرسول صلى الله عليه وسلّم في الطائف:
لما توفي أبو طالب، اجترأت قريش علي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ونالت منه.
فخرج إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة، وذلك في ليال بقية من شوال سنة عشر من حين نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأقام بالطائف عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه. ومحمد دعاهم إلى الإسلام أخوة ثلاثة، وهم سادة ثقيف وأشرافهم، وهم عبد يا ليل، ومسعود وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف.
فجلس إليهم فدعاهم إلى الله، وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو- يعني نفسه- بمرط ثياب الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللهُ أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدا أرسله غيرك؟
وقال الثالث: والله، لا أكلمك أبدا ... لئن كنت رسولا من الله- كما تقول- لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام. وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى الله، ما ينبغي لي أن أكلمك.

(المقدمة/66)


فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف ... وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم: يسبونه ويصيحون به. حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه الى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه.
فعمد الى ظل حبلة من عنب فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران اليه، ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف.
فلما اطمأن قال فيما ذكر: «اللهم إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملّكته أمري؟
إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي.. ولكنّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلا بك» .
فلما رأى ابنا ربيعة عتبة وشيبة ما لقى، دعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له:
عدّاس فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب، فضعه في ذلك الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه. ففعل، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِ حَتَّى وضعه بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، فلما وضع رسول الله صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ، قال: بسم الله، ثم أكل.
فنظر عدّاس الى وَجْهُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ، إِنَّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذا البلد.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: ومن أي البلاد أنت؟ وما دينك؟
قال: أنا نصراني، وأنا رجل مِنْ أَهْلِ نِينَوَى.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: من قرية الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ متّى؟

(المقدمة/67)


قال: ذاك أخي، كان نبيا، وأنا نبيّ.
فأكب عدّاس علي رسول الله صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبَّلَ رأسه ويديه ورجليه.
قال: يقول ابنا ربيعة: أحدهما لصاحبه:
أما غلامك، فقد أفسده عليك.
فلما جاءهم عدّاس قالا له: ويلك يا عدّاس، مالك تقبّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل. لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي.
دلائل النبوة في خصائص التصور الإسلامي:
لا يدرك الإنسان ضرورة الرسالة النبوية إلا عند ما يستعرض أحوال العالم قبل ظهور الإسلام، وكيف كانت البشرية تائهة في ظلمات الضلالات السائدة، والتصورات الوثنية، واللوثات القومية على السواء.
ولقد جاءت رسل بني إسرائيل بالتوحيد الخالص، ولكنهم انحرفوا على مدى الزمن وهبطوا الى مستوى الوثنيات وانتكسوا، بعد موسى وقبل موسى.
وقل ذلك عن النصرانية، فقد دخلتها الوثنية والشرك بتأثير المنافقين وفي هذا يقول الكاتب الامريكي درابر في كتابه «الدين والعلم» :
«دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين، الذين تقلدوا وظائف خطيرة، ومناصب عالية في الدولة الرومانية، بتظاهرهم بالنصرانية، ولم يكونوا يحفلون بأمر الدين. ولم يخلصوا له يوما من الأيام. وكذلك كان قسطنطين.. فقد قضى عمره في الظلم والفجور، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلا في آخر عمره سنة 337 ميلادية.
«إن الجماعة النصرانية، وإن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت

(المقدمة/68)


قسطنطين الملك ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية، وتقتلع جرثومتها.
وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها، ونشأ من ذلك دين جديد، تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء.. هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى على منافسه (الوثنية) قضاء باتا، ونشر عقائده خالصة بغير غش.
«وإن هذا الامبراطور الذي كان عبدا للدنيا، والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئا، رأى لمصلحته الشخصية، ولمصلحة الحزبين المتنافسين- النصراني والوثني- أن يوحدهما ويؤلف بينهما. حتى أن النصارى الراسخين أيضا لم ينكروا عليه هذه الخطة. ولعلهم كانوا يعتقدون ان الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ونقحت بالعقائد الوثنية القديمة، وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها» .
يقول الباحث الاسلامي الكبير الأستاذ سيد قطب في خصائص التصور الاسلامي:
وقد وقع الانقسام في عقيدة النصارى، فقالت فرقة: ان المسيح انسان محض، وقالت فرقة: ان الأب والابن وروح القدس.
إن هي إلا صور مختلفة أعلن الله بها نفسه للناس. فالله- بزعمهم- مركب من أقانيم ثلاثة: الأب والابن وروح القدس (والابن هو المسيح) فانحدر الله، الذي هو الأب، في صورة روح القدس وتجسد في مريم إنسانا، وولد منها في صورة يسوع. وفرقة قالت: ان الابن ليس أزليا كالأب بل هو مخلوق من قبل العالم، ولذلك هو دون الأب وخاضع له. وفرقة أنكرت كون روح القدس أقنوما.. وقرر مجمع نيقية سنة 325 ميلادية، ومجمع القسطنطينية سنة 381 ان الابن وروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب، وأن روح القدس منبثق من الأب.. وقرر مجمع طليطلة سنة 589 بأن روح القدس منبثق من الابن أيضا. فاختلفت الكنيسة

(المقدمة/69)


الشرقية والكنيسة الغربية عند هذه النقطة وظلتا مختلفتين.. كذلك ألّهت جماعة منهم مريم كما ألهوا المسيح عليه السلام..
ويقول الدكتور ألفرد بتلر في كتابه: «فتح العرب لمصر. ترجمة الأستاذ محمد فريد أبو حديد» .
«إن ذينك القرنين- الخامس والسادس- كانا عهد نضال متصل بين المصريين والرومانيين. نضال يذكيه اختلاف في الجنس، واختلاف في الدين. وكان اختلاف الدين أشد من اختلاف الجنس. إذ كانت علة العلل في ذلك الوقت تلك العداوة بين الملكانية والمنوفيسية، وكانت الطائفة الأولى- كما يدل عليه اسمها- حزب مذهب الدولة الامبراطورية وحزب الملك والبلاد.
وكانت تعتقد العقيدة السنية الموروثة- وهي ازدواج طبيعة المسيح- على حين أن الطائفة الأخرى- وهي حزب القبط المنوفيسيين- أهل مصر- كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها، وتحاربها حربا عنيفة. في حماسة هوجاء، يصعب علينا أن نتصورها، أو نعرف كنهها في قوم يعقلون بل يؤمنون بالإنجيل» !.
ويقول «سيرت. و. أرنولد» في كتابه: «الدعوة إلى الإسلام» عن هذا الخلاف، ومحاولة هرقل لتسويته بمذهب وسط:
«ولقد أفلح جستنيان
Justinian قبل الفتح الاسلامي بمئة عام في أن يكسب الامبراطورية الرومانية مظهرا من مظاهر الوحدة. ولكنها سرعان ما تصدعت بعد موته، وأصبحت في حاجة ماسة الى شعور قومي مشترك، يربط بين الولايات وحاضرة الدولة. أما هرقل فقد بذل جهودا لم تصادف نجاحا كاملا في اعادة ربط الشام بالحكومة المركزية. ولكن ما اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى لسوء الحظ الى زيادة الانقسام بدلا من القضاء عليه. ولم يكن ثمة ما يقوم مقام الشعور بالقومية سوى العواطف الدينية. فحاول بتفسيره العقيدة تفسيرا يستعين به على تهدئة النفوس، أن يقف كل ما يمكن أن يشجر

(المقدمة/70)


بعد ذلك بين الطوائف المتناحرة من خصومات، وأن يوحد بين الخارجين على الدين وبين الكنيسة الأرثوذكسية، وبينهم وبين الحكومة المركزية.
«وكان مجمع خلقيدونة قد أعلن في سنة 451 م «أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتين، لا اختلاط بينهما، ولا تغير، ولا تجزؤ، ولا انفصال. ولا يمكن أن ينتفي اختلافهما بسبب اتحادهما. بل الأحرى ان تحتفظ كل طبيعة منهما بخصائصها، وتجتمع في أقنوم واحد، وجسد واحد، لا كما لو كانت متجزئة أو منفصلة في أقنومين، بل مجتمعة في أقنوم واحد: هو ذلك الابن الواحد والله والكلمة.
«وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع. وكانوا لا يعترفون في المسيح الا بطبيعة واحدة. وقالوا: إنه مركب الأقانيم، له كل الصفات الإلهية والبشرية.
ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية، بل أصبحت وحدة مركبة الأقانيم.
«وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الأرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بوجه خاص في مصر والشام، والبلاد الخارجة عن نطاق الامبراطورية البيزنطية، في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلاح ذات البين عن طريق المذهب القائل بأن للمسيح مشيئة واحدة «
Monotheletism» ففي الوقت الذي نجد هذا المذهب يعترف بوجود الطبيعتين إذا به يتمسك بوحدة الأقنوم في حياة المسيح البشرية. وذلك بإنكاره وجود نوعين من الحياة في أقنوم واحد. فالمسيح الواحد الذي هو ابن الله، يحقق الجانب الإنساني، والجانب الإلهي. بقوة إلهية انسانية واحدة. ومعنى ذلك انه لا يوجد سوى إرادة واحدة في الكلمة المتجسدة.
«لكن هرقل قد لقى المصير الذي انتهى اليه كثيرون جدا، ممن كانوا يأملون أن يقيموا دعائم السلام، ذلك أن الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما

(المقدمة/71)


يكون الاحتدام فحسب. بل إن هرقل نفسه قد وصم بالإلحاد، وجرّ على نفسه سخط الطائفتين سواء» ! وقد ورد في القرآن الكريم بعض الإشارات الى هذه الانحرافات، ونهى لأهل الكتاب عنها، وتصحيح حاسم لها، وبيان لأصل العقيدة النصرانية كما جاءت من عند الله، قبل التحريف والتأويل:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وَقالَ الْمَسِيحُ: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَمَأْواهُ النَّارُ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ.. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا.. إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ. وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ؟
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ. انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ، ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. قُلْ:
أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً؟ وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، وَأَضَلُّوا كَثِيراً، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ... [المائدة:
72- 77] .
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ، يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ* قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.. [التوبة 30] .
وَإِذْ قالَ اللَّهُ: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ: اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالَ: سُبْحانَكَ! ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ.
إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ. تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ* وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ* فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* إِنْ

(المقدمة/72)


تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ... [المائدة:
116- 118] .
وهكذا نرى مدى الانحراف الذي دخل على النصرانية، من جراء تلك الملابسات التاريخية، حتى انتهت الى تلك التصورات الوثنية الاسطورية، التي دارت عليها الخلافات والمذابح عدة قرون! أما الجزيرة العربية التي نزل فيها القرآن، فقد كانت تعج بركام العقائد والتصورات. ومن بينها ما نقلته من الفرس وما تسرب إليها من اليهودية والمسيحية في صورتهما المنحرفة ... مضافا إلى وثنيتها الخاصة المتخلفة من الانحرافات في ملة إبراهيم التي ورثها العرب صحيحة ثم حرفوها ذلك التحريف. والقرآن يشير إلى ذلك الركام كله بوضوح.
زعموا أن الملائكة بنات الله- مع كراهيتهم هم للبنات! - ثم عبدوا الملائكة- أو تماثيلها الأصنام- معتقدين أن لها عند الله شفاعة لا ترد، وأنهم يتقربون بها إليه سبحانه:
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً* إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ. أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ؟ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ؟! وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ- الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ- إِناثاً* أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ* وَقالُوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ* ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ... [الزخرف: 15- 20] .
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، إِنَّ اللَّهَ لَا

(المقدمة/73)


يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ* لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ* سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ... [الزمر: 3، 4] .
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ، وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ* قُلْ: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؟
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ... [يونس: 18] وزعموا أن بين الله- سبحانه- وبين الجنة نسبا. وأن له- سبحانه- منهم صاحبة. ولدت له الملائكة! وعبدوا الجن أيضا.. قال الكلبي في كتاب الأصنام: «كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن» .
وجاء في القرآن الكريم عن هذه الأسطورة:
فَاسْتَفْتِهِمْ: أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ؟ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ: وَلَدَ اللَّهُ* وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً، وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ* سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ...
[الصافات: 149- 159] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟ قالُوا: سُبْحانَكَ! أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ* بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ... [سبأ: 40، 41] وشاعت بينهم عبادة الأصنام إما بوصفها تماثيل للملائكة، وإما بوصفها تماثيل للأجداد، وإما لذاتها. وكانت الكعبة، التي بنيت لعبادة الله الواحد، تعج بالأصنام، إذ كانت تحتوي على ثلاثمائة وستين صنما. غير الأصنام الكبرى في جهات متفرقة. ومنها ما ذكر في القرآن بالاسم كاللات والعزى

(المقدمة/74)


ومناة. ومنها هبل الذي نادى أبو سفيان باسمه يوم «أحد» قائلا: اعل هبل! ومما يدل على أن اللات والعزى ومناة كانت تماثيل للملائكة ما جاء في القرآن في سورة النجم:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى؟ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى! إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى. أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى؟ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى. وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً، إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى.
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى * وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ...
[النجم: 19- 28] وانحطت عبادة الأصنام فيهم حتى كانوا يعبدون جنس الحجر! روى البخاري عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ قال: «كنا نعبد الحجر. فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر! فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جمعنا حثوة مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جِئْنَا بالشاة فحلبنا عليه، ثم طفنا به» .
وقال الكلبي في كتاب الأصنام: كان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار. فنظر إلى أحسنها، فجعله ربا، وجعل ثلاث أثافيّ لقدره. وإذا ارتحل تركه» .
وعرفوا عبادة الكواكب- كما عرفها الفرس من بين عباداتهم- قال صاعد:
كانت حمير تعبد الشمس. وكنانة القمر. وتميم الدبران. ولخم وجذام المشتري. وطيء سهيلا وقيس الشعرى العبور. وأسد عطارد» .
وقد جاء عن هذا في سورة فصلت:

(المقدمة/75)


لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ* وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ... [فصلت: 37] .
وجاء في سورة النجم:
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ... [النجم: 49] .
وكثرت الإشارات إلى خلق النجوم والكواكب وربوبية الله سبحانه لها كبقية خلائقه. وذلك لنفي ألوهية الكواكب وعبادتها ...
وعلى العموم فقد تغلغلت عقائد الشرك في حياتهم. فقامت على أساسها الشعائر الفاسدة، التي أشار إليها القرآن الكريم في مواضع كثيرة ... ومن ذلك جعلهم بعض ثمار الزروع، وبعض نتاج الأنعام خاصا بهذه الآلهة المدعاة، لا نصيب فيه لله- سبحانه- وأحيانا يحرمونها على أنفسهم. أو يحرمون بعضها على إناثهم دون ذكورهم. أو يمنعون ظهور بعض الأنعام على الركوب أو الذبح.
وأحيانا يقدمون أبناءهم ذبائح لهذه الآلهة في نذر. كالذي روى عن نذر عبد المطلب أن يذبح ابنه العاشر، إن وهب عشرة أبناء يحمونه. فكان العاشر عبد الله ... ثم افتداه من الآلهة بمئة ناقة! .. وكان أمر الفتوى في هذه الشعائر كلها للكواهن والكهان! وفي هذا يقول القرآن الكريم:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً. فَقالُوا: هذا لِلَّهِ- بِزَعْمِهِمْ- وَهذا لِشُرَكائِنا. فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ* وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ* ساءَ ما يَحْكُمُونَ! وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ، لِيُرْدُوهُمْ، وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ* وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ* فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ* وَقالُوا: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ، لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ- بِزَعْمِهِمْ- وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها* وَأَنْعامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا-

(المقدمة/76)


افْتِراءً عَلَيْهِ- سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ. وَقالُوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا، وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا. * وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ* سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ* قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ..
[الأنعام: 136- 140] وكانت فكرة التوحيد الخالص هي أشد الأفكار غرابة عندهم، هي وفكرة البعث سواء. ذلك مع اعترافهم بوجود الله- سبحانه- وأنه الخالق للسماوات والأرض وما بينهما. ولكنهم ما كانوا يريدون أن يعترفوا بمقتضى الوحدانية هذه وهو أن يكون الحكم لله وحده في حياتهم وشؤونهم، وأن يتلقوا منه وحده الحلال والحرام، وأن يكون إليه وحده مرد أمرهم كله في الدنيا والآخرة. وأن يتحاكموا في كل شيء إلى شريعته ومنهجه وحده.. الأمر الذي لا يكون بغيره دين ولا إيمان.
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا حكاه القرآن الكريم من معارضتهم الشديدة لهاتين الحقيقتين:
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ* وَقالَ الْكافِرُونَ: هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ* أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ* وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ* ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ ... [ص: 4- 7] .
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ- إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ- إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ.. [سبأ: 7، 8] .

(المقدمة/77)


هذه هي الصورة الشائعة للتصورات في الجزيرة العربية نضيفها إلى ذلك الركام من بقايا العقائد السماوية المنحرفة، التي كانت سائدة في الشرق والغرب، يوم جاء الإسلام، فتتجمع منها صورة مكتملة لذلك الركام الثقيل، الذي كان يجثم على ضمير البشرية في كل مكان، والذي كانت تنبثق منه أنظمتهم وأوضاعهم وآدابهم وأخلاقهم كذلك.
ومن ثم كانت عناية الإسلام الكبرى موجهة إلى تحرير أمر العقيدة، وتحديد الصورة الصحيحة التي يستقر عليها الضمير البشري في حقيقة الألوهية، وعلاقتها بالخلق، وعلاقة الخلق بها.. فتستقر عليها نظمهم وأوضاعهم، وعلاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وآدابهم وأخلاقهم كذلك. فما يمكن أن تستقر هذه الأمور كلها، إلا أن تستقر حقيقة الألوهية، وتتبين خصائصها واختصاصاتها.
وعنى الإسلام عناية خاصة بإيضاح طبيعة الخصائص والصفات الإلهية المتعلقة بالخلق والإرادة والهيمنة والتدبير.. ثم بحقيقة الصلة بين الله والإنسان.. فلقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه العقائد والفلسفات، مما يتعلق بهذا الأمر الخطير الأثر في الضمير البشري وفي الحياة الإنسانية كلها.
ولقد جاء الإسلام- وهذا ما يستحق الانتباه والتأمل- بما يعد تصحيحا لجميع أنواع البلبلة، التي وقعت فيها الديانات المحرفة، والفلسفات الخابطة في الظلام. وما يعد ردا على جميع الانحرافات والأخطاء التي وقعت فيها تلك الديانات والفلسفات.. سواء ما كان منها قبل الإسلام وما جدّ بعده كذلك..
فكانت هذه الظاهرة العجيبة إحدى الدلائل على مصدر هذا الدين.. المصدر الذي يحيط بكل ما هجس في خاطر البشرية وكل ما يهجس، ثم يتناوله بالتصحيح والتنقيح!

(المقدمة/78)


والذي يراجع ذلك الجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات الله- سبحانه- وفي صفاته. وفي علاقته بالخلق وعلاقة الخلق به..
ذلك الجهد الذي تمثله النصوص الكثيرة- كثرة ملحوظة- في القرآن المكي بصفة خاصة، وفي القرآن كله على وجه العموم..
الذي يراجع ذلك الجهد المتطاول، دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل، في ذلك التيه الشامل، الذي كانت البشرية كلها تخبط فيه، والذي ظلت تخبط فيه أيضا كلما انحرفت عن منهج الله أو صدت عنه، واتبعت السبل، فتفرقت بها عن سبيله الواحد المستقيم..
الذي يراجع ذلك الجهد، دون أن يراجع ذلك الركام، قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر في القرآن، وإلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير وكل مسالك الحياة.
ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد، كما تكشف عن عظمة الدور الذي جاءت هذه العقيدة لتؤديه في تحرير الضمير البشري وإعتاقه، وفي تحرير الفكر البشري وإطلاقه، وفي تحرير الحياة. والحياة تقوم على أساس التصور الاعتقادي كيفما كان.
عندئذ ندرك قيمة هذا التحرر في إقامة الحياة على منهج سليم قويم، يستقيم به أمر الحياة البشرية، وتنجو به من الفساد والتخبط ومن الظلم أو الاستذلال ... وندرك قيمة قول عمر- رضي الله عنه- «ينقض الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية» .. فالذي يعرف الجاهلية هو الذي يدرك قيمة الإسلام، ويعرف كيف يحرص على رحمة الله المتمثلة فيه، ونعمة الله المتحققة به.
إن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها، وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها.. إن هذا كله لا يتجلى للقلب والعقل، كما يتجلى من مراجعة ركام

(المقدمة/79)


الجاهلية- السابقة للإسلام واللاحقة- عندئذ تبدو هذه العقيدة رحمة.. رحمة حقيقية.. رحمة للقلب والعقل. ورحمة بالحياة والأحياء. رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق..
وصدق الله العظيم:
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى؟ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟ [ (1) ] .
التوحيد معجزة الإسلام:
«الله- الرسول- القرآن- الكعبة» .
إن التصور الإسلامي هو التصور الوحيد الذي بقي قائما على أساس التوحيد الكامل الخالص، وإن التوحيد خاصية من خصائص هذا التصور، تفرده وتميزه بين سائر المعتقدات السائدة في الأرض كلها على العموم.
لقد انحسرت كل التصورات والفلسفات والمذاهب التي وجدت والتي قام عليها الفكر الغربي والتي جعلت الإنسان يتخبط في هذه الحياة بناء على تصوراتهم الضحلة التي تميل تارة ناحية المادة، وتارة ناحية الروح، وتارة ناحية القوة دون إدراك لطبيعة الإنسان وأشواقه ويقف التصور الإسلامي راسخا في شمولية تدرك خصائص الإنسان. وتضع له مناهج الحياة الثابتة حتى يعيش عيشة كريمة هانئة، يبني الحياة، ويبني الروح، ويوائم الفطرة، فلا يكلفها عنتا، ولا يفرقها مزقا.
من هنا تنادى كثير من المفكرين، ودرسوا الإسلام، وحياة الرسول صلى الله عليه وسلّم،
__________
[ (1) ] لا تغني هذه المقتطفات عن مطالعة الكتاب لبيان شمولية المنهج الاسلامي.

(المقدمة/80)


وسجلوا وكلماتهم بعد دراسة عميقة لقواعد هذا الدين، وأسلم أكثرهم، وصاروا يدعون إلى هذا الدين حتى بدأت أوربا تستعين به في حل مشاكلها.
يقول (برناردشو) بعد أن درس الإسلام:
«إني لأعتقد بأنه لو تولى رجل مثل محمد حكم العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته بطريقة تجلب إلى العالم السلام والسعادة والطمأنينة التي هو في أشد الحاجة إليها» .
«لقد أفاد الإسلام التمدن أكثر من النصرانية، ونشر راية المساواة والأخوة. وهذه الأدلة نذكرها نقلا عن تقارير الموظفين الإنجليز، وعما كتبه أغلب السياح من النتائج الحسنة التي نتجت من الدين الإسلامي، وظهرت آياتها منه، فإنه عند ما تتدين به أمة من الأمم السودانية تختفي بينها- في الحال- عبادة الأوثان، واتباع الشيطان، والإشراك بالعزيز الرحمن، وتحرم أكل لحم الإنسان، وقتل الرجال ووأد الأطفال، وتضرب عن الكهانة، ويأخذ أهلها بأسباب الإصلاح وحب الطهارة، واجتناب الخبائث والرجس والسعي نحو إحراز المعالي، وشرف النفس.
ويصبح عندهم قرى الضيف من الواجبات الدينية. وشرب الخمر من الأمور البغيضة، ولعب الميسر والأزلام محرما. والرقص القبيح، ومخالطة النساء- اختلاطا دون تميز- بغيضا. ويحسبون عفة المرأة من الفضائل، ويتمسكون بحسن الشمائل.
أما الغلو في الحرية والتهتك وراء الشهوات البهيمية- فلا تجيزه الشريعة الإسلامية. والدين الإسلامي، هو الدين الذي يعمّم النظام بين الورى، ويقمع النفس عن الهوى، ويحرم إراقة الدماء، والقسوة في معاملة الحيوان والأرقاء، ويوصي بالإنسانية، ويحض على الخيرات والأخوة.

(المقدمة/81)


ويقول بالاعتدال في تعدد الزوجات، وكبح جماح الشهوات» .
أما الفيلسوف الروسي المنصف فعند ما رأى تحامل أهل الأديان الأخرى على الدين الإسلامي هزّته الغيرة على الحق فوضع كتابا عن بني الإسلام، قال فيه:
«ولد نبيّ الإسلام في بلاد العرب من أبوين فقيرين. وكان- في حداثة سنه- راعيا يميل إلى العزلة والانفراد في البراري والصحارى، متأملا في الله خالق الكون..
لقد عبد العرب المعاصرون له أربابا كثيرة، وبالغوا في التقرب إليها واسترضائها، وأقاموا لها العبادات، وقدموا لها الضحايا المختلفة.
وكان- كلما تقدم به العمر- ازداد اعتقادا بفساد تلك الأرباب، وأن هناك إلها واحدا حقيقيا، لجميع الناس والشعوب.
وقد ازداد إيمان محمد بهذه الفكرة. فقام يدعو أمته وأهله إلى فكرته، معلنا: أن الله اصطفاه لهدايتهم، وعهد إليه إنارة بصائرهم، وهدم دياناتهم وعباداتهم الباطلة. وراح يعلن عن عقيدته وديانته.
وخلاصة هذه الديانة التي نادى بها هذا الرسول: هو أن الله واحد- لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ- ولذلك لا يجوز عبادة غيره، وأن الله عادل ورحيم بعباده، وأن مصير الإنسان النهائي، متوقف عليه وحده، فمن آمن به، فإن الله يؤجره في الآخرة أجرا حسنا. وإذا ما خالف شريعة الله، وسار على هواه، فإنه يعاقب في الآخرة عقابا أليما، وأن الله تعالى يأمر الناس بمحبته ومحبة بعضهم بعضا. ومحبة الله تكون بالصلاة، ومحبة الناس تكون بمشاركتهم في السراء والضراء. وإن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ينبغي عليهم أن يبذلوا وسعهم لإيعاد كل ما من شأنه إثارة الشهوات النفسية، والابتعاد عن الملذات الدنيوية، وإنه يتحتم عليهم ألا

(المقدمة/82)


يخدموا الجسد ويعبدوه» بل عليهم أن يخدموا الروح ويهذّبوها. ومحمد لم يقل عن نفسه إنه نبي الله الوحيد. بل اعتقد أيضا، بنبوة موسى وعيسى. وقال: إن اليهود والنصارى لا يكرهون على ترك دينهم.
وفي سنيّ دعوته الأولى، احتمل كثيرا من اضطهادات أصحاب الديانات القديمة، شأن كل نبي قبله نادى أمته إلى الحق. ولكنّ هذه الاضطهادات لا تثن من عزمه، بل ثابر على دعوة أمته.
وقد امتاز المؤمنون كثيرا عن العرب: بتواضعهم وزهدهم في الدنيا، وحب العمل والقناعة، وبذلوا جهدهم في مساعدة إخوانهم في الدين: عند حلول المصائب بهم.
ولم يمض على جماعة المؤمنين زمن طويل، حتى أصبح الناس المحيطون بهم: يحترمونهم احتراما عظيما، ويعظمون قدرهم، وراح عدد المؤمنين يتزايد يوما بعد يوم!! ومن فضائل الدين الإسلامي: أنه أوصى خيرا بالمسيحيين واليهود ورجال دينهم. فقد أمر بحسن معاملتهم. وقد بلغ من حسن معاملته لهم: أنه سمح لأتباعه بالتزوج من أهل الديانات الأخرى. ولا يخفى على أصحاب البصائر العالية، ما في هذا من التسامح العظيم» ثم ختم كلمته قائلا:
«لا ريب أن هذا النبيّ، من كبار الرجال المصلحين: الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة. ويكفيه فخرا: أنه هدى أمته برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسلام، وتكف عن سفك الدماء، وتقديم الضحايا.
ويكفيه فخرا: أنه فتح لها طريق الرقي والتقدم. وهذا عمل عظيم: لا يفوز به شخص أوتي قوة وحكمة وعلما. ورجل مثله، جدير بالإجلال والاحترام» .
ويستعرض الدكتور: «موريس بوكاي» عظمة القرآن، ويستدل على أَنَّ

(المقدمة/83)


مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلّم نبي مرسل بسؤاله: كيف امتلك هذا القدر من المعارف العلمية الهائلة في القرن السابع من العصر المسيحي في وقت تفشي الجهل وعمومه، هذا القدر من المعارف العلمية التي سبقت بأكثر من أربعة عشر قرنا الثقافة العلمية المعاصرة. استمع إليه وهو يقول:
«لقد أثارت هذه الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهشتي العميقة في البداية. فلم أكن أعتقد قط بإمكان اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحد من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديدة التنوع، ومطابقة تماما للمعارف العلمية الحديثة، وذلك في نصّ كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا. في البداية لم يكن لي أي إيمان بالإسلام. وقد طرقت دراسة هذه النصوص بروح متحررة من كل حكم مسبق وبموضوعية تامة. وإذا كان هناك تأثير ما قد مورس فهو بالتأكيد تأثير التعاليم التي تلقيتها في شبابي، حيث لم تكن الغالبية تتحدث عن المسلمين وإنما المحمديين لتأكيد الإشارة إلى أن المعنى به دين أسسه رجل وبالتالي فهو دين عديم القيمة تماما إزاء الله. وككثيرين كان يمكن أن أظل محتفظا بتلك الأفكار الخاطئة عن الإسلام، وهي على درجة من الانتشار بحيث إنني أدهش دائما حين ألتقي خارج المتخصصين، بمحدثين مستنيرين في هذه النقاط أعترف إذن بأنني كنت جاهلا قبل أن تعطى لي عن الإسلام صورة تختلف عن تلك التي تلقيناها في الغرب.» .
«وعند ما استطعت قياس المسافة التي تفصل واقع الإسلام عن الصورة التي اختلقناها عنه في بلادنا الغربية شعرت بالحاجة الملحة لتعلم اللغة العربية التي لم أكن أعرفها، ذلك حتى أكون قادرا على التقدم في دراسة هذا الدين الذي يجهله الكثيرون. كان هدفي الأول هو قراءة القرآن ودراسة نصه جملة جملة مستعينا بمختلف التعليقات اللازمة للدراسة النقدية: وتناولت القرآن منتبها بشكل خاص إلى الوصف الذي يعطيه عن حشد كبير من الظاهرات الطبيعية.

(المقدمة/84)


لقد أذهلتني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه الظاهرات وهي تفاصيل لا يمكن أن تدرك إلا في النص الأصلي، أذهلتني مطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم عن نفس هذه الظاهرات والتي لم يكن ممكنا لأي إنسان في عصر محمد صلى الله عليه وسلّم أن يكوّن عنها أدنى فكرة ... » .
«إن أول ما يثير الدهشة في روح من يواجه مثل هذا النص لأول مرة هو ثراء الموضوعات المعالجة، فهناك الخلق وعلم الفلك وعرض لبعض الموضوعات الخاصة بالأرض، وعالم الحيوان وعالم النبات، والتناسل الإنسان، وعلى حين نكتشف في التوراة أخطاء علمية ضخمة لا نكتشف في القرآن أي خطأ. وقد دفعني ذلك لأن أتساءل: لو كان كاتب القرآن إنسانا، كيف استطاع في القرن السابع من العصر المسيحي أن يكتب ما اتضح أنه يتفق اليوم مع المعارف العلمية الحديثة؟ ليس هناك أي مجال للشك، فنص القرآن الذي نملك اليوم هو فعلا نفس النص الأول. ما التعليل، إذ ليس هناك سبب خاص يدعو للاعتقاد بأن أحد سكان شبه الجزيرة العربية في العصر الذي كانت تخضع فيه فرنسا للملك داجويير استطاع أن يملك ثقافة علمية تسبق بحوالى عشرة قرون ثقافتنا العلمية فيما يخص بعض الموضوعات» .
«ومن الثابت فعلا أن في فترة تنزيل القرآن، أي تلك التي تمتد على عشرين عاما تقريبا قبل وبعد عام الهجرة (622 م) كانت المعارف العلمية في مرحلة ركود منذ عدة قرون، كما أن عصر الحضارة الإسلامية النشط مع الازدهار العلمي الذي واكبها كان لاحقا لنهاية تنزيل القرآن. إن الجهل وحده بهذه المعطيات الدينية والدنيوية هو الذي يسمح بتقديم الاقتراح الغريب الذي سمعت بعضهم يصوغونه أحيانا والذي يقول: إنه إذا كان في القرآن دعاوى ذات صفة علمية مثيرة للدهشة فسبب ذلك هو تقدم العلماء العرب على عصرهم وَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلّم بالتالي قد استلهم دراساتهم. إن من يعرف، ولو يسيرا، تاريخ

(المقدمة/85)


الإسلام ويعرف أيضا أن عصر الازدهار الثقافي والعلمي في العالم العربي في القرون الوسطى لاحق لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلّم لن يسمح لنفسه بإقامة مثل هذه الدعاوى الوهمية فلا محل لأفكار من هذا النوع وخاصة أن معظم الأمور العلمية الموحى بها أو المصاغة بشكل بين تماما في القرآن لم تتلق التأييد إلا في العصر الحديث» .
«من هنا ندرك كيف أن مفسري القرآن (بما في ذلك عصر الحضارة الإسلامية العظيم) قد أخطئوا حتما وطيلة قرون، في تفسير بعض الآيات التي لم يكن باستطاعتهم أن يفطنوا إلى معناها الدقيق. إن ترجمة هذه الآيات وتفسيرها بشكل صحيح لم يكن ممكنا إلا بعد ذلك العصر بكثير، أي في عصر قريب منا. ذلك يتضمن أن المعارف اللغوية المتبحرة لا تكفي وحدها لفهم هذه الآيات القرآنية. بل يجب، بالإضافة إليها، امتلاك معارف علمية شديدة التنوع. إن دراسة كهذه هي دراسة انسيكلوبيدية تقع على عاتق تخصصات عدة. وسندرك- كلما تقدمنا- في عرض المسائل المثارة، تنوع المعارف العلمية اللازمة لفهم معنى بعض آيات القرآن، ومع ذلك فليس القرآن كتابا يهدف إلى عرض بعض القوانين التي تتحكم في الكون. ان له هدفا دينيا جوهريا» .
وهكذا، فإدراك هذا السر البديع، والأدلة الساطعة لا يتسنّى إلا لمن تعمق في دراسة هذا الدين، فالجاهل بالسيء من المستحيل أن يدرك كنهه، وهذا نفس ما ذكرناه في أول التقدمة وطريقة الغزالي في إثبات دلائل النبوّة.
وبعد، فما هي طريقة البيهقي في إثبات دلائل النبوة؟.
يستعرض المصنف (أولا) معجزات الأنبياء السابقين في مدخل الكتاب

(المقدمة/86)


كمعجزات موسى- عليه السّلام- ومعجزات داود، وعيسى بن مريم، ثم يقول: فأما النبي المصطفى، والرسول المجتبى، المبعوث بالحق إلى كافة الخلق من الجن والإنس، أبو الْقَاسِمِ: مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المطلب خاتم النبيين، ورسول رب العالمين صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آله الطيبين الطاهرين فإنه أكثر الرسل آيات وبينات، وذكر بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أعلام نبوته تبلغ ألفا.
ثم يقول المصنف:
«فأما العلم الذي اقترن بدعوته ولم يزل يتزايد أَيَّامَ حَيَاتِهِ، وَدَامَ فِي أمته بعد وفاته فهو القرآن العظيم، المعجم المبين، وحبل الله المتين» .
ثم بعد أن يستعرض وجوه إعجاز القرآن يقول:
«ثم إن لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم وراء القرآن من الآيات الباهرة، والمعجزات الظاهرة ما لا يخفى، وأكثر من أن يحصى» .
ثم يستعرض المعجزات إجمالا، فهو إذن يستند إلى المعجزات في كتابة (أولا) معجزة القرآن الكريم، (ثانيا) معجزات الرسول صلى الله عليه وسلّم التي هي دلائل نبوته، فيقول:
فمن دلائل نبوته التي استدل بها أهل الكتاب على صحة نبوته ما وجدوا في التوراة والإنجيل وسائر كتب الله المنزلة من ذكره ونعته وخروجه بأرض العرب، وإن كان كثير منهم حرفوها عن مواضعها.
ومن دلائل نبوته ما حدث بين أيام مولده ومبعثه صلى الله عليه وسلم من الأمور الغريبة والأكوان العجيبة القادحة في سلطان أئمة الكفر والموهية لكلمتهم، المؤيدة لسان العرب، المنوهة بذكرهم كأمر الفيل وما أحل الله بحزبه من العقوبة والنكال.
ومنها خمود نار فارس وسقوط شرفات إيوان كسرى وغيض ماء بحيرة ساوة

(المقدمة/87)


ورؤيا الموبذان وغير ذلك.
ومنها ما سمعوه من الهواتف الصاخرة بنعوته وأوصافه والرموز المتضمنة لبيان شأنه وما وجد من الكهنة والجن في تصديقه وإشارتهم على أوليائهم من الإنس بالإيمان به.
ومنها انتكاس الأصنام المعبودة وخرورها لوجوهها من غير دافع لها عن أمكنتها، تومي إلى سَائِرُ مَا رَوَى فِي الأخبار المشهورة من ظهور العجائب في ولادته وأيام حضانته وبعدها إلى أن بعث نبيا وبعد ما بعث.
ثم إن له من وراء هذه الآيات المعجزات انشقاق القمر، وحنين الجذع وخروج الماء مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ حَتَّى توضأ منه ناس كثير وتسبيح الطعام، وإجابة الشجرة إياه حين دعاها، وتكليم الذراع المسمومة إياه، وشهادة الذئب والضب والرضيع والميت له بالرسالة، وازدياد الطعام والماء بدعائه حتى أصاب منه ناس كثير، وما كان من حلبه الشاة التي لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ ونزول اللبن لها، وما كان من أخباره عن الكوائن فوجد تصديقه في زمانه وبعده، وغير ذلك مما قد ذكر ودوّن في الكتب.
شرط البيهقي في كتابه وخصائص مصنّفه:
يشرح البيهقي شرطه في إخراج الأحاديث والأخبار فيقول في المدخل:
«وعادتي في كتبي المصنفة في الأصول والفروع- الاقتصار من الأخبار على ما يصح منها دون ما لا يصح، أو التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح، ليكون الناظر فيها من أهل السنة على بصيرة مما يقع الاعتماد عليه، فلا يجد من زاغ قلبه من أهل البدع عن قبول الاخبار مغمزا فيما اعتمد عليه اهل السنة من الآثار» .
لذا فنرى المصنف يتعرض في مدخل الدلائل الى قبول الاخبار، والحجة

(المقدمة/88)


في تثبيت الخبر الواحد، وعقد فصلا فيمن يقبل خبره، ويتكلم عن أنواع الأخبار، والمراسيل، واختلاف الحديث، والناسخ والمنسوخ من الأحاديث، ثم يخلص من ذلك إلى قوله أنه صنّف هذا الكتاب، وأورد فيه ما يشير إلى صحة كل حديث، أما الذي تركه مبهما فهو مقبول في مثل ما أخرجه، أما ما عساه أورده بإسناد ضعيف فقد أشار إلى ضعفه، وجعل الاعتماد على غيره، وذلك كقوله بعد قصة المعراج وقد رُوِيَ فِي قِصَّةِ الْمِعْرَاجِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا أَحَادِيثُ بِأَسَانِيدَ ضِعَافٍ وَفِيمَا ثبت غنية» .
ويعتمد البيهقي أساسا على الصحيحين، وينقل منهما كثيرا ويشير الى ذلك، ثم ينقل عن سنن أبي داود ولا يشير الى ذلك، وبعض الأحاديث رأيت أنه نقلها من سنن الترمذي وقد خرجتها كلها في الحواشي، كما ينقل من مسند الإمام أحمد، وموطأ مالك، وسنن ابن ماجة، وسنن النسائي الكبرى وسنن الدارمي.
ويأخذ عن مستدرك الحاكم، وعن شيخ الحاكم ابن حبان.
كما يأخذ عَنْ مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ولم يصل إلينا منها الا نقول في كتب، كما يأخذ عن مغازي الواقدي، ويكثر من الأخذ من سيرة ابن إسحاق.
ويوجد عنده اخبار لم ترد إلا في كتابه، وإسنادها معول عليه كأبيات الشعر «طلع البدر علينا» وبعض الأخبار الأخرى الواردة فِي حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ، وقوم تبع، وحفر زمزم، وغيرها، وعنه نقلها المصنفون بعده.
وقد يكرر في كتابه بعض الأخبار أو قد يسردها مختصرة في مكان، ومطولة في مكان آخر من كتابه، كتكراره قصة أصحاب الفيل، وتكراره لحنين الجذع فقد أوردها مرة في المنبر بعد الهجرة، وأعادها في الدلائل، وحديث أم معبد ساقه مرة فِي صِفَتِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم، ومرة في هجرته صلى الله عليه وسلم، وغيرها.
هذه الدقة في تمحيص الأخبار، وشرطه أن لا يورد من الأحاديث الا

(المقدمة/89)


الصحيح لأن الاعتماد لا ينبغي إلا على هذا الصحيح، من هنا حظي كتابه بتقدير العلماء، واتفقت كلمتهم على أنه أشمل كتاب في موضوعه من حيث الصحة والدقة والتهذيب والترتيب، فصار مصدرا أصيلا، اعتمده العلماء، وصاروا يكثرون من النقل منه، أو العزو عنه، فمنهم الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» التي شحنها نقلا عن هذا الكتاب، والسيوطي في «الخصائص الكبرى» ، «والدر المنثور» .
المصنفات في دلائل النبوة ومنهج المصنف:
لقد ألف في دلائل النبوة مؤلفون كثيرون من قبل عصر البيهقي، وبعده، ولعل أول من جمعها في باب واحد هو:
1- البخاري في كتاب المناقب، أفرد بابا كبيرا أسماه:
«علامات النبوة في الإسلام» جمع فيه ستين حديثا من دلائل النبوة وعلاماتها، ثم أتبعه بباب بقية أحاديث علامات النبوة في الإسلام، فكان أول من جمع هذه الأحاديث في موضع واحد، وكذا صنع مسلم في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلّم.
2- دلائل النبوة لأبي داود السجستاني المتوفي (275) على ما ذكره الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» .
3- أعلام النبوة لابن قتيبة الدينوري المتوفى (276) .
4- دلائل النبوة لأبي بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا المتوفى (281) .
5- دلائل النبوة للإمام أبي إسحاق إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ المتوفى (285) .
6- دلائل النبوة لأبي إسحاق- إبراهيم بن حماد البغدادي المالكي المتوفي (320) 7- دلائل النبوة لأبي أحمد العسال المتوفى (349) .

(المقدمة/90)


8- الإحكام لسياق آيات النبي- عليه السّلام- لأبي الحسن القطان، المتوفى (359) .
9- دلائل النبوة لأبي الشيخ ابن حيان المتوفى (369) .
10- دلائل النبوة لأبي عَبْدِ اللهِ بْنُ مَنْدَهْ، المتوفى (395) .
11- دلائل النبوة لأبي سعيد الخركوشي المتوفى (407) ، وله ترجمة في شيوخ البيهقي، وستأتي بعد قليل.
12- تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار الهمداني، الشافعي قاضي الري، المتوفى (415) .
13- إثبات نبوة النبي لأحمد بن الحسين الزيدي المتوفى (421) .
14- دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني المتوفى (430) .
15- دلائل النبوة لأبي العباس جعفر بن محمد المعروف بالمستغفري النسفي الحنفي المتوفى (432) جعل فيه الدلائل سبعة أبواب قبل البعثة والمعجزات عشرة أبواب على ما في كشف الظنون.
16- دلائل النبوة لأبي ذر الهروي، المتوفى (434) .
17- أعلام النبوة لأبي الحسن الماوردي، المتوفى (450) .
18- دلائل النبوة لأبي القاسم إسماعيل بن محمد الأصبهاني الطلحي الملقب بقوام السنة المتوفى (535) .
19- دلائل النبوة لأبي بكر محمد بن حسن النقاش الموصلي المتوفى (851) .
20- الحافظ ابن كثير سرد هذه الدلائل كلها في كتابه البداية والنهاية.
21- جمعها السيوطي في «الخصائص الكبرى» .
22- اختصر كتاب البيهقي ابن الملقن (723- 804) في كتاب: «غاية السول في خصائص الرسول» .

(المقدمة/91)


23- اختصره أيضا عالم مجهول في كتاب عنوانه «بغية السائل عما حواه كتاب الدلائل» يوجد الجزء الثاني منه في الظاهرية بدمشق.
أما منهج المصنف في الاستدلال على النبوة فهو أن يسرد الأخبار النبوية، وأحوال صاحب الشريعة، ويستنبط منها هذه الدلائل، وواضح هذا في عناوين الأبواب.
ثم جاء وأفرد الدلائل كلها مجتمعة في موضع واحد أفردناه في السفر السادس من طبعتنا هذه.
وبالإضافة الى أن فيه نصوصا كثيرة لم يسبق نشرها، وأنه نقل من كتب اخرى لم تصل إلينا، فهو خير كتاب صنف في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلّم، ودلائل نبوته من خلال الأحاديث الصحيحة، والأخبار الوثيقة.
حياة البيهقي ومكانته العلمية:
هو الإمام الحافظ العلامة، شيخ خراسان، الفقيه الجليل، والأصولي النّحرير الزاهد، القانت الورع، صاحب التصانيف القائم بنصرة المذهب أصولا وفروعا، «أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الحسين البيهقي النيسابوري» ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
ولد في خسرو جرد (من قرى بيهق بنيسابور) ، ونشأ في بيهق [ (1) ] ، تعلم
__________
[ (1) ] قال ياقوت في معجم البلدان: بيهق: ناحية كبيرة، وكورة واسعة، كثيرة البلدان والعمارة من نواحي نيسابور.. وقد أخرجت هذه الكورة من لا يحصى من الفضلاء والعلماء والفقهاء والأدباء» .
وجاء في دائرة المعارف الاسلامية: «بيهق ناحية من أعمال نيسابور في خراسان، كانت حاضرتها أول الأمر «خسروجرد» على مسيرة اربعة أميال من سبزوار، ثم أصبحت سبزاوار قصتها بعد ذلك، ومن قرى بيهق «باشتين» موطن الأمير عبد الرزاق مؤسس اسرة سربدار، وعرف أهلها

(المقدمة/92)


من شيوخه في سنة (399) وكان قد بلغ خمسة عشر عاما.
وعلى عادة المحدثين في الرحلة في طلب العلم، فقد مضى البيهقي الى بلاد شتى، رحل الى العراق، والحجاز، وسمع في نوقان، واسفرايين، وطوس، والمهرجان، وأسدآباد، وهمدان، والدامغان، وأصبهان، والري، والطبران، ونيسابور، وروذبار، وبغداد، والكوفة ومكة، وطوّف الآفاق.
وكان في كل ذلك يصدر عن نفس خاشعة ورعة، ترقب الله، وتطلب العلم لوجه العلم، راض صابر على بأساء الحياة، لا يشكو قلة ولا عوزا، فإن همته العالية، ونفسه السامية لا ترى فوق العلم مطلبا أنفس منه، وهو سبب القوة الوثيق، ونسبها العريق، وبه تسمو النفس، وهو الحقيقة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلّم مثل العلماء الأعلى، وأقرّها في أنفسهم بجميع أخلاقه وأعماله، وما العالم بفضائله الا امتداد من أثر النبوة تعيش حوله أمته كلها، لا إنسان ضيق مجتمع حول نفسه بمنافع الدنيا، ولن يكون الإسلام صحيحا تاما حتى يجعل حامله من نبيه مثله الكامل، يقهر نفسه، ولا يضطرب، ولا يخشى مخلوقا.
هذه الأخلاق السامية العليا التي اقتبسها البيهقي وتمكن منها بنزاهة قصده، وخلوص نيته، ومراقبته لله، وتقلله من أعباء الدنيا، وإيثاره الصيام ثلاثين سنة ليسمو بروحه، صقلت مواهبه، وبكرت بنبوغه، وسددت خطاه.
وكان لشيوخه الذين زاد عددهم على مائة شيخ الفضل الكبير خلفا من
__________
[ () ] بالتعصب للشيعة في جميع العصور، وكان بالناحية محاجر للرخام، وخرج من «باشتين» المحدث الشافعي «أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحُسَيْنِ بن علي» .
وقد فتحت بيهق سنة ثلاثين من الهجرة، ودخلها عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بن كريز حينما رجع من كرمان، واصطلح معه أهلها، ودخل فيها كثير من الصحابة واستوطن بها، ومات فيها ابو رفاعة تميم بن أسيد العدوي، وزهير بن ذؤيب، وابن بشر الأنصاري، وأقام فيها مدة: شهر بن حوشب، وعكرمة مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عباس، وقنبر مولى علي بن أبي طالب.

(المقدمة/93)


بعدهم في تصنيف العلم، وتحرير الكتب التي تشرح اصول الإسلام وقواعد الإيمان.
شيوخ البيهقي:
1- الحاكم [ (2) ] الحافظ الكبير أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الضبي الطهماني النيسابوري (321- 405) إمام أهل الحديث في عصره، وصاحب كتاب «المستدرك على الصحيحين» «وعلوم الحديث» ، و «التاريخ» ، «والمدخل الى معرفة الإكليل» ، «ومناقب الشافعي» وغيرها.
قال الذهبي: «كان عند البيهقي منه وقر بعير» .
قال ابن قاضي شهبة في ترجمته للحاكم في طبقات الشافعية (1:
190) : «أخذ عنه أبو بكر البيهقي، فأكثر عنه، وبكتبه تفقه وتخرج، ومن بحره استمد، وعلى منواله مشى» .
2- أَبُو الْحَسَنِ: مُحَمَّدُ بْنُ الحسين العلوي الحسني النيسابوري [ (3) ] ، شيخ الاشراف، كان سيدا نبيلا، صالحا، وقد امتدحه الحاكم، وقال:
«شيخ شيوخ الأشراف، ذو الهمة العالية، والعبادة الظاهرة، والسجايا الطاهرة، وكان يعد في مجلسه ألف محبرة، وقد انتقيت عليه ألف حديث» .
وقد حدث عنه الحاكم، وأبو بكر البيهقي. وهو أكبر شيخ للبيهقي ومات فجأة في جمادى الآخرة سنة احدى وأربع مائة.
__________
[ (2) ] ترجمته في تاريخ بغداد (5: 473) ، وفيات الأعيان (3: 408) ، تذكرة الحفاظ (3:
1039) ، طبقات الشافعية (4: 155) ، البداية والنهاية (11: 355) ، المنتظم (7:
274) ، النجوم الزاهرة (4: 238) ، ميزان الاعتدال (3: 608) ، لسان الميزان (5:
232) العبر (3: 91) .
[ (3) ] ترجمته في العبر (3: 76) ، شذرات الذهب (3: 162) .

(المقدمة/94)


3- أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ [ (4) ] : الحافظ العالم الزاهد، شيخ الصوفية المشهور مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ موسى الأزدي النيسابوري (303- 412) ، وهو مؤلف كتاب «طبقات الصوفية» وشيخ خراسان، وكبير الصوفية، وصاحب التصانيف، ورث التصوف عن أبيه وجده، وجمع من الكتب ما لم يسبق إلى ترتيبه حتى بلغ فهرس كتبه المائة ذكره الخطيب البغدادي، فقال: «محلّه كبير، وكان مع ذلك صاحب تصانيف مجّودا، جمع شيوخا، وتراجم وأبوابا، وعمل ديورة للصوفية، وصنّف سننا وتفسيرا» .
4- أَبُو سَعْدٍ، عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ الخركوشي النيسابوري [ (5) ] الواعظ: وخركوش: سكة بنيسابور، حدّث عنه الحاكم وهو أكبر منه، والحسن بن محمد الخلال، والبيهقي، وغيرهم.
قال الخطيب: «كان ثقة ورعا صالحا» .
وقال الحاكم: «إني لم أر أجمع منه علما وزهدا وتواضعا وإرشادا الى الله وإلى الزهد، زاده الله توفيقا، وأسعدنا بأيامه، وقد سارت مصنفاته.
له تفسير كبير، وكتاب «دلائل النبوة» وكتاب «الزهد» .
وتوفي في جمادى الأولى سنة سبع وأربعمائة
__________
[ (4) ] ترجمته في تاريخ بغداد (2: 248) ، المنتظم (8: 6) ، الكامل في التاريخ (9: 326) ، العبر (3: 109) ، البداية والنهاية (12: 12) ، تذكرة الحفاظ (3: 1046) ، طبقات الشافعية للسبكي (4: 143)
[ (5) ] له ترجمة في تاريخ بغداد (10: 432) ، تبيين كذب المفتري (233) ، المنتظم (7:
279) ، تذكرة الحفاظ (3: 1066) ، العبر (3: 96) ، شذرات الذهب (3: 184) ، طبقات السبكي (5: 222) .

(المقدمة/95)


5- أبو إسحاق الطوسي: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم [ (6) ] ، أحد الأكابر المناظرين، كانت له ثروة زائدة وجاه وافر، تفقه على أبي الوليد النيسابوري، وعلى أبي سهل الصعلوكي، نقل عنه الرافعي، وفاته في رجب سنة احدى عشرة وأربعمائة.
6- عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَحْمَدَ الْأَصْبَهَانِيُّ [ (7) ] : كان من كبار الصوفية، وثقات المحدثين (315- 409) أكثر عنه البيهقي.
7- عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بَالَوَيْهِ النيسابوري [ (8) ] : الرئيس الأوحد، الثقة المسند، أبو محمد المزكيّ، حدث عن الأصم، وعن أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ القطان، وهو آخر أصحاب القطان موتا، وحدث عنه البيهقي، وأبو صالح المؤذن، ومحمد بن يحيى المزكي، وآخرون، وكان ثقة، وجيها، نبيلا توفي فجأة في شعبان سنة عشر واربعمائة وكان يملي في داره.
8- عبد الله بن يوسف، أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين: [ (9) ] شيخ الشافعية، الفقيه المدقق المحقق، النحوي المفسر، تصدّر للفتوى سنة سبع وأربعمائة وكان مجتهدا في العبادة، مهيبا بين التلامذة، صاحب جد ووقار وسكينة، وكان يلقب بركن الإسلام.
__________
[ (6) ] له ترجمة في طبقات ابن هداية الله (44) ، والعقد المذهب لابن الملقن ص (180) ، وطبقات الشافعية الوسطى للسبكي (ل 42) ، وطبقات الشافية لابن قاضي شهبة (1: 160) .
[ (7) ] ويقال له ابن بامويه، وله ترجمة في العبر (3: 100) ، وتذكرة الحفاظ (3: 1049) ، وشذرات الذهب (3: 188) .
[ (8) ] له ترجمة في العبر (3: 102) ، تذكرة الحفاظ (3: 1051) ، شذرات الذهب (3: 190) .
[ (9) ] ترجمته في الأنساب للسمعاني (3: 385) ط. عالم الكتب، تبيين كذب المفتري (257) ، المنتظم (8: 130) ، الكامل في التاريخ (9: 535) ، العبر (3: 188) ، مرآة الجنان لليافعي (3: 58) ، طبقات الشافعية للسبكي (5: 73) ، البداية والنهاية (12: 55) ، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1: 211) ، طبقات ابن هداية الله (144) شذرات الذهب (3: 261) .

(المقدمة/96)


وله من التآليف: «التبصرة» في الفقه، وكتاب «التذكرة» ، وكتاب «التفسير الكبير» ، وغيرها.
وفاته في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة.
9- الإمام المحدث، مقرئ العراق، أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ حفص بن الحمامي البغدادي [ (10) ] (328- 417) .
سمع من أبي سهل القطان، وابن قانع، ومحمد بن جعفر الأدمي، وتلا على النقاش، وهبة الله بن جعفر، وابن أبي هاشم وغيرهم حدث عنه الخطيب، والبيهقي، وعبد الواحد بن فهد، وغيرهم، قال الخطيب: «كان صدوقا ديّنا فاضلا، تفرد بأسانيد القراءات وعلوّها في وقته» .
10- الحافظ أَبُو حَازِمٍ عُمَرُ بْنُ أحمد المسعودي الهذلي النيسابوري الأعرج [ (11) ] العبدوي ابن المحدث أبي الحسن.
سمع إسماعيل بن نجيد وأبا بكر الإسماعيلي، وأبا الْفَضْلِ بْنُ خَمِيرَوَيْهِ الْهَرَوِيُّ، وأبا أحمد الحاكم، وطبقتهم.
وقال الخطيب: «لم أر أحدا أطلق عليه اسم الحفظ غير رجلين: أبو نعيم، وأبو حازم العبدوي» .
وقال أيضا: «كان أبو حازم ثقة صادقا حافظا عارفا» وفاته يوم عيد الفطر سنة سبع عشرة وأربعمائة.
__________
[ (10) ] له ترجمة في «تاريخ بغداد» (11: 329) ، الأنساب (4: 207) الإكمال (3: 289) ، المنتظم (8: 28) ، الكامل (9: 356) ، العبر (3: 125) ، البداية (12: 21) ، شذرات الذهب (3: 208) .
[ (11) ] ترجمته في «تاريخ بغداد» (11: 272) ، الأنساب (8: 354) ، تبيين كذب المفتري (241) ، المنتظم (8: 27) ، تذكرة الحفاظ (3: 1072) ، العبر (3: 125) ، طبقات الشافعية للسبكي (5: 300) ، البداية (12: 12) ، النجوم الزاهرة (4: 265) شذرات الذهب (3: 208) .

(المقدمة/97)


11- أبو طاهر الزيّادي: محمد بن محمد بن محمش [ (12) ] (317- 410) النيسابوري: الفقيه العلامة القدوة شيخ خراسان، كان والده من العابدين.
سمع من مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، وعبد اللهِ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِرْمَانِيُّ، وأبي العباس الأصم، وأبي علي الميداني، وعليّ بن حمشاذ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الصَّفَّارُ، وغيرهم.
وكان إماما في المذهب، متبحرا في علم الشروط، بعصيرا في العربية، كبير الشأن، وكان إمام أصحاب الحديث ومسندهم ومفتيهم.
روى عنه أبو بكر البيهقي، وعبد الجبار بن عبد الله بن برزة، والقاسم بن الفضل الثقفي، وقد روى عنه من أقرانه الحاكم.
12- الإمام الشريف أبو الفتح ناصر بن الحسين العمري: [ (13) ] الفقيه، شيخ الشافعية، ينتهي نسبه إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عمر بن الخطاب.
سمع أبا العباس السرخسي، وأبا محمد المخلدي، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ابن عبد الوهاب الرازي، وتفقّه على أبي بكر القفّال، وابن محمش الزيّادي.
وبرع في المذهب، ودرّس في أيام مشايخه، وتفقّه به اهل نيسابور، وكان مدار الفتوى والمناظرة عليه.
أخذ عنه ابو بكر البيهقي، ومسعود بن ناصر السّجزي، وأبو صالح المؤذن، وآخرون.
__________
[ (12) ] الأنساب (6: 336) ، اللباب (2: 84) ، تذكرة الحفاظ (3: 1051) ، العبر (3: 103) ، طبقات الشافعية للسبكي (4: 198) ، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1: 191) ، شذرات الذهب (3: 192) .
[ (13) ] انظر ترجمته في العبر (3: 208) ، طبقات الشافعية للسبكي (5: 350) طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1: 249) ، شذرات الذهب (3: 272) .

(المقدمة/98)


وكان خيّرا متواضعا فقيرا، متعففا قانعا باليسير، كبير القدر ومات بنيسابور في ذي القعدة سنة اربع وأربعين وأربعمائة.
13- العلامة أَبُو الْقَاسِمِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُبَيْبٍ بن أيوب النيسابوري [ (14) ] : المفسر الواعظ صاحب كتاب «عقلاء المجانين» ، وصنّف في التفسير والأدب سمع أبا العباس الأصم، ومحمد بْنُ صَالِحِ بْنِ هَانِئٍ، وابن حبان وغيرهم وتوفي فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ستّ وأربعمائة.
14- أَبُو عُمَرَ، مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله بن أحمد البسطامي: [ (15) ] الفقيه، الأديب، المحدث، كان يقرئ العربية، وثقفه على أبي سعيد الصعلوكي، وأكثر عن ابن عدي وطبقته، وفاته في ربيع الأول وله خمس وثمانون سنة.
15- هِلَالُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جعفر الحفّار [ (16) ] : أبو الفتح، الشيخ الصدوق (322- 414) سمع من إسماعيل الصفّار، وعثمان بن أحمد الدقاق، وإسماعيل ابن علي الخزاعي، وغيرهم وحدث عنه الخطيب، والبيهقي، وأبو نصر السّجزي، وخلق سواهم قال الخطيب: «كان صدوقا، مات في صفر سنة اربع عشرة واربعمائة» .
16- أَبُو الْحَسَنِ، عَلِيُّ بْنُ الحسن المصري: [ (17) ] القاضي، الفقيه، الشافعي: سمع عبد الرحمن بن عمر النحاس، وأبا سعد الماليني، وانتهى إليه
__________
[ (14) ] ترجمته في العبر (3: 93) ، بغية الوعاة (1: 519) ، طبقات المفسرين للداوودي (1: 140) ، شذرات الذهب (3: 181) .
[ (15) ] انظر ترجمته في العبر (3: 160) ، وشذرات الذهب (3: 230) .
[ (16) ] ترجمته في تاريخ بغداد (14: 75) ، الأنساب (10: 428) ، المنتظم (8: 15) العبر (3:
118) ، تذكرة الحفاظ (3: 1057) ، شذرات الذهب (3: 201) .
[ (17) ] له ترجمة في العبر (3: 334) .

(المقدمة/99)


علو الإسناد بمصر، وله تصانيف، ولي القضاء، وحكم يوما، واستعفى، وانزوى.
17- أَبُو مُحَمَّدٍ، عَبْدُ اللهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الجبار البغدادي السكري [ (18) ] : الشيخ المعمر الثقة، سمع من إسماعيل الصفّار عدة أجزاء انفرد بعلوّ إسنادها، وسمع من جعفر الخلدي، وأبي بكر النّجاد، وجماعة.
روى عنه الخطيب، والبيهقي، والحسين بن علي البسري قال الخطيب:
«كتبنا عنه، وكان صدوقا» . وفاته في صفر سنة سبع عشرة وأربعمائة.
18- أحمد بن أبي علي الحسن بن الحافظ أبي عمرو أحمد بن محمد ابن حفص بن مسلم الحرشي الحيريّ النيسابوري الشافعي [ (19) ] : الإمام المحدث العالم، مسند خراسان، قاضي القضاة (325- 417) .
حدّث عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ، وأبي أحمد بن عدي، وحاجب بن أحمد الطوسي، وأبي محمد الفاكهي، وغيرهم.
وتفقه على أبي الْوَلِيدِ حَسَّانُ بْنُ مُحَمَّدِ، ودرس الكلام والأصول على أصحاب أبي الحسن الأشتري، وكان فقيها، بصيرا بالمذهب.
حدث عنه الحاكم وهو أكبر منه، وأبو محمد الجويني، وأبو بكر البيهقي، وأبو القاسم القشيري، وأبو بكر الخطيب، والحسن بن محمد الصفّار، وغيرهم.
أثنى عليه الحاكم، وفخمّ أمره، وصنّف في الأصول والحديث.
__________
[ (18) ] انظر ترجمته في: «تاريخ بغداد» (10: 199) ، العبر (3: 125) ، شذرات الذهب (3:
208) .
[ (19) ] له ترجمة في الأنساب (4: 108) ، والعبر (3: 141) ، طبقات الشافعية للسبكي (4: 6) ، شذرات الذهب (3: 217) .

(المقدمة/100)


19- أبو الحسن: علي محمد الواعظ المصري [ (20) ]-: هو بغدادي، أقام بمصر مدة، روى عن أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ ناصح، وأبي يزيد القراطيسي، وطبقتهما، وكان صاحب حديث، وله مصنفات كثيرة في علم الحديث والزهد، وكان مقدم زمانه في الوعظ. وفاته في ذي القعدة سنة (438) .
20- أَبُو عَلِيٍّ، الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بن علي بن حاتم الرّوذباري الطّوسيّ: [ (21) ] راوي سنن أبي داود، عن ابن داسة، حدث بها بنيسابور، وسمع إسماعيل الصفّار، وعبد الله بن عمر بن شوذب، والحسين بن الحسن الطوسي وحدث عنه الحاكم وهو في أقرانه، وأبو بكر البيهقي، وأبو الفتح: نصر بن علي الطوسي، وفاطمة بنت أبي علي الدقاق، وعدد كثير نيّف على الثمانين.
وفاته فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثلاث واربعمائة.
21- أبو إسحاق الإسفراييني: [ (22) ] الإمام العلامة الأوحد، الأستاذ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مهران الاسفراييني الأصولي الشافعي، ركن الدين، أحد المجتهدين في عصره، وصاحب المصنفات الباهرة.
ارتحل في الحديث، وسمع من دعلج السّجزي، وعبد الخالق بن روبا، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الشَّافِعِيُّ، ومحمد بن يزداد، وغيرهم، حدث عنه ابو بكر البيهقي، وأبو القاسم القشيري، وأبو الطيب،
__________
[ (20) ] له ترجمة في شذرات الذهب (3: 3) .
[ (21) ] قال السمعاني (6: 180) : لفظ (الروذباري) نسبة لمواضع عند الأنهار الكبيرة، يقال لها:
«الروذبار» وهي في بلاد متفرقة، منها موضع على باب الطابران بطوس يقال له: الروذبار، وكنت قد نزلت مرة من المرار ببلاد الروذبار.
وله ترجمة أيضا في العبر (3: 85) ، وشذرات الذهب (3: 168) .
[ (22) ] انظر ترجمته في: الأنساب (1: 237) ، تبيين كذب المفتري (243) ، تهذيب الأسماء واللغات (2: 169) ، العبر (2: 128) ، طبقات الشافعية للسبكي (4: 256) ، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1: 158) ، البداية (12: 24) ، شذرات الذهب (3: 209) .

(المقدمة/101)


الطبري، وغيرهم.
قال الحكم: «أبو إسحاق الأصولي الفقيه المتكلم المتقدم في هذه العلوم، انصرف من العراق، وقد أقرّ له العلماء بالتقدم، وبني له بنيسابور المدرسة التي لم يبن بنيسابور مثلها قبلها، فدرّس فيها.
وفاته في سنة ثماني عشرة وأربعمائة.
22- أبو ذر الهروي: [ (23) ] الحافظ الإمام المجوّد العلامة، شيخ الحرم، أَبُو ذَرٍّ عَبْدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ بن عبد الله الأنصاري المالكي، صاحب التصانيف، وراوي الصحيح عن الثلاثة: «المستملي والحموي، والكشمهيني» .
ولد سنة خمس أو ست وخمسين وثلاثمائة.
وسمع أبا الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَمِيرَوَيْهِ، وبشر بن محمد المزني، وأبا الحسن الدارقطني، والدينوري، وغيرهم وألف معجما لشيوخه، وحدّث بخراسان، وبغداد، والحرم.
كان ثقة، ضابطا، ديّنا، توفي في سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
23- ابن فورك شيخ المتكلمين: أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ فُورَكٍ الأصبهاني [ (24) ] :
هو الإمام الجليل: والحبر المهيب، العالم التقي الورع، الواعظ اللغوي
__________
[ (23) ] ترجمته في تاريخ بغداد (11: 141) ، المنتظم (8: 115) الكامل (9: 514) ، العبر (3:
180) ، تذكرة الحفاظ (3: 1103) ، البداية (12: 50) ، الديباج المذهب (2: 132) ، شذرات الذهب (3: 254) .
[ (24) ] ترجمته في العبر (1: 95) ، طبقات الشافعية للسبكي (4: 127) طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1: 185) ، النجوم الزاهرة (4: 240) ، شذرات الذهب (3: 181) ، إنباه الرواة (3:
110) ، مرآة الجنان (3: 17) .

(المقدمة/102)


النحوي، رافض الدنيا وزخرفها، المقبل على الله سيرا وعلانية، صاحب التصانيف المشحونة علما، والمؤلفات الضافية حكمة، الأستاذ الذي لا يبارى، والفيلسوف الذي لا يجارى: محمد بن الحسن ابن فورك أبو بكر، الأنصاري الاصبهاني، ولد حوالي سنة 332 هـ.
درس بالعراق- أول الأمر- مذهب الاشعرية على أبي الحسن الباهلي، ثم رحل الى نيسابور، فحقق مجدا وشهرة، وبنى له بها دارا ومدرسة، فحدث بها، وأحيا به الله تعالى أنواعا من العلوم، وظهرت بركته على أهل الفقه.
سمع ابن فورك مِنْ: عَبْدِ اللهِ بْنِ جعفر الاصبهاني جميع مسند الطيالسي، وسمع من ابن خرزاذ الأهوازي، وروى عنه الحافظ أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم القشيري، وأبو بكر بن علي بن خلف.
ثم دعى الى مدينة غزنة بالهند، فشمر عن ساعد الجد والاجتهاد، وذهب إليها، وناصر الحق، واستفاد الناس منه.
وكان- رحمه الله- فقيها، مفسرا، أصوليا، واعظا، أديبا نحويا، لغويا، عارفا بالرجال.
توفي عام: 406، وقد ذكر أنه مات مسموما على يد ابن سبكتكين، ذلك أنه كان قائما في نصرة الدين، وقد رد على المشبهة الكرامية، بسهام لا قبل لهم بها، فتحزبوا عليه.
24- أبو بكر الطوسي: محمد بن أبي بكر الطوسي النوقاني: [ (25) ] تفقه بنيسابور على الماسرجي، وببغداد على أبي محمد البافي الخوارزمي وكان إمام اصحاب الشافعي بنيسابور له الدرس والأصحاب ومجلس النظر وكان ورعا
__________
[ (25) ] انظر ترجمته في: طبقات الشافعية للسبكي (4: 121) ، طبقات ابن قاضي شهبة (1: 184) ، العقد المذهب لابن الملقن (46) .

(المقدمة/103)


زاهدا، ترك طلب الجاه والدخول على السلاطين، وقبول الولايات، وكان حسن الخلق، تفقه به خلق كثير وظهرت بركته عليهم منهم أبو القاسم القشيري، وتوفى بنوقان سنة عشرين وأربعمائة.
25- أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بِشْرَانَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ بِشْرَانَ المعدّل [ (26) ] : (328- 415) سمع من أبي جعفر البختري، وإسماعيل الصفّار، وعثمان بن السّماك، وغيرهم.
حدث عنه البيهقي، والخطيب، والرئيس أبو عبد الله الثقفي، وغيرهم قال الخطيب: «كان تام المروءة، ظاهر الدّيانة، صدوقا ثبتا» .
26- أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْحَافِظُ: [ (27) ] قَالَ الذهبي: «هو مصنف السنن الذي يكثر البيهقي من التخريج منه في سننه، وقال الخطيب:
«روى عنه الدارقطني، وكان ثقة، ثبتا، صنّف المسند وجوّده» .
27- أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ الْأَهْوَازِيُّ: [ (28) ] الشيخ المحدث الصدوق، الثقة، المشهور توفي بخراسان (415) .
28- أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَلِيمِيُّ: [ (29) ] الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ محمد بن حليم البخاري الشافعي القاضي العلامة، رئيس المحدثين والمتكلمين بما وراء النهر، أحد الأذكياء الموصوفين، ومن أصحاب الوجوه في المذهب.
__________
[ (26) ] انظر تاريخ بغداد (12: 98) ، المنتظم (8: 18) ، العبر (3: 120) شذرات الذهب (3:
203) .
[ (27) ] تذكرة الحفاظ (876) .
[ (28) ] انظر ترجمته في تاريخ بغداد (11: 229) ، وتاريخ جرجان (503) .
[ (29) ] ترجمته في: الأنساب (4: 198) ، المنتظم (7: 264) .
تذكرة الحفاظ (3: 1030) ، العبر (3: 48) ، طبقات الشافعية للسبكي (4: 333) ، البداية (11: 349) ، شذرات الذهب (3: 167) .

(المقدمة/104)


أخذ عن القفّال، والإمام أبي بكر الأودني، وأبي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بن خنب، والدّخميسي، وغيرهم.
وله مصنفات نفيسة.
حدث عنه الحاكم وهو أكبر منه، وعبد الرحيم البخاري، وللحفاظ البيهقي اعتناء بكلام الحليمي، لا سيما في «شعب الإيمان» .
وتوفي سنة ثلاث وأربعمائة.
29- أبو سعد الماليني [ (30) ] : الإمام المحدث الصادق، الزاهد، الجوّال أَبُو سَعْدٍ: أَحْمَدُ بْنُ محمد بن أحمد بن عبد الله الأنصاري الهروي الماليني، الصوفي، الملقب بطاووس الفقراء.
جال في طلب العلم ولقاء المشايخ إلى نيسابور، وأصبهان، وبغداد، والشام، والحرمين، وجمع، وصنّف.
وحدث عنه الخطيب، والبيهقي، وأبو نصر السجزي، وغيرهم.
كان ذا صدق وورع، وإتقان، حصّل المسانيد الكبار.
وتوفي سنة تسع وأربعمائة.
30- أبو سعيد الصيرفي: مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الفضل [ (31) ] المتوفي (421) شيخ، ثقة، مأمون، وهو من كبار تلاميذ الأصم، وقد روى عنه البيهقي كتب الشافعي.
31- أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَيْهَقِيُّ [ (32) ] صاحب المدرسة:
__________
[ (30) ] انظر ترجمته في: تاريخ بغداد (4: 371) ، المنتظم (8: 3) ، تذكرة الحفاظ (3:
1070) ، العبر (3: 107) طبقات السبكي (4: 59) ، البداية (12: 11) ، شذرات الذهب (3: 195) .
[ (31) ] ترجمته في العبر (3: 144) ، شذرات الذهب (3: 220) .
[ (32) ] تاريخ بيهق (297) .

(المقدمة/105)


كان إماما محدثا قانتا، وأنشأ مدرسة في نيسابور.
32- أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بن فضل بْنِ نَظِيفٍ الْفَرَّاءُ الْمِصْرِيُّ [ (33) ] المتوفي (431) وهو مسند الديار المصرية، سمع منه بمكة.
33- أَبُو الطَّيِّبِ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الصعلوكي النيسابوري [ (34) ] :
سمع من الأصم، وأبي علي الرفاء، وطائفة، وقال الحاكم: هو من أنظر من رأينا، وحدث عنه الحاكم، وهو أكبر منه، والبيهقي، وكان بعض العلماء يعده المجدد لهذه الأمة دينها على رأس الأربعمائة، وبعدهم عدّ ابن الباقلاني.
34- أَبُو بَكْرٍ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بن غالب الخوارزمي البرقاني [ (35) ] : الإمام العلامة الفقيه، الحافظ الثبت، شيخ الفقهاء والمحدثين، قال الخطيب: كان ثقة ورعا ثبتا فهما لم نر في شيوخنا أثبت منه، عارفا بالفقه، له حظ من علم العربية، كثير الحديث، صنف مسندا ضمّنه ما اشتمل عليه «صحيح» البخاري ومسلم، وجمع حديث سفيان الثوري وأيوب، وشعبة، وعبيد الله بن عمر ... وغيرهم، ولم يقطع التصنيف حتى مات، وكان حريصا على العلم، منصرف الهمة إليه» .
وقال الخطيب: «أنا ما رأيت شيخا أثبت منه» .
ولادته سنة (336) ، وفاته (425) .
35- أبو منصور البغدادي: عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ بن محمد التميمي [ (36) ] :
__________
[ (33) ] شذرات الذهب (3: 249) ، العبر (3: 175) .
[ (34) ] الأنساب (8: 64) ، تبيين كذب المفتري (211) ، العبر (3: 88) ، طبقات السبكي (4: 393) ، البداية (11: 324) ، شذرات الذهب (3: 172) .
[ (35) ] ترجمته في تاريخ بغداد (4: 373) ، الأنساب (2: 156) ، المنتظم (8: 79) تذكرة الحفاظ (3: 1074) ، العبر (3: 156) ، طبقات السبكي (4: 47) .
[ (36) ] انظر ترجمته في: إنباه الرواة (2: 185) ، طبقات السبكي (5: 136) البداية والنهاية (12: 44) .

(المقدمة/106)


العلامة البارع، المتفنن الأستاذ، صاحب التصانيف البديعة، وأحد أعلام الشافعية.
حدث عنه أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم القشيري، وخلق وكان من أئمة الأصول.
36- أبو عبد الله الغضائري: الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ محمد المخزومي البغدادي [ (37) ] : الإمام الصالح، الثقة، أبو عبد الله، سمع محمد بن يحيى الصولي، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، وأبا جعفر البختري، وغيرهم.
وحدث عنه أبو بكر البيهقي، وأبو بكر الخطيب، وأبو الحسين بن المهتدي بالله، وآخرون.
قال الخطيب: «كان ثقة فاضلا، مات في المحرم سنة أربع عشرة وأربعمائة» .
37- أَبُو عَبْدِ اللهِ: الْحُسَيْنُ بن محمد بن فنجويه [ (38) ] : الدينوري، المحدث المفيد، بقية المشايخ، حدث عن هارون العطار، وأبي بكر بن السني وأبي بكر القطيعي.
قال شيرويه في تاريخه: كان ثقة صدوقا، كثير الرواية للمناكير، حسن الخط، كثير التصانيف. مات بنيسابور في ربيع الآخر سنة أربع عشرة وأربعمائة.
38- ابن البقال: عبيد الله بن عمر بن علي المقري [ (39) ] المتوفى ببغداد
__________
[ (37) ] تاريخ بغداد (8: 34) ، الأنساب (9: 155) ، المنتظم (8: 14) ، العبر (3:
116) ، شذرات الذهب (3: 200) .
[ (38) ] انظر ترجمته في: العبر (3: 116) ، شذرات الذهب (3: 200) .
[ (39) ] تاريخ بغداد (5: 382) ، طبقات السبكي (5: 233) .

(المقدمة/107)


سنة (415) ، كان من الفقهاء الثقات، روى عنه الخطيب البغدادي.
39- محمد بن عبد الله بن أحمد البسطامي الزرهاجي (341- 426) [ (40) ] : العلامة المحدث، الأديب، الفقيه، الشافعي، تلميذ أبي سهل الصعلوكي، وسمع أبا بكر الإسماعيلي، وأبا أحمد بن عدي، وأبا أحمد الحاكم.
حدّث عنه أبو بكر البيهقي، والرئيس الثقفي، وعلي بن محمد الفقاعي وغيرهم.
40- الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبِسْطَامِيُّ [ (41) ] : شيخ الشافعية، قاضي نيسابور، له رحلة واسعة، وفضائل، وولي القضاء، وروى عنه: الحاكم، والبيهقي، وأبو صالح المؤذن، وغيرهم.
41- أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إبراهيم بن منجويه اليزدي الأصبهاني [ (42) ] : من الحفاظ الأثبات، ارتحل الى بخارى، وسمرقند، وهراة، وجرجان، وحدث عنه أبو بكر البيهقي، والخطيب، وسعيد البقال، وغيرهم.
صنف على الصحيحين مستخرجا، وعلى جامع أبي عيسى، وسنن أبي داود، وفاته (428) .
42- أَبُو الْحُسَيْنِ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ القطان البغدادي [ (43) ] : (334- 415) الشيخ العالم الثقة، مجمع على ثقته، حدّث
__________
[ (40) ] طبقات السبكي (4: 151) ، شذرات الذهب (3: 230) ، الأنساب (6: 110) ، والعبر (3: 160) .
[ (41) ] تاريخ بغداد (2: 247) ، الأنساب (2: 215) ، العبر (3: 99) ، شذرات الذهب (3: 187) ، طبقات السبكي (4: 140) ، المنتظم (7: 285) .
[ (42) ] تذكرة الحفاظ (3: 1085) ، العبر (3: 164) ، شذرات الذهب (3: 233) .
[ (43) ] ترجمته في تاريخ بغداد (2: 249) ، الأنساب (10: 186) ، المنتظم (8: 20) ، العبر (3: 120) ، شذرات الذهب (3: 203) .

(المقدمة/108)


عنه البيهقي والخطيب، واللالكائي، وأبو عبد الله الثقفي ... وغيرهم.
تلاميذ البيهقي:
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ (3: 1133- 1134) : «روى عنه خلق كثير» وقرأ كتبه على تلاميذه الكثيرين الذين نشروها في الأمصار، أما أشهر تلاميذه الذين نقلوا عنه العلم، وكثرت ملازمتهم له، وكان لهم به صلة وثيقة، منهم:
1- أبو عبد الله الفراوي: محمد بن الفضل [ (44) ] : (441- 530) تفرد برواية صحيح مسلم، وكان يعرف بفقيه الحرم، لأنه أقام بالحرمين مدة طويلة ينشر العلم ويسمع الحديث وكان بارعا في الفقه والأصول، حافظا لقواعده، كما تفرد برواية «دلائل النبوة» والأسماء والصفات.
قال ابن السمعاني: هو إمام ثبت، مناظر، واعظ، حسن الأخلاق والمعاشرة، جواد، مكرم للغرباء، ما رأيت في شيوخنا مثله.
2- أبو محمد: عبد الجبار بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ البيهقي الخواري [ (45) ] :
وكان إماما فاضلا مفتيا متواضعا، كتب عنه السمعاني الكثير بنيسابور، وقرأ عليه الكتب وفاته (533) .
3- أبو نصر علي بن مسعود بن محمد الشجاعي: وقد روى عن البيهقي رسالته إلى أبي محمد الجويني [ (46) ] .
__________
[ (44) ] له ترجمة في طبقات السبكي (4: 92) ، وطبقات ابن قاضي شهبة (1: 352) ، وشذرات الذهب (4: 96) ، والبداية والنهاية (12: 211) .
[ (45) ] طبقات السبكي (4: 243) ، العبر (4: 99) ، شذرات الذهب (3: 113) .
[ (46) ] طبقات الشافعية (3: 210) .

(المقدمة/109)


4- زاهر بن طاهر بن محمد [ (47) ] : أبو القاسم المستملي الشحامي المعدل، روى عنه كتاب الزهد، ورواه ابن عساكر عن المستملي.
5- أَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ أبي مسعود الصاعدي [ (48) ] : روى عنه ابن عساكر كما في تبيين كذب المفتري.
6- أبو المعالي: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ محمد بن الحسين الفارسي النيسابوري [ (49) ] : راوي السنن الكبير عن البيهقي، وفاته (539) .
7- القاضي أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحُسَيْنُ بن علي بن فطيمة البيهقي قاضي خسروجرد [ (50) ] : المتوفي بها.
8- إسماعيل بن أحمد البيهقي [ (51) ] ابن المصنف (428- 507) سمع من أبيه، ورحل في طلب العلم، وتوفي «ببيهق» وكان فاضلا مرضي الطريقة.
9- حفيد البيهقي: أبو الحسن، عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بن أحمد [ (52) ] ، وهو راوي كتاب «دلائل النبوة، ومعرفة أحوال صاحب الشريعة» ، كما روى عن جده عدة كتب، وكانت وفاته سنة (523) وله أربع وسبعون سنة.
10- الحافظ أَبُو زَكَرِيَّا: يَحْيَى بْنُ عبد الوهاب بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بن مندة العبدي الأصبهاني المتوفي (511) ، وهو صاحب التاريخ، سمع من البيهقي في نيسابور، وقال السمعاني: «كان جليل القدر، وافر الفضل، واسع
__________
[ (47) ] البداية (12: 94) ، وشذرات الذهب (4: 102) .
[ (48) ] تبيين كذب المفتري (45) .
[ (49) ] شذرات الذهب (4: 125) .
[ (50) ] الأنساب (2: 413) ، طبقات السبكي (7: 73) .
[ (51) ] طبقات السبكي (7: 44) ، المنتظم (9: 175) .
[ (52) ] ترجمته في الميزان (3: 15) ، شذرات الذهب (4: 67) .

(المقدمة/110)


الرواية، حافظ، ثقة، مكثر، صدوق، كثير التصانيف» .
مصنفاته:
1- السنن الكبرى الذي قال عنه الذهبي: «ليس لأحد مثله» .
2- السنن الصغرى، قال صاحب كشف الظنون: «السنن الكبيرة، والصغيرة كتابان لأبي بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ علي البيهقي، وهما على ترتيب «مختصر المزني» لم يصنف مثلهما في الإسلام.
3- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة وهو درة تصانيف البيهقي، ومن أنفس وأشمل ما صنف في هذا الموضوع.
4- أحكام القرآن: جمعه من كلام الشافعي.
5- كتاب الاعتقاد.
6- كتاب «القراءة خلف الإمام» .
6- حياة الأنبياء في قبورهم.
7- مناقب الشافعي.
8- كتاب الزهد الكبير.
9- المدخل إلى السنن.
10- البعث والنشور.
11- كتاب «القدر» .
12- كتاب «الآداب» .
13- كتاب «الترغيب والترهيب» .
14- كتاب «فضائل الصحابة» .
15- كتاب «الأربعين الكبرى» .
16- كتاب «مناقب الإمام أحمد» .

(المقدمة/111)


17- كتاب «شعب الإيمان» ، أو المصنف الجامع في شعب الإيمان.
18- كتاب «الدعوات الكبير» .
19- كتاب «الدعوات الصغير» .
20- رسالة في حديث الجويباري.
21- رسالة أبي محمد الجويني.
22- جامع أبواب قراءة القرآن.
23- كتاب الأسرى.
24- كتاب الانتقاد عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ الشافعي.
25- ينابيع الأصول.
26- كتاب «أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ» ذكره عند ما أتى على خبر من أخبار مسيلمة، في السفر الخامس من دلائل النبوة، وقال: «سنأتي عَلَيْهِ فِي ذِكْرِ أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وهو جزء قتل مسيلمة» .
ولا نتعجب من كثرة تصانيف البيهقي الكثيرة، فالرجل عاش أربعا وسبعين سنة، وكان أول سماعه للعلم وهو ابن خمس عشرة سنة، وارتحل الى بلاد كثيرة، وسمع من شيوخها، حتى أربى عدد شيوخه عن المائة، وأفنى عمره في التصنيف والتأليف، وألف مؤلفات لم يسبق إليها وكان أول تصنيفه في سنة ست وأربعمائة [ (53) ] .
وكانت مصنفاته تتسم بسعتها وشمولها، وصحة ما جاء فيها لعدم اعتماده على الروايات المرجوحة والضعيفة مما جعلها تنتشر في الآفاق، ويقبل عليها طلاب الحديث.
__________
[ (53) ] طبقات الاسنوي (1: 199) .

(المقدمة/112)


قال السبكي في طبقات الشافعية (4: 9) عن مصنفاته:
* أما «السنن الكبير» فما صنف في علم الحديث مثله، تهذيبا وترتيبا وجودة.
* وأما معرفة السنن والآثار» فلا يستغني عنه فقيه شافعي وسمعت الشيخ الإمام- رحمه الله- يقول: «مراده معرفة الشافعي بالسنن والآثار» .
* وأما المبسوط في نصوص الشافعي، فما صنّف في نوعه مثله.
* وأما كتاب «الأسماء والصفات» فلا أعرف له نظيرا.
* وأما كتاب «الاعتقاد وكتاب «دلائل النبوة» ، وكتاب «شعب الإيمان» وكتاب «مناقب الشافعي» وكتاب «الدعوات الكبير» فأقسم ما لواحد منها نظير.
* وأما كتاب «الخلافيات» فلم يسبق الى نوعه، ولم يصنّف مثله وهو طريقة مستقلة حديثية، لا يقدر عليها الا مبرّز في الفقه والحديث، قيّم بالنصوص.
* وله أيضا كتاب «مناقب الإمام أحمد» ، وكتاب «أحكام القرآن للشافعي» وكتاب «الدعوات الصغير» وكتاب «البعث والنشور» ، وكتاب «الزهد الكبير» وكتاب «الاعتقاد» وكتاب «الآداب» ، وكتاب «الأسرى» وكتاب «السنن الصغير» ، وكتاب «الأربعين» ، وكتاب «فضائل الأوقات» ، وغير ذلك.
وكلها مصنفات نظاف مليحة الترتيب والتهذيب، كثيرة الفائدة، يشهد من يراها من العارفين بأنها لم تتهيأ لأحد من السابقين.
وهذا التصنيف الجيد الباهر، الكثير الفائدة هو الذي دعا إمام الحرمين لأن يقول:
«ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منّة، إلا البيهقي فإنّ له على الشافعي منّة، لتصانيفه في نصرته لمذهبه وأقاويله» .

(المقدمة/113)


وقال ابنه شيخ القضاة «أبو علي» : «حدثني والدي، قال: حين ابتدأت بتصنيف هذا الكتاب، يعني- معرفة السنن والآثار- وفرغت من تهذيب أجزاء منه. سمعت الفقيه أبا محمد: أحمد بن علي، يقول: وهو من صالحي أصحابي، وأكثرهم تلاوة، وأصدقهم لهجة، يقول: «رأيت الشافعي في المنام وفي يده أجزاء من هذا الكتاب، وهو يقول: قد كتبت اليوم من كتاب الفقيه أحمد سبعة أجزاء، أو قال: قرأتها» .
قال: «وفي صباح ذلك اليوم رأى فقيه آخر من إخواني يعرف بعمر بن محمد في منامه الشافعيّ قاعدا على سرير في مسجد الجامع بخسروجرد، وهو يقول: «استفدت اليوم من كتاب الفقيه أحمد كذا وكذا» .
قال شيخ القضاة: «وحدثنا والدي، قال: سمعت الفقيه أبا محمد الحسين بن أحمد السّمرقندي الحافظ، يقول: «سمعت الفقيه أبا بكر محمد ابن عبد العزيز المروزي الجنوجردي، يقول: «رأيت كأنّ تابوتا علا في السماء يعلوه نور، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟، فَقِيلَ: تصانيف البيهقي»
شهادة العلماء بفضله وعلمه:
قال ياقوت الحموي: «هو الإمام الحافظ الفقيه في أصول الدين الورع، أوحد الدهر في الحفظ والإتقان مع الدين المتين، من أجلّ أصحاب ابن عبد الله الحاكم، والمكثرين عنه، ثم فاقه في فنون من العلم وتفرد بها» .
وقال ابن ناصر: «كان واحد زمانه، وفرد أقرانه حفظا وإتقانا وثقة، وهو شيخ خراسان [ (54) ] .
وقال ابن الجوزي: «كان واحد زمانه في الحفظ والإتقان، وحسن
__________
[ (54) ] شذرات الذهب (3: 304) .

(المقدمة/114)


التصنيف، وجمع علوم الحديث والفقه والأصول، وهو من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله، ومنه تخرج، وسافر، وجمع الكثير، وله التصانيف الكثيرة الحسنة» [ (55) ] .
قال الذهبي: لو شاء البيهقي أن يعمل لنفسه مذهبا يجتهد فيه لكان قادرا على ذلك لسعة علومه ومعرفته بالاختلاف» [ (56) ] .
وقال ابن خلكان: «الفقيه الشافعي الحافظ الكبير المشهور واحد زمانه، وفرد أقرانه في الفنون من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله البيع في الحديث، ثم الزائد عليه في أنواع العلوم» [ (57) ] .
وقال السمعاني: «كان إماما فقيها، حافظا، جمع بين معرفة الحديث وفقهه» [ (58) ] .
قال ابن الأثير: «كان إماما في الحديث، وتفقه على مذهب الشافعي» [ (59) ] .
قال عبد الفاخر في «ذيل تاريخ نيسابور» [ (60) ] «أبو بكر البيهقي الفقيه الحافظ الأصولي الدّين الورع، واحد زمانه في الحفظ، وفرد أقرانه في الإتقان والضبط من كبار أصحاب الحاكم ويزيد عليه بأنواع من العلوم، كتب الحديث وحفظه من صباه، وتفقه وبرع، وأخذ في الأصول، وارتحل إلى العراق، والجبال، والحجاز، ثم صنف، وتآليفه تقارب ألف جزء مما لم يسبقه إليه
__________
[ (55) ] المنتظم (8: 242) .
[ (56) ] تبيين كذب المفتري (266) .
[ (57) ] وفيات الأعيان (1: 57) .
[ (58) ] الأنساب (2: 412) .
[ (59) ] الكامل (8: 104) .
[ (60) ] ونقله الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ (3: 1133) .

(المقدمة/115)


أحد، جمع بين علم الحديث والفقه، وبيان علل الحديث، ووجه الجمع بين الأحاديث، طلب منه الأئمة الانتقال من الناحية الى نيسابور لسماع الكتب، فأتى في سنة إحدى وأربعين، وعقدوا له المجلس لسماع كتاب المعرفة، وحضره الأئمة، وكان على سيرة العلماء قانعا باليسير» .
وقال السبكي في ترجمته: كان الإمام البيهقي أحد أئمة المسلمين، وهداة المؤمنين، والدّعاة، إلى حبل الله المتين، فقيه جليل، حافظ كبير، أصولي نحرير، زاهد ورع، قانت الله، قائم بنصرة المذهب أصولا وفروعا، جبل من جبال العلم» [ (61) ] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «البيهقي أعلم أصحاب الشافعي بالحديث وأنصرهم للشافعي» [ (62) ] .
وقال الملا على القاري: «هو الإمام الجليل، الحافظ الفقيه، الأصولي الزاهد، الورع، وهو أكبر أصحاب الحاكم أبي عبد الله» [ (63) ] .
ورعه وزهده:
كان الإمام من العلماء العاملين، الذين يقتدون بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، ويسيرون على نهجه، وعلى سيرة الصحابة، وقد تأسى البيهقي بزهد النبي صلى الله عليه وسلّم والصحابة، فسار على منوالهم، فكان زاهدا متقللا من الدنيا، كثير العبادة والورع، ومراقبة الله في كل صغيرة وكبيرة.
قال عبد الغافر: «كان على سيرة العلماء، قانعا من الدنيا باليسير،
__________
[ (61) ] طبقات الشافعية للسبكي (4: 8) .
[ (62) ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام (32: 240) .
[ (63) ] مرقاة المفاتيح (1: 21) .

(المقدمة/116)


متجملا في زهده وورعه» [ (64) ] .
وقال الذهبي: «سرد الصوم ثلاثين سنة» [ (65) ] .
وقال ابن خلكان: «كان زاهدا متقللا من الدنيا بالقليل، كثير العبادة والورع، على طريقة السلف» [ (66) ] .
وقال ابن عساكر: «كان رحمه الله على سيرة العلماء، قانعا من الدنيا باليسير، متجملا في زهده وورعه، وبقي كذلك إلى ان توفي رحمه الله بنيسابور» [ (67) ] .
وقال ابن كثير: «كان زاهدا، متقللا من الدنيا، كثير العبادة والورع» [ (68) ] .
وقال ابن الأثير: «كان عفيفا زاهدا» [ (69) ] .
وقال القاري: «كان له غاية الإنصاف في المناظرة والمباحثة، وكان على سيرة العلماء قانعا من الدنيا باليسير، متجملا في زهده وورعه، صائم الدهر، قيل: «ثلاثين سنة» [ (70) ] .
أشعاره:
قال الشيخ عبد العزيز الدهلوي: «كان أحيانا يقرض الأشعار وينظمها ومنها:
__________
[ (64) ] تذكرة الحفاظ (3: 1133) .
[ (65) ] المصدر السابق.
[ (66) ] وفيات الأعيان (1: 58) .
[ (67) ] شذرات الذهب (3: 305) .
[ (68) ] البداية والنهاية (12: 92) .
[ (69) ] الكامل في التاريخ (8: 104) .
[ (70) ] مرقاة المفاتيح (1: 21) .

(المقدمة/117)


من اعتزّ بالمولى فذاك جليل ... ومن رام عزا من سواه ذليل
ولو أن نفسي مذ برأها مليكها ... مضى عمرها في سجدة لقليل
أحب مناجاة الحبيب بأوجه ... لكن لسان المذنبين كليل [ (71) ]
وفاته:
قال ابن خلكان: «طلب إلى نيسابور لنشر العلم، فأجاب وانتقل إليها» [ (72) ] .
وقال ياقوت الحموي: «استدعي إلى نيسابور لسماع «كتاب المعرفة» مفاد إليها في سنة (441) ، ثم عاد إلى ناحيته، فأقام بها الى ان مات فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سنة (458) » [ (73) ] .
وقال الذهبي: توفي في عاشر جمادى الأولى في نيسابور، ونقل تابوته إلى بيهق، وعاش أربعا وسبعين سنة» [ (74) ] .
وقال الذهبي أيضا: «حضر في أواخر عمره من بيهق إلى نيسابور، وحدث بكتبه، ثم حضره الأجل في عاشر جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ ثمان وخمسين وأربعمائة، فنقل في تابوت، فدفن ببيهق» [ (75) ] .
رثاؤه:
قال أبو القاسم الزرهي البيهقي في الإمام أحمد من قصيدة مطلعها
__________
[ (71) ] بستان المحدثين (52) .
[ (72) ] وفيات الأعيان (3: 305) .
[ (73) ] معجم البلدان مادة بيهق.
[ (74) ] العبر (3: 242) .
[ (75) ] تذكرة الحفاظ (3: 1134- 1135) .

(المقدمة/118)


يا أحمد بن الحسين البيهقي لقد ... دوخت أرض المساعي أي تدويخ [ (76) ]
والعقب منه شيخ القضاة إسماعيل، وتقدمت ترجمته في تلاميذ البيهقي، وكان قاضي خوارزم [ (77) ] .
__________
[ (76) ] تاريخ بيهق ص (318) .
[ (77) ] انظر ترجمة المصنف احمد بن الحسين البيهقي في:
1- الأنساب للسمعاني (2: 381) .
2- تبيين كذب المفتري (265) .
3- تذكرة الحفاظ (3: 1132) .
4- العبر (3: 342) .
5- مختصر دول الإسلام (1: 207) .
6- اللباب (1: 165) .
7- معجم البلدان: مادة بيهق.
8- وفيات الأعيان (1: 57) .
9- طبقات الشافعية للسبكي (4: 8) .
10- طبقات ابن هداية الله (55) .
11- المنتظم (8: 242) .
12- المختصر في أخبار البشر (2: 194) .
13- مفتاح دار السعادة (2: 15) .
14- البداية والنهاية (12: 94) .
15- شذرات الذهب (3: 304) .
16- النجوم الزاهرة (5: 77) .
17- مرآة الجنان (3: 81) .
18- الكامل في التاريخ (10: 18) .
19- طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1: 226) .
20- اعيان الشيعة للعاملي (8: 294) .
21- روضات الجنات (69) .
22- أبجد العلوم (2/ 833) .
23- اتحاف النبلاء (195) .
24- طبقات الشافعية للأسنوي (1: 199) .

(المقدمة/119)